عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 50 - (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ النمِيمَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يكره من النميمة
وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن نقل
بعض القَوْل الْمَنْقُول من شخص على جِهَة الْفساد لَا
يكره، كَمَا إِذا كَانَ الْمَنْقُول عَنهُ كَافِرًا، كَمَا
يجوز التَّجَسُّس فِي بِلَاد الْكفَّار.
وقَوْلِهِ: {هَمَّاز مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} (الْقَلَم: 11) ؛
{ووَيْلٌ لِكُلِّ هُمْزَةٍ لُمَزَةٍ} (الْهمزَة: 1)
يَهْمِزُ وَيَلْمِزُ يَعِيبُ.
أَي: وَقَول الله عز وَجل: {هماز} ... إِلَى آخِره. {هماز}
فعال التَّشْدِيد من الْهَمْز وَفَسرهُ البُخَارِيّ واللمز
بقوله: (يهمز ويلمز يعيب) فَجعل معنى الْإِثْنَيْنِ
وَاحِدًا، وَقَالَ اللَّيْث: الْهَمْز من يغتابك
بِالْغَيْبِ، واللمز من يغتابك فِي وَجهك، وَحكى النّحاس
عَن مُجَاهِد عَكسه. قَوْله: (مشاء) مُبَالغَة مَا شَيْء.
قَوْله: (بنميم) من نم الحَدِيث ينمه وينمه بِضَم النُّون
وَكسرهَا نماً، وَالرجل النمام والنم، وَفِي التَّفْسِير:
المشاء بالنميم هُوَ الَّذِي ينْقل الْأَحَادِيث من بعض
النَّاس إِلَى بعض فَيفْسد بَينهم، قَالَه الْجُمْهُور،
وَقيل: الَّذِي يسْعَى بِالْكَذِبِ وَهُوَ
(22/129)
يفْسد فِي يَوْم مَا لَا يفْسد السَّاحر
فِي شهر قَوْله: (يعيب) بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالباء الْمُوَحدَة،
كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: يغتاب بالغين الْمُعْجَمَة الساكنة وبالتاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وبالباء الْمُوَحدَة.
6056 - حدَّثنا أبُو نعيْمٍ حَدثنَا سُفْيانُ عَنْ
مَنْصورٍ عَنْ إبِراهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: كُنا مَعَ
حُذَيْفَةَ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ رَجُلاً يَرْفَعُ الحَدِيثَ
إِلَى عُثْمانَ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةَ سَمِعْتُ النبيَّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ
قَتَّاتٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي معنى الحَدِيث فَإِن القَتَّات
هُوَ النمام على مَا نذكرهُ. وَأَبُو نعيم الْفضل بن
دُكَيْن، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَمَنْصُور هُوَ ابْن
الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَهَمَّام
هُوَ ابْن الْحَارِث النَّخعِيّ الْكُوفِي، وَحُذَيْفَة
هُوَ ابْن الْيَمَان رَضِي الله عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن عَليّ بن حجر.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن مُسَدّد وَأبي بكر.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن مُحَمَّد بن يحيى.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن إِسْمَاعِيل بن
مَسْعُود.
قَوْله: (يرفع الحَدِيث إِلَى عُثْمَان) أَي عُثْمَان بن
عَفَّان رَضِي الله عَنهُ، قَوْله: (فَقَالَ لَهُ) فِي
رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيره بِغَيْر
لفظ. لَهُ (والقتات) فعال بِالتَّشْدِيدِ من قت الحَدِيث
يقته بِضَم الْقَاف قت وَالرجل قَتَّات أَي: تَمام،
وَقَالَ ابْن بطال: وَقد فرق أهل اللُّغَة بَين النمام
والقتات فَذكر الْخطابِيّ أَن النمام الَّذِي يكون مَعَ
الْقَوْم يتحدثون فينم حَدِيثهمْ، والقتات الَّذِي يتسمع
على الْقَوْم وهم لَا يعلمُونَ ثمَّ ينم حَدِيثهمْ،
وَمعنى: (لَا يدْخل الْجنَّة) يَعْنِي إِن أنفذ الله
عَلَيْهِ الْوَعيد، لِأَن أهل السّنة مجمعون على أَن الله
تَعَالَى فِي وعيده بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ عذبهم وَإِن
شَاءَ عَفا عَنْهُم بفضله، أَو يؤول على أَنه لَا يدخلهَا
دُخُول الفائزين، أَو يحمل على المستحل بِغَيْر تَأْوِيل
مَعَ الْعلم بِالتَّحْرِيمِ.
15 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {واجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ} (الْحَج: 30)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَول الله عز وَجل: {وَاجْتَنبُوا
قَول الزُّور} والزور الْكَذِب، قيل لَهُ ذَلِك لكَونه
مائلاً عَن الْحق، والزور بِالْفَتْح الْميل، وَقَالَ ابْن
الْأَثِير: الزُّور الْكَذِب والتهمة وَالْبَاطِل.
6057 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونِسَ حدّثنا ابنُ أبي ذئبٍ
عَنِ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ عَنِ
النبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَنْ لَمْ يَدَعْ
قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بِهِ والجَهْلَ فَلَيْسَ لله
حاجَةٌ أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وَشَرابَهُ.
قَالَ أحْمَدُ: أفْهَمَنِي رَجُلٌ إسْنادَهُ. (انْظُر
الحَدِيث 1903) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (من لم يدع قَول
الزُّور) لِأَن مَعْنَاهُ: من لم يتْرك وَلم يجْتَنب
وَأحمد بن يُونُس هُوَ أَحْمد بن عبد الله ابْن يُونُس
الْيَرْبُوعي الْكُوفِي نسب إِلَى جده، وَابْن أبي ذِئْب
هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن
الْحَارِث بن أبي ذِئْب واسْمه هِشَام الْقرشِي الْمدنِي،
والمقبري بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْقَاف وَضم الْبَاء
الْمُوَحدَة هُوَ سعيد بن أبي سعيد واسْمه كيسَان كَانَ
يسكن عِنْد مَقْبرَة فنسب إِلَيْهَا.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّوْم فِي: بَاب من لم يدع
قَول الزُّور، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن آدم ابْن أبي
إِيَاس عَن ابْن أبي ذِئْب بِهِ ... إِلَى آخِره.
قَوْله: (وَالْعَمَل بِهِ) أَي: بِمُقْتَضى قَول الزُّور.
قَوْله: (وَالْجهل) بِالنّصب أَي: وَلم يدع الْجَهْل
وَهُوَ فعل الْجُهَّال أَو السفاهة على النَّاس، وَجَاء
الْجَهْل بمعناها. قَوْله: (فَلَيْسَ لله حَاجَة) مجَاز
عَن عدم الْقبُول.
قَوْله: (قَالَ أَحْمد) هُوَ ابْن يُونُس الْمَذْكُور:
أفهمني رجل إِسْنَاده أَي: إِسْنَاد الحَدِيث الْمَذْكُور،
كَأَنَّهُ لم يتَيَقَّن إِسْنَاده من لفظ شَيْخه ابْن أبي
ذِئْب فأفهمه رجل غَيره، وبعكس هَذَا قَالَه أَبُو دَاوُد،
وَذَلِكَ أَنه لما روى هَذَا الحَدِيث قَالَ فِي آخِره:
قَالَ أَحْمد فهمت إِسْنَاده من ابْن أبي ذِئْب، وأفهمني
الحَدِيث رجل إِلَى جنبه أرَاهُ ابْن أَخِيه. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: قَالَ أَحْمد: أفهمني، أَي: كنت نسيت هَذَا
الْإِسْنَاد فذكرني رجل إِسْنَاده، أَو أَرَادَ رجلا
عَظِيما والتنوين يدل عَلَيْهِ، وَالْغَرَض مدح شَيْخه
ابْن أبي ذِئْب أَو رجل آخر غَيره أفهمهُ. انْتهى.
وَقَالَ بَعضهم: خبط الْكرْمَانِي هُنَا. قلت: هُوَ من
الَّذِي خبط من وُجُوه: الأول: فِيهِ ترك الْأَدَب فِي حق
من تقدمه فِي الْإِسْلَام وَالْعلم
(22/130)
والتصنيف. وَالثَّانِي: مَا نقل كَلَامه
مثل مَا نقلته، بل خبط فِيهِ حَيْثُ قَالَ: قَالَ: أَي
الْكرْمَانِي قَوْله: (أفهمني) أَي: كنت نسيت هَذَا
الْإِسْنَاد فذكرني بِهِ رجل أَو أَرَادَ رجل آخر عَظِيم
لما يدل عَلَيْهِ التنكير وَالْغَرَض مدح شَيْخه أَو آخر
... انْتهى، هَذَا الَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل وَنسبه
إِلَى الْكرْمَانِي، فَانْظُر إِلَى التَّفَاوُت بَين
الْكَلَامَيْنِ، فالناظر الَّذِي يتَأَمَّل فِيهِ يعرف أَن
التخبيط جَاءَ من أَيْن. وَالثَّالِث: أَنه فهم من قَوْله
أَو رجل آخر أَنه يمدح شَيْخه، وَلَيْسَ كَذَلِك بل غَرَضه
أَنه يمدح شَيْخه أَو رجلا آخر غَيره، أفهمهُ كَمَا صرح.
52 - (بابُ مَا قيلَ فِي ذِي الوَجْهَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا قيل فِي حق ذِي
الْوَجْهَيْنِ، وَذُو الْوَجْهَيْنِ هُوَ الَّذِي يَأْتِي
هَؤُلَاءِ بِوَجْه وَهَؤُلَاء بِوَجْه، كَمَا يَجِيء عَن
قريب فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَهَذِه هِيَ المداهنة
الْمُحرمَة، وَسمي ذُو الْوَجْهَيْنِ مداهناً لِأَنَّهُ
يظْهر لأهل الْمُنكر أَنه عَنْهُم راضٍ فيلقاهم بِوَجْه
سمح بالترحيب والبشر وَكَذَلِكَ يظْهر لأهل الْحق مَا
أظهره لأهل الْمُنكر فيخلطه لكلتا الطَّائِفَتَيْنِ،
وإظهاره الرضى بفعلهم اسْتحق إسم المداهنة وَاسْتحق
الْوَعيد الشَّديد أَيْضا، رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة عَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (ذُو
الْوَجْهَيْنِ لَا يكون عِنْد الله وجيهاً) ، وَرُوِيَ عَن
أنس رَضِي الله عَنهُ، أَنه روى عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (من كَانَ ذَا لسانين فِي
الدُّنْيَا جعل الله لَهُ لسانين من نَار يَوْم
الْقِيَامَة) .
86 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حَدثنَا أبي حَدثنَا
الأعْمَشُ حدَّثنا أبُو صالِحٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي
الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: تَجِدُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ
عِنْدَ الله ذَا الوَجْهَيْنِ الَّذِي يأتِي هاؤُلاءِ
بِوَجْهٍ وهاؤُلاَءِ بِوَجْهٍ. (انْظُر الحَدِيث 3494
وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعَمْرو بن حَفْص يروي
عَن أبي حَفْص بن غياث عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي
صَالح ذكْوَان السمان الزيات.
قَوْله: (تَجِد من شَرّ النَّاس) وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: من شرار النَّاس، بِصِيغَة الْجمع، وَفِي
رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: إِن من شَرّ النَّاس، وَفِي
رِوَايَة مُسلم: تَجِدُونَ شَرّ النَّاس، وَفِي رِوَايَة
أُخْرَى لَهُ: تَجِدُونَ من شَرّ النَّاس ذَا
الْوَجْهَيْنِ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن الْأَعْرَج
عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: من شَرّ النَّاس ذُو
الْوَجْهَيْنِ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من
طَرِيق ابْن شهَاب عَن الْأَعْمَش بِلَفْظ: من شَرّ خلق
الله ذُو الْوَجْهَيْنِ، وَهَذِه الْأَلْفَاظ مُتَقَارِبَة
وَالرِّوَايَات الَّتِي فِيهَا: شَرّ النَّاس، مَحْمُولَة
على الرِّوَايَات الَّتِي فِيهَا: من شَرّ النَّاس،
مُبَالغَة فِي ذَلِك. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض
الرِّوَايَات: أشر النَّاس، بِلَفْظ أفعل وَهُوَ لُغَة
فصيحة، وَإِنَّمَا كَانَ أشر لِأَنَّهُ يشبه النِّفَاق.
فَإِن قلت: مَا المُرَاد بِالنَّاسِ؟ قلت: يحْتَمل أَن
يكون المُرَاد من ذكر من الطَّائِفَتَيْنِ خَاصَّة فَهُوَ
شرهم كلهم، وَالْأولَى أَن يحمل على عُمُومه فَهُوَ أبلغ
بالذم. قَوْله: ذَا الْوَجْهَيْنِ مَنْصُوب لِأَنَّهُ
مفعول. قَوْله: تَجِد قَوْله: (يَأْتِي هَؤُلَاءِ) أَي:
يَأْتِي كل طَائِفَة وَيظْهر عِنْدهم أَنه مِنْهُم ومخالف
للآخرين مبغض لَهُم، إِذْ لَو أَتَى كل طَائِفَة بالإصلاح
وَنَحْوه لَكَانَ مَحْمُودًا.
53 - (بابُ مَنْ أخْبَرَ صاحِبَهُ بِما يُقال فِيهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز إِخْبَار الرجل صَاحبه
بِمَا سمع مِمَّا يُقَال فِيهِ، أَي: فِي حَقه، وَلَكِن
بِشَرْط أَن يقْصد النَّصِيحَة ويتحرى الصدْق ويجتنب
الْأَذَى، أَلا يُرى أَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ،
حِين أخبر الشَّارِع بقول الْأنْصَارِيّ فِيهِ: هَذِه
قسْمَة مَا أُرِيد بهَا وَجه الله، لم يقل لَهُ: أتيت
بِمَا لَا يجوز، بل رَضِي بذلك وجاوبه بقوله: يرحم الله
مُوسَى لقد أَو ذِي بِأَكْثَرَ من هَذَا فَصَبر، وَلم يكن
هَذَا من النميمة.
6059 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ أخبرنَا سُفْيانُ
عَنِ الأعْمَشِ عَنْ أبي وائِلٍ عَنِ ابنِ مَسْعُودٍ رَضِي
الله عَنهُ، قَالَ: قَسَمَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، قِسْمَةً فَقَالَ رجُلٌ مِنَ الأنْصارِ: وَالله مَا
أرَادَ مُحَمَّدٌ بِهاذَا وَجْهَ الله. فأتَيْتُ رَسُولَ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأخْبَرْتُهُ فَتَمَعَّرَ
وَجْهُهُ وَقَالَ: رَحِمَ
(22/131)
الله مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بأكثَرَ مِنْ
هاذا فَصَبَرَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يُوضح مَا أبهم
فِيهَا، وَقد بَيناهُ. وَمُحَمّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ،
وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان،
وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة.
والْحَدِيث مضى فِي: الْجِهَاد فِي: بَاب مَا كَانَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُعْطي الْمُؤَلّفَة
قُلُوبهم، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (قسم) أَي: يَوْم حنين، وَقد أعْطى الْأَقْرَع بن
حَابِس مائَة من الْإِبِل. قَوْله: (فتمعر) تفعل مَاض من
التمعر بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالرَّاء أَي: تغير لَونه،
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فتمغر) ، بالغين الْمُعْجَمَة
أَي: صَار لَونه لون الْمغرَة، وَصَاحب (التَّوْضِيح) نسب
هَذِه الرِّوَايَة لأبي ذَر.
وَفِيه من الْفِقْه: أَن أهل الْفضل وَالْخَبَر قد يعز
عَلَيْهِم مَا يُقَال فيهم من الْبَاطِل وَيكبر عَلَيْهِم،
فَإِن ذَلِك جبلة فِي الْبشر فطرهم الله عَلَيْهَا إلاَّ
أَن أهل الْفضل يتلقون ذَلِك بِالصبرِ الْجَمِيل اقْتِدَاء
بِمن تقدمهم من الْمُؤمنِينَ، أَلا يُرى أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قد اقْتدى فِي ذَلِك بصبر مُوسَى صلوَات
الله وَسَلَامه عَلَيْهِ، وَمن صبره أَنهم قَالُوا لَهُ:
هُوَ آدر، فَمر يغْتَسل عُريَانا فَوضع ثَوْبه على الْحجر
فَتَبِعَهُ ففر الْحجر فَجَاز على بني إِسْرَائِيل فبرأه
مِمَّا قَالُوا، وَمِنْه: أَن قَارون قَالَ لامْرَأَة ذَات
حمال وَحسب: هَل لَك أَن أشركك فِي أَهلِي وَمَالِي إِذا
جِئْت فِي مَلأ بني إِسْرَائِيل تَقُولِينَ: إِن مُوسَى
أرادني على نَفسِي، فَلَمَّا وقفت عَلَيْهِم بدل الله
تَعَالَى قَلبهَا، فَقَالَت: إِن قَارون قَالَ لي كَذَا
وَكَذَا، فَبلغ الْخَبَر مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام،
وَكَانَ شَدِيد الْغَضَب يخرج شعره من ثَوْبه إِذا غضب،
فَدَعَا الله تَعَالَى وَهُوَ يبكي فَأوحى الله إِلَيْهِ:
قد أمرت الأَرْض أَن تطيعك فَمُرْهَا بِمَا شِئْت، فَأقبل
إِلَى قَارون فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: يَا مُوسَى
ارْحَمْنِي، قَالَ: يَا أَرض خذيه، فساخت بِهِ الأَرْض
وَبِدَارِهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، فَقَالَ: يَا مُوسَى
ارْحَمْنِي، فَقَالَ: خذيه فساخت بِهِ وَبِدَارِهِ فَهُوَ
يتجلجل إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَمثل هَذِه كَثِيرَة.
54 - (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التمادُحِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يكره من التمادح بَين
النَّاس الَّذِي فِيهِ الإطراء ومجاوزة الْحَد، وَهُوَ
المُرَاد من التَّرْجَمَة، لِأَن الحَدِيث يدل على هَذَا.
قَالَ بَعضهم: هُوَ مدح كل من الشخصين الآخر. قلت: لَيْسَ
كَذَلِك، هَذَا الَّذِي قَالَه بَاب المفاعلة، وَهَذَا من
بَاب التفاعل لمشاركة الْقَوْم وَمن لَهُ أدنى مسكة من
الصّرْف يعرف هَذَا.
6060 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ صَبَّاحٍ حَدثنَا إسْماعِيلُ
بنُ زَكرِيَّاءَ حدّثنا بُرَيْدُ بنُ عَبْدِ الله بنِ أبي
بُرْدَةَ عَنْ أبي بُرْدَةَ عَنْ أبي مُوسَى قَالَ: سَمِعَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَجُلاً يُثْني عَلَى
رَجُلٍ ويُطْرِيه فِي المِدْحَةِ، فَقَالَ: أهْلَكْتُمْ
أوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ. (انْظُر الحَدِيث 2663)
.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث وَهُوَ أَن
يفرط فِي مدح الرجل بِمَا لَيْسَ فِيهِ فيدخله من ذَلِك
الْإِعْجَاب ويظن أَنه فِي الْحَقِيقَة بِتِلْكَ
الْمنزلَة، فَلذَلِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: قطعْتُمْ ظهر الرجل حِين وصفتموه بِمَا لَيْسَ
فِيهِ، فَرُبمَا حمله ذَلِك على الْعجب وَالْكبر وعَلى
تَضْييع الْعَمَل وَترك الإزدياد وَالْفضل، وَمن ذَلِك
تَأَول الْعلمَاء فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(احثوا التُّرَاب فِي وُجُوه المداحين) ، أَن المُرَاد بهم
المداحون النَّاس فِي وُجُوههم بِالْبَاطِلِ وَبِمَا
لَيْسَ فيهم، وَلم يرد بهم من مدح رجلا بِمَا فِيهِ فقد
مدح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْأَشْعَار
والخطب والمخاطبة وَلم يحث فِي وُجُوه المداحين التُّرَاب،
وَلَا أَمر بذلك، وَقد قَالَ أَبُو طَالب فِيهِ:
(وأبيض يستسقى الْغَمَام بِوَجْهِهِ ... ثمال الْيَتَامَى
عصمَة للأرامل)
ومدحه حسان فِي كثير من شعره، وَكَعب بن زُهَيْر وَغير
ذَلِك.
وَمُحَمّد بن صباح بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وَيُقَال:
فِيهِ الصَّباح بِالْألف وَاللَّام الْبَغْدَادِيّ،
فَالْأول رِوَايَة أبي ذَر وَالثَّانِي لغيره،
وَإِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّاء مَقْصُور أَو مَمْدُود
الْأَسدي، وَبُرَيْدَة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح
الرَّاء ابْن عبد الله بن أبي بردة بِضَم الْمُوَحدَة،
وَأَبُو بردة اسْمه عَامر، قيل: الْحَارِث يرْوى عَن
أَبِيه أبي مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ، وبريد
بن عبد الله يروي عَن جده أبي بردة عَن أبي مُوسَى.
والْحَدِيث قد مر فِي
(22/132)
الشَّهَادَات: بَاب مَا يكره من الإطناب
فِي الْمَدْح.
قَوْله: (ويطريه) من الإطراء وَهُوَ مُجَاوزَة الْحَد.
قَوْله: (أَو قطعْتُمْ) شكّ من الرَّاوِي وَقطع الظّهْر
مجَاز عَن الإهلاك، يَعْنِي: أوقعتموه فِي الْإِعْجَاب
بِنَفسِهِ الْمُوجب لهلاك دينه.
1061 - حدَّثنا آدَمُ حَدثنَا شُعْبَةُ عَنْ خالِدٍ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبي بَكْرَةَ عَنْ أبِيهِ أنَّ
رجُلاً ذُكِرَ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فأثْنى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْراً، فَقَالَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقُ صاحِبِكَ،
يَقُولُهُ مِرَاراً: إنَّ كانَ أحَدُكُمْ مادِحاً لَا
مَحالَةَ فَلْيَقُلْ: أحْسِبُ كَذَا وَكَذَا، إِن كَانَ
يُرَى أنَّهُ كَذلِكَ وَحَسِيبُهُ الله وَلاَ يُزَكِّي
عَلَى الله أحَداً.
وَقَالَ وُهَيْبٌ عَنْ خالِدٍ: وَيْلَكَ. (انْظُر الحَدِيث
2662 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مَا ذكرنَا فِي الحَدِيث
السَّابِق. وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس، وخَالِد هُوَ ابْن
مهْرَان الْحذاء، وَأَبُو بكرَة هُوَ نفيع بِضَم النُّون
وَفتح الْفَاء ابْن الْحَارِث الثَّقَفِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي الشَّهَادَات عَن مُحَمَّد بن سَلام
فِي: بَاب إِذا زكى رجل رجلا كَفاهُ.
قَوْله: (ذكر) بِلَفْظ الْمَجْهُول. قَوْله: (وَيحك) كلمة
ترحم وتوجع يُقَال لمن وَقع فِي هلكة لَا يَسْتَحِقهَا،
وَقد يُقَال بِمَعْنى الْمَدْح والتعجب، وَهِي مَنْصُوبَة
على الْمصدر، وَقد ترفع وتضاف، فَيُقَال: وَيْح زيد ويحاً
لَهُ وويح لَهُ. قَوْله: (قطعت عنق صَاحبك) قطع الْعُنُق
اسْتِعَارَة من قطع الْعُنُق الَّذِي هُوَ الْقَتْل
لاشْتِرَاكهمَا فِي الْهَلَاك لَكِن هَذَا الْهَلَاك فِي
الدّين وَذَاكَ من جِهَة الدُّنْيَا. قَوْله: (لَا محَالة)
بِفَتْح الْمِيم أَي: لَا بُد وَالْمِيم زَائِدَة. قَوْله:
(إِن كَانَ يُرى) بِضَم الْيَاء أَي: يظنّ، وَوَقع فِي
رِوَايَة يزِيد بن زُرَيْع: إِن كَانَ يعلم ذَلِك، وَكَذَا
فِي رِوَايَة وهيب. قَوْله: (وحسيبه الله) بِفَتْح الْحَاء
وَكسر السِّين الْمُهْملَة يَعْنِي: يحاسبه على عمله
الَّذِي يعلم بِحَقِيقَة حَاله وَهِي جملَة اعتراضية.
وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: هِيَ من تَتِمَّة القَوْل،
وَالْجُمْلَة الشّرطِيَّة حَال من فَاعل. (فَلْيقل) .
وعَلى الله فِيهِ معنى الْوُجُوب وَالْقطع، وَالْمعْنَى:
فَلْيقل: أَحسب فلَانا كَيْت وَكَيْت إِن كَانَ يحْسب
ذَلِك، وَالله يعلم سره فِيمَا فعل فَهُوَ يجازيه، وَلَا
يقل: أتيقن أَنه محسن وَالله شَاهد عَلَيْهِ، على
الْجَزْم، وَأَن الله يجب عَلَيْهِ أَن يفعل بِهِ كَذَا
وَكَذَا. قَوْله: (وَلَا يُزكي) على صِيغَة الْمَعْلُوم.
و: (أحدا) مَنْصُوب بِهِ فِي رِوَايَة الْكشميهني
وَالضَّمِير فِي: يُزكي، للمخاطب وَعَن أبي ذَر عَن
المستملى والسرخسي على صِيغَة الْمَجْهُول: وَاحِد،
بِالرَّفْع وَمَعْنَاهُ: لَا يقطع على عَاقِبَة أحد وَلَا
على مَا فِي ضَمِيره لِأَن ذَلِك مغيب عَنهُ. قَوْله:
(وَلَا يُزكي) خبر مَعْنَاهُ النَّهْي أَي لَا يُزكي أحدا.
قَوْله: (وَقَالَ وهيب) مصغر وهب بن خَالِد الْبَصْرِيّ
(عَن خَالِدا) لحذاء بِسَنَدِهِ الْمَذْكُور فِيمَا
سَيَأْتِي. قَوْله: (وَيلك) مَوضِع وَيحك، وَكلمَة: وَيلك،
كلمة حزن وهلاك، وَقيل: وَيْح وويل بِمَعْنى وَاحِد،
وَتَعْلِيق وهيب هَذَا يَأْتِي مَوْصُولا فِي: بَاب مَا
جَاءَ فِي قَول الرجل: وَيلك.
55 - (بابُ مَنْ أثْنَى عَلَى أخِيهِ بِما يَعْلَمُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز ثَنَاء من أثنى على
أَخِيه أَي: صَاحبه بِمَا يعلم فِيهِ وَلَكِن بِشَرْط أَن
لَا يطري وَلَا يزِيد على مَا يعلم.
وَقَالَ سَعْدٌ: مَا سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، يَقولُ لأحَدٍ يَمْشِي عَلَى الأرْضِ: إنَّهُ مِنْ
أهْلِ الجَنَّةِ إلاَّ لِعَبْدِ الله بنِ سَلاَمٍ.
أَي: قَالَ سعد بن أبي وَقاص، هَذَا التَّعْلِيق قد مضى
مَوْصُولا فِي مَنَاقِب عبد الله بن سَلام، قيل: عبد الله
بن سَلام من المبشرين فَلَا ينحصرون فِي الْعشْرَة.
وَأجِيب: بِأَن التَّخْصِيص بِالْعدَدِ لَا يَنْفِي
الزَّائِد، أَو المُرَاد بِالْعشرَةِ الَّذين بشروا بهَا
دفْعَة وَاحِدَة، وَإِلَّا فالحسن وَالْحُسَيْن وأمهما
وَأَزْوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
بالِاتِّفَاقِ من أهل الْجنَّة، قيل: مَفْهُوم التَّرْكِيب
أَنه منحصر فِي عبد الله فَقَط. وَأجِيب بِأَن غَايَته أَن
سعد لم يسمع ذَلِك مِنْهُ، أَو لم يقل لأحد غَيره حَال
الْمَشْي على الأَرْض.
6062 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حَدثنَا سُفْيانُ
حدّثنا مُوسَى بنُ عُقْبَةَ عَنْ سالِمٍ عَنْ أبِيهِ أنَّ
رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِينَ ذَكَرَ فِي
الإزَارِ مَا ذَكَرَ قَالَ أبُو بَكرٍ: يَا رسولَ الله!
إنَّ إزَاري يَسْقُطُ مِنْ أحَدِ شقَّيْهِ. قَالَ: إنَّكَ
لَسْتَ مِنْهُمْ.
(22/133)
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِنَّك لست مِنْهُم) لِأَن
فِيهِ مدح أبي بكر رَضِي الله عَنهُ، بِمَا يعلم مِنْهُ.
وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان بن
عُيَيْنَة، ومُوسَى بن عقبَة بِضَم الْعين وَسُكُون
الْقَاف وبالباء الْمُوَحدَة، وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله
بن عمر يروي عَن أَبِيه: أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، حِين ذكر فِي الْإِزَار وَهُوَ قَوْله:
(من جرَّ ثَوْبه خُيَلَاء لم ينظر الله إِلَيْهِ يَوْم
الْقِيَامَة) مر فِي أول كتاب اللبَاس. قَالَ أَبُو بكر:
يَا رَسُول الله! إِن إزَارِي يسْقط أحد شقيه، يَعْنِي:
يسترخي، وَيُشبه جَرّه، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
إِنَّك لست مِنْهُم، أَي: من الَّذين يجرونَ ثِيَابهمْ
خُيَلَاء. وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة فِي أول كتاب
اللبَاس: إِنَّك لست مِمَّن يصنعه خُيَلَاء، وَهَذَا فِيهِ
مدح لأبي بكر رَضِي الله عَنهُ، بِمَا يُعلمهُ مِنْهُ.
وَفِيه من الْفِقْه: أَنه يجوز الثَّنَاء على النَّاس
بِمَا فيهم على وَجه الْإِعْلَام بصفاتهم ليعرف لَهُم
سابقتهم وتقدمهم فِي الْفضل فينزلوا مَنَازِلهمْ ويقدموا
على من لَا يساويهم ويقتدي بهم فِي الْخَيْر، أَلا ترى
كَيفَ شهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للعشرة
بِالْجنَّةِ؟ وَقَالَ للصديق، كل النَّاس قَالُوا لي:
كذبت، وَقَالَ لي أَبُو بكر: صدقت. وروى معمر عَن قَتَادَة
عَن ابْن قلَابَة، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: أرْحم أمتِي أَبُو بكر وَأَقْوَاهُمْ فِي دين الله
عمر، وأصدقهم حَيَاء عُثْمَان، وأقضاهم عَليّ، وَأمين
أمتِي أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح، وَأعلم أمتِي بالحلال
معَاذ بن جبل وأقرؤهم أبيّ وأفرضهم زيد رَضِي الله
عَنْهُم.
56 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {إنَّ الله يَأمُرُ
بالعَدْلِ والإحْسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى
عَنِ الفَحْشَارِ والمُنْكَر والبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تذكَّرُونَ} (النَّحْل: 90) وقَوْلِهِ:
{إنَّما بَغْيُكُمْ عَلَى أنْفُسِكُمْ} (يُونُس: 23)
{ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ الله} .)
أَشَارَ البُخَارِيّ بإيراد هَذِه الْآيَات إِلَى وجوب ترك
إثارة الشَّرّ على مُسلم أَو كَافِر يدل عَلَيْهِ قَوْله:
وَالْإِحْسَان. أَي: إِلَى الْمُسِيء وَترك معاقبته على
إساءته وَفِي رِوَايَة أبي ذَر والنسفي: {إِن الله يَأْمر
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان} الْآيَة، وَفِي رِوَايَة
البَاقِينَ سيقت إِلَى: {تذكرُونَ} .
ثمَّ فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة أَقْوَال: الأول: أَن
المُرَاد بِالْعَدْلِ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله،
وَالْإِحْسَان أَدَاء الْفَرَائِض، قَالَه ابْن عَبَّاس.
الثَّانِي: الْعدْل الْفَرَائِض، وَالْإِحْسَان
النَّافِلَة. الثَّالِث: الْعدْل اسْتِوَاء السريرة
وَالْعَلَانِيَة، وَالْإِحْسَان أَن تكون السريرة أفضل من
الْعَلَانِيَة، قَالَه ابْن عُيَيْنَة. الرَّابِع: الْعدْل
خلع الأنداد، وَالْإِحْسَان أَن تعبد الله كَأَنَّك
ترَاهُ. الْخَامِس: الْعدْل الْعِبَادَة، وَالْإِحْسَان
الْخُشُوع فِيهَا. السَّادِس: الْعدْل الْإِنْصَاف،
وَالْإِحْسَان التفضل. السَّابِع: الْعدْل امْتِثَال
المأمورات، وَالْإِحْسَان اجْتِنَاب المنهيات. الثَّامِن:
الْعدْل فِي الْأَفْعَال، وَالْإِحْسَان فِي الْأَقْوَال.
التَّاسِع: الْعدْل بذل الْحق، وَالْإِحْسَان ترك الظُّلم.
الْعَاشِر: الْعدْل الْبَذْل، وَالْإِحْسَان الْعَفو.
قَوْله: {وايتاء ذِي الْقُرْبَى} أَي: صلَة الرَّحِم،
قَوْله: {وَينْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر} يَعْنِي عَن
كل فعل وَقَول قَبِيح، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ
الزِّنَا وَالْبَغي، قيل: هُوَ الْكبر وَالظُّلم، وَقيل:
التَّعَدِّي ومجاوزة الْحَد. قَوْله: {تذكرُونَ} أَصله:
تتذكرون، فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ.
قَوْله: {إِنَّمَا بَغْيكُمْ على أَنفسكُم} قَالَ ابْن
عُيَيْنَة: المُرَاد بهَا أَن الْبَغي تعجل عُقُوبَته فِي
الدُّنْيَا لصَاحبه، يُقَال: للبغي مصرعة. قَوْله: ثمَّ
بغى عَلَيْهِ لينصرنه الله كَذَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة.
والأصيلي على وفْق التِّلَاوَة، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي
ذَر والنسفي، وَوَقع للباقين: وَمن بغي عَلَيْهِ، وَهُوَ
خلاف مَا وَقع عَلَيْهِ الْقُرْآن، وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ
سبق قلم إِمَّا من المُصَنّف وَإِمَّا مِمَّن بعده. قلت:
الظَّاهِر أَنه من النَّاسِخ وَاسْتمرّ عَلَيْهِ فِي
رِوَايَة غير هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين، ثمَّ إِن الله عز
وَجل ضمن نصْرَة من بغي عَلَيْهِ وَالْأولَى لمن بغي
عَلَيْهِ أَن يشْكر الله على مَا ضمن من نَصره، ويقابل
ذَلِك بِالْعَفو عَمَّن بغي عَلَيْهِ، وَقد كَانَ الانتقام
فِيهِ لقَوْله تَعَالَى: {وَإِن عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا
بِمثل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (النَّحْل: 126) لَكِن الصفح
عَنهُ أولى عملا بقوله: {وَلمن صَبر وَغفر إِن ذَلِك لمن
عزم الْأُمُور} (الشورى: 43) وَقد أخْبرت عَائِشَة رَضِي
الله عَنْهَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا
ينْتَقم لنَفسِهِ وَيَعْفُو عَمَّن ظلمه.
وَتَرْكِ إثارَةِ الشَّرِّ عَلَى مُسْلِمٍ أوْ كافِرٍ
وَترك، مجرور عطفا على قَوْله: قَول الله تَعَالَى، أَي:
وَفِي بَيَان وجوب ترك إثارة الشَّرّ أَي: تهييجه على
مُسلم أَو كَافِر، وَحَال الْمُسلم يَقْتَضِي إطفاء
الشَّرّ عَن النَّاس أَجْمَعِينَ.
6063 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حَدثنَا سُفْيان حدّثنا
هِشامُ بنُ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ رَضِي الله
(22/134)
عَنْهَا، قالَتْ: مَكُثَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَذَا وَكَذا يُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّهُ
يَأتِي أهْلَهُ وَلَا يَأْتِي، قالَتْ عائِشةُ، قالَتْ
عائِشَةُ: فَقَالَ لِي ذاتَ يَوْمٍ: يَا عائِشَةُ {إنَّ
الله أفْتانِي فِي أمْرٍ اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أتانِي
رَجُلانِ فَجَلَسَ أحَدُهُما عِنْدَ رِجْلَيَّ والآخرُ
عِنْدَ رَأسي، فَقَالَ الَّذِي عندَ رِجْلَيَّ لِلَّذِي
عِنْدَ رَأسِي: مَا بالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ،
يَعْنِي مَسْحُوراً. قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ:
لَبِيدُ بنُ أعْصَمَ. قَالَ: وفِيمَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ
طَلْعَةٍ ذَكَرٍ فِي مُشْطٍ ومُشَاقَةٍ تَحْتَ رَعُوفَةٍ
فِي بِئرِ ذَرْوانَ، فَجاءَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فأُخْرِجَ. قالَتْ عائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رسولَ
الله} فَهَلاَّ تَعْنِي: تَنَشَّرْتَ؟ فَقَالَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: أمَّا الله فَقَدْ شَفانِي، وأمَّا
أَنا فأكْرَهُ أنْ أُثِيرَ عَلَى الناسِ شَرًّا. قالَتْ:
ولَبِيدُ بنُ أعْصَمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ
لِيَهُودَ.
وَجه الْمُطَابقَة بَين هَذَا الحَدِيث وَبَين الْآيَات
الْمَذْكُورَة أَن الله لما نهى عَن الْبَغي وَأعلم أَن
ضَرَر الْبَغي يرجع إِلَى الْبَاغِي وَضمن النُّصْرَة لمن
بُغي عَلَيْهِ كَانَ حق من بُغي عَلَيْهِ أَن يشْكر الله
على إحسانه إِلَيْهِ بِأَن يعْفُو عَمَّن بغى عَلَيْهِ.
أَلا يُرى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَيفَ
ابْتُلِيَ بِالسحرِ وَلم يُعَاقب ساحره مَعَ قدرته على
ذَلِك، وَأما وَجه الْمُطَابقَة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة
الْأُخْرَى وَهِي قَوْله: (وَترك إثارة الشَّرّ على مُسلم
أَو كَافِر) هُوَ من قَوْله: (وَأما أَنا فأكره أَن أثير
على النَّاس شرا) .
والْحميدِي هُوَ عبد الله بن الزبير ابْن عِيسَى مَنْسُوب
إِلَى أحد أجداده حميد، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة،
وَهِشَام بن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير
عَن أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا.
والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الطِّبّ فِي: بَاب السحر،
وَمضى الْكَلَام فِيهِ مستقصًى، وَنَذْكُر بعض شَيْء.
قَوْله: (فيخيل إِلَيْهِ أَنه يَأْتِي أَهله) أَي: يخيل
إِلَيْهِ أَنه يُبَاشر أَهله وَلم يكن ثمَّة مُبَاشرَة.
قَوْله: (ذَات يَوْم) أَي: يَوْمًا، وَهُوَ من بَاب
إِضَافَة الْمُسَمّى إِلَى اسْمه. قَوْله: (فِي أَمر) أَي:
فِي أَمر التخيل. قَوْله: (رجلَانِ) هما الْملكَانِ
بِصُورَة الرجلَيْن. قَوْله: (رجْلي) مُفْرد أَو مثنى.
قَوْله: (مطبوب) فسره بقوله: أَي: (مسحور) وَهَذَا
التَّفْسِير مدرج فِي الْخَبَر. قَوْله: (وَمن طببه؟) أَي:
نسحره. قَوْله: (وفيم؟) أَي: فِي أَي شَيْء؟ قَوْله: (فِي
جف) بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الْفَاء وَهُوَ وعَاء طلع
النّخل وَيُطلق على الذّكر وَالْأُنْثَى. قَوْله: (ومشاقة)
بِضَم الْمِيم وَتَخْفِيف الشين الْمُعْجَمَة وبالقاف،
وَهِي مَا يغزل من الْكَتَّان. قَوْله: (راعوفة) بِفَتْح
الرَّاء وَضم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَهِي حجر
فِي أَسْفَل الْبِئْر. قَوْله: (ذروان) بِفَتْح الذَّال
الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وبالواو وَالنُّون وَهُوَ
بُسْتَان فِيهِ بِئْر بِالْمَدِينَةِ. قَوْله: (أريتها)
بِضَم الْهمزَة وَكسر الرَّاء وَضم التَّاء الْمُثَنَّاة
من فَوق. قَوْله: (رُؤُوس الشَّيَاطِين) مثل فِي استقباح
الصُّورَة أَي: أَنَّهَا وحشية المنظر سمجة الشكل. قَوْله:
(نقاعة) بِضَم النُّون وَتَخْفِيف الْقَاف وتشديدها مَاء
ينفع فِيهِ الْحِنَّاء. قَوْله: (فَأخْرج) على صِيغَة
الْمَجْهُول أَي: أخرج من تَحت الرعوفة. قَوْله: (تنشرت)
تَفْسِير قَوْله: (فَهَلا) وَهُوَ أَيْضا مدرج فِي
الْخَبَر، وتنشرت على وزن تفعلت. قَالَ الْجَوْهَرِي:
التنشر من النشرة بِضَم النُّون وَسُكُون الشين
الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَهِي كالرقية فَإِذا نشر
المسموم فَكَأَنَّمَا نشط من عقال، أَي: يذهب عَنهُ
سَرِيعا. وَفِي الحَدِيث: (لَعَلَّ طِبًّا أَصَابَهُ؟)
يَعْنِي سحرًا. ثمَّ نشره {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس} أَي:
رقاه، وَكَذَا قَالَه الْقَزاز: وَقَالَ الدَّاودِيّ:
مَعْنَاهُ هلا اغْتَسَلت ورقيت؟ قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح)
: وَظَاهر الحَدِيث أَن تنشرت أظهرت السحر، توضحه
الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (فَهَلا استخرجته؟) وَرُوِيَ أَنه
سُئِلَ عَن النشرة فَقَالَ: هِيَ من عمل الشَّيْطَان،
وَقَالَ الْحسن: النشرة من السحر وَهُوَ ضرب من الرقي
والعلاج يعالج بِهِ من كَانَ يظنّ أَن بِهِ شَيْئا من
الْجِنّ. وَقَالَ عِيَاض: النشرة نوع من التطبب بالاغتسال
على هيأة مَخْصُوصَة بالتجربة لَا يحيلها الْقيَاس الظني،
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَازهَا، وَقيل: من قَالَ:
إِن تنشرت مَأْخُوذ من النشر أَو من نشر الشَّيْء وَهُوَ
إِظْهَاره كَيفَ يجمع بَين قَوْلهَا: فَأخْرج؟ وَبَين
قَوْلهَا فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (فَهَلا استخرجته) ؟
. وَأجِيب: بِأَن الْإِخْرَاج الْوَاقِع كَانَ لأصل السحر،
والاستخراج
(22/135)
الْمَنْفِيّ كَانَ لأجزاء السحر. قَوْله:
(من بني زُرَيْق) بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء. قَوْله:
(حَلِيف) أَي: معاهد. قَوْله: (ليهود) وَقع فِي رِوَايَة
الْكشميهني هُنَا: للْيَهُود، بِزِيَادَة اللَّام.
57 - (بابُ مَا يُنْهاى مِن التَّحاسُدِ والتَّدابُرِ
وقَوْلِهِ تَعَالَى: {ومِنْ شَرِّ حاسِد إِذا حَسَدَ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان النَّهْي، وَكلمَة: مَا
مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (من التحاسد) ويروى: (عَن التحاسد)
، وَالْأول رِوَايَة الْكشميهني والتحاسد والتدابر من بَاب
التفاعل، والحسد أَن يرى الرجل لِأَخِيهِ نعْمَة فيتمنى
أَن تَزُول عَنهُ وَتَكون لَهُ دونه، والتدابر هُوَ أَن
يُعْطي كل وَاحِد من النَّاس أَخَاهُ بره وَقَفاهُ فَيعرض
عَنهُ ويهجره، قَالَه ابْن الْأَثِير، وَقَالَ
الْهَرَوِيّ: التدابر التقاطع، يُقَال: تدابر الْقَوْم
أَي: أدبر كل وَاحِد عَن صَاحبه. قَوْله: وَقَوله
تَعَالَى، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: مَا ينْهَى،
وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الْحَسَد مَنْهِيّ عَنهُ وَلَو
وَقع من جابن وَاحِد. قلت: هَذَا كَلَام رَوَاهُ من
وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن قَوْله: من الْجَانِبَيْنِ، غير
مُسْتَقِيم لِأَن بَاب التفاعل بَين الْقَوْم لَا بَين
الْإِثْنَيْنِ. وَالْآخر: أَنه يصدق على كل وَاحِد من
المتحاسدين أَنه حَاسِد، فالحسد وَاقع من كل وَاحِد
مِنْهُم وَالْوَجْه مَا ذكرنَا.
6064 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ أخبرنَا عَبْدُ الله
أخبرنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بنِ مُنَبِّه عَنْ أبي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
اياكمْ والظَّنَّ فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَدِيثِ وَلَا
تَحسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحاسَدُوا وَلَا
تَدابَرُوا وَلَا تَباغَضُوا وكُونُوا عِبادَ الله
إخْواناً.
6065 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ: حدّثني أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضِي الله
عَنهُ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ:
لَا تَباغَضُوا وَلَا تحاسَدُوا ولاَ تَدَابَرُوا وكُونوا
عِبادَ الله إخوَاناً وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ
يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أيَّام. (انْظُر الحَدِيث
6065 طرفه فِي: 6076) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا تَحَاسَدُوا
وَلَا تدابروا) . وَبشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة
وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة ابْن مُحَمَّد أَبُو مُحَمَّد
السّخْتِيَانِيّ الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن
الْمُبَارك الْمروزِي، وَمعمر بِفَتْح الميمين هُوَ ابْن
رَاشد، وهما بتَشْديد الْمِيم الأولى ابْن مُنَبّه على وزن
إسم الْفَاعِل من التَّنْبِيه.
والْحَدِيث من هَذَا الْوَجْه من أَفْرَاده.
قَوْله: (إيَّاكُمْ وَالظَّن) أَي: اجتنبوا الظَّن، قَالَ
الْقُرْطُبِيّ: المُرَاد بِالظَّنِّ هُنَا التُّهْمَة
الَّتِي لَا سَبَب لَهَا كمن يتهم رجلا بالفاحشة من غير
أَن يظْهر عَلَيْهِ مَا يقتضيها، وَلذَلِك عطف عَلَيْهِ:
وَلَا تحسسوا، وَذَلِكَ أَن الشَّخْص يَقع لَهُ خاطر
التُّهْمَة فيريد أَن يتَحَقَّق فيتحسس وليبحث ويتسمع
فَنهى عَن ذَلِك، وَقَالَ الْخطابِيّ وَغَيره: لَيْسَ
المُرَاد ترك الْعَمَل بِالظَّنِّ الَّذِي تناط بِهِ
الْأَحْكَام غَالِبا، بل المُرَاد ترك تَحْقِيق الظَّن
الَّذِي يضر بالمظنون بِهِ، وَكَذَا مَا يَقع فِي الْقلب
بِغَيْر دَلِيل وَذَلِكَ أَن أَوَائِل الظنون إِنَّمَا
هُوَ خواطر لَا يُمكن دَفعهَا وَمَا لَا يقدر عَلَيْهِ لَا
يُكَلف بِهِ. قَوْله: (فَإِن الظَّن كذب الحَدِيث) أَي:
أَكثر كذبا من الْكَلَام. فَإِن قيل: الْكَذِب من صِفَات
الْأَقْوَال يُجَاب بِأَن المُرَاد بِهِ هُنَا عدم
مُطَابقَة الْوَاقِع سَوَاء كَانَ قولا أَو فعلا. قَوْله:
(وَلَا تحسسوا) بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَلَا تجسسوا
بِالْجِيم. قَالَ الْكرْمَانِي: كِلَاهُمَا بِمَعْنى،
وَكَذَا نقل عَن إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ، وَقَالَ ابْن
الْأَنْبَارِي: ذكر الثَّانِي تَأْكِيدًا كَقَوْلِهِم:
بعدا وَسُحْقًا. قلت: بَينهمَا فرق لِأَن كَلَام الشَّارِع
كُله معنى، فَقيل: الَّذِي بِالْجِيم الْبَحْث عَن
العورات، وَالَّذِي بِالْحَاء الِاسْتِمَاع لحَدِيث
الْقَوْم، كَذَا رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي
كثير أحد صغَار التَّابِعين، وَقيل: بِالْجِيم الْبَحْث
عَن بواطن الْأُمُور وَأكْثر مَا يُقَال فِي الشَّرّ،
وَبِالْحَاءِ الْبَحْث عَمَّا يدْرك بحاسة الْعين أَو
الْأذن، وَرجح الْقُرْطُبِيّ هَذَا. وَقيل: بِالْجِيم تتبع
الشَّخْص لأجل غَيره، وَبِالْحَاءِ تتبعه لنَفسِهِ وَهَذَا
اخْتِيَار ثَعْلَب، وَيسْتَثْنى من النَّهْي عَن
التَّجَسُّس مَا لَو تعين طَرِيقا إِلَى إنقاذ نفس من
الْهَلَاك مثلا كَانَ يخبر ثِقَة بِأَن فلَانا خلا بشخص
ليَقْتُلهُ ظلما، أَو بِامْرَأَة ليزني بهَا، فيشرع فِي
هَذِه الصُّورَة التَّجَسُّس والبحث عَن ذَلِك حذار من
فَوَات استدراكه. قَوْله: (وَلَا تباغضوا) أَي: لَا
تتعاطوا أَسبَاب البغض لِأَن البغض لَا يكْتَسب ابْتِدَاء،
وَقيل: المُرَاد بِالنَّهْي عَن الْأَهْوَاء
(22/136)
المضلة الْمُقْتَضِيَة للتباغض والمذموم
مِنْهُ مَا كَانَ لغير الله تَعَالَى فَإِنَّهُ وَاجِب
ويثاب فَاعله لتعظيم حق الله عز وَجل. قَوْله: (وَكُونُوا
عباد الله) يَعْنِي: يَا عباد الله كونُوا إخْوَانًا
يَعْنِي: اكتسبوا مَا تصيرون بِهِ إخْوَانًا. وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: الْمَعْنى: كونُوا كإخوان النّسَب فِي
الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة والمحبة والمواساة والمعاونة
والنصيحة.
قَوْله: (وَلَا يحل لمُسلم)
إِلَى آخِره فِيهِ التَّصْرِيح بِحرْمَة الهجران فَوق
ثَلَاثَة أَيَّام، وَهَذَا فِيمَن لم يجن على الدّين
جِنَايَة، فَأَما من جنى عَلَيْهِ وَعصى ربه فَجَاءَت
الرُّخْصَة فِي عُقُوبَته بالهجران كالثلاثة المتخلفين عَن
غَزْوَة تَبُوك فَأمر الشَّارِع بهجرانهم فبقوا خمسين
لَيْلَة حَتَّى نزلت تَوْبَتهمْ، وَقد آل رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، من نِسَائِهِ شهرا وَصعد مشْربَته
وَلم ينزل إلَيْهِنَّ حَتَّى انْقَضى الشَّهْر.
وَاخْتلفُوا: هَل يخرج بِالسَّلَامِ وَحده من الهجران؟ :
فَقَالَت البغاددة: نعم، وَكَذَا قَول جُمْهُور الْعلمَاء:
إِن الْهِجْرَة تَزُول بِمُجَرَّد السَّلَام ورده، وَبِه
قَالَ مَالك فِي رِوَايَة، وَقَالَ أَحْمد: لَا يبرأ من
الْهِجْرَة إلاَّ بعوده إِلَى الْحَال الَّتِي كَانَ
عَلَيْهَا أَولا، وَقَالَ أَيْضا: إِن كَانَ ترك الْكَلَام
يُؤْذِيه لم تَنْقَطِع الْهِجْرَة بِالسَّلَامِ، وَكَذَا
قَالَ ابْن الْقَاسِم.
58 - (بابٌ: { (94) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اجتنبوا
كثيرا من الظَّن إِن بعض الظَّن إِثْم وَلَا تجسسوا}
(الحجرات: 12)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا} ... إِلَى آخِره، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين إلاَّ أَن لفظ: بَاب، لم يَقع فِي رِوَايَة
أبي ذَر. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نزلت هَذِه الْآيَة فِي
رجلَيْنِ من الصَّحَابَة اغتابا سلمَان رَضِي الله عَنهُ.
قَوْله: (اجتنبوا) أَي: امْتَنعُوا واحترزوا كثيرا من
الظَّن. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: هُوَ الرجل يسمع من
أَخِيه كلَاما لَا يُرِيد بِهِ سوءا فيراه أَخُوهُ
الْمُسلم فيظن بِهِ سوءا، وَقَالَ الزّجاج: هُوَ أَن يظنّ
بِأَهْل الْخَيْر سوءا. وَقَوله: (كثيرا من الظَّن إِن بعض
الظَّن إِثْم) يدل على أَنه لم ينْه عَن جَمِيع الظَّن،
وَالظَّن على أَرْبَعَة أوجه: مَحْظُور ومأمور بِهِ ومباح
ومندوب إِلَيْهِ.
فالمحظور: هُوَ سوء الظَّن بِاللَّه تَعَالَى وَكَذَلِكَ
الظَّن بِالْمُسْلِمين الَّذين ظَاهِرهمْ عَدَالَة
مَحْظُور. والمأمور بِهِ: هُوَ مَا لم ينصب عَلَيْهِ
دَلِيل يُوصل إِلَى الْعلم بِهِ، وَقد تعبدنا بتنفيذ الحكم
فِيهِ والاقتصار على غَالب الظَّن وإجراء الحكم وَاجِب
وَذَلِكَ نَحْو مَا تعبدنا بِهِ من قبُول شَهَادَة
الْعُدُول وتحري الْقبْلَة وتقويم المستهلكات وَأرش
الْجِنَايَات الَّتِي لم يرد مقاديرها بتوقيف من قبل
الشَّرْع، فَهَذَا ونظائره قد تعبدنا فِيهِ بغالب الظَّن.
وَالظَّن الْمُبَاح: كالشك فِي الصَّلَاة إِذا كَانَ
إِمَامًا، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمر
بِالتَّحَرِّي وَالْعَمَل بغالب الظَّن فَإِنَّهُ فعله
كَانَ مُبَاحا وَإِن عدل إِلَى غَيره من الْبناء على
الْيَقِين جَازَ وَالظَّن الْمَنْدُوب إِلَيْهِ: كإحسان
الظَّن بالأخ الْمُسلم ينْدب إِلَيْهِ ويثاب عَلَيْهِ.
وَتَفْسِير: {وَلَا تجسسوا} قد مضى.
6066 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ
عَنْ أبي الزِّناد عَنِ الأعْرَجِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ
رَضِي الله عَنهُ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، قَالَ: أيَّاكُمْ والظَّنَّ فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ
الحَدِيثِ وَلَا تحسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا
تَناجَشُوا وَلَا تَحاسَدُوا وَلَا تَباغَضُوا وَلَا
تَدَابَرُوا وكُونُوا عبادَ الله إخْوَاناً.
وَجه الْمُطَابقَة بَين هَذَا الحَدِيث وَالْآيَة
الْمَذْكُورَة أَن البغض والحسد ينشآن عَن سوء الظَّن.
وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان،
والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث مضى فِي الْبَاب الَّذِي قبله، غير أَن هُنَاكَ
زِيَادَة قَوْله: (وَلَا يحل لمُسلم أَن يهجر أَخَاهُ فَوق
ثَلَاثَة أَيَّام) ، وَهَهُنَا زِيَادَة قَوْله: (وَلَا
تناجشوا) ، من النجش بالنُّون وَالْجِيم والشين
الْمُعْجَمَة وَهُوَ أَن يزِيد فِي ثمن الْمَبِيع بِلَا
رَغْبَة ليخدع غَيره فيوقعه فيزاد عَلَيْهِ، وَقد مر هَذَا
فِي الْبيُوع، وَوَقع فِي جَمِيع الرِّوَايَات عَن مَالك
بِلَفْظ: وَلَا تنافسوا، وَكَذَا أخرجه مُسلم عَن يحيى بن
يحيى التَّمِيمِي. وَأخرج من طَرِيق الْأَعْمَش عَن أبي
صَالح بِلَفْظ: لَا تناجشوا، كَمَا وَقع عِنْد البُخَارِيّ
رَحمَه الله، والمنافسة هِيَ التنافس وَهِي الرَّغْبَة فِي
الشَّيْء والانفراد بِهِ، وَهُوَ من الشَّيْء النفيس
الْجيد فِي نَوعه.
59 - (بابُ مَا يَكونُ مِنَ الظَّنِّ)
(22/137)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يكون
جَوَازه من الظَّن، هَكَذَا وَقعت هَذِه التَّرْجَمَة فِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَلأبي
ذَر عَن الْكشميهني: بَاب مَا يجوز من الظَّن، وَفِي
رِوَايَة الْقَابِسِيّ والجرجاني: بَاب مَا يكره من
الظَّن، وَرِوَايَة أبي ذَر أنسب لسياق الحَدِيث.
6067 - حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شهابٍ
عَنْ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: قَالَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا أظُنُّ فُلاناً وفُلاَناً
يَعْرفانِ مِنْ ديننَا شَيْئاً. قَالَ اللَّيْثُ: كَانَا
رجُلَيْنِ مِنَ المُنافِقِينَ. (انْظُر الحَدِيث 6067 طرفه
فِي: 6068) .
قيل: لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة لِأَن فِي
التَّرْجَمَة إِثْبَات الظَّن وَفِي الحَدِيث نفي الظَّن.
وَأجِيب بِأَن النَّفْي فِي الحَدِيث لظن النَّفْي لَا
لنفي الظَّن فلاتنا فِي بَينهمَا، وَقَالَ الْكرْمَانِي:
الْعرف فِي قَول الْقَائِل: مَا أَظن زيدا فِي الدَّار،
أَظُنهُ لَيْسَ فِي الدَّار. قلت: هُوَ حَاصِل الْجَواب
الْمَذْكُور، وَهَذَا السَّنَد قد تكَرر مرَارًا عديدة
خُصُوصا رِجَاله فَردا فَردا.
والْحَدِيث بِهَذَا الْوَجْه من أَفْرَاده.
قَوْله: (قَالَ اللَّيْث) هن ابْن سعد رَاوِي الحَدِيث،
قَالَ الدَّاودِيّ: تَأْوِيل اللَّيْث بعيد وَلم يكن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعرف جَمِيع
الْمُنَافِقين، قَالَ الله تَعَالَى: { (8) لَا
تَعْلَمُونَهُم الله يعلمهُمْ} (الْأَنْفَال: 60) وَفِي
التَّوْضِيح: الظَّن هُنَا بِمَعْنى الْيَقِين لِأَنَّهُ
كَانَ يعرف الْمُنَافِقين بإعلام الله لَهُ بهم فِي سُورَة
بَرَاءَة، قَالَ ابْن عَبَّاس: كُنَّا نسمي سُورَة
بَرَاءَة الفاضحة غير أَن الله لم يَأْمُرهُ بِقَتْلِهِم
وَنحن لَا نعلم بِالظَّنِّ مثل مَا علمه لأجل نزُول
الْوَحْي عَلَيْهِ فَلم يجب لنا الْقطع على الظَّن، غير
أَنه من ظهر مِنْهُ فعل مُنكر فقد عرض نَفسه لسوء الظَّن
والتهمة فِي دينه فَلَا حرج على من أَسَاءَ الظَّن بِهِ،
وَقد قَالَ ابْن عمر: كُنَّا إِذا فَقدنَا الرجل فِي
صَلَاة الْعشَاء وَالصُّبْح أسأنا بِهِ الظَّن.
6068 - حدَّثنا يَحْياى بنُ بُكَيْرٍ حَدثنَا اللَّيْثُ
بِهاذَا، وقالتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، يَوْماً وَقَالَ: يَا عائِشَةُ {مَا
أظُنُّ فُلاَناً وفُلاناً يَعْرِفانِ دِينَنا الَّذِي
نَحْنُ عَلَيْهِ. (انْظُر الحَدِيث 6067) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن يحيى
بن عبد الله بن بكير بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة أبي
زَكَرِيَّا المَخْزُومِي الْمصْرِيّ عَن اللَّيْث بن سعد
بِهَذَا أَي بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور.
قَوْله: (وَقَالَت) أَي: عَائِشَة (دخل عَليّ) بتَشْديد
الْيَاء وَالنَّبِيّ مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: دخل،
وَيَوْما نصب على الظّرْف.
60 - (بابُ سَتْرِ المُؤمِنِ عَلَى نَفْسِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ستر الْمُؤمن على نَفسه إِذا
صدر مِنْهُ مَا يعاب.
6069 - حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله حدّثنا
إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَنِ ابنِ أخِي ابنِ شِهابٍ عَنِ
ابنِ شِهابٍ عَنْ سالِمِ بنِ عَبْدِ الله قَالَ: سَمِعْتُ
أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: كلُّ أمَّتِي مُعافًى إلاَّ
المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ المَجانَةِ أنْ يَعْمَلَ
الرَّجُلُ باللَّيْلِ عَمَلاً ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ
سَتَرَهُ الله فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ} عَمِلْتُ
البارِحَةَ كَذَا، وَقَدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ
وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ الله عَنْهُ.
قيل لَا مُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وَبَين الحَدِيث
لِأَن التَّرْجَمَة عقدت لستر الْمُؤمن على نَفسه، وَفِي
الحَدِيث: ستر الله على الْمُؤمن، وَأجِيب بِأَن ستر الله
مُسْتَلْزم لستر الْمُؤمن على نَفسه، فَمن قصد إِظْهَار
الْمعْصِيَة والمجاهرة فقد أغضب الله تَعَالَى فَلم يستره،
وَمن قصد التستر بهَا حَيَاء، من ربه وَمن النَّاس من الله
عَلَيْهِ بستره إِيَّاه.
وَإِبْرَاهِيم بن سعد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَهنا
روى عَن الزُّهْرِيّ بِوَاسِطَة وَهُوَ يروي عَنهُ كثيرا
بِلَا وَاسِطَة، وَابْن أخي ابْن شهَاب مُحَمَّد بن عبد
الله بن مُسلم يروي عَن عَمه عَن سَالم بن عبد الله بن عمر
عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِي رِوَايَة مُسلم فِي آخر الْكتاب:
عَن زُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن حَاتِم وَعبد بن حميد
ثَلَاثَتهمْ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد
كِلَاهُمَا عَن ابْن أخي الزُّهْرِيّ عَن عَمه عَنهُ بِهِ.
قَوْله: (معافى) بِضَم الْمِيم وَفتح الْفَاء مَقْصُورا
إسم مفعول من الْعَافِيَة الَّتِي وضعت مَوضِع الْمصدر،
يُقَال: عافاه عَافِيَة والعافية دفاع الله عَن العَبْد،
وَالْمعْنَى هُنَا: عَفا الله عَنهُ. قَوْله: (إِلَّا
المجاهرين)
(22/138)
كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِالنّصب،
وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: إِلَّا المجاهرون، بِالرَّفْع
على قَول الْكُوفِيّين لِأَن الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطع
وَتَكون: إلاَّ بِمَعْنى. . لَكِن، وَالْمعْنَى: لَكِن
المجاهرون وبالمعاصي لَا يعافون، فالمجاهرون مُبْتَدأ
وَالْخَبَر مَحْذُوف، وَوجه النصب هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ
البصريون من أَن الأَصْل فِي الْمُسْتَثْنى أَن يكون
مَنْصُوبًا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: حَقه النصب على
الِاسْتِثْنَاء إلاَّ أَن يكون الْعَفو بِمَعْنى التّرْك
وَهُوَ نوع من النَّفْي، والمجاهر هُوَ الَّذِي جاهر
بمعصيته وأظهرها، وَالْمعْنَى: كل وَاحِد من أمتِي يُعْفَى
عَن ذَنبه وَلَا يُؤَاخذ بِهِ إلاَّ الْفَاسِق الْمُعْلن.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِن من جاهر بِفِسْقِهِ أَو بدعته
جَازَ ذكره بِمَا جاهر بِهِ دون من لم يُجَاهر بِهِ. فَإِن
قلت: المجاهر من بَاب المفاعلة يَقْتَضِي الِاشْتِرَاك.
قلت: معنى جاهر بِهِ جهر بِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:
{وسارعوا إِلَى مغْفرَة من ربكُم} أَي: أَسْرعُوا، وَقَالَ
بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون على ظَاهر المفاعلة، وَالْمرَاد
الَّذين يُجَاهر بَعضهم بَعْضًا بالتحدث بِالْمَعَاصِي.
قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى. قَوْله: (وَإِن من المجانة) ،
بِفَتْح الْمِيم وَالْجِيم وَهُوَ عدم المبالاة بالْقَوْل
وَالْفِعْل، وَفِي رِوَايَة ابْن السكن والكشميهني: وَإِن
من المجاهرة، وَوَقع فِي رِوَايَة يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم
بن سعد: وَإِن من الإجهار، وَكَذَا عِنْد مُسلم، وَفِي
رِوَايَة لَهُ: الهجار، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ:
إِلَّا هجار، وَفِي رِوَايَة أبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج)
: وَإِن من الجهار، وَقَالَ عِيَاض: وَقع للعذري والسجزي
فِي مُسلم: الإجهار وللفارسي: إِلَّا هجار والأهجار
والمجاهرة، كُله صَوَاب بِمَعْنى الظُّهُور والإظهار،
وَأما الإهجار فَهُوَ الْفُحْش والخنى وَكَثْرَة الْكَلَام
وَهُوَ قريب من معنى المجانة، وَأما لَفْظَة: الهجار،
فبعيد لفظا وَمعنى لِأَن الهجار الْحَبل أَو الْوتر يشد
بِهِ يَد الْبَعِير، أَو الْحلقَة الَّتِي يتَعَلَّم
فِيهَا الطعْن، وَلَا يَصح لَهُ هُنَا معنى، وَقَالَ
بَعضهم: بل لَهُ معنى صَحِيح أَيْضا فَإِنَّهُ يُقَال: هجر
إِذا أفحش فِي كَلَامه فَهُوَ مثل: جهر أَو جهر، فَمَا
صَحَّ فِي هَذَا صَحَّ فِي هَذَا، وَلَا يلْزم من
اسْتِعْمَال الهجار بِمَعْنى الْحَبل أَو غَيره أَن لَا
يسْتَعْمل مصدرا من الهجر بِضَم الْهَاء. قلت: هَذَا
كَلَام واهٍ جدا، أما أَولا: فَفِيهِ إِثْبَات اللُّغَة
بِالْقِيَاسِ. وَأما ثَانِيًا: فَقَوله: يسْتَعْمل مصدرا
من الهجر بِضَم الْهَاء، غير صَحِيح لِأَن الهجر
بِالضَّمِّ الإسم من الإهجار وَهُوَ الإفحاش فِي الْمنطق
والخنى، وَكَيف يُؤْخَذ الْمصدر من الإسم والمصدر أَيْضا
مَأْخُوذ مِنْهُ غير مَأْخُوذ؟ فَافْهَم. قَوْله: (عملا)
أَي: مَعْصِيّة. قَوْله: (ثمَّ يصبح) . أَي: يدْخل فِي
الصَّباح. قَوْله: (وَقد ستره الله) ، الْوَاو فِيهِ
للْحَال. قَوْله: (عملت) ، بِلَفْظ الْمُتَكَلّم، البارحة:
هِيَ أقرب لَيْلَة مَضَت من وَقت القَوْل. قَوْله: (يكْشف)
، جملَة حَالية.
6070 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حَدثنَا أبُو عَوانَةَ عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ صَفْوانَ بنِ مُحْرِزٍ أَن رَجُلاً سَأَلَ
ابنَ عُمَرَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟ قَالَ: يَدْنُو
أحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ،
فَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمُ
وَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذا وَكَذا، فَيَقُولُ: نَعَمْ،
فَيُقَرِّرُهُ ثُمَّ يَقُولُ: إنِّي سَتَرحٍ عَلَيْكَ فِي
الدُّنْيا فَأَنا أغْفِرُها لَكَ اليَوْمَ.
قيل: لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة لِأَن
التَّرْجَمَة فِي ستر الْمُؤمن والْحَدِيث فِي ستر الله عز
وَجل. وَأجِيب: بِأَن ستر الله مُسْتَلْزم لستره، وَقيل:
هُوَ ستره إِذا فعال العَبْد مخلوقة لله تَعَالَى.
وَأَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة الوضاح
الْيَشْكُرِي، وَصَفوَان ابْن مُحرز بِضَم الْمِيم
وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء وبالزاي فِي
آخِره الْمَازِني الْبَصْرِيّ، مَاله فِي البُخَارِيّ سوى
هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث آخر تقدم فِي بَدْء الْخلق عَنهُ
عَن عمرَان بن حُصَيْن، وَقد ذكرهمَا فِي عدَّة مَوَاضِع.
والْحَدِيث مضى فِي الْمَظَالِم عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل
وَفِي التَّفْسِير عَن مُسَدّد وَسَيَأْتِي فِي
التَّوْحِيد عَن مُسَدّد أَيْضا وَمضى الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ.
قَوْله: (فِي النَّجْوَى) هِيَ المسارة الَّتِي تقع بَين
الله عز وَجل وَبَين عَبده الْمُؤمن يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله: (يدنو) من الدنو وَهُوَ الْقرب الربي لَا الْقرب
المكاني قَوْله: (كنفه) بِفَتْح الْكَاف وَالنُّون بعدهمَا
فَاء وَهُوَ السَّاتِر أَي: حَتَّى يُحِيط بِهِ عنايته
التَّامَّة، وَقد صحفه بَعضهم تصحيفاً شنيعاً فَقَالَ:
بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق بدل النُّون. قَوْله:
(عملت) بِلَفْظ الْخطاب كَذَا وَكَذَا، مرَّتَيْنِ
مُتَعَلق بالْقَوْل لَا بِالْعَمَلِ. قَوْله: (فيقرره)
أَي: يَجعله مقرا بذلك. والْحَدِيث من المتشابهات فَحكمه
التَّفْوِيض أَو التَّأْوِيل بِمَا يَلِيق بِهِ.
(22/139)
61 - (بابُ الكِبْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذمّ الْكبر، بِكَسْر الْكَاف
وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَهُوَ ثَمَرَة الْعجب، وَقد
هلك بهَا كثير من الْعلمَاء والعباد والزهاد، وَالْكبر
والتكبر والاستكبار مُتَقَارب، والتكبر هُوَ الْحَالة
الَّتِي يتخصص بهَا الْإِنْسَان من إعجابه بِنَفسِهِ،
وَذَلِكَ أَن يرى نَفسه أكبر من غَيره وَأعظم، ذَلِك أَن
يتكبر على ربه بِأَن يمْتَنع من قبُول الْحق والإذعان لَهُ
بِالتَّوْحِيدِ وَالطَّاعَة.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: {ثَانِي عطفه} (الْحَج: 9) (مستكبر فِي
نَفسه عطفه رقبته) ، وَمن طَرِيق السدى: {ثَانِي عطفه}
أَي: معرض من العظمة. وَعَن مُجَاهِد: أَنَّهَا نزلت فِي
النَّضر بن الْحَارِث.
6071 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخْبرنا سُفْيانُ
حَدثنَا مَعْبَدُ بنُ خالِد القَيْسِيُّ عَنْ حارِثَةَ بنِ
وَهْب الخُزَاعِيِّ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
قَالَ: أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ
ضَعِيفٍ مُتَضاعِفٍ لَوْ أقْسَمَ عَلَى الله لأَبَرَّهُ،
ألاَ أُخْبِرُكُمْ بِأهْلِ النَّار؟ كُلُّ عُتُلٍّ
جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ. (انْظُر الحَدِيث 4988 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث. وسُفْيَان هُوَ
الثَّوْريّ، ومعبد بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين
الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن خَالِد الجدلي
الْقَيْسِي الْكُوفِي القَاضِي، مَاتَ فِي نسة ثَمَان
عشرَة وَمِائَة فِي ولَايَة خَالِد بن عبد الله، وحارثة
بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة ابْن وهب
الْخُزَاعِيّ نِسْبَة إِلَى خُزَاعَة بِضَم الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الزَّاي وبالعين الْمُهْملَة
وَهِي حييّ من الأزد.
والْحَدِيث مضى فِي تَفْسِير سُورَة نون، وَمضى الْكَلَام
فِيهِ.
قَوْله: (كل ضَعِيف) مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف أَي: هُوَ كل ضَعِيف متضاعف، المُرَاد بالضعيف
ضَعِيف الْحَال لَا ضَعِيف الْبدن، والمتضاعف بِمَعْنى
المتواضع، ويروى: متضعف ومستضعف أَيْضا، وَالْكل يرجع
إِلَى معنى وَاحِد هُوَ الَّذِي يستضعفه النَّاس
وَيَحْتَقِرُونَهُ لضعف حَاله فِي الدُّنْيَا أَو متواضع
متذلل خامل الذّكر وَلَو أقسم يَمِينا طَمَعا فِي كرم الله
بإبراره ولأبره، وَقيل: لَو دَعَاهُ لأجابه. قَوْله: (عتل)
هُوَ الغليظ الشَّديد العنف. والجواظ، بِفَتْح الْجِيم
وَتَشْديد الْوَاو وبالظاء الْمُعْجَمَة: المنوع أَو
المختال فِي مشيته، وَالْمرَاد أَن أغلب أهل الْجنَّة
وأغلب أهل النَّار، وَلَيْسَ المُرَاد الإستيعاب فِي
الطَّرفَيْنِ.
6072 - وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ عِيسَى: حَدثنَا هُشَيْمٌ
أخبرنَا حُمَيْدٌ الطوِيلُ حَدثنَا أنَسُ بنُ مالِكٍ
قَالَ: كانَتِ الأمَةُ مِنْ إماءِ أهْلِ المَدِينَةِ
لِتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شاءَتْ.
مُحَمَّد بن عِيسَى بن الطباع بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة
وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وبالعين الْمُهْملَة أَبُو
جَعْفَر الْبَغْدَادِيّ نزل أُذُنه بِفَتْح الْهمزَة
والذال الْمُعْجَمَة وَالنُّون، وَهِي بَلْدَة بِالْقربِ
من طرسوس، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ يحفظ نَحْو
أَرْبَعِينَ ألف حَدِيث، مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين
وَمِائَتَيْنِ، وَقَالَ بَعضهم: لم أر لَهُ فِي
البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع. قلت: قَالَ الَّذِي جمع
(رجال الصَّحِيحَيْنِ) : روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي آخر
الْحَج وَالْأَدب، وَقَالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: قَالَ
مُحَمَّد بن عِيسَى، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) :
وَهَذَا يشبه أَن يكون البُخَارِيّ أَخذه عَن شَيْخه
مُحَمَّد بن عِيسَى مذاكرة. وَقَالَ أَبُو جَعْفَر بن
حمدَان النَّيْسَابُورِي: كل مَا قَالَ البُخَارِيّ: قَالَ
لي فلَان، فَهُوَ عرض ومناولة، وَقَالَ بعض المغاربة:
يَقُول البُخَارِيّ: قَالَ لي، وَقَالَ لنا: مَا علم لَهُ
إِسْنَاد لم يذكرهُ للاحتجاج بِهِ، وَإِنَّمَا ذكره
للاستشهاد بِهِ، وَكَثِيرًا مَا يعبر المحدثون بِهَذَا
اللَّفْظ مِمَّا جرى بَينهم فِي المذاكرات والمناظرات،
وَأَحَادِيث المذاكرة قَلما
(22/140)
يحتجون بهَا، قَالَه الْحَافِظ الدمياطي،
وهشيم بن بشير أَبُو مُعَاوِيَة الوَاسِطِيّ.
والْحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَأخرجه أَحْمد بن
حَنْبَل عَن هشيم.
قَوْله: (لتأْخذ) اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد وَهِي
مَفْتُوحَة وَالْمرَاد من الْأَخْذ بِيَدِهِ لَازمه وَهُوَ
الرِّفْق والانقياد، يَعْنِي: كَانَ خلق رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، على هَذِه الْمرتبَة هُوَ أَنه لَو
كَانَ لأمة حَاجَة إِلَى بعض مَوَاضِع الْمَدِينَة وتلتمس
مِنْهُ مساعدتها فِي تِلْكَ الْحَاجة واحتاجت بِأَن يمشي
مَعهَا لقضائها لما تخلف عَن ذَلِك حَتَّى يقْضِي
حَاجَتهَا. قَوْله: (فتنطلق بِهِ حَيْثُ شَاءَت) وَفِي
رِوَايَة أَحْمد: فتنطلق بِهِ فِي حَاجَتهَا، وَله من
طَرِيق عَليّ بن يزِيد عَن أنس: أَن كَانَت الوليدة من
ولائد أهل الْمَدِينَة لتجيء وَتَأْخُذ بيد رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمَا تنْزع يَده من يَدهَا
حَتَّى تذْهب بِهِ حَيْثُ شَاءَت، وَأخرجه ابْن مَاجَه من
هَذَا الْوَجْه.
وَهَذَا دَلِيل على مزِيد تواضعه وبراءته من جَمِيع
أَنْوَاع الْكبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه أَنْوَاع
من الْمُبَالغَة من جِهَة أَنه ذكر الْمَرْأَة لَا الرجل،
وَالْأمة لَا الْحرَّة، وعمم بِلَفْظ الْإِمَاء، أَي: أمة
كَانَت، وَبِقَوْلِهِ: (حَيْثُ شَاءَت) من الْأَمْكِنَة
وَعبر عَنهُ بِالْأَخْذِ: بِالْيَدِ، الَّذِي هُوَ غَايَة
التَّصَرُّف وَنَحْوه.
62 - (بابُ الهِجْرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذمّ الْهِجْرَة بِكَسْر
الْهَاء وَسُكُون الْجِيم وَهِي مُفَارقَة كَلَام أَخِيه
الْمُؤمن مَعَ تلافيهما وإعراض كل وَاحِد مِنْهُمَا عَن
صَاحبه عِنْد الِاجْتِمَاع، وَلَيْسَ المُرَاد
بِالْهِجْرَةِ هُنَا مُفَارقَة الوطن إِلَى غَيره، فَإِن
هَذِه تقدم حكمهَا.
وَقَوْلِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يَحِلُّ
لِرجلٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ
وَقَول، مجرور عطفا على الْهِجْرَة أَي: وَفِي بَيَان قَول
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد وَصله فِي
الْبَاب عَن أبي أَيُّوب على مَا يَأْتِي. قَوْله: (فَوق
ثَلَاث) ويروى: فَوق ثَلَاث لَيَال، وَقد مضى الْكَلَام
فِيهِ عَن قريب. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء:
تحرم الْهِجْرَة بَين الْمُسلمين أَكثر ن ثَلَاث لَيَال
بِالنَّصِّ، وَيُبَاح فِي الثَّلَاث بِالْمَفْهُومِ،
وَإِنَّمَا عفى عَنهُ فِي ذَلِك لِأَن الْآدَمِيّ مجبول
على الْغَضَب فسومح بذلك الْقدر ليرْجع وَيَزُول ذَلِك
الْعَارِض.
6075 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدثنِي عَوْفُ بنُ مالِكِ بن
الطُّفَيْلِ هُوَ ابنُ الحارِثِ وَهْوَ ابنُ أخِي عائِشَةَ
زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ل أُمِّها: أنَّ
عائِشَةَ حُدِّثَتْ أنَّ عَبْدِ بنَ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي
بَيْعٍ أوْ عَطاء أعْطَتْهُ عائِشَة: وَالله
لَتَنْتَهِيَنَّ عائِشَةُ أوْ لأحْجُرَنَّ عَلَيْها.
فقالَتْ: أهُوَ قَالَ هاذا؟ قَالُوا: نَعَمْ. قالَتْ: هُوَ
لله عَلَيِّ نَذْرٌ أنْ لَا أُكَلِّمَ ابنَ الزُّبَيْرِ
أبدا، فاسْتَشْفَعَ ابنُ الزُّبَيْرِ إلَيْها حِينَ طالَتْ
الهِجْرَةُ، فقالَتْ: لَا وَالله لَا أُشَفِّعُ فِيهِ
أبَداً وَلَا أتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِي، فلَمَّا طالَ
ذالِكَ عَلَى ابنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ المِسْوَرَ بنَ
مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ الأسْوَدِ بنِ عَبْدِ
يَغُوثَ، وهُما مِنْ بَنِي زُهْرَةَ، وَقَالَ لَهُما:
أنْشُدُكُما بِاللَّه لَمَّا أدْخَلْتُمانِي عَلَى
عائِشَةَ فَإِنَّهَا لَا يَحِلُّ لَهَا أنْ تَنْذُرَ
قَطِيعَتِي، فأقْبَلَ بِهِ المِسْوَرُ وَعَبْدُ
الرَّحْمانِ مُشْتَمِلَيْنِ بأرْدِيَتِهِما حَتّى
اسْتَأْذَنا عَلَى عائِشَةَ، فَقَالَا: السَّلامُ عَلَيْكِ
وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكاتُهُ، أنَدْخُلُ؟ قالَتْ
عائِشَةُ: ادْخُلُوا. قَالُوا: كُلُّنا. قالَتْ: نَعَمْ
ادْخُلُوا كُلُّكُمْ، وَلَا تَعْلَمُ أنَّ مَعَهُما ابنَ
الزُّبَيْرِ، فَلمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابنُ الزُّبَيْرِ
الحِجابَ فاعْتَنَقَ عائِشَةَ وطَفِقَ يُناشدُها
وَيَبْكِي، وطَفِقَ المِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمانِ
يِناشِدانِها إلاَّ مَا كَلَّمَتْهُ، وَقَبِلَتْ مِنْهُ،
وَيَقُولانِ: إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نَهاى
عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنَ الهِجْرَةِ، فإنَّهُ لَا
يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثِ
لَيالٍ، فَلَما أكْثرُوا عَلَى عائِشَة مِن التذْكِرَةِ
والتَّحْرِيجِ طَفِقتْ تُذَكّرُهُما وَتَبْكِي، وَتَقُولُ:
إنِّي نَذَرْتُ والنَّذْرُ شَدِيدٌ، فَلَمْ يَزالا بِها
حَتَّى
(22/141)
كلمَتِ ابنَ الزبَيْرِ وأعْتَقَتْ فِي
نَذْرِها ذالِكَ أرْبَعِينَ رَقَبَةَ، وكانَتْ تَذْكُرُ
نَذْرَها بَعْدَ ذالِكَ فَتَبْكي حَتَّى تَبُلُّ دُمُوعُها
خِمارَها. (انْظُر الحَدِيث 3503 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه مُتَضَمّن لهجرة
عَائِشَة عبد الله بن الزبير رَضِي الله عَنْهُم، أَكثر من
ثَلَاثَة أَيَّام. فَإِن قلت: لِمَ هجرت عَائِشَة أَكثر من
ثَلَاثَة أَيَّام؟ قلت: معنى الْهِجْرَة المذمومة لَا يصدق
على هجرتهَا، لِأَن الْهِجْرَة المذمومة هِيَ ترك
الْكَلَام عِنْد التلاقي وَعَائِشَة لم تكن تَلقاهُ فتعرض
عَن السَّلَام عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَت من وَرَاء
حجاب، وَلم يكن أحد يدْخل عَلَيْهَا إلاّ بِإِذن فَلم يكن
ذَلِك من الْهِجْرَة المذمومة، وَأَيْضًا إِنَّمَا سَاغَ
ذَلِك لعَائِشَة لِأَنَّهَا أم الْمُؤمنِينَ لَا سِيمَا
بِالنِّسْبَةِ إِلَى ابْن الزبير لِأَنَّهَا خَالَته،
وَذَلِكَ الْكَلَام الَّذِي قَالَ فِي حَقّهَا. وَهُوَ
قَوْله: لتنتهين عَائِشَة ولأحجرن عَلَيْهَا، كالعقوق
لَهَا، فهجرتها إِيَّاه كَانَت تأديباً لَهُ، وَهَذَا من
بَاب الهجران لمن عصى.
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع وَشُعَيْب بن أبي
حَمْزَة الْحِمصِي، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن
شهَاب، وعَوْف بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون
الْوَاو وَالْفَاء ابْن الطُّفَيْل بِضَم الطَّاء
الْمُهْملَة ابْن عبد الله بن الْحَارِث بن سَخْبَرَة
بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالراء ابْن
جرثومة بِضَم الْجِيم وَسُكُون الرَّاء وَضم الثَّاء
الْمثلَة وبالميم ابْن عَائِدَة بن مرّة بن جشم بن أَوْس
بن عَامر الْقرشِي، وَقَالَ ابْن أبي خَيْثَمَة: لَا
أَدْرِي من أَي قُرَيْش هُوَ؟ وَقَالَ أَبُو عمر: لَيْسَ
من قُرَيْش، وَإِنَّمَا هُوَ من الأزد. وَقَالَ
الْوَاقِدِيّ: كَانَت أم رُومَان تَحت عبد الله بن
سَخْبَرَة وَكَانَ قدم بهَا مَكَّة فحالف أَبَا بكر قبل
الْإِسْلَام فَتوفي عَن أم رُومَان وَقد ولدت لَهُ
الطُّفَيْل، ثمَّ خلف عَلَيْهَا أَبُو بكر رَضِي الله
عَنهُ، فَولدت لَهُ عبد الرَّحْمَن وَعَائِشَة، فهما أَخُو
الطُّفَيْل هَذَا لأمه، وَذكر أَبُو عمر الطُّفَيْل هَذَا
فِي (الِاسْتِيعَاب) فِي الصَّحَابَة، وَقَالَ
الذَّهَبِيّ: الطُّفَيْل هَذَا صَحَابِيّ روى عَنهُ ربعي
بن حِرَاش الزُّهْرِيّ، وَقَالَ فِي (جَامع الْأُصُول) :
عَوْف بن مَالك بن الطُّفَيْل، وَقَالَ الكلاباذي: عَوْف
بن الْحَارِث بن الطُّفَيْل، وَفِي سَنَد حَدِيث الْبَاب
مثل مَا قَالَ فِي (جَامع الْأُصُول) . وَقَالَ عَليّ بن
الْمَدِينِيّ: هَكَذَا اخْتلفُوا فِيهِ وَالصَّوَاب
عِنْدِي وَهُوَ الْمَعْرُوف: عَوْف بن الْحَارِث بن
الطُّفَيْل، فعلى هَذَا قَول صَاحب (جَامع الْأُصُول) :
عَوْف بن مَالك بن الطُّفَيْل لَيْسَ بجيد.
قَوْله: (حدثت) على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: أخْبرت،
ويروى: حدثته. قَوْله: (فِي بيع أَو عَطاء أَعطَتْهُ
عَائِشَة) فِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ: فِي دَار لَهَا
باعتها فتسخط عبد الله بن الزبير بِبيع تِلْكَ الدَّار،
فَقَالَ: (وَالله لتنتهين عَائِشَة أَو لأحجرن عَلَيْهَا)
، كلمة أَو، هَهُنَا بِمَعْنى إلاَّ فِي الِاسْتِثْنَاء،
فينصب الْمُضَارع بعْدهَا بإضمار أَن نَحْو قَوْلهم:
لأقتلنه أَو يسلم، وَالْمعْنَى إلاَّ أَن يسلم،
وَالْمعْنَى هَهُنَا لتنتهين عَائِشَة عَمَّا هِيَ فِيهِ
من الْإِسْرَاف إلاَّ أَن أحجر عَلَيْهَا، وَيحْتَمل أَن
يكون: أَو، هُنَا بِمَعْنى: إِلَى، وَينصب الْمُضَارع
بعْدهَا بِأَن مضمرة نَحْو: (لألزمنك أَو تُعْطِينِي حَقي)
يَعْنِي: إِلَى أَن تُعْطِينِي حَقي، وَفِي الرِّوَايَة
الْمُتَقَدّمَة فِي مَنَاقِب قُرَيْش: كَانَ عبد الله ابْن
الزبير أحب الْبشر إِلَى عَائِشَة بعد النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَأبي بكر، وَكَانَ أبر النَّاس بهَا،
وَكَانَت لَا تمسك شَيْئا مِمَّا جاءها من رزق الله إلاَّ
تَصَدَّقت بِهِ، فَقَالَ ابْن الزبير: يَنْبَغِي أَن
يُؤْخَذ على يَديهَا، فَقَالَت: أيؤخذ على يَدي؟ عَليّ نذر
إِن كَلمته. وَكَانَت هَذِه الْقَضِيَّة الْقَضِيَّة قبل
أَن يَلِي عبد الله بن الزبير الْخلَافَة، لِأَن عَائِشَة
مَاتَت سنة سبع وَخمسين فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، وَكَانَ
ابْن الزبير حينئذٍ لم يلِ شَيْئا. قَوْله: (قَالَت: أهوَ
قَالَ هَذَا؟) أَي: قَالَت عَائِشَة: أعبد الله بن الزبير
قَالَ هَذَا الْكَلَام؟ قَالُوا: نعم. قَوْله: فَقَالَت:
هُوَ أَي: الشَّأْن: (لله على نذر أَن لَا أكلم ابْن
الزبير أبدا) وَقَالَ ابْن التِّين: تَقْدِيره عَليّ نذر
إِن كَلمته، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى: أَن لَا
أَتكَلّم، بِفَتْح الْهمزَة وَكسرهَا بِزِيَادَة: لَا،
وَالْمَقْصُود حَلفهَا على عدم التَّكَلُّم مَعَه. قلت:
هَذَا كَلَام الْكرْمَانِي بِعَين مَا قَالَه، وَقَالَ
بَعضهم: وَوَقع فِي بعض الرِّوَايَات بِحَذْف: لَا، وَشرح
عَلَيْهَا الْكرْمَانِي وضبطها بِالْكَسْرِ بِصِيغَة
الشَّرْط وَلَيْسَ كَمَا نَقله فَالَّذِي ذكره
الْكرْمَانِي هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (فاستشفع
ابْن الزبير إِلَيْهَا) من الشَّفَاعَة وَهُوَ السُّؤَال
فِي التجاوز عَن الذُّنُوب والجرائم. قَوْله: (حِين
طَالَتْ الْهِجْرَة) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين
بِلَفْظ: حِين، وَفِي رِوَايَة السَّرخسِيّ
وَالْمُسْتَمْلِي: حَتَّى، بدل: حِين، وَفِي رِوَايَة:
فاستشفع عَلَيْهَا بِالنَّاسِ، فَلم تقبل، وَفِي رِوَايَة
عبد الرَّحْمَن بن خَالِد: فاستشفع ابْن الزبير
بالمهاجرين، وَقد أخرج إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ من طَرِيق
حميد بن قيس: أَن عبد الله بن الزبير استشفع إِلَيْهَا
بعبيد بن عُمَيْر، فَقَالَ لَهَا: أَيْن حَدِيث أخبرتنيه
عَن رَسُول الله صلى الله
(22/142)
عَلَيْهِ وَسلم، أَنه نهى عَن الْهِجْرَة
فَوق ثَلَاث؟ قَوْله: (وَالله لَا أشفع فِيهِ) بِكَسْر
الْفَاء الْمُشَدّدَة، أَي: لَا أقبل الشَّفَاعَة فِيهِ.
قَوْله: (أبدا) ، هنو رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة
غَيره أحدا، وَجمع بَين اللَّفْظَيْنِ فِي رِوَايَة عبد
الرَّحْمَن بن خَالِد وَرِوَايَة معمر. قَوْله: (وَلَا
اتحنث إِلَى نذري) أَي: لَا أتحنث فِي نذري منتهياً
إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة معمر: وَلَا أحنث فِي نذري.
قَوْله: (فَلَمَّا طَال ذَلِك) أَي: هجر عَائِشَة على عبد
الله ابْن الزبير كلم الْمسور بِكَسْر الْمِيم ابْن مخرمَة
بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة
الزُّهْرِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن أسود بن عبد يَغُوث
الزُّهْرِيّ وَكَانَا من أخوال رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أنشدكما الله) بِضَم الدَّال من
أنشدت فلَانا إِذا قلت لَهُ: نشدتك الله، أَي: سَأَلتك
بِاللَّه. قَوْله: (لما) بتَخْفِيف الْمِيم وَمَا زَائِدَة
وبتشديدها وَهُوَ بِمَعْنى: إلاَّ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {
(68) إِن كل نفس لما عَلَيْهَا حَافظ} (الطارق: 4)
وَمَعْنَاهُ: مَا أطلب مِنْكُمَا إلاّ الإدخال. قَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: نشدتك بِاللَّه إلاَّ فعلت، مَعْنَاهُ:
مَا أطلب مِنْك إلاَّ فعلك، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني:
إِلَّا أدخلتماني، وَفِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ:
فَسَأَلَهُمَا أَن يشتملا عَلَيْهِ بأرديتهما. قَوْله:
(فَإِنَّهَا) أَي: فَإِن الْحَالة، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: فَإِنَّهُ، أَي: فَإِن الشان. قَوْله: (تنذر
قطيعتي) أَي: قطع صلَة الرَّحِم لِأَن عَائِشَة كَانَت
خَالَته، وَهِي الَّتِي كَانَت تتولى تَرْبِيَته غَالِبا.
قَوْله: (أندخل؟) الْهمزَة فِيهِ للاستخبار. قَوْله:
(كلنا) وَفِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ، قَالَا: وَمن
مَعنا؟ قَالَت: وَمن مَعَكُمَا. قَوْله: (وطفق) أَي: جعل
يناشدها. قَوْله: (بناشدانها إلاَّ مَا كَلمته) أَي: مَا
يطلبان مِنْهَا إلاَّ التَّكَلُّم مَعَه وَقبُول الْعذر
مِنْهُ. قَوْله: (من الْهِجْرَة) بَيَان مَا قد علمت.
قَوْله: (من التَّذْكِرَة) ، أَي: من التَّذْكِير بالصلة
بِالْعَفو وبكظم الغيظ. قَوْله: (والتحريج) أَي:
التَّضْيِيق وَالنِّسْبَة إِلَى الْحَرج بِالْحَاء
الْمُهْملَة وَالْجِيم. قَوْله: (وأعتقت فِي نذرها ذَلِك
أَرْبَعِينَ رَقَبَة) ، علم مِنْهُ أَن المُرَاد بِالنذرِ
الْيَمين، وَفِي (التَّوْضِيح) قَول عَائِشَة: عَليّ نذر
أَن لَا أكلم ابْن الزبير أبدا، هَذَا أنذر فِي غير
الطَّاعَة فَلَا يجب عَلَيْهَا شَيْء عِنْد مَالك وَغَيره،
وَاخْتلف إِذا قَالَ: عَليّ نذر لَأَفْعَلَنَّ كَذَا
فكفارته كَفَّارَة بَين، وَهُوَ قَول مَالك وَغير وَاحِد
من التَّابِعين، وَعَن ابْن عَبَّاس: عَلَيْهِ أغْلظ
الْكَفَّارَات كالظهار لِأَنَّهُ لم يسم الْيَمين بِاللَّه
وَلَا نَوَاهَا، وَقيل: إِن شَاءَ صَامَ يَوْمًا أَو أطْعم
مِسْكينا أَو صلى رَكْعَتَيْنِ، وَالله أعلم.
6076 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ
عَن ابنِ شهَاب عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ أنَّ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا تَباغضُوا وَلَا
تَحاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وكُونُوا عِبادَ الله
إخْوَاناً وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ
فَوْقَ ثَلاثَ لَيَال. (انْظُر الحَدِيث 6065) .
هَذَا الحَدِيث مضى فِي: بَاب مَا ينْهَى عَن التحاسد، عَن
أبي هُرَيْرَة وَمضى أَيْضا عَنهُ فِي الْبَاب الَّذِي
يَلِيهِ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مستقصًى، وَهُنَاكَ روى
مَالك عَن أبي الزِّنَاد، وَهنا روى عَن ابْن شهَاب.
6077 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ
عَنِ ابنِ شهابٍ عَنْ عَطاء بنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ
أبي أيُّوبَ الأنْصارِيِّ أنَّ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أنْ يَهْجُرَ
أخاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيالٍ يَلْتَقيانِ فَيُعْرِضُ هاذَا
وَيُعْرِضُ هاذَا وَخَيْرُهُما الَّذِي يَبْدَأ
بالسَّلاَمِ. (انْظُر الحَدِيث 6077 طرفه فِي: 6237) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو أَيُّوب
الْأنْصَارِيّ اسْمه خَالِد بن زيد بن كُلَيْب.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الإستئذان عَن
عَليّ عَن سُفْيَان. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن يحيى عَن
مَالك وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي
عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن
مُحَمَّد بن يحيى، وَقَالَ الْحَافِظ الْمزي: هَكَذَا
رَوَاهُ غير، وَاحِد عَن الزُّهْرِيّ وَهُوَ الْمَحْفُوظ،
وَرَوَاهُ عقيل عَن الزُّهْرِيّ عَن عَطاء بن يزِيد عَن
أبي بن كَعْب، وَرَوَاهُ أَحْمد بن شبيب عَن أَبِيه عَن
يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الله أَو عبد الرَّحْمَن
عَن أبي بن كَعْب، وَكِلَاهُمَا خطأ، أما رِوَايَة عقيل
فَلم يُتَابِعه عَلَيْهَا أحد وَلَعَلَّه كَانَ فِي
كِتَابه عَن أبي وَسقط مِنْهُ أَيُّوب فَظَنهُ أبي بن
كَعْب، وَأما رِوَايَة أَحْمد بن شبيب عَن أَبِيه فقد
رَوَاهُ ابْن وهب عَن يُونُس كَرِوَايَة الْجَمَاعَة.
قَوْله: (فَيعرض) بِضَم الْيَاء من إِعْرَاض الْوَجْه.
قَوْله: (وخيرهما) أَي: أفضلهما الَّذِي يبْدَأ
بِالسَّلَامِ أَي: بِالسَّلَامِ عَلَيْكُم.
وَفِيه: أَن الْهِجْرَة تَنْتَهِي بِالسَّلَامِ، وَقد مضى
الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
63 - (بابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الهِجرَانِ لِمَنْ عَصَى)
(22/143)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يجوز من
الهجران لمن عصى، وَقَالَ الْمُهلب: غَرَض البُخَارِيّ من
هَذَا الْبَاب أَن يبين صفة الهجران الْجَائِز وَأَن ذَلِك
متنوع على قدر الإجرام، فَمن كَانَ جرمه كثيرا فَيَنْبَغِي
هجرانه واجتنابه وَترك مكالمته، كَمَا جَاءَ فِي كَعْب بن
مَالك وصاحبيه، وَمَا كَانَ من المغاضبة بَين الْأَهْل
والإخوان فالهجران الْجَائِز فِيهَا ترك التَّحِيَّة
وَالتَّسْمِيَة وَبسط الْوَجْه، كَمَا فعلت عَائِشَة فِي
مغاضبتها مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَالَ كَعْبٌ، حِينَ تَخَلَّفَ عَنِ النبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: وَنَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
المُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنا، وَذَكَرَ خَمْسِينَ
لَيْلَةً.
أَي: قَالَ كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ رَضِي الله
عَنهُ. قَوْله: (حِين تخلف) فِي غَزْوَة تَبُوك، وَهُوَ
لَيْسَ ظرفا لقَالَ بل لمَحْذُوف أَي: حِين تخلف، كَانَ
كَذَا وَكَذَا وَنهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
عَن الْكَلَام مَعَه مَعَ صَاحِبيهِ مرَارَة بن الرّبيع
وهلال بن أُميَّة الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا، وَذكر أَن
زمَان هجر الْمُسلمين عَنْهُم كَانَ خمسين لَيْلَة،
وَهَذَا الَّذِي ذكره طرف من حَدِيث طَوِيل مُسْتَوفى فِي
آخر الْمَغَازِي.
6078 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ أخبرنَا عَبْدَةُ عَن هِشامِ بنِ
عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا،
قالَتْ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنِّي
لأعْرِفُ غَضَبَكِ وَرِضاكِ. قالَتْ: قُلْتُ: وَكَيْفَ
تَعْرِفُ ذَاكَ يَا رسولَ الله؟ قَالَ: إنَّكِ إذَا كُنْتِ
راضِيَةً قُلْتِ: بَلَى وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وإذَا كُنْتِ
ساخِطَةً قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إبْرَاهِيمَ. قالَتْ:
قُلْتُ: أجَلْ لَسْتُ أُهاجِرُ إلاَّ اسْمَكَ. (انْظُر
الحَدِيث 5228.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لست أُهَاجِر إلاّ
اسْمك) وَهَذَا من الهجران الْجَائِز كَمَا ذكرنَا عَن
الْمُهلب الْآن صفة الهجران الْجَائِز، وَقَالَ القَاضِي:
مغاضبة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، هِيَ من الْغيرَة
الَّتِي عفى عَنْهَا للنِّسَاء وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ
عَلَيْهَا فِي ذَلِك من الْحَرج مَا فِيهِ، لِأَن الْغَضَب
على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَبِيرَة عَظِيمَة،
وَفِي قَوْلهَا: إِلَّا إسمك، دلَالَة على أَن قَلبهَا
مَمْلُوء من الْمحبَّة، وَإِنَّمَا الْغيرَة فِي النِّسَاء
لفرط الْمحبَّة.
وَمُحَمّد هُوَ ابْن سَلام، وَعَبدَة بِفَتْح الْعين
وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة هُوَ ابْن سُلَيْمَان
الْكلابِي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن مُحَمَّد بن
عبد الله بن نمير.
قَوْله: (أجل) بِوَزْن: نعم وَبِمَعْنَاهُ، وَقَالَ
الْأَخْفَش: إلاَّ أَن نعم أحسن من أجل فِي جَوَاب
الِاسْتِفْهَام، وَأجل أحسن من نعم فِي التَّصْدِيق.
64 - (بابٌ هَلْ يَزُورُ صاحِبَهُ كُلَّ يَوْمٍ أوْ
بُكْرَةً وَعَشِيَّةً؟)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يزور الشَّخْص صَاحبه كل
يَوْم أَو يزور فِي طرفِي النَّهَار بكرَة وَعَشِيَّة:
فالبكرة أول النَّهَار من طُلُوع الشَّمْس إِلَى نصف
النَّهَار، والعشية آخِره، وَفِي كثير من النّسخ: وعشياً،
بِدُونِ التَّاء وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْعشي والعشية من
صَلَاة الْمغرب إِلَى الْعَتَمَة وَقيل: الْعشي من
الزَّوَال إِلَى الْعَتَمَة، وَقيل: إِلَى الْفجْر،
وَقَالَ بَعضهم: وَقَالَ ابْن فَارس: وَالْعشَاء
بِالْفَتْح وَالْمدّ من الزَّوَال إِلَى الْعَتَمَة. قلت:
هَذَا غلط، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْعشَاء بِالْمدِّ
وَالْفَتْح الطَّعَام بِعَيْنِه، وَالظَّاهِر أَن ابْن
فَارس قَالَ: الْعشَاء بِالْمدِّ وَالْكَسْر، والغلط من
النَّاقِل.
6079 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى أخبرنَا هِشامٌ
عَنْ مَعْمَرِ.
(ح) ، قَالَ اللَّيْثُ: حدّثني عُقَيْلٌ قَالَ ابنُ
شِهابٍ: فَأَخْبرنِي عُروةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ عائِشَةَ
زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ: أُمْ
أعْقِلْ أبَوَيَّ إلاَّ وَهُما يَدِينانِ الدِّينَ وَلَمْ
يَمُرَّ عَلَيْهِما يَوْمٌ إلاَّ يَأْتِينا فِيهِ رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، طَرَفَي النَّهارِ بُكْرَةً
وَعَشِيَّةً، فَبَيْنَما نَحْن جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أبِي
بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ قَالَ قائِلٌ: هاذا رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ساعَةٍ لَمْ يَكُنْ
يَأتِينا فِيها، قَالَ أبُو بَكْر: مَا جاءَ بِهِ فِي
هاذِهِ السَّاعَةِ إلاَّ أمْرٌ. قَالَ: إنِّي قَدْ أُذِنَ
لِي بالخُرُوجِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إلاَّ يأتينا فِيهِ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، طرفِي النَّهَار
بكرَة وَعَشِيَّة) وَإِبْرَاهِيم هُوَ ابْن
(22/144)
مُوسَى بن يزِيد الْفراء أَبُو إِسْحَاق
الرَّازِيّ يعرف بالصغير، وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا،
وَهِشَام هُوَ ابْن يُوسُف، وَمعمر بِفَتْح الميمين هُوَ
ابْن رَاشد.
والْحَدِيث قد مضى مطولا فِي: بَاب هِجْرَة النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه إِلَى الْمَدِينَة،
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن يحيى ابْن بكير، نَا اللَّيْث
عَن عقيل ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه عَن إِبْرَاهِيم
عَن هِشَام عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ، ثمَّ تحول إِلَى
إِسْنَاد آخر بقوله: وَقَالَ اللَّيْث ... إِلَى آخِره،
وَوَصله فِي: بَاب الْهِجْرَة عَن يحيى بن بكير عَن
اللَّيْث كَمَا ذَكرْنَاهُ.
قَوْله: (يدينان الدّين) أَي: كَانَا مُؤمنين متدينين بدين
الْإِسْلَام. قَوْله: (وَلم يمر يَوْم إلاّ يأتينا فِيهِ)
فَإِن قلت: يُعَارضهُ حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (زرغبا
تَزْدَدْ حبا) قلت: لَا مُعَارضَة لِأَن لكل مِنْهُمَا
معنى، فَحَدِيث الْبَاب جَوَاز زِيَارَة الصّديق الملاطف
لصديقه كل يَوْم على قدر حَاجته إِلَيْهِ وَالِانْتِفَاع
بمشاركته لَهُ، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة فِيمَن لَيست لَهُ
خُصُوصِيَّة وَلَا مَوَدَّة ثَابِتَة، فالإكثار من
الزِّيَارَة رُبمَا أدَّت إِلَى الْبغضَاء فَيكون سَببا
للقطيعة، فعلى الْمَعْنى الأول قَالَ الْقَائِل.
(إِذا حققت من شخص وداداً ... فزره وَلَا تخف مِنْهُ
ملالاً)
(وَكن كَالشَّمْسِ تطلع كل يَوْم ... ولاتك فِي زيارته
هلالاً)
وعَلى الْمَعْنى الثَّانِي قَالَ الْقَائِل:
(لَا تزر من تحب فِي كل شهر ... غير يَوْم وَلَا تزِدْه
عَلَيْهِ)
(فاجتلاء الْهلَال فِي الشَّهْر يَوْمًا ... ثمَّ لَا تنظر
الْعُيُون إِلَيْهِ)
قَالَ بَعضهم: كَأَن البُخَارِيّ رمز بالترجمة إِلَى توهين
الحَدِيث الْمَشْهُور زرغباً تَزْدَدْ حبا، قلت: هَذَا
تخمين فِي حق البُخَارِيّ لِأَنَّهُ حَدِيث مَشْهُور
رُوِيَ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وهم: عَليّ وَأَبُو ذَر
وَأَبُو هُرَيْرَة وَعبد الله بن عَمْرو وَعبد الله بن عمر
وَأَبُو بَرزَة وَأنس وَجَابِر وحبِيب بن مسلمة
وَمُعَاوِيَة بن حيدة، وَقد جمع أَبُو نعيم وَغَيره طرقه،
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي (تَارِيخ نيسابور) والخطيب فِي
(تَارِيخ بَغْدَاد) بطرِيق قوي: فَإِن قلت: كَانَ الصّديق
أولى بالزيارة لدفع مشقة التّكْرَار عَنهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: قَالَ ابْن التِّين: لم يكن يَجِيء
إِلَى أبي بكر لمُجَرّد الزِّيَارَة بل لما يتزايد عِنْده
من علم الله، وَقيل: كَانَ سَبَب ذَلِك أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِذا جَاءَ إِلَى بَيت أبي بكر رَضِي الله
عَنهُ، يَأْمَن من أَذَى الْمُشْركين، بِخِلَاف مَا لَو
جَاءَ أَبُو بكر إِلَيْهِ، وَقيل: يحْتَمل أَن أَبَا بكر
كَانَ يَجِيء إِلَيْهِ فِي النَّهَار وَاللَّيْل أَكثر من
مرَّتَيْنِ. قَوْله: (فَبَيْنَمَا) قد قُلْنَا غير مرّة
إِن أصل بَيْنَمَا: بَين، فأشبعت الفتحة فَصَارَت ألفا
وزيدت عَلَيْهِ: مَا، ويضاف ... إِلَى جملَة. قَوْله:
(جُلُوس) أَي: جالسون. قَوْله: (فِي نحر الظهيرة) الظهيرة
الهاجرة ونحرها أَولهَا. قَالَ الْجَوْهَرِي: نحر
النَّهَار النَّهَار أَوله. وَقَالَ الْكرْمَانِي: نحر
الظهيرة أول الظّهْر، يُرِيد بِهِ شدَّة الْحر. قَوْله:
(أذن لي بِالْخرُوجِ) يَعْنِي: من مَكَّة إِلَى
الْمَدِينَة.
65 - (بابُ الزِّيارَةِ. ومنْ زارَ قَوْماً فَطَعِمَ
عِنْدَهُمْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة الزِّيَارَة،
وَفِي بَيَان من زار قوما فَطَعِمَ، أكل عِنْدهم شَيْئا،
وَمن تَمام الزِّيَارَة أَن تقدم للزائر مَا حضر، وَقَالَ
ابْن بطال: وَهُوَ مِمَّا يثبت الْمَوَدَّة وَيزِيد فِي
الْمحبَّة، وَقد ورد فِي ذَلِك حَدِيث أخرجه أَحْمد
وَأَبُو يعلى من طَرِيق عبيد الله بن عبد بن عُمَيْر
قَالَ. دخل على جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنهُ، نفر
من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقدم
إِلَيْهِم خبْزًا وخلاً، فَقَالَ: كلوا، فَإِنِّي سَمِعت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: نعم الإدام
الْخلّ، إِن هَلَاك الرجل أَن يدْخل إِلَيْهِ نفر من
إخوانه فيحتقر مَا فِي بَيته أَن يقدمهُ إِلَيْهِم، وهلاك
الْقَوْم أَن يحتقر وَأما قدم إِلَيْهِم.
وزارَ سَلْمانُ أَبَا الدَّرْداءِ رَضِي الله عَنْهُمَا،
فِي عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأكَلَ عِنَدُ
أَبُو الدَّرْدَاء اسْمه عُوَيْمِر مصغفر عَامر
الْأنْصَارِيّ، وَهَذَا طرف من حَدِيث لأبي جُحَيْفَة تقدم
فِي كتاب الصّيام.
6080 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَلامٍ أخبَرنا عَبْدُ
الوَهَّابِ عَنْ خالِدٍ الحَذَّاءِ عَنْ أنسِ بنِ سِيرِينَ
(22/145)
عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله عَنهُ، أنَّ رسولَ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زارَ أهْلَ بَيْت مِنَ الأنْصارِ
فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ طَعاماً، فَلَمَّا أرادَ أنْ يَخْرُجَ
أمَرَ بِمَكانٍ مِنَ البَيْتِ فَنُضِحَ لَهُ عَلَى بِساطٍ
فَصَلَّى عَلَيْهِ ودعا لَهُمْ. (انْظُر الحَدِيث 670
وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الْوَهَّاب هُوَ
ابْن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ، وَأنس بن سِيرِين أَخُو
مُحَمَّد بن سِيرِين.
والْحَدِيث مضى فِي صَلَاة الضُّحَى بأتم مِنْهُ.
قَوْله: (زار أهل بَيت من الْأَنْصَار) أهل بَيت عتْبَان
بن مَالك. قَوْله: (فَطَعِمَ) بِكَسْر الْعين أَي: أكل،
قَالَ الله تَعَالَى: {فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشرُوا}
(الْأَحْزَاب: 53) وَقد يكون بِمَعْنى: ذاق. قَالَ
تَعَالَى: {وَمن لم يطعمهُ فَإِنَّهُ مني} (الْبَقَرَة:
249) . قَوْله: (فنضح لَهُ) أَي رش، وَيُقَال: نضح لَهُ
لما شكّ فِيهِ، وَقيل: صب المَاء عَلَيْهِ صبا فَيكون
كالغسل. قَوْله: (على بِسَاط) أَرَادَ بِهِ هُنَا
الْحَصِير، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث آخر، قَوْله: (ودعا
لَهُم) فِيهِ أَن الزائر إِذا أكْرمه المزور يَنْبَغِي
لَهُ أَن يَدْعُو لَهُ وَلأَهل بَيته. |