عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 78 - (كتابُ الأدَبِ)
سَقَطت الْبَسْمَلَة عِنْد الْبَعْض. قَوْله: (كتاب
الْأَدَب) أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان الْأَدَب وَله
أَنْوَاع سنذكرها، وَقد قُلْنَا فِيمَا مضى: إِن الْكتاب
يجمع الْأَبْوَاب، والأبواب تجمع الْفُصُول، وَلم يذكر فِي
البُخَارِيّ لفظ: فصل، غير أَنه يذكر فِي بعض الْمَوَاضِع
لفظ: بَاب، كَذَا مُجَردا وَهُوَ عِنْده بِمَنْزِلَة
الْفَصْل يتَعَلَّق بِمَا قبله، أما الْأَدَب فَقَالَ
الْقَزاز: يُقَال: أدب الرجل يأدب إِذا كَانَ أديباً كَمَا
يُقَال: كرم يكرم إِذا كَانَ كَرِيمًا، وَالْأَدب مَأْخُوذ
من المأدبة وَهُوَ طَعَام يتَّخذ ثمَّ يدعى النَّاس
إِلَيْهِ فَكَانَ الْأَدَب مِمَّا يدعى كل أحد إِلَيْهِ.
يُقَال: أدبه الْمُؤَدب تأديباً فَهُوَ مؤدب بِفَتْح
الدَّال. والمعلم مؤدب بِكَسْر الدَّال وَذَلِكَ لِأَنَّهُ
يردد إِلَيْهِ الدعْوَة إِلَى الْأَدَب فَكثر الْفِعْل
التَّشْدِيد وَالْأَدب الدَّاعِي، وَفِي كتاب الواعي) لأبي
مُحَمَّد: سمي الْأَدَب أدباً لِأَنَّهُ يَدعُوهُ إِلَى
المحامد، وَقَالَ ابْن طريف فِي (الْأَفْعَال) : أدب
الرجل، وأدب بِضَم الدَّال وَكسرهَا أدباً: صَار أديباً
فِي خلق أَو علم. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْأَدَب أدب
النَّفس والدرس، تَقول مِنْهُ: أدب رجل فَهُوَ أديب، وَفِي
(الْمُنْتَهى) لأبي الْمَعَالِي: استأدب الرجل بِمَعْنى
تأدب، وَالْجمع أدباء، وَعَن أبي زيد: الْأَدَب إسم يَقع
على كل رياضة محمودة
(22/80)
يتَخَرَّج بهَا الْإِنْسَان فِي فَضِيلَة
من الْفَضَائِل، وَقيل: الْأَدَب اسْتِعْمَال مَا يحمد
قولا وفعلاً، وَقيل: الْأَخْذ بمكارم الْأَخْلَاق، وَقيل:
الْوُقُوف مَعَ المستحسنات، وَقيل: هُوَ تَعْظِيم من
فَوْقك والرفق بِمن دُونك فَافْهَم.
1 - (بابُ البِرِّ والصِّلَةِ وقَوْلِ الله تَعَالَى:
{الْإِنْسَان بِوَالِديهِ حسنا} (العنكبوت: 8)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر الْبر والصلة، وَالْبر
وَالْإِحْسَان وَمِنْه الْبر فِي حق الْوَالِدين وَهُوَ
فِي حَقّهمَا وَحقّ الْأَقْرَبين من الْأَهْل، ضد العقوق
وَهُوَ الْإِسَاءَة إِلَيْهِم والتضييع لحقهم، يُقَال:
بريبر فَهُوَ بار وَجمعه بررة، وَجمع الْبر أبرار، والصلة
هِيَ صلَة الْأَرْحَام وَهِي كِنَايَة عَن الْإِحْسَان
إِلَى الْأَقْرَبين من ذَوي النّسَب والأصهار والتعطف
عَلَيْهِم والرفق بهم وَالرِّعَايَة لأحوالهم، وَكَذَلِكَ
إِن بعدوا وأساؤوا، وَقطع الرَّحِم قطع ذَلِك كُله،
يُقَال: وصل رَحمَه يصلها وصلا وصلَة، وأصل الصِّلَة: وصل،
فحذفت الْوَاو تبعا لفعله وعوضت عَنْهَا الْهَاء
فَكَأَنَّهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِم قد وصل مَا بَينه
وَبينهمْ من علاقَة الْقَرَابَة والصهر. وَقَوله: (بَاب
الْبر ... إِلَخ) هَكَذَا وَقع لأكْثر الروَاة وَحذف
بَعضهم لفظ: الْبر والصلة، وَاقْتصر النَّسَفِيّ على
قَوْله: كتاب الْبر والصلة ... إِلَى آخِره قَوْله:
(وَقَول الله) بِالْجَرِّ عطفا على مَا قبله من
الْمَجْرُور بِالْإِضَافَة، هَذِه الْآيَة وَقعت بِهَذَا
اللَّفْظ فِي العنكبوت وَفِي الأحقاق أما الَّتِي فِي
العنكبوت فَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {وَوَصينَا الْإِنْسَان.
. لَك بِهِ علم} (الْأَحْقَاف: 15) ، وَأما الَّتِي فِي
الأحقاق فَهِيَ قَوْله تَعَالَى: { (13) وَوَصينَا
الْإِنْسَان بِوَالِديهِ إحساناً حَملته أمه كرها
وَوَضَعته كرها} (لُقْمَان: 14) وَفِي لُقْمَان أَيْضا:
{وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ حَملته أمه وَهنا على
وَهن} ... الْآيَة.
وَالْمرَاد هُنَا الْآيَة الَّتِي فِي العنكبوت، وَسبب
نزُول هَذِه الْآيَة مَا رُوِيَ عَن سعد بن أبي وَقاص
رَضِي الله عَنهُ، أَنه قَالَ: نزلت يَعْنِي: الْآيَة
الْمَذْكُورَة فِي خَاصَّة، كنت رجلا باراً بأمي، فَلَمَّا
أسلمت قَالَت: يَا سعد! مَا هَذَا الَّذِي أحدثت؟ لتدعن
دينك هَذَا أَو لَا آكل وَلَا أشْرب، وَلَا يعلني سقف
حَتَّى أَمُوت فتعير فِي فَيُقَال: يَا قَاتل أمه، فَقلت:
لَا تفعلي يَا أُمَّاهُ فَإِنِّي لَا أترك ديني هَذَا،
فَمَكثت يَوْمًا وَلَيْلَة لَا تَأْكُل، فَلَمَّا أَصبَحت
جهدت وَمَكَثت يَوْمًا آخر وَلَيْلَة كَذَلِك، فَلَمَّا
رَأَيْت ذَلِك مِنْهَا، قلت: تعلمين وَالله يَا أُمَّاهُ
لَو كَانَت لَك مائَة نفس فَخرجت نفسا نفسا مَا تركت ديني
هَذَا، فكلي إِن شِئْت أَو لَا تأكلي، فَلَمَّا رَأَتْ
ذَلِك أكلت فَنزلت هَذِه الْآيَة، وَالَّتِي فِي لُقْمَان
والأحقاف وَأمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يرضيها
وَيحسن إِلَيْهَا وَلَا يطيعها فِي الشّرك. قلت: إسم أم
سعد الْمَذْكُورَة: حمْنَة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة
وَسُكُون الْمِيم بعْدهَا نون بنت سُفْيَان بن أُميَّة
وَهِي ابْنة عَم أبي سُفْيَان بن حَرْب بن أُميَّة، وَلم
يعلم إسْلَامهَا واقتضت الْآيَة الْكَرِيمَة الْوَصِيَّة
بالوالدين وَالْأَمر بطاعتهما وَلَو كَانَا كَافِرين
إِلَّا إِذا أمرا بالشرك فَتجب معصيتهما فِي ذَلِك.
قَوْله: (حسنا) نصب بِنَزْع الْخَافِض أَي: بِحسن، وقرىء
إحساناً على تَقْدِير: أَن تحسن إحساناً، وحسناً أَعم فِي
الْبر.
5970 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ:
الوَلِيدُ بنُ عَيْزار أَخْبرنِي قَالَ: سمعْتُ أَبَا
عَمْرو الشَّيْبانِيّ يَقُولُ: أخبرنَا صاحبُ هاذِهِ
الدَّارِ. وأوْمَأ بِيَدِهِ إِلَى دارِ عَبْدِ الله.
قَالَ: سألْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أيُّ
العَمَلِ أحَبُّ إِلَى الله؟ قَالَ: الصَّلاةُ عَلَى
وَقْتِها، قَالَ: ثُمَّ أيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ
الوالِدَيْنِ، قَالَ: ثُمَّ أيُّ. قَالَ: الجهادُ فِي
سَبِيلِ الله، قَالَ: حدّثني بِهِنَّ وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ
لَزادَنِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن قَوْله: بَاب الْبر،
هُوَ بر الْوَالِدين وَالْآيَة أَيْضا فِي بر الْوَالِدين.
وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ،
والوليد بن عيزار بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا زَاي ثمَّ رَاء، وَوَقع
لبَعض الروَاة: الْعيزَار، بِالْألف وَاللَّام. قَوْله
قَالَ: الْوَلِيد بن عيزار أَخْبرنِي، هُوَ من تَقْدِيم
اسْم الرَّاوِي على الصِّيغَة، وَهُوَ جَائِز، وَكَانَ
شُعْبَة يَسْتَعْمِلهُ كثيرا، وَأَبُو عمر والشيباني اسْمه
سعد بن أبي إِيَاس، والشيباني من شَيبَان بن ثَعْلَبَة بن
عكامة بن صَعب بن عَليّ بن بكر بن وَائِل، أدْرك زمَان
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعاش مائَة وَعشْرين
سنة، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ.
والْحَدِيث مضى فِي مَوَاقِيت الصَّلَاة فِي: بَاب فضل
الصَّلَاة لوَقْتهَا، بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن.
فَإِن قلت: تقدم فِي: بَاب الْإِيمَان إِن إطْعَام
الطَّعَام خير أَعمال
(22/81)
الْإِسْلَام وَأحب الْعَمَل أَدْوَمه،
فَمَا وَجه الْجمع بَينه وَبَين حَدِيث الْبَاب؟ قلت:
الِاخْتِلَاف بِالنّظرِ إِلَى الْأَوْقَات أَو الْأَحْوَال
أَو الْحَاضِرين، فَقدم فِي كل مقَام مَا يَلِيق بِهِ أَو
بهم.
2 - (بابٌ مَنْ أحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من أَحَق النَّاس أَن يصحب
بِحسن الصُّحْبَة، يُقَال: صَحبه يَصْحَبهُ صُحْبَة،
بِالضَّمِّ وصحابة بِالْفَتْح، قَالَ الْجَوْهَرِي:
وَالصَّحَابَة بِالْفَتْح الْأَصْحَاب وَهُوَ فِي الأَصْل
مصدر وَالْأَصْحَاب جمع صحب، مثل: فرخ وأفراخ، وَجمع
الْأَصْحَاب أصَاحب.
5971 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حَدثنَا جَرِيرٌ
عَنْ عُمارَةَ بنِ القَعْقاعِ بنِ شُبْرُمَةَ عَنْ أبِي
زُرْعَةَ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ:
جاءَ رَجُلٌ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَقَالَ: يَا رسولَ الله {مَنْ أحَقُّ النَّاس بِحُسْنِ
صَحابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ:
أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أبُوكَ.
قَالَ ابنُ شُبْرُمَةَ ويَحْياى بنُ أيُّوبَ: حَدثنَا أبُو
زُرْعَةَ مِثْلَهُ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَجَرِير بن عبد الحميد،
وَعمارَة بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم
ابْن الْقَعْقَاع بِفَتْح القافين وَإِسْكَان الْمُهْملَة
الأولى ابْن شبْرمَة بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وتسكين
الْبَاء الْمُوَحدَة وَضم الرَّاء ابْن أخي عبد الله بن
شبْرمَة الضَّبِّيّ الْكُوفِي، وَأَبُو زرْعَة هرم بن
عَمْرو بن جرير بن عبد الله البَجلِيّ الكوفيُّ، وَاعْلَم
أَن قَوْله: (عَن عمَارَة بن الْقَعْقَاع بن شبْرمَة)
كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع عِنْد
النَّسَفِيّ وَلأبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي:
عَن عمَارَة بن الْقَعْقَاع وَابْن شبْرمَة، بِزِيَادَة:
وَاو، الْعَطف وَالصَّوَاب حذفهَا فَإِن رِوَايَة ابْن
شبْرمَة ذكرهَا فِي آخر الحَدِيث، وَهُوَ عبد الله بن
شبْرمَة قَاضِي الْكُوفَة عَم عمَارَة بن الْقَعْقَاع ابْن
شبْرمَة الْمَذْكُور.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن قُتَيْبَة
وَزُهَيْر وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن أبي كريب.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْوَصَايَا عَن أبي بكر بن أبي
شيبَة.
قَوْله: (جَاءَ رجل) قَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون هَذَا
الرجل مُعَاوِيَة بن حيدة لِأَن البُخَارِيّ أخرج فِي
(الْأَدَب الْمُفْرد) من حَدِيثه، قَالَ: قلت: يَا رَسُول
الله} من أبر؟ قَالَ: أمك ... الحَدِيث. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ. قلت: جَاءَت أَحَادِيث فِي هَذَا
الْبَاب مِمَّا يشبه حَدِيث الْبَاب فَلَا يتَعَيَّن فِي
الِاحْتِمَال مُعَاوِيَة بن حيدة. مِنْهَا حَدِيث أنس
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) قَالَ: أَتَى رجل
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِنِّي لأشتهي
الْجِهَاد وَلَا أقدر عَلَيْهِ، قَالَ: فَهَل بَقِي أحد من
والديك؟ قَالَ: أُمِّي. قَالَ: قَاتل بِاللَّه فِي برهَا
فَإِذا فعلت ذَلِك فَأَنت حَاج مُعْتَمر وَمُجاهد،
وَمِنْهَا حَدِيث بُرَيْدَة رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي
(الصَّغِير) أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي حملت
أُمِّي على عنقِي فرسخين فِي رَمْضَاءُ شَدِيدَة، لَو
ألقيت فِيهَا قِطْعَة لحم لنضجت، فَهَل أدّيت شكرها؟
فَقَالَ: لَعَلَّه أَن يكون بِطَلْقَة وَاحِدَة. وَمِنْهَا
حَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه تَمام: أَن رجلا أَتَى النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنِّي نذرت إِن فتح
الله عز وَجل عَلَيْك مَكَّة أَن آتِي الْبَيْت، فَأقبل
أَسْفَل الأسكفة فَقَالَ: قبل قدمي أمك، وَقد وفيت نذرك.
وَمِنْهَا حَدِيث ابْن مَسْعُود رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ
فِي (الْأَوْسَط) قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله: إِن لي
أَهلا وَأَبا وَأما فَأَيهمْ أَحَق بصلتي؟ قَالَ: أمك
وأباك وأختك وأخاك ثمَّ أدناك أدناك. وَمِنْهَا حَدِيث
مُعَاوِيَة بن جاهمة أخرجه النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه
بِلَفْظ: أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت:
يَا رَسُول الله {إِنِّي كنت أردْت الْجِهَاد مَعَك
أَبْتَغِي بذلك وَجه الله وَالدَّار الْآخِرَة} قَالَ:
وَيحك! أحية أمك؟ قلت: نعم. قَالَ: إرجع فبرها، ثمَّ
أَتَيْته من الْجَانِب الآخر فَذكر الحَدِيث فِي سُؤَاله
كَذَلِك ثَانِيَة، فَقَالَ: إرجع وبرها، وسؤاله لَهُ
كَذَلِك ثَالِثَة، قَالَ: وَيحك إلزم رجلهَا فشم الْجنَّة،
اللَّفْظ لِابْنِ مَاجَه. قَوْله: (إمك) إِلَى قَوْله:
(قَالَ ابْن شبْرمَة) كُله مَرْفُوع لجَمِيع الروَاة،
وَوَقع عِنْد مُسلم من هَذَا الْوَجْه بِالنّصب وَفِي
آخِره: ثمَّ أَبَاك، وَجه الرّفْع على الِابْتِدَاء
وَالْخَبَر مَحْذُوف تَقْدِيره: أَبوك أَحَق النَّاس بِحسن
الصُّحْبَة، وَيجوز الْعَكْس، وَوجه النصب بإضمار فعل
تَقْدِيره: إلزم أَو إحفظ أمك.
وَفِيه: دلَالَة على أَن محبَّة الْأُم والشفقة عَلَيْهَا
يَنْبَغِي أَن تكون أَمْثَال محبَّة الْأَب لِأَنَّهُ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كررها ثَلَاثًا. وَذكر الْأَب فِي
الرَّابِعَة فَقَط، وَإِذا تؤمل هَذَا الْمَعْنى شهد لَهُ
العيان وَذَلِكَ
(22/82)
أَن صعوبة الْحمل والوضع وَالرّضَاع
والتربية تنفرد بهَا الْأُم وتشقى بهَا دون الْأَب،
فَهَذِهِ ثَلَاث منَازِل يَخْلُو مِنْهَا الْأَب، وَحَدِيث
أبي هُرَيْرَة يدل على أَن طَاعَة الْأُم مُقَدّمَة وَهُوَ
حجَّة على من خَالفه، وَزعم المحاسبي أَن تَفْضِيل الْأُم
على الْأَب فِي الْبر وَالطَّاعَة هُوَ إِجْمَاع
الْعلمَاء، وَقيل لِلْحسنِ: مَا بر الْوَالِدين؟ قَالَ:
تبذل لَهما مَا ملكت وتطعيهما فِيمَا أمراك مَا لم يكن
مَعْصِيّة.
قَوْله: (قَالَ ابْن شبْرمَة) أَي: قَالَ عبد الله بن
شبْرمَة قَاضِي الْكُوفَة عَم عمَارَة كَمَا ذكرنَا،
وَيحيى بن أَيُّوب حفيد أبي زرْعَة بن عَمْرو بن جرير
شَيْخه فِي هَذَا الحَدِيث كِلَاهُمَا رويا بِالتَّعْلِيقِ
عَن أبي زرْعَة الْمَذْكُور. قَوْله: (مثله) أَي: مثل
الحَدِيث الْمَذْكُور، وَأما تَعْلِيق ابْن شبْرمَة فوصله
مُسلم عَن أبي شيبَة: حَدثنَا شريك عَن عمَارَة وَابْن
شبْرمَة عَن أبي زرْعَة فَذكره، وَأما تَعْلِيق يحيى بن
أَيُّوب فوصله الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيثه
عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن مُحَمَّد بن حَفْص:
حَدثنَا سهل بن حَمَّاد حَدثنَا يحيى بن أَيُّوب عَن أبي
زرْعَة بن عَمْرو بن جرير حَدثنَا جدي أَبُو زرْعَة بِهِ.
3 - (بابٌ لَا يجاهِدُ إلاَّ بإذْنِ الأبَوَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يُجَاهد الرجل إلاَّ
بِإِذن أَبَوَيْهِ.
5972 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدّثنا يَحْيَى عَنْ سُفْيانَ
وشُعْبَةَ، قَالَا: حَدثنَا حَبِيبُ.
(ح) قَالَ: وَحدثنَا مُحَمَّدُ بنُ كَثِير أخْبَرنا
سُفْيانُ عَنْ حَبِيب عَنْ أبِي العَبَّاسِ عَنْ عَبْدِ
الله بنِ عَمْروٍ قَالَ: قَالَ رجُلٌ لِلنبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: أجاهِدُ؟ قَالَ: لَكَ أبَوَانِ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: ففِيهِما فَجاهِدْ. (انْظُر الحَدِيث 3004)
.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مَا أمره بِالْجِهَادِ إلاَّ فِي أَبَوَيْهِ، فيفهم
مِنْهُ أَنه لَا يُجَاهد إلاَّ إِذا أذنا لَهُ
بِالْجِهَادِ فيجاهد فَيكون جهاده مَوْقُوفا على إذنهما.
وَأخرجه من طَرِيقين: الأول: عَن مُسَدّد عَن يحيى
الْقطَّان عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَشعْبَة بن الْحجَّاج
كِلَاهُمَا يرويان عَن حبيب بن أبي ثَابت. الثَّانِي: عَن
مُحَمَّد بن كثير بالثاء الْمُثَلَّثَة عَن سُفْيَان
الثَّوْريّ عَن حبيب عَن أبي الْعَبَّاس السَّائِب
الشَّاعِر الْمَكِّيّ عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ،
والْحَدِيث قد مر فِي الْجِهَاد فِي: بَاب الْجِهَاد
بِإِذن الْأَبَوَيْنِ.
قَوْله: (ففيهما فَجَاهد) ، الْجَار وَالْمَجْرُور
مُتَعَلق بمقدور وَهُوَ: جَاهد، وَالْمَذْكُور مُفَسّر
لَهُ وَتَقْدِيره: إِن كَانَ لَك أَبَوَانِ فَجَاهد
فيهمَا.
4 - (بابٌ لاَ يَسُبُّ الرَّجُلُ والدَيْهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يسب الرجل وَالِديهِ،
وَهَذَا الْإِسْنَاد مجازي لِأَنَّهُ صَار سَببا لسب
وَالِديهِ.
5973 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ حَدثنَا إبْرَاهِيمُ
بنُ سَعْدٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ حُمَيْد بنِ عَبْدِ
الرَّحْمانِ عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْروٍ رَضِي الله
عنهُما، قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
إنَّ مِنْ أكْبَرِ الكَبائِرِ أنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ
والدَيْهِ. قيل: يَا رسولَ الله! وكَيْفَ يَلْعَنُ
الرَّجُلُ والِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا
الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أباهُ ويَسُبُّ أُمَّهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تفهم من معنى الحَدِيث. وَأحمد بن
يُونُس هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس الْكُوفِي،
وَإِبْرَاهِيم بن سعد يروي عَن أَبِيه سعد بن إِبْرَاهِيم
بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَسعد يروي عَن حميد بن عبد
الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن قُتَيْبَة
وَآخَرين. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد
بن جَعْفَر بن زِيَاد وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
الْبر عَن قُتَيْبَة بِهِ.
قَوْله: (من أكبر الْكَبَائِر أَن يلعن الرجل وَالِديهِ) ،
وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: (من الْكَبَائِر أَن يشْتم الرجل
وَالِديهِ) ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَن سبّ الرجل وَالِديهِ
كَبِيرَة، وَرِوَايَة البُخَارِيّ تَقْتَضِي أَنه من أكبر
الْكَبَائِر وَبَينهمَا فرق من حَيْثُ إِن الْكَبَائِر
مُتَفَاوِتَة وَبَعضهَا أكبر من بعض، وَهُوَ قَول
الْعلمَاء، وعد أكبر الْكَبَائِر فِي حَدِيث أبي بكرَة على
مَا يَجِيء ثَلَاثَة: الْإِشْرَاك بِاللَّه وعقوق
الْوَالِدين وَقَول الزُّور، وَهُوَ شَهَادَة الزُّور
وَاقْتصر فِي أكبر الْكَبَائِر على هَذِه الثَّلَاثَة،
وَزَاد فِي حَدِيث بُرَيْدَة رَوَاهُ الْبَزَّار: منع فضل
المَاء وَمنع الفجل، فَصَارَ كل ذَلِك خَمْسَة، وروى
التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة أبي أُمَامَة عَن
(22/83)
عبد الله بن أنيس بِلَفْظ: إِن من أكبر
الْكَبَائِر: الشّرك بِاللَّه وعقوق الْوَالِدين
وَالْيَمِين الْغمُوس، فَصَارَ سِتَّة. وَحَدِيث عَمْرو بن
حزم الطَّوِيل فِي الْمِائَة المنتقاة: (إِن أكبر
الْكَبَائِر عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة: الشّرك
بِاللَّه، وَقتل النَّفس المؤمنة بِغَيْر حق، والفرار فِي
سَبِيل الله يَوْم الزَّحْف، وعقوق الْوَالِدين، وَرمي
المحصنة، وَتعلم السحر، وَأكل الرِّبَا، وَأكل مَال
الْيَتِيم) . فَصَارَت اثْنَي عشر، وروى الطَّبَرَانِيّ
فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا:
(الْخمر أم الْفَوَاحِش وأكبر الْكَبَائِر) ، وروى أَيْضا
فِيهِ مَوْقُوفا على عبد الله بن عَمْرو: (أعظم
الْكَبَائِر شرب الْخمر) ، وَمثله لَا يُقَال من قبل
الرَّأْي، وَرُوِيَ أَيْضا فِي (الْكَبِير) من حَدِيث
وَاثِلَة بن الْأَسْقَع قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (إِن من أكبر الْكَبَائِر
أَن يَقُول الرجل عَليّ مَا لم أقل) ، فَصَارَ الْمَجْمُوع
أَربع عشر. وَأما مَا ورد فِي تعديد الْكَبَائِر من غير
تَقْيِيد بأكبرها فَفِي (الصَّحِيحَيْنِ) من حَدِيث أبي
هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اجتنبوا
السَّبع الموبقات {قَالُوا: يَا رَسُول الله} مَا هِيَ؟
قَالَ: الشّرك بِاللَّه، وَالسحر، وَقتل النَّفس الَّتِي
حرم الله إلاّ بِالْحَقِّ، وَأكل الرِّبَا وَأكل مَال
الْيَتِيم والتولي يَوْم الزَّحْف، وَقذف الْمُحْصنَات
الْغَافِلَات الْمُؤْمِنَات) . وروى الْبَزَّار من حَدِيث
ابْن عَبَّاس بِإِسْنَاد حسن: أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول
الله {مَا الْكَبَائِر؟ قَالَ: الشّرك بِاللَّه، واليأس من
روح الله، والقنوط من رَحْمَة الله. وروى الْحَاكِم فِي
(الْمُسْتَدْرك) : من رِوَايَة عبيد بن عُمَيْر عَن أَبِيه
أَنه حَدثهُ وَكَانَت لَهُ صُحْبَة: أَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ فِي حجَّة الْوَدَاع ...
الحَدِيث، وَفِيه: ويجتنب الْكَبَائِر، فَقَالَ: هِيَ تسع
وَذكر مَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَزَاد: استحلال بَيت
الله الْحَرَام قبلتكم أَحيَاء وأمواتاً، وَعَن ابْن
عَبَّاس قَالَ: (كل مَا نهى الله عَنهُ فَهُوَ كَبِيرَة)
وَحكى الطَّبَرِيّ عَنهُ، قَالَ: (كل ذَنْب خَتمه الله
بِنَار أَو لعنة أَو غضب فَهُوَ كَبِيرَة) وَقَالَ
طَاوُوس: قيل لِابْنِ عَبَّاس: الْكَبَائِر سبغ؟ قَالَ:
هِيَ إِلَى السّبْعين أقرب، وَقَالَ سعيد ابْن جُبَير:
قَالَ رجل لِابْنِ عَبَّاس: الْكَبَائِر سبغ؟ قَالَ: هِيَ
إِلَى السبعمائة أقرب مِنْهَا إِلَى السَّبع، غير أَنه لَا
كَبِيرَة مَعَ اسْتِغْفَار وَلَا صَغِيرَة مَعَ إِصْرَار،
وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث سهل بن أبي
خَيْثَمَة، قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، يَقُول: اجتنبوا السَّبع الْكَبَائِر ... الحَدِيث.
وَفِيه: والتغرب بعد الْهِجْرَة، وروى الْبَيْهَقِيّ عَن
ابْن عَبَّاس، قَالَ: الْكَبَائِر ... فَذكر أَشْيَاء
مِنْهَا: الْيَمين الْغمُوس الْفَاجِرَة، والغلول، وَمنع
الزَّكَاة، وكتمان الشَّهَادَة، وَترك الصَّلَاة مُتَعَمدا
وَأَشْيَاء مِمَّا فَرضهَا الله وَنقض الْعَهْد. وروى ابْن
أبي الدُّنْيَا فِي (كتاب التَّوْبَة) عَن ابْن عَبَّاس:
قَالَ: كل ذَنْب أصر عَلَيْهِ العَبْد كَبِيرَة، وَفِيه
الرّبيع بن صبيح، وَقد اخْتلف فِيهِ. وَقَالَ شَيخنَا زين
الدّين رَحمَه الله: اجْتمع من مَجْمُوع هَذِه
الْأَحَادِيث المرفوعة والموقوفة نَحْو أَرْبَعِينَ من
الْكَبَائِر ثمَّ ذكرهَا، فلنذكر مَا لم يذكر هَهُنَا،
وَهُوَ: ادِّعَاء الرجل إِلَى غير أَبِيه، وإراءة
عَيْنَيْهِ، والإصرار على الصَّغِيرَة، والانتفاء من ولد
لَهُ، وبهت الْمُؤمن، والحقد، وَالزِّنَا، وَالسَّرِقَة،
والسعاية ببرىء إِلَى ذِي سُلْطَان فيقتله، والغلول،
والغيبة، واللواطة، ونسيان سُورَة أَو آيَة من الْقُرْآن،
والنميمة. وَحكى الرَّافِعِيّ عَن جمَاعَة أَنهم عدوا من
الْكَبَائِر: غصب المَال، والهروي شَرط فِي الْمَغْصُوب
كَونه نِصَابا، وَحكي عَن صَاحب (الْعدة) أَنه أضَاف
إِلَيْهَا: الْإِفْطَار فِي رَمَضَان بِلَا عذر، والخيانة
فِي كيل أَو وزن، وَتَقْدِيم الصَّلَاة عَن وَقتهَا أَو
تَأْخِيرهَا عَنهُ بِلَا عذر، وَضرب مُسلم بِلَا حق، وَسَب
الصَّحَابَة، وَأخذ الرِّشْوَة، والدياثة، والقيادة من
الرجل وَالْمَرْأَة، وَترك الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْي عَن الْمُنكر مَعَ الْقُدْرَة، وإحراق
الْحَيَوَان، وَامْتِنَاع الْمَرْأَة من زَوجهَا بِلَا
سَبَب، وَيُقَال: والوقيعة فِي أهل الْعلم وَحَملَة
الْقُرْآن. وَمِمَّا عد من الْكَبَائِر: أكل لحم
الْخِنْزِير وَالْميتَة بِلَا عذر، حَكَاهُ الرَّافِعِيّ،
وَنقل عَن الشَّافِعِي: أَن الْوَطْء فِي الْحيض كَبِيرَة.
وَاخْتلفُوا فِي سَماع الأوتار وَلبس الْحَرِير
وَالْجُلُوس عَلَيْهِ وَنَحْوهَا هَل هُوَ من الْكَبَائِر
أَو الصَّغَائِر؟ فَمَال إِمَام الْحَرَمَيْنِ إِلَى أَنه
من الْكَبَائِر، وَصحح الرَّافِعِيّ أَنه من الصَّغَائِر،
وَالله أعلم. قَوْله: (قيل: يَا رَسُول الله} وَكَيف يلعن
الرجل وَالِديهِ؟) هَذَا استبعاد من السَّائِل، لِأَن
الطَّبْع الْمُسْتَقيم يَأْبَى ذَلِك، فَبين فِي الْجَواب
أَنه وَإِن لم يتعاطى ذَلِك بِنَفسِهِ وَلكنه يكون سَببا
لذَلِك، وَفِي هَذَا الزَّمَان من النَّاس الطَّعَام من
يسب وَالِديهِ بل يضربهما، وَلَقَد شَاهد جمَاعَة ذَلِك من
العققة الفجرة، وَرُبمَا
(22/84)
ذبح وَالِده، أَخْبرنِي بذلك جمَاعَة،
وَكَثُرت هَذِه الْمُصِيبَة فِي الديار المصرية، نسْأَل
الله الْعَفو والعافية.
5 - (بابُ إجابَةِ دُعاءِ مَنْ بَرَّ والِدَيْهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِجَابَة دُعَاء أَي قبُول
دُعَاء من بر وَالِديهِ أَي: من أحسن إِلَيْهِمَا وَقَامَ
بطاعتهما.
5974 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ حَدثنَا
إسْماعِيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ بنِ عُقْبَةَ، قَالَ:
أَخْبرنِي نافِعٌ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهما،
عَنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: بَيْنَما
ثَلاَثَةُ نَفَر يَتَماشَوْن أخَذَهُمُ المَطَرُ فَمالُوا
إِلَى غارٍ فِي الجَبَلِ فانْحَطتْ عَلَى فَمِ غارِهِمْ
صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فأطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أعْمالاً عَمِلْتُمُوها
لله صالِحَةً فادْعُوا الله بِها لَعَلَّهُ يَفْرِجُها،
فَقَالَ أحَدُهُمْ: أللَّهُمَّ إنَّهُ كانَ لي والِدَانِ
شَيْخَانِ كَبِيرَانِ ولي صِبْيَةٌ صغارٌ كُنْتُ أرْعَى
عَلَيْهِمْ فإذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ فَحَلَبْتُ بَدَأتُ
بِوَالِدَيَّ أسْقِيهِما قَبْلَ وَلَدي، وإنَّهُ نأَى بِي
الشَّجَرُ فَما أتَيْتُ حَتَّى أمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُما
قَدْ ناا، فَحَلَبْتُ كَما كُنْتُ أحْلُبُ فَجِئْتُ
بالخلاَبِ فَقُمْتُ عِنْدَ رُؤُوسِهِما أكْرَهُ أنْ
أُوقظَهُما مِنْ نَوْمِهِما وأكْرَهُ أنْ أبْدَأ
بالصِّبْيَةِ قَبْلهُما، والصِّبْيَةُ يَتضاغوْنَ عِنْدَ
قَدَمَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَاكَ دأبي ودَأبَهُمْ حَتَّى
طَلَعَ الفَجْرُ فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُ
ذالِكَ ابْتِغاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ لَنا فُرْجَةً نَراى
مِنْها السَّماءَ، فَفَرَجَ الله لَهُمْ فُرْجَةً حَتَّى
يَرَوْنَ مِنْها السَّماءَ. وَقَالَ الثَّاني: اللَّهُمَّ
إنَّهُ كانَتْ لِي ابْنَةُ عَمّ أحِبُّها كأشَدِّ مَا
يُحِبُّ الرِّجالُ النّساءَ فَطَلَبْتُ إلَيْها نَفْسها
فأبَتْ حَتّى آتِيهَا بِمائَةِ دِينارٍ، فَسَعَيْتُ حَتَّى
جَمَعْتُ مائَةَ دِينارٍ فَلَقِيتُها بِها، فَلَمَّا
قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْها قالَتْ: يَا عَبْدَ الله!
اتَّقِ الله وَلَا تَفْتَحِ الخاتَمَ، فَقُمْتُ عَنْها.
أللَّهُمَّ فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنّي قَدْ فَعَلْتُ
ذالِكَ ابْتِغاءَ وَجْهكَ فافْرُجْ لَنا مِنْها، فَفَرَج
لَهُمْ فُرْجَةً. وَقَالَ الآخَرُ: أللَّهُمَّ إنِّي
كُنْتُ أسْتَأْجَرْتُ أجِيراً بِفرَقِ أرُزّ، فَلمَّا
قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أعْطِنِي حَقِّي فَعَرَضتُ عَلَيْهِ
حَقَّهُ فَتَرَكَهُ ورَغَبَ عَنْهُ، فَلَمْ أزَلْ
أزْرَعُهُ حَتَّى جَمعْتُ مِنْهُ بَقَراً وراعِيَها،
فَجاءَنِي فَقَالَ: اتَّقِ الله وَلَا تَظْلِمْنِي
وأعْطِني حَقِّي. فَقُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى ذَاك البَقَرِ
وراعِيها، فَقَالَ: اتَّقِ الله وَلَا تَهْزَأْ بِي،
فَقُلْتُ: إنِّي لَا أهْزَأُ بِكَ فَخُذْ ذالِكَ البَقَرَ
وراعِيهَا. فأخَذَهُ فانْطَلَقَ بِها، فإنْ كُنْتَ
تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُ ذالِكَ ابْتِغاءَ وَجْهِكَ
فافْرُجْ مَا بَقِيَ، فَفَرَجَ الله عَنْهُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي الرجل الأول من
الثَّلَاثَة. والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي:
بَاب إِذا اشْترى شَيْئا لغيره بِغَيْر إِذْنه، فَإِنَّهُ
أخرجه هُنَاكَ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن جريج
عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر، وَمضى
أَيْضا فِي الْمُزَارعَة فِي: بَاب إِذا زرع بِمَال قوم
بِغَيْر إذْنهمْ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِبْرَاهِيم
بن الْمُنْذر عَن أبي ضَمرَة عَن مُوسَى بن عقبَة عَن
نَافِع إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ، ولنذكر بعض
شَيْء لبعد الْمسَافَة.
قَوْله: (ثَلَاثَة نفر) النَّفر عدَّة رجال من ثَلَاثَة
إِلَى عشرَة. قَوْله: (فمالوا إِلَى غَار) ويروى: فأووا
إِلَى غَار، وَهُوَ الْكَهْف. قَوْله: (على فَم غارهم)
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: على بَاب غارهم. قَوْله:
(فأطبقت) فِي رِوَايَة الْكشميهني. فتطابقت من أطبقت
الشَّيْء إِذا غطيته، وطبق الْغَيْم إِذا أصَاب مطره
جَمِيع الأَرْض. قَوْله: (لَعَلَّه يفرجها) بِكَسْر
الرَّاء، وَقَالَ ابْن التِّين: وَكَذَا قرأناه. قَوْله:
(صبية) جمع: صبي وَهُوَ الْغُلَام. قَوْله: (فَإِذا رحت)
من الرواح وَهُوَ الْمَجِيء آخر النَّهَار. قَوْله: (نأى
بِي الشّجر) بالشين الْمُعْجَمَة وَالْجِيم عِنْد أَكثر
الروَاة وَمَعْنَاهُ: تبَاعد عَن مكانتا الشّجر الَّتِي
ترعاها مواشينا، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: السحر
بالمهملتين. قَوْله: (أحلب) بِضَم اللَّام. قَوْله:
(بالحلاب) بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة
(22/85)
وَتَخْفِيف اللَّام وبالباء الْمُوَحدَة
أَي: المحلوب، وَقيل: هُوَ الْإِنَاء الَّتِي يحلب فِيهَا.
قَوْله: (أَن أوقظهما) بِضَم الْهمزَة من الإيقاظ قَوْله:
(يتضاغون) بالضاد وبالغين المعجمتين أَي: يصيحون، من ضغا
إِذا صَاح وكل صَوت ذليل مقهور يُسمى ضغواً، تَقول: ضغا
يضغو ضغواً وضغاء، وَقَالَ الدَّاودِيّ: يتضاغون أَي:
يَبْكُونَ ويتوجعون، قيل: نَفَقَة الْأَوْلَاد مُقَدّمَة
على نَفَقَة الْأُصُول. وَأجِيب بِأَن دينهم لَعَلَّه
كَانَ بِخِلَاف ذَلِك أَو كَانُوا يطْلبُونَ الزَّائِد على
سد الرمق، أَو كَانَ صِيَاحهمْ لغير ذَلِك. قَوْله: (فافرج
لنا فُرْجَة) بِضَم الْفَاء من فُرْجَة الْحَائِط وَهُوَ
المُرَاد هُنَا، وَأما الفرجة بِالْفَتْح فَهِيَ عَن الكرب
والهم. قَوْله: (حَتَّى يرَوْنَ) وَفِي رِوَايَة
الْحَمَوِيّ: حَتَّى رَأَوْا. قَوْله: (مَا يحب الرِّجَال)
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: الرجل، بِالْإِفْرَادِ.
قَوْله: (لَا تفتح الْخَاتم) ، كِنَايَة عَن إِزَالَة
الْبكارَة. قَوْله: (اللَّهُمَّ) كرر هَذِه اللَّفْظَة
لِأَن هَذَا الْمقَام أصعب المقامات، فَإِنَّهُ ردع لهوى
النَّفس. قَوْله: (بفرق) بِفَتْح الرَّاء وَقد تسكن،
وَأنكر القتبي إسكانها وَهُوَ مَكِيل مَعْرُوف
بِالْمَدِينَةِ: سِتَّة عشر رطلا. قَوْله: (أرز) قد مر
فِيمَا مضى أَن فِيهِ تسع لُغَات فَإِن قلت: بَاب
الْبيُوع: من ذرة، وَهنا وَفِي بَاب الْإِجَارَة: فرق أرز؟
قلت: لَعَلَّه كَانَ بعضه من ذرة وَبَعضه من أرز. قَوْله:
(إذهب إِلَى ذَلِك الْبَقر) ذكر إسم الْإِشَارَة
بِاعْتِبَار السوَاد المرئي، وأنث الضَّمِير الرَّاجِع
إِلَى الْبَقر بِاعْتِبَار جمعية الْجِنْس. قَوْله:
(فَأَخذه وَانْطَلق بهَا) ذكر الضَّمِير فِي: أَخذه،
وأنَّثه فِي: بهَا، وَوَجهه مَا ذَكرْنَاهُ، ويروى:
فَأَخذهَا، وَرُوِيَ: فَخذ تِلْكَ الْبَقر.
6 - (بابٌ عُقُوقُ الوالِدَيْنِ مِنَ الكَبائِرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن عقوق الْوَالِدين من
الْكَبَائِر، وَقَالَ بَعضهم: بَاب، التَّنْوِين. قلت: لَا
يَصح بِالتَّنْوِينِ إلاَّ بِشَيْء مُقَدّر لِأَن شَرط
الْإِعْرَاب التَّرْكِيب. والعقوق مُشْتَقّ من العق وَهُوَ
الشق وَالْقطع، وَقد فرق الْجَوْهَرِي بَين مصدر قَوْله:
عق عَن وَلَده، وَبَين مصدر: عق وَالِده، فَقَالَ: وعق عَن
وَلَده يعق عقاً إِذا ذبح عَنهُ يَوْم أسبوعه، وَكَذَلِكَ
إِذا حلق عقيقته، وعق وَالِده عقوقاً ومعقة فَهُوَ عَاق
وعقق وَالْجمع عققة. مثل كفرة. وَأما صَاحب (الْمُحكم)
فصدر كَلَامه بالتسوية بَينهمَا، وَقَالَ: عقه يعقه عقاً
فَهُوَ معقق وعقيق شقَّه، قَالَ: وعق عَن ابْنه يعق ويعق
حلق عقيقته أَو ذبح عَنهُ شَاة، وَاسم تِلْكَ الشَّاة:
الْعَقِيقَة قَالَ: وعق وَالِده يعقه عقوقاً شقّ عَصا
طَاعَته، قَالَ: وَرجل عُقُق وعقق وعق وعاقٍ، وَقَالَ ابْن
الْأَثِير: عق وَالِده إِذا آذاه وَعَصَاهُ وَخرج
عَلَيْهِ، قَالَ: وَهُوَ ضد الْبر، وَقَالَ ابْن دَقِيق
الْعِيد: ضبط الْوَاجِب من الطَّاعَة لَهما وَالْمحرم من
العوق مَا لَهما فِيهِ عسر. ورتب العقوق مُخْتَلفَة،
وَقَالَ ابْن عبد السَّلَام: لم أَقف فِي عقوق الْوَالِدين
وَلَا فِيمَا يختصان بِهِ من الْحُقُوق على ضَابِط اعْتمد
عَلَيْهِ، فأيما يحرم فِي حق الْأَجَانِب فَهُوَ حرَام فِي
حَقّهمَا وَمَا يجب للأجانب فَهُوَ وَاجِب لَهما، وَلَا
يجب على الْوَلَد طاعتهما فِي كل مَا يأمران بِهِ وَلَا
فِي كل مَا ينهيان عَنهُ بِاتِّفَاق الْعلمَاء، وَقَالَ
الشَّيْخ تفي الدّين السُّبْكِيّ: إِن ضَابِط العقوق
إيذاؤهما بِأَيّ نوع كَانَ من أَنْوَاع الْأَذَى. قل أَو
كثر، نهيا عَنهُ أَو لم ينهيا أَو يخالفهما فِيمَا يأمران
أَو ينهيان بِشَرْط انْتِفَاء الْمعْصِيَة فِي الْكل،
وَحكى قَول الْغَزالِيّ: أَن أَكثر الْعلمَاء على وجوب
طاعتهما فِي الشُّبُهَات، وَوَافَقَهُمَا عَلَيْهِ، وَحكى
قَول الطرطوسي من الْمَالِكِيَّة: أَنَّهُمَا إِذا نهياه
عَن سنية راتبة الْمرة بعد الْمرة أَطَاعَهُمَا، وَإِن
كَانَ ذَلِك على الدَّوَام فَلَا طَاعَة لَهما فِيهِ لما
فِيهِ من إماتة الشَّرْع، وَوَافَقَهُ على ذَلِك أَيْضا.
قالَهُ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هَذَا التَّعْلِيق وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر عمر بِضَم
الْعين وَوَقع للأصيلي: عمر، وَبِفَتْحِهَا وَكَذَا فِي
بعض النّسخ عَن أبي ذَر، وَهُوَ الْمَحْفُوظ، وَوَصله
البُخَارِيّ فِي كتاب الْأَيْمَان وَالنُّذُور من رِوَايَة
الشّعبِيّ عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: الْكَبَائِر
الْإِشْرَاك بِاللَّه وعقوق الْوَالِدين وَقتل النَّفس
وَالْيَمِين الْغمُوس، وَأخرج النَّسَائِيّ لِابْنِ عمر
حَدِيثا فِي الْعَاق بِلَفْظ: ثَلَاثَة لَا ينظر الله
إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة: الْعَاق لوَالِديهِ ومدمن
الْخمر والمنان، وَأخرجه الْبَزَّار أَيْضا وَابْن حبَان
وَصَححهُ وَالْحَاكِم كَذَلِك.
5975 - حدَّثنا سَعْدُ بنُ حَفْصٍ حَدثنَا شَيْبانُ عَنْ
مَنْصُورٍ عَنِ المُسَيَّبِ عَنْ ورَّادٍ عَنِ المُغِيرَةِ
(22/86)
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
قَالَ: إنَّ الله حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهاتِ
ومَنْعَ وهاتِ وَوَأْدَ البَناتِ، وكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ
وَقَالَ وكَثْرَةَ السُّؤَالِ وإضاعَة المَالِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي عقوق الْأُمَّهَات.
والترجمة فِي عقوق الْوَالِدين، وَلَا اعْتِرَاض من هَذِه
الْحَيْثِيَّة لِأَن ذكر الْأُمَّهَات فِي الحَدِيث لَيْسَ
للتخصيص بالحكم، بل لِأَن الْغَالِب ذَلِك لعجزهن، وَقيل:
لِأَن لعقوق الْأُمَّهَات مزية فِي الْقبْح أَو اكْتفى
بِذكر أحد الْوَالِدين عَن الآخر.
وَسعد بن حَفْص أَبُو مُحَمَّد الطلحي الْكُوفِي، يُقَال
لَهُ الضخم، وَانْفَرَدَ بِهِ البُخَارِيّ عَن الْخَمْسَة
وَلَيْسَ فِي شيوخهم من اسْمه سعد سَوَاء، مَاتَ سنة خمس
عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وشيبان بن عبد الرَّحْمَن
النَّحْوِيّ، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر،
وَالْمُسَيب على وزن إسم الْمَفْعُول من التسييب ابْن
رَافع الْكَاهِلِي، ووراد بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد
الرَّاء مولى الْمُغيرَة، والمغيرة هُوَ ابْن شُعْبَة،
وَفِي بعض النّسخ ذكر وَالِده.
والْحَدِيث مضى فِي الزَّكَاة فِي: بَاب قَول الله عز
وَجل: { (2) لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافاً} (الْبَقَرَة:
273) وَمضى فِي الاستقراض أَيْضا عَن عُثْمَان عَن جرير،
وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (وَمنع وهات) ، أَي: حرم عَلَيْكُم منع مَا
عَلَيْكُم إِعْطَاؤُهُ وَطلب مَا لَيْسَ لكم أَخذه، وَقيل:
نهى عَن منع الْوَاجِب من مَاله وأقواله وأفعاله وَعَن
استدعاء مَا لَا يجب عَلَيْهِم من الْحُقُوق، وَمنع
بِغَيْر تَنْوِين وَقع فِيمَا تقدم. قَوْله: (وهات)
بِكَسْر التَّاء فعل أَمر من الإيتاء، وَقَالَ الْخَلِيل:
أصل هَات آتٍ فقلبت الْهمزَة هَاء، وَقَالَ بَعضهم: فقلبت
الْألف وَهَذَا غلط لَا يخفى. قَوْله: (ووأد الْبَنَات)
أَي: وَحرم أَيْضا، وأد الْبَنَات وَهُوَ دفنهن
بِالْحَيَاةِ، يُقَال: وأدها يئدها وأداً فَهِيَ مؤودة،
ذكرهَا الله فِي كِتَابه، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة
يَفْعَلُونَ ذَلِك كَرَاهَة فِيهِنَّ. وَيُقَال: إِن أول
من فعل ذَلِك قيس بن عَاصِم التَّمِيمِي، وَكَانَ بعض
أعدائه أغار عَلَيْهِ فَأسر بنته فاتخذها لنَفسِهِ ثمَّ
حصل بَينهم صلح فَخير ابْنَته فَاخْتَارَتْ زَوجهَا، فآلى
قيس على نَفسه أَن لَا تولد لَهُ بنت إلاَّ دَفنهَا
حَيَّة، فَتَبِعَهُ الْعَرَب على ذَلِك، وَكَانَ من
الْعَرَب فريق ثَان يقتلُون أَوْلَادهم مُطلقًا إِمَّا
نفاسة مِنْهُ على مَا ينقصهُ من مَاله، وَإِمَّا من عدم
مَا يُنْفِقهُ عَلَيْهِ، وَقد ذكر الله أَمرهم فِي
الْقُرْآن، وَكَانَ صعصعة بن نَاجِية التَّمِيمِي جد
الفرزدق همام بن غَالب بن صعصعة أول من فدى المؤودة،
وَذَلِكَ أَنه كَانَ يعمد إِلَى من يفعل ذَلِك فيفدي
الْوَلَد مِنْهُ بِمَال يتفقان عَلَيْهِ، وَإِلَى ذَلِك
أَشَارَ الفرزدق بقوله:
(وجدى الَّذِي منع الوائدات ... وأحي الوئيد فَلم يؤدٍ)
قَوْله: (قيل) وَقَالَ فِيهِ ثَلَاثَة أوجه. الأول: أَن
يكون كِلَاهُمَا مصدرين، يُقَال: قَالَ قولا وقيلاً
وَقَالا، وَلم يكتبا بِالْألف لِأَنَّهَا لُغَة ربيعَة،
وَفِي (التَّوْضِيح) كَذَا روينَاهُ بِغَيْر صرف، يَعْنِي
بِغَيْر تَنْوِين، ويروى بِالتَّنْوِينِ. قلت: الأَصْل أَن
يكون بِالتَّنْوِينِ لِأَنَّهُ إسم وَقع مَفْعُولا وَحقه
النصب بِالتَّنْوِينِ وَمَعْنَاهُ: النَّهْي عَن كَثْرَة
القَوْل فِيمَا لَا يَعْنِي، وَكرر للتَّأْكِيد.
الثَّانِي: أَن يكون كِلَاهُمَا فعلين: الأول: مَجْهُول
الْفِعْل الْمَاضِي، وَالثَّانِي: مَعْلُوم الْمَاضِي وهما
مبنيان متضمنان للضمير وَمَعْنَاهُ، قيل لفُلَان كَذَا
وَقَالَ فلَان كَذَا، وَذَلِكَ للزجر عَن الاستكثار.
الثَّالِث: أَن يَكُونَا حِكَايَة أقاويل النَّاس: قَالَ
فلَان كَذَا وَقيل كَذَا، أَو فِي أُمُور الَّذين بِأَن
ينْقل من غير احْتِيَاط وَدَلِيل. قَوْله: (وَكَثْرَة
السُّؤَال) أَي: فِي الْمسَائِل الَّتِي لَا حَاجَة لَهُ
إِلَيْهَا أَو من الْأَمْوَال أَو عَن أَحْوَال النَّاس.
قَوْله: و (إِضَاعَة المَال) وَهُوَ الْإِسْرَاف فِي
الْإِنْفَاق وَقيل: الْإِنْفَاق فِي الْحَرَام.
5976 - حدَّثني إسْحاقُ حَدثنَا خالِدٌ الواسِطِيُّ عَنِ
الجُرَيْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبي بَكْرَة
عَنْ أبِيهِ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ رسولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ألاَ أُنَبِّئُكُمْ بأكْبَرِ
الكَبائِرِ؟ قُلنا: بَلَى يَا رسُولَ الله! قَالَ:
الإشْرَاك بِاللَّه وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ، وكانَ
مُتَّكِئاً فَجَلَسَ فَقَالَ: ألاَ وَقَوْلُ الزُّورِ
وشَهادَةُ الزُّورِ، أَلا وقَوْلُ الزُّورِ وشَهادَةُ
الزُّورِ، فَما زَالَ يَقُولُها حَتَّى قُلْتُ لَا
يَسْكُتُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وعقوق الْوَالِدين)
وَإِسْحَاق هُوَ ابْن شاهين الوَاسِطِيّ، وخَالِد هُوَ
ابْن عبد الله الطَّحَاوِيّ الوَاسِطِيّ، والجريري بِضَم
الْجِيم وَفتح الرَّاء الأولى نِسْبَة إِلَى جرير بن عباد
أخي الْحَارِث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن بكر بن
(22/87)
وَائِل هُوَ سعيد بن إِيَاس الْبَصْرِيّ،
وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة يروي عَن أَبِيه بكرَة نفيع
مصغر نفع الثَّقَفِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي الشَّهَادَات فِي: بَاب مَا قيل فِي
شَهَادَة الزُّور، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من طَرِيقين،
وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (أَلا أنبئكم؟) وَفِي رِوَايَة الإستئذان: أَلا
أخْبركُم؟ وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد، وَفِي رِوَايَة
التِّرْمِذِيّ: أَلا أحدثكُم؟ وَفِيه دَلِيل على أَنه
يَنْبَغِي للْعَالم أَن يعرض على أَصْحَابه مَا يُرِيد أَن
يُخْبِرهُمْ بِهِ إِمَّا لأجل الحض على التفريغ
وَالِاسْتِمَاع لَهُ، وَأما السَّبَب يَقْتَضِي التحذير
مِمَّا يُحَذرهُمْ وَإِمَّا للحض على الْإِتْيَان بِمَا
فِيهِ صَلَاحهمْ. قَوْله: (بأكبر الْكَبَائِر) أَي: بأعظم
الذُّنُوب الْكَبَائِر، وَفِي بعض النّسخ، قَالَ:
الْكَبَائِر، ثَلَاثًا، أَي: قَالَهَا ثَلَاث مَرَّات على
عَادَته فِي التكرير تَأْكِيدًا لتنبيه السَّامع على
إِحْضَار قلبه، وفهمه الَّذِي يَقُوله، وَلَا يظنّ أَن
المُرَاد بِهِ عدد الْكَبَائِر وَهُوَ بعيد. قَوْله:
قَالَ: الْإِشْرَاك بِاللَّه أَي: أحد الْكَبَائِر:
الْإِشْرَاك بِاللَّه، وَهَذَا لَيْسَ على ظَاهره من
الْحصْر لِأَنَّهُ قد وَردت أَحَادِيث كَثِيرَة تخبر بأكبر
الْكَبَائِر على مَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، فحينئذٍ تقدر
فِيهِ كلمة: من، عوض الْبَاء أَي من أكبر الْكَبَائِر،
وَهَكَذَا جَاءَت فِي أَحَادِيث قد ذَكرنَاهَا، وَقَالَ
ابْن دَقِيق الْعِيد: يحْتَمل أَن يُرَاد بقوله:
الْإِشْرَاك بِاللَّه، مُطلق الْكفْر، وَيكون تَخْصِيصه
بِالذكر لغلبته فِي الْوُجُود. قَوْله: (وعقوق
الْوَالِدين) قد مر تَفْسِيره عَن قريب، قَالَ
الْكرْمَانِي: العقوق كَبِيرَة لِأَنَّهَا مَا توعد
عَلَيْهَا الشَّارِع بخصوصها، فَمَا وَجه كَونه أكبرها؟
وَأجَاب بقوله: لِأَن الْوَالِد بِحَسب الظَّاهِر كالموجد
لَهُ صُورَة وَلِهَذَا قرن الله عز وَجل الْإِحْسَان
إِلَيْهِ بتوحيده فَقَالَ: {وَقضى رَبك ... . وبالوالدين
إحساناً} (الْإِسْرَاء: 23) . قَوْله: (وَكَانَ مُتكئا)
أَي: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قَالَه من صدر
الحَدِيث حَال كَونه مُتكئا (فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلا
وَقَول الزُّور) وَكلمَة: لَا، كلمة تَنْبِيه وتحضيض لضبط
مَا يُقَال وفهمه على وَجه، والزور فِي الأثل الانحراف
وَفِي الِاسْتِعْمَال هُوَ تمويه الْبَاطِل بِمَا يُوهم
أَنه حق وَإِنَّمَا كَرَّرَه بِهَذَا الْوَجْه لِأَن
الدَّوَاعِي إِلَيْهِ كَثِيرَة وأسهل وقوعاً على النَّاس
والشرك ينبو عَنهُ الْمُسلم وعقوق الْوَالِدين ينبو عَنهُ
الطَّبْع، قَوْله: (وَشَهَادَة الزُّور) عطف على قَوْله:
(وَقَول الزُّور) عطف تَفْسِير لِأَن: قَول الزُّور، أَعم
من أَن يكون كفرا وَمن أَن يكون شَهَادَة أَو كذبا آخر من
الكذبات، وَقيل: المُرَاد بقول الزُّور هُنَا الْكفْر،
فَإِن الْكَافِر شَاهد بالزور قَائِل بِهِ. قلت: هَذَا فهم
من قَوْله: (الْإِشْرَاك بِاللَّه) قَوْله: (حَتَّى قلت:
لَا يسكت) الْقَائِل هُوَ أَبُو بكرَة، وَفِي رِوَايَة
التِّرْمِذِيّ: فَمَا زَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَقُولهَا حَتَّى قُلْنَا: ليته سكت إشفاقاً
عَلَيْهِ.
5977 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ الوَلِيدِ حَدثنَا مُحَمَّدُ
بنُ جَعْفَر حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ: حدّثني عُبَيْدُ الله
بنُ أبي بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي
الله عنهُ، قَالَ: ذَكَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، الكَبائِرَ أوْ سئِلَ عَنِ الكَبائِرِ فَقَالَ:
الشِّرْكُ بِاللَّه، وقَتْلُ النَّفْسِ، وعُقُوقُ
الوَالِدَيْنِ، فَقَالَ: أَلا أُنَبِّئُكُمْ بأكْبَرِ
الكَبائِرِ؟ قَالَ: قَوْلُ الزُّورِ أوْ قَالَ: شَهادَةُ
الزُّور. قَالَ شُعْبَةُ: وأكْبَرُ ظَنِّي أنَّهُ قَالَ:
شَهادَةُ الزُّورِ. (انْظُر الحَدِيث 2653 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمُحَمّد بن الْوَلِيد
عبد الحميد ولقبه حمدَان وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وَعبيد
الله بن أبي بكر بن أنس يروي عَن جده أنس بن مَالك.
والْحَدِيث مضى فِي الشَّهَادَات عَن عبد الله بن مُنِير،
وَسَيَأْتِي فِي الدِّيات عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور.
قَوْله: (أَو سُئِلَ عَن الْكَبَائِر) شكّ من الرَّاوِي،
وَفِي الشَّهَادَات: سُئِلَ، فَقَط.
7 - (بابُ صِلَةِ الوَالِدِ المُشْرِكِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة الصِّلَة من
الْمُسلم لوالده الْمُشرك، وَعبر ابْن بطال عَنهُ
بِالْوُجُوب، لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: { (13) وصاحبهما
فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا} (لُقْمَان: 15) فَأمر الله
تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة ببرهما ومصاحبتهما
بِالْمَعْرُوفِ وَإِن كَانَا مُشْرِكين.
9 - (حَدثنَا الْحميدِي حَدثنَا سُفْيَان حَدثنَا هِشَام
بن عُرْوَة أَخْبرنِي أبي أَخْبَرتنِي أَسمَاء ابْنة أبي
بكر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَت أَتَتْنِي أُمِّي راغبة
فِي عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فَسَأَلت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
آصلها قَالَ نعم: قَالَ ابْن عُيَيْنَة فَأنْزل الله
تَعَالَى فِيهَا (لَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين
(22/88)
لم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّين} ) مطابقته
للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَمر فِيهِ بصلَة الوالدة المشركة فَيدْخل
فِيهِ الْوَالِد بِالطَّرِيقِ الأولى والْحميدِي عبد الله
بن الزبير بن عِيسَى وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة
وَهِشَام بن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير
عَن أَسمَاء بنت أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
والْحَدِيث قد مضى فِي الْهِبَة فِي بَاب الْهَدِيَّة
للْمُشْرِكين فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبيد بن
إِسْمَاعِيل عَن أبي أُسَامَة عَن هِشَام عَن أَبِيه إِلَى
آخِره قَوْله " أَتَتْنِي أُمِّي " اسْمهَا قيلة بِفَتْح
الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف على الْأَصَح بنت
عبد الْعُزَّى وَقيل كَانَت أمهَا من الرضَاعَة قَوْله
راغبة بالغين الْمُعْجَمَة وبالباء الْمُوَحدَة أَي راغبة
فِي بري وصلتي وَقيل راغبة عَن الْإِسْلَام كارهة لَهُ
وَذَلِكَ كَانَ فِي معاهدة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْكفَّار مُدَّة مصالحتهم وَقيل
هُوَ بِالْمِيم بدل الْبَاء وَقَالَ الطَّيِّبِيّ رَحمَه
الله قَوْله راغبة إِن كَانَ بِلَا قيد فَالْمُرَاد راغبة
فِي الْإِسْلَام لَا غير وَإِذا قرنت بقوله مُشركَة أَو
فِي عهد قُرَيْش فَالْمُرَاد راغبة فِي صلتي وَإِن كَانَت
الرِّوَايَة راغمة بِالْمِيم فَمَعْنَاه كارهة
لِلْإِسْلَامِ قلت فِي قَوْله فَالْمُرَاد راغبة فِي
الْإِسْلَام نظر لِأَنَّهَا لَو كَانَت راغبة فِي
الْإِسْلَام لم تحتج أَسمَاء إِلَى الاسْتِئْذَان فِي
صلتها قَوْله " قَالَ ابْن عُيَيْنَة " هُوَ سُفْيَان
الرَّاوِي قَوْله {لَا يَنْهَاكُم الله} الْآيَة قَالَ
مُجَاهِد هم من آمن وَأقَام بِمَكَّة وَلم يُهَاجر
وَالَّذين قاتلوهم فِي الدّين كفار مَكَّة وَقَالَ أَبُو
صَالح خُزَاعَة وَقَالَ قَتَادَة الْآيَة مَنْسُوخَة بقوله
{فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَقَول
سُفْيَان قَالَه عبد الله بن الزبير -
8 - (بَاب صلَةِ المَرْأةِ أُمَّها ولَها زوْجٌ)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان صلَة الْمَرْأَة أمهَا
وَالْحَال أَن لَهَا زوجا.
5979 - وَقَالَ اللَّيْثُ حدّثني هِشامٌ عَنْ عُرْوَةَ
ععَنْ أسْماءَ، قالَتْ: قَدِمَتْ أُمِّي وَهْيَ مِشْرِكَة
فِي عَهْد قُرَيْشٍ ومُدَّتِهِمْ إذْ عاهَدُوا النبيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، مَعَ أَبِيهَا فاسْتَفْتَيْتُ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقُلْتُ: إنَّ أُمِّي
قَدِمَتْ وَهْيَ راغِبَة. قَالَ: نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ذكر
فِي التَّرْجَمَة: (وَلها زوج) فَأَيْنَ فِي الحَدِيث مَا
يدل عَلَيْهِ؟ وَأجَاب بقوله: إِن كَانَ الضَّمِير فِي:
لَهَا رَاجعا إِلَى الْمَرْأَة فَهُوَ ظَاهر. إِذْ أَسمَاء
كَانَت زَوْجَة للزبير وَقت قدومها، وَإِن كَانَ رَاجعا
إِلَى الْأُم فَذَلِك بِاعْتِبَار أَن يُرَاد يلفظ
أَبِيهَا زوج أم أَسمَاء، وَمثل هَذَا الْمجَاز سَائِغ،
وَكَونه كَالْأَبِ لأسماء ظَاهر.
قَوْله: (وَقَالَ اللَّيْث) أورد هَذَا الحَدِيث عَن
اللَّيْث ابْن سعد مُعَلّقا، وَوَصله أَبُو نعيم فِي
(الْمُسْتَخْرج) قَوْله: (فِي مدتهم) أَي: الَّتِي عينوها
للصلح وَترك الْمُقَاتلَة. قَوْله: (مَعَ أَبِيهَا) أَي:
مَعَ أَب أم أَسمَاء. قَوْله: (قَالَ: صلي) ويروى: قَالَ:
نعم، صلي، وَهُوَ بِكَسْر الصَّاد وَاللَّام المخففة أَمر
من: وصل يصل، أَصله: أَو صلي، حذفت الْوَاو تبعا لفعله
واستغنيت عَن الْهمزَة فَصَارَ: صلي على وزن: عَليّ،
فَافْهَم.
5980 - حدَّثنا يَحْياى حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ
عَنِ ابنِ شِهابٍ عَنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله أنَّ
عَبْدَ الله ابنَ عبَّاسٍ أخبَرَهُ أنَّ أَبَا سُفْيانَ
أخبَرَهُ أنَّ هِرَقْلَ أرْسَلَ إلَيْهِ ف قَالَ: فَما
يأَأْمُرُكُمْ؟ يَعْنِي: النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ: يأمُرُنا بالصَّلاَةِ والصَّدَقَةِ والعَفافِ
والصِّلَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة بِعُمُوم لفظ الصِّلَة وإطلاقه،
وَيحيى هُوَ ابْن عبد الله بن بكير، وَعقيل بِضَم الْعين
ابْن خَالِد، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ،
وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود. والْحَدِيث
طرف من حَدِيث أبي سُفْيَان فِي قصَّة هِرقل، وَقد مر فِي
أول الْكتاب، وَمر الْكَلَام فِيهِ.
11 - (حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا عبد
الْعَزِيز بن مُسلم حَدثنَا عبد الله بن دِينَار قَالَ
(22/89)
سَمِعت ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا
يَقُول رأى عمر حلَّة سيراء تبَاع فَقَالَ يَا رَسُول الله
ابتع هَذِه والبسها يَوْم الْجُمُعَة وَإِذا جَاءَك
الْوُفُود قَالَ إِنَّمَا يلبس هَذِه من لَا خلاق لَهُ
فَأتي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
مِنْهَا بحلل فَأرْسل إِلَى عمر بحلة فَقَالَ كَيفَ ألبسها
وَقد قلت فِيهَا مَا قلت قَالَ إِنِّي لم أعطكها لتلبسها
وَلَكِن تبيعها أَو تكسوها فَأرْسل بهَا عمر إِلَى أَخ
لَهُ من أهل مَكَّة قبل أَن يسلم) مطابقته للتَّرْجَمَة
ظَاهِرَة والْحَدِيث تقدم فِي كتاب الْهِبَة فِي بَاب
هَدِيَّة مَا يكره لبسهَا وَمضى أَيْضا فِي كتاب اللبَاس
فِي بَاب الْحَرِير للنِّسَاء وَمضى الْكَلَام فِيهِ
قَوْله وَلَكِن تبيعها وَفِي رِوَايَة الْكشميهني لتبيعها
قَوْله أَو تكسوها أَي تعطيها غَيْرك قَوْله إِلَى أَخ
لَهُ قيل إِنَّه عُثْمَان بن حَكِيم بن أُميَّة بن
حَارِثَة بن الأرقص بن مرّة بن هِلَال بن مانح بن ذكْوَان
بن ثَعْلَبَة بن بهثة بن سليم حَلِيف بني أُميَّة وبنته أم
سعيد بن الْمسيب وَأُخْته خَوْلَة بنت حَكِيم زوج عُثْمَان
بن مَظْعُون ولدت لَهُ السَّائِب وَعبد الرَّحْمَن وَلم
يكن أَخا لعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِنَّمَا كَانَ
أَخا لأخي عمر زيد بن الْخطاب لأمه أَسمَاء بنت وهب بن
حبيب بن الْحَارِث بن عِيسَى من بني أَسد بن خُزَيْمَة
وَأم عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حنتمة بِفَتْح الْحَاء
الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وبالتاء الْمُثَنَّاة من
فَوق وَيُقَال خَيْثَمَة بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالثاء الْمُثَلَّثَة
وَهُوَ الْأَشْهر وَالْأول أصح وَهِي بنت هَاشم ذِي
الرمحين ابْن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم
وَذكر النَّسَائِيّ أَنه كَانَ أَخا لعمر من أمه وَفِي
التَّوْضِيح وَالصَّوَاب مَا تقدم من أَنه أَخ لزيد لَا
لعمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَذكر ابْن هِشَام عَن
ابْن إِسْحَق أَن أَبَاهُ حَكِيم بن أُميَّة أسلم قَدِيما
بِمَكَّة -
9 - (بابُ صِلَةِ الأخِ المُشْرِكِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صلَة الْمُسلم لِأَخِيهِ
الْمُشرك وَالْإِضَافَة فِي صلَة الْأَخ إِضَافَة إِلَى
الْمَفْعُول، وطوى ذكر الْفَاعِل.
10 - (بابُ فَضْلِ صِلَةِ الرَّحِمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل صلَة الرَّحِم، وَقَالَ
عِيَاض: لَا خلاف فِي أَن صلَة الرَّحِم وَاجِبَة فِي
الْجُمْلَة وقطيعتها مُصِيبَة كَبِيرَة، وللصلة دَرَجَات
فأدناها: ترك المهاجرة وصلتها بالْكلَام وَلَو
بِالسَّلَامِ، وَيخْتَلف ذَلِك باخْتلَاف الْقُدْرَة
وَالْحَاجة فَمِنْهَا وَاجِب وَمِنْهَا مُسْتَحبّ، فَلَو
وصل بعض الصِّلَة وَلم يصل غايتها لَا يُسمى قَاطعا.
وَاخْتلفُوا فِي حد الرَّحِم الَّتِي تجب صلتها فَقيل: كل
ذِي رحم محرم بِحَيْثُ لَو كَانَ أَحدهمَا ذكرا وَالْآخر
أُنْثَى حرمت منا كحتها، فعلى هَذَا لَا تدخل أَوْلَاد
الْأَعْمَام والأخوال، وَقيل: هُوَ عَام فِي كل ذِي رحم من
ذَوي الْأَرْحَام فِي الْمِيرَاث، قَالَ: وَهُوَ
الصَّوَاب.
5982 - حدَّثني أبُو الوَلِيدِ حدّثنا شُعْبَةُ قَالَ:
أَخْبرنِي ابنُ عُثْمانَ قَالَ: سَمِعْتُ مُوساى بنَ
طَلْحَةَ عَنْ أبي أيُّوب قَالَ: قيلَ: يَا رسولَ الله!
أخْبِرْنِي بِعَمَل يُدْخِلُني الجَنَّةَ. (انْظُر
الحَدِيث 1396 وطرفه) .
5983 - وحدَّثني عَبْدُ الرَّحْمانِ حدّثنا بَهْزٌ حدّثنا
شُعبةُ حَدثنَا ابنُ عُثْمانَ بنِ عَبْدِ الله بنِ
مَوْهَبٍ وأبُوهُ عُثْمانُ بنُ عَبْدِ الله أنَّهُما
سَمِعا مُوسَى بنَ طَلْحَةَ عَنْ أبي أيُّوبَ الأنْصارِيِّ
رَضِي الله عَنهُ، أنَّ رَجلاً قَالَ: يَا رسُول الله
أخبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ. فَقَالَ
القَوْمُ: مالَهُ؟ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: أربٌ مَّالَهُ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: تَعْبُدُ الله لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً،
وَتُقِيمُ الصلاةَ وتُؤْتِي الزَّكاةَ وتَصِلُ الرَّحِم
ذَرْها قَالَ: كأنَّهُ كَانَ عَلَى راحِلَتِهِ. (انْظُر
الحَدِيث 1396 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَتصل الرَّحِم)
وَأخرجه من طَرِيقين: الأول: عَن أبي الْوَلِيد هِشَام بن
عبد الْملك عَن شُعْبَة عَن ابْن عُثْمَان وَهُوَ مُحَمَّد
بن عُثْمَان، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى عَن عُثْمَان
وَكِلَاهُمَا صَحِيح عَن مُوسَى بن طَلْحَة بن عبيد الله
التَّيْمِيّ عَن أبي أَيُّوب خَالِد بن زيد الْأنْصَارِيّ.
الثَّانِي: عَن عبد الرَّحْمَن بن بشر بِكَسْر الْبَاء
الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة النَّيْسَابُورِي
عَن بهز بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْهَاء
وبالزاي ابْن أَسد الْبَصْرِيّ عَن شُعْبَة عَن مُحَمَّد
بن عُثْمَان بن عبد الله بن موهب بِفَتْح الْمِيم
وَالْهَاء وَسُكُون الْوَاو، وَقَالَ الكلاباذي: هُوَ
عَمْرو بن عُثْمَان، وَوهم شُعْبَة فِي اسْمه فَقَالَ:
مُحَمَّد، وَقَالَ البُخَارِيّ بعد
(22/90)
رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث فِي أول الزَّكَاة: أخْشَى أَن
يكون مُحَمَّد غير مَحْفُوظ، إِنَّمَا هُوَ عَمْرو.
والْحَدِيث مر فِي أول الزَّكَاة، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (مَاله؟) اسْتِفْهَام وَكرر للتَّأْكِيد. قَوْله:
(أرب) بِفتْحَتَيْنِ الْحَاجة وَتَقْدِيره: لَهُ أرب،
فَيكون ارتفاعه على الِابْتِدَاء وَخَبره قَوْله: لَهُ
مقدما، وَرُوِيَ بِكَسْر الرَّاء وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة من أرب فِي الشَّيْء إِذا صَار ماهراً فِيهِ
فَيكون مَعْنَاهُ التَّعَجُّب من حسن فظنته والتهدي إِلَى
مَوضِع حَاجته. قَوْله: (ذرهاً) أَي: أترك الرَّاحِلَة
ودعها كَانَ الرجل كَانَ على الرَّاحِلَة حِين سَأَلَ
الْمَسْأَلَة، وَفهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
استعجاله، فَلَمَّا حصل مَقْصُود من الْجَواب قَالَ لَهُ:
دع الرَّاحِلَة تمشي إِلَى مَنْزِلك إِذْ لم يبْق لَك
حَاجَة فِيمَا قصدته، أَو كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
رَاكِبًا وَهُوَ كَانَ آخِذا بزمام رَاحِلَته، فَقَالَ بعد
الْجَواب: دع زِمَام الرَّاحِلَة.
11 - (بابُ إثْمِ القاطِعِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم قَاطع الرَّحِم.
13 - (حَدثنِي يحيى بن بكير حَدثنَا اللَّيْث عَن عقيل عَن
ابْن شهَاب أَن مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم قَالَ إِن
جُبَير بن مطعم أخبرهُ أَنه سمع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول لَا يدْخل الْجنَّة قَاطع)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَمُحَمّد بن جُبَير يروي
عَن أَبِيه جُبَير بن مطعم والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي
الْأَدَب عَن ابْن أبي عمر وَغَيره وَأخرجه أَبُو دَاوُد
فِي الزَّكَاة عَن مُسَدّد وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
الْبر عَن ابْن أبي عمر وَغَيره قَوْله قَاطع أَي قَاطع
الرَّحِم قَالَ الْكرْمَانِي الْمُؤمن بالمعصية لَا يكفر
فَلَا بُد من أَن يدْخل الْجنَّة ثمَّ قَالَ حذف مفعول
قَاطع يدل على عُمُومه وَمن قطع جَمِيع مَا أَمر الله بِهِ
أَن يُوصل كَانَ كَافِرًا أَو المُرَاد المستحل أَو لَا
يدخلهَا مَعَ السَّابِقين - |