فتح الباري لابن رجب

بسم الله الرحمن الرحيم
قالَ البخاري - رحمه الله تعالى -:

5 - كِتَابُ الغُسْلِ
وقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] .
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43] ، إلى قوله: {عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:43] .
صدر البخاري - رحمه الله - ((كتاب الغسل)) بهاتين الآيتين؛ لأن غسل الجنابة مذكور فيهما.
أما قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} ، فأمر للجنب إذا قام إلى الصلاة أن يتطهر.
وتطهر الجنب هوَ غسله، كما في تطهر الحائض إذا انقطع دمها؛ ولهذا قالَ تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنّ} [البقرة: 222] .
والمراد بتطهرهن: اغتسالهن عندَ جمهور العلماء، فلا يباح وطؤها حتى تغتسل، وسيأتي تفسير الآية في ((كتاب الحيض)) - إن شاء الله تعالى.
وأما قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] ، فنهي عن قربان الجنب الصلاة حتى يغتسل، فصرح هنا بالغسل، وهو تفسير التطهير المذكور في آية المائدة.

(1/231)


وهل المراد: نهي الجنب عن قربان الصلاة حتى يغتسل، إلا أن يكون مسافراً
- وهو عابر السبيل - فيعدم الماء، فيصلى بالتيمم؟ أو المراد: نهي الجنب عن قربان موضع الصلاة - وهو المسجد - إلا عابر سبيل فيهِ، غير جالس فيهِ، ولا لابث؟ هذا مما اختلف فيهِ المفسرون من السلف.
وبكل حال؛ فالآية تدل على أن الجنب ما لم يغتسل منهي عن الصلاة، أو دخول المسجد، وأن استباحة ذَلِكَ يتوقف على الغسل، فيستدل به على وجوب الغسل على الجنب إذا أراد الصلاة، أو دخول المسجد.

(1/232)


1 - بَابُ
الْوُضُوء قَبْلَ الغُسْلِ
خرج في حديثين:
الحديث الأول:

(1/233)


248 - حديث: مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا أغتسل من الجنابة بدأ بغسل يديه، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله.
غسل اليدين [00 0] قبل الوضوء شبه غسلهما للمتوضيء قبل إدخالهما في الإناء.
وروى هذا الحديث وكيع، عن هشام، وقال في حديثه: ((يغسل يديه ثلاثاً)) .
خرجه مسلم من طريقه كذلك.
واستحسن أحمد هذه الزيادة من وكيع.

(1/233)


وقال أبو الفضل ابن عمار: ليست عندنا بمحفوظة.
قلت: تابعه - أيضا - على ذكر الثلاث في غسل الكفين: مبارك بن فضالة، عن هشام.
خرج حديثه ابن جرير الطبري.
ومبارك، ليس بالحافظ.
وكذلك رواها ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة.
وقد رويت - أيضا - من حديث أبي سلمة، عن عائشة، وسيأتي حديثه.
وقد روي، أنه غسلهما قبل الاستنجاء، ثم استنجى، ثم دلكهما بالأرض، ثم غسلهما قبل الوضوء مرتين أو ثلاثاً، وسيأتي ذَلِكَ فيما بعد - إن شاء الله تعالى.
وقول عائشة: ((ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة)) يدل على أنه توضأ وضوءاً كاملاً، قبل غسل رأسه وجسده.
وروى أبو معاوية الضرير هذا الحديث، عن هشام، وزاد في آخر الحديث:
((ثم غسل رجليه)) .
خرجه مسلم.
وتابعه عليها محمد بن [كناسة] ، عن هشام.
خرج حديثه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافعي)) [00] .

(1/234)


وذكر أبو الفظل ابن عمار: أن هذه الزيادة ليست بمحفوظة.
قلت: ويدل على أنها غير محفوظة عن هشام: أن أيوب روى هذا الحديث عن هشام، وقال فيهِ: ((فقلت لهشام: يغسل رجليه بعد ذَلِكَ؟ فقالَ: وضوءه للصلاة، وضوءه للصلاة.
أي: أن وضوءه في الأول كاف.
ذكره ابن عبد البر.
وهذا يدل على أن هشاما فهم من الحديث أن وضوءه قبل الغسل كانَ كاملا بغسل الرجلين، فلذلك لم يحتج إلى إعادة غسلهما.
وقد روى حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يغتسل من الجنابة يغسل يديه ثلاثاً، ثم يأخذ بيمينه فيصب على شماله، فيغسل فرجه حتى ينقيه، ثم يغسل يده غسلا حسنا، ثم يمضمض ثلاثاً ويستنشق ثلاثاً، ويغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ثم يصب على رأسه الماء ثلاثاً، ثم يغتسل، فإذا خرج غسل قدميه.
خرجه الإمام أحمد، عن عفان، عن حماد.
وخرجه ابن جرير الطبري، من طريق حجاج بن منهال، عن حماد، به.
وفي روايته: ثم يغسل جسده غسلاً، فإذا خرج من مغتسله غسل

(1/235)


رجليه.
وخرجه الطبراني في ((الأوسط)) من طريق مؤمل، عن حماد، عن عطاء ابن السائب وعلي بن زيد، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا اغتسل من جنابة غسل كفيه ثلاثاً قبل أن يغمسهما في الإناء، ثم يأخذ الماء بيمينه فيصبه على شماله، ثم يغسل فرجه، ثم يمتضمض ثلاثاً ويستنشق ثلاثاً، ثم يغسل وجهه ثلاثاً، ويغسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، ثم يصب على رأسه الماء واحداً واحداً، فإذا خرج من مغتسله غسل قدميه.
وخرجه النسائي بمعناه، ولم يذكر غسل رجليه في الآخر، وعنده: أنه صب على رأسه ثلاثاً.
وفي رواية لهُ: ((ملء كفيه)) .
وروى الإمام أحمد: ثنا هشيم: أنا خالد، عن رجل من أهل الكوفة، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج من مغتسله حيث يغتسل من الجنابة يغسل قدميه.
وروى الأوزاعي، قالَ: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة - وحدثني عمرو بن سعد، عن نافع مولى ابن عمر -، أن عمر سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الغسل من الجنابة.
قالَ الأوزاعي: واتفقت الأحاديث على هذا، يبدأ فيفرغ على يده اليمنى مرتين أو ثلاثاً، ثم يدخل يده اليمنى في الإناء،

(1/236)


فيصب بها على فرجه، ويده اليسرى على
فرجه، فيغسل ما هنالك حتى ينقيه، ثم يضع اليسرى على التراب إن شاء، ثم يصب على يده اليسرى حتى ينقيها، ثم يغسل يديه ثلاثا ويستنشق ويمضمض ويغسل وجهه وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً، حتى إذا بلغ رأسه لم يمسحه، وأفرغ عليهِ الماء، وهكذا كانَ
[غسل] رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيما ذكر لنا.
خرجه النسائي.
وهذا مما رواه الأوزاعي بالمعنى الذي فهمه من حديث عائشة وحديث عمر، وليس هوَ لفظ حديثهما، ولكنه إلى لفظ حديث عمر أقرب؛ فإن حديث عمر روي بمعنى مقارب لما قاله الأوزاعي من غير طريقه.
خرجه الإمام أحمد من طريق شعبة، عن عاصم بن عمرو البجلي، عن رجل حدثه، أنهم سألوا عمر عن غسل الجنابة، وعن صلاة التطوع في البيت، وعما يصلح للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقالَ: لقد سألتموني عن شيء ما سألني عنه أحد منذ سألت عنه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((صلاة الرجل في بيته تطوعا نور، فمن شاء نور
بيته)) ، وقال - في الغسل من الجنابة -: ((يغسل فرجه، ثم يتوضأ، ثم يفيض على رأسه ثلاثاً)) ، وقال - في الحائض -: ((ما فوق الإزار)) .
وخرجه الإسماعيلي في ((مسند عمر)) ، من طريق أخرى، عن عاصم.

(1/237)


وفي بعض رواياته: ((توضأ وضوءك للصلاة، ثم أفض الماء على رأسك، ثم على جسدك، ثم تنح من مغتسلك فاغسل رجليك))
وفي رواية لهُ: عن عاصم، عن عمير مولى عمر، أن نفراً سألوا عمر - فذكر الحديث، وقال في حديثه -: ((وأما الغسل فتفرغ بشمالك على يمينك، ثم تدخل يدك في الإناء، ثم تغسل فرجك وما أصابك، ثم تفرغ على رأسك ثلاث مرات، تدلك رأسك كل مرة، ثم تغسل سائر جسدك)) .
ورواه ابن أبي ليلى، عن عاصم بن عمر البجلي، عن عمر بن شرحبيل وهو: أبو ميسرة -، عن عمر - وقد ذكر الحديث، وقال فيهِ -: ((وأما الغسل من الجنابة، فصب بيمينك على شمالك واغسلها واغسل فرجك، وتوضأ وضوءك للصلاة، ثم أفض على رأسك وجسدك، ثم تحول فاغسل قدميك)) .
خرجه الإسماعيلي.
وقد فهم الأوزاعي من حديث عمر وعائشة، أن الوضوء يكون ثلاثاً ثلاثاً إلى مسح الرأس، ولا يمسح الرأس، بل يصب عليهِ الماء ثلاث مرات، فيكتفي بغسله للجنابة عن مسحه، ثم يصب الماء على سائر جسده، ويغسل رجليه.
فأما القول باستحباب تثليث الوضوء قبل غسل الجنابة، فقد نص عليهِ سفيان الثوري وإسحاق بن رهوايه وأصحابنا، ولم ينص أحمد إلا على تثليث غسل كفيه ثلاثاً، وعلى تثليث صب الماء على الرأس.

(1/238)


وأما القول بأنه لا يمسح رأسه، بل يصب عليهِ الماء صباً، ويكتفي بذلك عن مسحه وغسله للجنابة، فهذا قد روي صريحاً عن ابن عمر.
ونص عليهِ إسحاق بن راهويه -: نقله عنه حرب.
ونقله أبو داود، عن أحمد.
ونقل عنه، قالَ: لا يغسل رجليه قبل الغسل.
وروي عن ابن عمر، أنه قالَ: توضأ وضوءك للصلاة، إلا رجليك. وظاهر هذا: أنه يمسح رأسه، ولا يغسل رجليه، وهو قول الثوري وغيره من العلماء.
والاكتفاء بغسل الرأس عن مسحه يدل على أن غسل الرأس في الوضوء يجزىء عن مسحه، لكنه في الوضوء المفرد مكروه، وفي الوضوء المقرون بالغسل غير مكروه.
وذهبت طائفة من العلماء إلى أنه يكمل وضوءه كله، بمسح رأسه، وغسل قدميه قبل الغسل، وهو المشهور عندَ أصحابنا، وهو قول الخلال وصحابه أبي بكر، وهو قول مالك والشافعي في أشهر قوليه؛ لظاهر حديث عائشة الذي خرجه البخاري هاهنا.
وقالوا: حديث عائشة، حكاية عن فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدائم في غسله للجنابة، وأما ميمونة التي روت تأخير غسل رجليه، فإنها حكت غسلة في واقعة عين، ولكن قد تبين أنه روي عن عائشة ما يوافق حديث ميمونة في تأخير غسل القدمين،

(1/239)


ولم يأت عنها ولا عن غيرها التصريح بمسح الرأس في الوضوء.
ونص أحمد - في رواية جماعة - على أنه مخير بين تكميل الوضوء أولاً، وبين تأخير غسل الرجلين إلى أن يكمل الغسل.
وحكي للشافعي في تكميل الوضوء أولاً قبل الغسل قولان:
نقل عنه البويطي: تأخير غسل الرجلين.
والأصح عندَ أصحابه: التكميل.
وقال سفيان الثوري: يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً إلى أن ينتهي إلى رأسه، فيمسحه مرة، ثم يفيض عيه ثلاثاً، ويبالغ بالماء اصول الشعر، وغسل لحيته وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، ثم يفرغ على سائر جسده من الماء، ثم يتنحى عن مكانه، فيغسل قدميه.
هكذا حكى أصحابه عنه في كتبهم.
والذين قالوا: يكمل وضوءه قبل الغسل، قالوا: لا يعيد غسل قدميه بعده.
قاله إبراهيم النخعي ومسلم بن يسار وهشام بن عروة وأبو الأسود يتيم عروة، ونص عليهِ أحمد.
ومن أصحابنا من قالَ: يستحب إعادة غسل قدميه إذا انتقل من مكانه، تطهيراً لهما وتنظيفاً.
وحكى الترمذي في ((كتابه)) ذَلِكَ عن أهل العلم.
وفيه نظر.
وقد كانَ الشعبي إذا خرج من الحمام يخوض ماء

(1/240)


الحمام، ولا يغسل قدميه.
وروى ابن أبي شيبة، عن الأسود بن عامر، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدما يغتسل يخرج من الكنيف، يغسل قدميه.
وخرجه عنه بقي بن مخلد في ((مسنده)) .
وهو مختصر من حديث صفة الغسل الذي سبق ذكره.
وذكر الكنيف فيهِ غريب.

الحديث الثاني:

(1/241)


249 - من رواية: الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: توضأ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضوءه للصلاة، غير رجليه، وغسل فرجه وما أصابه من الأذى، ثم أفاض عليهِ الماء، ثم نحى رجليه فغسلهما، هذه غسله من الجنابة.
خرجه عن الفريابي، عن الثوري، عن الأعمش، هكذا.
وفيه: التصريح بأنه لم يغسل رجليه في أول وضوئه، بل أخر غسل رجليه حتى فرغ من غسله.
وخرجه فيما سيأتي - إن شاء الله تعالى - من حديث ابن عيينة،

(1/241)


عن الأعمش، وقال في حديثه: ((فتوضأ وضوءه للصلاة ن فلما فرغ من غسله غسل رجليه)) .
وهذه الرواية تحتمل أن يكون أعاد غسل رجليه لما أصابهما من التراب، حيث كانَ يغتسل على الأرض في مكان غير مبلط ولا مقير، لكن رواية سفيان صريحة باستثناء غسل رجليه في أول الوضوء.
وخرجه - أيضاً - من طريق حفص بن غياث، عن الأعمش، وفي حديثه: ((ثم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه وأفاض الماء على رأسه، ثم تنحى فغسل قدميه)) .
وهذه الرواية تدل على أنه لم يمسح رأسه، ولا غسل قدميه أولاً في الوضوء، بل أفاض الماء على رأسه عندَ مسحه.
وخرجه - أيضاً - من طريق عبد الواحد، عن الأعمش، وفي حديثه: ((ثم غسل رأسه ثلاثاً، ثم أفرغ على جسده، ثُمَّ تنحى من مقامه فغسل رجليه)) .
وخرجه من طريق أبي عوانة والفضل بن موسى وأبي حمزة، عن الأعمش،
كذلك، إلا أنه لم يذكر التثليث في غسل رأسه.
وقد رواه وكيع، عن الأعمش، فذكر في حديثه: أنه غسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً.
خرجه من طريقه الإمام أحمد وابن ماجه.
وقوله في هذه الرواية: ((هذا غسله من الجنابة)) ، مما يشعر بأنه ليس من تمام حديث ميمونة.
وقد رواه زائدة، عن الأعمش، وذكر فيهِ: أن غسل الجنابة إنما هوَ من قول سالم بن أبي الجعد.

(1/242)


خرجه من طريقه ابن جرير الطبري والإسماعيلي في ((صحيحه)) .
وقد خرج البخاري الحديث في موضع آخر، من رواية سفيان الثوري، عن الأعمش، بأبسط من هذا السياق، وفيه: عن ميمونة، قالت: ((سترت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يغتسل من الجنابة)) - فذكر الحديث.
وخرجه - أيضاً - من رواية ابن عيينة، عن الأعمش، ولفظه: ((أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه)) -، وذكر الحديث.
ومن رواية الفضل بن موسى، عن الأعمش، وفي حديثه: ((وضع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضوءاً للجنابة، فأكفأ بيمينه على شماله)) - وذكر الحديث.
وفي هذين الحديثين: دليل على استحباب الوضوء قبل الاغتسال من الجنابة، وأنه لا يؤخر كله إلى بعد كمال الغسل.
وقد روي عن الأسود، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ لا يتوضأ بعد الغسل.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي.
وقال: حسن صحيح.
وسئل ابن عمر عن الوضوء بعد الغسل؟ فقالَ: وأي وضوء أعم من الغسل.

(1/243)


وخرجه الطبراني والحاكم، عنه مرفوعاً. ووقفه أصح.
وعن جابر بن عبد الله، قالَ: يكفيك الغسل.
وروي إنكاره عن ابن مسعود - أيضاً.
وروي عن أصحاب ابن مسعود: علقمة وغيره.
وعن سعيد بن جبير والنخعي:
وروي عن حذيفة من وجه منقطع إنكار الوضوء مع الغسل.
وكذا روي عن الشعبي، أنه كانَ لا يرى الوضوء في الغسل من الجنابة.
ولكن قد صحت السنة - بالوضوء قبل الغسل.
وأما الوضوء بعد الغسل، فلم يصح فيهِ شيء.
وروي الرخصة فيهِ عن علي - رضي الله عنه -.
وأنكر صحة ذَلِكَ عنه: النخعي.
ونقل يعقوب بن بختان، عن أحمد في الحائض: أنها إن شاءت

(1/244)


أخرت الوضوء عن الغسل، وإن شاءت بدأت به.
ولعل هذا يختص بغسل الحيض.
وكذا قالَ أصحاب الشافعي: إن الجنب مخير، إن شاء توضأ قبل الغسل، وإن شاء بعده.
وأما إن نسي الوضوء قبل الغسل، فإنه يتوضأ بعد الغسل -: نص عليهِ أحمد ومالك وغير واحد.
واصل هذا: أن الجمع بين الوضوء والغسل هوَ السنة عندَ الجمهور، لكن الأفضل: أن يتوضأ قبل الغسل، ثم يغتسل على ما سبق من صفة الوضوء مع الغسل.
فإن اغتسل ولم يتوضأ، فهل يرتفع حدثاه بذلك، أم لا يرتفع إلا حدثه الأكبر خاصة، ويبقى حدثه الأصغر، فلا يستبيح الصلاة بدون تجديد الوضوء؟
هذا فيهِ قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد.
أشهرهما: أنه يرتفع حدثاه بذلك، إذا نوى بغسله رفع الحدثين جميعاً.
والثانية: لا يرتفع حدثه الأصغر بدون الوضوء.
وحكي عن مالك وأبي ثور وداود.
فإذا اغتسل ولم يتوضأ ارتفع حدثه الأكبر، ولم يرتفع الأصغر حتى يتوضأ.
ومن حكى عن أبي ثور وداود: أن الحدث الأكبر لا يرتفع بدون الوضوء مع الغسل، فالظاهر: أنه غالط عليهما.
وقد حكى ابن جرير وابن عبد البر وغيرهما الإجماع على خلاف ذلك.

(1/245)


ومذهب الشافعي: أنه يرتفع حدثاه بنية رفع الحدث الأكبر خاصة، ولا يحتاج إلى نية رفع الحدث الأصغر.
وذهب إسحاق وطائفة من أصحابنا، كأبي بكر عبد العزيز بن جعفر: إلى أنه لا يرتفع الحدث الأصغر بالغسل وحده، حتى يأتي فيهِ بخصائص الوضوء، من الترتيب والمولاة.
وأما المضمضمة والاستنشاق، فقد ذكرنا حكهما في الوضوء فيما سبق.
وأما في الغسل، فهما واجبان فيهِ عندَ أبي حنيفة، والثوري، وأحمد - في المشهور عنه.
وعنه: يجب الاستنشاق وحده.
واختلف أصحابنا: هل يجب المبالغة فيهما في الغسل، إذا قلنا: لا يجب ذَلِكَ في الوضوء، أم لا؟ على وجهين.
ومذهب مالك والشافعي: أن المضمضمة والاستنشاق سنة في الغسل كالوضوء.

(1/246)


2 - بَابُ
غُسْلِ الرَّجلِ مَعَ امرَأَتِهِ
خرج فيهِ:

(1/247)


250 - حديث: الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: كنت اغتسل أنا والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد، من قدح، يقال لهُ: الفرق.
هذا الحديث، قد ذكرناه فيما سبق في ((باب: الوضوء بالمد)) ، وتكلمنا عليهِ بما فيهِ كفاية، فأغنى ذَلِكَ عن إعادته هاهنا.
وذكرنا حكم اغتسال الرجل مع امرأته في ((باب: وضوء الرجل مع المرأة)) .

(1/247)


3 - بَابُ
الغُسْلِ بِالصَّاعِ ونَحْوه
خرج فيهِ ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:

(1/248)


251 - من رواية: عبد الصمد، عن شعبة، حدثني أبو بكر بن حفص، قالَ: سمعت أبا سلمة يقول: دخلت أنا وأخو عائشة على عائشة - رضي الله عنها - فسألها أخوها عن غسل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدعت بإناء نحو من صاع، فاغتسلت وأفاضت على رأسها وبيننا وبينها حجاب.
قالَ أبو عبد الله: وقال يزيد بن هارون وبهز والجدي، عن شعبة: قدر الصاع.
هذا الحديث، خرجه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون، عن شعبة - مختصراً - وفي حديثه: ((قدر صاع)) - كما أشار إليه البخاري.
وخرجه مسلم من طريق معاذ العنبري، عن شعبة، وفي حديثه: ((قدر
صاع)) - أيضاً.
ولفظه: عن أبي سلمة، قالَ: دخلت على عائشة أنا وأخوها من الرضاعة، فسألها عن غسل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الجنابة، فدعت بإناء قدر الصاع، فاغتسلت، وبيننا وبينها ستر، وأفرغت على رأسها ثلاثاً. قالَ:

(1/248)


وكان أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأخذن من رءوسهن حتى يكون كالوفرة.
والمقصود من إيراد هذا الحديث في هذا الباب: أن عائشة لما سئلت عن غسل النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعت بإناء قدر الصاع، فاغتسلت به - وفي رواية: ((نحو الصاع)) -، وهذا مما يدل على أن تقدير ماء الغسل ليس هوَ على وجه التحديد، بل على التقريب، وقد سبق التنبيه عليهِ.
قالَ القرطبي: ظاهر هذا الحديث أنهما - يعني: أبا سلمة وأخا عائشة - أدركا عملها في رأسها وأعلى جسدها، مما يحل لذي المحرم أن يطلع عليهِ من ذوات محارمه، وأبو سلمة ابن أخيها نسباً، والآخر أخوها من الرضاعة، وتحققا بالسماع كيفية غسل ما لم يشاهداه من سائر الجسد، ولولا ذَلِكَ لاكتفت بتعليمهما بالقول، ولم تحتج إلى ذَلِكَ الفعل.
قالَ: وإخباره عن كيفية شعور أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدل على رؤيته شعرها، وهذا لم يختلف في جوازه لذي المحرم، إلا ما يحكى عن ابن عباس، من كراهة ذَلِكَ. انتهى.
وقوله: ((إن أبا سلمة كانَ ابن أخيها نسباً)) ، غلط ظاهر؛ لأن أبا سلمة هوَ ابن عبد الرحمان بن أبي بكر هوَ القاسم.
والظاهر: أن أبا سلمة كانَ إذ ذاك صغيراً دون البلوغ، والآخر كانَ أخاها من الرضاعة.
وقد اختلف العلماء: فيما يباح للمحرم أن ينظره من محارمه من النساء:
هل هوَ ما يظهر غالباً في البيوت، كالرأس واليدين والذراعيين

(1/249)


والساقين والوجه والرقبة والشعر؟ أو ما ليس بعورة، وهو الوجه والكفان؟ أو الوجه فقط؟
أو لهُ النظر إلى ما عدا ما بين السرة والركبة؟
وفي ذَلِكَ خلاف مشهور في مذهب الإمام أحمد وغيره.
وكذلك اختلفوا: في الصبي المميز، إذا كانَ ذا شهوة: هل هوَ من كالمحرم؟
أو كالأجنبي البالغ؟
وفيه روايتان عن أحمد.
وقد روى هذا الحديث ابن وهب، عن أسامة بن زيد، أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي حدثه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمان، قالَ: دخلت على عائشة، فقلت لها: كيف غسل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الجنابة؟ فقالت: أدخل معك يا ابن أخي رجلاً من بني أبي القعيس - من بني أخيها من الرضاعة -، فأخبر أبا سلمة بما تصنع، فأخذت إناء فأكفأته ثلاث مرات على يدها، قبل أن تدخل يدها فيهِ، فقالَ: صبت على يدها من الإناء يا أبا سلمة ثلاث مرات قبل أن تدخل يدها. فقالت: صدق، ثم مضمضت واستنثرت، فقالَ: هي تمضمض وتستنثر. فقالت: صدق، ثم غسلت وجهها ثلاث مرات، ثُمَّ حفنت على رأسها ثلاث حفنات، ثم قالت بيدها في الإناء جميعاً، ثم نضحت على كتفيها ومنكبيها، كل ذَلِكَ تقول إذا أخبر ابن أبي القعيس ما تصنع: صدق.
خرجه بقي بن مخلد وابن جرير الطبري.
وهذا سياق غريب جداً.
وأسامة بن زيد الليثي، ليس بالقوي.
وهذه الرواية تدل على أن ابن أخيها من الرضاعة اطلع على غسلها، وهذا يتوجه على قول من أباح للمحرم أن ينظر إلى ما عدا ما بين السرة

(1/250)


والركبة، وهو قول ضعيف شاذ.
ورواية ((الصحيحين)) تخالف ذَلِكَ، وتدل على أن أبا سلمة وأخا عائشة كانا جميعاً من وراء حجاب.
وروى الإمام أحمد: ثنا إسماعيل - هوَ: ابن علية -: نا يونس، عن الحسن، قالَ: قالَ: رجل: قلت لعائشة: ما كانَ يقضي عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسله من الجنابة؟ قالَ: فدعت بإناء؛ حزره صاعاً بصاعكم هذا.
وهذا الإسناد فيهِ انقطاع.
وقوله: ((بصاعكم هذا)) ، ربما أشعر بأنه الصاع الذي زيد فيهِ في زمن بني أمية، كما سبق ذكر ذَلِكَ في ((باب: الوضوء بالمد)) .
هذا يشهد لحديث مجاهد، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يغتسل بنحو ثمانية أرطال - وفي رواية: أو تسعة، أو عشرة -، وقد سبق ذكره - أيضاً.
الحديث الثاني:

(1/251)


252 - خرجه من رواية: أبي إسحاق: نا أبو جعفر، أنه كانَ عندَ جابر بن
عبد الله، هوَ وأبوه، وعنده قوم، فسألوه عن الغسل، فقالَ: يكفيك صاع.
فقالَ رجل: ما يكفيني. فقالَ جابر: كانَ يكفي من هوَ أوفى منك شعراً وخيراً منك. ثم أمنا في ثوب واحد.

(1/251)


((أبو جعفر)) ، هوَ: محمد بن علي بن حسين.
وأبوه: علي بن حسين زين العابدين.
وفي هذا: دلالة على أن سادات أهل البيت كانوا يطلبون العلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما كانَ يطلبه غيرهم، فدل ذَلِكَ كذب ما تزعمه الشيعة، أنهم غير محتاجين إلى أخذ العلم عن غيرهم، وأنهم مختصون بعلم، يحتاج الناس كلهم إليه، ولا يحتاجون هم إلى أحد، وقد كذبهم في ذَلِكَ جعفر بن محمد وغيره من علماء أهل البيت - رضي الله عنهم -.
وخرج النسائي هذا الحديث، بهذا الإسناد، ولفظه: عن أبي جعفر، قالَ: تمارينا في الغسل عندَ جابر بن عبد الله، فقالَ جابر: يكفي من الغسل من الجنابة صاع من الماء. قلنا: ما يكفي صاع، ولا بد صاعان، فقالَ جابر: قد كانَ يكفي من كانَ خيراً منكم، وأكثر شعراً.
ومراده بذلك: رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد روي يزيد بن أبي زياد، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر، قالَ: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمد.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
وفي رواية لأحمد: قالَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يجزىء من الوضوء المد، ومن الجنابة
الصاع)) . فقالَ رجل: ما يكفيني. قالَ: قد كفى من هوَ خير منك وأكثر شعراً
[رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] .

(1/252)


وخرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكم من رواية حصين، عن سالم، عن جابر - نحوه.
ففي رواية سالم رفع أول الحديث، مع أنه روي أوله موقوفاً - أيضاً - من حديثه، كما في رواية أبي جعفر.
ولعل وقف أوله أشبه، وأما آخره فمرفوع.
وقد قيل: إن هذا الرجل الذي قالَ لجابر: ((ما يكفيني)) هوَ الحسن بن محمد ابن الحنفية، وهو أول من تكلم بالإرجاء.
وقيل: إنه كانَ يميل إلى بعض مذاهب الإباضية في كثرة ىاستعمال الماء في الطهارة.
والذي في ((صحيح مسلم)) من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، قالَ: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اغتسل من الجنابة صب على رأسه ثلاث حفنات من ماء. فقالَ لهُ الحسن بن محمد: إن شعري كثير؟ قالَ جابر. فقلت لهُ: يا بن أخي، كانَ شعر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر من شعرك، وأطيب.
فليس في هذه الرواية ذكر الصاع، بل ذكر الثلاث حفنات.
وقد خرجه البخاري من طريق معمر بن سام، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن جابر - بمعناه.
فقد تبين بهذا: أن الذي استقبل الثلاث حثيات في الغسل هوَ محمد بن الحسن ابن الحنيفة، وأما الذي استقبل الصاع، فيحتمل أنه هوَ، وأنه غيره والله أعلم.

(1/253)


الحديث الثالث:
قالَ البخاري:

(1/254)


253 - نا أبو نعيم: ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر بن زيد، عن ابن
عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد.
قالَ أبو عبد الله: كانَ ابن عيينة يقول - أخيراً -: ((عن ابن عباس، عن
ميمونة)) .
والصحيح: ما روى أبو نعيم.
هذا الذي ذكره البخاري - رحمه الله -: أن الصحيح ما رواه أبو نعيم عن ابن عيينة، بإسقاط ميمونة من هذا الإسناد فيهِ نظر، وقد خالفه أكثر الحفاظ في ذَلِكَ.
وخرجه مسلم عن قتيبة وأبي بكر بن أبي شيبة - جميعاً -، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس، قالَ: أخبرتني ميمونة، أنها كانت تغتسل هي ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إناء واحد.
وخرجه الترمذي عن ابن أبي عمر، عن سفيان كذلك، وعنده: ((من إناء واحد)) .
وكذلك رواه الإمامان: الشافعي وأحمد، عن ابن عيينة.

(1/254)


وذكر الإسماعيلي في ((صحيحه)) ممن رواه عن ابن عيينة كذلك: المقدمي، وابنا أبي شيبة، وعباس النرسي، وإسحاق الطالقاني، وأبو خيثمة، وسريج بن يونس، وابن منيع، والمخزومي، عبد الجبار، وابن البزاز، وأبوهمام، وأبو موسى الأنصاري، وابن وكيع، والأحمسي.
قالَ: وهكذا يقول ابن مهدي - أيضاً -، عن ابن عيينة.
قالَ: وهذا أولى؛ لأن ابن عباس لا يطلع على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأهله يغتسلان، فالحديث راجع إلى ميمونة.
وذكر الدارقطني في ((العلل)) : أن ابن عيينة رواه عن عمرو، وقال فيهِ:
((عن ميمونة)) ، ولم يذكر أن ابن عيينة اختلف عليهِ في ذَلِكَ.
وهذا كله مما يبين أن رواية أبي نعيم التي صححها البخاري وهم.
وإنما ذكر الدارقطني: أن ابن جريج خالف ابن عيينة، فرواه عن عمرو، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يغتسل بفضل ميمونة.
قالَ: وقول ابن جريج أشبه.
كذا قالَ؛ وحديث ابن جريج هذا خرجه مسلم من طريقه، قالَ: أخبرني عمرو بن دينار، قالَ: أكثر علمي، والذي يخطر على بالي أن ابا الشعثاء أخبرني، أن ابن عباس أخبره: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يغتسل

(1/255)


بفضل ميمونة.
وهذا لا يرجح على رواية ابن عيينة؛ لأن ذكر أبي الشعثاء في إسناده مشكوك
فيهِ، ولو قدر أنه محفوظ فلفظ الحديث مخالف للفظ حديث ابن عيينة؛ فإن حديث ابن عيينة فيهِ اغتسالهما من إناء واحد، وحديث ابن جريج فيهِ اغتساله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفضل ميمونة، وهما حديثان مختلفان.
وهذا الحديث لا يدخل في هذا الباب، إنما يدخل في ((باب: غسل الرجل مع امرأته)) ، وقد بوب البخاري على ذَلِكَ فيما سبق، وخرج فيهِ حديث عائشة، وخرج - أيضا - فيهِ حديث عائشة من وجه آخر عنها، يأتي، وحديث أنس.
وخرج حديث أم سلمة في ذَلِكَ في ((كتاب: الحيض)) .
ولكن حديث عائشة المتقدم، فيهِ أنهما كانا يغتسلان من إناء واحد، من قدح، يقال لهُ: الفرق، وتقدم تفسير ((الفرق)) ، وأنه ستة عشر رطلاً.
وهذا يدل على جواز الزيادة على الصاع في الغسل.
وقد سبق وحه الجمع بين هذا الحديث، وحديث الغسل بالصاع.

(1/256)


4 - بَابُ
مَنْ أفَاضَ عَلَى رَأسِهِ ثَلاثَاً
خرج فيهِ ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:

(1/257)


254 - من رواية: أبي إسحاق: حدثني سليمان بن صرد، قالَ: حدثني جبير بن مطعم، قالَ: قالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثاً)) - وأشار بيديه كلتيهما.
وخرجه مسلم، ولفظه: تماروا في الغسل عندَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالَ بعض القوم: أما أنا، فإني أغسل كذا وكذا، فقالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أما أنا، فإني أفيض على رأسي ثلاث أكف)) .
وفي لفظ آخر - خرجه الإمام أحمد -: فقالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أما أنا، فآخذ ملء كفي من الماء ثلاثاً، فأصب على رأسي، ثم أفيض بعد على سائر جسدي)) .
وقد أسقط بعضهم من إسناد هذا الحديث: ((جبير بن مطعم)) ، وجعله من مسند سليمان بن صرد.
وزاد بعضهم في إسناده: ((نافع بن جبير بن مطعم)) ، بين سليمان وجبير.
وكلاهما وهم -: ذكره الدارقطني وغيره.

(1/257)


الحديث الثاني:

(1/258)


255 - من طريق: شعبة، عن مخول بن راشد، عن محمد بن علي، عن جابر، قالَ: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفرغ على رأسه ثلاثاً.
الحديث الثالث:
قالَ البخاري:

(1/258)


256 - نا أبو نعيم: نا معمر بن يحيى بن سام: حدثني أبو جعفر: قالَ لي جابر: أتاني ابن عمك - يعرض بالحسن بن محمد ابن الحنفية -، قالَ: كيف الغسل من
الجنابة؟ فقلت: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأخذ ثلاث أكف، فيفيضها على رأسه، ثم يفيض على سائر جسده، فقالَ لي الحسن: إني رجل كثير الشعر، فقلت: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر منك شعراً.
وقد خرجه مسلم من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، بمعناه، وقد تقدم لفظه.
وخرج مسلم - أيضاً - من حديث أبي سفيان، عن جابر، أن وفد ثقيف سألوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: إن أرضنا أرض باردة، فكيف بالغسل؟ فقالَ: ((أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثاً)) .
وقد سبق عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كانَ يصب على رأسه ثلاثاً، من حديث عائشة وميمونة - أيضاً.

(1/258)


وقد روي، أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم ألأيسر.
خرجه البخاري من حديث القاسم، عن عائشة، قالَت: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفيه، فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، فقالَ بهما على وسط رأسه.
وخرجه مسلم، وعنده: فأخذ بكفيه، فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه، فقالَ بهما على رأسه.
والظاهر: - والله أعلم -: أنه كانَ يعم رأسه بكل مرة، ولكن يبدأ في الأولى بجهة اليمين، وفي الثانية بجهة اليسار، ثم يصب الثالثة على الوسطى.
وقد زعم بعضهم، أنه لم يكنَ يعم رأسه بكل مرة، بل كانَ يفرغ واحدة على شقه الأيمن، وواحدة على شقه الأيسر، ويجعل الثالثة للوسط من غير تعميم للرأس بكل واحدة.
هكذا ذكره القرطبي وغيره ممن لا يستحب التثليث في الغسل، وهو خلاف الظاهر.
وقد روي من حديث عمر - مرفوعاً -، أنه يدلك رأسه في كل مرة، وقد ذكرناه فيما تقدم.
وقد ذكره البخاري فيما بعد: ((باب: من بدأ بشق رأسه الأيمن في الغسل)) .
وخرج فيهِ حديث صفية بنت شيبة، عن عائشة، قالت: كنا إذا

(1/259)


أصاب أحدنا جنابة أخذت بيدها ثلاثاً فوق رأسها، ثم تأخذ بيدها على شقها الأيمن، وبيدها الأخرى على شقها الأيسر.
وخرجه أبو داود، ولفظه: كانت إحدانا إذا أصابتها جنابة أخذت ثلاث حفنات هكذا - تعني: بكفيها جميعاً -، فصب على رأسها، وأخذت بيد واحدة فتصبها على هذا الشق، والأخرى على الشق الآخر.
وظاهر هذا: أن المرأة يستحب لها بعد أن تصب على رأسها ثلاثاً أن تأخذ حفنة بيدها، فتصبها على شق رأسها الأيمن، ثم تأخذ حفنة أخرى فتصبها على شقه الأيسر، فيصير على رأسها خمس حفنات.
وقد روي هذا صريحاً عن عائشة من وجه آخر، من رواية صدقة بن سعيد الحنفي: نا جميع بن عمير - أحد بني تيم الله بن ثعلبة -، قالَ: دخلت مع أمي وخالتي على عائشة، فسألتها إحداهما: كيف كنتم تصنعون عندَ الغسل؟ فقالت عائشة: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض على رأسه ثلاث مرات، ونحن نفيض على رؤسنا خمساً من أجل الضفر.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
وجميع، قالَ البخاري: فيهِ نظر. [و] قالَ أبو حاتم الرازي: هوَ من عتق الشيعة، محله الصدق، صالح الحديث. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه

(1/260)


لا يتابعه عليهِ أحد.
وذكره ابن حبان في ((كتاب الثقات)) ، ثم ذكره في ((كتاب الضعفاء)) ، ونسبه إلى الكذب.
وصدقة بن سعيد، قالَ البخاري: عنده عجائب. وقال أبو حاتم: شيخ، وقال الساجي:
ليس بشيء. وذكره ابن حبان في ((الثقات)) .
وقد تابعه العلاء بن صالح، فرواه عن جميع، ولكن قالَ: جميع بن كثير، عن عائشة، فوقفه ولم يرفعه.
خرجه عنه أبو نعيم الفضل بن دكين في ((كتاب الصلاة)) .
وقال الدارقطني: المرفوع أشبه.
وقد روي ما يخالف هذا، وأن المرأة تفرغ على رأسها ثلاثاً من غير زيادة:
ففي ((صحيح مسلم)) ، عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ فقالَ: ((لا، إنما يكفيك ن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضن عليك الماء فتطهرين)) .
وفيه - أيضاً -، عن أبي الزبير، عن عبيد بن عمير، قالَ: بلغ عائشة أن عبد الله بن عمرو بن العاص يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤسهن، فقالت: يا عجباً لابن عمرو هذا! يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤسهن! أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن؟!
لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد، وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث

(1/261)


إفراغات.
وخرجه النسائي، وعنده: فأفيض على رأسي ثلاث إفراغات، ولا أنقض لي شعراً.
وفي ((سنن أبي داود)) ، عن ثوبان، أنهم استفتوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الغسل من الجنابة، فقالَ: ((أما الرجل فلينشر رأسه، فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه، لتغرف على رأسها ثلاث غرفات بكفيها)) .
وأكثر العلماء على أن المرأة لا تنقض رأسها لغسلها من الجنابة، وروي عن طائفة يسيرة، أنها تنقضه، منهم: عبد الله بن عمرو بن العاص، والنخعي، وأبو بكر بن أبي شيبة.
وهذا إذا وصل الماء إلى بواطن الشعر، فإن لم يصل إلى دواخله بدون النقض ففي وجوب نقضه؛ لغسل باطن الشعر قولان:
أحدهما: أنه واجب، وهو قول حماد ومالك والشافعي وأكثر أصحابنا، وهو رواية عن أبي حنيفة.
وروي عن ابن عباس، قالَ: لو اغتسل إنسان من الجنابة، فبقيت شعرة لم يصبها الماء، لم يزل جنباً حتى يصيبها الماء.
خرجه أبو نعيم الفضل: ثنا مندل، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد ابن جبير، عنه.
ومندل، فيهِ ضعف.
والثاني: لا يجب، وحكي عن مالك، وأبي حنيفة، والخرقي من أصحابنا، ورجحه صاحب ((المغني)) منهم.
وهؤلاء حعلوا الشعر كالمنفصل

(1/262)


عن البدن، ولم يوجبوا سوى إيصال الماء إلى بشرة الرأس خاصة.
وفرقت طائفة بين الرجال والنساء، فأوجبوا النقض على الرجل دون المرأة؛ لحديث ثوبان -: حكاه القرطبي وغيره.
وهذا هوَ الصحيح من مذهب أبي حنيفة، وأن الرجل يجب عليهِ نقض شعره بخلاف المرأة.
لكن قالوا: إن كانَ شعر المرأة غير مضفور وجب غسله، كما يجب غسل شعر لحية الرجل.
ونقل مهنا، أحمد، أن المرأة في غسل الجنابة كالرجل.
وظاهر هذا: يدل على أن حكمهما في نقض الشعر سواء، وفي عدد حثيات المرأة على رأسها كالرجال سواء، لا تزيد على ثلاث.

(1/263)


5 - بَابُ
الغُسْلِ مَرَّةً وَاحدَةً

(1/264)


257 - نا موسى بن إسماعيل: نا عبد الواحد، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، قالَ: قالت ميمونة: وضعت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثاً، ثُمَّ أفرغ على شماله، فغسل مذاكيره، ثم مسح [يده] بالأرض واستنشق، وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول من مكانه، فغسل قدميه.
مراده بهذا الحديث في هذا الباب: أن ميمونة حكت غسل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم تذكر في غسل شيء من أعضائه عدداً؛ إلا في غسل يديه في ابتداء الغسل - مع شك الراوي: هل كانَ غسلهما مرتين أو ثلاثاً، وهذا الشك هو من الأعمش كما سيأتي بيانه في رواية أخرى، إن شاء الله تعالى -، واطلقت الغسل في الباقي، فظاهره: أنه لم يكرر غسل شيء من جسده بعد ذَلِكَ، لا في الوضوء ولا في الغسل بعده.
ولكن قد خرج البخاري هذا الحديث - فيما بعد -، عن محمد بن محبوب، عن عبد الواحد، عن الأعمش، به، وقال فيهِ - بعد غسل وجهه ويديه -: ((ثم غسل رأسه ثلاثاً، ثم أفرغ على جسده)) .

(1/264)


وخرجه في مواضع أخر، من طرق أخرى، عن الأعمش، وذكر فيها: غسل رأسه - ولم يذكر عدداً.
وقد تقدم: أن وكيعاً رواه عن الأعمش، وذكر فيهِ: غسل وجهه ويديه ثلاثاً، وأفاض على رأسه ثلاثاً.
وخرجه عنه الإمام أحمد.
وقد روى مسلم في ((صحيحه)) من حديث عيسى بن يونس، عن الأعمش في هذا الحديث، أنه أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه.
وعلى هذه الروايات: إنما ينبغي أن يدخل هذا الحديث في الباب الماضي.
وقد أختلف العلماء في استحباب غسل البدن كله في الغسل من الجنابة ثلاثاً:
فمنهم: من استحبه، وهو قول إسحاق بن راهويه وكثير من أصحابنا وأصحاب الشافعي وأبي حنيفة.
وروى وكيع في ((كتابه)) ، عن أبي مكين، عن أبي صالح مولى أم هانيء، عن أم هانىء، قالت: إذا اغتسلت من الجنابة فاغسل كل عضو ثلاثاً.
أبو صالح، هوَ باذان، وهو ضعيف جداً.
ورواه سمويه الحافظ: نا أحمد بن يحيى بن زيد بن كيسان: نا يزيد بن ذريع، عن أبي مكين، عن أبي صالح: حدثتني أم هانيء، قالت: قالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا أغتسل أحدكم فليغسل كل عضو منه ثلاث

(1/265)


مرات)) - يعني: الجنابة.
ورواية وكيع للموقوف أصح.
وروى الفضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد، أن رجلاً سأله عن الغسل من الجنابة، فقالَ: ثلاثاً. فقالَ الرجل: إن شعري كثير، فقالَ: رسول الله كانَ أكثر شعراً منك وأطيب.
خرجه الإمام أحمد وابن ماجه.
وعطية، هوَ العوفي، فيهِ ضعف مشهور.
[ولعله أراد الثلاث في] غسل الرأس؛ ولهذا قالَ لهُ السائل: إن شعري كثير.
وقد خرجه أبو نعيم الفضل بن دكين في ((كتاب الصلاة)) لهُ، عن فضيل ابن مرزوق، عن عطية، قالَ: سأل رجل أبا سعيد الخدري: كم يكفي لغسل رأسه؟ قالَ: ثلاث حفنات - وجمع يديه - وذكر بقية الحديث.
ومما يستدل به تكرار غسل الجسد في غسل الجنابة: ما خرجه أبو داود، من رواية حماد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، في صفة غسل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: وأفرغ على رأسه ثلاثاً،، فإذا فضلت فضلة صبها عليهِ.
والمراد: بعد الفراغ من غسل بقية جسده، وإلا لم يكن لقولها: ((فإذا فضلت فضلة)) معنى.
وروى وهيب هذا الحديث، عن هشام، وقال فيهِ: ((ثم أفاض الماء على
جسده، فإن بقي في الإناء شيء أفرغه عليهِ)) .

(1/266)


ورواه - أيضاً - مبارك بن فضالة، عن هشام - بنحوه.
خرجهما ابن جرير الطبري.
وقالت طائفة: لا يستحب تكرار غسل الجسد في غسل الجنابة، وهو ظاهر كلام أحمد والخرقي، وصرح به المارودي من الشافعية، وأصحاب مالك.
وحكى الإمام أحمد، أن ابن عباس كانَ يغتسل من الجنابة سبع مرار.
وقال: هوَ من حديث شعبة - يعني: مولى ابن عباس -، مشهور عنه.
قالَ: وأما حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه كانَ يحفن على رأسه ثلاثاً.
وهذا الحديث خرجه أبو داود من رواية ابن أبي ذئب، عن شعبة - وهو: مولى ابن عباس -، أن ابن عباس كانَ إذا اغتسل من الجنابة يفرغ بيده اليمنى على يده اليسرى سبع مرات، ثم يغسل فرجه، فنسي مرة كم أفرغ، فسألني: [كم أفرغت] ؟ قلت: لا أدري، فقالَ: لا أم لك، وما يمنعك أن تدري؟ ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض على جلده الماء، ويقول: هكذا كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتطهر.
وليس في هذه الرواية التسبيع في سوى غسل يده اليسرى قبل الاستنجاء.
ويتحمل أن المراد به: التسبيع في غسل الفرج خاصة، وهو الأظهر.

(1/267)


وشعبة مولى ابن عباس، قالَ مالك: ليس بثقة، وقال - مرة -: لا يشبه القراء، وقال أحمد ويحيى: لابأس به، وقال يحيى - مرة -: لايكتب حديثه، وقال النسائي والجوزجاني: ليس بالقوي في الحديث، وقال ابن عدي: لم أر له حديثاً منكراً جداً فأحكم لهُ بالضعف، وأرجو أنه لا بأس به.
ونقل حرب عن إسحاق، أنه قالَ في غسل الجنابة: يغسل فرجه ثلاثاً، وإن احتاج إلى الاستنجاء غسل مقعدته ثلاثاً إلى السبع، ولا يزيد على ذَلِكَ، إلا أن لا ينقي.
وظاهر هذه الأحاديث: يدل على أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اكتفى بإفاضة الماء على جسده من غير ذَلِكَ.
وجمهور العلماء على أن التدلك في الطهارة غير واجب، خلافاً لمالك في المشهور عنه.

(1/268)


6 - بَابُ
مَنْ بَدَأ بِالحِلابِ أو الطَّيب عنْدَ الغُسْلِ

(1/269)


258 - حدثني محمد بن المثنى: نا أبو عاصم، عن حنظلة، عن القاسم، عن عائشة، قالت: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفيه، فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، فقالَ بهما على وسط رأسه.
((حنظلة)) ، هوَ: ابن أبي سفيان.
وظاهر تبويب البخاري على هذا الحديث: يدل على أنه فهم منه أن الحلاب نوع من الطيب، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يستعمل شيئاً من الطيب في رأسه في غسل الجنابة.
وقد أنكر العلماء ذَلِكَ على البخاري - رحمه الله -، ونسبوه فيهِ إلى الوهم، منهم: الخطابي والإسماعيلي وغير واحد.
وقالوا: إنما الحلاب إناء يحلب فيهِ، ويقال لهُ: المحلب - أيضاً.
والمراد: أنه كانَ يغتسل من مد نحو الإناء الذي يحلب فيهِ اللبن من المواشي، وهو معنى الحديث الآخر: أنه نحو الصاع.
ويشهد لذلك: أنه روي في بعض طرق هذا الحديث، أن القاسم سئل: كم يكفي من غسل الجنابة، فحدث بهذه

(1/269)


الحديث. وإنما كانَ السؤال عن قدر ماء الغسل، لا عن الطيب عندَ الغسل.
ذكره الإسماعيلي في ((صحيحه)) .
وذكر - أيضاً - حديث ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرب إليه حلاب فيهِ لبن، فشرب منه - يعني: يوم عرفة.
وزعم بعضهم: أنه ((الجلاب)) - بالجيم -، وأن المراد به: ماء الورد.
وهو أيضاً - تصحيف، وخطأ ممن لا يعرف الحديث.
وزعم آخرون: أن ((الحلاب)) - بالحاء - وعاء للطيب. ولا أصل لذلك.
وخرج أبو بكر عبد العزيز بن جعفر الفقيه في ((كتاب الشافي)) ، في هذا الحديث، من طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد، عن حنظلة، عن القاسم، عن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يغتسل في حلاب قدر هذا - وأرانا أبو عاصم قدر الحلاب بيده، فإذا هوَ كقدر كوز يسع ثمانية أرطال -، ثم يصب على شق رأسه الأيسر، ثم يأخذ بكفيه فيصب وسط رأسه.

(1/270)


7 - بَابُ
الْمَضْمَضَةِ وَالاِستْنْشاقِ في الْجَنَابةِ

(1/271)


259 - حدثنا عمر بن حفص: ثنا أبي: حدثني الأعمش: حدثني سالم، عن كريب، عن ابن عباس، قالَ: ثنا ميمونة، قالت: صببت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسلاً، فأفرغ يمينه على يساره فغسلهما، ثم غسل فرجه، ثم قالَ بيده على الأرض فمسحها بالتراب، ثم غسلها، ثم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه، وأفاض على رأسه، ثم تنحى فغسل قدميه، ثم أتي بمنديل، فلم ينفض بها.
المضمضمة والاستنشاق في غسل الجنابة، مذكور في حديث ميمونة، وفي حديث عائشة - أيضاً -، كما سبق -، أنه مضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً.
وقد أشرنا - فيما تقدم - إلى الاختلاف في وجوب المضمضة [. . .] والاستنشاق في غسل الجنابة.
فمن أوجبهما في الوضوء، أو أوجب الاستنشاق وحده في الوضوء، فإيجابه لهُ في غسل الجنابة أولى، إلا رواية رويت عن الإمام أحمد، أنها في الوضوء أوكد؛ [. . . ..] الأمر بالاستنشاق في الوضوء، دون الغسل.

(1/271)


وهذا؛ بعيد؛ فإن الغسل [. . .] غسل مواضع الوضوء، وزيادة، فما وجب في الوضوء، فهوَ واجب في الغسل بطريق الأولى.
وأما من لم يوجب المضمضة والاستنشاق في الوضوء، فاختلفوا في إيجابهما في غسل الجنابة:
فأوجبهما الكوفيون، منهم: الشعبي والنخعي وأبو حنيفة وأصحابه وسفيان.
وقال مالك والشافعي: هما مسنونان في الوضوء والغسل سواء.
واستدل من أوجبهما في الغسل بأن غسل الجنابة يجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف، مع استتاره بالشعر، فإيجاب إيصال الماء فيهِ إلى باطن الفم والأنف، مع ظهوره، أولى بالوجوب.
وروى وكيع، عن أبي حنيفة، عن عثمان بن راشد، عن عائشة بنت عجرد، قالت: سألت ابن عباس عن الجنب يغتسل، فينسى المضمضة والاستنشاق حتى يصلي؟ قالَ: يتمضمض ويستنشق ويعيد الصلاة.
وخرجه الدارقطني من طريق سفيان، عن عثمان، عن عائشة، عن ابن عباس، ... قالَ: يعيد في الجنابة، ولا يعيد في الوضوء.
وعائشة بنت عجرد، قيل: إنها غير معروفة.

(1/272)


وأنكر الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة التفرقة بين الغسل والوضوء في المضمضة والاستنشاق.
وقالوا: ما وجب غسله من الوجه في الوضوء، وجب في الغسل، وما لا فلا.
وفرقوا بين باطن الفم، والأنف، وما تحت الشعور، بأن ما تحت الشعور ستره
[طارىء] ، بخلاف باطن الفم والأنف، فإن سترهما بأصل الخلقة.
وأما غسل باطن العين في الجنابة، فكان ابن عمر يفعله.
وفي وجوبه عن أحمد روايتان، وأصحهما: لا يجب؛ لمشقته، وخوف الضرر
منه.

(1/273)


8 - بَابُ
مَسْحِ الْيَدِ بِالتُّرَابِ ليكُونَ أنقَى

(1/274)


260 - ثنا عبد الله بن الزبير الحميدي: ثنا سفيان: ثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، ثم دلك بها على الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ وضوءه للصلاة، فلما فرغ من غسله غسل رجليه.
هذا الحديث قد سبق بألفاظ أخر.
وقد خرجه في الباب الماضي، ولفظه: ((ثم غسل فرجه، ثم قالَ بيده على الأرض، فمسحها بالتراب)) .
وقد خرجه - فيما بعد - من حديث أبي عوانة، عن الأعمش وقال في حديثه: ((ثم دلك يده بالأرض، أو بالحائط)) .
وخرجه - أيضاً - من رواية الفضل بن موسى، عن الأعمش، وفي حديثه: ((ثم ضرب يده بالأرض - أو الحائط - مرتين أو ثلاثاً)) .
وخرجه مسلم من حديث عيسى بن يونس، عن الأعمش، وعنده: ((ثم ضرب بشماله الأرض، فدلكها دلكاً شديداً)) .
فقد تضمن هذا الحديث: أن المستنجي يدلك يده بالتراب، ثم يغسلها.

(1/274)


وقد روي مثل هذا في حديث عائشة - أيضاً.
خرجه أبو داود من حديث الأسود، عنها.
وخرج - أيضاً - من رواية الشعبي، قالَ: قالت عائشة: لئن شئتم لأرينكم أثر يد رسول الله في الحائط، حيث كانَ يغتسل من الجنابة.
وفي رواية للنسائي، من حديث عطاء بن السائب، عن أبي سلمة، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسل يده اليسرى بعد غسل فرجه.
لكن شك راويها فيها.
وقد روي نحو ذَلِكَ في الاستنجاء قبل الوضوء في غير غسل الجنابة - أيضاً - وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استنجى بالماء ثم دلك يده بالأرض.
وقد خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث إبراهيم بن جرير البجلي، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة.
وخرجه ابن ماجه - أيضاً - والنسائي من حديث إبراهيم بن جرير، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال النسائي: هوَ أشبه بالصواب.
وإبراهيم بن جرير، لم يسمع من أبيه شيئاً -: قاله ابن معين وغيره.
وهذا السياق الذي خرجه البخاري في هذا الباب مختصراً، والسياق الذي خرجه في هذا الباب الذي قبله أتم منه، وفيه: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسل يديه،

(1/275)


ثم غسل فرجه، ثم مسح يده بالتراب، ثم غسلها.
فاقتضى ذَلِكَ: استحباب غسل اليدين قبل الاستنجاء، ثم غسل اليد اليسرى
بعد.
وقال الثوري وإسحاق: إذا اغتسل من الجنابة غسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل
فرجه، ثم دلك يده بالأرض، ثم يديه ثلاثاً، ثم يتوضأ.
وليس هذا في حديث ميمونة، ولا في حديث عائشة، إلا في رواية الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة، وعن عمرو بن سعد، عن نافع، عن عمر، وقد سبق لفظها، وهي مروية بالمعنى كما تقدم.
وروي عن ابن عمر من قوله، في صفة غسل الجنابة، أنه يغسل يديه ثلاثاً، ثم يغسل فرجه، ثم يضرب بيده على الحائط، ثم يغسلها، ثم يتوضأ.
خرجه إبراهيم بن مسلم في ((كتاب الطهور)) .
ونص الإمام أحمد: على أن المستنجي يغسل يديه قبل الاستنجاء، ثم إذا
استنجى، فإنه يغسل يديه ويتوضأ.
ولعل هذا لا يحتاج إليه قبل الاستنجاء إذا كانَ يريد أن يدخل يديه في الإناء، ليصب على فرجه منه، فإذا كانَ الماء في مثل الإداوة ونحوها يصب منه على فرجه، فلا حاجة لهُ إلى غسله يديه قبل الاستنجاء.
ونص أحمد في إعادة غسل اليدين ثلاثاً بعد الاستنجاء إنما هوَ في الوضوء من غير الجنابة، فإن الوضوء من الحدث الأصغر ينتقض بمس الفرج، فلذلك لا [. . .] فيهِ على غسل اليدين قبله، وأما غسل الجنابة، فإذا

(1/276)


غسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل فرجه لم يحتج إلى إعادة غسل يديه بعده؛ لأن مس الفرج لا يؤثر في غسل الجنابة، فإنه من حين نوى وسمى وغسل كفيه ثلاثاً [قد بدأ] غسل الجنابة، ولذلك لا يحتاج إلى إعادة غسل فرجه عندَ غسل جسده، بل يكتفى بغسله أولاً.
وقد نقل جعفر بن محمد، عن أحمد، في الجنب يتوضأ قبل أن ينام، ثم يقوم، يغتسل ولا يتوضأ، فرأى أن ذَلِكَ يجزئه.
ولعل مراده: يجزئه غسل أعضاء الوضوء أولاً، عن غسلها في الجنابة ثانياً.
ويحتمل أن مراده: أن الغسل وحده يجزىء بلا وضوء، ويرتفع به الحدثان.
وقد روي عن ابن سيرين، في الجنب يحدث بين ظهراني غسله من االجنابة.
قالَ: الغسل من الجنابة، والوضوء من الحدث.
وعن الحسن، في الجنب يغسل بعض جسده، ثم يبول؟ قالَ: يغسل ما بقي من جسده.
خرجه الخلال في ((الجامع)) من طريق حنبل.
قالَ حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: يبدأ فيتوضأ وضوءه للصلاة ثم يغتسل؛ لأن الغسل ياتي على طهارة الوضوء، وهذا حدث يوجب الوضوء.
وظاهر كلام أحمد وابن سيرين: أنه يعيد الوضوء والغسل؛ لياتي بسنة الغسل بكاملها، وتقديم الوضوء على الغسل، وليس ذَلِكَ على الوجوب.
وروي - أيضاً - عن ابن عمر، بإسناد فيهِ ضعف، أنه يعيد الغسل.
خرجه ابن أبي شيبة.

(1/277)


وأما الحسن، فمراده: أن ما مضى من الغسل لم يبطل بالبول، وأنه إذا أكمله فقد ارتفع حدث الجنابة، ولكن لا يصلي حتى يتوضأ.
وكذا قالَ سفيان الثوري: يتم غسله، ثم يعيد الوضوء.
وحكى ابن المنذر مثل هذا عن عطاء وعمرو بن دينار.
قالَ: وهو يشبه مذهب الشافعي.
وحكى عن الحسن، أنه يستأنف الغسل.
وهذا خلاف ما رواه الخلال، بإسناده عنه.
وما ذكره أنه يشبه مذهب الشافعي، قد قيل: إن الشافعي نص عليهِ في
((الأم)) .
ولا ينبغي أن يكون في هذا خلاف، وإنما أمر من أمر بإعادة الغسل استحباباً؛ ليقع الوضوء قبل الغسل، كما استحب أحمد للحائض إذا اغتسلت بالماء وحده، ثم وجدت السدر، أن تعيد الغسل بماء وسدر؛ لتاتي بالغسل على الوجه الكامل.
فإن قيل: هذا يلزم منه استحباب تجديد الغسل.
قلنا: إنما أعيد لنقص وقع في الأول، فاستحب إعادته على وجه الكمال.
قالَ أصحابنا: وإذا غسل بعض جسده، ناوياً به رفع الحدثين، ارتفع حدثهما، فإذا انتقض وضوؤه، وأعاده لزمه الترتيب والموالاة فيما أرتفع عنه حدث الجنابة خاصة، وما لم يرتفع عنه حدث الجنابة من أعضاء الوضوء، لا يلزم فيهِ ترتيب ولا موالاة، بل يرتفع حدثه تبعاً لحدث الجنابة.

(1/278)


9 - بَابُ
هَلْ يُدْخِلُ الْجُنُبُ يَدَهُ في الإنَاء قَبْل أنْ يَغْسِلَهَا
إذا لَمْ يَكُنْ عَلَى يَدهِ قَذَرٌ غَيْر الجَنَابةِ؟
وأدخل ابن عمر والبراء بن عازب يده في الطهور، ولم يغسلها، ثم توضأ.
ولم ير ابن عمر وابن عباس بأساً بما ينتضح من غسل الجنابة.
اشار البخاري - هاهنا - إلى مسألتين:
إحداهما:
أن الجنب إذا أدخل يده في الماء قبل غسلها، وليس على يده نجاسة، فإنه لا ينجس الماء، فإن المؤمن لا ينجس.
وقد ذكر، عن ابن عمر والبراء بن عازب، أنهما أدخلا أيديهما في الطهور، من غير غسل، ثم توضأ.
وهذا في الوضوء.
وقد سبق ذكره في الكلام على حديث عثمان بن عفان في صفة الوضوء، وعلى الكلام على حديث: ((إذا استيقظ أحدكم من النوم فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها)) .
وروى وكيع، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، قالَ: رأيت البراء بن عازب بال، فأدخل يده في مطهرة المسجد - يعني: قبل أن يغسلها.
وعن سفيان، عن جابر الجعفي، عن الشعبي، قالَ: كانَ

(1/279)


الرجال على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخلون أيديهم في الإناء وهم جنب، والنساء وهن حيض، لا يرون بذلك بأساً.
ورخص فيهِ ابن المسيب وغيره.
واختلف كلام أحمد في ذَلِكَ:
فقالَ مرة، في الجنب والحائض يغمس يده في الإناء إذا كانَ نظيفتين لا بأس به ونقل عنه ابنه عبد الله في الجنب يدخل يده في الإناء، ولم يمسها أذى، ولم ينم؟ قالَ: إن لم ينم فأرجوا ان لا يكون به باس، وإن نام غسلها.
يشير إلى أنه إن كانَ قائما من النوم، فإنه لا يرخص لهُ في ترك غسلها، فجعل القائم من النوم أشد من الجنب.
ونقل عنه كراهة ذَلِكَ:
نقل عنه صالح وابن منصور، في الجنب والحائض، يغمس يده في الإناء؟ قالَ:
كنت لا أرى به بأساً، ثم حدثت عن شعبة، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، فكأني تهيبته.
ونقل عنه صالح - أيضاً - في جنب أدخل يده في الماء، ينظر حره من برده: إن كانَ أصبعاً رجوت أن لا يكون به بأس، وإن كانَ اليد أجمع فكأنه كرهه.
ونقل عنه صالح - أيضاً - في جنب يدخل الحمام، ليس معه أحد، ولا ماء يصب به على يده؟ ترى لهُ أن يأخذ بفمه؟ قالَ: لا، يده وفمه واحد.
وروى رقية، عن الزبيدي، عن علي بن أبي طلحة، في الجنب يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها؟ قالَ: يهريق أعلاه.
وخرج أبو عبيد

(1/280)


بإسناده، عن النخعي، قالَ: إذا غمس الجنب يده في إناء صغير [فأهرقه] ، وإن كانَ كبيراً فلا بأس به.
وهذا قد يرجع إلى القول بنجاسة بدن الجنب، وهو قول شاذ، ترده السنة الصحيحة.
وقد روي عن أحمد، في جنب اغتسل في ماء يسير [. . .] .
ولم ينقل عنه في المحدث يتوضأ في ماء يسير، وإن كانَ أصحابنا قد سووا بينهما.
وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ يكره فضل الحائض والجنب.
وروى أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ لا يرى بسؤر المرأة بأساً، إلا أن تكون حائضاً أو جنباً.
وروي عن معاذة، عن عائشة، أنها كانت تكره سؤر الحائض، وأن يتوضأ به.
وروي عن أحمد، كراهة سؤر الحائض إذا [. .] بالماء.
وفي ((مسند بقي بن مخلد)) من رواية سويد بن عبد العزيز الدمشقي، عن
نوح بن ذكوان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: وضعت
لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماء، وأدخلت يدي فيهِ، فلم

(1/281)


يتوضا منه.
وهذا منكر، لا يصح.
وسويد ونوح، ضعيفان.
فأما إن أدخل الجنب يده في الماء، بعد أن نوى الغسل، فاعترف منه، وكان الماء قليلاً، فإن نوى الاغتراف من الماء لم يضره، وإن نوى غسل يده من الجنابة في الماء صار الماء مستعملاً.
وإن أطلق النية، ففيه قولان لأصحابنا وغيرهم من الفقهاء، أشهرهما - عندهم -: أنه يصير مستعملاً، وهو قول الشافعية.
والصحيح: أنه لا يصير بذلك مستعملاً.
وعليه يدل حديث عائشة وميمونة، واغتسال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأزواجه من إناء واحد، فإنه لو كانَ يصير الماء مستعملاً بغمس اليد في الماء، بدون نية الاغتراف، لوجب بيانه للأمة بياناً عاماً، فإن هذا مما تدعو الضرورة إليه، فإن عامة الناس لا يستحضرون نية الاغتراف، وأكثرهم لا يعلمون حكم ذَلِكَ، بل قد روي عن النبي واصحابه ما يدل على خلاف ذَلِكَ، وأن الماء لا يجنب باغتراف الجنب منه.
وروى سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قالَ: اغتسل بعض أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جفنة، فأراد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتوضأ، فقالت: يا رسول الله، إني كنت جنباً، قالَ: ((إن الماء لا يجنب)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي - وقال: حسن صحيح -، وابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكم وصححه.

(1/282)


وأعله الإمام أحمد، بأنه روي عنى عكرمة - مرسلاً.
وقد صح عن ابن عباس، أنه سئل عن الجنب يغتسل من ماء الحمام فقالَ: الماء لا يجنب.
وصح عنه، أنه قالَ: الماء لا يجنب.
وكذلك صح عن عائشة من رواية شعبة، عن يزيد الرشك، عن معاذة، قالت: سألت عائشة عن الغسل من الجنابة؟ فقالت: إن الماء لا ينجسه شيء؛ كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد.
وخرجه ابن خزيمة في ((صحيحة)) ، ولفظه: إن عائشة قالت: الماء طهور، لا يجنب الماء شيء؛ لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإناء الواحد. قالت: أبدؤه فأفرغ على يديه، من قبل أن يغمسهما في الإناء.
وروى المقدام بن شريج، عن أبيه، أنه سأل عائشة عن غسل الجنابة؟

(1/283)


فقالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد. قالَ شريح: كيف يكون؟ قالت عائشة: إنه ليس على الماء جنابة - مرتين أو ثلاثة.
خرجه [. . .] وبقي بن مخلد في ((مسنده)) .
وخرجه إسحاق بن رهواية في ((مسنده)) ، وعنده: فقالت: إن الماء لا
ينجس.
وقد رفع بعضهم آخر الحديث، وهو قوله: ((الماء لا ينجس)) ، فجعله من قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الطبراني والقاضي إسماعيل وابن عدي وغيرهم - مرفوعاً.
والصحيح: أنه موقوف على عائشة.
المسألة الثانية:
ما ينتضح من بدن الجنب في الماء الذي يغتسل منه.
وقد ذكر البخاري، عن ابن عمر وابن عباس، أنهما لم يريا به بأساً.
وروى وكيع في ((كتابه)) ، عن سفيان، عن العلاء بن المسيب، عن رجل، عن ابن عباس، أنه لم يكن يرى به بأساً.
وكذلك رخص فيهِ أكثر السلف، منهم: ابن سيرين والحسن والنخعي وأبو جعفر.
قالَ النخعي: أو تجد من ذَلِكَ بداً؟
وعن الحسن - نحوه.
ورخص فيهِ - أيضاً - مالك وأحمد وإسحاق وغيرهم.
وقد سبق بسط ذَلِكَ في ذكر الماء المستعمل، وأنه ليس بنجس.
ويدل على ذَلِكَ: أن

(1/284)


إغتسال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع بعض أزواجه من الإناء الواحد لا يسلم من إصابة رشاش الماء المتقاطر منهما [للماء] ، ولو كانَ ذَلِكَ نجساً لوجب بيانه والأمر بالتحرز منه، فإن هذا مما تعم به البلوى، ولا يكاد يسلم الناس منه.
وكلام أحمد يدل على أن ما ينضح من الماء عندَ الغسل والوضوء على البدن أو الثوب في الماء لا بأس به.
فإن توضأ في طشت، ثم صبه فأصاب ثوبه منه، فإنه يستحب لهُ غسله والتنزه عنه؛ فإن هذا لا يشق التحرز عنه، وهو ماء [قذر] ، قد أخرج الذنوب والخطايا، واختلف في نجاسته.
ثم خرج البخاري في هذا الباب أربعة أحاديث:
الحديث الأول:

(1/285)


261 - من حديث: أفلح، عن القاسم، عن عائشة، قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد، تختلف أيدينا فيهِ.
وخرجه مسلم في ((صحيحه)) وزاد فيهِ: ((من الجنابة)) .
وهذا الحديث: يستدل به على جواز إدخال الجنب يده فبل كمال غسله في الماء الذي يغتسل منه، وعلى أن ما نضح من الماء الغسل في الإناء، الغسل منه لا يضره.

الحديث الثاني:

(1/285)


262 - من حديث: حماد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(1/285)


إذا اغتسل من الجنابة غسل يده.
وهذا مختصر من حديث عائشة الذي خرجه في أول ((كتاب: الغسل)) .
وإنما قصد الإشارة إلي ذكر طرق الحديث؛ لأنه يستدل به على أن الجنب إذا اغتسل بالاغتراف من الإناء بعد نية الاغتسال، فلا يمكن حمله على أنه غسل يده في الإناء من غير إفراغ.
فإنه قد خرجه مسلم من حديث زائدة، عن هشام، ولفظه: كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه قبل أن يدخل يده في الإناء، ثم توضأ مثل وضوئه للصلاة.
وقد خرج أبو داود حديث حماد بن زيد، عن هشام، الذي اختصره البخاري هاهنا، ولفظه: يبدأ فيفرغ على يديه.
وفي رواية أخرى لهُ: غسل يديه، فصب الإناء على يده اليمنى.
الحديث الثالث:

(1/286)


263 - نا أبو الوليد: ثنا شعبة، عن أبي بكر بن حفص، عن عروة، عن عائشة، قالت: كنت اغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد، من الجنابة.

(1/286)


وهذا يستدل به كما يستدل بالحديث الأول.
الحديث الرابع:

(1/287)


264 - نا أبو الوليد: نا شعبة، عن عبد الله بن عبد الله بن جبر: سمعت أنس بن مالك يقول: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمرأة من نسائه يغتسلان من إناء واحد.
زاد مسلم ووهيب، عن شعبة: من الجنابة.
وهذا دلالته كدلالة الذي قبله - أيضاً.
و ((عبد الله بن عبد الله بن جبر)) ، هوَ الذي روى عن أنس حديث الوضوء بالمد، وقد سبق شرح [حاله] هناك مبوسطاً.

(1/287)


10 - بَابُ
تَفرِيق الْوُضُوِءِ وَالْغُسلِ
ويذكر عن ابن عمر، أنه غسل قدميه بعدما جف وضوؤه.
هذا الأثر، حكاه الإمام أحمد عن ابن عمر، أنه توضأ، ثم غسل رجليه في مكان آخر.
وقال ابن المنذر: ثبت أن ابن عمر توضأ بالسوق، فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه، ثم دعي لجنازة، فمسح على خفيه، ثم صلى عليها.
وهذا الأثر، رواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنه توضأ في السوق، فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه، ثم دعي إلى جنازة، فدخل المسجد، ثم مسح على خفيه بعد ما جف وضوؤه.
قالَ البيهقي: هذا صحيح عن ابن عمر، مشهور بهذا اللفظ.
وقد اختلف العلماء في تفريق الوضوء والغسل: هل يصح معه الوضوء والغسل، أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه جائز، وهو ظاهر تبويب البخاري هاهنا، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والشافعي وإسحاق - في رواية -، ورواية عن أحمد - أيضاً.

(1/288)


والثاني: أنه لا يجوز، وتجنب الإعادة بذلك في الوضوء والغسل، وهو قول
مالك، وحكي رواية عن أحمد، وهي غريبة عنه.
والثالث: أنه يجب في الوضوء دون الغسل، وهو ظاهر مذهب أحمد.
وممن قالَ: إنه إذا جف وضوؤه يعيد: قتادة وربيعة والأوزاعي والليث والشافعي - في القديم - وإسحاق - في رواية.
وقال النخعي: لا بأس أن يفرق غسله من الجنابة.
وكذا روي عن أبن المسيب، وعلي بن حسين.
وروي عن الحسن - فيمن أخر غسل رجليه في الوضوء حتى جف -: إن كانَ في عمل الوضوء غسل رجليه، وإلاّ استأنف.
وفرق أحمد بين الوضوء والغسل، بأن الله أمر في الوضوء بغسل أعضاء معدودة، معطوف بعضها على بعض، فوجب غسلها مرتبا متواليا، كما يجب الترتيب والموالاة في ركعات الصلاة، وأشواط الطواف، بخلاف غسل الجنابة، فإنه أمر فيهِ بالتطهر، وهو حاصل بغسل البدن على أي وجه كانَ.
واستدل لإعادة الوضوء، بأن عمر رأى رجلاً على ظهر قدمه لمعة لم يغسلها، فأمره بإعادة الوضوء.
وقد اختلف ألفاظ الرواية عن عمر في ذَلِكَ: ففي بعضها، أنه أمر بغسل ما تركه، وفي بعضها، أمره بإعادة الوضوء.
وفي الباب أحاديث مرفوعة - أيضاً - بهذا المعنى:
من أجودها: حديث رواه بقية، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن بعض

(1/289)


أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة.
خرجه أبو داود.
وقال أحمد: إسناده جيد.
وأما الغسل، فروي في حديث مرسل، عن العلاء بن زياد، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
اغتسل، ثم رأى لمعة لم يصبها الماء، فعصر عليها شعره.
وأخذ به أحمد - في إحدى الروايتين عنه.
وروي عن ابن مسعود، قالَ: الجنب ما أصاب الماء من جسده فقد طهر وحمله أبو عبيد على أنه إذا فرق غسله وقطع أجزأه.
وروي عن علي وابن مسعود وجماعة من السلف، في الجنب إذا غسل رأسه بالخطمي، أنه يجزئه من غسل الجنابة، وليس عليهِ إعادة غسله.
وهذا يدل على جواز تأخير غسل الجسد عن غسل الرأس في الغسل.
وخرج أبو داود من حديث شريك، عن قيس بن وهب، عن رجل من بني سواءة، عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كانَ يغسل رأسه بالخطمي وهو جنب، يجتزيء بذلك، ولا يصب عليهِ الماء.
يعني: أنه لا يعيد منه

(1/290)


غسل بقية جسده.
خرج البخاري في هذا الباب:

(1/291)


265 - حديث ميمونة: قالت: وضعت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماء يغتسل به، فأفرغ على يديه، فغسلهما مرتين أو ثلاثاً، ثم أفرغ بيمينيه على شماله فغسل مذاكيره، ثم دلك يده بالأرض، ثم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ويديه، ثم غسل رأسه ثلاثاً، ثم أفرغ على جسده ثم تنحى من مقامه فغسل قدميه.
خرجه من حديث عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، بإسناده المتقدم.
ووجه الاستدلال به على جواز تفريق الوضوء: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصل بين تطهير رأسه وقدميه بالإفراغ على جسده، ثم بالتنحي من مقامه.
وللإمام أحمد - ومن وافقه - جوابان:
أحدهما: أن هذا تفريق يسير لا يضر، فإن المعتبر عندهم في التفريق المبطل أن يؤخر غسل بعض الأعضاء حتى يجف غسل ما قبله.
ومنهم من اعتبر لهُ طول الفصل عرفاً.
وهما روايتان عن أحمد، أشهرهما: اعتبار الجفاف.
وهذا التأخير لم يكن طويلاً، ولا حصل معه جفاف ما قبله، فلا يضر.
وقد روي عن مالك، أنه إذا أخر غسل رجليه حتى يكمل غسله، أنه يعيد الوضوء.
ولعله أراد مع طول الفصل. والله سبحانه وتعالى اعلم.
والثاني: أن هذا التفريق كانَ في غسل الجنابة، وعند أحمد لا يعتبر

(1/291)


الموالاة للغسل، بخلاف الوضوء.
فإن قيل: إنما وقع التفريق في الوضوء الذي ضمن الغسل.
قيل: أعضاء الجنب ما دام عليها الجنابة، فإنه لا يعتبر لتطهرها موالاة في وضوء ولا غسل.
هذا ظاهر مذهب أحمد الذي عليهِ عامة أصحابه.
وإنما اعتبر الموالاة للوضوء في غسل الجنابة أبو بكر ابن جعفر وطائفة يسيرة من أصحابه، وهو المذهب عندَ الخلال، وسيأتي القول في ذَلِكَ مبسوطاً - إن شاء الله تعالى.
وفي تفريق الغسل صريحاً حديث لا يصح إسناده.
خرجه الدارقطني في ((الأفراد)) والإسماعيلي في ((جمع حديث مسعر)) ، من طريق إسماعيل بن يحيى التميمي، عن مسعر عن حميد بن سعد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمان، عن أبيه، قالَ: قالَ رجل: يا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إن أهلي تغار إذا وطئت جواري، قالَ: ((ولم تعلمهم ذَلِكَ؟)) ، قالَ: من قبل الغسل: قالَ: ((إذا كانَ ذَلِكَ منك فاغسل رأسك عندَ أهلك، فإذا حضرت الصلاة فاغسل سائر جسدك)) .
إسماعيل بن يحيى، ضعيف جدا ً.
قالَ: الإسماعيلي: حميد بن سعد مجهول، وأحاديث إسماعيل بن يحيى موضوعة.
وفيه حديث آخر:
رواه جعفر بن محمد الفريابي: نا إسحاق بن موسى: نا عاصم بن عبد العزيز: نا محمد بن زيد بن قنفذ التيمي، عن

(1/292)


جابر بن سيلان، عن ابن مسعود، أن رجلاً سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يغتسل من الجنابة، فيخطىء الماء بعض جسده؟ فقالَ: النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يغسل ذَلِكَ المكان، ثم يصلي)) .
رجاله كلهم مشهورون، خلا جابر بن سيلان، وقد خرج لهُ أبو داود، ولم نعلم فيهِ جرحاً، ولا أنه روى عنه سوى محمد بن زيد.

(1/293)


11 - بَابُ
مَنْ أفَرَغَ بِيمِيِنه علَىَ شِمالِهِ في الْغُسلْ
خرج فيهِ:

(1/294)


266 - حديث ميمونة: قالت: وضعت لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسلاُ وسترته، فصب على يده، فغسلها مرة أو مرتين - ثم قالَ سليمان: لا أدري: أذكر الثالثة أم لا؟ - ثُمَّ أفرغ بيمينه على شماله، فغسل فرجه، ثُمَّ دلك يده بالأرض - أو بالحائط -، ثُمَّ تمضمض واستنشق، وغسل وجهه ويديه، وغسل رأسه، ثم صب على جسده، ثم تنحى فغسل قدميه، فناولته خرقة، فقالَ بيده هكذا، ولم يردها.
خرجه من حديث أبي عوانة، عن الأعمش، بالإسناد المتقدم.
ومقصوده منه: قولها: ((ثم أفرغ بيمينه على شماله، فغسل فرجه)) .
وقد خرجه البخاري - فيما بعد - من طريق أبي حمزة السكري، عن الأعمش، ولفظه: ((وصب على يديه فغسلهما، ثم صب بيمينه على شماله فغسل فرجه)) .
وهذه الرواية: تصرح بانه غسل يديه جميعاً قبل إدخال يده اليمنى في الإناء.
وقد سبق من رواية عبد الواحد وغيره، عن الأعمش بنحو

(1/294)


هذا اللفظ - أيضاً.
وسبق - أيضاً - الحديث من رواية حفص بن غياث، عن الأعمش، ولفظه: قالت ميمونة: صببت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسلاً، فأفرغ بيمينه على يساره فغسلهما، ثم غسل فرجه.
والمراد: أنه تناول الإناء بيمينه، فصبه على يساره، ثم غسلهما معاً.
وفي رواية لأبي داود، من رواية عبد الله بن داود، عن الأعمش: فأكفأ الإناء على يده اليمنى، فغسلها مرتين أو ثلاثاً، ثم صب على فرجه، فغسل فرجه بشماله.
وهذه الرواية: توهم أنه صب من الإناء على يده اليمنى فقط.
وهذه الرواية التي خرجها البخاري في هذا الباب فيها: ((فصب على يده فغسلها مرتين أو ثلاثاً)) ، وهي توهم أنه صب على اليمنى فقط، ولم يغسل اليسرى حتى غسل فرجه بها، ثم دلكها بالتراب، ثم غسلها.
وقد سبق من حديث عمر نحو ذَلِكَ - أيضاً.
وحديث عائشة صريح في أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسل يديه جميعاً قبل إدخال يده اليمنى في الإناء، ثم أدخلها فأفرغ بها على شماله، ثم غسل فرجه.
وقد قالَ الإمام أحمد: الغسل من الجنابة على حديث عائشة.
ونقل حنبل عنه، أنه يبدأ فيفيض الإناء على يده اليمنى، فيصب [منه] ثلاث مرات، ثم يغمس يده في الإناء، فيصب على يده اليسرى، فيغسلهما جميعاً، ثم يغسل فرجه فينقيه، ثم يتوضأ.
ونقل عنه - مرة أخرى -، أنه قالَ:

(1/295)


يبدأ فيغسل كفيه ثلاثاً.
وهذا يوافق رواية الأكثرين عنه.
فهذا كله في غسل اليدين وفي غسل الفرج.
فأما بقية الغسل، فإن غسل أعضاء الوضوء فيهِ كغسلها في الوضوء من الحدث الأصغر، على ما سبق في موضعه.
وأما غسل الرأس، فإنه يحثي عليهِ ثلاث حثيات باليدين جميعاً.
وقد جاء التصريح بذلك في روايات متعددة، سبق ذكرها.
وأما صب الماء على بقية الجسد، ففي بعض ألفاظ حديث عائشة ما يدل على أنه بالكفين معاً، وقد سبق ذكره - أيضاً.
واما محل الإناء من المتوضيء والمغتسل، فقالَ طائفة من الفقهاء من أصحابنا والشافعية وغيرهم: إن كانَ واسعاً يمكن الاغتراف منه، كانَ من جهة اليمين، ويغرف منه باليمين، وإن كانَ ضيقاً لا يمكن الاغتراف منه، وإنما يصب به صباً وضع من جهة الشمال.
وخرج الطبراني، بإسناد فيهِ جهالة، عن أنس، أنه أراهم الوضوء، فأخذ ركوة فوضعها عن يساره، وصب على يده اليمنى منها ثلاثاً - وذكر بقية الوضوء -، ثم قالَ: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ.

(1/296)


12 - بَابُ
إِذَا جَامَعَ ثُمَّ عَاوَدَ، وَمَنْ دار عَلَى نِسائِهِ
في غُسلٍ واحِدٍ
خرج فيهِ حديثين:
أحدهما:

(1/297)


267 - من رواية: شعبة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه قالَ: ذكرته لعائشة، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمان، كنت أطيب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيطوف على نسائه، ثم يصبح محرماً، ينضخ طيباً.
الذي ذكر لعائشة، هوَ: أن ابن عمر كره الطيب عندَ الإحرام، فردت مقالته بهذه الرواية.
قالَ الإسماعيلي في ((صحيحه)) : قول عائشة: ((يطوف على
نسائه)) ، ينظر: هل أردت به الجماع، أو تجديد العهد بهن للخروج، وذلك أنه لو كانَ معنى الطواف عليهن للوقاع لاحتاج إلى الغسل، ولا يكاد الطيب يبقى بعد إنقاء الغسل، لا سيما وهي تقول: ((ينضخ طيباً)) ، بالحاء أو الخاء، وهو بالخاء معجمة أشبه؛ لأنه أخف من النضح، كأنه يتساقط منه الشيء بعد الشيء من الطيب. انتهى ما ذكره.
وما ذكره من احتمال طوافه عليهن للتوديع فبعيد جداً، أو غير صحيح؛ فإن عائشة إنما أخبرت عن حجة الوداع، وقد جاء مصرحاً عنها في رواية خرجها مسلم، أنها طيبته في حجة الوداع،

(1/297)


وحجة الوداع كانَ أزواجه كلهن معه
فيها، فلم يكن يحتاج إلى وداعهن.
ووجه استدلال البخاري بالحديث على أن تكرار الجماع بغسل واحد:
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو اغتسل من كل واحدة من نسائه لكان قد اغتسل تسع مرات، فيبعد حينئذ أن يبقى للطيب أثر، فلما أخبرت أنه أصبح ينضخ طيباً، استدل بذلك على أنه اكتفى بغسل واحد.
واستبعاد الإسماعيلي بقاء أثر الطيب بعد الغسل الواحد ليس بشيء، فقد اخبرت عائشة أنها نظرت إلى الطيب في مفرق رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم بعد ثلاث.
وفي رواية، عنها: في رأسه ولحيته.
وقد كانَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوضأ في هذه المدة، بل كانت عادته الوضوء لكل صلاة، ومع هذا فلم يذهب اثره من شعره، وهذا يدل على أنه كانَ طيباً كثيراً لهُ جرم يبقى مدة.
الحديث الثاني:

(1/298)


268 - من رواية: هشام، عن قتادة: ثنا أنس بن مالك، قالَ: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهن إحدى عشرة.
قلت لأنس: أو كانَ يطيقه؟ قالَ: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين.
وقال سعيد، عن قتادة: إن أنساً حدثهم: تسع نسوة.
ووجه الاستدلال من هذا الحديث: أن أنساً ذكر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يدور على إحدى عشرة امرأة في ساعة واحدة من الليل والنهار، وهذا

(1/298)


يدل على أنه لم يغتسل عندَ كل واحدة؛ فإن الساعة الواحدة لا تتسع للوطء إحدى عشرة مرة، مع غسل إحدى عشرة مرة.
وقد ذكر البخاري اختلاف هشام وسعيد بن أبي عروبة على قتادة في عدد النسوة: فذكر هشام: أنهن إحدي عشرة، وذكر سعيد: أنهن تسع.
وحديث سعيد، قد خرجه البخاري - فيما بعد -، وسيأتي قريباً - إن شاء الله تعالى.
وقد روى هذا الحديث معمر، عن قتادة، وذكر فيهِ: أن ذلك كانَ بغسل واحد.
خرجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه، من رواية سفيان، عن معمر، عن قتادة، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يطوف على نسائه في غسل واحد.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وإنما لم يخرج البخاري هذا؛ لأن رواية معمر، عن قتادة ليست بالقوية.
قالَ ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: قالَ معمر: جلست إلى قتادة وأنا صغير، فلم أحفظ عنه الأسانيد.
قالَ الدارقطني في ((العلل)) : معمر سيء الحفظ لحديث قتادة.
وقد روى هذا الحديث ابن عيينة، عن معمر، عن ثابت، عن

(1/299)


أنس، وهو وهم.
ورواه مصعب بن المقدام، عن الثوري، عن معمر، عن حميد، عن أنس.
خرجه الطبراني.
وهو وهم.
ورواه ضمرة، عن الثوري، عن معمر، عن حميد، عن أنس.
وأخطأ في قوله: ((عن حميد)) -: قاله أبو زرعة.
وقد توبع عليهِ معمر من وجوه غير قوية:
فرويناه من طريق سفيان، عن محمد بن حجادة، عن قتادة، عن أنس.
ورواه مسلمة بن علي الخشني - وهو ضعيف -، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس، قالَ: ربما طاف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الليلة الواحدة على ثنتي عشرة امرأة، لا يمس في ذَلِكَ شيئاً من الماء.
ورواه صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن أنس، قالَ: وضعت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسلاً، فاغتسل من جميع نسائه في الليلة.
خرجه ابن ماجه.
ونقل الترمذي في ((كتاب العلل)) ، عن البخاري، أنه ضعفه من أجل صالح.
وخرجه أبو داود والنسائي، من رواية إسماعيل بن علية: نا

(1/300)


حميد عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على نسائه في ليلة بغسل واحد.
وخرجه مسلم في ((صحيحه)) ، من رواية مسكين بن بكير، عن شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يطوف على نسائه بغسل واحد.
وتابعه بقية بن الوليد، فرواه، عن شعبة - أيضاً.
خرجه من طريقه الإمام أحمد.
ولم يرض البخاري هذا الحديث، من أجل مسكن بن بكير؛ فإنه ليس بذاك.
قالَ الأثرم: قلت لأحمد: نظرت في حديث مسكين، عن شعبة، فإذا فيها خطأ. قالَ: أحمد من أين كانَ يضبط هوَ عن شعبة؟!
قالَ البرديجي: لا يلتفت إلى رواية الفرد عن شعبة، ممن ليس لهُ حفظ ولا تقدم في الحديث من أهل الإتقان.
وقد روي الأمر بالوضوء للمعاودة من رواية عاصم الأحول، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: ((إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود، فليتوضأ)) .
خرجه مسلم.
وفي رواية: ((فليتوضأ بينهما وضوءاً)) .
وخرجه ابن خريمة والحاكم في ((صحيحيهما)) ، بزيادة في آخره،

(1/301)


وهي: ((فإنه أنشط للعود)) .
وخرجه ابن خزيمة - أيضاً - بلفظ آخر، وهو: ((إذا أراد أحدكم أن يعود فليتوضأ وضوءه للصلاة)) - يعني: الذي يجامع، ثم يعود قبل أن يغتسل.
وفي إسناده بعض اختلاف.
وقال الشافعي: روي فيهِ حديث، وإن كانَ مما لا يثبت مثله.
واستحب أكثر العلماء الوضوء للمعاودة، وهو مروي عن عمر وغيره، وليس بواجب عندَ الأكثرين، وأوجبه قليل من أهل الظاهر ونحوهم.
ومن العلماء من أنكر الوضوء، وحمل الوضوء في هذا الحديث على التنظيف وغسل الفرج.
وقد قالَ إسحاق: غسل الفرج لابد منه.
والأكثرون على أن المعاودة من غير وضوء لا تكره، وهو قول الحسن ومالك وأحمد وإسحاق.
وقد روي الاغتسال للمعاودة من حديث أبي رافع، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على نسائه جميعاً في يوم واحد، واغتسل عندَ كل واحدة منهن غسلاً.
فقلت: يا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ألا تجعله غسلاً واحداً؟ قالَ: ((إن هذا أزكى واطهر

(1/302)


وأطيب)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
وفي إسناده بعض من لا يعرف حاله.
قالَ أبو داود: حديث أنس أصح من هذا.
يعني: حديثه في الغسل الواحد.
وفي هذا الباب أحاديث أخر، أسانيدها ضعيفة.

(1/303)


13 - بَابُ
غَسْلِ الْمَذْيِ، والْوُضُوءِ مِنْهُ

(1/304)


269 - حدثنا أبو الوليد: ثنا زائدة، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمان، عن علي، قالَ: كنت رجلاً مذاء، فأمرت رجلاً أن يسأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكان ابنته -، فسأله فقالَ: ((توضأ، واغسل ذكرك)) .
وقد خرجه البخاري - فيما سبق - في آخر ((العلم)) - مختصراً -، من حديث محمد ابن الحنفية، عن أبيه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في باب: من استحي، فأمر غيره أن يسأل)) .
وقد استنبط البخاري منه - ها هنا - حكمين:
أحدهما:
غسل المذي؛ لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اغسل ذكرك)) .
وقد اختلف العلماء في معنى الأمر بغسل الذكر من المذي: هل المراد غسل ما أصاب الذكر منه كالبول، أو غسل جميع الذكر؟
وفيه: قولان، وهما روايتان عن مالك والإمام أحمد.
وحكي عنه رواية ثالثة، بوجوب غسل الذكر كله مع الأنثيين.
وقد روي في حديث علي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: ((يغسل ذكره وأنثييه
ويتوضأ)) ، من وجوه قد تكلم فيها.
واختار هذه الرواية أبو بكر عبد

(1/304)


العزيز بن جعفر من أصحابنا، وذكر أن الحديث صح بذلك.
ولو استجمر منه بحجر أجزأه كالبول -: ذكره اصحابنا.
وهذا - على قولنا: يجب غسل ما أصحاب الذكر منه - ظاهر.
فأما إن قلنا يجب غسل الذكر جميعه، أو الذكر مع الأنثيين، فلا ينبغي أن يجزىء منه الاستجمار.
وعنده الشافعية: أن المذي: هل يجزيء فيهِ الاستجمار؟ فيهِ قولان:
بناء على أن الخارج النادر: هل يجزيء الاستجمار كالمعتاد؟ ، على قولين للشافعي، أصحهما: الجواز.
لكنهم لا يوجبون زيادة على غسل ما أصاب الذكر منه، وهو قول أبي حنيفة وغيره.
وقال سعيد بن جبير - في المذي -: يغسل الحشفة منه ثلاثاً.
فأما إن أصاب المذي غير الفرج من البدن أو الثوب، فالجمهور على أنه نجس يجب غسله كالبول.
وعن أحمد رواية: أنه يعفى عن يسيره كالدم.
وعنه رواية ثالثة: أن نجاسته مخففة، يجزىء نضحه بالماء، كبول الغلام الذي لم يأكل الطعام؛ لعموم البلوى به، ومشقة الاحتراز منه.
وفيه حديث، من رواية سهل بن حنيف، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه سئل عما أصاب الثوب من المذي؟ قالَ: ((تأخذ كفا من ماء فتنضح به حيث ترى أنه أصابك)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي.
وقال: حسن صحيح، ولا نعرفه إلا من حديث ابن إسحاق.
وقال الإمام أحمد - في رواية الأثرم -: لا اعلم شيئاً يخالفه.
ونقل عنه

(1/305)


غيره، أنه قالَ: لم يروه إلا ابن إسحاق، وأنا أتيهيبه.
وقال - مرة -: إن كانَ ثابتاً أجزأه النضح.
وعن أحمد رواية: أن المذي طاهر كالمني.
وهي اختيار أبي حفص البرمكي من أصحابنا، أوجب مع ذَلِكَ نضحه تعبداً.
ومن الأصحاب من قالَ: إذا قلنا بطهارته، لم يجب غسل ما أصاب الثوب منه.
وهل يجب الاستنجاء منه؟ على وجهين، كالمني.
وهذا بعيد، وهو مخالف للأمر بغسله.
والحكم الثاني:
وجوب الوضوء منه.
وقد أجمع العلماء على أن المذي يوجب الوضوء، ما لم يكن سلساً دائماً؛ فإنه يصير حينئذ كسلس البول، ودم الاستحاضة.
ومالك لا يوجب الوضوء منه حينئذ.
وخالفه جمهور العلماء.
وأما إذا خرج على الوجه المعتاد، فإنه يوجب الوضوء باتفاقهم، لا يوجب الغسل - أيضاً - بالاتفاق.
وقد حكي عن ابن عمر فيهِ اختلاف.
والصحيح عنه، كقول جمهور العلماء، أنه يكفي منه الوضوء.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قالَ - في المذي -: ((توضأ، وانضح فرجك)) .
خرجه مسلم وغيره.
فمن العلماء من حمل نضح الفرج على غسله، بما في اللفظ الآخر:
((توضأ واغسل ذكرك)) .
ومنهم من حمله على نضح الفرج بعد الضوء منه؛ لتفتير الشهوة، ودفع الوسواس.
وقد ورد في رواية التصريح بهذا المعنى، لكن في إسناده ضعف.
وعلى هذا؛ فالأمر بالنضح محمول على الاستحباب.

(1/306)


14 - بَابُ
مَنْ تَطَيَّبَ ثُمَ اغْتَسَلَ وبَقَي أثَرُ الطَّيبِ
خرج فيهِ حديثين:
أحدهما:

(1/307)


270 - حديث: إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، قالَ: سألت عائشة - وذكرت لها قول ابن عمر: ما أحب أن اصبح محرماً انضخ طيباً -، فقالت عائشة: أنا طيبت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم طاف في نسائه، ثم اصبح محرماً.
الثاني:

(1/307)


271 - حديث: إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب، في مفرق النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو محرم.
قالَ الإسماعيلي: في الحديث الأول: عامة من حدثنا قاله بالحاء غير معجمة - يعني: ((ينضح طيباً)) -، قالَ: والقول في ((يطوف)) ما قدمناه.
قلت: الصواب: أن معنى طوافه للنساء جماعهن، كما سبق.
فالحديث حينئذ: يدل على أن من اغتسل من الجنابة، وبقي على

(1/307)


جسده أثر طيب ونحوه، مما لا يمنع وصول الماء إلى ما تحته، أنه لا يضره، وأن غسله صحيح.
و ((بيص الطيب)) : بريق لونه ولمعانه.
قالَ الخطابي: يقال وبص وبيصاً وبص بمعنى واحد.
وهذا يدل على بقاء أجزاء من الطيب، فيستدل بذلك على أنه لا يمنع صحة الغسل، إذا وصل الماء معه إلى البشرة، وهو مقصود البخاري بهذا الباب.
وعلى أنه لا يمنع المحرم من استدامته في الإحرام، ويأتي ذكر ذَلِكَ في موضعه من ((الحج)) - إن شاء الله تعالى.
ويحتمل أن يكون هذا الطيب الذي يبص على شعر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما جاء في رواية: ((أنه كانَ في مفارقه)) ، وفي رواية: ((في رأسه ولحيته)) .
فيستدل على أن الشعر لا يجب غسله في جنابة ولا غيرها، كما ذهب إليه طوائف من العلماء، كما سبق ذكره.

(1/308)


15 - بَابُ
تَخْليلِ الشَّعر حَتىَ إذا ظَنَّ أنَّهُ قَدْ أرْوى بشَرتَهُ أفَاضَ عليهِ

(1/309)


272 - ثنا عبدان: ثنا عبد الله - هوَ ابن المبارك -: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اغتسل من الجنابة، غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليهِ الماء ثلاث مرات، ثم يغسل سائر جسده.

(1/309)


273 - وقالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد، نغترف، منه جميعاً.
ما ذكر في هذه الرواية، أنه توضأ، ثم اغتسل، ثم يخلل بيده شعره، إلى
آخره، وهو من باب عطف التفصيل على الإجمال؛ فإن ما ذكره من التخليل وما بعده هوَ تفصيل للاغتسال الذي ذكر مجملاً.
والحديث يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ قبل أن بفيض الماء على رأسه ثلاثاً يخلل شعره بيده بالماء، حتى يظن أنه قد أروى بشرته، وهذا مما ذكر في حديث عائشة دون حديث ميمونة.
وقد خرجه البخاري في أول ((كتاب: الغسل)) ، من حديث مالك، عن

(1/309)


هشام، وفي حديثه: ((توضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول الشعر، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه)) .
وهذا يصرح بالمعنى الذي ذكرناه.
وخرجه مسلم، من طريق أبي معاوية، عن هشام، وفي حديثه:
((توضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء، فيدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات)) .
وكذلك روى حماد بن زيد، عن هشام، هذا الحديث، وقال فيهِ - بعد ذكر الوضوء -: ((ثم يدخل يده في الإناء، فيخلل شعره، حتى إذا رأى أنه قد أصاب البشرة، أو أنقى البشرة، افرغ على رأسه ثلاثاً)) .
خرجه أبو داود.
وخرجه الإمام أحمد، عن يحيى بن سعيد القطان، عن هشام، به بنحوه، وفي حديثه: ((ثم يخلل اصول شعر رأسه، حتى إذا ظن أنه قد استبرا البشرة، اغترف ثلاث غرفات، فصبهن على رأسه)) .
وخرجه النسائي، من حديث سفيان، عن هشام، ولفظ حديثه: ((إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يشرب رأسه، ثم يحثي عليهِ ثلاثاً ثلاثاً)) .
وروى أيوب وعبيد الله بن عمر هذا الحديث، عن هشام، وذكر أن تخليل شعره كانَ مرتين.
وروي عن أيوب، قالَ: مرتين أو ثلاثاً.
ورواه حماد بن سلمة، عن هشام، ولفظ حديثه: ((أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ

(1/310)


يتوضأ من الجنابة، ثم يدخل يده اليمنى في الماء، ثم يخلل به شق رأسه الأيمن، فيتبع بها أصول الشعر، ثم يفعل بشة رأسه الأيسر كذلك، حتى تستبرىء البشرة، ثم يصب على رأسه
ثلاثاً)) .
ورواه شريك، عن هشام، وذكر أن تخليل شعره كانَ بعد الإفراغ عليهِ ثلاثاً.
وشريك، سيء الحفظ، لا يقبل تفرده بما يخالف الحفاظ.
وتابعه سفيان بن وكيع، عن أبيه، عن هشام.
وسفيان هذا، ليس ممن يلتفت إلى قوله.
وكذلك رواه ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة.
وابن لهيعة، لا يقبل تفرده فيما يخالف الحفاظ.
وفي الجملة؛ فهذا ثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه خلل شعره بالماء، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض الماء على شعر راسه.
فكان التخليل أولاً لغسل بشرة الرأس، وصب الماء ثلاثاً بعده لغسل الشعر، هذا هوَ الذي يدل عليهِ مجموع ألفاظ هذا الحديث.
وقال القرطبي: إنما فعل ذَلِكَ ليسهل دخول الماء إلى أصول الشعر.
وقيل [ليتأسى] بذلك [حتى] لا يجد بعده من صب الماء الكثير [. . .] .
قلت: قول عائشة: ((حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليهِ الماء ثلاث مرات)) ، يرد هذا [كله] ، ويبين أن التخليل كانَ لغسل بشرة الرأس، وتبويب البخاري يشهد لذَلِكَ - أيضاً.
وهذه سنة عظيمة من سنن غسل الجنابة، ثابتة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لم ينتبه

(1/311)


لها أكثر الفقهاء، مع توسعهم للقول في سنن الغسل وأدائه.
ولم أر من صرح به منهم، إلا صاحب ((المغني)) من أصحابنا، وأخذه من عموم قول أحمد:
الغسل على حديث عائشة.
وكذلك ذكره صاحب ((المهذب)) من الشافعية، قالَ - بعد ذكر الوضوء -:
ثم يدخل أصابعه العشر في الماء، فيغترف غرفة يخلل بها أصول شعره من رأسه ولحيته، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات.
وفي هذا زيادة على ما في حديث عائشة، وهو تخليل اللحية.
ومذهب الشافعي: وجوب إيصال الماء إلى باطن اللحية، وإن كانت كثيفة، في الجنابة دون الوضوء.
وعن مالك في وجوب ذَلِكَ في الغسل روايتان.
وأما أصحابنا فيجب ذَلِكَ عندهم - في المشهور.
ولهم وجه ضعيف، أنه لا يجب.
وحكي مثله عن المزني.
وكلام أكثرهم، يدل على أن المغتسل يتوضأ، ثم يصب على رأسه الماء ثلاثاً، ويخلل أصول الشعر مع ذَلِكَ.
وقد وجد في كلام الأئمة، كسفيان وأحمد وإسحاق، ما يدل على ذَلِكَ.
واتباع السنة الصحيحة التي ليس لها معارض أولى.
وقد روى قتادة، عن عروة، عن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا أراد أن يغتسل من جنابة توضأ وضوءه للصلاة، ثم صب على رأسه ثلاث مرار، يخلل باصابعه أصول الشعر.

(1/312)


خرجه الإمام أحمد.
وهذه الرواية تشهد لما قاله أكثر الفقهاء: إنه يصب الماء على رأسه، ثم يخلله
بأصابعه.
ولكن رواية هشام، عن أبيه، المتفق على صحتها، مقدمة على رواية قتادة.
وليس في ترك ذكر هذا في حديث ميمونة ما يوجب تركه؛ لأن ميمونة حكت غسل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قضية معينة، وعائشة حكت ما كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله إذا اغتسل من الجنابة، فالأخذ بروايتها متعين، والله أعلم.

(1/313)


16 - بَابُ
مَنْ توضَأ في الْجَنَابِةِ، ثُمَّ غَسَلَ سائرَ جَسَدهِ
وَلَمْ يعدْ غَسلْ مَواضِع الْوضُوءِ منْهُ مَرَّة أخرى

خرج فيهِ:

(1/314)


274 - حديث ميمونة: قالت: وضع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضوءاً للجنابة، فكفأ بيمينه على شماله مرتين أو ثلاثاً، ثم غسل فرجه، ثم ضرب يده بالأرض - أو الحائط - مرتين أو ثلاثاً، ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه، ثم افاض على راسه الماء، ثم غسل جسده، ثم تنحى فغسل رجليه، قالت: فأتيته بخرقة فلم يردها، فجعل ينفض الماء بيده.
خرجه من طريق الفضل بن موسى، عن الأعمش، بإسناده المتقدم.
ووجه دلالة الحديث على ما بوب عليهِ: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض على راسه الماء، ثم غسل جسده، ولم يعد غسل وجهه وذراعيه، وإنما غسل رجليه اخيراً؛ لأنه لم يكن غسلهما أولاً.
وقد خرج مسلم هذا الحديث، من رواية عيسى بن يونس، عن الأعمش، وفي حديثه: ((ثُمَّ توضأ وضوءه للصلاة، ثُمَّ أفرغ على راسه ثلاث حفنات ملء كفه، ثُمَّ غسل سائر جسده)) .

(1/314)


وقوله: ((غسل سائر جسده)) يدل على أنه لم يعد غسل ما كانَ غسله منه قبل ذَلِكَ؛ لأن: ((سائر)) إنما تستعمل بمعنى: ((الباقي)) ، لا بمعنى:
((الكل)) ، على الأصح الأشهر عندَ أهل اللغة.
وكذلك خرج مسلم حديث عائشة، من حديث أبي معاوية، عنة هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة - فذكرت الحديث، وفي آخره -: ((ثم أفاض على سائر جسده)) .
وهو - أيضاَ -: دليل على أنه لم يعد غسل ما مضى غسله منه.
والعجب من البخاري - رحمه الله -، كيف ذكر في تبويبه ((من توضأ للجنابة ثم غسل سائر جسده)) ، ولم يسق الحديث بهذا اللفظ، وإنما تتم الدلالة به.
ومقصوده بهذا الباب: أن الجنب إذا توضأ، فإنه يجب عليهِ غسل بقية بدنه، ولا يلزمه إعادة غسل ما غسله من أعضاء الوضوء.
والجنب حالتان:
إحداهما: أنه لا يلزمه سوى الغسل، وهو من أجنب من غير أن يوجد منه حدث أصغر - على قول من يقول: إن الجنابة المجردة لا توجب سوى الغسل، كما هوَ قول الشافعي وابن حامد من أصحابنا -، فهذا لا يلزمه أكثر من الغسل.
فإن بدأ بأعضاء الوضوء، فغسلهما، لم يلزمه سوى غسل بقية بدنه، بغير
تردد.
وينوي بوضوئه الغسل، لا رفع الحدث الأصغر -: صرح به الشافعية، وهو ظاهر.

(1/315)


الحالة الثانية: أن يجتمع عليهِ حدث أصغر وجنابة، إما بأن يحدث، ثم يجنب، أو على قول من يقول: إن الجنابة بمجردها تنقض الوضوء وتوجب الغسل، كما هوَ ظاهر مذهب أحمد وغيره.
فهذه المسألة قد سبقت الإشارة إليها والاختلاف فيها.
وأكثر العلماء على تداخل الوضوء والغسل قي الجملة.
قالَ الحسن: إذا اغتمس في النهر، وهو جنب، أجزأه عن الجنابة والحدث.
فعلى هذا؛ إذا غسل اعضاء الوضوء مرة، لم يحتج إلى إعادة غسلها.
قالَ: أحمد العمل عندي في غسل الجنابة، أن يبدأ الرجل بمواضع الوضوء، ثم يغسل بعد ذَلِكَ سائر جسده.
ولكن على هذا التقدير، ينوي بوضوئه رفع الحدثين عن أعضاء الوضوء.
فإن نوى رفع الحدث الأصغر وحده، احتاج إلى إعادة غسل أعضاء الوضوء في الغسل.
ثم إن المشهور عن أحمد - عندَ اصحابه كالخرقي ومن تابعه -: أن الغسل والوضوء لا يتداخلان، إلا بأن ينويهما، كالحج والعمرة في القرآن، وهو وجه
الشافعية.
وعلى هذا؛ فينوي بالوضوء رفع الحدث الأصغر، صرح به ابن أبي موسى من أصحابنا.
ويلزم من ذَلِكَ وجوب إعادة غسل أعضاء الوضوء في الغسل مرة أخرى.
فإن نوى بالوضوء رفع الحدثين معاً، لم يلزمه إعادة غسلهما مرة أخرى.
والمنصوص عن الشافعي، أنهما يتداخلان بدون نية، نص على ذَلِكَ في
((الأم)) ، وحكاه أبو حفص البرمكي رواية عن احمد، كما لو كانا من جنس واحد عندَ أكثر العلماء.

(1/316)


فعلى هذا، يجزىء الوضوء بنية رفع الحدث الأكبر خاصة.
وإن نوى بالوضوء رفع الحدث الأصغر، كانَ أفضل -: قاله بعض الشافعية.
ولكن ينبغي أن يقولوا بوجوب إعادة غسل أعضاء الوضوء مرة أخرى في
الغسل.
وعلى هذا التقدير، فإن رفع الحدث الأصغر لا يندرج فيهِ الأكبر، بخلاف عكسه.
وعن أحمد رواية، أنه لا يرتفع الحدث الأصغر بدون الإتيان بالوضوء، وحكي مثله عن مالك وأبي ثور وداود، وهو وجه الشافعية؛ لأن سببهما مختلف، فلم يتداخلا كحد الزنا وحد السرقة.
وعلى هذا فيجب غسل اعضاء الوضوء مرتين [ ... ] : مرة للوضوء، ومرة في الغسل، وينوي بالوضوء رفع الحدث الأصغر، وبالغسل رفع الحدث الأكبر.
وقالت طائف: إن غسل أعضاء الوضوء مرتبة متوالية ارتفع عنهما الحدثان، وإذا نوى رفعهما، فلا يجب عليهِ إلا غسل باقي بدنه للجنابة، وإن لم يغسل أعضاء الوضوء مرتبة متوالية لم يرتفع عنها سوى حدث الجنابة، وعليه ان ياتي بالوضوء على وجهه؛ ليرفع الحدث الأصغر.
وحكي هذا عن إسحاق بن راهويه، وهو قول أبي بكر بن جعفر، ومن اتبعه من أصحابنا.
واعتبروا - أيضاً -: أن يمسح رأسه.
وقد سبق نص أحمد، على أنه لا يحتاج إلى مسح رأسه، بل يكفيه صب الماء
عليهِ.
وهو يدل على أن خصائص الوضوء عنده كلها غير معتبرة في وضوء غسل
الجنابة.
وهو - أيضاً - وجه لأصحاب الشافعي، لكنهم لا يعتبرون

(1/317)


الموالاة ولا نية الحدث الأصغر، على الصحيح عندهم.
وعندنا؛ هما معتبران، على الصحيح.
وزعم أبو بكر الخلال: أن هذا القول هوَ مذهب أحمد، ووهم من حكى عنه خلافه فإن حنبلاً نقل عن أحمد، في جنب اغتسل وعليه خاتم ضيق، لم يحركه، فصلى، ثم ذكر؟ قالَ: يغسل موضعه، ويعيد الصلاة.
قالَ الخلال: هذا وهم من حنبل لا شك فيهِ، لأن أحمد عنده أن من لم يحرك خاتمه الضيق في الوضوء وصلى، أنه يعيد الوضوء والصلاة.
قالَ أبو بكر ابن جعفر في كتاب ((الشافي)) : هذا يدل على أنه لا بد في غسل الجنابة من الوضوء.
قلت: إنما قالَ أحمد: ((يعيد الوضوء والصلاة)) في المحدث حدثا أصغر، فأما الجنب فإن المنصوص عن أحمد، أنه إذا انغمس في ماء وتمضمض، واستنشق، أنه يجزئه، بخلاف من يريد الوضوء، فإنه يلزمه الترتيب والمسح.
ولكن الخلال تأول كلامه، على أن الجنب يجزئه انغماسه في الماء من غسل الجنابة واما عن الوضوء فلا يجزئه حتى يرتب، كالمحدث الحدث الأصغر بانفراده.
ونقول: إن قول أحمد: ((إذا انغمس وأراد الوضوء لا يجزئه)) عام فيمن أراد الوضوء وهو جنب أو محدث.
والذي عليهِ عامة الأصحاب، كالخرقي وابن أبي موسى والقاضي أبي يعلى وأصحابه خلاف [ذَلِكَ] ، وأن أحمد إنما أراد المحدث حدثاً أصغر.
ورواية حنبل هذه صريحة في هذا المعنى، وقول الخلال: ((إنها وهم بغير شك)) ، غير مقبول. والله - سبحانه وتعالى - أعلم.

(1/318)


17 - بَابُ
إذا ذَكَر في المْسْجِدِ أنهُ جنُبُ يخرجُ كَمَا هُو ولا يَتَيَمَّمُ

(1/319)


275 - حدثنا عبد الله بن محمد: ثنا عثمان بن عمر: ثنا يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قالَ: أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياماً، فخرج إلينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما قام مصلاه، ذكر أنه جنب، فقالَ لنا: ((مكانكم)) ، ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا، ورأسه يقطر، فكبر، فصلينا معه.
تابعه: عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري.
ورواه الأوزاعي، عن الزهري.
قد خرجه البخاري في ((كتاب الصلاة)) من حديث الأوزاعي، وفيه - أيضاً -: أنه كانَ جنباً.
وخرجه - أيضاً - من رواية صالح بن كيسان، عن الزهري، ولم يذكر:
أنه كانَ جنباً؛ لكن رجوعه إليهم، ورأسه يقطر ماء يدل على ذَلِكَ.
وقد استدل البخاري بهذا الحديث على أن من ذكر في المسجد أنه جنب فإنه يخرج منه ليغسل، ولا يلزمه التيمم لمشية للخروج.
ومثله من كانَ نائماً فاحتلم في المسجد، فإنه يخرج منه ليغتسل، ولا يلزمه أن يتيمم

(1/319)


للخروج.
وقد نص على هذه الصور أحمد في رواية حرب.
واستدل طائفة بأن الصحابة كانوا ينامون في المسجد - يعني: أنه لم يكن يخلو من احتلام بعضهم فيهِ -، ولم ينقل عن أحمد منهم أنه تيمم، ولا أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحداً منهم بذلك، مع علمه بنومهم، وأنه لا يكاد يخلو من محتلم منهم فيهِ.
وقد كانَ ابن عمر شاباً عزباً، ينام في المسجد على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأصل هذه المسألة: أن الجنب: هل يباح لهُ المرور في المسجد من غير تيمم، أم لا؟ وفي المسألة قولان:
أحدهما - وهو قول الأكثرين -: إنه يباح لهُ ذَلِكَ، وهو قول أكثر السلف ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وغيرهم.
وقد تأول طائفة من الصحابة قول الله - عز وجل -: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] ، بأن المراد: النهي عن قربان موضع الصَّلاة - وهو المسجد - في حال الجنابة، إلا
أن يكون عابر سبيل، وهو المجتاز به من غير لبث فيهِ.
وقد روي ذَلِكَ عن ابن مسعود وابن عباس وأنس - رضي الله عنهم -.
وفي ((المسند)) ، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سد أبواب المسجد غير باب
علي. قالَ: فيدخل المسجد جنباً، وهو طريقه ليس لهُ طريق غيره.

(1/320)


وروى ابن أبي شيبة بإسناده، عن العوام، أن علياً كانَ يمر في المسجد، وهو جنب.
وبإسناده، عن جابر، قالَ: كانَ احدنا يمشي في المسجد وهو جنب مجتازاً.
وخرجه - أيضاً - سعيد بن منصور وابن خزيمة في ((صحيحه)) .
وعن زيد بن أسلم، قالَ: كانَ أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمشون في المسجد، وهم جنب.
خرجه ابن المنذر وغيره.
ولا يجوز العبور إلا لحاجة، في اصح الوجهين لأصحابنا، وهو قول أكثر
السلف، منهم: عكرمة ومسروق والنخعي.
وقرب الطريق حاجة، في احد الوجهين لأصحابنا، وهو قول الحسن.
وفي الآخر: ليس بحاجة، وهو وجه للشافعية، والصحيح - عندهم -:
أنه يجوز المرور لحاجة وغيرها.
والقول الثاني: لا يجوز للجنب المرور في المسجد، فأن اضطر إليه تيمم، وهو قول الثوري وابي حنيفة وإسحاق ورواية عن مالك.
وقد روي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قالَ: ((لا أحل المسجد لحائض ولا جنب)) .
خرجه أبو داود من حديث عائشة، وابن ماجه من حديث

(1/321)


أم سلمة وفي إسنادهما
ضعف.
وعلى تقدير صحة ذَلِكَ، فهوَ محمول على اللبث في المسجد؛ جمعاً بين
الدليلين.
وأهل هذه المقالة منهم من قالَ: إذا ذكر في المسجد أنه جنب أو احتلم في المسجد، فإنه يتيمم لخروجه، كما قاله بعض الحنفية.
وحديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري هنا حجة عليهِ.

(1/322)


18 - بَابُ
نَفْضِ الْيَدَينِ من الْغُسلِ من الْجَنابَةِ
خرج فيهِ:

(1/323)


276 - حديث ميمونة: قالت: وضعت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسلاً، فسترته بثوب، وصب على يديه فغسلهما، ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه، وضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها، فتمضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم صب على راسه، وأفاض على جسده، ثم تنحى فغسل قدميه، فناولته ثوباً، فلم يأخذه، فانطلق وهو ينفض يديه.
خرجه من طريق أبي حمزة السكري، عن الأعمش، بإسناده المتقدم.
هذه الرواية مصرحة بأنه نفض يديه.
وفي رواية سبقت قبل ذَلِكَ: ((جعل ينقض الماء بيده)) .
فأما نفض الماء عن بدنه بيده، فقد دل هذا الحديث الصحيح عليهِ، فلا ينبغي أن يكون في عدم كراهته خلاف.
وأما نفض اليد بالماء، فقد كرهه طائفة من أصحابنا والشافعية، ولم يكرهه آخرون من الطائفتين، وهو الصحيح.
ورواية البخاري المخرجة في هذا الباب تدل عليهِ.
وفي ((سنن أبي داود)) ، من حديث هشام بن سعد: حدثني زيد بن

(1/323)


أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ، فأخذ قبضة من ماء، فنفض يده، ثم مسح رأسه وأذنيه.
واستدل من كره ذَلِكَ، بما روى البختري بن عبيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: ((إذا توضأتم فأشربوا أعينكم الماء، ولا تنفضوا أيديكم؛ فإنها مراوح الشيطان)) .
خرجه إسحاق بن راهويه وبقي بن مخلد وأبو يعلى الموصلي في ((مسانيدهم)) .
قالَ ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذا الحديث؟ فقالَ: حديث منكر، والبختري ضعيف الحديث، وأبوه مجهول.
واستدل بعضهم، برد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثوب على ميمونة، على كراهة التنشيف، ولا دلالة فيهِ على الكراهة، بل على أن التنشيف ليس مستحباً، ولا أن فعله هوَ أولى، لا دلالة للحديث على أكثر من ذَلِكَ، كذا قاله الإمام أحمد وغيره من العلماء.
وأكثر العلماء على أن التنشيف من الغسل والوضوء غير مكروه.
وقد روي فعله عن جماعة من الصحابة، منهم: عمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم -، وعن خلق من التابعين، وهو قول الشعبي والثوري والأوزاعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد - في المشهور عنه - وإسحاق وغيرهم.
وهو المشهور عندَ الشافعية، وليس للشافعي في المسألة نص.
وكرهه طائفة من التابعين، وهو قول الحسن بن صالح وابن مهدي، ورواية عن أحمد، وأنكرها الخلال ولم يثبتها.
وكرهه ابن عباس، في الوضوء دون الغسل.

(1/324)


وعمدة من كرهه: أنه أثر عبادة على البدن، فكره إزالته، كخلوف فم
الصائم.
والخلوف، مختلف فيهِ - أيضاً.
وكان مكحول يتنشف بطرف ثوبه، ويرد المنديل، ويقول: إن فضل الوضوء بركة، فأريد أن يكون ذَلِكَ في ثيابي.
خرجه حرب الكرماني.

(1/325)


19 - بَابُ
من بَدأ بِشِق رأسِهِ الأيمَنِ في الْغُسْلِ
خرج فيهِ:

(1/326)


277 - من حديث: صفية بنت شيبة، عن عائشة، قالت: كنا إذا أصاب إحدانا جنابة أخذت بيديها ثلاثاً فوق رأسها، ثم تأخذ بيدها على سقها الأيمن، وبيدها الأخرى على شقها الأيسر.
قد ذكرنا هذا الحديث فيما تقدم، وذكرنا أن ظاهره يدل على أن المرأة تفرغ على رأسها خمساً.
وقد ذكرنا فيما سبق في ((باب: من افرغ على رأسه ثلاثاً)) ، وفي ((باب:
تخليل الشعر)) أحاديث مرفوعة، تدل على البداءة بجانب الرأس الأيمن في الصب عليهِ، وفي تخليله بالماء قبل الإفراغ عليهِ ثلاثاً.
وقد روي من حديث عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر في غسل الجنابة والحيض بالبداءة بشق الرأس الأيمن، وسيأتي في غسل الحيض - إن شاء الله تعالى.
والبداءة بشق الرأس الأيمن مستحبة، وليست واجبة.
روى الحارث، عن علي، قالَ: لا يضرك بأي جانبي رأسك بدأت.
خرجه أبو نعيم الفضل بن دكين في ((كتاب الصلاة)) .

(1/326)


وكذلك البداءة بجانب البدن الأيمن، فليس فيهِ حديث صريح، وإنما يؤخذ من عموم قول عائشة: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستحب التيمن في طهوره.
ومن قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غسل ابنته لما ماتت -: ((ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها)) . والله - سبحانه وتعالى - أعلم.

(1/327)


20 - بَابُ
من أغتسل عرياناً وحده في خلوة
ومن تستر، والتستر فضل
وقال بهز، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الله أحق أن يستتر منه من الناس)) .
حديث بهز، عن أبيه، عن جده، قال: قلت يا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قالَ: ((احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك)) . قالَ: الرجل يكون مع الرجل؟ قالَ ((قالَ ((إن استطعت أن لا يراها أحد فافعل)) . قالَ: فالرجل يكون خالياً؟ قالَ: ((فالله أحق أن تستحي منه)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي - وهذا لفظه.
قالَ: حديث حسن.
وصححه الحاكم وغيره.
خرج البخاري فيهِ:

(1/328)


278 - من حديث: معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((كانَ بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان

(1/328)


موسى
- عليه السلام - يغتسل وحده، فقالوا: والله، ما يمنع موسى أن يغتسل معنا، إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في إثره، يقول: ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى، فقالوا:
والله، ما بموسى بأس، وأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضرباً)) .
قالَ أبو هريرة: والله، إنه لندب بالحجر - ستة أو سبعة - ضرباً بالحجر.

(1/329)


279 - وعن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((بينا أيوب - عليه السلام - يغتسل عرياناً فخر عليهِ جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب، الم أكن أغنيتك عما ترى؟ قالَ: بلى وعزتك، ولكن لا غني بي عن بركتك)) .
ورواه إبراهيم، عن موسى بن عقبة، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن
يسار، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((بيننا أيوب - عليه السلام - يغتسل عرياناً)) .
وخرج البخاري في ((أخبار الأنبياء)) من ((صحيحه)) هذا قصة موسى - عليه السلام -، من وجه آخر، من رواية عوف، عن ابن سيرين والحسن

(1/329)


وخلاس، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن موسى - عليه السلام - كانَ رجلاً حيياً ستيراً، لا يرى من جلده شيء، استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستر هذا الستر إلا من عيب بجلده، إما برص وإما أدرة وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرئه، فخلا يوماً وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه، ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملإبني إسرائيل، فرأوه عرياناً، أحسن ما خلق الله، وأبرأه الله مما
يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضرباً - ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً -، فلذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69] .
((الأدرة)) : انتفاخ الخصية.
و ((الندب)) : الأثر الباقي في الحجر، من ضرب موسى - عليه السلام - لهُ.
قالَ الخطابي: وفيه من الفقه: جواز الاطلاع على عورات البالغين؛ لإقامة حق واجب كالختان ونحوه.
قلت: هذا فيهِ نظر؛ فإن موسى - عليه السلام - لم يقصد التعري عندَ بني إسرائيل؛ لينظروا إليه، وإنما قدر الله لهُ ذَلِكَ حتَّى يبرئه عندهم مما آذوه به. وقد يقال: إن الله لا يقدر لنبيه ما ليس بجائز في شرعه.
وأما الاستدلال به على جواز الاغتسال في الخلوة عرياناً، فهوَ مبني على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يأت شرعنا

(1/330)


بخلافه.
وقد استدل بهذا على الجواز الغسل في الخلوة عرياناً إسحاق بن راهويه
- أيضاً -، وذكر أنه كانَ شرع من قبلنا، إلا أنه لم يرد شرعنا بخلافه.
وقد يمنع هذا من يقول: قد ورد شرعنا بالتستر في الخلوة - أيضاً -، وسيأتي بيان ذَلِكَ في الباب الآتي - إن شاء الله تعالى.
وقد روى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((إن موسى بن عمران - عليه السلام - كانَ إذا اراد أن يدخل الماء لم يلق ثوبه، حتى يواري عورته في الماء)) .
خرجه الإمام أحمد.
وعلي بن زيد، هوَ: ابن جدعان، متكلم فيهِ.
وكذا القول في الاحتجاج بحديث أيوب - عليه السلام - عرياناً.
وأما الطريق الذي ذكره البخاري تعليقاً لحديث اغتسال أيوب - عليه السلام - فخرجه الإمام.

(1/331)


21 - بَابُ
التستر في الغسل عند الناس
خرج فيهِ حديثين:
أحدهما:

(1/332)


280 - من رواية: مالك، عَن أبي النضر مولى عمر بنِ عبيد الله، أن أبا مرة مولى أم هانىء أخبره، أنَّهُ سمع أم هانىء تقول: ذهبت إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة تستره، فقال: ((من هَذهِ؟)) فقلت: أنا أم هانىء.
هَذا الحديث يستدل بهِ لَما بوب عليهِ، وَهوَ: التستر عند الناس؛ لأن ابنة الرجل وغيرها من محارمه لا تنظر إلى العورة، فهي كالرجل معَ الرجل، وقد كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحياناً يستره رجل فيغتسل، وقد روي أن أبا ذر ستره لما اغتسل، وأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام فستر أبا ذر لما اغتسل.
خرجه الإمام أحمد.
وروي - أيضاً - عَن حذيفة مثله.
خرجه ابن أبي عاصم في ((كِتابِ الصيام)) .
وخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي السمح، قالَ: كنت أخدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان إذا أراد أن يغتسل قالَ: ((ولني)) . فأوليه

(1/332)


قفاي، وأنشر الثوب فأستره بهِ.
وإسناده حسن.
الحديث الثاني:

(1/333)


281 - حديث: ميمونة، قالت: سترت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهوَ يغتسل من الجنابة، فغسل يديه، ثُمَّ صب بيمينه على شماله فغسل فرجه وما أصابه، ثُمَّ مسح بيده على الحائط أو الأرض، ثُمَّ توضأ وضوءه للصلاة غير رجليه، ثُمَّ افاض على جسده الماء، ثُمَّ تنحى فغسل قدميه.
خرجه من طريق ابن المبارك، عَن سفيان، عَن الأعمش، بإسناده المتقدم.
ثُمَّ قالَ:
تابعه: أبو عوانة وابن فضيل في الستر.
يعني: عَن الأعمش، فَقد خرجه فيما مضى من طريق أبي حمزة السكري، عَن الأعمش، وخرج - أيضاً - حديث أبي عوانة فيما مضى.
وخرج مسلم من حديث زائدة، عَن الأعمش، بهذا الإسناد، عَن ميمونة، قالت: وضعت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماء وسترته، فاغتسل.
فهذا الحديث مما يستدل بهِ على التستر في الاغتسال في الخلوة؛ لأن

(1/333)


اغتسال الرجل معَ زوجته كاغتساله خالياً.
ويدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يستتر عند اغتساله معَ أهله: ما خرجه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث عائشة، قالت: ما رأيت فرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قط.
لكن؛ في إسناده من لا يعرف.
وخرج البزاز من حديث مسلم الملائي، عَن مجاهد، عَن ابن عباس قالَ: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل من وراء الحجرات، وما رئي عورته قط ومسلم الملائي، فيهِ ضعف.
وخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث يعلى بنِ أمية عَن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنَّهُ رأى رجلاً يغتسل بالبراز، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليهِ، فقالَ: ((إن الله حيي ستير، فإذا أراد أحدكم أن يغتسل فليتوار بشيء)) .
وقد قيل: إن في إسناده انقطاعاً، ووصله بعض الثقات، وأنكر وصله أحمد وأبو زرعة.
وخرج أبو داود في ((مراسيله)) من حديث الزهري، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: ((لا تغتسلوا في الصحراء، إلا أن تجدوا متوارى؟، فإن لَم تجدوا متوارى فليخط أحدكم خطاً كالدار، ثُمَّ يسمي الله، ويغتسل فيها)) .

(1/334)


وخرجه الطبراني متصلاً عَن الزهري، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة ولا يصح وصله.
ولا يصح وصله.
وفي الباب أحاديث أخر.
فالمغتسل في الخلوة إن كانَ معه من يباح لَهُ النظر إلى عورته كزوجته أو أمته، فقالَ أصحابنا وغيرهم: لا يجب عليهِ التستر؛ لحديث بهز بنِ حكيم المذكور في الباب الماضي، والأفضل التستر؛ لحديث ميمونة.
وهذا مبني على القول بجواز نظر أحد الزوجين إلى فرج الآخر، وفيه اختلاف مشهور.
ومن أصحاب من جزم بكراهته كصاحب ((المغني)) ، وحكى أبو الحسن الآمدي رواية عَن أحمد بتحريمه.
وبكل حال؛ فالاستتار أولى، وعليه يدل حديث ميمونة، وحديث عائشة: ما نظرت إلى فرجه قط.
وأكثر العلماء على أنَّهُ غير محرم، منهُم: مجاهد، ومكحول، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق وغيرهم.
وروى بقية بنِ الوليد: حدثني عتبة بنِ أبي حكيم: حدثني سليمان بنِ موسى، وسألته عَن الرجل ينظر إلى فرج امرأته، فقالَ سليمان: سألت عطاء عَن ذَلِكَ، فقالَ: حدثتني عائشة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هَذا البيت، وبيننا وبينها حجاب، قالت: كنت أنا وحبي نغتسل من إناء واحد، تختلف فيهِ أكفنا. قالَ: وأشارت إلى إناء في البيت، قدر الفرق، ستة أقساط.
خرجه حرب الكرماني وابن عدي.
وخرجه بقي بن مخلد من

(1/335)


طريق صدقة بنِ خالد: نا عتبة بنِ أبي حكيم - فذكره بنحوه.
وسليمان بنِ موسى، مختلف في أمره.
وإن لَم يكن معه أحد، فحكى أكثر أصحابنا في كراهته روايتين عَن أحمد؛ لأنه كشف لغرض صحيح، فَهوَ كالكشف للتخلي ونحوه.
ومنهم: من حكى في جواز كشف العورة خالياً روايتين عَن أحمد.
وقالوا: ظاهر كلام أحمد تحريمه؛ فإن الكشف وإن جاز للحاجة، فإنه يتقدر بقدرها، ولا حاجة إلى التكشف للغسل معَ إمكان الاستتار، ولا إلى القيام عرياناً معَ إمكان القعود والتضام.
وروي عَن أبي موسى الأشعري، قالَ: إني لأغتسل في البيت المظلم، فأحني ظهري إذا أخذت ثوبي حياء من ربي عز وجل.
وعنه، قالَ: ما أقمت صلبي في غسل منذ أسلمت.
خرجهما ابن أبي شيبة وغيره.
وظاهر كلام ابن بطة من أصحابنا يدل على وجوب التستر في الغسل في الخلوة، فإن لَم يجد ما يتستر بهِ، وجب أن يتضام ما استطاع.
ونقل حرب عَن أحمد، في الرجل يدخل الماء بغير إزار، فكرهه كراهية شديدة.
قيل لَهُ: كل المياه؟ قالَ: نعم قيل لَهُ: فإذا دخل الماء يحل إزاره؟ قالَ: لا.

(1/336)


وممن كانَ لا يدخل الماء إلا بمئزر: ابن عمر، والحسن، والحسين، وقالا: إن للماء سكاناً. وكذلك قالَ ابن أبي ليلى.
وقال عمرو بنِ ميمون: لا يدخل أحد الفرات إلا بإزار، ولا الحمام إلا بإزار، إلا تستحيون مما استحى منهُ أبوكم آدم؟
وقد روي مرفوعاً من رواية حماد بنِ شعيب، عَن أبي الزبير، عَن جابر: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يدخل الماء إلا بمئزر.
خرجه العقيلي وغيره.
وأنكره الإمام أحمد؛ لأجل حماد بنِ شعيب.
وقد تابعه عليهِ الحسن بن بشر، فرواه عَن زهير، عَن أبي الزبير - أيضاً.
خرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) .
والحسن، مختلف فيهِ، وقد خرج لَهُ البخاري في ((صحيحه)) .
وقال أحمد: روى عَن زهير مناكير.

(1/337)


22 - باب
إذا احتلمت المرأة

(1/338)


282 - حدثنا عبد الله بنِ يوسف: أنا مالك، عَن هشام بنِ عروة، عَن أبيه، عَن زبيب بنت أبي سلمة، عَن أم سلمة، أنها قالت: جاءت أم سليم إمرأة أبي طلحة إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول؟ إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((نعم، إذا رأت الماء)) .
وقد خرجه البخاري في آخر ((كِتابِ العلم)) في ((باب الحياء في العلم)) بزيادة في آخره، واقتصر في هَذا الباب على ما يحتاج إليه فيهِ.
وقد خرجه مسلم من حديث عائشة، وأنس، ومن حديثه عَن أمه.
أم سليم، وله طرق متعددة.
وهذا الحديث: نص على أن المرأة إذا إذا رأت حلماً في منامها، ورأت الماء في اليقضة أن عليها الغسل.
وإلى هَذا ذهب جمهور العلماء، ولا يعرف فيهِ خلاف، إلا عَن النخعي وَهوَ شذوذ.
ولعل النخعي أنكر وقوع ذَلِكَ من المرأة كَما أنكرته أم سلمة على أم سليم، حتى قالَ لها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((تربت يمينك، وبم يشبهها ولدها؟)) .

(1/338)


فبين - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن للمرأة ماء كما للرجل، وأنها إذا رأت الماء في نومها باحتلام، فإنه يجب عليها الغسل منهُ. وفي ذَلِكَ تنبيه على أن الرجل كذلك، وأنه إذا رأى حلماً ورأى الماء، أنَّهُ يلزمه الغسل. وهذا مما لا اختلاف فيهِ بين العلماء.
وقد روى الإمام أحمد وابن ماجه من حديث علي بنِ زيد بنِ جدعان، عَن سعيد بنِ المسيب، عَن خولة بنت حكيم، أنها سألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن المرأة ترى في منامها مايرى الرجل؟ فقالَ: ((ليسَ عليها غسل حتَّى تنزل، كَما أن الرجل ليسَ عليهِ غسل حتَّى ينزل)) .
وقد روي عَن ابن المسيب مرسلاً.
ولو رأى الرجل والمرأة بللاً ولم يذكر احتلاماً، فإن كانت أوصاف المني موجودة فيهِ لزم الغسل، وإن احتمل أن يكون منياً وأن يكون مذياً وغير ذَلِكَ ففيه قولان:
أحدهما: عليهِ الغسل، حكاه الترمذي في ((كتابه)) عَن غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتابعين، وعن سفيان، وأحمد.

(1/339)


وممن روي عَنهُ أنه قالَ: يغتسل: ابن عباس، وعطاء، والشعبي، والنخعي.
وَهوَ قول أبي حنيفة، وظاهر مذهب أحمد، إلا أنَّهُ استثنى من ذَلِكَ أن يكون ثُمَّ سبب يقتضي خروج غير المني، مثل أن يكون قَد سبق منهُ ملاعبته لأهله، أو فكر قبل نومه، أو يكون بهِ إبردة فخرج منهُ بلل بسببها، فلم يوجب الغسل في هَذهِ الصور؛ لأن إحالة البلل الخارج على السبب الموجود المعلوم أولى من إحالته على سبب موهوم.
فإن لَم يوجد شيء من هَذهِ الأسباب لزمه الغسل؛ لأن خروج المني من النائم بالاحتلام هوَ الأغلب، فيحال البلل عند لشك عليهِ دونَ المذي وغيره؛ لأن خروج ذَلِكَ في النوم أندر، ولأن ذمته قَد اشتغلت بطهارة قطعاً، ولا يتيقن، بل ولا يغلب على الظن صحة صلاته بدون الإتيان بطهارة الوضوء والغسل، فلزمه ذَلِكَ.
والقول الثاني: لا غسل عليهِ بذلك حتى يتيقن أنَّهُ مني، وَهوَ قول مجاهد،
وقتادة، والحكم، وحماد، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأبي يوسف، لأن الأصل الطهارة، فلا يجب الغسل بالشك.
والقول الأول أصح.
ولا يشبه هَذا من تيقن الطهارة وشك في الحدث؛ فإن ذاك لَم يتيقن شيئاً موجباً لطهارة في ذمته، بل هوَ مستصحب للطهارة المتيقنة، ولم يتيقن اشتغال ذمته بشيء، وهذا قَد تيقن أن ذمته اشتغلت بطهارة،

(1/340)


فلا تبرأ ذمته بدون الإتيان بالوضوء والغسل.
ورجح هَذا القول طائفة من محققي الشافعية - أيضاً.
وأما إن رأى الرجل والمرأة احتلاماً، ولم ير بللاً، فلا غسل عليهِ، كَما دل عليهِ هَذا الحديث الصحيح، وحكاه الترمذي عَن عامة أهل العلم، وحكاه ابن المنذر إجماعاً عَن كل من يحفظ عَنهُ من أهل العلم.
وحكى ابن أبي موسى من أصحابنا رواية عَن أحمد: أنَّهُ إذا رأى في منامه احتلاماً ووجد لذة الإنزال في منامه، ولم يجد بللاً عند استيقاظه، أنَّهُ يلزمه الغسل، وبناه على قول الإمام أحمد المشهور عَنهُ: إن المني إذا انتقل من محله، ولم يخرج، فإنه يجب الغسل بانتقاله.
وفي هَذا نظر؛ فإنه قَد لا يتحقق انتقاله بمجرد وجود اللذة في النوم.
وقد ورد في هَذا الحديث صريح، خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي من حديث عبد الله بن عمر، عَن أخيه عبيد الله، عَن القاسم، عَن عائشة، قالت: سئل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً؟ قالَ: ((يغتسل)) ، وعن الرجل يرى أنَّهُ قَد احتلم ولم يجد بللاً؟
قالَ: ((لا غسل عليهِ)) . قالت أم سليم: يا رسول الله، هل على المرأةترى ذَلِكَ غسل؟ قالَ: ((نعم، إنما النساء شقائق الرجال)) .
وليس عندَ ابن ماجه: ((قالت أم سليم)) - إلى أخره.

(1/341)


وقد استنكر أحمد هَذا الحديث في رواية مهنا، وقال في رواية الفضل ابن زياد: أذهب إليه.
قالَ الترمذي: إنما روى هَذا عبد الله بنِ عمر، وقد تكلم فيهِ يحيى القطان من قبل حفظه.
قلت: وقد روي معناه - أيضاً - من حديث كعب بنِ مالك. خرجه أبو نعيم في ((تاريخ أصبهان)) ، وإسناده لا يصح. والله أعلم.

(1/342)


23 - باب
عرق الجنب، وأن المسلم لا ينجس

(1/343)


283 - حدثنا علي بنِ عبد الله: نا يحيى: نا حميد: نا بكر، عَن أبي رافع، عَن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ‍لقيه في بعض طريق ‍المدينة وَهوَ جنب، فانخنست منهُ، فذهب فاغتسل ثُمَّ جَاءَ، فقال: ((أين كنت يا أبا هريرة؟)) قالَ: كنت جنباً، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة. فقالَ: ((سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس)) .
قولُهُ: ((انخنست)) ، أي: تواريت، واختفيت منهُ، وتأخرت عَنهُ، ومنه:
الوسواس الخناس وَهوَ الشيطان، إذا غفل العبد عَن ذكر الله وسوس لَهُ، فإذا ذكر الله خنس وتأخر.
ومنه سميت النجوم خنساً، قالَ تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير:15] ، وانخناسها: رجوعها وتواريها تحت ضوء الشمس، وقيل: اختفاؤها بالنهار.
وفيه: دليل على أن الجنب لَهُ أن يذهب في حوائجه ويجالس أهل العلم والفضل، وأنه ليسَ بنجس، وإذا لَم يكن نجساً ففضلاته الطاهرة باقية على طهارتها، كالدمع والعرق والريق، وهذا كله مجمع عليهِ بين العلماء، ولا نعلم بينهم فيهِ اختلافاً.

(1/343)


قالَ الإمام أحمد: عائشة وابن عباس يقولان: لا بأس بعرق الحائض والجنب.
وقال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن عرق الجنب طاهر.
وثبت: عَن عمر وابن عباس وعائشة، أنهم قالوا ذَلِكَ، ثُمَّ سمى جماعة ممن قالَ به بعدهم، وقال: ولا أحفظ عَن غيرهم خلافهم.
قلت: وقد سبق خلاف في كراهة سؤر الحائض والجنب، وفي كراهة الماء الذِي أدخلا فيهِ أيديهما، ولعل من كره ذَلِكَ لَم يكرهه لنجاسة أبدانهما عنده. والله أعلم.
وقد روى وكيع، عَن مسعر، عَن حماد، في الجنب يغتسل ثُمَّ يستدفىء بامرأته قبل أن تغتسل؟ قالَ: لا يستدفىء بها حتَّى يجف.

(1/344)


24 - باب
الجنب يخرج ويمشي في السوق [وغيره]
وقال عطاء: يحتجم الجنب، ويقلم أظفاره، ويحلق رأسه، وإن لَم يتوضأ.
حاصل هَذا: ان الجنب لَهُ تاخير غسل الجنابة ما لَم يضق عليهِ وقت الصلاة، وله أن ينصرف في حوائجه، ويخرج من بيته، ويمشي في الأسواق، ويدخل إلى بيوت أهله وغيرهم لقضاء حوائجه.
وما حكاه عَن عطاء، معناه: أن الجنب لا يكره لَهُ الأخذ من شعره وظفره في حال جنابته، ولا أن يخرج دمه بحجامة وغيرها.
وقال الإمام أحمد في الجنب يحتجم، ويأخذ من شعره وأظفاره، أو يختضب:
لا بأس بهِ.
قالَ: ولا بأس أن يطلي بالنورة، كانَ عطاء يقول: لا بأس بهِ.
وقال: لا بأس أن تختضب الحائض.
وقال إسحاق بنِ راهوايه: خضاب المرأة في أيام حيضها لا باس بهِ، سنة ماضية من أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن بعدهن من أهل العلم.
وروى أيوب، عَن معاذة، أن أمراة سألت عائشة: أتختضب الحائض؟
فقالت: كنا عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نختضب، فلم يكن ينهانا عَنهُ.
خرجه ابن ماجه.

(1/345)


ولا نعلم في هَذا خلافاً إلا ما ذكره بعض أصحابنا وَهوَ أبو الفرج الشيرازي، أن الجنب يكره لَهُ الأخذ من شعره واظفاره، وذكر فيهِ حديثاً مرفوعاً.
وهذا المرفوع خرجه الإسماعيلي في ((مسند علي)) بإسناد ضعيف جداً عَن علي - مرفوعاً -: ((لا يقلمن أحد ظفراً، ولا يقص شعراً، إلا وَهوَ طاهر، ومن اطلى وَهوَ جنب كانَ [علته] عليهِ)) ، وذكر كلاماً، قيل لَهُ: لَم يا رسول الله؟
قالَ: ((لأنه لا ينبغي أن يلقي الشعر إلا وَهوَ طاهر)) .
وهذا منكر جداً، بل الظاهر أنَّهُ موضوع. والله أعلم.
وخرج البخاري في هَذا الباب حديثين:
أحدهما:
قالَ:

(1/346)


284 - نا عبد الأعلى بنِ حماد: نا يزيد بنِ زريع: نا سعيد، عَن قتادة، أن أنس بنِ مالك حدثهم، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذٍ تسع نسوة.
قَد ذكر بعض هَذا الحديث تعليقاً فيما سبق.
وإنما تتم دلالة الحديث على مراده إذا كانَ يطوف عليهن بغسل واحد، وقد تقدم أن ذَلِكَ روي عَن أنس من وجوه متعددة، وإن لَم يخرجها البخاري.

(1/346)


الحديث الثاني:

(1/347)


285 - حدثنا عياش: نا عبد الأعلى: نا حميد، عَن بكر، عَن أبي رافع، عَن أبي هريرة، قالَ: لقيني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى
قعد، فانسللت فأتيت الرحل فاغتسلت، ثُمَّ جئت وَهوَ قاعد، فقالَ: ((أين كنت يا أبا هريرة؟)) فقلت لَهُ، فقالَ: ((سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس)) .
وفي هَذهِ الرواية زيادة على الرواية السابقة، وهي: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ بيد
أبي هريرة [. . .] .
وَهوَ يمشي معه حتى قعدا. وهذا استدل بهِ على استحباب المصفاحة، وعلى جواز مصافحة الجنب، وقد يكون في يده عرق.
وفي المعنى - أيضاً - عَن حذيفة:
خرجه مسلم من طريق أبي وائل، عَن حذيفة: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيه وَهوَ جنب فحاد عَنهُ فاغتسل، ثُمَّ جَاءَ فقالَ: كنت جنباً، فقالَ: ((إن المسلم لا ينجس)) .
وخرجه أبو داود، ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيه، فأهوى إليه، فقالَ: إني جنب، قالَ: ((إن المؤمن لا ينجس)) .
وخرجه النسائي وابن حبان في ((صحيحه)) من طريق أبي بردة، عَن حذيفة، قالَ: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا لقي الرجل من أصحابه مسحه ودعا [لَهُ] .
قالَ: فرأيته يوماً بكرة فحدت عَنهُ، ثُمَّ أتيته حين ارتفع النهار،

(1/347)


فقالَ: ((إني رأيتك فحدت عني؟)) فقلت: إني كنت جنباً، فخشيت أن تمسني، فقالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن المسلم لا ينجس)) .

(1/348)


25 - باب
كينونة الجنب في البيت إذا توضأ
خرج فيهِ حديثين:
أحدهما:
قالَ:

(1/349)


286 - نا أبو نعيم: نا هشام وشيبان، عَن يحيى، عَن أبي سلمة، قالَ: سألت عائشة: أكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرقد وهو جنب؟ قالت: نعم، ويتوضأ.
والثاني:
قالَ:

(1/349)


278 - ثنا قتيبة: نا الليث، عَن نافع، عَن ابن عمر، أن عمر بنِ الخطاب سأل
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيرقد أحدنا وَهوَ جنب؟ قالَ ((نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد وَهوَ
جنب)) .
ومراد البخاري بهذين الحديثين في هَذا الباب: الاستدلال على جوا تأخير الغسل من الجنابة لغير الضرورة، وإن الجنب كانَ في بيته، وإن نام في بيته وَهوَ جنب، ولكنه إذا أراد النوم فإنه يستحب أن يتوضأ، وقد أفرد باباً بعد هَذا.

(1/349)


ويتعلق بهذا: حكم أكل الجنب، وقد وردت فيهِ أحاديث لَم يخرجها البخاري:
فخرج مسلم من حديث شعبة، عَن الحكم، عَن إبراهيم، عَن الأسود، عَن عائشة، قالت: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كانَ جنباً فأراد أن يأكل أو ينام توضأ.
وخرجه وكيع في ((كتابه)) - وعنه الإمام أحمد -، وزاد: ((أو يشرب)) .
وقد تكلم في لفظة: ((الأكل)) :
قالَ الإمام أحمد: قالَ يحيى بنِ سعيد: رجع شعبة عَن قولُهُ: ((يأكل)) ، قالَ أحمد: وذلك لأنه ليسَ أحد يقوله غيره، إنما هوَ في النوم. انتهى.
وقد رواه - أيضاً - ميمون أبو حمزة، عَن إبراهيم، بهذا الإسناد، وزاد:
((وضوءه للصلاة)) .
خرجه الطبراني.
أبو حمزة هَذا، ضعيف جداً.
وروى ابن المبارك، عَن يونس، عَن الزهري، عَن أبي سلمة، عَن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كانَ إذا أراد أن ينام وَهوَ جنب توضأ وضوءه للصلاة، وإذا أراد أن يأكل وَهوَ جنب غسل يديه.

(1/350)


خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
وفي رواية لَهُ: إذا أراد أن يأكل أو يشرب.
وخرج ابن ماجه آخره.
ورواه الأوزاعي، عَن يونس، عَن الزهري كذلك.
ورواه عيسى بنِ يونس، عَن يونس، عَن الزهري، عَن عروة، عَن عائشة.
خرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) .
ورواه صالح بنِ أبي الأخضر، عَن الزهري، عَن أبي سلمة أو غيره - بالشك - عَن عائشة.
خرجه الإمام أحمد.
ورواه ابن وهب، عَن يونس، فجعل ذكر الأكل من قول عائشة، ولم يرفعه.
وأعله أبو داود وغيره بذلك.
وضعف أحمد حديث صالح بنِ أبي الأخضر.
وخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث عطاء

(1/351)


الخرساني عَن يحيى بنِ يعمر، عَن عمار بنِ ياسر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة.
وحسنه الترمذي.
وإسناده منقطع؛ فإن يحيى بن يعمر لَم يسمع من عمار بن ياسر -: قاله ابن معين، [و] أبو داود، والدارقطني وغيرهم.
وروى شرحبيل بنِ سعد، عن جابر، قالَ سئل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن الجنب:
هل ينام أو يأكل أو يشرب؟ قالَ ((نعم، إذا توضأ وضوءه للصلاة)) .
خرجه ابن ماجه وابن خزيمة في ((صحيحه)) .
وشرحبيل، ضعفه يحيى وغيره.
وروي عَن شريك، عَن عبد الله بنِ محمد بنِ عقيل، عَن جابر، عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في الجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب، فليتوضأ وضوءه للصلاة.
خرجه ابن عدي وغيره.

(1/352)


وفي الباب أحاديث أخر ضعيفة.
وقد اختلف العلماء في الجنب إذا أراد الأكل:
فقالت طائفة منهم: يتوضأ، منهُم: علي، وابن عمر، وابن سيرين، وأبو جعفر محمد بنِ علي، والنخعي، ورخص في الشرب بغير وضوء دونَ الأكل.
واستحباب الوضوء للأكل قول الشَافِعي، وأحمد في رواية، وقال معَ هَذا: لا يكره تركه.
وقال القاضي أبو يعلى من أصحابنا: يكره تركه.
وقالت طائفة: المستحب للجنب إذا أراد الأكل أن يغسل كفيه - ومنهم من قالَ: ويمضمض -، وروي هَذا عَن ابن المسيب، ومجاهد، والزهري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وَهوَ رواية عَن أحمد، وزعم الخلال أن أحمد رجع إليها أخيراً.
وأنكرت طائفة الوضوء وغسل اليد للأكل، روي عَن مالك، وقال: لا يغسل يده إلاّ أن يكون فيها قذر.
ومما يتعلق بذلك: جلوس الجنب في المسجد إذا توضأ، وهو قول أحمد، وإسحاق.
قالَ عطاء بنِ يسار: رأيت رجالاً من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجلسون في المسجد وهم مجنبون، إذا توضئوا وضوء الصلاة.
خرجه سعيد بنِ منصور والأثرم.
وعن زيد بنِ أسلم، قالَ: كانَ الرجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجنب،

(1/353)


ثُمَّ يتوضأ، ثُمَّ يدخل المسجد فيجلس فيهِ.
وقال أكثر الفقهاء: لا يجوز للجنب الجلوس في المسجد بوضوء ولا غيره، حتى يغتسل، إلا أن يضطر إلى ذَلِكَ، وَهوَ قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وحكي رواية عَن أحمد، ورجحها بعض أصحابنا.
ومتى اضطر إلى ذَلِكَ للخوف على نفسه أو ماله فله اللبث فيهِ.
وهل يلزمه التيمم لذلك؟ فيهِ قولان:
أحدهما: لا يلزمه ذَلِكَ، وَهوَ منصوص أحمد، وقول أكثر أصحابه؛ لأنه ملجأ إلى ذَلِكَ.
والثاني: يلزمه التيمم، وَهوَ قول الشافعية، واختاره صاحب ((المغني))
مِن أصحابنا.
ورخصت طائفة للجنب في الجلوس في المسجد والمقام فيهِ بكل حال بدون
وضوء، وَهوَ قول داود [والمزني] وابن المنذر.

(1/354)


27 - باب
الجنب يتوضأ، ثُمَّ ينام
خرج فيهِ مِن حديث عائشة، وابن عمر.
فأما حديث عائشة:

(1/355)


288 - فخرجه مِن طريق: عبيد الله بنِ أبي جعفر، عَن محمد بنِ عبد الرحمن
- وَهوَ: أبو الأسود يتيم عروة -، عَن عروة، عَن عائشة، قالت:
كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن ينام وَهوَ جنب غسل فرجه، وتوضأ للصلاة.
وقد خرجه في الباب الماضي مِن حديث يحيى بنِ أبي كثير، عَن أبي سلمة، عَن عائشة.
ولم يخرج حديث الزهري في هَذا، وقد خرجه مسلم، مِن حديث الليث. عَن الزهري، عَن أبي سلمة، عَن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا أراد أن ينام وَهوَ جنب توضأ وضوءه للصلاة قبل أن ينام.
وإنما لَم يخرجه لاختلاف وقع في إسناده على الزهري، فإنه روي: عَنهُ،
عَن أبي سلمة. وروي: عَنهُ، عَن عروة. وروي: عَنهُ، عنهما. وروي:
عَنهُ، عَن أحدهما - بالشك. وروي: عَنهُ، عمن حدثه عَن عائشة - غير مسمى.

(1/355)


وأما حديث ابن عمر، فخرجه مِن طريقين:
أحدهما:

(1/356)


289 - مِن رواية: جويرية، عَن نافع، عَن عبد الله، قالَ: استفتى عمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أينام أحدنا وَهوَ جنب؟ قالَ: ((نعم، إذا توضأ)) .
وقد خرجه في الباب الماضي مِن حديث الليث، عَن نافع.
وخرجه - أيضاً - في [. . .] مِن حديث ابن جريج، فزاد في آخره:
((حتى يغتسل إذا شاء)) .
الثاني:

(1/356)


290 - حديث: مالك، عَن عبد الله بنِ دينار، عَن ابن عمر قالَ: ذكر عمر لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنَّهُ تصيبه الجنابة مِن الليل، فقالَ لهُ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((توضأ، واغسل ذكرك، ثُمَّ نم)) .
ورواه ابن عيينة، عَن عبد الله بنِ دينار، عَن ابن عمر، عَن عمر، أنَّهُ سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
: أينام أحدنا وَهوَ جنب؟ قالَ: ((نعم، ويتوضأ إن شاء)) .

(1/356)


خرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) مِن طريق أحمد بن عبدة، عَن سفيان.
ورواه بشر بنِ مطر، عَن ابن عيينة، عَن عبد الله بنِ دينار، عَن ابن عمر، أن عمر سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أينام أحدنا وَهوَ جنب؟ فقالَ: ((ليتوضأ، ولينم، وليطعم إن شاء)) .
وكذا رواه الحميدي، عَن سفيان.
وهذه الزيادات لا تعرف إلا عَن ابن عيينة.
ورواه سفيان الثوري، عَن عبد الله بنِ دينار، وقال في حديثه: ((ويتوضأ وضوءه للصلاة)) .
وقد ذهب أكثر العلماء إلى هَذهِ الأحاديث، وقالوا: أن الجنب إذا أراد النوم غسل ذكره وتوضأ.
وممن أمر بذلك: علي، وابن عمر، وعائشة، وشداد بنِ أوس، وأبو سعيد الخدري، وابن عباس، وَهوَ قول الحسن، وعطاء، وابن المبارك، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق وغيرهم مِن العلماء، وكرهوا تركه معَ القدرة عليهِ.
ومنهم مِن قالَ: هوَ واجب ويأثم بتركه. وَهوَ رواية عَن مالك، واختارها ابن حبيب مِن أصحابه، وَهوَ قول طائفة مِن أهل الظاهر.
ونقل

(1/357)


مثنى الأنباري عَن أحمد، في الجنب ينام مِن غير أن يتوضأ: هل ترى عليهِ شيئاً؟ قالَ: فلم يعجبه، وقال: يستغفر الله.
وهذا يشعر بأنَّهُ ذنب يستغفر منهُ.
ونص على أنَّهُ يتوضأ وضوء الصلاة كاملاً، واحتج بحديث عائشة: ((توضأ وضوءه للصلاة)) .
وروي عَن ابن عمر، أنَّهُ كانَ يتوضأ وضوء الصلاة سوى غسل رجليه.
وروي عَنهُ، أنَّهُ كانَ يغسل يديه ووجهه.
وعن سفيان الثوري رواية، أنَّهُ يغسل كفيه ثُمَّ ينام.
وحكى ابن عبد البر عَن طائفة مِن العلماء، أنهم حملوا الوضوء عند النوم للجنب على غسل الأذى والفرج وغسل اليدين.
وهذا ترده رواية: ((توضأ وضوءه للصلاة)) .
وروي عَن عائشة: أنَّهُ يتوضأ أو يتيمم: قالَ ابن أبي شيبة: نا عثام بنِ علي، عَن هشام، عن أبيه، عَن عائشة، في الرجل تصيبه جنابة مِن الليل، فيريد أن ينام؟ قالت: يتوضأ، أو يتيمم.
وروي مرفوعاً؛ خرجه الطبراني مِن طريق عمار بنِ نصر أبي ياسر: نا بقية بنِ الوليد، عَن إسماعيل بنِ عياش، عَن هشام بنِ عروة،

(1/358)


عَن أبيه، عَن عائشة، قالت: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا واقع بعض أهله، فكسل أن يقوم، ضرب يده على الحائط، فتيمم.
وهذا المرفوع لا يثبت، وإسماعيل بنِ عياش رواياته عَن الحجازيين ضعيفة، وعمار بنِ نصر ضعيف، ورواية عثام الموقوفة أصح.
ولا فرق في نوم الجنب بين نوم الليل والنهار، حكاه إسحاق بنِ راهويه عَن بعض العلماء، ولم يمسه.
واختلفوا: هل المرأة في ذَلِكَ كالرجل، أم لا؟
فقالت طائفة: هما سواء، وَهوَ قول الليث، وحكي رواية عَن أحمد، وقد نص على التسوية بينهما في الوضوء للأكل.
والثاني: أن الكراهة تخص بالرجل دونَ المرأة، وَهوَ المنصوص عَن أحمد.
ولعله يستدل بأن عائشة لَم تذكر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يأمرها بالوضوء، وإنما أخبرت عَن وضوئه لنفسه.
وقد دلت هَذهِ الأحاديث المذكورة في هَذا الباب: على أن وضوء الجنب يخفف جنابته.
ولو نوى بوضوئه رفع الحدثين ارتفع عَن أعضاء وضوئه حدثاه جميعاً، بناء على أن الغسل لا يشترط لَهُ موالاة، وَهوَ قول الجمهور، خلافاً لمالك، كَما سبق ذكره.
وإن نوى بوضوئه رفع الحدث الأصغر ارتفع وحده، ولم يرتفع معه شيء مِن الجنابة.
وإن نوى النوم، فهل يرتفع حدثه الأصغر؟ يتخرج على الخلاف فيمن نوى طهارة مستحبة، فهل يرتفع حدثه أم لا؟
على قول مِن قالَ: إن

(1/359)


الضوء للنوم واجب، لا يجوز النوم بدونه؛ فإنه يرتفع الحدث حينئذٍ بغير تردد.
وَهوَ كَما لو نوى الجنب بوضوئه اللبث في المسجد؛ فإنه يرتفع بذلك حدثه الأصغر عند أصحابنا.
وقد ورد في الجنب: ((إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيهِ جنب)) ، كذلك روي عَن علي، عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم وصححه.
وورد: ((إن الملائكة لا تشهد جنازة الجنب إذا مات)) ، [خرجه] مِن حديث يحيى بنِ يعمر، عَن عمار، عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر، ولا المتضمخ بزعفران، ولا الجنب)) .
خرجه الإمام أحمد، وأبو داود.
وفي آخر الحديث: الرخصة لَهُ إذا أراد النوم، أو الأكل، أن يتوضأ، وهذا يدل على أن الوضوء يخفف أمره.
وخرج أبو داود مِن حديث الحسن، عَن عمار بنِ ياسر، عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ:
((ثلاثة لا تقربهم الملائكة: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق، والجنب، إلا أن
يتوضأ)) .

(1/360)


وخرجه بقي بنِ مخلد في ((مسنده)) ، ولفظه: ((ثلاثة لا تقربهم الملائكة بخير: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق، والجنب، إلا أن يبدو لَهُ أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة)) .
ويحيى بنِ يعمر، والحسن لَم يسمع مِن عمار.
وخرجه الطبراني، ولفظه: ((إن الملائكة لا تحضر جنازة كافر بخير، ولا جنباً حتى يغتسل أو يتوضأ وضوءه للصلاة، ولا [متضمخاً] بصفرة)) .
وروى وكيع في ((كتابه)) عَن هشام بنِ عروة، عَن أبيه، عَن عائشة، قالت:
إذا أراد أحدكم أن يرقد وَهوَ جنب فليتوضأ؛ فإن أحدكم لا يدري لعله أن يصاب في منامه.
ورخص آخرون في نوم الجنب مِن غير وضوء، مِنهُم: سعيد بنِ المسيب،
وربيعة، وأبو حنيفة، وسفيان الثوري، والحسن بنِ حي، ووكيع.
وروى أبو حنيفة، عَن حماد، عَن إبراهيم، قالَ: كانوا ينامون وهم جنب - يعني: قبل الوضوء.
وقد ورد حديث يدل على الرخصة، مِن رواية أبي إسحاق، عَن الأسود، عَن عائشة، قالت: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينام وَهوَ جنب، ولا يمس ماء.
خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي.
وقال: قَد روى غير واحد عَن الأسود، عَن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كانَ يتوضأ قبل أن ينام - يعني: جنباً.
قالَ: وهذا أصح مِن حديث أبي

(1/361)


إسحاق، عَن الأسود.
قالَ: ويرون أن هَذا غلط مِن أبي إسحاق.
وقد تقدم حديث الحكم، عَن إبراهيم، عَن الأسود، عَن عائشة بخلاف هَذا.
خرجه مسلم.
وكذلك رواه حجاج بنِ أرطاة، عَن عبد الرحمن بنِ الأسود، عَن أبيه عَن عائشة.
خرج حديثه الإمام أحمد، ولفظه: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجنب مِن الليل، ثُمَّ يتوضأ وضوءه للصلاة حتى يصبح، ولا يمس ماء.
وخرجه بقي بنِ مخلد مِن طريق أبي إسحاق، عَن عبد الرحمن بنِ الأسود، عَن أبيه، قالَ: سألت عائشة: كيف كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع إذا أراد أن ينام وهو
جنب؟ قالت: يتوضأ وضوءه للصلاة، ثُمَّ ينام.
وهذا الحديث مما اتفق أئمة الحديث مِن السلف على إنكاره على أبي إسحاق، مِنهُم: إسماعيل بنِ أبي خالد، وشعبة، ويزيد بن هارون، وأحمد بنِ حنبل، وأبو بكر بنِ أبي شيبة، ومسلم بنِ حجاج، وأبو بكر الأثرم، والجوزاني، والترمذي،
والدارقطني.
وحكى ابن عبد البر عَن سفيان الثوري، أنَّهُ قالَ: هوَ خطأ.
وعزاه إلى ((كِتابِ أبي داود)) ، والموجود في ((كتابه)) هَذا الكلام عَن يزيد بن

(1/362)


هارون، لا عَن سفيان.
وقال أحمد بنِ صالح المصري الحافظ: لا يحل أن يروي هَذا الحديث.
يعني: أنَّهُ خطأ مقطوع بهِ، فلا تحل روايته مِن دونَ بيان علته.
وأما الفقهاء المتأخرون، فكثير مِنهُم نظر إلى ثقة رجاله، فظن صحته، وهؤلاء يظنون أن كل حديث رواة ثقة فَهوَ صحيح، ولا يتفطنون لدقائق علم علل الحديث.
ووافقهم طائفة مِن المحدثين المتأخرين كالطحاوي والحاكم والبيهقي.
ثُمَّ اختلفوا في الجمع بينه وبين حديث النخعي، عَن الأسود، عَن عائشة في الوضوء، ولهم في ذَلِكَ مسالك:
أحدها: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا أراد النوم وَهوَ جنب توضأ في غالب أوقاته لفيضلة الوضوء، وكان تارة يترك الوضوء لبيان الجواز، وأن الوضوء غير واجب، وأن النوم بدونه غير محرم، وهذا سلكه طوائف مِن الفقهاء مِن اصحابنا وأصحاب الشَافِعي وغيرهم.
والثاني: أن حديث أبي إسحاق أريد بهِ: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ ينام ولا يمس ماء للغسل، فهو موافق لحديث إبراهيم عن الأسود في المعنى، وهذا مسلك أبي العباس بنِ سريج والطحاوي وغيرهما.
وحديث حجاج، عَن عبد الرحمن بنِ الأسود، عَن أبيه يشهد لهذا التأويل، كَما

(1/363)


تقدم لفظه.
والثالث: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا أصابته الجنابة مِن أول الليل توضأ ثُمَّ نام نومه الطويل المعتاد مِن الليل، وإن أصابته الجنابة مِن آخر الليل بعد قضاء ورده مِن الصلاة هجع هجعة خفيفة للاستراحة، ثُمَّ قام فاغتسل لصلاة الفجر، وهذا مسلك طائفة مِن العلماء، وسلكه الطحاوي - أيضاً -، وأشار إليه ابن عبد البر وغيره.
وقد روى زهير وإسرائيل، عَن أبي إسحاق هَذا الحديث بسياق مطول، وفيه: أن نومه مِن غير أن يمس ماء، إنما كانَ في آخر الليل إذا قضى صلاته، ثُم كانَ لَهُ حاجة إلى
أهله.
خرجه الطحاوي مِن طريق زهير، عَن أبي إسحاق، ولفظه حديثه: كانَ
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينام أول الليل ويحيى آخره، ثُمَّ إن كانَ لَهُ حاجة قضى حاجته، ثُمَّ ينام قبل أن يمس ماء، وإن نام جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة.
وهذه زيادة غريبة.
وقد خرجه الإمام أحمد بسياق مطول، مِن طريق زهير، بدون هَذهِ الزيادة في آخره.
وخرجه مسلم في ((صحيحه)) - أيضاً - مِن طريق زهير، إلا أنَّهُ أسقط منهُ لفظة: ((قبل أن يمس الماء)) ، فلم يذكرها؛ لأنه ذكر في ((كِتابِ التمييز)) لَهُ، أنها وهم مِن أبي إسحاق.

(1/364)


وقد روي عَن أبي إسحاق ما يخالف هَذهِ الرواية: فروى سفيان، عَن أبي
إسحاق، عَن الأسود، عَن عائشة، قالت: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصيب أهله مِن أول الليل، ثُمَّ ينام ولا يمس ماء، فإذا استيقظ مِن آخر الليل عاد إلى أهله واغتسل.
خرجه الإمام أحمد.
وخرج الطبراني مِن طريق حمزة الزيات، عَن أبي إسحاق، عَن الأسود، عَن عائشة، قالت: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجامع نسائه، ثُمَّ لا يمس ماء، فإن أصبح فأراد أن يعاود عاود، وإن لَم يرد اغتسل..
ورواه شريك، عَن أبي إسحاق، فذكر في حديثه: أنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يصيب أهله، ثُمَّ يعود ولا يمس ماء - ولم يذكر النوم.
وهذا كله يدل على أن أبا إسحاق اضطرب في هَذا الحديث، ولم يقم لفظه كَما ينبغي، بل ساقه بسياقات مختلفة متهافتة.
وروى محمد بنِ عمرو، عَن أبي سلمة، عَن عائشة، أنَّهُ سألها: هل كانَ
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينام وَهوَ جنب؟ قالت: نعم، ولكنه كانَ لا ينام حتى يتوضأ وضوءه للصلاة، ويغسل فرجه.
خرجه بقي بنِ مخلد في ((مسنده)) .
وهذا يدل على أنها لَم ترو نومه مِن غير وضوء في حال الجنابة بحال.

(1/365)


28 - باب
إذا التقى الختانان

(1/366)


291 - حدثنا معاذ بنِ فضالة: ثنا هشام.
وحدثنا أبو نعيم، عَن هشام، عَن قتادة، عَن الحسن، عَن أبي رافع، عَن أبي هريرة، عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((إذا جلس بين شعبها الأربع، ثُمَّ جهدها، فَقد وجب الغسل)) .
تابعه: عمرو، عَن شعبة - مثله.
وقال موسى: نا أبان: نا قتادة: أنا الحسن - مثله.
((هشام)) : الراوي عَن قتادة، هوَ الدستوائي.
وقد خرجه مسلم مِن حديثه - أيضاً.
وخرجه - أيضاً - مِن طريق شعبة، عَن قتادة بهِ، وفي حديثه: ((ثُمَّ اجتهد)) .
وخرج النسائي مِن حديث خالد، عَن شعبة، عَن قتادة، قالَ: سمعت الحسن يحدث - فذكره.
وهذه الرواية فيها تصريح قتادة بسماع الحديث مِن الحسن، كالرواية التي ذكرها البخاري - تعليقاً - عَن موسى - وَهوَ: ابن إسماعيل -، عَن أبان.
ومراده بذلك: أنَّهُ أمن بذلك تدليس وقتادة، وثبت سماعه لهذا الحديث

(1/366)


مِن الحسن.
وخرجه مسلم مِن طريق مطر الوراق، عَن الحسن، وزاد فيهِ: ((وإن لَم
ينْزل)) .
وخرجه الإمام أحمد، عَن عفان، عَن همام وأبان، عَن قتادة، ولفظ حديثه:
((إذا جلس بين شعبها الأربع، فأجهد نفسه، فَقد وجب الغسل، أنزل أو لم ينزل)) .
وخرجه البيهقي مِن طريق سعيد بنِ أبي عروبة، عَن قتادة، ولفظ حديثه: ((إذا التقى الختانان وجب الغسل، أنزل أو لَم ينزل)) .
وذكر الدارقطني في ((العلل)) الاختلاف على الحسن في إسناده هَذا الحديث، في ذكر ((أبي رافع)) وإسقاطه منهُ، ورواية الحسن لَهُ عَن أبي هريرة بغير واسطة، وفي وقفه على أبي هريرة ورفعه، ثُمَّ قالَ: الصحيح: حديث الحسن، عَن أبي رافع، عَن أبي هريرة عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ذكر عَن موسى بنِ هارون، أنَّهُ قالَ: سمع الحسن مِن أبي هريرة، إلا أنَّهُ لَم يسمع منهُ عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا قعد بين شعبها الأربع)) ، بينهما أبو رافع. انتهى.
وما ذكره مِن سماع الحسن مِن أبي هريرة، مختلف فيهِ. وقد صح

(1/367)


روايته لهذا الحديث عَن أبي رافع، عَن أبي هريرة.
ولم يخرج البخاري حديث عائشة في هَذا الباب، وقد خرجه مسلم مِن رواية هشام بنِ حسان، عَن حميد بنِ هلال، عَن أبي بردة، عَن أبي موسى، أنَّهُ سأل عائشة: عما يوجب الغسل؟ فقالت: على الخبير سقطت، قالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان، فَقد وجب الغسل)) .
كذا خرجه مِن طريق الأنصاري، عَن هشام. وخرجه مِن طريق عبد الأعلى، عَن هشام، عَن حميد، قالَ: ولا أعلمه إلا عَن أبي بردة، عَن أبي موسى، فتردد في وصل إسناده.
وقد عجب أحمد مِن هَذا الحديث، وأن يكون حميد بنِ هلال حدث بهِ بهذا الإسناد.
وقال الدارقطني: صحيح غريب، تفرد بهِ: هشام بنِ حسان، عَن حميد.
وخرج الإمام أحمد والترمذي مِن حديث علي بنِ زيد بنِ جدعان، عَن سعيد بنِ المسيب، عَن عائشة، قالت: قالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل)) .
وعلي بنِ زيد، فيهِ مقالَ مشهور، وقد اختلف عليهِ في رفعه ووقفه.
ورواه يحيى بنِ سعيد الأنصاري، عَن سعيد بنِ المسيب، أن أبا موسى

(1/368)


دخل على عائشة، فحدثته بذلك، ولم ترفعه.
وخرج مسلم مِن طريق ابن وهب عَن عياض بنِ عبد الله، عَن أبي الزبير، عَن جابر بنِ عبد الله، عَن أم كلثوم، عَن عائشة، أن رجلاً سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن الرجل يجامع ثُمَّ يكسل، هل عليهما الغسل؟ - وعائشة جالسة - فقالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إني لأفعل ذَلِكَ أنا وهذه، ثُمَّ نغتسل)) .
وأم كلثوم، هي بنت الصديق أخت عائشة - رضي الله عَنهُم.
قالَ الدارقطني: لَم يختلف عَن أبي الزبير في رفع هَذا الحديث.
قلت: رواه عَنهُ عياض بنِ عبد الله وابن لهيعة وأشعث، وكلهم رفعوه.
وخرجه الإمام أحمد مِن حديث أشعث وابن لهيعة كذلك.
قالَ الدارقطني: وكذلك رواه قتادة، عَن أم كلثوم، عَن عائشة.
وحديث قتادة، خرجه بقي بنِ مخلد، ولفظ حديثه: عَن عائشة، أنها ونبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلا ذَلِكَ، فلم ينزل الماء، فاغتسل، وأمرها أن تغتسل.
ولكن في سماع قتادة مِن أم كلثوم نظر؛ ولأجله ترك مسلم تخريج الحديث مِن طريقه. والله أعلم.
وعند قتادة فيهِ إسناد آخر: رواه عَن عبد الله بنِ رباح، عَن عائشة، مع الاختلاف عليهِ في رفعه ووقفه. وقيل: عَن قتادة، قالَ: ذكر لنا أن عبد الله ابن رباح سأل عائشة، فدل على أنَّهُ لَم يسمعه منهُ.

(1/369)


ورواه ثابت البناني، عَن عبد الله بن رباح. وقيل: عَنهُ، عَن عبد الرحمن ابن رباح، عَن عبد العزيز بنِ النعمان، عَن عائشة، معَ الاختلاف عليهِ في رفعه ووقفه.
وأنكر أحمد رفعه، وقال: عبد العزيز بنِ النعمان لا يعرف. وقال البخاري: لا أعلم لَهُ سماعاً مِن عائشة. وذكر ابن معين: أن رواية ثابت بإدخال ((عبد العزيز بنِ النعمان)) في إسناده أصح مِن رواية قتادة بإسقاطه.
وخرج الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان في ((صحيحه)) مِن حديث الأوزاعي، عَن عبد الرحمن بنِ القاسم، عَن أبيه، عَن عائشة، قالت: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل، فعلته أنا ورسول اله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاغتسلنا.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وصححه غير واحد مِن الحفاظ.
وقال البخاري: هوَ خطأ، وإنما يرويه الأوزاعي، عَن عبد الرحمن بنِ القاسم - مرسلاً.

(1/370)


ورد قولُهُ بكثرة مِن رواه عَن الأوزاعي مِن أصحابه موصولاً.
وأعله الإمام أحمد: بأنَّهُ روي عَن الأوزاعي موقوفاً، قالَ أحمد:
والمرفوع في آخر الحديث إنما كانَ الأوزاعي يرويه عَن يحيى بنِ أبي كثير، أنَّهُ بلغه عَن عائشة، وكذا رواه أيوب، عَن عبد الرحمن بنِ القاسم، عَن أبيه، عَن عائشة موقوفاً، لَم يرفعه.
وذكر أبو زرعة الدمشقي هَذا عَن أحمد، ثُمَّ قالَ أبو زرعة: رأيت أبا مسهر
[على] هَذا الحديث على يحيى بنِ معين، فقبله يحيى، ولم ينكره. وقد روي عَن عائشة مِن طرق أخرى متعددة مرفوعاً.
وخرجه البزار مِن طريق ابن أبي فديك: نا الضحاك بنِ عثمان، عَن عبد الله ابن عبيد بنِ عمير، عَن أبيه، عَن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: ((إذا التقى
الختانان وجب الغسل)) .
وإسناده كلهم ثقات مشهورون.
وقد صح ذَلِكَ عَن عائشة مِن قولها غير مرفوع مِن طرق كثيرة جداً، وفي بعضها اختلاف في رفعه ووقفه.
ولعل عائشة كانت تارة تفتي بذلك، وتارة تذكر دليله، وَهوَ ما عندها عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهِ، كم أن المفتي أحياناً يذكر الحكم مِن غير دليل وأحيانا يذكره مع دليله، والله أعلم.
والجلوس بين شعبها الأربع قيل: المراد يدي المرأة ورجليها، وقيل غير ذَلِكَ مما يرغب عَن ذكره.

(1/371)


و ((جهدها)) : هوَ عبارة عَن الاجتهاد في إيلاج الحشفة في الفرج، وَهوَ المراد
- أيضاً - مِن التقاء الختانين.
قالَ الشَافِعي: معنى التقاء الختانين: أن تغيب الحشفة في الفرج يصير الختان الذِي خلف الحشفة حذو ختان المرأة.
وقال أحمد: التقاء الختانين: المدورة - يعني: الحشفة -، فإذا غابت فالختان بعدها.
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه مِن رواية حجاج بنِ أرطأة، عَن عمرو بنِ
شعيب، عَن أبيه، عَن جده، عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فَقد وجب الغسل)) .
وحجاج، مدلس. وقيل: أن أكثر رواياته عَن عمرو بنِ شعيب سمعها مِن العرزمي ودلسها.
والعرزمي، ضعيف.
وقد روي - أيضاً - هَذا الحديث عَن العرزمي، عَن عمرو.
وروي مِن وجه ضعيف، عَن أبي حنيفة، عَن عمرو، بهِ، وزاد في روايته: ((أنزل أو لَم ينزل)) .
خرجه الطبراني.
وقوله: ((إذا التقى الختانان)) استند بهِ الإمام أحمد على أن المرأة تختتن
كالرجل.
وختان المرأة مشروع بغير خلاف، وفي وجوبه عَن أحمد روايتان، على قولُهُ بوجبه على الرجال.

(1/372)


29 - باب
غسل ما يصيب مِن فرج المرأة

(1/373)


292 - حدثنا أبو معمر: نا عبد الوارث، عَن الحسين المعلم: قالَ يحيى: وأخبرني أبو سلمة، أن عطاء بنِ يسار أخبره، أن زيد بنِ خالد الجهني أخبره، أنَّهُ سأل عثمان بنِ عفان، فقالَ: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يمن؟ فقالَ: عثمان: يتوضأ كَما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره. وقال عثمان: سمعته مِن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسألت عَن ذَلِكَ علي بنِ أبي طالب، والزبير بنِ العوام، وطلحة بنِ عبيد الله، وأبي بنِ كعب، فأمروه بذلك.
وأخبرني أبو سلمة، أن عروة بنِ الزبير أخبره: أن أبا أيوب أخبره، أنَّهُ سمع ذَلِكَ مِن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(1/373)


293 - حدثنا مسدد: نا يحيى، عَن هشام بنِ عروة، قالَ: أخبرني أبي، قالَ: أخبرني أبو أيوب، قالَ: أخبرني أبي بنِ كعب، أنَّهُ قالَ: يا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جامع الرجل [المرأة] فلم ينزل؟ قالَ: ((يغسل ما مس المرأة منهُ، ثُمَّ يتوضأ
ويصلي)) .

(1/373)


قالَ أبو عبد الله: الغسل أحوط، وذلك الأخير، إنما بينا لاختلافهم.
الذِي وقع في الرواية الأولى عَن أبي سلمة، عَن عروة، أن أبا أيوب أخبره، أنَّهُ سمع ذَلِكَ مِن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهم، نبه عليهِ الدارقطني وغيره، تدل عليهِ الرواية الثانية، عَن هشام بن عروة، عَن أبيه: أخبرني أبو أيوب، قالَ: أخبرني أبي بنِ كعب، عَن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد روى عبد الرحمن بنِ سعاد، عَن أبي أيوب، عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ:
((الماء مِن الماء)) .
خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه، وليس فيهِ تصريح أبي أيوب بسماعه مِن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد خرج البخاري فيما تقدم في ذكر نواقض الوضوء: حديث ذكوان أبي
صالح، عَن أبي سعيد، عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((إذا أعجلت - أو أقحطت - فلا غسل عليك)) .
وخرج - أيضاً -: حديث يحيى بنِ أبي كثير الذِي خرجه هنا مِن طريق شيبان، عَن يحيى، إلى قولُهُ في آخر الحديث: ((وأبي بنِ كعب، فأمروه بذلك)) ، ولم يذكر ما بعده،

(1/374)


ولعله تركه لما وقع فيهِ مِن الوهم الذِي ذكرناه.
وعند البخاري في كلتا الروايتين: أن علياً والزبير وطلحة وأبي بنِ كعب أفتوا بذلك، ولم يرفعوه إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد وقع في رواية غيره: أنهم رفعوه - أيضاً - إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد قالَ علي بنِ المديني في هَذا الحديث: إنه شاذ.
وقال ابن عبد البر: هوَ منكر؛ لَم يتابع عليهِ يحيى بن أبي كثير.
وقد صح عَن أكثر مِن ذكر عَنهُ مِن الصحابة: أنَّهُ لا غسل بدون الإنزال - خلاف ذَلِكَ.
قالَ علي بنِ المديني: قَد روي عَن علي وعثمان وأبي بنِ كعب بأسانيد جياد أنهم أفتوا بخلاف ما في هَذا الحديث.
قالَ الدارقطني: رواه زيد بنِ أسلم، عَن عطاء بنِ يسار، عَن زيد بنِ خالد: أنَّهُ سأل خمسة أو أربعة مِن أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمروه بذلك، ولم يرفعه.
يشير إلى أن زيد بنِ أسلم يخالف أبا سلمة في رفعه، ولم يرفع منهُ شيئاً.
وقد كانَ قوم مِن الأنصار قديماً يقولون: ((إن الماء مِن الماء)) ، ثُمَّ استقر الأمر على أنَّهُ إذا التقى الختانان وجب الغسل، ورجع أكثر مِن كان يخالف في ذَلِكَ عَنهُ.
وأما المهاجرون، فَقد صح عَنهُم أنهم قالوا: ((إذا التقى الختانان وجب
الغسل)) ، مِنهُم: عمر، وعثمان، وعلي، فدل على أن عثمان وعلياً علموا أن ((الماء مِن الماء)) نسخ، وإلا فكيف يروي عثمان أو

(1/375)


غيره عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً، ثُمَّ يرجع عَن القول بهِ؟
وفي ((صحيح مسلم)) عَن أبي موسى، قالَ: اختلف في ذَلِكَ رهط مِن المهاجرين والأنصار، فقالَ الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا مِن الدفق أو مِن الماء،
فقالَ المهاجرون: بل إذا خالط فَقد وجب الغسل. قالَ: قالَ أبو موسى: فأنا أشفيكم مِن ذَلِكَ، وذكر قيامه إلى عائشة وما روته لهُ عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَما سبق ذكره.
وروى وكيع، عَن القاسم بنِ الفضل، عَن أبي جعفر محمد بنِ علي، قالَ:
قالَ المهاجرون: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل، وقال الأنصار: الماء مِن الماء.
وروى ابن أبي شيبة، عَن حفص بنِ غياث، عَن حجاج، عَن أبي جعفر، قالَ:
أجمع المهاجرون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أن ما أوجب الحدين:
الجلد والرجم، أوجب الغسل.
وروى إبراهيم بنِ مسلم الخوارزمي في ((كِتابِ الطهور)) عَن ابن نمير، عَن يحيى بنِ سعيد، عَن سعيد بنِ الميسب، قالَ: كانَ أبو بكر وعمر يأمران بالغسل - يعني: مِن الإكسال.
وروى مالك عَن ابن شهاب، عَن سعيد بنِ المسيب، قالَ: إن عمر وعثمان وعائشة كانوا يقولون: إذا مس الختان الختان فَقد وجب الغسل.

(1/376)


وروى عبد الرزاق عَن معمر، عَن الزهري، عَن سعيد بنِ المسيب، قالَ: كانَ عمر وعثمان وعائشة والمهاجرون الأولون يقولون: إذا مس الختان الختان فَقد وجب الغسل.
وروى وكيع، عَن محمد بنِ قيس الأسدي، عَن علي بنِ ربيعة، عَن علي، قالَ: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل.
وروى ابن أبي شيبة والأثرم بإسنادهما، عَن عاصم، عَن زر، عَن علي، قالَ: إذا التقى الختانان وجب الغسل.
وقد روي، عَن علي مِن وجوه متعددة.
فهؤلاء الخلفاء الراشدون - رضي الله عَنهُم - قَد أجمعوا على ذَلِكَ، معَ أن بعضهم
روى عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلافه، فلولا أنهم علموا أن ما خالف ذَلِكَ منسوخ لما خالفوا ما سمعوا مِن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ووافقهم على ذَلِكَ أكابر الصحابة، مِنهُم:
ابنِ مسعود، وابن عمر، وأبو ذر، وأبو هريرة، ومعاذ بنِ جبل فقيه الأنصار، وأبو هريرة، وعائشة أم المؤمنين، وهي أعلم الناس بهذا، وإليها مرجع الناس كلهم.
وقد صح عنها، أنها افتت بذلك، وأمرت بهِ، وأن الصحابة الذين سمعوا منها رجعوا إلى قولها في ذَلِكَ؛ فإنها لا تقول مثل هَذا إلا عَن علم عندها فيهِ عَن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا سيما وقد علمت اختلاف الصحابة في ذَلِكَ.
وجمع عمر الناس كلهم على قولها، فلو كانَ قولها رأياً مجرداً عَن رواية لما استجازت رد روايات غيرها مِن الصحابة برأيها.
وقد روي عنها مِن وجوه كثيرة، وبعضها صحيح، كَما تقدم، أنها روته عَن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولاً أو فعلاً.
فما

(1/377)


بقي بعد ذَلِكَ سوى العناد والتعنت، ونعوذ بالله مِن مخالفة ما أجمع عليهِ الخلفاء الراشدون، وجمع عليهِ عمر كلمة المسلمين، وأفتت بهِ عائشة أم المؤمنين، أفقه نساء هَذهِ الأمة، وهي أعلم بمستند هَذهِ المسألة مِن الخلق أجمعين.
فروى مالك عَن يحيى بنِ سعيد، عَن سعيد بنِ المسيب، أن أبا موسى الأشعري أتى عائشة أم المؤمنين، فقالَ لها: فقالَ لها: لقد شق علي اختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمر إني لأعظم أن استقبلك بهِ، قالت: ما هو؟ ما كنت سائلاً عَنهُ أمك
فسلني عَنهُ.
قالَ لها: الرجل يصيب أهله ثُمَّ يكسل ولا ينزل؟ فقالت: إذا جاوز الختان الختان فَقد وجب الغسل. فقالَ أبو موسى: لا أسأل عَن هَذا أحداً بعدك.
ورواه حماد بنِ زيد وعبد الوهاب الثقفي وغيرهما، عَن يحيى بنِ سعيد، بنحوه.
وسمى عبد الوهاب في روايته مِن قالَ: لا يجب الغسل بذلك: أبي ابن كعب، وأبا أيوب، وزيد بنِ ثابت، وسمى مِمن يأمر بالغسل: عمر وعثمان.
وروى ابن إسحاق، عَن يزيد بنِ أبي حبيب، عَن معمر عبد الله بنِ أبي حيية، عَن عبيد بنِ رفاعة بنِ رافع، عَن أبيه رفاعة، قالَ: كنت عند عمر، فقيل لَهُ: إن زيد
بنِ ثابت يفتي برأيه في الذِي يجامع ولا ينزل، فدعاه، فقالَ: أي عدو نفسه، قَد بلغت أن تفتي الناس في مسجد

(1/378)


رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برأيك! قالَ: ما فعلت، ولكن حدثني
عمومتي، عَن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قالَ: أي عمومتك؟ قالَ: أبي بنِ كعب، وأبو أيوب، ورفاعة بنِ رافع. قالَ: فالتفت عمر إلي، فقلت: كنا نفعله على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: فسألتم عَنهُ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالَ: كنا نفعله على عهده، قالَ: فجمع الناس، وأصفق الناس على أن الماء لا يكون إلا مِن الماء، إلا رجلين: علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، قالا: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل.
فقالَ علي: يا أمير المؤمنين، إن أعلم الناس بهذا أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأرسل إلى حفصة، فقالت: لا علم لي، فأرسل إلى عائشة، فقالت: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل. قالَ: فتحطم عمر - يعني: تغيظ -، ثُمَّ قالَ: لا يبلغني أن أحداً فعله ولم يغتسل إلا انهكته عقوبة.
خرجه الإمام أحمد وبقي بن مخلد في ((مسنديهما)) ، ومسلم في ((كِتابِ التفصيل)) وَهوَ ((كِتابِ الناسخ والمنسوخ)) لَهُ.
ثُمَّ خرجه مِن طريق عبد الله بنِ صالح، عَن الليث: حدثني يزيد بنِ أبي حبيب، عَن معمر بنِ أبي حيية، عَن عبيد بنِ رفاعة، أن زيد بنِ ثابت كانَ يقول - فذكره بنحوه، ولم يقل: ((عَن أبيه)) .
ومعمر بنِ أبي حيية، ويقال: ابن أبي حبيبة، وثقه ابن معين وغيره.

(1/379)


وعبيد بنِ رفاعة، ذكره ابن حبان في ((ثقاته)) .
وهذه الرواية يستفاد منها أمور:
منها: أن كثيراً مِن الأنصار كانَ يقلد بعضهم بعضاً في هَذهِ المسألة، ولم يسمع ذَلِكَ مِن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا قليل مِنهُم.
ومنها: أنَّهُ لَم يظهر في ذَلِكَ المجلس شيء مِن روايات الأنصار الصريحة عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما ظهر التمسك بفعل كانوا يفعلونه على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسأله عمر: هل علم بهِ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فلم يكن لَهُم جواب، وهذا مما يدل على أن تلك الروايات التصريحية
حصل الوهم في نقلها مِن بعض الرواة.
ومنها: أن المهاجرين الذين روي أنهم كانوا يخالفون في ذَلِكَ ويروون عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلافه كعثمان رجعوا عما سمعوه منهُ، وكذلك الأنصار - أيضاً -، ورأسهم: أبي بنِ كعب رجع، وأخبر أن ما سمعه من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذَلِكَ كانَ رخصة في أول الأمر ثُمَّ نسخ وزال، وهذا يدل على أنَّهُ تبين لَهُم نسخ ما كانوا سمعوه بياناً شافياً، بحيث لَم يبق فيهِ لبس ولا شك.
وقد ذكر الشَافِعي: أنَّهُ اتفق هوَ ومن ناظره في هَذهِ المسألة على أن هَذا أقوى مما يستدل بهِ عليها.
ويدل على رجوع أبي وغيره مِن الأنصار: ما روى الزهري، عَن سهل بنِ
سعد، عَن أبي بنِ كعب، قالَ: إنما كانَ الماء مِن الماء رخصة في أول الإسلام، ثُمَّ نهي عنها.
خرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح، وخرجه ابن ماجه مختصراً.
وخرجه الإمام أحمد ولفظه: إن الفتيا التي كانوا يقولون: الماء مِن الماء، رخصة كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص بها في أول الإسلام، ثُمَّ أمرنا بالغسل بعد.
وخرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) مِن طريق معمر، عَن الزهري، قالَ:
أخبرني سهل بنِ سعد، قالَ: إنما كانَ قول الأنصار: الماء مِن الماء رخصة في

(1/380)


أول الإسلام، ثُمَّ أمرنا بالغسل.
ولم يذكر في إسناده: ((أبياً)) ، وصرح فيهِ بسماع الزهري.
وقيل: إنه وهم في ذَلِكَ؛ فإن الزهري لَم يسمعه مِن سهل، فَقد خرجه أبو داود وابن خزيمة - أيضاً - مِن طريق عمرو بن الحارث، عَن الزهري، قالَ: حدثني بعض مِن أرضى، عَن سهل، عَن أبي - فذكره.
ورجح هَذهِ الرواية: الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما.
ورجح آخرون: سماع الزهري لهُ من سهل، مِنهُم: ابن حبان.
ووقع في بعض نسخ ((سنن أبي داود)) ما يدل عليهِ؛ فإنه لم يذكر أحد مِن أصحاب الزهري بين الزهري وسهل رجلاً [غير] عمرو بنِ الحارث، فلا يقضي لَهُ على سائر أصحاب الزهري.

(1/381)


وقد خرجه ابن شاهين مِن طريق ابن المبارك، عَن يونس، عَن الزهري، قالَ: حدثني سهل بنِ سعد، عَن أبي بنِ كعب - فذكره، بهِ.
وبتقدير أن يكون ذَلِكَ محفوظاً؛ فَقد اخبر الزهري أن هَذا الذِي حدثه يرضاه، وتوثيق الزهري كاف في قبول خبره.
وقد قيل: أنَّهُ أبو حازم الزاهد، وَهوَ ثقة جليل، فقد خرج أبو داود وابن خزيمة مِن رواية أبي غسان محمد بنِ مطرف، عَن أبي حازم، عَن سهل بنِ سعد، قالَ: حدثني أبي بن كعب - فذكره.
قالَ البيهقي: هَذا إسناد صحيح موصول.
وقد ذكر ابن أبي حاتم، عَن أبيه، أن بعضهم ذكر أنه لا يعرف لَهُ أصلاً.
وفي ذَلِكَ نظر.
وقد روي عَن أبي بنِ كعب مِن وجوه أخر:
روى شعبة، عَن سيف بنِ وهب، عَن أبي حرب بنِ أبي الأسود، عَن عميرة بنِ يثربي، عَن أبي كعب، قالَ إذا التقى ملتقاهما فَقد وجب الغسل.
خرجه ابن أبي شيبة والبخاري في ((تاريخه)) .

(1/382)


وروى مالك، عَن يحيى بنِ سعيد، عَن عبد الله بنِ كعب مولى عثمان، أن محمود بنِ لبيد سأل زيد بنِ ثابت عَن الرجل يصيب أهله ثُمَّ يكسل ولا ينزل؟ فقالَ: زيد يغتسل، فقالَ لَهُ محمود بن لبيد: إن أبي بن كعب - كانَ لا يرى الغسل؟ فقالَ لَهُ زيد: إن أبياً نزع عَن ذَلِكَ قبل أن يموت.
وقال الشَافِعي: أنا إبراهيم بن محمد، عَن خارجة بن زيد، عَن أبيه، عَن أبي بن كعب، أنَّهُ كانَ يقول: ليسَ على مِن لَم ينزل غسل، ثُمَّ نزع عَن ذَلِكَ أبي قبل أن يموت.
وقد روي، عَن عائشة ما يدل على النسخ: مِن رواية الحسين بنِ عمران: حدثني الزهري، قالَ: سألت عروة عَن الذِي يجامع ولا ينزل؟ قالَ: نول الناس أن يأخذوا بالآخر مِن أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حدثتني عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يفعل ذَلِكَ ولا يغتسل، وذلك قبل فتح مكة، ثُمَّ اغتسل بعد ذَلِكَ، وأمر الناس بالغسل.
خرجه ابن حبان في ((صحيحه)) والدارقطني.
والحسين بنِ عمران، ذكره ابن حبان في ((ثقاته)) ، وقال الدارقطني: لا بأس بهِ، وقال البخاري: لا يتابع على حديثه.
وقال العقيلي بعد تخريجه لهذا الحديث: الحديث ثابت عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الغسل لالتقاء

(1/383)


الختانين، ولا يحفظ هذا اللفظ إلا في هَذا الحديث.
والقول بأن ((الماء مِن الماء)) نسخ بالأمر بالغسل مِن التقاء الختانين هوَ المشهور عند العلماء مِن الفقهاء والمحدثين، وقد قرره الشافعي، وأحمد، ومسلم بنِ الحجاج، والترمذي، وأبو حاتم الرازي وغيرهم مِن الأئمة.
وقد روي معنى ذَلِكَ عَن سعيد بنِ المسيب وغيره مِن السلف.
وقد قيل: إن ((الماء مِن الماء)) إنما كانَ في الاحتلام.
وقد روي عَن ابن عباس هَذا التأويل.
خرجه الترمذي مِن وجه فيهِ مقال.
وروي - أيضاً - عَن عكرمة، وذهب إليه طائفة.
وهذا التأويل إن احتمل في قولُهُ: ((الماء مِن الماء)) فلا يحتمل في قولُهُ: ((إذا أعجلت - أو أقحطت - فلا غسل عليك)) ، وفي قولُهُ: ((يغسل ما مس المرأة منهُ، ويتوضأ، ويصلي)) .
وقال طائفة مِن العلماء: لما اختلفت الأحاديث في هَذا وجب الأخذ بأحاديث الغسل مِن التقاء الختانين، لما فيها مِن الزيادة التي لَم يثبت لها معارض، ولم تبرأ الذمة بدون الاغتسال؛ لأنه قَد تحقق أن التقاء الختانين موجب لطهارة،

(1/384)


ووقع التردد: هل يكفي الوضوء أو لا يكفي دونَ غسل البدن كله؟ فوجب الأخذ بالغسل؛ لأنه لا يتيقن براءة الذمة بدونه.
وهذا معنى قول البخاري: الغسل أحوط.
ولذلك قالَ أحمد - في رواية ابن القاسم -: الأمر عندي في الجماع أن آخذ بالاحتياط فيهِ، ولا أقول: الماء مِن الماء.
وسلك بعضهم مسلكاً أخر، وَهوَ: أن المجماع وإن لَم ينزل يسمى جنباً ومجامعاً وواطئاً، ويترتب جميع أحكام الوطء عليهِ، والغسل مِن جملة الأحكام.
وهذا معنى قول مِن قالَ مِن السلف: أنوجب المهر والحد ولا نوجب الغسل؟
وهذا القول هوَ الذِي استقر عليهِ عمل المسلمين.
وقد خالف فيهِ شرذمة مِن المتقدمين، مِنهُم: أبو سلمة، وعروة، وهشام ابن عروة، والأعمش، وابن عيينة، وحكي عَن الزهري وداود.
وقال ابن عبد البر: اختلف أصحاب داود في هَذهِ المسألة.
وقال ابن المنذر: لا أعلم اليوم بين أهل العلم في ذَلِكَ اختلافاً.
وذهب إليه طائفة مِن أهل الحديث، مِنهُم: بقي بنِ مخلد الأندلسي، وقد نسبه بعضهم إلى البخاري وليس في كلامه ما يصرح بهِ، وحكاه الشَافِعي عَن بعض أهل الحديث مِن أهل ناحيتهم وغيرهم، وذكر مناظرته لَهُم.
وقد كانَ بعض الناس قي زمن الإمام أحمد ينسب ذَلِكَ إليه، فكان

(1/385)


أحمد ينكر ذَلِكَ، ويقول: ما أحفظ أني قلت بهِ قط، وقيل لَهُ: بلغنا أنك تقوله؟ فقالَ: الله المستعان، وقال - أيضاً -: مِن يكذب علي في هَذا أكثر مِن ذاك.
وأحمد مِن أبعد الناس عَن هَذهِ المقالة، فظاهر كلامه يدل على أن الخلاف فيها غير سائغ، فإنه نص على أنَّهُ لو فعل ذَلِكَ مرة أنَّهُ يعيد الصلاة التي صلاها بغير غسل مِن التقاء الختانين، ونص على أنَّهُ لا يصلى خلف مِن يقول: ((الماء مِن الماء)) ، معَ قولُهُ: إنه يصلي خلف مِن يحتجم ولا يتوضأ، ومن يمس ذكره ولا يتوضأ متأولاً، فدل على أن القول بأن ((الماء مِن الماء)) لا مساغ للخلاف فيهِ.
وكذلك ذكر ابن أبي موسى وغيره مِن الأصحاب.
وحمل أبو بكر عبد العزيز كلام أحمد على أنه لَم يكن متأولاً، وهذا لا يصح؛ لأن القول بأن ((الماء مِن الماء)) لا يكون بغير تأويل. والله أعلم.
وقد سبق عَن عمر، أنَّهُ قالَ: لا أوتى بأحد فعله إلا أنهكته عقوبة.
وقد روي عَنهُ مِن وجه آخر، رواه ابن أبي شيبة، عَن ابن إدريس، عَن
الشيباني، عَن بكير بنِ الأخنس، عَن سعيد بنِ المسيب، قالَ: قالَ عمر: لا أوتي برجل فعله - يعني: جامع ولم يغتسل؛ يعني: وَهوَ لَم ينزل - إلا أنهكته عقوبة.
وخرجه إبراهيم بن مسلم الخوارزمي في ((كِتابِ الطهور)) عَن أسباط

(1/386)


بن
محمد، عَن الشيباني، بهِ.
وفي رواية أن سعيد بنِ المسيب قالَ: سمعت عمر بنِ الخطاب على المنبر يقول: لا أجد أحداً جامع امرأته ولم يغتسل، أنزل أو لَم ينْزل، إلا عاقبته.
وقد قالَ عمر هَذا بمحضر مِن المهاجرين والأنصار، ولم يخالف فيهِ أحد.
والظاهر: أن جميع مِن كانَ يخالف فيهِ مِن الأنصار رجع عَنهُ، ورأسهم: أبي بنِ كعب، وزيد بنِ ثابت، ومِن المهاجرين عثمان بنِ عفان.
وفي رجوع أبي بنِ كعب وعثمان بنِ عفان معَ سماعها مِن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلاف ذَلِكَ: دليل على أنَّهُ ظهر لهما أن ما سمعاه زال حكمه، واستقر العمل على غيره.
وعامة مِن روي عَنهُ: ((إن الماء مِن الماء)) روي عَنهُ خلاف ذَلِكَ، والغسل مِن التقاء الختانين، مِنهُم: عثمان، وعلي، سعد بنِ أبي وقاص، وابن مسعود، وابن
عباس، وزيد بنِ ثابت، وأبي بنِ كعب، ورافع بنِ خديج.
وهذا يدل على رجوعهم عما قالوه في ذَلِكَ؛ فإن القول بنسخ ((الماء مِن الماء)) مشهور بين العلماء، ولم يقل أحد مِنهُم بالعكس.
وقد روت عائشة وأبو هريرة عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغسل بالتقاء الختانين.
وقد روى ذَلِكَ - أيضاً - مِن رواية عبد الله بنِ عمرو،

(1/387)


ورافع بنِ خديج، ومعاذ بنِ جبل، وابن عمر، وأبي أمامة وغيرهم، إلا أن في أسانيدها ضعفاً.
وفي حديث رافع التصريح بنسخ الرخصة - أيضاً.
أعلم؛ أن هَذا الضعف إنما هوَ في الطرق التي وصلت إلينا منها هَذهِ الأخبار، فأما المجمع الذِي جمع عمر فيهِ المهاجرين والأنصار، ورجع فيهِ أعيان مِن كانَ سمع مِن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرخصة، فأنهم لَم يرجعوا إلا لأمرٍ ظهر لَهُم في ذَلِكَ الجمع وبعده، وعلموه
وتيقنوه، وإن كانت تفاصيله لَم تنقل إلينا، واستقر مِن حينئذ العمل على الغسل مِن التقاء الختانين، ولم يصح عَن أحد مِن الصحابة بعد ذَلِكَ إظهار الفتيا بخلافه، فوجب اتباع سبيل المؤمنين، والأخذ بما جمع عليهِ الأمة أمير المؤمنين، والرجوع إلى مِن رجعت إليه الصحابة في العلم بهذه المسألة، وهي أم المؤمنين.
والمخالف يشغب بذكر الأحاديث التي رجع عنها رواتها، ويقول: هي صحيحة
الأسانيد، وربما يقول: هي أصح إسناداً مِن الأحاديث المخالفة لها.
ومن هنا: كره طوائف مِن العلماء ذكر مثل هَذهِ الأحاديث والتحديث بها؛ لأنها
تورث الشبهة في نفوس كثير مِن الناس.
وخرج الإسماعيلي في ((صحيحه)) مِن حديث زيد بنِ أخزم، قالَ:

(1/388)


سمعت يحيى - يعني: القطان - وسئل عَن حديث هشام بنِ عروة: حديث أبي أيوب: ((الماء مِن
الماء)) ؟ - فقالَ: نهاني عَنهُ عبد الرحمن - يعني: ابن مهدي.
ولهذا المعنى - والله أعلم - لَم يخرج مالك في ((الموطإ)) شيئأً مِن هَذهِ
الأحاديث، وهي أسانيد حجازية على شرطه.
والمقصود بهذا: أن المسائل التي اجتمعت كلمة المسلمين عليها مِن زمن الصحابة، وقل المخالف فيها وندر، ولم يجسر على إظهارها لإنكار المسلمين عليهِ، [كلها] يجب على المؤمن الأخذ بما اتفق المسلمون على العمل بهِ ظاهراً؛ فإن هَذهِ الأمة لا يظهر أهل باطلها على أهل حقها، كَما أنها لا تجتمع على ضلالة، كَما روي ذَلِكَ عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه أبو داود وغيره.
فهذه المسائل قَد كفى المسلم أمرها، ولم يبق فيها إلا اتباع ما جمع عليهِ الخلفاء الراشدون أولي العلم والعدل والكمال، دونَ الاشتغال فيها بالبحث والجدال وكثرة القيل والقال؛ فإن هَذا كله لَم يكن يخفى عمن سلف، ولا يظن ذَلِكَ بهم سوى أهل الجهل والضلال.
والله المسئول العصمة والتوفيق.

(1/389)