عمدة القاري شرح صحيح البخاري

36 - (بابُ تعاوُنِ المُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضاً)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل معاونة الْمُؤمنِينَ بَعضهم بَعْضًا، وَالْأَجْر فِيهَا. قَوْله: (بَعضهم) بِالْجَرِّ على أَنه بدل من الْمُؤمنِينَ بدل الْبَعْض من الْكل، وَيجوز الضَّم أَيْضا. قَوْله: بَعْضًا، قَالَ الْكرْمَانِي: مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض أَي: للْبَعْض. قلت: الْأَوْجه أَن يكون مفعول مصدر الْمُضَاف إِلَى فَاعله وَهُوَ لفظ التعاون لِأَن الْمصدر يعْمل عمل فعله.

6026 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ حَدثنَا سُفْيانُ عَنْ أبي بُرْدَة بُريْدِ بنِ أبي بُرْدَةَ قَالَ: أَخْبرنِي جَدِّي أبُو بُرْدَةَ عَنْ أبِيهِ أبي مُوسَى عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً، ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أصابِعِهِ. (انْظُر الحَدِيث 481 وطرفه) .
وكانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، جَالِسا إذْ جاءَ رَجُلٌ يَسألُ أوْ طالِبُ حاجَةٍ أقْبَلَ عَلَيْنا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ الله عَلَى لِسانِ نَبِيِّهِ مَا شاءَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من مَعْنَاهُ. وَمُحَمّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَأَبُو بردة: بِضَم الْبَاء وَسُكُون الرَّاء كنية بريد مصغر الْبرد ابْن عبد الله بن أبي بردة أَيْضا واسْمه عَامر بن مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ، فَأَبُو بردة يروي عَن جده أبي بردة وَهُوَ يروي عَن أَبِيه أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ من طَرِيق يحيى الْقطَّان: حَدثنَا سُفْيَان حَدثنِي أَبُو بردة ابْن عبد الله بن أبي بردة ... فَذكره.
قَوْله: (وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَالِسا)
إِلَى آخِره مضى فِي الزَّكَاة: حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا عبد الْوَاحِد حَدثنَا أَبُو بردة بن عبد الله بن أبي بردة حَدثنَا أَبُو بردة بن أبي مُوسَى عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا جَاءَهُ سَائل أَو: طلبت إِلَيْهِ حَاجَة قَالَ: اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لِسَان نبيه مَا شَاءَ، وَأخرجه أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن أبي كريب، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (الْمُؤمن) التَّعْرِيف فِيهِ للْجِنْس وَالْمرَاد: بعض الْمُؤمن للْبَعْض. قَوْله: (ويشد بعضه بَعْضًا) بَيَان لوجه التَّشْبِيه. قَوْله: (ثمَّ شَبكَ بَين أَصَابِعه) كالبيان للْوَجْه أَي: شداً مثل هَذَا الشد، وَقَالَ ابْن بطال: المعاونة فِي أُمُور الْآخِرَة، وَكَذَا فِي الْأُمُور الْمُبَاحَة من الدُّنْيَا مَنْدُوب إِلَيْهَا، وَقد ثَبت حَدِيث أبي هُرَيْرَة: وَالله فِي عون العَبْد مَا كَانَ الْبعد فِي عون أَخِيه. قَوْله: (وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَالِسا) لفظ:

(22/114)


جَالِسا لَيْسَ بموجود فِي رِوَايَة الزَّكَاة، وَقَالَ بَعضهم: هَكَذَا وَقع فِي النّسخ من رِوَايَة مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَفِي تركيبه قلق، وَلَعَلَّه كَانَ فِي الأَصْل: كَانَ إِذا كَانَ جَالِسا إِذْ جَاءَهُ رجل ... إِلَى آخِره فَحذف اختصاراً، أَو سقط على الرَّاوِي لفظ: إِذا كَانَ، وَقد أخرجه أَبُو نعيم من رِوَايَة إِسْحَاق بن زُرَيْق عَن الْفرْيَابِيّ بِلَفْظ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا جَاءَهُ السَّائِل أَو طَالب الْحَاجة أقبل علينا بِوَجْهِهِ ... الحَدِيث، وَهَذَا السِّيَاق لَا إِشْكَال فِيهِ. قلت: لَا قلق فِي التَّرْكِيب أصلا، وَآفَة هَذَا الْكَلَام من ظن هَذَا الْقَائِل أَن: جَالِسا، خبر كَانَ وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا خبر كَانَ هُوَ قَوْله: (أقبل علينا) و: (جَالِسا) نصب على الْحَال من النَّبِي فَافْهَم. قَوْله: (تؤجروا) رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: فلتؤجروا، وَالْفَاء على هَذِه الرِّوَايَة هِيَ الْفَاء السبية الَّتِي ينْتَصب بعْدهَا الْفِعْل الْمُضَارع، وَاللَّام بِالْكَسْرِ بِمَعْنى: كي، وَجَاز اجْتِمَاعهمَا لأَنهم لأمر وَاحِد وَتَكون الْفَاء الجزائية لِكَوْنِهِمَا جَوَابا لِلْأَمْرِ وزائدة على مَذْهَب الْأَخْفَش هِيَ عاطفة على: اشفعوا، وَاللَّام لِلْأَمْرِ أَو على مُقَدّر أَي: إشفعوا لتؤجروا فلتؤجروا. نَحْو: { (2) إيَّايَ فارهبون} (الْبَقَرَة: 240، والنحل: 51) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا فَائِدَة اللَّام؟ قلت: اشفعوا تؤجروا، وَالشّرط مُتَضَمّن للسَّبَبِيَّة، فَإِذا ذكرت اللَّام فقد صرحت بالسببية. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: اللَّام وَالْفَاء مقحمان للتَّأْكِيد لِأَنَّهُ لَو قيل: اشفعوا تؤجروا، صَحَّ أَي: إِذا عرض الْمُحْتَاج حَاجَة عَليّ فاشفعوا لَهُ إِلَيّ فَإِنَّكُم إِذا شفعتم حصل لكم الْأجر سَوَاء قبلت شفاعتكم أَو لَا، وَيجْرِي الله على لساني مَا يَشَاء من مُوجبَات قَضَاء الْحَاجة أَو عدمهَا، أَي: إِن قضيتها أَو لم أقضها فَهُوَ بِتَقْدِير الله وقضائه. قَوْله: (وليقض الله) كَذَا ثَبت فِي هَذِه الرِّوَايَة. وليقض بِاللَّامِ وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي أُسَامَة الَّتِي بعْدهَا للكشميهني فَقَط، وللباقين بِغَيْر لَام، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق عَليّ بن مسْهر وَحَفْص بن غياث: فليقض أَيْضا.

37 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقِيتاً} (النِّسَاء: 85) كِفْلٌ: نَصِيبٌ. قَالَ أبُو مُوسَى: كِفْلَيْنِ أجْرَيْنِ، بالحَبَشِيَّةِ.)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَول الله تَعَالَى ... إِلَى آخِره، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين الْآيَة بِتَمَامِهَا، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: {من يشفع شَفَاعَة حَسَنَة يكن لَهُ نصيب مِنْهَا} وَقَالَ مُجَاهِد وَغَيره: نزلت هَذِه الْآيَة فِي شَفَاعَة النَّاس بَعضهم لبَعض. قَوْله: {من يشفع شَفَاعَة حَسَنَة} يَعْنِي فِي الدُّنْيَا. {يكن لَهُ نصيب مِنْهَا} فِي الْآخِرَة. وَقيل: الشَّفَاعَة الْحَسَنَة الدُّعَاء للْمُؤْمِنين، والسيئة الدُّعَاء عَلَيْهِم، وَالْأَجْر على الشَّفَاعَة لَيْسَ على الْعُمُوم بل مَخْصُوص بِمَا تجوز فِيهِ الشَّفَاعَة، والشفاعة الْحَسَنَة ضابطها مَا أذن فِيهِ الشَّرْع دون مَا لم يَأْذَن فِيهِ، فالآية تدل عَلَيْهِ قَوْله: كفل، أَي: نصيب، وَكَذَا فسره البُخَارِيّ بقوله: (كفل: نصيب) وَهُوَ تَفْسِير أبي عُبَيْدَة، وَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة: الكفل الْوزر وَالْإِثْم، وَقَالَ ابْن فَارس: الكفل الضعْف. قَوْله: {مقيتاً} أَي: شَاهدا ومطلعاً على كل شَيْء، من أقات الشَّيْء إِذا شهد عَلَيْهِ، وَيُقَال: المقيت خَالق الأفوات الْبَدَنِيَّة والروحانية وموصلها إِلَى الأشباح والأرواح. وَقيل: المقيت المقتدر بلغَة قُرَيْش. قَوْله: (قَالَ أَبُو مُوسَى) هُوَ الْأَشْعَرِيّ، واسْمه: عبد الله بن قيس، وَوصل تَعْلِيقه ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق أبي إِسْحَاق عَن أبي الْأَحْوَص عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: { (75) يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته} (الْحَدِيد: 28) قَالَ: ضعفين، بالحبشية. يَعْنِي: لغتهم فِي ذَلِك وَافَقت لُغَة الْعَرَب.
56 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن الْعَلَاء حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن بريد عَن أبي بردة عَن أبي مُوسَى عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنه كَانَ إِذا أَتَاهُ السَّائِل أَو صَاحب الْحَاجة قَالَ اشفعوا فلتؤجروا وليقض الله على لِسَان رَسُوله مَا شَاءَ) اعاد الحَدِيث الَّذِي ذكره فِي الْبَاب السَّابِق عَن أبي مُوسَى عقيب الْآيَة الْمَذْكُورَة تَنْبِيها على أَن الشَّفَاعَة على نَوْعَيْنِ فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة كَمَا صرح بذلك وَمضى الْكَلَام فِي رِجَاله وَمَعْنَاهُ قَوْله أوصاحب الْحَاجة فِي رِوَايَة الكشمينى صَاحب حَاجَة بِدُونِ الالف وَاللَّام

(22/115)


38 - (بَاب لَمْ يَكُنِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاحِشاً وَلَا مَتَفَحِّشاً)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: (لم يكن)
إِلَى آخِره. قَوْله: (فَاحِشا) ، من الْفُحْش وَهُوَ كل مَا خرج من مِقْدَاره حَتَّى يستقبح وَيدخل فِيهِ القَوْل وَالْفِعْل وَالصّفة، يُقَال: فلَان طَوِيل فَاحش الطول إِذا أفرط فِي طوله، وَلَكِن اسْتِعْمَاله فِي القَوْل أَكثر. قَوْله: وَلَا متفحشاً كَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: وَلَا متفاحشاً، والمتفحش بِالتَّشْدِيدِ الَّذِي يتَعَمَّد ذَلِك وَيكثر مِنْهُ ويتكلفه لِأَن هَذَا الْبَاب فِيهِ التَّكَلُّف يَعْنِي: لَيْسَ فِيهِ ذَلِك أصلا لَا ذاتياً وَلَا عرضياً، حَاصله لم يكن متكلماً بالقبيح أصلا، وَقَالَ الدَّاودِيّ: الْفَاحِش الَّذِي يَقُول الْفُحْش والمتفحش الَّذِي يسْتَعْمل الْفُحْش ليضحك النَّاس، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: الْفَاحِش بذيء اللِّسَان.

6030 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَلاَمٍ أخبرَنا عَبْدُ الوَهَّابِ عَنْ أيُّوبَ عَنْ عَبْدِ الله بنِ أبي مُلَيْكَةَ عَنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا، أنَّ يَهُودَ أتَوُا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ. فقالَتْ عائِشَةُ: عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمُ الله وغَضِبَ الله عَلَيْكُمْ، قَالَ: مَهْلاً يَا عائِشَةُ! عَلَيْكِ بالرِّفْقِ وإيَّاكَ والعُنْفَ والفُحْش. قالَتْ: أوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قالُوا؟ قَالَ: أوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قلتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجابُ لِي فِيهِمْ ولاَ يُسْتَجابُ لَهُمْ فِيَّ.
هَذَا الحَدِيث ذكره فِي: بَاب الرِّفْق فِي الْأَمر كُله، وَأَعَادَهُ هُنَا وَمن فَائِدَة إِعَادَته أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما لم يكن فَاحِشا وَلَا متفحشاً أَمر بالرفق وَنهى عَن الْفُحْش والعنف، وَهَذَا هُوَ وَجه ذكره هُنَا.
قَوْله: (حَدثنَا عبد الله بن سَلام) ويروى: حَدثنِي، وَعبد الْوَهَّاب ابْن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ.
والعنف ضد اللطف وَحكى عِيَاض عَن بعض شُيُوخه: أَن عين العنف مثله وَالْمَشْهُور ضمهَا، وَالْفُحْش التَّكَلُّم بالقبيح. قَوْله: (فيستجاب لي) لِأَنَّهُ بِالْحَقِّ (وَلَا يُسْتَجَاب لَهُم) لِأَنَّهُ بِالْبَاطِلِ وَالظُّلم. قَوْله: (فِي) بِكَسْر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء.

6031 - حدَّثنا أصْبَغُ قَالَ: أَخْبرنِي ابنُ وَهْبٍ أخبرنَا أَبُو يَحْياى هُوَ فُلَيْحُ بنُ سُلَيْمانَ عَنْ هِلالِ بنِ أُسامَةَ عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: لَمْ يَكُنِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سَبَّاباً ولاَ فَحَّاشاً وَلَا لَعَّاناً، كانَ يَقُولُ لأحَدِنا عِنْدَ المَعْتَبَةِ: مالَهُ؟ تَرِبَ جَبِينُهُ. (انْظُر الحَدِيث 6031 طرفه فِي: 6046) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وإصبغ هُوَ ابْن الْفرج الْمصْرِيّ يروي عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وهلال بن أُسَامَة هُوَ هِلَال

(22/116)


ابْن عَليّ وَيُقَال: هِلَال بن هِلَال، وهلال بن أبي مَيْمُونَة الْمَدِينِيّ. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (سباباً) على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ وَكَذَلِكَ الفحاش وَاللّعان. فَإِن قلت: صِيغَة فعال بِالتَّشْدِيدِ لَا تَسْتَلْزِم نفي صِيغَة فَاعل، وَالنَّبِيّ لم يَتَّصِف بِهَذِهِ الْأَشْيَاء أصلا لَا بِقَلِيل وَلَا بِكَثِير. قلت: هَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: { (14) وَمَا رَبك بظلام للعبيد} (فصلت: 46) وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا الْفرق بَين هَذِه الثَّلَاثَة؟ قلت: يحْتَمل أَن تكون اللَّعْنَة مُتَعَلقَة بِالآخِرَة لِأَنَّهَا هِيَ الْبعد عَن رَحْمَة الله تَعَالَى، والسب يتَعَلَّق بِالنّسَبِ كالقذف وَالْفُحْش بالحسب. قَوْله: (عِنْد المعتبة) بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسرهَا وبالباء الْمُوَحدَة وَهُوَ مصدر عتبت عَلَيْهِ أعتبه عتباً قَالَ الْجَوْهَرِي: عتب عَلَيْهِ وجد تعتب وتعتب ومعتباً وَالِاسْم المعتبة والمعتبة وَقَالَ الْخَلِيل: العتاب معاتبة الأول ومذاكرة الموجدة تَقول: عاتبه معاتبة. قَالَ الشَّاعِر:
وَيبقى الود مَا بقى العتاب
قَوْله: (مَاله؟ اسْتِفْهَام وترب جَبينه) إِذا أَصَابَهُ التُّرَاب، وَيُقَال: تربت يداك على الدُّعَاء أَي: لَا أصبت خيرا. وَقَالَ الْخطابِيّ هَذَا الدُّعَاء يحْتَمل وَجْهَيْن: الأول: أَن يخر لوجهه فَيُصِيب التُّرَاب جَبينه. وَالْآخر: أَن يكون دُعَاء لَهُ بِالطَّاعَةِ ليُصَلِّي فيتترب جَبينه، وَقيل: الجبينان هما اللَّذَان يكتنفان الْجَبْهَة فَمَعْنَاه صرع لجنبه فَيكون سُقُوط رَأسه على الأَرْض من نَاحيَة الجبين. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هَذِه كلمة جرت على لِسَان الْعَرَب وَلَا يُرَاد حَقِيقَتهَا.

6032 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عِيسَى حَدثنَا مُحَمَّد بنُ سَواءٍ حَدثنَا رَوْحُ بنُ القاسِمِ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ: أنَّ رَجُلاً اسْتَأْذَنَ عَلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا رآهُ قَالَ: بِئْسَ أخُو العَشِيرَةِ وبِئْسَ ابنُ العَشِيرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَجْهِهِ وانْبَسَطَ إلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قالَتْ لَهُ عائِشَةُ: يَا رسُولَ الله {حِينَ رأيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وجْهِهِ وانْبَسَطْتَ إلَيْهِ؟ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا عائِشَةَ} مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشاً؟ إنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ الله مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقاءَ شَرِّهِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مَتى عهدتني فحاشاً) . وَعَمْرو بن عِيسَى أَبُو عُثْمَان الضبعِي الْبَصْرِيّ. وَمَاله فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَآخر فِي كتاب الصَّلَاة، وَمُحَمّد بن سَوَاء بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْوَاو وبالمد أَبُو الْخطاب السدُوسِي المكفوف، لَهُ عِنْد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث وَآخر فِي المناقب، وروح بِفَتْح الرَّاء ابْن الْقَاسِم مَشْهُور كثير الحَدِيث، وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر على وزن إسم الْفَاعِل من الانكدار.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن صَدَقَة بن الْفضل وقتيبة. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب أَيْضا عَن عَمْرو بن مُحَمَّد النَّاقِد وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد عَن سُفْيَان بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان بِهِ.
قَوْله: (عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة) وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: سَمِعت عُرْوَة أَن عَائِشَة أخْبرته. قَوْله: (أَن رجلا) قَالَ ابْن بطال: هُوَ عُيَيْنَة بن حصن بن حُذَيْفَة بن بدر الْفَزارِيّ، وَكَانَ يُقَال لَهُ: الأحمق المطاع، فَرح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بإقباله عَلَيْهِ قبل أَن يسلم قومه، وَجَاء حِين أقبل على الشّرك وَترك حَدِيثه مَعَ ابْن أم مَكْتُوم، فَأنْزل الله عز وَجل: وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} (عبس: 1 2) وَأخرج عبد الْغَنِيّ من طَرِيق أبي عَامر الخزاز عَن أبي يزِيد الْمدنِي عَن عَائِشَة قَالَت: جَاءَ مخرمَة بن نَوْفَل يسْتَأْذن، فَلَمَّا سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، صَوته قَالَ: بئس أَخُو الْعَشِيرَة ... الحَدِيث. وَحكى الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ فِي (مُخْتَصره) الفولين، فَقَالَ: هُوَ عُيَيْنَة، وَقيل: مخرمَة. قَوْله: (بئس أَخُو الْعَشِيرَة وَبئسَ ابْن الْعَشِيرَة) وَفِي رِوَايَة معمر: بئس أَخُو الْقَوْم، وَقَالَ عباض: المُرَاد بالعشيرة الْجَمَاعَة والقبيلة أَي: بئس هَذَا الرجل مِنْهَا، وَهُوَ كَقَوْلِك: يَا أَخا الْعَرَب، لرجل مِنْهُم، وَهَذَا الْكَلَام من أَعْلَام النُّبُوَّة لِأَنَّهُ ارْتَدَّ بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَجِيء بِهِ أَسِيرًا إِلَى أبي بكر رَضِي الله عَنهُ. قَوْله: (تطلق) على وزن تفعل من العلاقة أَي: انْشَرَحَ وانبسط، وَمِنْه يُقَال: وَجه طلق وطليق أَي: مسترسل منبسط غير عبوس. قَوْله: (مَتى عهدتني فحاشاً) ؟ هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني: فحاشاً، بِصِيغَة الْمُبَالغَة وَفِي رِوَايَة غَيره: فَاحِشا. قَوْله: (اتقاء شَره) أَي: لأجل الاتقاء عَن شَره.
وَفِيه

(22/117)


مداراة من يتقى فحشه، وَجَوَاز غيبَة الْفَاسِق الْمُعْلن بِفِسْقِهِ، وَمن يحْتَاج النَّاس إِلَى التحذير مِنْهُ، وَهَذَا الحَدِيث أصل فِي المداراة وَفِي جَوَاز غيبَة أهل الْكفْر وَالْفِسْق والظلمة وَأهل الْفساد.

39 - (بابُ حُسْنِ الخُلُقِ والسَّخاءِ وَمَا يُكْرَهُ منَ البُخْلِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حسن الْخلق، وَفِي بَيَان السخاء وَفِي بَيَان مَا يكره من الْبُخْل، والخلق بِالضَّمِّ وَسُكُون اللَّام وَبِضَمِّهَا قَالَ الرَّاغِب: الْخلق والخلق يَعْنِي بِالضَّمِّ وَالْفَتْح فِي الأَصْل بِمَعْنى وَاحِد كالشرب وَالشرب، لَكِن خص الْخلق الَّذِي بِالْفَتْح بالهيآت والصور المدكرة بالبصر، وَخص الْخلق الَّذِي بِالضَّمِّ بالقوى والسجايا المدكرة بالبصيرة، وَأما السخاء فَهُوَ إِعْطَاء مَا يَنْبَغِي لمن يَنْبَغِي، وبذل مَا يقتنى بِغَيْر عوض، وَهُوَ من جملَة محَاسِن الْأَخْلَاق بل هُوَ من أعظمها. وَأما الْبُخْل فَهُوَ ضِدّه وَلَيْسَ من صِفَات الْأَنْبِيَاء وَلَا أجلة الْفُضَلَاء، وَقيل: الْبُخْل منع مَا يطْلب مِمَّا يقتنى وشره مَا كَانَ طَالبه مُسْتَحقّا وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ من غير مَال المسؤول. فَإِن قلت: مَا معنى قَوْله: وَمَا يكره من الْبُخْل؟ وَزَاد فِيهِ لفظ: مَا يكره؟ قلت: كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن بعض مَا يجوز إِطْلَاق إسم الْبُخْل عَلَيْهِ قد لَا يكون مذموماً.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا: كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أجْوَدَ الناسِ وأجْوَدُ مَا يَكونُ فِي رَمَضانَ
هَذَا تَعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي كتاب الْإِيمَان. قَوْله: وأجود مَا يكون (يجوز بِالرَّفْع وَالنّصب، قَالَه الْكرْمَانِي، وَلم يبين وجههما. قلت: أما الرّفْع فَهُوَ أَكثر الرِّوَايَات وَوَجهه أَن يكون مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف، وَكلمَة: مَا مَصْدَرِيَّة نَحْو قَوْلك: أَخطب مَا يكون الْأَمِير قَائِما، أَي: أَجود أكوان الرَّسُول حَاصِل. أَو وَاقع. فِي رَمَضَان، وَأما النصب فبتقدير لفظ: كَانَ، أَي: كَانَ أَجود الْكَوْن فِي شهر رَمَضَان، وَأما كَون أكثرية جوده فِي شهر رَمَضَان فَلِأَنَّهُ شهر عَظِيم وَفِيه الصَّوْم وَفِيه لَيْلَة الْقدر وَالصَّوْم أشرف الْعِبَادَات فَلذَلِك قَالَ: (الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) ، فَلَا جرم أَنه يتضاعف ثَوَاب الصَّدَقَة وَالْخَيْر فِيهِ وَلِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيّ: تسبيحه فِي رَمَضَان خير من سبعين فِي غَيره.
وَقَالَ أبُو ذَرّ لَمَّا بَلَغَهُ مَبْعَثُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأخِيهِ: إرْكَبْ إِلَيّ هاذَا الوادِي فاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، فَرَجَعَ فَقَالَ: رأيْتُهُ يأمُرُ بِمَكارِمِ الأخْلاَقِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (بمكارم الْأَخْلَاق) لِأَن حسن الْخلق والسخاء من مَكَارِم الْأَخْلَاق، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي قصَّة إِسْلَام أبي ذَر مطولا. قَوْله: (إِلَى هَذَا الْوَادي) أَرَادَ بِهِ مَكَّة. قَوْله: (فَرجع) فِيهِ حذف تَقْدِيره: فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَسمع مِنْهُ ثمَّ رَجَعَ، وَالْفَاء فِيهِ فصيحة. قَوْله: (يَأْمر بمكارم الْأَخْلَاق) أَي: الْفَضَائِل والمحاسن لَا الرذائل والقبائح. قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بعثت لأتمم مَكَارِم الْأَخْلَاق) .

6033 - حدَّثني عَمْرُو بنُ عَوْنٍ حَدثنَا حَمَّادٌ هُوَ ابنُ زَيْدٍ عَنْ ثابِتٍ عَنْ أنَسٍ قَالَ: كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحْسَنَ النَّاسِ وأجْوَدَ النَّاسِ وأشْجَعَ النَّاسِ، ولَقَدْ فَزِعَ أهْلُ المَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ فاسْتَقْبَلَهُمُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ وَهْوَ يَقُولُ: لَنْ تُراعُوا لَنْ تُراعُوا، وَهْوَ عَلَى فَرَس لأبي طَلْحَةَ عُرْي مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ، فَقَالَ: لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْراً أوْ إنَّهُ لَبَحْرٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعَمْرو بِفَتْح الْعين ابْن عون بن أويس السّلمِيّ الوَاسِطِيّ نزل الْبَصْرَة.
وَمضى الحَدِيث فِي الْجِهَاد فِي: بَاب إِذا فزعوا بِاللَّيْلِ.
قَوْله: (أحسن النَّاس) ذكر أنس هَذِه الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة مُقْتَصرا عَلَيْهَا وَهِي من جَوَامِع الْكَلم لِأَنَّهَا أُمَّهَات الْأَخْلَاق، فَإِن فِي كل إِنْسَان ثَلَاث قوى: الغضبية والشهوية والعقلية فكمال الْقُوَّة الغضبية الشجَاعَة، وَكَمَال الْقُوَّة الشهوية الْجُود، وَكَمَال الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة الْحِكْمَة، وَالْأَحْسَن إِشَارَة إِلَيْهِ إِذْ مَعْنَاهُ أحسن فِي الْأَفْعَال والأقوال. قَوْله: (فزع) أَي: خَافَ أهل

(22/118)


الْمَدِينَة لما سمعُوا صَوتا بِاللَّيْلِ. قَوْله: (ذَات لَيْلَة) لفظ ذَات مقحمة. قَوْله: (قبل الصَّوْت) بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة أَي: جِهَة الصَّوْت. قَوْله: (فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: بعد أَن سبقهمْ إِلَى الصَّوْت ثمَّ رَجَعَ يستقبلهم. قَوْله: (وَهُوَ يَقُول) الْوَاو وَفِيه للْحَال. قَوْله: (لن تراعوا) أَي: لَا تراعوا، جحد بِمَعْنى النَّهْي أَي لَا تفزعوا، وَهِي كلمة تقال عِنْد تسكين الروع تأنيساً وإظهاراً للرفق بالمخاطب. قَوْله: (على فرس) اسْمه مَنْدُوب، وَكَانَ لأبي طَلْحَة زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ زوج أم أنس. قَوْله: (عُري) ، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء. قَوْله: (مَا عَلَيْهِ سرج) تَفْسِير عري. قَوْله: (بجراً أَي) : وَاسع الجري مثل الْبَحْر.

6034 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخبرنَا سُفْيانُ عَنِ ابنِ المُنْكَدِرِ، قَالَ: سَمِعْتُ جابِراً رَضِي الله عَنهُ، يَقُولُ: مَا سُئِلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَنْ شَيْء قَطُّ فَقَالَ: لَا.

مُطَابقَة الْجُزْء الثَّانِي للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ يروي عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر بن عبد الله.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أبي كريب وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل عَن بنْدَار.
قَوْله: (مَا سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: مَا طلب مِنْهُ شَيْء من أَمْوَال الدُّنْيَا، قَالَ الفرزدق:

(مَا قَالَ: لَا قطّ إلاَّ فِي تشهدهلولا التَّشَهُّد كَانَت لاؤه: نعم)

قَوْله: (عَن شَيْء) ويروى: شَيْئا.

6035 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْص حَدثنَا أبي حَدثنَا الأعْمَشُ قَالَ: حَدثنِي شَقِيقٌ عَنْ مَسْرُوق قَالَ: كُنَّا جلُوساً مَعَ عَبْدِ الله بنِ عَمْروٍ ويحَدِّثُنا إذْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاحِشاً وَلَا مُتَفَحِّشاً، وإنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّ خِيارَكمْ أحاسِنُكُمْ أخْلاقاً.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث. وَعمر بن حَفْص يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث النَّخعِيّ الْكُوفِي قاضيها، يروي عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن شَقِيق بن سَلمَة عَن مَسْرُوق بن الأجدع.
والْحَدِيث مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبله.
قَوْله: (إِن خياركم) وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة: إِن من خياركم، ويروى: إِن من أخياركم. قَوْله: (أحاسنكم) جمع أحسن، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: أحسنكم بِالْإِفْرَادِ، وَعَن أنس رَفعه: أكمل الْمُؤمنِينَ إِيمَانًا أحْسنهم خلقا، رَوَاهُ أَبُو يعلى، وَعَن أبي هُرَيْرَة رَفعه: إِن من أكمل الْمُؤمنِينَ أحْسنهم خلقا، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَحسنه، وَرَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ، وَعَن جَابر بن سَمُرَة مثله، رَوَاهُ أَحْمد وَعَن جَابر رَضِي الله عَنهُ، رَفعه: إِن من أحبكم إِلَيّ وأقربكم مني مَجْلِسا يَوْم الْقِيَامَة أحسنكم أَخْلَاقًا، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ. واخرج ابْن حبَان وَالطَّبَرَانِيّ وَالْحَاكِم من حَدِيث أُسَامَة بن شريك، قَالُوا: يَا رَسُول الله {من أحب عباد الله إِلَى الله؟ قَالَ: أحْسنهم خلقا.

6036 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ حَدثنَا أبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدثنِي أبُو حازِمٍ عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ قَالَ: جاءَتِ امْرَأةٌ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبُرْدَةٍ فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ: أتَدْرُونَ مَا البُرْدَةُ؟ فَقَالَ القَوْمُ: هِيَ شَمْلَة فَقَالَ سَهْلٌ: هِيَ شَمْلَةٌ مَنْسوجَةٌ فِيها حاشيَتُها، فقالَتْ: يَا رسولَ الله} أكْسُوكَ هاذِهِ، فأخَذَها النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُحْتاجاً إلَيْها فَلَبِسَها، فَرَآها عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الصَّحابَةِ فَقَالَ: يَا رسولَ الله! مَا أحْسَنَ هاذِهِ فاكْسُنِيها، فَقَالَ: نَعَمْ، فَلمَّا قامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأمَّهُ أصْحابُهُ، قَالُوا: مَا أحْسَنْتَ حِينَ رَأيْتَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخَذَها مُحْتاجاً إلَيْها ثُمَّ سألْتَهُ إيَّاها، وقَدْ عَرَفْتَ أنَّهُ لَا يُسْئَلُ شَيْئاً فَيَمْنَعَهُ، فَقَالَ: رَجَوْتُ بَرَكَتَها حِينَ لَبِسَها النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَعَلِّي أكَفَّنُ فِيها.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من حَيْثُ إِنَّه مُتَضَمّن معنى حسن الْخلق والسخاء يفهمهُ من لَهُ فهم ذكي.
وَأَبُو غَسَّان مُحَمَّد بن

(22/119)


مطرف، وَأَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار.
والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب من استعد الْكَفَن فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيه ذكر الْبردَة والشملة، فالبردة كسَاء أسود مربع تلبسه الْأَعْرَاب، والشملة الكساء الَّذِي يشْتَمل بِهِ، وَقد فسر فِي الحَدِيث الْبردَة بالشملة المنسوجة فِيهَا حاشيتها يَعْنِي أَنَّهَا لم تقلع من برد وَلَكِن فِيهَا حاشيتها. وَقَالَ الدَّاودِيّ: الْبردَة تكون من صوف وكتان وقطن وَتَكون صَغِيرَة كالمئزر وكبيرة كالرداء.
قَوْله: (سَأَلته إِيَّاهَا) فِيهِ اسْتِعْمَال ثَانِي الضميرين مُنْفَصِلا وَهُوَ الْمُتَعَيّن هُنَا فِرَارًا عَن الاستثقال. إِذْ لَو كَانَ مُتَّصِلا لصار هَكَذَا: سألتهها، وَقَالَ ابْن مَالك: وَالْأَصْل أَن لَا يسْتَعْمل الْمُنْفَصِل إلاَّ عِنْد الضَّرُورَة وَهُوَ تعذر الْمُتَّصِل لِأَن الِاتِّصَال أخص وَأبين، لَكِن إِذا اخْتلف الضَّمِير إِن تَفَاوتا فَالْأَحْسَن الِانْفِصَال نَحْو هَذَا، فَإِن اخْتلفَا بالرتبة جَازَ الِاتِّصَال والانفصال مثل: اعطيتكه، وأعطيتك إِيَّاه.

6037 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أخْبَرَنِي حُمَيْدُ بن عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رسولُ لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَتَقارَبُ الزَّمانُ ويَنْقُصُ العَمَلُ ويُلْقَى الشُّحُّ ويَكْثُرُ الهَرْجُ قَالُوا: وَمَا الهَرْجُ؟ قَالَ: القَتْلُ القَتْلُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (ويلقى الشُّح) . وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع وَقد تكَرر هَذَا الْإِسْنَاد فِيمَا مضى.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن. وَأخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْفِتَن عَن أَحْمد بن صَالح.
قَوْله: (يتقارب الزَّمَان) قَالَ الْخطابِيّ: أَرَادَ بِهِ دنو مَجِيء السَّاعَة، أَي: إِذا أدنا كَانَ من أشراطها نقص الْعَمَل وَالشح والهرج أَو قصر مُدَّة الْأَزْمِنَة عَمَّا جرت بِهِ الْعَادة فِيهَا، وَذَلِكَ من عَلَامَات السَّاعَة إِذا طلعت الشَّمْس من مغْرِبهَا أَو قصر أزمنة الْأَعْمَار أَو تقَارب أَحْوَال النَّاس فِي غَلَبَة الْفساد عَلَيْهِم، وَقَالَ: لفظ الْعَمَل إِن كَانَ مَحْفُوظًا وَلم يكن مَنْقُولًا عَن الْعلم إِلَيْهِ فَمَعْنَاه عمل الطَّاعَات لاشتغال النَّاس بالدنيا، وَقد يكون معنى ذَلِك ظُهُور الْخِيَانَة فِي الْأَمَانَات، وَقَالَ القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ: يحْتَمل أَن يُرَاد بتقارب الزَّمَان تسارع الدول إِلَى الِانْقِضَاء والقرون إِلَى الانقراض. قَوْله: (وَينْقص الْعَمَل) وَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني وَينْقص الْعلم وَهُوَ الْمَعْرُوف. قَوْله: (ويلقى) على صِيغَة الْمَجْهُول (وَالشح) بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْحَاء الْمُهْملَة وَهُوَ الْبُخْل، وَقيل: بَينهمَا فرق، وَهُوَ أَن الشُّح بخل مَعَ حرص فَهُوَ أخص من الْبُخْل. قَوْله: (الْهَرج) بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الرَّاء وبالجيم وَقد فسره فِي الحَدِيث بقوله: (الْقَتْل) ذكره مكرراً، قَالَ الْخطابِيّ: هُوَ بِلِسَان الحبشية، وَقَالَ ابْن فَارس: هُوَ الْفِتْنَة والاختلاط وَقد هرج النَّاس يهرجون بِالْكَسْرِ هرجاً، وَكَذَا ذكره الْهَرَوِيّ.

6038 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ سَمِعَ سَلاَّمَ بنَ مِسْكِينِ قَالَ: سَمِعْتُ ثابِتاً يَقُولُ: حَدثنَا أنَسٌ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: خَدَمْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَشْرَ سِنِينَ فَما قَالَ لي: أفٍّ، وَلَا: لِمَ صَنَعْتَ، وَلَا: ألاَّ صَنَعْتَ؟
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يدل على حسن خلق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ مُطَابق للجزء الأول للتَّرْجَمَة.
وَسَلام بتَشْديد اللَّام ابْن مِسْكين النمري، وثابت هُوَ الْبنانِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن شَيبَان ابْن فروخ.
قَوْله: (عشر سِنِين) فَإِن قلت: فِي حَدِيث مُسلم من طَرِيق إِسْحَاق بن أبي طَلْحَة عَن أنس: وَالله لقد خدمته تسع سِنِين. قلت: إِنَّمَا خدم أنس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد قدوم الْمَدِينَة بأشهر فَيكون تسع سِنِين وَأشهر، فَفِي رِوَايَة تسع سِنِين ألغى الْكسر، وَفِي رِوَايَة عشر سِنِين جبره، قَوْله: (فَمَا قَالَ لي: أُفٍّ) هُوَ صَوت إِذا صَوت بِهِ الْإِنْسَان علم أَنه متضجر متكره. وَفِيه سِتّ لُغَات: بالحركات الثَّلَاث بِالتَّنْوِينِ وَعَدَمه، وَذكر أَبُو الْحسن الرماني فِيهَا لُغَات كَثِيرَة فَبلغ تسعا وَثَلَاثِينَ، ونقلها ابْن عَطِيَّة، وَزَاد وَاحِدَة لتكملة أَرْبَعِينَ، وَقد سردها أَبُو حَيَّان فِي تَفْسِيره الممى (بالبحر) وَلم نذكرها طلبا للاختصار. وَقَالَ الرَّاغِب: أصل الأف كل مستقذر من وسخ كقلامة الظفر وَنَحْوهَا، وَيسْتَعْمل مِنْهُ الْفِعْل يُقَال: أففت لفُلَان تأفيفاً وأففت بِهِ إِذا قلت لَهُ: أُفٍّ لَك، وَفِي رِوَايَة مُسلم: وَقع بِالتَّنْوِينِ. قَوْله: (وَلَا: لم صنعت؟) أَي: وَلَا قَالَ لي: لم صنعت كَذَا لشَيْء من

(22/120)


الْأَشْيَاء. قَوْله: (وَلَا: أَلا صنعت) أَي: وَلَا قَالَ لي: أَلا صنعت؟ بتَشْديد اللَّام بِمَعْنى: هلا صنعت؟ وَفِي رِوَايَة عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب: مَا قَالَ لشَيْء صَنعته لم صنعت هَذَا كَذَا؟ وَلَا لشَيْء لم أصنعه لِمَ لَمْ تصنع هَذَا كَذَا؟

40 - (بابٌ كَيْفَ يَكُونُ الرَّجُل فِي أهْلِهِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ كَيفَ يكون حَال الرجل فِي أَهله يَعْنِي: إِذا كَانَ الرجل فِي بَيته بَين أَهله كَيفَ يعْمل من أَعمال نَفسه وَمن أَعمال الْبَيْت، على مَا يَجِيء فِي حَدِيث الْبَاب.

6039 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ حَدثنَا شُعْبَةُ عَنِ الحَكَمِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنِ الأسْوَدِ قَالَ: سألْتُ عائِشَةَ: مَا كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصْنَعُ فِي أهْلِهِ؟ قالَتْ: كَانَ فِي مهْنَةِ أهْلِهِ فَإِذا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ قامَ إِلَى الصَّلاةِ. (انْظُر الحَدِيث 676 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه أوضح مَا كَانَ من الْإِبْهَام فِي التَّرْجَمَة.
وَالْحكم بفتحين ابْن عتيبة مصغر العتبة وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَالْأسود بن يزِيد خالٍ إِبْرَاهِيم.
والْحَدِيث مضى فِي الصَّلَاة عَن آدم وَفِي النَّفَقَات عَن مُحَمَّد بن عرْعرة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن هناد.
قَوْله: (فِي مهنة) بِكَسْر الْمِيم وَفتحهَا، وَأنكر الْأَصْمَعِي الْكسر وفسرها بِخِدْمَة أَهله، وَعَن هِشَام ابْن عُرْوَة عَن أَبِيه قلت لعَائِشَة: مَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصنع فِي بَيته؟ قَالَت: يخيط ويخصف فعله وَيعْمل مَا يعْمل الرِّجَال فِي بُيُوتهم، رَوَاهُ أَحْمد وَصَححهُ ابْن حبَان، وَلأَحْمَد من رِوَايَة عمْرَة عَن عَائِشَة بِلَفْظ: مَا كَانَ إلاَّ بشرا من الْبشر، كَانَ يفلي ثَوْبه ويحلب شاته ويخدم نَفسه.

41 - (بابُ المِقَةِ مِنَ الله تَعَالَى)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان المقة الثَّابِتَة من الله عز وَجل، والمقة بِكَسْر الْمِيم الْمحبَّة، وَهُوَ من ومق يمق مقة أَصله: ومق حذفت الْوَاو مِنْهُ تبعا لفعله وعوضت عَنْهَا الْهَاء، وَهُوَ على وزن عِلّة لِأَن الْمَحْذُوف فِيهِ فَاء الْفِعْل كعدة أَصْلهَا: وعد، فعل بِهِ كَذَلِك.

68 - (حَدثنَا عَمْرو بن عَليّ حَدثنَا أَبُو عَاصِم عَن ابْن جريج قَالَ أَخْبرنِي مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِذا أحب الله عبدا نَادَى جِبْرِيل إِن الله يحب فلَانا فَأَحبهُ فَيُحِبهُ جِبْرِيل فنادي جِبْرِيل فِي أهل السَّمَاء إِن الله يحب فلَانا فَأَحبُّوهُ فَيُحِبهُ أهل السَّمَاء ثمَّ يوضع لَهُ الْقبُول فِي أهل الأَرْض) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعَمْرو بن عَليّ بن بَحر أَبُو حَفْص الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا وَأَبُو عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد النَّبِيل الْبَصْرِيّ وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج والْحَدِيث مضى فِي بَدْء الْخلق عَن مُحَمَّد بن سَلام فِي بَاب ذكر الْمَلَائِكَة قَوْله فَأَحبهُ بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة الْمُشَدّدَة قَوْله فِي أهل السَّمَاء وَفِي حَدِيث ثَوْبَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي أهل السَّمَوَات السَّبع قَوْله الْقبُول أَي قبُول قُلُوب الْعباد ومحبتهم لَهُ وميلهم إِلَيْهِ ورضاهم عَنهُ وَيفهم مِنْهُ أَن محبَّة قُلُوب النَّاس عَلامَة محبَّة الله عز وَجل وَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن ومحبة الله إِرَادَة الْخَيْر ومحبة الْمَلَائِكَة استغفارهم لَهُ وإرادتهم خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لَهُ أَو ميل قُلُوبهم إِلَيْهِ وَذَلِكَ لكَونه مُطيعًا لله تَعَالَى محبوبا لَهُ
42 - (بَاب الحُبِّ فِي الله)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْحبّ فِي الله أَي: فِي ذَات الله لَا يشوبه الرِّيَاء والهوى.

69 - (حَدثنَا آدم حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يجد أحد حلاوة الْإِيمَان حَتَّى يحب الْمَرْء لَا يُحِبهُ إِلَّا لله وَحَتَّى أَن يقذف فِي النَّار أحب إِلَيْهِ من أَن يرجع إِلَى الْكفْر بعد إِذْ أنقذه الله وَحَتَّى يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ مِمَّا سواهُمَا)

(22/121)


مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله لَا يُحِبهُ إِلَّا لله وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الْإِيمَان فِي بَاب حب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْإِيمَان عَن أبي الْيَمَان وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَعَن آدم وَفِي بَاب حلاوة الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَفِي بَاب من كره أَن يعود فِي الْكفْر وَمضى الْكَلَام فِيهِ مستقصى قَوْله حلاوة الْإِيمَان شبه الْإِيمَان بالعسل بِجَامِع ميل الْقلب إِلَيْهِمَا وَأسْندَ إِلَيْهِ مَا هُوَ من خَواص الْعَسَل فَهُوَ اسْتِعَارَة قَوْله الْمَرْء بِالنّصب قَوْله أحب إِلَيْهِ من أَن يرجع فصل بَين الأحب وَكلمَة من لِأَن فِي الظّرْف توسعة قيل الْمحبَّة أَمر طبيعي لَا يدْخل تَحت الِاخْتِيَار وَأجِيب بِأَن المُرَاد الْحبّ الْعقلِيّ الَّذِي هُوَ إِيثَار مَا يَقْتَضِي الْعقل رجحانه ويستدعي اخْتِيَاره وَإِن كَانَ خلاف الْهوى كَالْمَرِيضِ يعاف الدَّوَاء ويميل إِلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ قَوْله مِمَّا سواهُمَا أَي مِمَّا سوى الله وَرَسُوله قَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت فَمَا الْفرق بَينه وَبَين مَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمن قَالَ وَمن يعصهما فقد غوى بئس الْخَطِيب أَنْت قلت هُوَ أَن الْمُعْتَبر هُوَ الْمركب من المحبتين لَا كل وَاحِدَة مِنْهُمَا فَإِنَّهَا وَحدهَا ضائعة بِخِلَاف الْمعْصِيَة فَإِن كل وَاحِد من العصيانين مُسْتَقل باستلزام الغواية
43

- (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُو اْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالاَْلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاِْيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11) 2.
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله عز وَجل ... إِلَى آخِره، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر بَاب قَول الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا يسخر قوم من قوم} الْآيَة. وللنسفي مثل مَا ذكر إِلَى قَوْله: {هم الظَّالِمُونَ} وَلم يذكر الْآيَة فِي رِوَايَة غَيرهمَا وَفِي نُسْخَة صَاحب (التَّوْضِيح) : بَاب قَول الله عز وَجل: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا يسخر قوم من قوم عَسى} ، إِلَى (الظَّالِمُونَ) قَوْله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا يسخر قوم من قوم} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي لَا يطعن بَعضهم على بعض أَي لَا يستهزىء قوم بِقوم عَسى أَن يَكُونُوا خيرا مِنْهُم عِنْد الله. قَالُوا: إِن بعض الصَّحَابَة اسْتَهْزَأَ بفقراء الصّفة، وَأَزْوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عيرن أم سَلمَة بِالْقصرِ، وَأَن صَفِيَّة بنت حييّ أَنْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت: إِن النِّسَاء يُعَيِّرْنَنِي وَيَقُلْنَ: يَا يَهُودِيَّة بنت يهوديين، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هلا قلت: إِن أبي هَارُون وَعمي مُوسَى وَإِن زَوجي مُحَمَّد؟ فَنزلت هَذِه الْآيَة. قَوْله: (وَلَا تلمزوا أنفسهكم) للمز الطعْن وَالضَّرْب بِاللِّسَانِ وَمَعْنَاهُ: لَا تَفعلُوا مَا تلمزون بِهِ لِأَن من فعل مَا اسْتحق بِهِ اللمز فقد لمن نَفسه حَقِيقَة. قَوْله: {وَلَا تنابزوا بِالْأَلْقَابِ} التَّنَابُز بِالْأَلْقَابِ التداعي بهَا، تفَاعل من نبزه. والنبز اللقب السوء، وَلما قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وجدهم بألقاب يدعونَ بهَا فَجعل الرجل يَدْعُو الرجل بلقبه، فَقيل: يَا رَسُول الله إِنَّهُم يكْرهُونَ هَذَا. فَنزلت: {وَلَا تنابزوا بِالْأَلْقَابِ} واللقب الْمنْهِي عَنهُ هُوَ اللقب السوء، وَأما اللقب الَّذِي فِيهِ التنويه بالْحسنِ فَلَا بَأْس بِهِ، كَمَا قيل لأبي بكر عَتيق، ولعمر فاروق، ولعثمان ذُو النورين، ولعلي أَبُو تُرَاب، ولخالد سيف الله ... وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: {بئس الإسم الفسوق} أَي: بئس الإسم أَن يُقَال: يَا يَهُودِيّ يَا نَصْرَانِيّ وَقد آمن، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {بعد الْإِيمَان} . قَوْله: {وَمن لم يتب} أَي: من التَّنَابُز {فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} أَي: الضارون لأَنْفُسِهِمْ بمعصيتهم.

6042 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ عَنْ هِشامٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَبْدِ الله بنِ زَمْعَةَ، قَالَ نَهاى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يَضْحَكَ الرَّجُلُ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الأنْفُسِ. وَقَالَ: بِمَ يَضْرِبُ أحَدُكُمُ امْرَأتَهُ ضَرْبَ الفَحْلِ ثُمَّ لَعَلَّهُ يُعانِقُها؟
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَوُهَيْبٌ وأبُو مُعاوِيَةَ عَنْ هِشامٍ: جَلْدَ العَبْدِ.
الْمُنَاسبَة بَين الحَدِيث وَالْآيَة الْكَرِيمَة هِيَ أَن ضحك الرجل مِمَّا يخرج من الْأَنْفس فِيهِ معنى الِاسْتِهْزَاء والسخرية.
وَعلي ابْن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عبد الله بن زَمعَة بالزاي وَالْمِيم وَالْعين الْمُهْملَة المفتوحات، وَقيل بِسُكُون الْمِيم ابْن الْأسود الْقرشِي، توفّي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن خمس عشرَة سنة، وَتَمام هَذَا الحَدِيث على ثَلَاث قصَص: الْقِصَّة الأولى: قصَّة عقر النَّاقة. وَالثَّانيَِة: قصَّة النَّهْي عَن الضحك

(22/122)


مِمَّا يخرج من الْإِنْسَان. وَالثَّالِثَة: قصَّة النَّهْي عَن جلد الْمَرْأَة. وَأخرج البُخَارِيّ فِي تَفْسِير سُورَة: {الشَّمْس وَضُحَاهَا} الثَّلَاثَة عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَأخرج فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، بالقصة الأولى عَن الْحميدِي، وَأخرج هُنَا بالقصة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة، وَأخرج فِي النِّكَاح الْقِصَّة الثَّالِثَة. وَأخرج مُسلم فِي صفة النَّار عَن ابْن أبي شيبَة وَغَيره. وَأخرج التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن هَارُون بن إِسْحَاق. وَأخرج النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن رَافع وَغَيره. وَأخرج ابْن مَاجَه فِي النِّكَاح عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَمضى الْكَلَام فِي كل مَوضِع مِنْهَا.
قَوْله: (مِمَّا يخرج من الْأَنْفس) أَي: من الضراط لِأَنَّهُ قد يكون بِغَيْر الِاخْتِيَار، وَلِأَنَّهُ أَمر مُشْتَرك بَين الْكل. قَوْله: (ضرب الْفَحْل) أَي: كضرب الْفَحْل. قَوْله: (يعانقها) أَي: يضاجعها.
قَوْله: (وَقَالَ الثَّوْريّ) هُوَ سُفْيَان الثَّوْريّ، وهيب مصغر وهب بن خَالِد الْبَصْرِيّ، وَأَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالزَّاي يَعْنِي: هَؤُلَاءِ رووا عَن هِشَام بن عُرْوَة ضرب العَبْد مَكَان ضرب الْفَحْل، أما تَعْلِيق الثَّوْريّ فوصله البُخَارِيّ فِي النِّكَاح، وَأما تَعْلِيق وهيب فوصله البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير، وَأما تَعْلِيق أبي مُعَاوِيَة فوصله أَحْمد وَإِسْحَاق كَذَلِك.

6043 - حدَّثني مُحَمَّدَ بنُ المُثَنَّى حَدثنَا يَزِيدُ بنُ هارُونَ أخبرنَا عاصِمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ زَيْدٍ عَنْ أبِيهِ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِنًى: أتَدْرُونَ أيُّ يعلأْمٍ هاذا؟ قَالُوا: الله ورسولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: فإنَّ هاذَا يَوْمٌ حَرامٌ. أفَتَدْرُونَ أيُّ بَلَدٍ هاذا؟ قَالُوا: الله ورَسُولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: بَلَدٌ حَرامٌ. أتَدْرُونَ أيُّ شَهْرٍ هاذا؟ قَالُوا: الله ورسُولُهُ أعْلَمُ. قَالَ: شَهْرٌ حَرامٌ. قَالَ: فإنَّ الله حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِماءَكُمْ وأمْوالَكُمْ وأعْراضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هاذا، فِي شَهْرِكُمْ هاذا، فِي بَلَدِكُمْ هاذا.
وَجه الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين الْآيَة الْمَذْكُورَة من حَيْثُ إِن فِيهِ حُرْمَة الْعرض الَّتِي تتضمنها الْآيَة الْكَرِيمَة أَيْضا على مَا لَا يخفي على الفطن، وَعَاصِم بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُم، وَعَاصِم هَذَا يروي عَن أَبِيه عَن جده عبد اللهابن عمر.
وَمضى هَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد والمتن فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب الْخطْبَة أَيَّام منى، وَأخرج مثله أَيْضا فِي هَذَا الْبَاب عَن ابْن عَبَّاس وَعَن أبي بكرَة، وَأخرج أَيْضا عَنهُ فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: رب مبلغ أوعى من سامع، وَمضى الْكَلَام فِي هَذِه الْمَوَاضِع.
قَوْله: (أَي يَوْم هَذَا؟) هُوَ يَوْم منى، والبلد هُوَ مَكَّة، والشهر هُوَ ذُو الْحجَّة، وَهُوَ من الْأَشْهر الْحرم. قَوْله: (أعراضكم) جمع عرض بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَهُوَ مَوضِع الْمَدْح والذم من الْإِنْسَان، وَإِنَّمَا قدم السُّؤَال عَنْهَا تذكاراً للْحُرْمَة، لأَنهم لَا يرَوْنَ اسْتِبَاحَة تِلْكَ الْأَشْيَاء وانتهاك حرمتهَا بِحَال.

44 - (بابُ مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ السِّبابِ واللَّعْنِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا نهى عَنهُ من السباب بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة، وَيحْتَمل هَذَا أَن يكون من بَاب المفاعلة، وَأَن يكون بِمَعْنى السب أَي الشتم وَهُوَ التَّكَلُّم فِي شَأْن الْإِنْسَان بِمَا يعِيبهُ واللعن هُوَ التبعيد عَن رَحْمَة الله عز وَجل، وَكلمَة: من، فِي قَوْله: من السباب، هِيَ رِوَايَة أبي ذَر والنسفي وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا كلمة: عَن بدل: من، وَهُوَ الْأَوْجه.

6044 - حدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ حَدثنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُور قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وائِلٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ الله قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: سِبابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وقِتالهُ كُفْرٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب خوف الْمُؤمن من أَن يحبط عمله. قَوْله: (فسوق) أَي: خُرُوج عَن طَاعَة الله تَعَالَى. قَوْله: (وقتاله) أَي: الْمُقَاتلَة الْحَقِيقِيَّة أَو الْمُخَاصمَة. قَوْله: (كفر) أَي: كفران حُقُوق الْمُسلمين، أَو مَعَ قيد الاستحلال.
تابَعَه غُنْدَر عَنْ شُعْبَةَ

(22/123)


أَي: تَابع سُلَيْمَان بن حَرْب غنْدر وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر فِي رِوَايَته عَن شُعْبَة عَن مَنْصُور إِلَى آخِره، وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة أَحْمد فِي (مُسْنده) عَن غنْدر بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، لَكِن قَالَ فِيهِ: عَن شُعْبَة عَن زبيد وَمَنْصُور زَاد فِيهِ زبيداً بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن الْحَارِث الْكُوفِي.

6046 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنانٍ حَدثنَا فُلَيْحُ بنُ سُلَيْمانَ حدّثنا هِلاَلُ بنُ عَلِيّ عَنْ أنَس قَالَ: لَمْ يَكُنْ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاحِشاً وَلَا لَعَّاقاً ولاَ سَبَّاباً، كانَ يَقُولُ عِنْدَ المَعْتَبَةِ: مالَهُ؟ تَرِبَ جَبِينُهُ. (انْظُر الحَدِيث 6031) .

هَذَا الحَدِيث مضى عَن قريب فِي: بَاب لم يكن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاحِشا وَلَا متفحشاً فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إصبغ بن وهب عَن فليح بن سُلَيْمَان عَن هِلَال بن عَليّ، هَكَذَا هُنَا، وَهُنَاكَ قَالَ: عَن هِلَال بن أُسَامَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مشروحاً.

6047 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدّثنا عُثْمانُ بنُ عُمَرَ حدَّثنا عَلِيُّ بنُ المُبارَكِ عَنْ يَحْياى بنِ أبي كَثِير عَنْ أبي قِلاَبَةَ أنَّ ثابِتَ بنَ الضَّحَّاكِ وكانَ مِنْ أصْحابِ الشَّجَرَةِ حدَّثَهُ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى مِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلاَمِ فَهْوَ كَما قَالَ، ولَيْسَ عَلَى ابنِ آدَمَ نَذْرٌ فِيما

(22/124)


لَا يَمْلِكُ، ومَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ، ومَنْ لَعَنَ مُؤْمِناً فَهْوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِناً بِكُفْرٍ فَهْوَ كَقَتْلِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمن لعن مُؤمنا) وَمُحَمّد بن بشار بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة ابْن عُثْمَان الْبَصْرِيّ الملقب ببندار، وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا، وَعُثْمَان بن عمر بن فَارس الْبَصْرِيّ، وَأَبُو قلَابَة بِكَسْر الْقَاف عبد الله بن زيد الْجرْمِي، وثابت بن الضَّحَّاك الأشْهَلِي الْأنْصَارِيّ، وَكَانَ من أَصْحَاب الشَّجَرَة أَي: شَجَرَة الرضْوَان بِالْحُدَيْبِية.
وَبَعض الحَدِيث مضى فِي كتاب الْجِنَازَة فِي: بَاب مَا جَاءَ فِي قَاتل النَّفس.
وَهَذَا الحَدِيث مُشْتَمل على خَمْسَة أَحْكَام: الأول: فِي الْحلف على غير مِلَّة الْإِسْلَام، أَي: كَمَا حلف على طَريقَة الْكفَّار بِاللات والعزى مثلا، فَهُوَ كَمَا قَالَ، أَي: كَائِن على غير مِلَّة الْإِسْلَام إِذْ الْيَمين بالصنم تَعْظِيم لَهُ وتعظيمه كفر، أَو كَمَا قَالَ: الرجل إِن فعل كَذَا فَهُوَ يَهُودِيّ فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ التهديد. الثَّانِي: فِي النّذر بِأَن نذر بِمَا لَا يملك بِأَن قَالَ مثلا. إِن شفي الله مريضي فَللَّه عَليّ أَن أعتق عبد فلَان. الثَّالِث: فِي قتل نَفسه فَإِنَّهُ يعذب بِهِ، أَي: بِمثلِهِ، يَعْنِي: يجازي بِجِنْس عمله. الرَّابِع: فِي لعن الْمُؤمن فَهُوَ كقتله يَعْنِي فِي الْإِثْم لِأَن اللاعن يقطعهُ عَن مَنَافِع الْآخِرَة. الْخَامِس: فِي قذفه مُؤمنا بقوله: يَا كَافِر، أَو: أَنْت كَافِر، فَهُوَ كقتله فِي الْإِثْم وَشبهه، لِأَن الْقَاتِل يقطع الْمَقْتُول من مَنَافِع الدُّنْيَا، وَأَجْمعُوا أَنه لَا يقتل فِي رميه لَهُ بالْكفْر، قَالَه الطَّبَرِيّ.

6048 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حدَّثنا أبي حَدثنَا الأعْمَشُ، قَالَ: حدّثني عَدِيُّ بنُ ثابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمانَ بنَ صُرَدٍ رَجُلاً مِنْ أصْحابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَغَضِبَ أحَدُهُما فاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنِّي لَا أعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قالَها لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ، فانْطَلَقَ إلَيْهِ الرَّجُلُ فأخْبَرَهُ بِقَوْلِ النبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ: تَعَوَّذْ بِاللَّه مِنَ الشَّيْطانِ، فَقَالَ: أتُرَى بِي بأسٌ؟ أمَجْنُونٌ أَنا؟ إذْهَبْ. (انْظُر الحَدِيث 3282 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (استب رجلَانِ) وَعمر بن حَفْص يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث الْكُوفِي قاضيها، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان وعدي بن ثَابت بالثاء الْمُثَلَّثَة، وَسليمَان بن صرد بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء وبالدال الْمُهْملَة الْخُزَاعِيّ الْكُوفِي الصَّحَابِيّ، وَكَانَ اسْمه يسَار وضد الْيَمين فِي الْجَاهِلِيَّة فسماء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: سُلَيْمَان، سكن الْكُوفَة وَقتل بِموضع يُقَال لَهُ: عين الوردة، وَقيل: فِي الْحَرْب مَعَ مُقَدّمَة عبيد الله بن زِيَاد وَحمل رَأسه إِلَى مَرْوَان بن الحكم وَكَانَ عمره ثَلَاثًا وَسبعين سنة.
وَمضى الحَدِيث فِي: بَاب صفة إِبْلِيس وَجُنُوده، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَبْدَانِ عَن أبي حَمْزَة عَن الْأَعْمَش عَن عدي بن ثَابت ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (رجلا) مَنْصُوب على أَنه بدل من سُلَيْمَان. قَوْله: (حَتَّى انتفخ وَجهه) وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة فاحمر وَجهه، وَانْتَفَخَتْ أوداجه، وَفِي رِوَايَة مُسلم: تحمر عَيناهُ وتنفخ أوداجه. قَوْله: (الَّذِي يجد) ، أَي: الَّذِي يجده من الْغَضَب. قَوْله: (أَتَرَى؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام على سَبِيل الْإِنْكَار وَضم التَّاء أَي: أتظن. قَوْله: (بِي بَأْس؟) أَي: مرض شَدِيد، وبأس مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: بِي. قَوْله: (أمجنون أَنا؟) فَقَوله: أَنا، مُبْتَدأ: وَمَجْنُون، خَبره مقدما والهمزة فِيهِ للاستفهام الإنكاري. قَوْله: (إذهب) أَمر من الرجل للرجل الَّذِي أمره بالتعوذ يَعْنِي: انْطلق فِي شغلك. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا كَلَام من لم يفقه فِي دين الله وَلم يعرف أَن الْغَضَب نَزغ من نزغات الشَّيْطَان، وتوهم أَن الِاسْتِعَاذَة مُخْتَصَّة بالمجانين، وَلَعَلَّه كَانَ من جُفَاة الْعَرَب، أَو يُقَال: لَعَلَّه كَانَ كَافِرًا أَو منافقاً أَو شدَّة الْغَضَب أخرجته عَن حيّز الِاعْتِدَال بِحَيْثُ زجر الناصح لَهُ، وَقد أخرج أَبُو دَاوُد مَرْفُوعا من حَدِيث عَطِيَّة السَّعْدِيّ: إِن الْغَضَب من الشَّيْطَان.

(22/125)


6049 - حدَّثنا مسَددٌ حَدثنَا بِشْرُ بنُ المُفَضَّلِ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: قَالَ أنَسٌ: حدّثني عُبادَةُ بنُ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِيُخْبِرَ النَّاسَ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ المُسْلِمِينَ، قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ فَتَلاَحَى فُلاَنٌ وفُلاَنٌ وإنَّها رُفِعَتْ، وعَسَى أنْ يَكُونَ خَيْراً لَكُمْ فالْتَمِسُوها فِي التَّاسِعَةِ والسَّابِعَةِ والخَامِسَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فتلاحى رجلَانِ) لِأَن التلاحي التجادل والتصاخم وَهُوَ يُفْضِي فِي الْغَالِب إِلَى السباب.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب خوف الْمُؤمن من أَن يحبط عمله وَهُوَ لَا يشْعر، وَمضى أَيْضا فِي كتاب الصَّوْم فِي: بَاب تحري لَيْلَة الْقدر.
قَوْله: (رجلَانِ) هما عبد الله بن حَدْرَد وَكَعب بن مَالك، قَالَه الْكرْمَانِي، وَكَانَ لعبد الله دين عَليّ كَعْب فتنازعا. قَوْله: (رفعت) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: رفعت من قلبِي، يَعْنِي نسيتهَا. قَوْله: (فالتمسوها) أَي: فاطلبوها فِي (التَّاسِعَة) أَي فِي التَّاسِعَة وَالْعِشْرين وَالسَّابِعَة وَالْعِشْرين وَالْخَامِسَة وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان بِقَرِينَة الْأَحَادِيث الآخر.

6050 - حدَّثنا عُمَرُ بن حَفْصٍ حَدثنَا أبي حَدثنَا الأعْمَشُ عَنِ المَعْرُورِ عَنْ أبي ذَرّ قَالَ: رأيْتُ عَلَيْهِ بُرْداً وعَلَى غُلاَمِهِ بُرْداً، فَقُلْتُ: لَوْ أخَذْتَ هاذا فَلَبِسْتَهُ كانَتْ حُلَّةً وأعْطَيْتَهُ ثَوْباً آخَرَ. فَقَالَ: كانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلاَمٌ وكانَتْ أُمُّهُ أعْجَمِيَّةً فَنِلْتُ مِنْها، فَذَكَرَنِي إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لي: أسابَبْتَ فُلاناً؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أفَنِلْتَ مِنْ أُمِّهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جاهِلِيَّةٌ. قُلْتُ: عَلَى حِينِ ساعَتِي هاذِهِ مِنْ كِبرَ السِّنِّ. قَالَ: نَعَمْ! هُمْ إخْوانُكُمْ جَعَلَهُمُ الله تَحْتَ أيْدِيكُمْ فَمَنْ جَعَلَ الله أخاهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُظْعِمْهُ مِمَّا يأكُلُ وَلْيَلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا يُكَلِّفْهُ مِنَ العَمَلِ مَا يَغْلِبُهُ، فإنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ عَلَيْهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أساببت فلَانا) وَعمر بن حَفْص بن غياث مر عَن قريب، وَكَذَا الْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، والمعرور بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَضم الرَّاء الأولى ابْن سُوَيْد، قَالَ الْكرْمَانِي: بتصغير السود. قلت: لَيْسَ كَذَلِك بل بتصغير الْأسود، وَذكر فِي بعض النّسخ عَن الْمَعْرُور هُوَ ابْن سُوَيْد، وَإِنَّمَا قَالَ: هُوَ، لِأَنَّهُ أَرَادَ تَعْرِيفه وَشَيْخه لم يذكرهُ فَلم يرد أَن ينْسب إِلَيْهِ:
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب الْمعاصِي من أَمر الْجَاهِلِيَّة.
قَوْله: (قَالَ) أَي: الْمَعْرُور رَأَيْت عَلَيْهِ أَي: على أبي ذَر. قَوْله: (بردا) بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَقد مر تَعْرِيفه غير مرّة. قَوْله: (لَو أخذت هَذَا) أَي: الْبرد الَّذِي على غلامك فلبسته كَانَت حلَّة لِأَن الْحلَّة إِزَار ورداء وَلَا تسمى حلَّة حَتَّى يكون ثَوْبَيْنِ. قَوْله: (وَبَين رجل كَلَام) ، الرجل هُوَ بِلَال الْمُؤَذّن وَاسم أمه حمامة بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم. قَوْله: (فنلت مِنْهَا) أَي: تَكَلَّمت فِي عرضهَا، وَهُوَ من النَّيل. قَوْله: (جَاهِلِيَّة) أَي: أَنَّك فِي تعيير أمه على مَا يشبه أَخْلَاق الْجَاهِلِيَّة أَي: أَهلهَا، وَهِي زمَان الفترة قبل الْإِسْلَام، والتنوين فِي: جَاهِلِيَّة، للتقليل والتحقير وَيحْتَمل أَن يُرَاد بالجاهلية الْجَهْل، أَي: إِن فِيك جهلا، فَقَالَ: هَل فِي جهل وَأَنا شيخ كَبِير؟ قَوْله: (هم) رَاجع إِلَى المماليك أَو إِلَى الخدم أَعم من أَن يكون مَمْلُوكا أَو أَجِيرا، وَيُقَال: فِيهِ إِضْمَار قبل الذّكر، لِأَن لفظ تَحت أَيْدِيكُم قرينَة لذَلِك لِأَنَّهُ مجَاز عَن الْملك. قَوْله: (مَا يغلبه) أَي: مَا تصير قدرته فِيهِ مغلوبة أَي: مَا يعجز عَنهُ أَي: لَا يكلفه مَا لَا يُطيق.

45 - (بابُ مَا يَجُوزُ مِنْ ذِكْرِ النَّاسِ نَحْوَ قَوْلِهِمُ: الطَّوِيلُ والقَصِيرُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يجوز من ذكر أَوْصَاف النَّاس نَحْو قَوْله: فلَان طَوِيل، وَفُلَان قصير.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا يَقُولُ ذُو اليَدَيْنِ؟
ذكر هَذَا التَّعْلِيق إِشَارَة إِلَى أَن ذكر اللقب إِن كَانَ للتعريف بِهِ يجوز ذَلِك، لما قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما صلى

(22/126)


الظّهْر رَكْعَتَيْنِ وَسلم، فَقَالَ ذُو الْيَدَيْنِ: أقصرت الصَّلَاة أم نسيت يَا رَسُول الله؟ مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ؟ وَقد مر فِي أَوَائِل كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب تشبيك الْأَصَابِع فِي الْمَسْجِد، وَلَكِن لَفظه: أكما يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ؟ وَهُوَ المطابق للتَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة.
وَمَا لاَ يُرَادُ بِهِ شَيْنُ الرَّجُلِ
أَي: وَفِي جَوَاز مَا لَا يُرَاد بِهِ شين الرجل أَي: غيبه، وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة، وَرَأى قوم من السّلف أَن وصف الرجل بِمَا فِيهِ من الصّفة غيبَة لَهُ. قَالَ شُعْبَة: سَمِعت مُعَاوِيَة بن قُرَّة يَقُول: لَو مر بك أقطع فَقلت: ذَاك الأقطع، كَانَت مِنْك غيبَة، وَلَكِن مَذْهَب الآخرين أَنه إِذا كَانَ على وَجه التَّعْرِيف بِهِ فَلَا بَأْس بِهِ كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ ظَاهر إِيرَاد البُخَارِيّ، بقوله: وَمَا لَا يُرَاد بِهِ شين الرجل وَأما إِذا كَانَ يُرَاد بالتلقيب عَيبه فَلَا يجوز لِأَن فِيهِ تنقيصاً.

46 - (بابُ الغِيبَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَحْرِيم الْغَيْبَة بِكَسْر الْغَيْن وَهِي أَن يتَكَلَّم خلف إِنْسَان بِمَا يغمه لَو سَمعه وَكَانَ صدقا، أما إِذا كَانَ كذبا فيسمى بهتاناً، وَفِي حكمه الْكِتَابَة وَالْإِشَارَة وَنَحْوهمَا.
وَقَوْلِ الله تَعَالَى: { (94) وَلَا يغتب بَعْضكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أحدكُم أَن يَأْكُل لحم أَخِيه مَيتا فكرهتموه وَاتَّقوا الله إِن الله تواب رَحِيم} (الحجرات: 12) [/ ح.
وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: الْغَيْبَة، وَفِي بعض النّسخ ذكر بعده: {أَيُحِبُّ أحدكُم أَن يَأْكُل لحم أَخِيه} الْآيَة. وَاكْتفى البُخَارِيّ بِذكر الْآيَة المصرحة بِالنَّهْي عَن الْغَيْبَة وَلم يذكر حكمهَا فِي التَّرْجَمَة، كَمَا ذكر فِي النميمة حكما، حَيْثُ قَالَ: بَاب النميمة من الْكَبَائِر، كَمَا يَأْتِي عَن قريب.

6052 - حدَّثنا يَحْياى حَدثنَا وَكِيعٌ عَنِ الأعْمَشِ قَالَ: سَمِعْتُ مُجاهِداً يُحَدِّث عَنْ طاوُوسٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَالَ: إنَّهُمَا لَيُعَذَّبانِ وَمَا يُعَذَّبانِ فِي كَبِيرٍ! أمَّا هَذَا فَكان لَا يسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وأمَّا هاذا فَكانَ يَمشِي بِالنَّمِيمَةِ، ثُمَّ دَعا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ بِإثْنَيْنِ، فَغَرَسَ عَلَى هاذا وَاحِدًا وعَلَى هاذا واحِداً، ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُما مَا لع ييبَسا.

(22/127)


مطابقته للتَّرْجَمَة مَعَ أَنَّهَا فِي الْغَيْبَة. والْحَدِيث فِي النميمة من حَيْثُ إِن الْجَامِع بَينهمَا ذكر مَا يكرههُ الْمَقُول فِيهِ بِظهْر الْغَيْب، قَالَه ابْن التِّين، وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِن النميمة نوع من الْغَيْبَة، لِأَنَّهُ لَو سمع الْمَنْقُول عَنهُ أَنه نقل عَنهُ لغمه، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون أَشَارَ إِلَى مَا ورد فِي بعض طرقه بِلَفْظ الْغَيْبَة صَرِيحًا، وَهُوَ مَا أخرجه فِي (الْأَدَب الْمُفْرد) من حَدِيث جَابر، قَالَ: (كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأتى على قبرين) فَذكر نَحْو حَدِيث الْبَاب. وَقَالَ فِيهِ: (أما أَحدهمَا فَكَانَ يغتاب النَّاس) ، وَأخرجه أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أبي بكرَة. قَالَ: (مر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقبرين فَقَالَ: إنَّهُمَا يعذبان وَمَا يعذبان فِي كَبِير، وَبكى) . وَفِيه: (وَمَا يعذبان إلاَّ فِي الْغَيْبَة وَالْبَوْل) . وَلأَحْمَد وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث يعلى بن شَبابَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مر على قبر يعذب صَاحبه، فَقَالَ: (إِن هَذَا كَانَ يَأْكُل لُحُوم النَّاس)
الحَدِيث. وَقَالَ بَعضهم: الظَّاهِر اتِّحَاد الْقِصَّة وَيحْتَمل التَّعَدُّد. قلت: الظَّاهِر أَن الْأَمر بِالْعَكْسِ.
وَيحيى فِي الْإِسْنَاد إِمَّا ابْن مُوسَى الْحدانِي بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الدَّال وبالنون، وَإِمَّا ابْن جَعْفَر الْبَلْخِي، ووكيع هُوَ ابْن الْجراح الرُّؤَاسِي أَبُو سُفْيَان الْكُوفِي وَهُوَ من أَصْحَاب أبي حنيفَة، وَأخذ عَنهُ كثيرا، والأعمس سُلَيْمَان.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الطَّهَارَة فِي: بَاب من الْكَبَائِر أَن لَا يسْتَتر من بَوْله، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (لَا يسْتَتر) أَي: لَا يخفى عَن أعين النَّاس عِنْد قَضَاء الْحَاجة. قَوْله: (بالنميمة) هِيَ نقل الْكَلَام على سَبِيل الْإِفْسَاد. قَوْله: (بعسيب) بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر السِّين الْمُهْملَة وَهُوَ سعف لم ينْبت عَلَيْهِ الخوص، وَقيل: هُوَ قضيب النّخل. قَوْله: (مَا لم ييبسا) وَجه التَّأْقِيت فِيهِ هُوَ مَحْمُول على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَ الشَّفَاعَة لَهما، فأجيبت شَفَاعَته بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمَا إِلَى يبسهما. وَفِيه وُجُوه أُخْرَى تقدّمت هُنَاكَ.

47 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خَيْرُ دُورِ الأنْصارِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خير دور الْأَنْصَار، وَهَذَا من لفظ الحَدِيث، لَكِن مَا ذكره كَامِلا وَتَمَامه: بَنو النجار، فَذكر الْمُبْتَدَأ وَترك الْخَبَر. قيل: هَذِه التَّرْجَمَة لَا تلِيق هَهُنَا لِأَنَّهَا لَيست من الْغَيْبَة أصلا. وَأجِيب: بِأَن الْمفضل عَلَيْهِم يكْرهُونَ ذَلِك، فَبِهَذَا الْقدر يحصل الْوَجْه لإيراد هَذِه التَّرْجَمَة هَهُنَا، وَإِن كَانَ هَذَا الْمِقْدَار لَا يعد غيبَة، وَهَذَا نَحْو قَوْلك: أَبُو بكر أفضل من عمر وَلَيْسَ ذَلِك غيبَة لعمر رَضِي الله عَنهُ، وَمن هَذَا الْقَبِيل مَا فعله يحيى ابْن معِين وَغَيره من أَئِمَّة الحَدِيث من تَخْرِيج الضُّعَفَاء وَتبين أَحْوَالهم خشيَة التباس أَمرهم على الْعَامَّة واتخاذهم أَئِمَّة وهم غير مستحقين لذَلِك.

48 - (بابُ مَا يَجُوزُ مِنِ اغْتِيابِ أهْلِ الفَسادِ والرِّيَبِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز اغتياب أهل الْفساد والريب بِكَسْر الرَّاء وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالباء الْمُوَحدَة، وَهُوَ

(22/128)


جمع رِيبَة وَهِي الشَّك والتهمة.

6054 - حدَّثنا صَدَقَةُ بنُ الفَضْلِ أخبرنَا ابنُ عُيَيْنَةَ سَمِعْتُ ابنَ المُنْكَدِرِ سَمِعَ عُرْوَةَ بنَ الزُّبَيْرِ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا، أخْبَرَتْهُ قالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ بِئسَ أخُو العشِيرَةِ أَو: ابنُ العَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ ألانَ لَهُ الكَلامَ، قُلْتُ: رسولَ الله {قُلْتَ الَّذِي قُلْتَ ثُمَّ ألَنْتَ لَهُ الكَلامَ؟ أيْ عائِشَةُ} إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أوْ: وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقاءَ فُحْشِهِ. (انْظُر الحَدِيث 6032 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بئس أَخُو الْعَشِيرَة أَو ابْن الْعَشِيرَة) فَإِنَّهُ ذكر الرجل الْمَذْكُور بِهَذَا الذَّم وَهُوَ غَائِب عَنهُ، فَدلَّ على إِبَاحَة اغتياب أهل الْفساد وَالشَّر، فَإِن قلت: لم يكن ذَلِك غيبَة وَإِنَّمَا هُوَ نصيحة ليحذر السَّامع. قلت: صُورَة الْغَيْبَة مَوْجُودَة فِيهِ، وَلكنه لَا يتَنَاوَل الْغَيْبَة المذمومة شرعا.
وَابْن عُيَيْنَة هُوَ سُفْيَان، وَابْن الْمُنْكَدر مُحَمَّد، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث عَن قريبَة فِي: بَاب لم يكن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاحِشا وَلَا متفحشاً، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مَبْسُوطا.

49 - (بابٌ التَّمِيمَةُ مِنَ الكَبائِرِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ النميمة من الْكَبَائِر أَي: من الذُّنُوب الْكَبَائِر، وَهِي جمع كَبِيرَة، وكل ذَنْب تَحْتَهُ ذَنْب فَهُوَ كَبِيرَة.