فتح الباري لابن
رجب بسم الله الرحمن الرحيم
6 - كِتابِ الحيض
وقول الله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ
هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}
[البقرة:222] إلى قولُهُ: {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}
[البقرة:222] .
خرج مسلم في ((صحيحه)) مِن حديث حماد بنِ سلمة: نا ثابت،
عَن أنس، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لَم
يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ
عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ
فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] إلى آخر الآية، فقالَ رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اصنعوا كل
شيء إلا النكاح)) - وذكر بقية الحديث.
فقوله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} ، أي: عَن
حكمه والمباشرة
فيهِ.
و ((المحيض)) ، قيل: إنَّهُ مصدر كالحيض، وقيل: بل هوَ اسم
للحيض، فيكون اسم مصدر.
وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة:222] ، فسر الأذى
بالدم النجس وبما فيهِ مِن القذر والنتن وخروجه مِن مخرج
البول، وكل ذَلِكَ يؤذي.
قالَ الخطابي: الأذى هوَ المكروه الذِي ليسَ بشديد جداً؛
كقوله: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذى} [آل عمران:111] ،
وقوله: {إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} [النساء:
102] ، قالَ: والمراد: أذى يعتزل منها موضعه لا غيره، ولا
يتعدى
(2/5)
ذَلِكَ إلى سائر بدنها، فلا يجتنبن ولا
يخرجن مِن البيوت كفعل المجوس وبعض أهل الكِتابِ، فالمراد:
أن الأذى بهن لا يبلغ الحد الذِي يجاوزونه إليه، وإنما
يجتنب منهن موضع الأذى، فإذا تطهرن حل غشيانهن.
وقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض}
[البقرة:222] ، قَد فسره النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - باعتزال النكاح، وسيأتي فيما بعد - إن شاء
الله تعالى - ذكر ما يحرم مِن مباشرة الحائض وما يحل منهُ
في الباب الذِي يختص المباشرة مِن الكِتابِ.
وقد قيل: بأن المراد بالمحيض هاهنا: مكان الحيض، وهو
الفرج، ونص على ذَلِكَ الإمام أحمد، وحكاه الماوردي عَن
أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجمهور
المفسرين، وحكى الإجماع على أن المراد بالمحيض المذكور في
أول الآية: الدم.
وقد خالف في ذَلِكَ ابن أبي موسى مِن أصحابنا في ((شرح
الخرقي)) ، فزعم أن مذهب أحمد أنَّهُ الفرج - أيضاً -،
وفيه بعد.
وجمهور أصحاب الشَافِعي على أن المراد بالمحيض في الآية
الدم، في الموضعين.
(2/6)
وقوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنّ} [البقرة: 222]
، نهي بعد الأمر باعتزالهن في المحيض عَن قربانهن فيهِ،
والمراد بهِ: الجماع - أيضاً -، وفيه تأكيد لتحريم الوطء
في الحيض.
وقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] فيهِ قراءتان
{يَطْهُرْنَ} [البقرة:222]- بسكون الطاء وضم الهاء -، و
{يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بفتح الطاء وتشديد الهاء.
وقد قيل: إن القراءة الأولى أريد بها انقطاع الدم،
والقراءة الثانية أريد بها التطهر بالماء.
وممن فسر الأولى بانقطاع الدم ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وابن جرير وغيره: يشيرون إلى حكاية الإجماع على ذَلِكَ.
ومنع غيره الإجماع، وقال: كل مِن القراءتين تحتمل أن يراد
بها الاغتسال بالماء، وأن يراد بها انقطاع الدم، وزوال
أذاه.
وفي ذَلِكَ نظر، فإن قراءة التشديد تدل على نسبة فعل
التطهير إليها، فكيف يراد بذلك مجرد انقطاع الدم ولا صنع
لها فيهِ.
وقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] غاية النهي عَن
قربانهن، فيدل بمفهومه على أن ما بعد التطهير يزول النهي.
فعلى قراءة التشديد المفسرة بالاغتسال إنما يزول النهي
بالتطهر بالماء، وعلى قراءة التخفيف يدل على زوال النهي
بمجرد انقطاع الدم.
واستدل بذلك فرقة قليلة على إباحة الوطء بمجرد انقطاع
الدم، وَهوَ قول أبي حنيفة، وأصحابه، إذا انقطع الدم لأكثر
الحيض، أو لدونه، ومضى عليها وقت صلاة، أو كانت غير
ومخاطبة بالصلاة
(2/7)
كالذمية.
وحكي عَن طائفة إطلاق الإباحة، مِنهُم: ابن كثير وابن عبد
الحكم، وفي نقله عنهما نظر.
والجمهور على أنه لا يباح بدون الاغتسال، وقالوا: الآية،
وإن دلت بمفهومها على الإباحة بالانقطاع إلا أن الإتيان
مشروط لَهُ شرط آخر وَهوَ التطهر، والمراد بهِ: التطهر
بالماء؛ بقولِهِ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنّ}
[البقرة:222] ، فدل على أنَّهُ لا يكفي مجرد التطهر، وأن
الإتيان متوقف على التطهر، أو على الطهر والتطهر بعده،
وفسر الجمهور التطهر بالاغتسال، كَما في قولُهُ: {وَإِنْ
كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] .
وحكي عَن طائفة مِن السلف: أن الوضوء كاف بعد انقطاع الدم،
منهُم: مجاهد، وعكرمة، وطاوس، على اختلاف عَنهُم في
ذَلِكَ.
قالَ ابن المنذر: روينا بإسناد فيهِ مقال عن عطاء وطاوس
ومجاهد، أنهم قالوا: إذا أدرك الزوج الشبق أمرها أن تتوضأ،
ثُمَّ أصاب منها إن شاء.
وأصح مِن ذَلِكَ عَن عطاء ومجاهد موافقة القول الأول -
يعني: المنع منهُ وكراهته بدون الغسل -، قالَ: ولا يثبت
عَن طاوس خلاف ذَلِكَ. قالَ: وإذا بطل أن يثبت عَن هؤلاء
قول ثان كانَ القول الأول كالإجماع. انتهى.
ولذلك ضعف القاضي إسماعيل المالكي الرواية بذلك عَن طاوس
(2/8)
وعطاء؛ لأنها مِن رواية ليث بن أبي سليم
عنهما، وَهوَ ضعيف.
وحكي عَن بعض السلف أن التطهر غسل الفرج خاصة، رواه ابن
جريج وليث عَن عطاء، ورواه معمر عَن قتادة، وحكاه بعض
أصحابنا عَن الأوزاعي، ولا أظنه يصح عَنهُ، وقاله قوم مِن
أهل الظاهر.
والصحيح الذِي عليهِ جمهور العلماء: أن تطهر الحائض كتطهر
الجنب، وَهوَ الاغتسال.
ولو عدمت الماء، فهل يباح وطؤها بالتيمم؟ فيهِ قولان:
أحدهما: يباح بالتيمم، وَهوَ مذهبنا، ومذهب الشَافِعي
وإسحاق والجمهور، وقول يحيى بن بكير مِن المالكية، والقاضي
إسماعيل مِنهُم - أيضاً.
وقال مكحول ومالك: لا يباح وطؤها بدون الاغتسال بالماء.
وقوله: {فَأْتُوهُنّ} [البقرة:222] إباحة، وقوله: {مِنْ
حَيْثُ
(2/9)
أَمَرَكُمُ اللَّه} [البقرة: 222] أي:
باعتزالهن، وَهوَ الفرج، أو ما بين السرة والركبة، على ما
فيهِ مِن الاختلاف كَما سيأتي، روي هَذا عَن ابن عباس،
ومجاهد، وعكرمة.
وقيل: المراد: مِن الفرج دونَ الدبر، رواه علي بنِ أبي
طلحة عَن ابن عباس.
وروى أبان بنِ صالح، عن مجاهد، عنة ابن عباس، قالَ: {مِنْ
حَيْثُ أَمَرَكُمُ
الله} [البقرة: 222] أن تعتزلوهن. ورواه عكرمة، عَن ابن
عباس - أيضاً.
وقيل: المراد مِن قبل التطهر لا مِن قبل الحيض، وروي عَن
ابن عباس - أيضاً -، وغيره.
و ((التوابون)) : الرجاعون إلى طاعة الله مِن مخالفته.
و ((المتطهرون)) : فسره عطاء وغيره: بالتطهر بالماء،
ومجاهد وغيره: بالتطهر مِن الذنوب.
وعن مجاهد، أنَّهُ فسره: بالتطهر مِن أدبار النساء.
ويشهد لَهُ قول قوم لوط: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ
يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82] .
(2/10)
1 - باب
كيف كانَ بدء الحيض؟
وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((هَذا
شيء كتبه الله على بنات آدم)) .
وقال بعضهم: كانَ أول ما أرسل الحيض على بني إسرائيل.
قالَ أبو عبد الله: وحديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أكثر.
أما مِن قالَ: أول ما أرسل الحيض على بني إسرائيل: فَقد
روي ذَلِكَ عَن حماد بنِ سلمة، عَن هشام بنِ عروة، عَن
فاطمة بنت المنذر، عَن أسماء بنت أبي بكر، قالت: إنما سلطت
الحيضة على نساء بني إسرائيل؛ لأنهن كن اتخذن أرجلاً مِن
خشب يتطاولن بها في المساجد.
وأما ما رجحه البخاري مِن أن الحيض لَم يزل في النساء منذ
خلقهن الله، فَهوَ المروي عَن جمهور السلف:
قالَ عمرو بنِ محمد العنقزي: نا عباد بنِ العوام، عَن
سفيان بنِ حسين، عَن يعلى بنِ مسلم، عَن سعيد بنِ جبير،
عَن ابن عباس، قالَ: لما أكل آدم مِن الشجرة التي نهي
عنها، قالَ الله لَهُ: ((ما حملك على أن عصيتني؟)) قالَ:
ربِّ، زينته لي حواء، قالَ: ((فإني أعقبها أن لا تحمل إلا
كرها، ولا تضع إلا كرهاً، ودميتها في الشهر مرتين)) ، فلما
سمعت حواء ذَلِكَ رنت، فقالَ لها: عليك الرنة
(2/11)
وعلى بناتك.
وروى ابن جرير في ((تفسيره)) : نا يونس: نا ابن وهب، عَن
عبد الرحمن بن زيد بنِ أسلم، في قولُهُ: {وَلَهُمْ فِيهَا
أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة:25] ، قالَ: المطهرة: التي
لا تحيض، قالَ: وكذلك خلقت حواء عليها السلام حتى عصت،
فلما عصت قالَ الله تعالى: ((إني خلقتك مطهرة، وسأدميك
كَما أدميت هَذهِ الشجرة)) .
وقد استدل البخاري لذلك بعموم قول النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن هَذا شيء كتبه الله على بنات
آدم)) ، وَهوَ استلال ظاهر حسن، ونظيره: استدلال الحسن على
إبطال قول مِن قالَ: أول مِن رأى الشيب إبراهيم - عليه
السلام -، بعموم قول الله عز وجل: {اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ
قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً
وَشَيْبَةً} [الروم: 54] .
(2/12)
294 - حدثنا علي بنِ عبد الله المديني: نا
سفيان، قالَ: سمعت عبد الرحمن بنِ القاسم، قالَ: سمعت
القاسم يقول: سمعت عائشة تقول: خرجنا لا نرى إلا الحج،
فلما كنت بسرف حضت، فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أبكي، فقالَ: ((مالك! أنفست؟))
قلت: نعم. قالَ: ((إن هَذا أمر كتبه الله على بنات آدم،
فاقضي ما يقضي الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت)) . قالت:
وضحى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن
نسائه بالبقر.
(2/12)
هَذا إسناد شريف جداً؛ لجلالة رواته،
وتصريحهم كلهم بسماع بعضهم مِن بعض، فلهذا صدر بهِ البخاري
((كِتابِ: الحيض)) .
وفيه اللفظة التي استدل بها البخاري على أن الحيض لازم
للنساء منذ خلقهن الله، وأنه لَم يحدث في بني إسرائيل،
كَما تقدم.
وقد رويت هَذهِ اللفظة - أيضاً - عَن جابر، أن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ ذَلِكَ لعائشة في
الحج - بمعنى حديث عائشة.
خرجه مسلم في ((صحيحه)) .
ورويت - أيضاً - عَن أم سلمة، مِن رواية محمد بنِ عمرو: نا
أبو سلمة، عَن أم سلمة، قالت: كنت معَ رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في لحافه، فوجدت ما تجد النساء
مِن الحيضة، فانسللت مِن اللحاف، فقالَ: رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أنفست؟)) قلت: وجدت
ما تجد النساء مِن الحيضة، قالَ: ((ذاك ما كتب الله على
بنات آدم)) . قالت: فانسللت فأصلحت مِن شأني، ثُمَّ رجعت،
فقالَ لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((تعالي فادخلي معي في اللحاف)) . قالت: فدخلت معه.
خرجه [. . . . . .] ابن ماجه.
ومعنى: ((كتب الله على بنات آدم)) : أنَّهُ قضى بهِ عليهن
وألزمهن إياه، فهن متعبدات بالصبر عليهِ.
(2/13)
وجاء في رواية للإمام أحمد مِن رواية
الأوزاعي، عَن أبي عبيد، عَن عائشة، عَن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في هَذا الحديث: أن عائشة
قالت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا أحسب
النساء خلقن إلا للشر، قالَ: ((لا، ولكنه شيء ابتلي بهِ
نساء بني آدم)) .
ولفظ: ((الكتابة)) يدل على اللزوم والثبوت، إمَّا شرعاً
كقوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ، أو قدراً
كقوله: {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}
[المجادلة: 21] .
وهذا الحديث مِن هَذا القبيل.
(2/14)
2 - باب
غسل الحائض رأس زوجها وترجيله
(2/15)
295 - نا عبد الله بنِ يوسف: نا مالك، عَن
هشام بنِ عروة، عَن أبيه، عَن عائشة، قالت: كنت أرجل رأس
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا حائض.
(2/15)
296 - حدثنا إبراهيم بنِ موسى: نا هشام بنِ
يوسف، أن ابن جريج أخبرهم: أنا هشام، عَن عروة، أنَّهُ
سئل: أتخدمني الحائض أو تدنو مني المرأة وهي جنب؟
فقالَ عروة: كل ذَلِكَ علي هين، وكل ذَلِكَ تخدمني، وليس
على أحد في ذَلِكَ بأس؛ أخبرتني عائشة أنها كانت ترجل رأس
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي حائض،
ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ
مجاور في المسجد، يدني لها رأسه وهي في حجرتها، فترجله وهي
حائض.
هَذا الحديث يدل على طهارة بدن الحائض، وعلى مباشرتها
بيدها لرأس الرجل بالدهن والتسريح، وَهوَ معنى ترجيل الرأس
المذكور في هَذا الحديث.
وقد روى تميم بنِ سلمة، عَن عروة هَذا الحديث، ولفظه:
((فأغسله وأنا حائض)) .
وكذلك روى لفظة: ((الغسل)) إبراهيم، عَن الأسود، عَن
عائشة.
(2/15)
ولو كانت يدها نجسة لمنعت مِن دهن رأس
الرجل وغسله.
وقد ألحق عروة الجنب بالحائض، وَهوَ كَما قالَ، بل الجنب
أولى بالطهارة؛ فإنه أخف حدثاً.
وقد كانَ ان عباس يكره ترجيل الحائض رأسه، ختى نهته خالته
ميمونة عَن ذَلِكَ: قالَ الإمام أحمد: ثنا سفيان، عَن
منبوذ، عَن أمه، قالت: كنت عند ميمونة، فأتاها ابن عباس،
فقالت: يابني! مالك شعثاً رأسك؟ قالَ: أم عمار مرجلتي
حائض، قالت: أي بني! وأين الحيضة مِن اليد؟ كانَ رسول الله
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخل على أحدانا وهي
حائض، فيضع رأسه في حجرها، فيقرأ القرآن وهي حائض، ثُمَّ
تقوم إحدانا بخمرته فتضعها في المسجد وهي حائض، أي بني!
وأين الحيضة مِن اليد؟
واستدل جماعة مِن الفقهاء بترجيل الحائض رأس الحي وغسله
على جواز غسلها للميت، مِنهُم: أبو ثور، وله في ذَلِكَ
حكاية معروفة، إذ سئل عَن هَذهِ المسألة جماعة مِن أهل
الحديث فلم يهتدوا للجواب، فأجاب أبو ثور بالجواز، واستدل
بهذا الحديث، وبحديث: ((إن حيضتك ليست بيدك)) .
وحكي عَن أحمد - أيضاً - نظير هَذهِ الحكاية بإسناد فيهِ
بعض مِن لايعرف.
وممن رخص في تغسيل الحائض والجنب للميت: عطاء والثوري.
(2/16)
ورخص الحسن للجنب أن يغسل الميت، وحكى
الإمام أحمد عَنهُ، أنَّهُ قالَ في الحائض: لا تغسل الميت،
وعن علقمة أنَّهُ قالَ: تغسله.
وفي ((كِتابِ عبد الرزاق)) ، عَن علقمة، أن الحائض لا تغسل
الميت.
واختلفت الرواية عَن أحمد فيهِ، فروي عَنهُ أنَّهُ قالَ:
لا بأس بذلك.
وروي عَنهُ أنَّهُ رخص دونَ الحائض إلا للضرورة.
وقد تقدم عَنهُ رواية أخرى بالرخصة للحائض مطلقاً، وأن في
إسنادها نظراً.
وكره علقمة والنخعي والثوري وأحمد أن يحضر الجنب والحائض
عند الميت عند خروج روحه؛ لما روي مِن امتناع الملائكة مِن
دخول البيت الذِي فيهِ الجنب.
وفي الجملة؛ فبدن الحائض طاهر، وعرقها وسؤرها كالجنب، وحكى
الإجماع على ذَلِكَ غير واحد مِن العلماء.
وسئل حماد: هل تغسل الحائض ثوبها مِن عرقها؟ فقالَ: إنما
يفعل ذَلِكَ المجوس.
وحكى بعض الفقهاء عَن عبيدة السلماني: أن الحائض لا تقرب
الرجل ولا تمس منهُ شيئاً، قالَ بعضهم: ولا أظنه يصح
عَنهُ.
وحكى بعضهم عَن أبي يوسف: أن بدن الحائض نجس، وأنها إذا
أصابت ماء قليلاً نجسته، وقال بعضهم - أيضاً -: لا يصح
هَذا عَن أبي
(2/17)
يوسف.
ولكن أبو حنيفة وأصحابه يقولون: على بدن الجنب، وأعضاء
المحدث نجاسة حكمية، تنتقل إلى الماء الذِي يرتفع بهِ حدثه
فيصير نجساً.
وهذا إنما يقولونه في الحائض إذا انقطع دمها وأصابها
الماء، فإنه ينجس ويرتفع حدثها بذلك وإن لَم تنو رفع الحدث
بهِ، على أصلهم المعروف: أن النية لا تشرط للطهارة بالماء.
(2/18)
3 - باب
قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض
وكان أبو وائل يرسل خادمه وهي حائض إلى أبي رزين؛ لتأتيه
بالمصحف فتمسكه بعلاقته.
(2/19)
297 - حدثنا أبو نعيم الفضل بنِ دكين: سمع
زهيراً، عَن منصور بنِ صفية، أن أمه حدثته، أن عائشة
حدثتها، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كانَ يتكيء في حجري وأنا حائض، ثُمَّ يقرأ القرآن.
هَذا إسناد كله مصرح فيهِ بالتحديث والسماع، إلا في رواية
زهير، - وَهوَ ابن معاوية -، عَن منصور بنِ صفية بنت شيبة.
ومراد البخاري بهذا الباب: أن قرب القاريء مِن الحائض ومن
موضع حيضها لا يمنعه مِن القراءة؛ فإنه لَم يكن للحيض
تأثير في منع القراءة لَم يكن في إخبار عائشةبقراءة النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القرآن وَهوَ متكيء
في حجرها في حال الحيض معنى، فإنها أرادت أن قرب فم
القاريء للقرآن مِن محل الحيض لا يمنعه القراءة.
وقد زعم بعضهم: أن في الحديث دلالة على أن الحيض نفسه غير
مانع مِن
القراءة، ولا يصح ذَلِكَ، إنما مراد عائشة: أن قرب الطاهر
مِن الحائض لا يمنع مِن القراءة.
(2/19)
وقد صرحت ميمونة أم المؤمنين بهذا المعنى،
كَما خرجه الإمام أحمد مِن حديث ابن جريج: أخبرني منبوذ،
أن أمه أخبرته، أنها بينا هي جالسة عند ميمونة زوج النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ دخل عليها ابن عباس،
فقالت: مالك شعثاً؟ قالَ: أم عمار مرجلتي حائض. فقالت: أي
بني! وأين الحيضة مِن اليد؟ لقد كانَ النَّبيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخل على إحدانا وهي متكئة
حائض، قَد علم أنها حائض، فيتكىء عليها فيتلو القرآن وَهوَ
متكىء عليها، أو يدخل عليها قاعدة وهي حائض، فيتكىء في
حجرها فيتلوا القرآن وَهوَ متكىء في حجرها، وتقوم وهي حائض
فتبسط لَهُ خمرة في مصلاه - وفي رواية: فتبسط خمرته -
فيصلي عليها في بيتي، أي بني! وأين الحيضة مِن اليد؟
وخرجه النسائي مختصراً، ولم يذكر قصة ابن عباس.
قالَ القرطبي: ويؤخذ مِن هَذا الحديث جواز استناد المريض
للحائض في صلاته إذا كانت أثوابها طاهرة. قالَ: وَهوَ أحد
القولين عندنا.
وفي ((تهذيب المدونة)) في صلاة المريض: ولا يستند بحائض
ولا جنب.
وقد ألحق البخاري بذلك إمساك الحائض بعلاقة المصحف وحمله
كذلك، وقد حكاه عن أبي وائل.
وقد اختلف الفقهاء في حمل المُحدِث المصحف بعلاقة: هل هوَ
جائز، أم لا؟ وفيه قولان مشهوران:
(2/20)
وممن رخص في ذَلِكَ: عطاء والحسن والأوزاعي
والثوري، وكرهه مالك، وحرمه اصحاب الشَافِعي، وعن أحمد
روايتان، ومن أصحابنا مِن جزم بجوازه مِن غير خلاف حكاه.
وأصل هَذهِ المسألة: منع المحدث مِن مس المصحف، وسواء كانَ
حدثه حدثاً أكبر، وَهوَ مِن يجب عليهِ الغسل، أو أصغر،
وَهوَ مِن يجب عليهِ الوضوء.
هَذا قول جماهير العلماء، وروي ذَلِكَ عَن علي وسعد وابن
عمر وسلمان، ولا يعرف لَهُم مخالف مِن الصحابة، وفيه
أحاديث عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
متصلة ومرسلة.
وخالف في ذَلِكَ أهل الظاهر.
وأجاز الحكم وحماد للمحدث مسه بظهر الكف دونَ بطنه.
وعن الحسن، قالَ: لابأس أن يأخذ المصحف غير المتوضىء فيضعه
مِن مكان إلى
مكان.
وعن سعيد بنِ جبير، أنَّهُ بال، ثُمَّ غسل وجهه ويديه،
ثُمَّ أخذ المصحف فقرأ فيهِ.
رواهما عبد الرزاق.
وعن الشعبي، قالَ: مس المصحف مالم تكن جنباً.
ذكره وكيع.
وأما الاستدلال بقولِهِ عز وجل: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ
الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] ففيه كلام ليسَ هَذا
موضعه. والله أعلم.
وإن عدم الماء وتيمم، فله مس المصحف عندنا الشافعية
والأكثرين، خلافاً للأوزاعي.
(2/21)
وفي الحديث: دلالة على جواز قراءة القرآن
متكئاً، ومضطجعاً، وعلى جنبه، ويدخل ذَلِكَ في قول الله عز
وجل: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً
وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} ... [آل عمران: 191] .
(2/22)
4 - باب
مِن سمى النفاس حيضاً
(2/23)
298 - حدثنا المكي بنِ إبراهيم: نا هشام،
عَن يحيى بنِ أبي كثير، عَن أبي
سلمة، أن زينب بنت أم سلمة حدثته، أن أم سلمة حدثتها،
قالت: بينا أنا معَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مضطجعة في خميصة إذ حضت، فانسللت، فأخذت ثياب
حيضتي، فقالَ:
((أنفست؟)) فقلت: نعم، فدعاني فانضطجعت معه في الخميلة.
مكي بنِ إبراهيم: أكبر شيخ للبخاري، وَهوَ في طبقة مالك،
ويروي عَن هشام بنِ عروة وغيره مِن الأكابر.
وقد أسقط بعض الرواة مِن إسناد هَذا الحديث ((زينب بنت أبي
سلمة)) ، وجعله عَن أبي سلمة، عَن أم سلمة، والصواب: ذكر
((زينب)) فيهِ.
وقد تقدم حديث عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - دخل عليها وهي في الحج وهي تبكي، فقالَ:
((مالك؟ أنفست؟)) قالت: نعم.
ظاهر حديث أم سلمة وعائشة يدل على الحيض يسمى نفاساً. وقد
بوب البخاري على عكس ذَلِكَ، وأن النفاس يسمى حيضاً، وكأن
مراده: إذا سمي الحيض نفاساً فَقد ثبت لأحدهما اسم الآخر،
فيسمى كل
(2/23)
واحد مِنهُما باسم الآخر، ويثبت لأحدهما
أحكام الآخر.
ولا شك أن النفاس يمنع ما يمنع مِنه الحيض ويوجب ما يوجب
الحيض إلا في الاعتداد بهِ؛ فإنها لا تعتد بهِ المطلقة
قرءاً، ولا تستبرأ بهِ الأمة.
وقد حكى ابن جرير وغيره الإجماع على أن حكم النفساء حكم
الحائض في الجملة.
وقد اعتمد ابن حزم على هَذا الحديث في ان الحائض والنفاس
مدتهما واحدة، وأن أكثر النفاس كأكثر الحيض، وَهوَ قول لَم
يسبق إليه، ولو كانَ هَذا الاستنباط حقاً لما خفي علي أئمة
الإسلام كلهم إلى زمنه.
وقريب مِن هَذا: ما نقل حرب في ((مسائله)) ، قالَ: قلت
لإسحاق: رجل قالَ لأمراته: إذا حضت فأنت طالق، فولدت، هل
يكون دم النفاس حيضاً؟ قالَ: تطلق؛ لأن دم النفاس حيض، إلا
أن يقصد حين يحلف قصد الحيض، وذكر حديث عائشة، أن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ لها في الحج:
((مالك أنفست؟)) انتهى.
وهذا يرده: أنَّهُ لو كانَ دم النفاس حيضاً لاعتدت بهِ
المطلقة قرءاً، ولا قائل بذلك، بل قَد حكى أبو عبيد وابن
المنذر وغيرهما الإجماع على خلافه.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((أنفست)) ،
قالَ القرطبي: قيدناه بضم النون وبفتحها، قالَ الهروي
وغيره: نفست المرأة ونفست إذا ولدت - يعني: بالوجهين: فتح
(2/24)
النون وضمها -، قالَ: وإذا حاضت [قيل] :
نفست بفتح النون لا غير.
فعلى هَذا يكون ضم النون هنا خطأ؛ فإن المراد بهِ الحيض
قطعاً، لكن حكى أبو حاتم عَن الأصمعي الوجهين في الحيض
والولادة، وذكر ذَلِكَ غير واحد.
فعلى هَذا تصح الروايتان، وأصل ذَلِكَ كله من خروج الدم
وَهوَ المسمى:
نفساً. انتهى.
وقال الخطابي: ترجم أبو عبد الله هَذا الباب بقولِهِ:
((مِن سمى النفاس
حيضاً)) ، والذي ظنه مِن ذَلِكَ وهم. قالَ: وأصل هَذهِ
الكلمة مِن النفس، وَهوَ الدم، إلا أنهم فرقوا بين بناء
الفعل مِن الحيض والنفاس، فقالوا: نفست المرأة - بفتح
النون وكسر الفاء - إذا حاضت، ونفست - بضم النون وكسر
الفاء، على وزن الفعل المجهول، فهي نفساء - إذا ولدت.
انتهى.
ومراده: أن الرواية في هَذا الحديث هي بفتح النون ليسَ
إلا، وأن ذَلِكَ لا يراد بهِ الحيض.
وعلى ما ذكره القرطبي، أن الرواية في الحديث جاءت بوجهين،
وأن الأصمعي حكى في الحيض والولادة وجهين، لا يحكم على
البخاري بالوهم.
ثُمَّ قالَ الخطابي: الحيضة - بكسر الحاء -: التحيض،
كالقعدة والجلسة، أي: الحالة التي تلزمها الحائض مِن
اجتناب الأمور وتوقيها.
يشير إلى قول أم سلمة: ((فأخذت ثياب حيضتي)) ، أنها بكسر
الحاء.
(2/25)
وأنكر غيره ذَلِكَ، وقال: إنما الرواية
بفتح الحاء، والمراد: ثياب الحيض.
قالَ الخطابي: والخميصة: كساء أسود، وربما كانَ لَهُ علم،
أو فيهِ خطوط. والخميلة: ثوب مِن صوف لَهُ خمل.
وروى ابن لهيعة: نا يزيد بنِ أبي حبيب، عَن موسى بنِ سعد
بنِ زيد بنِ ثابت، عَن خبيب بنِ عبد الله بنِ الزبير، عَن
عائشة، قالت: طرقتني الحيضة مِن الليل وأنا إلى جنب رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتأخرت، فقالَ:
((مالك! أنفست؟)) قلت: لا، ولكن حضت، قالَ: ((فشدي عليك
إزارك، ثُمَّ عودي)) .
خرجه الإمام أحمد.
وَهوَ غريب جداً.
(2/26)
5 - باب
مباشرة الحائض
خرج فيهِ: عَن عائشة، وميمونة.
فأما حديث عائشة، فَمِن طريقين:
أحدهما:
قالَ:
(2/27)
299، 300، 301 - نا قبيصة: نا سفيان، عَن
منصور، عَن إبراهيم، عَن الأسود، عَن عائشة، قالت: كنت
أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مِن إناء واحد، كلانا جنب، وكان يأمرني فأتزر، فيباشرني
وأنا حائض، وكان يخرج رأسه إلي وَهوَ
معتكف، فأغسله وانا حائض.
والثاني:
قالَ:
(2/27)
302 - نا إسماعيل بنِ خليل: أنا علي بنِ
مسهر: أنا أبو إسحاق - هوَ: الشيباني -، عَن عبد الرحمن
بنِ الأسود، عَن أبيه، عَن عائشة، قالت: كانت إحدانا إذا
كانت حائضاَ فأراد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن يباشرها أمرها أن
(2/27)
تتزر في فور حيضتها، ثُمَّ يباشرها. قالت:
وأيكم يملك إربه كَما كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يملك إربه؟
تابعه: خالد وجرير، عَن الشيباني.
وحديث جرير عَن الشيباني، خرجه أبو داود، ولفظه: كانَ
يأمرنا في فوح حيضتنا أن نتزر، ثُمَّ يباشرنا - والباقي
مثله.
وخرجه ابن ماجه مِن طريق ابن إسحاق عَن الشيباني - أيضاً.
وإنما ذكر البخاري المتابعة على هَذا الإسناد؛ لأن مِن
أصحاب الشيباني مِن رواه عَنهُ، عَن عبد الله بن شداد، عَن
عائشة.
وليس بصحيح؛ فإن الشيباني عنده لهذا الحديث إسنادان عَن
عائشة وميمونة:
فحديث عائشة: رواه عَن عبد الرحمن بن الأسود، عَن أبيه،
عَن عائشة.
وحديث ميمونة: رواه عَن عبد الله بنِ شداد، عَن ميمونة.
فَمِن رواه: عَن الشيباني، عَن عبد الله بنِ شداد، عَن
عائشة، فَقد وهم فهذا حديث عائشة.
وأما حديث ميمونة:
فقالَ:
(2/28)
303 - نا أبو النعمان: نا عبد الواحد: نا
الشيباني: نا عبد الله بنِ شداد، قالَ: سمعت ميمونة قالت:
كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا
أراد أن يباشر امرأة مِن
(2/28)
نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض.
رواه سفيان، عَن الشيباني.
وإنما ذكر متابعة سفيان؛ ليبين أن الصحيح: عَن الشيباني،
عَن عبد الله بن
شداد، عَن ميمونة؛ لا عَن عائشة، وأن سفيان - وَهوَ:
الثوري - رواه عَن الشيباني كذلك.
وقد خرجه الإمام أحمد، عَن ابن مهدي، عَن سفيان كذلك، ولفظ
حديثه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يباشرها وهي حائض، فوق الإزار.
وكذلك خرجه مسلم في ((صحيحه)) من طريق عبد الواحد بنِ
زياد، عَن الشيباني بهذا الإسناد، ولفظه: كانَ رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يباشر نساءه فوق الإزار
وهن حيض.
وخرجه مسلم - أيضاً - مِن طريق ابن وهب: أخبرني مخرمة، عَن
أبيه - وَهوَ: بكير بنِ الأشج -، عَن كريب مولى ابن عباس،
عَن ميمونة، قالت:
كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينضجع
معي وأنا حائض، وبيني وبينه ثوب.
ورواه الزهري عَن حبيب مولى عروة، عن ندبة مولاة ميمونة،
عَن ميمونة، قالت: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يباشر المرأة مِن نسائه وهي حائض، إذا كانَ
عليها إزار يبلغ أنصاف الفخذين - أو الركبتين - محتجزة.
خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان في
((صحيحه)) .
وفي الباب أحاديث أخر متعددة، وقد تقدم في الباب الماضي
حديث أم سلمة في المعنى.
وقد دلت هَذهِ الأحاديث على جواز نوم الرجل معَ المرأة في
حال حيضها، وجواز مباشرته لها، واستمتاعه بها مِن فوق
الإزار.
والإزار: هوَ مابين السرة والركبة، وفي الرواية الأخيرة
عَن ميمونة الشك:
هل كانَ الإزار يبلغ إلى الركبتين، أو إلى أنصاف الفخذين.
وقد روي أن الإزار كانَ يبلغ إلى أنصاف الفخذين، جزماً مِن
غير شك:
خرجه ابن ماجه مِن حد يث أم حبيبة زوج النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنها سئلت:
(2/30)
كيف كنت تصنعين معَ رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحيض؟ قالت: كانت إحدانا
في فورها، أول ما تحيض تشد عليها إزاراً إلى أنصاف فخذيها،
ثُمَّ تضطجع معَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
وإسناده حسن، وفي إسناده: ابن إسحاق.
وفي هَذا الحديث - معَ حديث عائشة الثاني الذِي خرجه
البخاري هاهنا -:
دلالة على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إنما كانَ يامر الحائض بالاتزار في أول حيضتها، وَهوَ فور
الحيضة وفوحها، فإن الدم حينئذ يفور لكثرته، فكلما طالت
مدته قل، وهذا مما يستدل بهِ على أن الأمر بشد الإزار لَم
يكن لتحريم الاستمتاع بما تحت الإزار، بل خشية مِن إصابة
الدم والتلوث بهِ، ومبالغة في التحرز مِن إصابته.
وقد روى محمد بنِ بكار بنِ بلال: نا سعيد بنِ بشير، عَن
قتادة، عَن الحسن، عَن أمه، عَن أم سلمة، قالت: كانَ رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتقي سورة الدم
ثلاثاً، ثُمَّ يباشر بعد ذَلِكَ.
وهذا الإسناد وإن كانَ فيهِ لين، إلا أن الأحاديث الصحيحة
تعضده وتشهد لَهُ.
وفي ((سنن أبي داود)) مِن حديث عكرمة، عَن بعض أزواج النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: كانَ النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد مِن الحائض
شيئاً ألقى على فرجها ثوباً.
وإسناده جيد.
وَهوَ محمول على ما بعد الثلاث إذا ذهبت سورة الدم
(2/31)
وحدته وفوره، فكان حينئذ يكتفي بستر الفرج
وحده بثوب، ثُمَّ يباشر.
وقد روي عَن الأوزاعي، عَن عبدة بنِ أبي لبابة، عَن أم
سلمة، قالت: كنت معَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في لحافه فنفست، فقالَ: ((مالك! أنفست؟)) قلت:
نعم، فأمرني أن أضع على قبلي ثوباً.
خرجه أبو بكر ابن جعفر في ((كِتابِ الشافي)) .
وعبدة، لَم يسمع مِن أم سلمة -: قاله أبو حاتم الرازي.
وسنذكر في ((الصيام)) - إن شاء الله تعالى - الأحاديث
الواردة بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كانَ يلقي على فرج المرأة في صيامه ثوباً، ثُمَّ يباشرها.
فظهر بهذا: أن الاستمتاع ببدن الحائض كله جائز، لا منع
فيهِ سوى الوطء في الفرج، وأنه يستحب أن يكون ذَلِكَ مِن
فوق الإزار، خصوصاً في أول الحيض وفورته، وإن اكتفى بستر
الفرج وحده جاز، وإن استمتع بها بغير ستر بالكلية جاز -
أيضاً.
وقد تقدم قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((اصنعوا كل شيء غير النكاح)) .
خرجه مسلم.
وأما الأحاديث التي رويت عَن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنَّهُ سئل عما يحل مِن الحائض؟
فقالَ: ((فوق الإزار)) .
فَقد رويت مِن وجوه متعددة لا تخلو أسانيدها مِن لين، وليس
رواتها مِن المبرزين في الحفظ، ولعل بعضهم روى ذَلِكَ
بالمعنى الذِي فهمه مِن مباشرة النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحائض مِن فوق الإزار.
وقد قيل: إن الإزار كناية عَن الفرج، ونقل ذَلِكَ عن
اللغة، وأنشدوا فيهِ شعراً.
قالَ: وكيع: الإزار عندنا: الخرقة التي على الفرج.
(2/32)
وقد اختلف العلماء فيما يجوز الاستمتاع بهِ
مِن الحائض في حال حيضها:
فقالت طائفة: لا يحرم منها سوى الإيلاج في فرجها، ويجوز ما
عدا ذَلِكَ، وحكي ذَلِكَ عَن جمهور العلماء، وروي عَن ابن
عباس، وعائشة، وأم سلمة، وَهوَ قول الثوري، والأوزاعي،
وأحمد، وإسحاق، وَهوَ أحد قولي الشَافِعي، ومحمد بنِ الحسن
وأبي ثور، وابن المنذر، وداود، وطائفة مِن أصحاب مالك
والشافعي.
واحتج أحمد بأن عائشة أفتت بإباحة ما دونَ الفرج مِن
الحائض، وهي أعلم الناس بهذه المسألة، فيتعين الرجوع فيها
إلى قولها، كَما رجع إليها في الغسل مِن إلتقاء الختانين
على ما سبق، وكذا في المباشرة للصائم، وقد حكى البخاري
عنها في
((الصوم)) أنها قالت: يحرم عليهِ - تعني: الصائم - فرجها.
وقالت طائفة: يحرم الاستمتاع مِن الحائض بما بين السرة
والركبة، إلا مِن فوق الإزار، وَهوَ المشهور عَن مالك،
وأبي حنيفة، والشافعي.
وحكي رواية عَن أحمد، ولم [يثبتها] الخلال وأكثر الأصحاب،
وقالوا: إنما أراد أحمد أن الأفضل مباشرتها مِن فوق
الإزار.
وقالت طائفة: إن وثق المباشر تحت الإزار بضبط نفسه عَن
الفرج؛ لضعف شهوة أو شدة ورع جاز، وإلا فلا، وَهوَ قول
طائفة مِن الشَافِعية.
(2/33)
وَهوَ حسن، وفي كلام عائشة - رضي الله عنها
- ما يشهد لَهُ؛ فإنها قالت: وأيكم يملك إربه كَما كانَ
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يملك إربه؟
.
ويشهد لهذا: مباشرة المرأة في حال الصيام؛ فإنه يفرق فيها
بين مِن يخاف على نفسه ومن يأمن، وقد قالت عائشة - أيضاً
-: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل
ويباشر وَهوَ صائم، وكان أملككم لإربه.
وقد رويت هَذهِ اللفظة بكسر الهمزة وسكون الراء، ورويت
بفتح الهمزة والراء.
وأنكر الخطابي الرواية الأولى، وجوزها غيره.
والإرب - بالسكون -: العضو، وَهوَ كناية هنا عَن الفرج،
والإرب - بالفتح - الحاجة، والمراد بالحاجة: شهوة النكاح،
وقيل: بل الإرب - بالسكون - يراد بهِ
العضو، ويراد بهِ الحاجة - أيضاً -، وكذلك هوَ في
((الصحاح)) .
قالَ أبو عبيد: يروى هَذا الحديث: لإربه - يعني: بالسكون -
قالَ: وَهوَ في كلام العرب لأربه - يعني: بالتحريك -،
قالَ: والإرب: الحاجة، قالَ: وفيه ثلاث لغات: أرب، وإربة،
وإرب، في غير هَذا: العضو. انتهى.
وعلى قول مِن جوز الاستمتاع بما دونَ الفرج، ويجوز عندهم
الوطء دونَ الفرج، والاستمتاع بالفرج نفسه مِن غير إيلاج
فيهِ، ولو كانَ على بعض الجسد شيء مِن دم الحيض لَم يحرم
الاستمتاع بهِ، وليس فيهِ خلاف إلا وجه شاذ للشافعية.
لكن صرح ابن أبي موسى مِن أصحابنا في ((شرح الخرقي))
بكراهة الوطء فيما هوَ متلوث بدم الحيض مِن غير تحريم.
(2/34)
وأما ما فوق السرة وتحت الركبة فيجوز
الاستمتاع بهِ، وكثير مِن العلماء حكى الإجماع على ذَلِكَ.
ومنهم مِن حكى عَن عبيدة السلماني خلافه، ولا يصح عَنهُ.
إنما الصحيح عَن عبيدة: ما رواه وكيع في ((كتابه)) ، عن
ابن عون، عَن ابن سيرين، قالَ: سألت عبيدة: ما للرجل مِن
امرأته إذا كانت حائضاً؟ قالَ: الفراش واحد، واللحاف شتى،
فإن لَم يجد بداً رد عليها مِن طرف ثوبه.
وهذا إنما يدل على أن الأولى أن لا ينام معها متجردة في
لحاف واحد حتَّى يسترها بشيء مِن ثيابه، وهذا لا خلاف
فيهِ.
وقد روي عَن ابن عباس، أنَّهُ كانَ يعتزل فراشه امرأته في
حال الحيض، وأنكرت عليهِ ذَلِكَ خالته ميمونة - رضي الله
عنهما -، فرجع عَن ذَلِكَ:
ففي ((مسند الإمام أحمد)) مِن حديث ابن إسحاق، [عَن]
الزهري، عَن عروة، عَن ندبة، قالت: أرسلتني ميمونة بنت
الحارث إلى امرأة عبد الله ابن عباس - وكانت بينهما قرابة
-، فرأيت فراشها معتزلاً عَن فراشه، فظننت أن ذَلِكَ
لهجران، فسألتها، فقالت: لا، ولكني حائض، فإذا حضت لم يقرب
فراشي، فأتيت ميمونة، فذكرت ذَلِكَ لها، فردتني إلى ابن
عباس، فقالت: أرغبة عَن سنة رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! لقد كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينام معَ المرأة مِن نسائه الحائض،
ما بينهما إلاّ ثوب، ما يجاوز الركبتين.
ثُمَّ خرجه مِن طريق ليث: حدثني ابن شهاب، عَن حبيب مولى
عروة، عَن ندبة - فذكر الحديث.
(2/35)
وهذا هوَ الصحيح، وقول ابن إسحاق: ((عَن
عروة)) خطأ، إنما هوَ:
حبيب مولى عروة، وَهوَ ثقة، خرج لَهُ مسلم.
وقد روي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إنما كانَ ينام معَ الحائض حيث لَم يكن لَهُم سوى فراش
واحد، فلما وسع عليهم اعتزل نساءه في حال الحيض.
خرجه الإمام أحمد مِن رواية ابن لهيعة، عَن يزيد بنِ أبي
حبيب، عَن سويد بنِ قيس، عَن ابن قريط الصدفي، قالَ: قل
لعائشة: أكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يضاجعك وأنت
حائض؟ قالت: نعم، إذا شددت عليّ إزاري، ولم يكن لنا إذ ذاك
إلا فراش واحد، فلما رزقني الله فراشاً آخر اعتزلت رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وابن لهيعة، لا يقبل تفرده بما يخالف الثقات.
ولكن تابعه غيره:
فرواه ابن وهب، عَن عمرو بنِ الحارث، عَن ابنِ أبي حبيب،
عَن سويد ابن قيس، عَن ابن قرظ - أو قرط - الصدفي، أنَّهُ
سأل عائشة - فذكره بمعناه.
خرجه بقي بنِ مخلد في ((مسنده)) .
وابن قرظ - أو قرط - الصدفي، ليسَ بالمشهور، فلا تعارض
روايته عَن عاشة رواية الأسود بنِ يزيد النخعي.
وقد تابع الأسود على روايته كذلك عَن عائشة: عمرو بنِ
شرحبيل - أو عمرو بنِ ميمون - على اختلاف فيهِ -، وأبو
سلمة وعبد الله بنِ أبي قيس، وشريح بنِ المقدام، وجميع بنِ
عمير، وخلاس وغيرهم.
وروايات هؤلاء عَن عائشة أولى مِن روايات ابن قريط.
(2/36)
وتعارض رواية ابن قريط برواية أخرى تشبهها،
خرجها أبو داود مِن حديث
عبد الرحمن بنِ زياد، عَن عمارة بنِ غراب، أن عمة لَهُ
حدثته: أنها سألت عائشة، قالت: إحدانا تحيض وليس لها
ولزوجها إلا فراش واحد؟ قالت: أخبرك بما صنع
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، دخل فمضى
إلى مسجده - تعني: مسجد بيته -، فلم ينصرف حتى غلبتني
عيني، وأوجعه البرد، فقالَ: ((ادني)) ، فقلت: إني حائض،
قالَ: ((وإن، اكشفي عَن فخذيك)) ، فكشفت فخذي فوضع خده
وصدره على فخذي، وحنيت عليهِ حتى دفىء ونام.
وفي ((سنن أبي داود)) عَن أبي اليمان كثير بنِ يمان، عَن
أم ذرة، عَن عائشة، قالت: كنت إذا حضت نزلت عَن المثال إلى
الحصير، فلن نقرب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ولم ندن منهُ حتى نطهر.
أبو اليمان وأم ذرة، ليسا بمشهورين، فلا يقبل تفردهما بما
يخالف رواية الثقات الحفاظ الأثبات.
وخرجه بقي بنِ مخلد، عَن الحماني: ثنا عبد العزيز، عَن أبي
[اليمان] الرحال، عَن أم ذرة، عَن عائشة، قالت: كنت إذا
حضت لَم أدن مِن فراش رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حتى أطهر.
الحماني، متكلم فيهِ.
وقد روى جعفر بنِ الزبير، عَن القاسم، عَن أبي أمامة،
قالَ: قالَ عمر: كنا نضاجع النساء في المحيض، وفي الفرش
واللحف قلة، فأما إذ وسع الله الفرش واللحف فاعتزلوهن كَما
أمر الله عز وجل.
(2/37)
خرجه القاضي إسماعيل.
وهذا لا يثبت، وجعفر بنِ الزبير متروك الحديث.
وروى أبو نعيم الفضل بنِ دكين: نا أبو هلال: حدثني شيبة
الراسبي، قالَ: سألت سالماً عَن الرجل يضاجع امرأته وهي
حائض؟ قالَ: أمَّا نحن آل عمر، فنهجرهن إذا كن حيضاً.
إسناد ضعيف.
والاعتزال الذِي أمر الله بهِ: هوَ اجتناب جماعهن، كَما
فسره بذلك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال عكرمة: كانَ أهل الجاهلية يصنعون في الحيض نحواً مِن
صنيع المجوس، فذكروا ذَلِكَ لرسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنزلت: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً}
[البقرة: 222] الآية، فلم يزد الأمر فيهن إلا شدة، فنزلت:
{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ
اللَّهُ} [البقرة: 222] : أن تعتزلوا.
أخرجه القاضي إسماعيل، بإسناد صحيح.
وَهوَ يدل على أن أول الأمر باعتزالهن فهم كثير مِن الناس
منهُ الاعتزال في البيوت والفرش كَما كانوا يصنعون أولاً،
حتى نزل آخر الآية: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ
اللهُ} ، ففهم مِن ذَلِكَ أن الله أمر باعتزالهن في الوطء
خاصة.
وفسر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ
بقولِهِ: ((اصنعوا كل شيء غير النكاح)) ، وبفعله معَ
أزواجه؛ حيث كانَ يباشرهن في المحيض.
(2/38)
6 - باب
ترك الحائض الصوم
(2/39)
304 - حدثنا سعيد بنِ أبي مريم: نا محمد
بنِ جعفر: أخبرني زيد - هوَ: ابن أسلم -، عَن عياض بنِ عبد
الله، عَن أبي سعيد الخدري، قالَ: خرج رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أضحى أو فطر إلى المصلى،
فمر على النساء، فقالَ: ((يا معشر النساء تصدقن، فإني
أريتكن أكثر أهل النار)) فقلن: وبم يارسول الله؟ قالَ:
((تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت مِن ناقصات عقل
ودين أذهب للب الرجل الحازم مِن إحداكن)) . قلن: وما نقصان
عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قالَ: ((أليس شهادة المرأة مثل
نصف شهادة الرجل؟)) قلن: بلى، قالَ: ((فذلك مِن نقصان
عقلها، أليس إذا حاضت لَم تصل ولم تصم؟)) قلن: بلى، قالَ:
((فذلكن [مِن] نقصان دينها)) .
قَد سبق هَذا الحديث في ((كِتابِ: الإيمان)) ، استدل بهِ
البخاري هناك على أن الصلاة والصيام مِن الدين، واستدل بهِ
هنا على أن الحائض لا تصوم.
ولم يبوب على ترك الصلاة؛ لأنه بوب على أنها لا تقتضي
الصلاة باباً مفرداً، يأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى.
وقد أجمعت الأمة على أن الحائض لا تصوم في أيام حيضها، وأن
صومها غير صحيح ولا معتد بهِ، وأن عليها قضاء الصوم إذا
طهرت.
(2/39)
واختلف المتكلمون في أصول الفقه: هل هي
مكلفة بالصوم في حال حيضها، أم لا تؤمر بهِ إلا بعد طهرها؟
وقال كثير مِن الفقهاء: أنَّهُ لا تظهر لهذا الاختلاف
فائدة.
وقد تظهر لَهُ فائدة، وهي: أن الحائض إذا ماتت قبل انقطاع
دمها، فهل يجب أن يطعم عنها لكل يوم أفطرت فيهِ؟ وكذا
المريض والمسافر إذا ماتا قبل زوال عذرهما، على قول مِن
أوجب الإطعام عَن الميت مطلقاً وإن مات قبل التمكن مِن
الصوم.
وإذا انقطع دم الحائض؛ فالجمهور على أن حكمها حكم الجنب؛
يصح
صومها، والمخالف في صوم الجنب يخالف في الحائض بطريق
الأولى.
ومن الناس مِن قالَ في الحائض: لا يصح صيامها حتى تغتسل؛
وإن صح صوم الجنب. وحكي عَن الأوزاعي، والحسن بنِ صالح،
والعنبري، وعبد الملك بنِ الماجشون
وغيرهم.
وقد حكاه بعض أصحابنا المتأخرين وجهاً في الحائض إذا انقطع
دمها: أنَّهُ لا يصح صومها، ولم يحك مثله في الجنب.
ووجه الفرق: أن حدث الحيض مانع مِن صحة الصيام؛ بخلاف
الجنابة، فإنه لو احتلم الصائم لَم يبطل صيامه، ولو طرأ
الحيض في أثناء النهار بطل الصوم.
(2/40)
7 - باب
تقضي الحائض المناسك كلها إلاّ الطواف بالبيت
وقال إبراهيم: لا بأس أن تقرأ الآية.
ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً.
وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يذكر الله
على كل أحيانه.
وقالت أم عطية: كنا نؤمر أن يخرج الحيض؛ فيكبرن بتكبيرهم
ويدعون.
قالَ ابن عباس: أخبرني أبو سفيان، أن هرقل دعا بكتاب النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقرأه، فإذا فيهِ:
((بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ} [آل عمران: 64] .
وقال عطاء، عنِ جابر: حاضت عائشة، فنسكت المناسك غير
الطواف
بالبيت، ولا تصلي.
وقال الحكم: إني لأذبح وأنا جنب.
(2/41)
وقال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا
لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] .
(2/42)
305 - حدثنا أبو نعيم: نا عبد العزيز بنِ
أبي سلمة، عَن عبد الرحمن بنِ
القاسم، [عَن القاسم] ، عَن عائشة، قالت: خرجنا معَ رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا نذكر إلا
الحج، فلما جئنا سرف طمثت، فد خل النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أبكي، فقالَ: ((ما يبكيك؟))
فقلت: لوددت والله أني لَم أحج العام، قالَ: ((لعلك
نفست؟)) قلت:
نعم، قالَ: ((فإن ذَلِكَ شيء كتبه الله على بنات آدم،
فافعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري))
.
مقصود البخاري بهذا الباب: أن الحيض لا يمنع شيئاً مِن
مناسك الحج غير الطواف بالبيت والصلاة عقيبه وأن ما عدا
ذَلِكَ مِن المواقف والذكر والدعاء لا يمنع الحيض شيئاً
منهُ، فتفعله الحائض كله، فدخل في ذَلِكَ الوقوف بعرفة،
والمزدلفة، ورمي الجمار، وذكر الله عز وجل ودعاؤه في هَذهِ
المواطن، وكل هَذا متفق على جوازه.
ولم يدخل في ذَلِكَ السعي بين الصفا والمروة؛ لأنه تابع
للطواف لا يفعل إلا بعده،
(2/42)
ولم تكن عائشة طافت قبل حيضها، فلوا كانت
قَد طافت فبل حيضها لدخل فيهِ السعي - أيضاً.
وهذا كله متفق عليهِ بيِن العلماء إلا خلافاً شاذاً في
الذكر، وقد ذكرناه فيما سبق في ((أبواب الوضوء)) ، وإلا
السعي بين الصفا والمروة؛ فإن للعلماء فيهِ اختلافاً: هل
يفعل معَ الحيض، أم لا؟
والجمهور: على جوازه معَ الحيض، ومنع منهُ طائفة من السلف؛
لكن مِنهُم مِن علل ذَلِكَ بمنع تقدم السعي للطواف، فلو
كانت طافت ثُمَّ حاضت لزال المنع حينئذ على هَذا التعليل،
وحكي المنع رواية عَن أحمد، وحكي عَن ابن عمر.
ومنع إسحاق الجنب مِن السعي دونَ الحائض؛ لأن الجنب لا عذر
لَهُ في تأخير الغسل؛ بخلاف الحائض.
وقد روى يحيى بنِ يحيى الأندلسي حديث عائشة الذِي خرجه
البخاري هاهنا: عَن مالك، عَن عبد الرحمن بنِ القاسم، وقال
فيهِ: ((غير أن لا تطوفي بالبيت، ولا بالصفا والمروة، حتى
تطهري)) .
وزيادة ((الصفا والمروة)) وهم على مالك، لَم يذكره عَنهُ
أحد غير يحيى -: قاله ابن عبد البر.
وفي ((صحيح مسلم)) ، عَن أبي الزبير، عَن جابر،
(2/43)
وذكر قصة عائشة في حيضها في الحج، وقال في
آخره: فقالَ لها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: ((اغتسلي، ثُمَّ أهلي بالحج)) ، ففعلت، ووقفت المواقف،
حتى إذا طهرت طافت بالكعبة، والصفا والمروة.
وخرج البخاري في ((الحج)) من حديث عطاء، عن جابر، قالَ:
حاضت عائشة، فنسكت المناسك كلها، غير أنها لم تطف بالبيت،
فلما طهرت طافت بالبيت.
وهذا هوَ الذِي علقه البخاري هاهنا، وزاد فيهِ: ((ولا
تصلي)) .
وهذه اللفظة خرجها الإمام أحمد مِن رواية أبي الزبير، فذكر
الحديث، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قالَ لها: ((اغتسلي، واهلي بالحج، ثُمَّ حجي واصنعي ما
يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تصلي)) . قالت:
ففعلت ذَلِكَ، فلما طهرت قالَ: ((طوفي بالبيت وبين الصفا
والمروة)) .
وأما طواف الحائض بالبيت، فالجمهور على تحريمه، ورخص فيهِ
طائفة مِن المالكية إذا لَم تحتبس لها الرفقة أن تطوف
للأفاضة حينئذ، وسنذكر ذَلِكَ في موضعه مِن ((الحج)) إن
شاء الله تعالى.
وأما حديث أم عطية في إخراج الحيض في العيدين، فَقد خرجه
البخاري في مواضع متعددة مِن ((كتابه)) مبسوطاً، وفيه دليل
على جواز الذكر والدعاء للحائض.
وأما ما ذكره - تعليقاً -، أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يذكر الله على كل أحيانه:
(2/44)
فخرجه مسلم ((صحيحه)) مِن حديث البهي، عَن
عروة، عَن عائشة.
وذكر الترمذي في ((علله)) أنَّهُ سأل البخاري عَنهُ،
فقالَ: هوَ حديث صحيح.
وذكر ابن أبي حاتم، عَن أبي زرعة، أنَّهُ قالَ: لَم يرو
إلا مِن هَذا الوجه، وليس هوَ بذاك.
وفيه: دليل على أن الذكر لا يمنع منهُ حدث ولا جنابة، وليس
فيهِ دليل على جواز قراءة القرآن للجنب؛ لأن ذكر الله إذا
أطلق لا يراد بهِ القرآن.
واستدلاله بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ
يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} فَهوَ دليل على جواز
التسمية للحائض والجنب؛ فإنهما غير ممنوعين مِن التذكية.
قالَ ابن المنذر: لا أعلم أحداً منع مِن ذَلِكَ. قالَ:
وأجمع أهل العلم على أن لهما أن يذكرا الله ويسبحانه.
فلم يبق مما ذكره البخاري في هَذا الباب سوى قراءة القرآن،
وظاهر كلامه أن الحائض لا تمنع مِن القراءة.
واستدل [بكتابة] النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- البسملة معَ آية مِن القرآن إلى هرقل.
وذكر عن النخعي، أن الحائض تقرأ الآية، وعن ابن عباس أنه
لم ير بالقرآن للجنب بأساً.
أما ابن عباس، فقد حكى عنه جواز القرآن للجنب غير واحد.
(2/45)
قالَ ابن المنذر: روينا عن ابن عباس أنه
كانَ يقرأ وردهُ وهو جنب، ورخّص عكرمة وابن المسيب في
قراءته. وقال ابن المسيب: أليس في جوفه؟ انتهى.
وكذا قالَ نافع بن جبير بن مطعم في قراءة القرآن على غير
طهارة: لا بأس به، أليس القرآن في جوفه؟
وممن رأى الرخصة في قراءة القرآن للجنب قسامة بن زهير،
والحكم، وربيعة، وداود.
وروى - أيضاً - عن معاذ بن جبل، وانه قالَ: ما نهى رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شيء من
ذَلِكَ.
خرجه ابن جرير بإسناد ساقط لا يصح، والظاهر أنه مما وضعه
محمد بن سعيد المصلوب، وأسقط اسمه من الإسناد؛ فقد وجدنا
أحاديث متعددة بهذا الإسناد، وهي من موضوعات المصلوب.
وحكي جواز القراءة للجنب والحائض عن طائفة من أهل الحديث،
منهم: ابن المنذر، والطحاوي.
وأما من رخص للجنب في قراءة الآية، فقد حكاه البخاري عن
النخعي في الحائض.
وفي ((كتاب ابن أبي شيبة)) عن النخعي: أن الحائض والجنب لا
يتم الآية.
وروى أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم في الجنب: لا بأس أن
يقرأ الآية. قال أبو حنيفة: والحائض مثله.
وحكى رواية عن أحمد بجواز قراءة الآية، وهي مخرجة من
كلامه، ليست منصوصة عنه، وفي صحة تخريجها نظر.
وروي عن طائفة الرخصة في قراءة الآية والآيتين،
(2/46)
روي عن سعيد بن جبير
وعبد الله بن مغفل، وعكرمة.
وروي عن عكرمة: لا بأس للجنب أن يقرأ؛ ما لم يقرأ السورة.
ومنهم من رخص في قراءة ما دون الآية، وهو مروي عن جابر بن
زيد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والنخعي، والثوري، ورواية عن
أحمد، وإسحاق، وحكي عن الطحاوي.
ومنع الأكثرون الحائض والجنب من القراءة بكل حال، قليلاً
كانَ أو كثيراً، وهذا مروي عن اكثر الصحابة، روي عن عمر،
وروي عنه أنه قالَ: لو أن جنباً قرأ القرآن لضربته.
وعن علي، قالَ: لا يقرأ ولا حرفاً.
وعن ابن مسعود، وسليمان، وابن عمر.
وروي عن جابرٍ، قالَ البيهقي: وليس بقوي.
وروي عن ابن عباس بإسناد لا يصح.
وهو قول أكثر التابعين، ومذهب الثوري، والأوزاعي، وابن
المبارك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد وإسحاق - في احدى
الروايتين عنهما -، وأبي ثور وغيرهم.
وهو قول مالكٍ في الجنب، إلا أنه رخص لهُ في قراءة آيتين
وثلاث عندَ المنام للتعوذ.
ورخص الأوزاعي لهُ في تلاوة آيات الدعاء والتعوذ، تعوذاً
لا قراءة.
وهذا أصح الوجهين للشافعية - أيضاً.
وقال سعيد بن عبد العزيز: رخص للحائض والجنب في قراءة
آيتين عندَ الركوب والنزول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ
لَنَا هَذَا} الآية [الزخرف: 13] ، و {رَبِّ أَنْزِلْنِي
مُنْزَلاً مُبَارَكاً} [المؤمنون: 29] الآية.
وعن مالك في الحائض روايتان إحداهما: هي كالجنب، والثانية:
أنها تقرأ.
وهو قول محمد بن مسلمة؛ لأن مدة الحيض تطول، فيخشى
(2/47)
عليها النسيان، وهي غير قادرة على الغسل،
بخلاف الجنب.
وحكى أبو ثور ذَلِكَ عن الشافعي، وأنكره أصحاب الشافعي
عنه.
وعكس ذَلِكَ آخرون، منهم: عطاء، قالَ: الحائض أشد شأناً من
الجنب، الحائض لا تقرأ شيئاً من القرآن، والجنب يقرأ
الآية.
خرجه ابن جرير بإسناده عنه.
ووجه هذا: أن حدثَ الحيض أشد من حدث الجنابة؛ فإنه يمنع ما
يمنع منه حدث الجنابة وزيادة، وهي الوطء والصوم، وما قيل
من خشية النسيان فإنه يندفع بتذكر القرآن بالقلب، وهو غير
ممنوع به.
وفي نهي الحائض والجنب عن القراءة أحاديث مرفوعة، إلا أن
أسانيدها غير
قوية، كذا قالَ الإمام أحمد في قراءة الحائض، وكأنه يشير
إلى أن الرواية في الجنب
أقوى، وهو كذلك.
وأقوى ما في الجنب: حديث عبد الله بن سلمة، عن علي، قالَ:
كانَ
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج من
الخلاء فيقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه -
أو يحجزه - عن القرآن شيء، ليس الجنابة.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وخرجه
الترمذي بمعناه، وقال: حسن صحيح، وخرجه ابن خزيمة وابن
حبان في ((صحيحيهما)) والحاكم، وقال صحيح الإسناد.
وتكلم فيهِ الشافعي وغيره؛ فإن عبد الله بن سلمة هذا رواه
بعدما كبر، قالَ شعبة عنه: كانَ يحدثنا، فكنا نعرف وننكر
,،
(2/48)
وقال البخاري: لا يتابع في حديثه، ووثقه
العجلي ويعقوب بن شيبة، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.
والاعتماد في المنع على ما روي عن الصحابة، ويعضده: قول
عائشة وميمونة في قراءة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - القرآن في حجرهما في حال الحيض؛ فإن يدل على
أن للحيض تأثيراً في منع القراءة.
وأما الاستدلال المجيزين بحديث عائشة: ((اصنعي ما يصنع
الحاج، غير أن لا تطوفي)) فلا دلالة لهم فيهِ؛ فإنه ليس في
مناسك الحج قراءة مخصوصة حتَّى تدخل في عموم هذا الكلام،
وإنما تدخل الأذكار والأدعية.
وأما الاستدلال بحديث الكتاب إلى هرقل، فلا دلالة فيهِ؛
لأنه إنما كتب ما تدعو الضرورة إليه للتبليغ، وقد سبق ذكر
ذَلِكَ في شرح حديث هرقل في أول الكتاب.
وقد اختلف العلماء في تمكين الكافر من تلاوة القرآن، فرخص
فيهِ الحسن وأبو حنيفة وغيرهما، ومنهم من منع منه، وهو قول
أبي عبيد وغيره.
واختلف أصحابنا في ذَلِكَ، فمنهم من منعه مطلقاً، ومنهم من
رخص فيهِ
مطلقاً، ومنهم من جوزه إذا رجي من حال الكافر الاستهداء
(2/49)
والاستبصار، ومنعه إذا لم يرج ذَلِكَ.
والمنقول عن أحمد أنه كرهه.
وقال أصحاب الشافعي: إن لم يرج له الاستهداء بالقراءة منع
منها، وإن رجي لهُ ذَلِكَ لم يمنع، على أصح الوجهين.
(2/50)
8 - باب
الاستِحَاضَةِ
(2/51)
306 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك،
عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: أنها قالت: قالت فاطمة بنت
أبي حبيش لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
يا رسول الله! إني لا أطهرُ؛ أفأدع الصلاة؟ ، فقالَ رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنما ذَلِكَ
عرق، وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصَّلاة،
فإذا ذهب عنك قدرها فاغسلي عنك الدم وصلّي)) .
هذا الحديث خرجه البخاري في مواضع متعددة من ((كتاب
الحيض)) ، وفي بعضها: أنها قالت: ((إني أستحاض فلا أطهر))
، وفي بعضها: ((إذا أدبرَتْ فاغتسلي وصلي)) ، وفي بعضها:
((دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضينَ فيها، ثُمَّ
اغتسلي وصلي)) .
وكل هذه الألفاظ من رواية هشام، عن أبيه، عن عائشة.
وخرج - أيضاً - من رواية ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عروة
- وعن
عمرة -، عن عائشة: أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين، فسألت
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذَلِكَ،
فأمرها أن تغتسل، فقالَ: ((هذا عرق)) ، فكانت تغتسل لكل
صلاة.
المستحاضة: هي من اختلط دم حيضها بدم غير الحيض، هوَ دم
فاسد
(2/51)
غير طبيعي، بل عارض لمرض، فدم الحيض هوَ دم
جبلةٍ وطبيعةٍ، يرخيه الرحم بعد البلوغ في أوقات معتادة،
وسمي حيضاً لأنه يسيل، ويقال: حاض الوادي إذا سال.
وقد فرق النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين دم
الحيض والاستحاضة بأن دم الاستحاضة عرق، وهذا يدل على أن
دم الحيض ليس دم عرق؛ فإنه دم طبيعي، يرخيه الرحم فيخرج من
قعره، ودم الاستحاضة يخرج من عرق ينفجر، [ومنه] الذي يسيل
في أدنى الرحم دون قعره.
وفي ((سنن أبي داود)) من حديث أسماء بنت عميس، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قالَ: ((هذا من
الشيطان)) يعني: دم الاستحاضة.
وخرج النسائي من حديث عمرة، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ في المستحاضة: ((ليست
بالحيضة، ولكنها ركضة من الرحم)) .
ومن حديث القاسم، عن عائشة: أن امرأة مستحاضة على عهد
النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيل لها:
إنه عرق عاندٌ.
وفي حديثه حمنة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، أنه قالَ: ((إنما هوَ ركضةٌ من الشيطان)) .
خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي.
(2/52)
وفي حديث عثمان بن سعد، عن ابن أبي مليكةَ،
عن فاطمة بنت أبي حبيشٍ، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: ((إنما هوَ عرق انقطع،
أو داءٌ عرض، أو ركضةٌ من الشيطان)) .
وروى أبو عبيد في ((غريبه)) : نا حجاج، عن حماد بن سلمة،
عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، أنه سئل عن المستحاضة؟
فقالَ: ذَلِكَ العاذل يغذو.
قالَ أبو عبيد: ((العاذل)) : اسم العرق الذي يخرج منه دم
الاستحاضة.
وقوله: ((يغذو)) - يعني: يسيل.
قالَ: ونا أبو النضر، عن شعبة، عن مجاهد، عن ابن عباس،
قال: إنه عرق عاند، أو ركضة من الشيطان.
قالَ: وقوله: ((عاند)) - يعني: أنه عندَ وبغي كالإنسان
يعاند عن القصد فهذا العرق في كثرة ما يخرج من الدم
بمنزلته. والركضة: الدفعة.
وقد اختلف العلماء في تفسير الاستحاضة، على حسب اختلافهم
في حد أكثر الحيض.
فمن قالَ: لهُ حد محدود، قالَ: المستحاضة من جاوز دمها
أكثر الحيض، وهذا قول الأكثرين منهم.
وقد أشار البخاري إلى الاختلاف في ذَلِكَ - فيما بعد -،
ويأتي الكلام فيهِ في موضعه - إن شاء الله تعالى.
ومن قالَ: ليس لأكثره حد محدود، وإنما يرجع إلى عادة
المرأة، فإنه يرى أن عادتها إذا زاد الدم عليها مدة طويلة
كانَ ذَلِكَ استحاضة.
(2/53)
وقد ذكر أبو داود في ((سننه)) ، قالَ: روى
يونس، عن الحسن في الحائض إذا مد بها الدم: تمسك بعد حيضها
يوماً أو يومين، فهي مستحاضة.
وقال التيمي، عن قتادة: إذا زاد على أيام حيضتها خمسة أيام
فلتصل.
قالَ التيمي: فجعلت أُنقص حتى بلغت يومين، فقالَ: إذا كانَ
يومين فهوَ من حيضها.
وسئل عنه ابن سيرين، فقالَ: النساء أعلم بذلك.
وقد ذكر البخاري قول ابن سيرين هذا فيما بعد تعليقاً،
ويأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى.
روى حرب الكرماني: ثنا إسحاق - هوَ: ابن راهويه -: ثنا عبد
الأعلى، عن يونس، عن الحسن، في امرأة كانَ أقراؤها سبعة
أيام قبل أن تتزوج، فلما تزوجت ارتفعت إلى خمسة عشر أو
ثلاثة عشر؟ قالَ: تنظر تلك الأيام التي كانت تحيضها قبل أن
تتزوج، فإذا مضت اغتسلت كل يوم عندَ صلاة الظهر إلى مثلها،
وتوضأت عندَ كل صلاة، وتتنظف، وتصلي.
قالَ: ونا إسحاق: نا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قالَ:
قلت لمحمد ابن سيرين: المرأة تحيض فتزيد على ذَلِكَ خمسة
أيام؟ قالَ: تصلي، قلت: يومين؟ قالَ: ذَلِكَ من حيضتها.
وروى حرب بإسناده، عن الأوزاعي، في المرأة تمكث في حيضها
سبعة
(2/54)
أيام ثم ترى بعد السبعة دماً؟ قالَ: إن
شاءت استظهرت بيوم، ثم تغتسل وتصلي.
ومذهب أحمد وأصحابه: أن الحائض إذا كانَ لها عادةٌ مستمرة
فإنها تجلس أيام عادتها.
وهل تثبت عنده العادة بمرتين، أو ثلاث مرار؟ على روايتين
عنه.
فإن لم يكن لها عادة، مثل أن تكون مبتدأةً، فإنها لا تزيد
على أن تقعد أقل الحيض عنده، وهو يوم وليلة، ثم تغتسل
وتصلي حتى تثبت لها عادة بمرتين أو ثلاث فتنتقل إليها. هذا
هوَ الصحيح عنده.
وكذلك إذا كانت معتادة، فزادت عادتها، فإنها تغتسل عندَ
انقضاء عادتها وتصلي، فإن انقطع لأكثر الحيض فما دونه على
قدر واحد مرتين أو ثلاثاً -، على اختلاف الروايتين عنه -
صار عادة بائنة منتقلة، وانتقلت إليه.
وتمسك لذلك بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أمر المستحاضة بأن تدع الصلاة في الأيام التي كانت تحيض
فيها، وهذا رد إلى العادة المعتادة المستمرة.
وأما مذهب مالك فيمن لها عادة فزادت عليها، فعنه فيها
روايتان:
إحداهما: تجلس ما تراه من أول مرة؛ ما لم يزد على أكثر
الحيض، وهو خمسة عشر يوماً.
والثانية: أنها تستطهر على عادتها بثلاثة أيام، ما لم
تجاوز خمسة عشر يوماً، تغتسل وتصلي، وهي التي رجع إليها
مالك، وعليها المصريون من أصحابه، وهي قول الليث بن سعد.
وإذا استحيضت هذه فإنها تستطهر على أكثر أيام عادتها ما لم
تجاوز خمسة عشر - أيضاً -، وفيه عنه خلاف
(2/55)
يأتي ذكره فيما بعد.
ومذهب الشافعي وأبي حنيفة: أنها تجلس ما تراه من الدم ما
لم يجاوز أكثر الحيض، سواء اتفقت عادتها، أو اختلفت، ولا
عبرة بالعادة فيما يمكن أن يكون
حيضاً.
وأما قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب عنك قدرها
فاغسلي عنك الدم وصلي)) - وفي رواية: ((فإذا أدبرت)) . فقد
اختلف العلماء في تأويله:
فتأوله الأكثرون، منهم مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد على
أن المراد به اعتبار تميز الدم، وأن هذه المستحاضة كانَ
دمها متميزاً، بعضه أسود وبعضه غير ذَلِكَ، فردها إلى زمن
دم الحيض وهو الأسود الثخين، فإذا أقبل ذَلِكَ الدم تركت
الصلاة، فإذا أدبر وجاء دم غيره فإنها تغتسل وتصلي.
وقد جاء التصريح بذلك في رواية أخرى من طريق محمد بن أبي
عدي، عن محمد بن عمرو عن علقمة، عن ابن شهاب، عن عروة، عن
فاطمة بنت أبي حبيش، أنها كانت تستحاض، فقالَ لها النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا كانَ دم الحيضة،
فإنه دم أسود يعرف، فإذا كانَ ذَلِكَ فأمسكي عن الصلاة،
فإذا كانَ الآخر فتوضئي وصلي، فإنما هوَ عرق)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان
في
((صحيحيهما)) والحاكم.
وقال: صحيح على شرط مسلم.
وقال
(2/56)
الدارقطني: رواته كلهم ثقات.
وقد تكلم فيهِ آخرون:
قالَ النسائي: روى هذا الحديث غير واحد، فلم يذكر أحد منهم
ما ذكره ابن عدي.
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذا الحديث؟ فقالَ: لم
يتابع محمد ابن عمرو على هذه الرواية، وهو منكر.
وأيضاً؛ فقد اختلف على ابن أبي عدي في إسناده، فقيل: عنه
كما ذكرنا. وقيل عنه في إسناده: عن عروة، عن عائشة.
وقيل: إن روايته عن عروة، عن فاطمة أصح؛ لأنها في كتابه
كذلك.
وقد اختلف في سماع عروة من فاطمة.
وفي ((سنن أبي داود)) من رواية سهيل، عن الزهري، عن عروة،
عن أسماء بنت عميس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قالَ في أمر فاطمة بنت أبي حبيش: ((لتجلس في
مركن، فإذا رأت صفرةً فوق الماء فلتغتسل)) .
وفي إسناده اختلاف: وقد قيل: إن الصحيح فيهِ: عن عروة، عن
فاطمة.
وفي بعض ألفاظه: ((فأمرها أن تقعد أيامها التي كانت تقعد،
ثم تغتسل)) .
(2/57)
والأظهر - والله اعلم -: أن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما ردها إلى العادة لا إلى
التمييز؛ لقوله: ((فإذا ذهب عنك قدرها)) ، كذا في رواية
مالك، عن هشام، وهي التي خرجها البخاري في هذا الباب.
وقد تأويلها بعض المالكية على أنها كانت مميزة، لكن يزيد
دم تمييزها على أكثر الحيض، فتجلس منه قدر العادة.
وقال بعضهم: المراد بقدرها: ذهاب دمها وانقضاؤها.
وتأوله بعضهم: على أن المراد بذهاب قدرها: الاستطهار بعد
مدتها بثلاثة أيام على ما يراه مالك.
وكل هذه تأويلات بعيدةٌ، تخالف ظاهر اللفظ.
وفي رواية أبي أسامة، عن هشام: ((دعي الصلاة قدر الأيام
التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي)) .
وقد خرجها البخاري فيما بعد.
وهذه الرواية صريحة في ردها إلى العادة دون التمييز.
وخرج مسلم من حديث عراك بن مالك، عن عروة، عن عائشة، أن أم
حبيبة سألت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عن الدم؟ فقالَ لها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي
وصلي)) .
وفي رواية: أنها شكت إليه الدم.
وروى مالك، عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة زوج
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن امرأةً
كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالَ: ((لتنظر عدة
الليالي والأيام
(2/58)
التي كانت تحيضهن من الشهر [قبل أن يصيبها
الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذَلِكَ من الشهر] ، فإذا
خلفت ذَلِكَ فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصل)) .
وخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
وخرجه الإمام أحمد والنسائي - أيضاً - وابن ماجه من حديث
عبيد الله بن
عمر، عن نافع - بنحوه.
وخرجه أبو داود - أيضاً - من رواية الليث، عن نافع، عن
سليمان بن يسار، أن رجلاً أخبره عن أم سلمة.
ومن طريق أبي ضمرة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن
سليمان، عن رجل من الأنصار، أن امرأة كانت تُهراق الدماء -
فذكره بمعناه.
فتبين بهذا أن سليمان بن يسار لم يسمعه من أم سلمة.
وروى أيوب، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة، أن فاطمة بنت
أبي حبيش استحيضت، فسألت رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالَ: ((إنه ليس بالحيضة، ولكنه
عرق)) ، وأمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها، أو حيضها، ثم
تغتسل، فإن غلبها الدم استثفرت بثوب وصلت.
(2/59)
فهذه الرواية تشهد لما ذكرناه من أن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما رد فاطمة إلى
العادة.
وكذلك روى المنذر بن المغيرة، عن عروة، أن فاطمة بنت أبي
حبيش حدثته: أنها سألت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وشكت إليه الدم؟ فقالَ لها رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنما ذَلِكَ
عرقٌ، فانظري إذا أتاك قرؤك فلا تصلي، فإذا مر قرؤك
فتطهري، ثم صلي ما بين القرء إلى القرء)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من
وجوهٍ متعددة أنه أمر المستحاضة أن تدع الصلاة أيام
أقرائها ثم تغتسل.
وهذه النصوص كلها تدل على الرجوع إلى العادة المعتادة لها
قبل الاستحاضة.
والمستحاضة لها أربعة أحوال:
الحالة الأولى: أن تكون مميزة، وهي التي دمها مميز، بعضه
أسود وبعضه أحمر أو أصفر.
والحالة الثانية: أن تكون معتادة، وهي التي لها عادة
معلومة من الشهر تعرفها.
والحالة الثالثة: أن تجتمع لها عادة وتمييز، وتختلفان.
والحالة الرابعة: أن لا تكون لها عادة ولا تمييز، مثل أن
يكون دمها كله لونه
واحد، وليس لها عادة: إما بأن تكون قد استحيضت وهي مبتدأة،
(2/60)
أو كانت لها عادة ونسيتها.
وقد اختلف العلماء في حكم ذَلِكَ: فذهب الشافعي وأحمد إلى
اعتبار التمييز والعادة معاً، فإن انفرد أحدهما عملت به،
بغير خلاف عنهما.
وإن اجتمعا واختلفا، ففيه قولان:
أحدهما: تقدم التمييز على العادة، وهو قول الشافعي ورواية
عن أحمد اختارها الخرقي.
والثاني: تقدم العادة على التمييز، وهو المشهور عن أحمد،
وعليه أكثر
أصحابه، وهو قول إسحاق والإصطخري وابن خيران من الشافعية.
وهو قول الأوزاعي، حتى إنه قدم رجوعها إلى عادة نسائها على
تمييز الدم.
وذهب مالك إلى أن لا اعتبار بالعادة، وأن العمل على
التمييز وحده، فإن لم يكن لها تمييز فإنها لا تترك الصلاة
أصلاً، بل تصلي أبداً، ويلزمها الغسل لكل صلاة في الوقت
لاحتمال انقطاع الحيضة فيهِ.
ومذهب أبي حنيفة وسفيان: أن الاعتبار بالعادة وحدها دون
التمييز، فإن لم يكن لها عادة فإنها تجلس أقل الحيض، ثم
تغتسل وتصلي.
وأما من لا عادة لها ولا تمييز، فإذا كانت ناسيةً، فذهب
أبو حنيفة إلى أنها تقعد العادة، تجلس أقل الحيض ثم تغتسل
وتصلي.
ومذهب مالك: أنها تقعد التمييز أبداً، وتغتسل، كما تقدم.
وللشافعي فيها ثلاث أقوال: أحدهما: أنها تجلس أقل الحيض.
والثاني:
(2/61)
تجلس غالبه: ستاً أو سبعاً. والثالث - وهو
الصحيح عندَ أصحابه - كقول مالك: أنها لا تجلس شيئاً، بل
تغتسل لكل صلاة وتصلي.
ومذهب أحمد: أن الناسية لعادتها تجلس غالب عادات النساء:
ستاً أو سبعاً من كل شهر، ثم تغتسل وتصلي وتصوم، هذا هوَ
المشهور عنه.
وحكي عنه رواية: أنها تجلس أقل الحيض، ثم تغتسل وتصلي.
ورواية ثالثة: أنها تجلس عادة نسائها وأقاربها، ثم تغتسل
وتصلي.
وأما المبتدأة إذا استحيضت، فإذا كانت مميزة، فإنها تُرد
إلى تمييزها عندَ الشافعي وأحمد وإسحاق.
وإن لم يكن لها تمييز، فعن أحمد فيها أربع روايات: إحداهن:
تجلس أقل
الحيض. والثانية: أكثره. والثالثة: غالبه، وهو ست أو سبع.
والرابعة: عادة
نسائها.
وللشافعي قولان: أحدهما: تجلس أقله، والثاني: غالبه.
وقال أبو حنيفة: تجلس أكثر الحيض، بخلاف قوله في الناسية.
وعن مالك روايات: إحداهن: تجلس أكثر الحيض. والثانية: تجلس
عادة لداتها وأقرانها. والثالثة: تجلس عادتهن وتستطهر
بعدها بثلاث.
وحكي عنه رواية أخرى: أنها لا تجلس شيئاً أصلاً.
هذا في أول شهر، فأما ما بعده فلا تجلس فيهِ أصلاً، بل
تغتسل وتصلي أبداً، إذا لم يكن لها التمييز.
(2/62)
وقال عطاء والأوزاعي والثوري - في المشهور
عنه -: تجلس عادة نسائها
وأقاربها، فإن لم يكن لها أقارب جلست غالب حيض النساء:
ستاً أو سبعاً.
وقد ورد حديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- في رد المستحاضة إلى غالب حيض الحُيض: من رواية حمنة بنت
جحش، قالت: كنت أستحاض حيضة كبيرة شديدة، فأتيت النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استفتيه - فذكرت
الحديث، إلى أن قالت - قالَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((إنما ذَلِكَ من الشيطان، فتحيضي ستة أيام،
أو سبعة أيام في علم الله - عز وجل -، ثم اغتسلي)) - وذكر
الحديث.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
وفي رواية لأبي داود: ((وكذلك فافعلي في كل شهر، كما تحيض
النساء، وكما يطهرن)) .
وقال الترمذي: حسن صحيح. قالَ: وسألت محمداً - يعني:
البخاري -
عنه، فقالَ: هوَ حديث حسن، وكذا قالَ أحمد بن حنبل: هوَ
حسن صحيح -:
(2/63)
هذا ما ذكره الترمذي.
ونقل حرب، عن أحمد، [أنه] قالَ: نذهب إليه، ما أحسنه من
حديث.
واحتج به إسحاق وأبو عبيد، وأخذا به.
وضعفه أبو حاتم الرازي والدارقطني وابن منْده، ونقل
الاتفاق على تضعيفه من جهة عبد الله بن محمد بن عقيل؛ فإنه
تفرد بروايته.
والمعروف عن الإمام أحمد أنه ضعفه ولم يأخذ به، وقال: ليس
بشيء. وقال - مرة -: ليس عندي بذلك، وحديث فاطمة أصح منه
وأقوى إسناداً. وقال - مرة -: في نفسي منه شيء.
ولكن ذكر أبو بكر الخلال أن أحمد رجع إلى القول بحديث حمنة
والأخذ به. والله أعلم.
(2/64)
وقد اختلف الناس في حمنة: هل كانت مبتدأة،
أو كانت معتادة ناسية لعادتها، أو معتادةً ذاكرةً لعادتها؟
فمنهم من قالَ: كانت مبتدأةً، ورجحه الخطابي وطائفة من
أصحاب الشافعي وغيرهم، وضعفه الإمام أحمد بأن حمنة كانت
امرأةً كبيرة، لم تكن صغيرة.
ومنهم من قالَ: كانت ناسيةً لعادتها ولا تمييز لها، وعلى
هذا حمله الإمام أحمد على رواية أخذه بالحديث، وأصحابه
الذين أخذوا به كأبي بكر الخلال وصاحبه أبي بكر ابن جعفر.
ومنهم: من حمله على أنها كانت معتادةً عالمة بالعادة، وهو
اختيار الشافعي في ((الأم)) .
واختلف أصحابه نعلى هذا: كيف ردها إلى ست أو سبع؟
فمنهم من قالَ: إنما ردها إلى ما تذكره من عادتها من الست
أو السبع.
ومنهم من قالَ: كانت عادتها في الشهور مختلفة، ففي بعضها
كانت تحيض
ستاً، وفي بعضها سبعاً، فردها إلى عادتها في ذَلِكَ.
وقد حمل طائفة من أصحابنا حديث حمنة على مثل ذَلِكَ، بناءً
على أن المبتدأةً والناسية لا تجلسان أكثر من أقل الحيض،
ولكن المنصوص عن
(2/65)
أحمد - وهو قول أبي بكر وغيره -: إنا لا
نقول: إن الناسية تجلس أقل الحيض إلا لتضعيفنا إسناد حديث
حمنة، لا لتأويله.
وممن رجح تأويله ابن أبي موسى في ((شرح الخرقي)) ، وقال:
نحمله على أن الست كانت عادتها، وشكت في اليوم السابع،
فردها إلى عادتها المتيقنة، وردها في اليوم المشكوك فيهِ
إلى التحري فيهِ والاجتهاد.
وأما قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فإذا
أدبرت)) ، أو ((فإذا ذهب قدرها - فاغسلي عنك الدم وصلي)) .
وفي رواية أخرى: ((فاغتسلي وصلي)) ,، فإنه يجمع بين
الروايتين ويؤخذ بهما في وجوب غسل الدم والاغتسال عندَ
ذهاب الحيض.
وقد جاء ذَلِكَ مصرحاً به في رواية خرجها النسائي من طريق
الأوزاعي، عن يحيى بن سعيد، عن هشام، عن أبيه، عن فاطمة
بنت قيس من [بني] أسد قريش، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قالَ لها: ((اغتسلي، واغسلي عنك
الدم، وصلي)) .
قالَ الطبراني: فاطمة بنت قيس هذه هي بنت أبي
(2/66)
حبيش، واسمه: قيس. قالَ: وليست فاطمة بنت
قيس الفهرية التي روت قصة طلاقها.
وقال الدارقطني في ((علله)) . وهم الأوزاعي في قوله: ((بنت
قيس)) ، إنما هي بنت أبي حبيش.
وكذلك رواه أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن
عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ
لفاطمة: ((فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم اغتسلي)) .
ورواه حماد بن سلمة، عن هشام، وقال فيهِ: ((فاغسلي عنك
الدم، وتطهري، وصلي)) .
والغسل عندَ انقضاء حيض المستحاضة المحكوم به لا بد منه،
كما لو طهرت من الحيض.
وقد تعلق بعض الناس بظاهر الرواية المشهورة في حديث فاطمة:
((اغسلي عنك الدم وصلي)) ، وقال: لا غُسل عليها، إنما
عليها أن تغسل الدم وتصلي.
وقد حكى الأثرم هذا القول للإمام أحمد، ولم يسم من قاله.
فإنكره
(2/67)
الإمام أحمد، وقال: الغسل لا بد منه.
وفسر سفيان الثوري قوله: ((اغسلي عنك الدم)) : أنها إذا
اغتسلت عندَ فراغ حيضها المحكوم بأنه حيضها، ثم رأت دماً،
فإنها تغسل الدم [وتصلي] ؛ فإنه دم استحاضة لا يمنع الصلاة
,، وإنما تغسله وتتحفظ منه فقط.
ففي حديث عائشة الأمر بغسل الدم، وفي حديث أم سلمة الأمر
بالاستثفار بثوب. والمراد به: التلجم بالثوب والتحفظ به.
وقد اختلف العلماء: هل يجب الغسل عليها لكل صلاة؟ على
قولين، وأكثر العلماء: على أن ذَلِكَ ليس بواجب. وربما
تذكر المسألة مستوفاةً فيما بعد - إن شاء الله تعالى.
وكذلك اختلفوا: هل يجب عليها غسل الدم والتحفظ والتلجم
عندَ كل صلاة؟ وفيه قولان، هما روايتان عن أحمد.
وربما يرجع هذا الاختلاف إلى الاختلاف المشهور: في أن
الأمر المطلق: هل يقتضي التكرار، أم لا؟ وفيه اختلاف
مشهور.
لكن الأصح هنا: أنه لا يقتضي التكرار لكل صلاة؛ فإن الأمر
الاغتسال، وغسل الدم إنما هوَ معلق بانقضاء الحيضة
وإدبارها، فإذا قيل: إنه يقتضي التكرار لم يقتضه إلا عندَ
إدبار كل حيضة فقط.
وقوله: ((وصلي)) أمر بالصلاة بعد إدبار الحيضة حيث نهاها
عن
(2/68)
الصلاة في وقت إقبالها، والأمر بعد الحظر
يعيد الأمر إلى ما كانَ عليهِ، عندَ كثير من الفقهاء: وقد
كانت الصلاة عليها واجبة قبل الحيض، فكذلك بعدها.
وأما على قول من يقول: لا يقتضي غير الإباحة، فقد يقال: إن
هذا الأمر اقتضى إطلاق الصلاة والإذن فيها بعد حظرها،
فصارت الصلاة مباحة بعد حظرها، فإن كانت نافلة فهي غير
محظورة، وإن كانت مفروضة اكتفي في الاستدلال على فرضيتها
بالأدلة العامة الدالة على افتراض الصلاة على كل مسلم.
وإنما خرج من ذَلِكَ حال الحيض بمثل هذا الحديث وشبهه،
وإطلاقه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دليل على
أنها في حكم الطاهرات في جميع العبادات التي يمنع منها
الحيض.
هذا قول جمهور العلماء، وشذ منهم من قالَ باختصاص الإذن
بالصلاة خاصةً. وسنذكره فيما بعد - إن شاء الله تعالى.
وقد زاد قوم من الرواة في حديث عائشة: الأمر بالوضوء،
منهم: حماد ابن
زيد، عن هشام.
(2/69)
خرجه النسائي من طريقه، وقال فيهِ:
((فاغسلي عنك الدم، وتوضئي؛ إنما ذَلِكَ عرق)) .
قالَ النسائي: لا نعلم أحداً ذكر في هذا الحديث:
((وتوضئي)) غير حماد بن زيد.
وقد خرج مسلم حديثه هذا، وقال: في حديث حماد بن زيد زيادة
حرفٍ، تركنا ذكره - يعني: قوله: ((توضئي)) .
قالَ البيهقي: هذه الرواية غير محفوظة.
وفي رواية أخرى عن حماد بن زيد في هذا الحديث: ((فإذا
أدبرت الحيضة فاغسلي عنك الدم، وتوضئي)) .
فقيل لحماد: فالغسل؟ قالَ: ومن يشك أن في ذَلِكَ غسلاً
واحداً بعد الحيضة.
وقال حماد: قالَ أيوب: أرأيت لو خرج من جيبها دمٌ، أتغتسل؟
!
يشير أيوب إلى إنها: لا تغتسل لكل صلاة.
(2/70)
قالَ ابن عبد البر: جود حماد بن زيد لفظه.
يعني: بذكر الوضوء، وهذا يدل على أنه رآه محفوظاً، وليس
كَما قالَ وقد رويت لفظة ((الوضوء)) مِن طريق حماد بنِ
سلمة، عَن هشام.
خرجه الطحاوي مِن طريق حجاج بنِ منهال، عَن حماد.
ورواه عفان، عَن حماد، ولفظة: ((فاغسلي عنك الدم، ثُمَّ
تطهري وصلي)) .
قالَ هشام: كانَ عروة يقول: ((الغسل)) الأول، ثُمَّ قالَ
بعد: ((والطهر)) وكذلك رويت مِن طريق أبي معاوية، عَن
هشام.
خرجه الترمذي عَن هناد، عَنهُ.
وقال: قالَ أبو معاوية في حديثه: وقال: ((توضئي لكل صلاة،
حتى يجيء ذَلِكَ الوقت)) .
والصواب: أن هَذا مِن قول عروة، كذلك خرجه البخاري في
((كِتابِ: الوضوء)) عَن محمد بنِ سلام، عَن أبي معاوية،
عَن هشام فذكر الحديث، وقال في آخره: قالَ: وقال أبي:
((ثُمَّ توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذَلِكَ الوقت)) .
وكذلك رواه يعقوب الدورقي، عَن أبي معاوية، وفي حديثه:
((فإذا
(2/71)
أدبرت فاغسلي الدم، ثُمَّ اغتسلي)) . قالَ
هشام: قالَ أبي: ((ثُمَّ توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذَلِكَ
الوقت)) .
وخرجه إسحاق بن راهويه، عن أبي معاوية، وقال في حديثه:
قالَ هشام: قالَ أبي: ((وتوضئي لكل صلاة حتَّى يجيء ذَلِكَ
الوقت)) .
وكذلك روى الحديث عيسى بنِ يونس، عَن هشام، - وقال في آخر
الحديث: وقال هشام: ((تتوضأ لكل صلاة)) .
وذكر الدارقطني في ((العلل)) : أن لفظة: ((توضئي لكل
صلاة)) رواها
- أيضاً - عَن هشام: أبو حنيفة وأبو حمزة السكري ومحمد بنِ
عجلان ويحيى بن سليم.
قلت: وكذلك رواه أبو عوانة، عَن هشام، ولفظ حديثه:
((المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها، وتغتسل غسلاً
واحداً، وتتوضأ لكل صلاة)) .
قلت: والصواب: أن لفظة ((الوضوء)) مدرجة في الحديث مِن قول
عروة.
وكذلك روى مالك، عَن هشام، عَن أبيه، أنه قالَ: ((ليسَ على
المستحاضة إلا أن تغتسل غسلاً واحداً، ثُمَّ تتوضأ بعد
ذَلِكَ لكل صلاة)) .
(2/72)
قالَ مالك: والأمر عندنا على حديث هشام،
عَن أبيه، وَهوَ أحب ما سمعت إلي.
قالَ ابن عبد البر: والوضوء عليها عند مالك على الاستحباب
دونَ الوجوب. قالَ وقد احتج بعض أصحابنا على سقوط الوضوء
بقول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((فإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي)) ، ولم يذكر وضوءاً.
قالَ: وممن قالَ بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب:
ربيعة، وعكرمة، ومالك، وأيوب، وطائفة.
قالَ: وأما الأحاديث المرفوعة في الغسل لكل صلاة، فكلها
مضطربة، لا تجب بمثلها حجة. انتهى.
وأحاديث الأمر بالغسل لكل صلاة كلها معلولة، وربما تأتي
الإشارة إليها في موضع آخر - إن شاء الله تعالى.
وإنما المراد هنا: أحاديث الوضوء لكل صلاة، وقد رويت مِن
وجوه متعددة، وهي مضطربة - أيضا - ومعللة، تقدم بعضها.
ومن أشهرها: رواية الأعمش، عَن حبيب بنِ أبي ثابت، عَن
عروة، عَن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش، فقالت:
يا رسول الله، إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟
قالَ: ((لا، اجتنبي الصلاة
(2/73)
أيام محيضك، ثُمَّ اغتسلي وتوضئي لكل صلاة،
ثُمَّ صلي، وإن قطر الدم على الحصير)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه.
وقال أبو داود: هوَ حديث ضعيف لا يصح، قالَ: ليسَ بصحيح،
وَهوَ خطأ مِن الأعمش.
وقال الدارقطني: لا يصح.
وقد روي موقوفاً على عائشة، وَهوَ أصح عند الأكثرين.
ورى هشيم: نا أبو بشر، عَن عكرمة؛ أن أم حبيبة بنت حجش
استحيضت، فأرها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أن تنظر أيام أقرائها، ثُمَّ تغتسل وتصلي، فإن رأت شيئاً
مِن ذَلِكَ توضأت وصلت.
خرجه أبو داود.
والظاهر: أنَّهُ مرسل، وقد يكون آخره موقوفاً على عكرمة،
مِن قولُهُ والله أعلم.
(2/74)
وقد روي الأمر للمستحاضة بالوضوء لكل صلاة
عَن جماعة مِن الصحابة، مِنهُم: علي، ومعاذ، وابن عباس،
وعائشة، وَهوَ قول سعيد بنِ المسيب، وعروة، وأبي
جعفر، ومذهب اكثر العلماء، كالثوري، والأوزاعي، وابن
المبارك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد
وغيرهم.
لكن؛ مِنهُم مِن يوجب عليها الوضوء لكل فريضة كالشافعي.
ومنهم مِن يرى أنها تتوضأ لوقت كل صلاة، وتصلي بها ما شاءت
مِن فرائض ونوافل حتَّى يخرج الوقت، وَهوَ قول أبي حنيفة،
والمشهور عَن أحمد، وَهوَ - أيضاً - قول الأوزاعي والليث
وإسحاق.
وقد سبق ذكر قول مِن لَم يوجب الوضوء بالكلية لأجل دم
الاستحاضة، كمالك وغيره.
وهكذا الاختلاف في كل مِن بهِ حدث دائم لا ينقطع، كمن بهِ
رعاف دائم أو سلس البول، أو [الريح] ، ونحو ذَلِكَ.
وعن مالك رواية بوجوب الوضوء، كقول الجمهور.
(2/75)
9 - باب
غسل دم المحيض
خرج فيهِ حديثين:
أحدهما:
(2/76)
307 - حديث: مالك، عَن هشام، عَن فاطمة بنت
المنذر، عَن أسماء، قالت: سألت امرأة رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله، أرأيت
إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم مِن الحيضة، كيف تصنع؟ فقالَ
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا
أصاب ثوب إحداكن الدم مِن الحيضة فلتقرصه، [ثُمَّ] لتنضحه
بماء، ثُمَّ لتصلي فيهِ)) .
وقد تقدم تخريجه لهذا الحديث في أواخر ((كِتابِ: الوضوء))
مِن حديث يحيى القطان، عَن هشام بمعناه، في ((باب: غسل
الدم)) ، وتقدم الكلام عليهِ هناك بما فيهِ كفاية.
(2/76)
والثاني:
(2/77)
308 - حديث: ابن القاسم، عَن أبيه، عَن
عائشة، قالت: كانت إحدانا تحيض ثُمَّ تقرص الدم مِن ثوبها
عند طهرها وتنضح على سائره، ثُمَّ تصلي فيهِ.
وقد ذكرناه - أيضاً - في الباب المشار إليهِ، وذكرنا ما
فيهِ مِن الفوائد.
(2/77)
10 - باب
اعتكاف المستحاضة
خرج فيهِ حديث عكرمة، عَن عائشة مِن ثلاثة طرق:
أحدها:
قال:
(2/78)
309 - نا إسحاق بنِ شاهين: نا خالد بنِ عبد
الله، عَن خالد، عَن عكرمة، عَن عائشة، أن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتكف معه بعض نسائه، وهي
مستحاضة ترى الدم وربما وضعت الطست تحتها مِن الدم. وزعم
أن عائشة رأت ماء العصفر، فقالت؟: كأن هَذا شيء كانت فلانة
تجده.
خالد بنِ عبد الله، هوَ: الطحان الواسطي. وشيخه: خالد،
هوَ: الحذاء.
والثاني:
قالَ:
(2/78)
310 - ثنا قتيبة: نا يزيد بنِ زريع، عَن
خالد - يعني: الحذّاء -، عَن عكرمة، عَن عائشة، قالت:
اعتكف معَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
امرأة مِن أزواجه، فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها،
وهي تصلي.
والثالث:
قالَ:
(2/78)
311 - نا مسدد: نا معتمر، عَن خالد، عَن
عكرمة، عَن عائشة، أن بعض أمهات المؤمنين اعتكفت وهي
مستحاضة.
(2/78)
وهذه الروية ليسَ فيها تصريح برفعه، فإنه
ليسَ فيها أن ذَلِكَ كانَ في زمن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا أنَّهُ كانَ
معها.
وفي إسناده اختلاف أيضاً؛ فإن عبد الوهاب الثقفي [رواه] ،
عَن خالد، عَن عكرمة، أن عائشة قالت.
[وهذه] الرواية تشعر بأنَّهُ لَم يسمعه منها.
وروي عَن معتمر، عَن خالد، عَن عكرمة عَن ابن عباس، وهو
وهم -: قاله الدارقطني.
وهذا الحديث: يدل على أن المستحاضة مِن أهل العبادات
كالطاهرة، فكما أنها تصلي فإنها تصوم، وتعتكف، وتجلس في
المسجد، وتقرأ القرآن، وتمس المصحف، وتطوف بالبيت؛ فإن
اعتكاف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غالبه
كانَ في شهر رمضان، فلو كانت المستحاضة كالحائض لا تصوم
لَم تعتكف، لا سيما على رأي مِن يقول: إن الاعتكاف لا يصح
بغير صوم، وقد حكى إسحاق بن راهويه إجماع المسلمين على
ذَلِكَ.
وروى عبد الرزاق، عَن ابن جريج، عَن الثوري، عَن جابر، عَن
أبي جعفر، قالَ: جاءت امرأة إلى النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: إني استحضت في غير قرئي؟
قالَ: ((فاحتشي كرسفاً، وصومي، وصلي، واقضي ما عليك)) .
(2/79)
وهذا مرسل.
وفيه خلاف شاذ:
روى عبد الرزاق، عَن الثوري، عَن منصور، عَن إبراهيم،
قالَ: المستحاضة لا تصوم، ولا يأتيها زوجها، ولا تمس
المصحف.
وعن معمر، عَن أيوب، قالَ: سئل سليمان بنِ يسار: أيصيب
المستحاضة
زوجها؟ قالَ: إنما سمعنا بالرخصة لها في الصلاة.
ونقل صالح بنِ أحمد، عَن أبيه في المستحاضة: لا تطوف
بالبيت، إلا أن تطول بها الاستحاضة.
قالَ أبو حفص العكبري: لعلها غلط مِن الراوي، فإن الصحيح
عَن أحمد أن المستحاضة بمنزلة الطاهرة تطوف بالبيت.
قالَ في رواية الميموني: المستحاضة أحكامها أحكام الطاهرة
في عدتها وصلاتها وحجها وجميع أمرها.
ونقل عَنهُ ابن منصور: تطوف بالبيت.
وأما ما وقع في رواية صالح: أنها لا تطوف إلا أن يطول بها.
فلعله اشتبه على الراوي الطواف بالوطء؛ فإن ابن منصور نقل
عَن أحمد ذَلِكَ في الوطء،
(2/80)
وصالح وابن منصور متفقان في نقل المسائل
عَن أحمد في الغالب.
ولكن قَد روي عَن ابن عمر ما يشعر بمنع المستحاضة مِن
الطواف، فروى عبد الرزاق، عَن معمر، عَن واصل مولى ابن
عيينة. عَن رجل سأل ابن عمر عَن امرأة تطاول بها الدم،
فأرادت تنفر، وأرادت تشرب دواء ليقطع عنها الدم؟ قالَ: لا
بأس
بهِ. ونعت ابن عمر لها ماء الأراك.
وقال ابن جريج، عَن عطاء: أنَّهُ لَم ير بهِ بأساً.
قالَ معمر: وسمعت [ابن] أبي نجيح يسأل عَن ذَلِكَ، فلم ير
بهِ بأساً.
فظاهر هَذا: أن المستحاضة معَ تطاول الدم بها لا تطوف حتى
ينقطع عنها الدم، معَ أنَّهُ يُمكن حمله على تطاول دم
الحيض ومجاوزته للعادة، أو على أن الأولى للمستحاضة أن لا
تطوف حتى ينقطع دمها. وجمهور العلماء على جواز ذَلِكَ.
وقد خرجه عبد الرزاق في موضع آخر مِن ((كتابه)) ، وقال
فيهِ: إن ابن عمر سئل عَن امرأة تطاول بها دم الحيضة.
(2/81)
وممن رخص للمستحاضة في الطواف بالبيت: ابن
عمر، وابن عباس، وعائشة، وسعيد بنِ المسيب، وعطاء، وسعيد
بنِ جبير وغيرهم.
قالَ سعيد بنِ المسيب: تقضي المناسك كلها.
وَهوَ قول الثوري، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وجمهور
العلماء.
وفي حديث عائشة في اعتكاف المستحاضة: ما يدل على أن دم
الاستحاضة يتميز عَن دم الحيض بلونه وصفرته، وقد يتعلق
بذلك مِن يقول باعتبار التمييز، كَما تقدم.
(2/82)
11 - باب
هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيهِ؟
(2/83)
312 - حدثنا أبو نعيم: نا إبراهيم بن نافع،
عَن ابن أبي نجيح، عَن مجاهد، قالَ: قالت عائشة: ما كانَ
لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيهِ، فإذا أصابه شيء مِن الدم
قالت بريقها، فمصعته بظفرها.
وقد خرجه أبو داود، عَن محمد بنِ كثير: نا إبراهيم - يعني:
ابن نافع -، قالَ: سمعت الحسن يذكر عَن مجاهد، قالَ: قالت
عائشة: ما كانَ لإحدانا إلا ثوب واحد فيهِ
تحيض، فإن أصابه شيء مِن دم بلته بريقها، ثُمَّ قصعته
بريقها.
فخالف في إسناده: حيث جعل: ((الحسن)) - وَهوَ: ابن مسلم -
بدل: ((ابن أبي نجيح)) ، وفي متنه: حيث قالَ: ((قصعته))
بالقاف.
وكذا خرجه الإسماعيلي مِن حديث أبي حذيفة، عن إبراهيم، إلا
أنَّهُ قالَ:
((قصعته بظفرها)) .
وكأنه يشير إلى أن هَذهِ الرواية أصح مِن رواية البخاري.
قالَ الخطابي: مصعته بظرفها، أي: بالغت في حكه. وأصل
المصع: الضرب الشديد.
قالَ: وروي ((قصعته)) أي: دلكته بالظفر،
(2/83)
وعالجته بهِ، ومنه قصع القملة.
وقد سبق الحديث الذِي خرجه البخاري مِن رواية عمرو بنِ
الحارث، عَن
عبد الرحمن بنِ القاسم.، عَن أبيه، عَن عائشة، قالت: كانت
إحدانا تحيض، ثُمَّ تقرص الدم مِن ثوبها عند طهرها،
فتغسله، وتنضح على سائره، ثُمَّ تصلي فيهِ.
ولكن؛ هَذا فيهِ غسل الدم.
ورواه الأوزاعي، عَن عبد الرحمن بن القاسم، عَن أبيه، عَن
عائشة، أنها أفتت بذلك، ولم يذكر حكاية فعلها مِن قبل.
وخرج أبو داود مِن رواية ابن عيينة، عَن ابن أبي نجيح،
[عَن عطاء] ، عَن
عائشة، قالت: قَد كانَ يكون لإحدانا الدرع، فيهِ تحيض،
وفيه تصيبها الجنابة، ثُمَّ ترى فيهِ قطرة مِن دم فتقصعه
بريقها.
فهذا - أيضاً - فيهِ ذكر القصع بالريق كحديث مجاهد، عَن
عائشة، ولكن فيهِ أن ذَلِكَ كانت تفعله بالقطرة مِن الدم،
فيحمل ذَلِكَ على أنها كانت ترى ذَلِكَ يسيراً فيعفى عَن
أثره، ويحتمل أنها كانت ترى الريق مطهراً، فيكون فيهِ
دلالة على طهارة النجاسة بغير الماء.
وروى محمد بنِ سعد في ((طبقاته)) : أنا الواقدي: ثنا ابن
أبي ذئب، عَن صفية بنت زياد، قالت: رأتني ميمونة وأنا أغسل
ثوبي مِن الحيضة، فقالت: ما كنا نفعل
هَذا، إنما كنا نحته حتاً.
(2/84)
الواقدي، ضعيف.
ويحمل [على] أنَّهُ كانَ دماً يسيراً.
وروى أبو نعيم الفضل بنِ دكين في ((كِتابِ الصلاة)) : نا
حبيب بنِ أبي
[. . .] ، قالَ: حدثتني أختي، عَن أم جرير، أنها كانت في
نسوة عند عائشة، فقالت إحداهن: [يا] أم المؤمنين، المرأة
تحيض في الثوب ثُمَّ تطهر، أتصلي فيهِ؟ قالت: إن رأت دماً
فلتغسلهُ، وإن [لَم] تر دماً فلتنضحه سبع مرات بالماء،
ثُمَّ لتصلي فيهِ.
إسناد مجهول.
وخرج أبو داود بإسناد فيهِ جهالة - أيضاً -، عَن عائشة،
أنها قالت - في الحائض يصيب ثوبها الدم: تغسله، فإن لَم
يذهب أثره فلتغيره بشيء مِن صفرة. قالت: ولقد كنت أحيض عند
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث حيض
جميعاً، لا أغسل لي ثوباً.
وبإسنادٍ فيهِ جهالة - أيضاً - عَن أم سلمة، قالت: قَد
كانَ يصيبنا الحيض عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فتلبث إحدانا أيام حيضها، ثُمَّ تطهر، فتطهر
الثوب الذِي كانت تلبث فيهِ، فإن أصابه دم غسلناه وصلينا
فيهِ، وإن لَم يكن أصابه شيء تركناه، ولم يمنعنا ذَلِكَ أن
نصلي فيهِ.
وخرج الطبراني مِن حديث أم سلمة، قالت: كانت إحدانا تحيض
في الثوب، فإذا كانَ يوم طهرها غسلت ما أصابه، ثُمَّ صلت
فيهِ، وإن إحداكن اليوم تفرغ خادمها ليغسل ثيابها يوم
طهرها.
وفي إسناده: المنهال بنِ خليفة، ضعفوه.
وخرجه وكيع عَنهُ في ((كتابه)) .
وروى وكيع - أيضاً - عَن سفيان، عَن أبي هاشم، عَن سعيد
بنِ جبير، قالَ: إن كانَ بعض أمهات المؤمنين لتقرص الدم
مِن ثوبها بريقها.
(2/86)
وعن أبي العوام الباهلي، عَن عطاء، قالَ:
لقد كانت المرأة وما لها إلا الثوب الواحد، فيهِ تحيض،
وفيه تصلي.
وعن الفضل بنِ دلهم، قالَ: سألت الحسن عَن المرأة تحيض في
الثوب فتعرق فيهِ؟ قالَ: لا بأس، إلا أن ترى دماً تغسله.
فأما ما خرجه الإمام أحمد وأبو داود مِن حديث ابن لهيعة،
عَن يزيد بنِ أبي حبيب، عَن عيسى بنِ طلحة، عَن أبي هريرة،
أن خولة بنت يسار أتت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله، ليسَ لي إلا ثوب واحد،
وأنا أحيض فيهِ، فكيف أصنع؟ قالَ: ((إذا طهرت فاغسليه،
ثُمَّ صلي فيهِ)) . فقالت: فإن لَم يخرج الدم؟ قالَ:
((يكفيك الماء، ولا يضرك أثره)) .
فابن لهيعة، ولا يحتج برواياته في مخالفة روايات الثقات.
وقد اضطرب في إسناده: فرواه: تارة كذلك. وتارة رواه: عَن
عبيد الله ابن أبي جعفر، عَن موسى بنِ طلحة، عَن أبي
هريرة.
وخرجه الإمام أحمد مِن هَذا
(2/86)
الوجه - أيضاً.
وهذا يدل على أنَّهُ لَم يحفظه.
وقد يحمل على أنَّهُ أمرها بغسل دم الحيض منهُ.
وقد حكى بعض أصحابنا في كراهة الصلاة في ثوب الحائض
والمرضع روايتين عَن أحمد.
وقد روي عَن عائشة، قالت: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يصلي في [لحف] نسائه.
وخرجه النسائي والترمذي وصححه.
وخرجه أبو داود، وعنده: لا يصلي في شعرنا أو لحفنا -
بالشك.
وفي رواية للإمام أحمد: لا يصلي في شعرنا - مِن غير شك.
و ((الشعار)) : هوَ الثوب الذِي يلبس على الجسد.
وقد أنكره الإمام أحمد إنكاراً شديداً.
وفي إسناده اختلاف على ابن سيرين.
وقد روي عَنهُ، أنَّهُ قالَ: سمعته منذ زمان، ولا أدري ممن
(2/87)
سمعته، ولا أدري أسمعه مِن ثبت أو لا؟
فاسألوا عَنهُ.
ذكره أبو داود في ((سننه)) ، والبخاري في ((تاريخه)) .
وقال أبو بكر الأثرم: أحاديث الرخصة أكثر وأشهر. قالَ: ولو
فسد على الرجال الصلاة في شعر النساء لفسدت الصَّلاة فيها
على النساء.
وهذا الكلام يدل على أن النساء لا يكره لهن الصلاة في ثياب
الحيض بغير خلاف، إنما الخلاف في الرجال.
والأحاديث التي أشار إليها في الرخصة متعددة:
ففي ((صحيح مسلم)) ، عَن عائشة، قالت: كانَ النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي مِن الليل وأنا إلى جنبه،
وأنا حائض، على مرط، وعليه بعضه.
وخرج النسائي، عَن عائشة، قالت: كنت أنا ورسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[نبيت] في الشعار
الواحد، وأنا حائض طامث، فإن أصابه مني شيء غسلت ما أصابه،
لَم يعده إلى غيره، ثُمَّ صلى فيهِ.
وخرج أبو داود وابن ماجه، عَن ميمونة، قالت: إن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلي وعليه مرط، وعلى
بعض أزواجه منهُ، وهي حائض، وَهوَ يصلي، وَهوَ عليهِ.
وخرج الإمام أحمد مِن حديث حذيفة، قالَ: قام النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي،
(2/88)
وعليه طرف لحاف، وعلى عائشة طرفه، وهي حائض
لا تصلي.
قالَ أبو عبيد في ((غريبة)) : الناس على هَذا - يعني: على
عدم كراهته.
واعلم؛ أن الصَّلاة في ثوب الحائض ليست كراهته مِن أجل
عرقها؛ [فإن] عرق الحائض طاهر، نص عليهِ أحمد وغيره مِن
الأئمة، ولا يعرف فيهِ [خلاف]-: قاله أبو عبيد وابن المنذر
وغيرهما، حتى قالَ حماد: إنما يغسل الثوب مِن عرق الحائض
المجوس.
وروى محمد بنِ عبد الله الأنصاري، عَن هشام بنِ حسان، عَن
حفصة بنت
سيرين، قالت: سألت امرأة عائشة، قالت: يكون علي الثوب أعرق
فيهِ أيام تحيضي، أصلي فيهِ؟ قالت: نعم. قالت: وربما أصابه
مِن دم المحيض؟ قالت: فاغسليه. قالت: فإن لَم يذهب أثره؟
قالت: فلطخيه بشيء مِن زعفران.
وإنما كره مِن كره ذَلِكَ لاحتمال أن يكون أصابه شيء مِن
دم الحيض لَم يطهر -: كذا قاله أبو عبيد وغيره.
والصواب: أنَّهُ لا تكره الصلاة فيهِ، وأنه يغسل ما رئي
فيهِ مِن الدم وينضح، ما لَم ير فيهِ شيء، ثُمَّ تصلي
فيهِ، كَما دلت عليهِ هَذهِ السنن والآثار.
(2/89)
قالَ سفيان الثوري: الحائض لا تغسل ثوبها
الذي حاضت فيهِ، إلا أن ترى دماً فتغسله.
وأما نضح ما لَم تر فيهِ دماً ,، فَهوَ مبني على أن النضح
تطهير لما شك في نجاسته، وهذا قول مالك وجماعة مِن أهل
العلم، وفيه خلاف سبق ذكره مستوفى في ((أبواب الوضوء)) .
(2/90)
12 - باب
الطيب للمرأة عند غسلها مِن المحيض
(2/91)
313 - حدثنا عبد الله بنِ عبد الوهاب: نا
حماد بنِ زيد، عَن أيوب، عَن حفصة بنت سيرين، عَن أم عطية،
قالت: كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج
أربعة أشهر وعشراً، ولا نكتحل، ولا نتطيب، ولا نلبس ثوباً
مصبوغاً، إلا ثوب عصب. وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت
إحدانا مِن محيضها في نبذة مِن كست أظفار. وكنا ننهى عَن
اتباع الجنائز.
وروى هشام بنِ حسان، عَن حفصة، عَن أم عطية، عَن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
حديث أم عطية، قَد أسنده البخاري في هَذا الباب وغيره مِن
حديث أيوب، عَن حفصة، عَن أم عطية.
ولفظ أيوب: ((كنا ننهى، ورخص لنا)) .
(2/91)
والصحابي إذا قالَ: ((أُمرنا)) أو
((نُهينا)) ، فإنه يكون في حكم المرفوع عند الأكثرين.
وأما رواية هشام بنِ حسان، عَن حفصة، عَن أم عطية، التي
صرح فيها بذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
في الحديث وذكر الحديث بتمامه، وفيه ذكر الطيب عند طهرها،
فذكرها البخاري هاهنا تعليقاً، وعلقها - أيضاً - في موضع
آخر مِن ((كتابه)) ، فقالَ: ((وقال الأنصاري: ثنا هشام)) -
فذكره.
وأسندها مسلم في ((صحيحه)) ، ولفظه: ((ولا تمس طيباً، إلا
إذا طهرت نبذة مِن قسط أو أظفار)) .
ولكن أسند البخاري حديث هشام في ((كتابه)) هَذا - أيضاً -،
بدون هَذهِ الزيادة.
قالَ الخطابي: النبذة، القطعة اليسيرة، والكست: القسط -
والقاف تبدل بالكاف - يريد: أنها تتطهر بذلك وتتطيب بهِ.
انتهى.
والقسط والأظفار: نوعان مِن الطيب معروفان.
وفي رواية مسلم: ((ظفار)) .
وفي رواية البخاري: ((كست أظفاره)) .
وقيل: إن صوابه: ((كسط ظفار)) .
و ((ظفار)) مبني على الكسر على وزن: حذام -: ساحل مِن
سواحل عدن
باليمن.
(2/92)
13 - باب
دلك المرأة نفسها إذا تطهرت مِن المحيض
وكيف تغتسل وتأخذ فرصة ممسكة فتتبع بها أثر الدم؟
(2/93)
314 - حدثنا يحيى: ثنا ابن عيينة: عَن
منصور بن صفية، عَن أمه، عَن عائشة، أن امرأة سألت
النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن غسلها
مِن المحيض، فأمرها كيف تغتسل، قالَ: ((خذي فرصة مِن مسك
فتطهري بها)) . قالت: كيف أتطهر بها؟ قالَ: ((تطهري بها))
. قالت: كيف؟ قالَ: ((سبحان الله، تطهري)) ، فاجتذبها إلي،
فقلت: تتبعي بها أثر الدم.
(2/93)
14 - باب
غسل المحيض
(2/94)
315 - حدثنا مسلم: ثنا وهيب: ثنا منصور،
عَن أمه، عَن عائشة، أن امرأة مِن الأنصار قالت للنبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف أغتسل مِن المحيض؟
قالَ: ((خذي فرصة ممسكة وتوضئي)) - ثلاثاً -، ثُمَّ إن
النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استحيا
وأعرض بوجهه - أو قالَ: ((توضئي
بها)) ، فأخذتها فجذبتها، فأخبرتها بما يريد النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
بوب البخاري في هذين البابين على ثلاثة أشياء:
أحدها: دلك المرأة نفسها، عند غسل المحيض.
والثاني: أخذها الفرصة الممسكة.
والثالث: صفة غسل المحيض.
وخرج في الباب حديث منصور بنِ صفية بنت شيبة، عَن أمه،
[وليس] في حديثه سوى ذكر الفرصة الممسكة. ولكنه أشار إلى
أن [الحكمين] الآخرين قَد رويا في حديث صفية، عَن عائشة
مِن وجه [آخر] ، لكن ليسَ هوَ على شرطه، فخرج الحديث الأول
بالإسناد الذي على شرطه، ونبه بذلك على الباقي.
وهذا الذِي لَم يخرجه، قَد خرجه مسلم في ((صحيحه)) مِن
حديث شعبة، عَن إبراهيم بنِ المهاجر، قالَ: سمعت صفية تحدث
عَن عائشة، أن
(2/94)
أسماء سألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عَن غسل المحيض. قالَ: ((تأخذ إحداكن ماءها
وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور، ثُمَّ تصب على رأسها فتدلكه
دلكاً شديداً، حتَّى تبلغ شئون رأسها، ثُمَّ تصب عليهِ
الماء، ثُمَّ تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها)) قالت أسماء:
وكيف أتطهر بها؟ فقالَ:
((سبحان الله، تطهري بها)) . فقالت عائشة - كأنها تخفي
ذَلِكَ -: تتبعين بها أثر
الدم. وسألته عَن غسل الجنابة. فقالَ: ((تأخذ ماءً فتطهر
بهِ، فتحسن الطهور - أو تبلغ الطهور -، ثُمَّ تصب على
رأسها فتدلكه حتى تبلغ شئون رأسها، ثُمَّ تفيض عليهِ
الماء)) . فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار، لَم يكن
يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدِّين.
وفي رواية لَهُ - أيضاً -: قالَ: ((سبحان الله، تطهري
بها)) ، واستتر.
وخرجه مسلم - أيضاً - من طريق أبي الأحوص، عَن إبراهيم بنِ
مهاجر، وفي حديثه: قالَ: دخلت أسماء بنت شكل على رسول الله
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره، ولم يذكر فيهِ
غسل الجنابة.
وخرجه أبو داود. مِن طريق أبي الأحوص، ولفظه: ((تأخذ ماءها
وسدرتها فتوضأ، وتغسل رأسها وتدلكه)) - وذكر الحديث، وزاد
فيهِ: ((الوضوء)) .
ورواه أبو داود الطيالسي، عَن قيس بنِ الربيع، عَن إبراهيم
بنِ المهاجر، عَن
صفية، عَن عائشة، قالت: أتت فلانة بنت فلان الأنصارية،
فقالت: يا رسول الله، كيف الغسل مِن الجنابة، فقالَ:
((تبدأ إحداكن
(2/95)
فتوضأ، فتبدأ بشق رأسها الأيمن، ثُمَّ
الأيسر حتى تنقي شئون رأسها)) . ثُمَّ قالَ: ((أتدرون ما
شئون الرأس؟)) قالت: البشرة. قالَ: ((صدقت، ثُمَّ تفيض على
بقية جسدها)) .
قالت: يا رسول الله، فكيف الغسل مِن المحيض؟ قالَ: ((تأخذ
إحداكن سدرتها وماءها، فتطهر فتحسن الطهور، ثُمَّ تبدأ بشق
رأسها الأيمن، ثُمَّ الأيسر حتى تنقي شئون رأسها، ثُمَّ
تفيض على سائر جسدها، ثُمَّ تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها)) .
قالت: يا رسول الله، كيف أتطهر بها؟ فقلت: سبحان الله،
تتبعي بها آثار الدم.
وإبراهيم بن المهاجر، لَم يخرج لَهُ البخاري.
و ((الفرصة)) - بكسر الفاء، وسكون الراء، وبالصاد المهملة
-، وهي القطعة.
قالَ أبو عبيد: هي القطعة من الصوف أو القطن أو غيره،
مأخوذ مِن فرصت الشيء: أي قطعته.
و ((المسك)) : هوَ الطيب المعروف.
هَذا هوَ الصحيح الذِي عليهِ الجمهور، والمراد: أن هَذهِ
القطعة يكون فيها شيء مِن مسك، كَما في الرواية الثانية:
((فرصة ممسكة)) .
وزعم ابن قتيبة والخطابي أن الرواية: ((مسك)) بفتح الميم،
والمراد بهِ: الجلد الذِي عليهِ صوف، وأنه أمرها أن تدلك
بهِ مواضع الدم.
ولعل البخاري ذهب إلى مثل ذَلِكَ، ولذلك بوب عليهِ: ((دلك
المرأة نفسها إذا تطهرت مِن المحيض)) ، ويعضد ذَلِكَ:
أنَّهُ في ((كِتابِ الزينة
(2/96)
والترجل)) قالَ: ((باب: ما يذكر في المسك))
، ولم يذكر فيه إلا حديث: ((لخلوف فم الصائم أطيب عند الله
مِن ريح المسك)) . ولذلك - والله أعلم - لَم يخرج البخاري
هَذا الحديث في
((باب: الطيب للمرأة عند غسل الحيض)) .
والصحيح الذِي عليهِ جمهور الأئمة العلماء بالحديث والفقه:
أن غسل المحيض يستحب فيهِ استعمال المسك، بخلاف غسل
الجنابة، والنفاس كالحيض في ذلك، وقد نص على ذَلِكَ
الشَافِعي وأحمد، وهما أعلم بالسنة واللغة وبألفاظ الحديث
ورواياته مِن مثل ابن قتيبة والخطابي ومن حذا حذوهما ممن
يفسر اللفظ بمحتملات اللغة البعيدة.
ومعلوم أن ذكر المسك في غسل الجنابة لَم يرو في غير هَذا
الحديث، فعلم أنهم فسروا فيهِ بالطيب.
وزعم الخطابي: أن قولُهُ: ((خذي فرصة مِن مسك)) : يدل على
أن الفرصة نفسها هي المسك. قالَ: وهذا إنما يصح إذا كانت
مِن جلد، أمَّا لو كانت قطعة مِن صوف أو قطن لَم تكن مِن
مسك.
وهذا ليسَ بشيء؛ فإن المراد خذي نبذة يسيرة مِن مسك، سواء
كانت منفردة أو في شيء، كَما في الرواية الثانية: ((خذي
فرصة ممسكة)) .
قالَ الإمام أحمد في رواية حنبل: يستحب للمرأة إذا هي خرجت
مِن حيضها أن تمسك معَ القطنة شيئاً مِن المسك، ليقطع عنها
(2/97)
رائحة الدم وزفرته، تتبع بهِ مجاري
الدم.
ونقل عَنهُ - أيضاً - قالَ: يستحب للمرأة إذا طهرت مِن
الحيض أن تمس طيباً، وتمسكه معَ القطنة، ليقطع عنها رائحة
الدم وزفورته؛ لأن دم الحيض دم لَهُ رائحة.
وقال جعفر بن محمد: سألت أحمد عَن غسل الحائض، فذهب إلى
حديث إبراهيم بن المهاجر، عَن صفية بنت شيبة، وقال: تدلك
شئون رأسها.
وقال يعقوب بنِ بختان: سألت أحمد عَن النفساء والحائض، كم
مرة يغتسلان؟ قالَ: كَما تغسل الميتة. قالَ: وسألته عَن
الحائض متى توضأ؟ قالَ: إن شاءت توضأت إذا بدأت واغتسلت،
وإن شاءت اغتسلت ثُمَّ توضأت.
وظاهر هَذا: أنها مخيرة بين تقديم الوضوء وتأخيره؛ فإنه
لَم يرد في السنة تقديمه كَما في غسل الجنابة، وإنما ورد
في حديث أبي الأحوص، عَن إبراهيم ابن المهاجر: ((توضأ
وتغسل رأسها وتدلكه)) - بالواو، وهي لا تقتضي ترتيباً.
فتحصل مِن هَذا: أن غسل الحيض والنفاس يفارق غسل الجنابة
مِن وجوه:
أحدها: أن الوضوء في غسل الحيض لا فرق بين تقديمه وتأخيره،
وغسل الجنابة السنة تقديم الوضوء فيهِ على الغسل.
(2/98)
والثاني: أن غسل الحيض يستحب أن يكون بماء
وسدر، ويتأكد استعمال السدر فيهِ، بخلاف غسل الجنابة؛
لحديث إبراهيم بن المهاجر.
قالَ الميموني: قرأت على ابن حنبل: أيجزئ الحائض الغسل
بالماء؟ فأملى عليّ: إذا لم تجد إلاّ وحده اغتسلت به، قالَ
النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ماءك
وسدرتك)) ، وهو أكثر من غسل الجنابة. قلت: فإن كانت قد
اغتسلت بالماء، ثُمَّ وجدته؟ قالَ: أحب إلي أن تعود؛ لما
قالَ.
الثالث: أن غسل الحيض يستحب تكراره كغسل الميتة، بخلاف غسل
الجنابة، وهذا ظاهر كلام أحمد، ولا فرق في غسل الجنابة بين
المرأة والرجل، نص عليهِ أحمد في رواية مهنا.
والرابع: أن غسل الحيض يستحب أن يستعمل فيهِ شيء من الطيب،
وفي خرقة أو قطنة أو نحوهما، يتبع به مجاري الدم.
وقد علل أحمد ذَلِكَ بأنه يقطع زفورة الدم، وهذا هوَ
المأخذ الصحيح عندَ أصحاب الشافعي - أيضاً -.
وشذ الماوردي، فحكى في ذَلِكَ وجهين:
أحدهما: أن المقصود بالطيب تطييب المحل، ليكمل استمتاع
الزوج بإثارة الشهوة، وكمال اللذة.
والثاني: لكونه أسرع إلى علوق الولد.
قال: فإن فقدت المسك - وقلنا بالأول - أتت بما يقوم مقامه
في دفع الرائحة، وإن قلنا بالثاني فما يسرع إلى العلوق
كالقسط والأظفار ونحوهما.
قالَ: واختلف الأصحاب في وقت استعماله، فمن قالَ بالأول،
قالَ: بعد
الغسل، ومن قالَ بالثاني، فَقَبْله.
(2/99)
قالَ صاحب ((شرح المهذب)) : وهذا الوجه
الثاني ليس بشيء، وما يفرع عليهِ - أيضاً - ليس بشيء، وهو
خلاف ما عليهِ الجمهور، والصواب: أن المقصود به تطييب
المحل، وأنها تستعمله بعد الغسل.
ثُمَّ ذكر حديث عائشة، أن أسماء بنت شكل سألت النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن غسل المحيض، فقالَ:
((تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتظهر فتحسن الطهور، ثُمَّ
تصب على رأسها فتدلكه، ثُمَّ تصب عليها الماء، ثُمَّ تأخذ
فرصة ممسكة فتظهر بها)) .
خرجه مسلم.
قالَ: وقد نصوا على استحبابه للزوجة وغيرها، والبكر
والثيب. والله أعلم.
قالَ: واستعمال الطيب سنة متأكدة، يكره تركه بلا عذر.
انتهى.
وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((خذي
فرصة ممسكة فتطهري بها)) ، وفي رواية: ((توضئي
بها)) يدل على أن المراد بهِ التنظيف والتطييب والتطهير،
وكذلك سماه: تطهيراً، وتوضؤا، والمراد: الوضوء اللغوي،
الذي هوَ النظافة.
وقول عائشة: ((تتبعي بها مجاري الدم)) إشارة إلى إدخاله
الفرج.
واستحب بعض الشافعية استعمال الطيب في كل ما أصابه دم
الحيض مِن [الجسد]- أيضاً -؛ لأن المقصود قطع رائحة الدم
حيث كانَ.
ونص أحمد على أنَّهُ [لا يجب] غسل باطن الفرج مِن حيض، ولا
(2/100)
جنابة، ولا استنجاء.
قالَ جعفر بنِ محمد: قلت لأحمد: إذا اغتسلت مِن المحيض
تدخل يدها؟ قالَ: لا، إلا ما ظهر، [ولم] ير عليها أن تدخل
أُصبعها ولا يدها في فرجها، في غسل ولا وضوء.
ولأصحابنا وجه: بوجوب ذَلِكَ في الغسل والاستنجاء، ومنهم
مِن قالَ: إن كانت [ثيباً] وخرج البول بحدة ولم يسترسل لَم
يجب سوى الاستنجاء في موضع خروج
البول، وإن استرسل فدخل منهُ شيء الفرج وجب غسله.
ومذهب الشَافِعي: أن الثيب يجب [عليها] إيصال الماء إلى ما
يظهر في حال قعودها لقضاء الحاجة؛ لأنه صار حكم الظاهر، نص
على ذَلِكَ الشَافِعي، وشبهه بما بين الأصابع، وعليه جمهور
أصحابه، وما وراء ذَلِكَ على ذَلِكَ فَهوَ عندهم في حكم
الباطن على الصحيح.
ولهم وجه آخر: أنَّهُ يجب عليها إيصال الماء إلى داخل
فرجها، بناء على القول بنجاسته.
ووجه آخر: أنَّهُ يجب في غسل الحيض والنفاس؛ لإزالة
النجاسة، ولا يجب في الجنابة.
ومنهم مِن قالَ: لا يجب إيصاله إلى شيء مِن داخل الفرج
بالكلية، كَما لا يجب إيصاله إلى داخل الفم عندهم.
والخامس: أن غسل الحيض تنقض فيهِ شعرها إذا كانَ مضفوراً،
بخلاف غسل الجنابة عند أحمد، وهوَ قول طاوس والحسن.
وسيأتي ذكر ذَلِكَ مستوفي - إن شاء الله تعالى.
* * *
(2/101)
15 - باب
امتشاط المرأة عند غسلها مِن المحيض
خرج فيهِ:
(2/102)
316 - حديث: الزهري، عَن عروة، عَن عائشة،
قالت: أهللت معَ
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? [بعمرة]
في حجة الوداع، فكنت ممن تمتع ولم يسق الهدي. فزعمت أنها
حاضت ولم تطهر حتى دخلت ليلة عرفة، فقالت: يا رسول الله،
هَذهِ ليلة يوم عرفة، وإنما كنت تمتعت بعمرة؟ فقالَ لها
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((انقضي
رأسك وامتشطي وأمسكي عن عمرتك)) . ففعلت، فلما قضيت الحج
أمر عبد الرحمن ليلة الحصبة، فأعمرني مِن التنعيم مكان
عمرتي التي نسكت.
(2/102)
16 - باب
نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض
خرج فيهِ:
(2/103)
317 - حديث: هشام، عَن أبيه، عَن عائشة،
قالت: خرجنا موافين لهلال ذي الحجة - فذكرت الحديث.
وفيه:
وكنت أنا ممن أهل بعمرة، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض،
فشكوت إلى النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالَ: ((دعي عمرتك،
وانقضي رأسك، وامتشطي، وأهل بحج)) ففعلت - وذكرت بقية
الحديث.
[هَذا الحديث] قَد استنبط البخاري - رحمه الله - منهُ
حكمين، عقد لهما بابين:
أحدهما: امتشاط المرأة عند غسلها مِن المحيض.
والثاني: نقضها شعرها عند غسلها مِن المحيض.
(2/103)
وهذا الحديث لا دلالة فيهِ على واحد مِن
الأمرين؛ فإن غسل عائشة الذِي أمرها النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهِ لَم يكن مِن الحيض، بل كانت مِن
حائضاً، وحيضها حينئذ موجود، فإنه لو كانَ قَد انقطع حيضها
لطافت للعمرة، ولم تحتج إلى هَذا السؤال، ولكن أمرها أن
تغتسل في حال حيضها وتهل بالحج، فَهوَ غسل للإحرام في حال
الحيض، كَما أمر أسماء بت عميس لما نفست بذي الحليفة أن
تغتسل وتهل.
وقد ذكر ابن ماجه في ((كتابه)) : ((باب: الحائض كيف
تغتسل)) ، ثُمَّ قالَ: حدثنا أبو بكر بنِ أبي شيبة وعلي
بنِ محمد، قالا: ثنا وكيع، عَن هشام ابن عروة، عَن أبيه،
عَن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قالَ لها - وكانت حائضاً -: ((انقضي شعرك
واغتسلي)) .
قالَ علي في حديثه: ((انقضي رأسك)) .
وهذا - أيضاً - يوهم أنَّهُ قالَ لها ذَلِكَ في غسلها مِن
الحيض، وهذا مختصر مِن حديث عائشة الذِي خرجه البخاري.
وقد ذكر هَذا الحديث المختصر للإمام أحمد، عن وكيع،
فأنكره. قيل لَهُ: كأنه اختصره مِن حديث الحج؟ قالَ: ويحل
لَهُ أن يختصر؟ ! -: نقله
(2/104)
عَنهُ المروذي.
ونقل عَنهُ إسحاق بن هانئ، أنَّهُ قالَ: هَذا باطل.
قَالَ أبو بكر الخلال: إ نما أنكر أحمد مثل هذا الاختصار
الذي يخل بالمعنى، لا أصل اختصار الحديث 0قَالَ: وابن أبي
شيبة في مصنفاته يختصر مثل هذا الاختصار المخل بالمعنى -:
هذا معنى ما قاله الخلال.
وقد تبين برواية ابن ماجه أن الطنافسي رواه عن وكيع، كما
رواه ابن أبي شيبة عنه، ورواه –أيضا - إبراهيم بن مسلم
الخوارزمي في ((كتاب الطهور)) له عن وكيع –أيضا -، فلعل
وكيعا اختصره. والله أعلم.
وقد يحمل مراد البخاري – رحمه الله – على وجه صحيح، وهو أن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أمر عائشة
بنقض شعرها وامتشاطها عند الغسل للاحرام: لأن غَسَلَ
الإحرام لايتكرر، فلا يشق نقض الشعر فيه، وغسل الحيض
والنفا س يوجد فيه هذا المعنى، بخلاف غسل الجنابة، فإنه
يتكرر فيشق النقض فيه، فلذلك لم يؤمر فيه بنقض الشعر.
وقد تكلم بعض العلماء في لفظة: ((أمر النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عائشة بنقص رأسها وامتشاطها)) ،
وقالوا: هي وهم من هشام، وكذلك قالوا في روايته: أن
النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لها:
((دعي العمرة)) .
ولكن؛ قد: رواهما – أيضا -، الزهري، عن عروة.
ولهشام في هذا الحديث وهم آخر، وهو أنه قَالَ: ((ولم يكن
هدي ولا
(2/105)
صيام ولا صدقة)) ، وقد ثبت عن عائشة أن
النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذبح عن
نسائه البقر، فإنها إن كانت قد صارت قارنة فالقارن عليهِ
هدي، وإن كانت قد رفضت عمرتها لزمها دم لذلك، عندَ من يقول
به.
وفي ((صحيح مسلم)) عن جابر، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عائشة أن تغتسل وتهل
بالحج.
ولم يذكر نقض الشعر ولا تسريحه، فإن عائشة كانت محرمة
بعمرة كما رواه عروة عنها، وإن كانَ القاسم قد روى عنها
أنها كانت محرمة بحجة، إلا أن رواية عروة أصح، كذا قاله
الإمام أحمد وغيره.
وقد قيل: إنها أحرمت من الميقات بحجة، ثُمَّ فسخت ذَلكَ
إلى عمرة لما أمروا بالفسخ، ثُمَّ حاضت بعد ذَلكَ قبل دخول
مكة.
وفي هذا نظر؛ فإنه روي مايدل على أنها كانت أحرمت بعمرة من
الميقات، والحائض إذا كانت محرمة بعمرة، ولم تقدر على طواف
العمرة قبل يوم عرفة، وخشيت فوات إداك الحج فإنها تحرم
بالحج مع العمرة، وتبقى قارنة عندَ أكثر العلماء، كمالك
والشافعي، وأحمد، ويكفيها عندهم طوا ف واحد وسعي واحد لما
بعد التعريف للحج والعمرة.
وقد روى ذَلكَ جابر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، في قصة عائشة صريحا.
خرجه مسلم 0 وتأولوا قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لعائشة: ((دعي عمرتك)) على أنه أراد: اتركيها
(2/106)
بحالها، وأدخلي عليها إحرام الحج.
وقال أحمد: من رواه ((انقضي عمرتك)) فقد أخطأ، ورواه
بالمعنى الذي
فهمه.
وقال أبو حنيفة والكوفيون: ترفض العمرة، ثُمَّ تحرم بالحج،
ثُمَّ تقضي العمرة بعد الحج، وتأولوا حديث عائشة على
ذَلكَ.
وقالت طائفة: إنما أمرها أن تنقض رأسها وتمتشط؛ لأن
المعتمر إذا دخل الحرم حل لهُ كل شيء إلا النساء، كالحاج
إذا رمى الجمرة.
وقد روي هذا عن عائشة، ولعلها أخذته من روايتها هذه، وهو
قول عائشة بنت طلحة، وعطاء.
وقد أخذ الإمام أحمد بذلك في رواية الميموني عنه، وهي
رواية غريبة عنه.
ووهم الخطابي في هذا الحديث حيث قَالَ: أشبه الأمور: ماذهب
إليه أحمد بن حنبل: وهو أنه فسخ عليها عمرتها؛ لأن مذهبه
أن فسخ الحج عام غير خاص.
وهذا وهم على أحمد؛ فإن أحمد يرى جواز فسخ الحج إلى العمرة
قبل أن يقف بعرفة، وأما فسخ العمرة إلى الحج فلا يقول به
أحمد، وإنما يقوله الكوفيون في الحائض إذا كانت معتمرة
وخافت فوات الحج، وتأولوا حديث عائشة عليهِ.
والعجب ممن جوز فسخ العمرة إلى الحج بتأويل محتمل، ومنع من
فسخ الحج إلى العمرة، مع تواتر النصوص الصريحة الصحيحة
بذلك التي لا تقبل التأويل؛ بمجرد دعوى النسخ أو الاختصاص،
ولم يثبت حديث
(2/107)
واحد يدل على شيء من ذَلكَ، وسيأتي القول
في هذا مستوفى في موضعه من ((الحج)) - إن شاء الله تعالى.
فإن المقصود هنا: هو نقض الشعر وتسريحه عند الغسل من
الحيض، وممن أمر به في الحيض دون الجنابة: طاوس والحسن،
وهو قول وكيع وأحمد.
واختلف أصحابنا: هل ذَلكَ واجب، أو مستحب؟ على وجهين،
وظاهر كلام الخرقي وجوبه.
وقد ورد حديث صريح بالنقض في غَسَلَ الحيض دون الجنابة من
رواية سلمة بن صبيح، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس،
قَالَ: قَالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: ((إذا اغتسلت المرأة من حيضها نقضت شعرها، وغسلته بخطمي
وأشنان، وإذا اغتسلت من جنابة صبت رأسها الماء وعصرته)) .
خرجه الطبراني، وأبو عبد الله مجمد بن عبد الواحد المقدسي
في ((صحيحه)) المسمى ((بالمختارة)) .
وخرجه الدارقطني في ((الأفراد))
(2/108)
وعنده: ((مسلم بن صبيح)) ، وقال: تفرد به
عن حماد.
وكذا ذكره أبو بكر الخطيب، وقال: هو مسلم بن صبيح، بصري
يكنى أبا عثمان، وكذا ذكره ابن ماكولا وغيره، ومع هذا فليس
بالمشهور.
وأما مانقله مهنا عن أحمد، أن المرأة لاتنقض شعرها من
الجنابة، بل تفيض عليه الماء؛ لحديث أم سلمة، عن النَّبيّ
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والحائض تنقضه.
قَالَ مهنا: قلت لهُ: كيف تنقضه من الحيضة ولا تنقضه من
الجنابة؟ فقال: حديث أسماء، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((تنقضه)) .
قلت: من أسماء؟ قَالَ: أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما
-.
فهذا لعله وهم من مهنا، أو ممن روى عنه، ولا يعرف لأسماء
بنت أبي بكر في هذا الباب حديث بالكلية، إنما حديثها في
غَسَلَ دم الحيض من الثوب، وقد تقدم.
ولكن في حديث عائشة أن أسماء سألت النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن غَسَلَ الحيض، وليس فيه أنه أمرها
بالنقص، بل أمرها بدلكه دلكا شديدا حتى يبلغ شئون رأسها،
ولم يأمرها بنقضه.
وفي الحديث: أنها سألته عن غَسَلَ الجنابة، فأمرها بمثل
ذَلكَ، غير أنه لم يقل: ((دلكا شديدا)) .
وقد خرجه مسلم، كما تقدم.
وأسماء هذه، وقع في ((صحيح
(2/109)
مسلم)) أنها: ((بنت شكل)) ، وذكر أبو بكر
الخطيب أنها أسماء بنت يزيد بن السكن، وخرج الحديث من
رواية يوسف القاضي، من طريق شعبة، عن إبراهيم بن المهاجر
بالإسناد الذي خرجه مسلم، وفيه: أن أسماء بنت يزيد سألت
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن غَسَلَ
الحيض – فذكره.
وأكثر العلماء على التسوية بين غَسَلَ الجنابة والحيض،
وأنه لا ينقض الشعر في واحد منهما.
وفي ((صحيح مسلم)) من حديث أم سلمة، قالت: قلت: يارسول
الله، إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه للحيضة والجنابة؟
قَالَ: ((لا)) .
وهذه اللفظة - أعني: لفظة ((الحيضة)) - تفرد بها عبد
الرزاق، عن الثوري، وكأنها غير محفوظة، فقد رواه غير واحد،
عن الثوري، فلم يذكروها.
وقد رويت – أيضا – هذه اللفظة من حديث سالم الخياط، عن
الحسن، عن أم سلمة.
وسالم ضعيف، والحسن لم يسمع من أم سلمة.
وروى أبو بكر الحنفي، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر -
مرفوعا:
((لايضر المرأة الحائض والجنب أن لا تنقض شعرها إذا أصاب
الماء شئون رأسها)) .
تفرد به: الحنفي، ورفعه منكر.
وقد روي عن أبي الزبير، عن جابر موقوفا، وهو أصح.
(2/110)
وروى عبيد الله بن عمر، عن نافع، قَالَ: كن
نساء ابن عمر يغتسلن من الحيض والجنابة، فما ينقضن شعورهن،
ولكن يبلغن بالماء أصول الشعر.
هذا كله إذا وصل الماء إلى غضون الشعر المضفور، فإن لم يصل
بدونه وجب نقضه عند الأكثرين، وهو قول مالك والشافعي،
والمشهور عندَ أصحابنا ورواية عن أبي حنيفة، وهو قول أبي
خيثمة، وأبي بكر بن أبي شيبة، وسليمان بن داود الهاشمي،
ويحيى بن يحيى، والجوزجاني وغيرهم من فقهاء الحديث،
واستدلوا بالأحاديث الواردة في الأمر بحل الشعر، وقد تكلم
في أسانيدها.
وقالت طائفة: لا يجب ذَلكَ، وحكي عن مالك، وهو قول طائفة
من
أصحابنا، منهم: صاحب ((المغني)) ، وذكر أنه ظاهر كلام
الخرقي، وأن الشعر حكمه حكم المنفصل عن الجسد، لا حكم
المتصل به.
ولأصحابنا وجه: أنه يفرق بين غَسَلَ الحيض والجنابة، فيجب
غَسَلَ الشعر في غَسَلَ الحيض خاصة.
والصحيح من مذهب الحنفية: أن الشعر إذا كان مضفورا لا يلزم
المرأة نقضه في جنابة ولاحيض؛ لمشقة نقضه، بخلاف الرجل؛
فإنه يلزمه نقضه، وإن كان محلولا وجب غسله وإيصال الماء
إلى بواطنه، كشعر اللحية.
(2/111)
وخرج الطبراني من رواية عمر بن هارون، عن
جعفر بن محمد، عن أبيه، عن سالم خادم النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((إن أزواج رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كن يجعلن رءوسهن أربع
قرون، فإن اغتسلن جمعنهن على أوساط رءوسهن)) .
عمر بن هارون، ضعيف.
وفي أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة
بالغسل للإحرام وهي حائض دليل على أن الاغسال المستحبة
تفعل مع الحيض؛ كأغسال الحج المستحبة، ويدخل ذَلكَ في قوله
لها:
((اصنعي ما يصنع الحاج)) .
ولو كان على الحائض غَسَلَ جنابة، إما قبل الحيض أو في حال
الحيض، فهل يستحب لها الاغتسال في حال حيضها للجنابة؟ فيهِ
روايتان عن أحمد.
واختلف السلف في ذَلكَ:
فقال النخعي وغيره: تغتسل.
وقال عطاء: لاتغتسل؛ الحيض أكبر.
قَالَ أحمد: ثُمَّ رجع عن ذَلكَ، وقال: تغتسل.
وأما الوضوء فلا يشرع للحائض في حال حيضها ما لم ينقطع
دمها، فتصير كالجنب، ونص أحمد على أنها لو توضأت وهي حائض
يجز لها الجلوس في المسجد؛ بخلاف الجنب، وفيه وجه: يجوز
إذا أمنت تلويثه.
ونص الشافعي على
(2/112)
أنه لايشرع لها الوضوء عند النوم والأكل،
وهو قول أصحابنا، واختلف أصحاب مالك في ذَلكَ.
وأما وضوؤها عند كل صلاة، وجلوسها قدر الصَّلاة للذكر،
ففيه خلاف، نذكره في موضع آخر – إن شاء الله تعالى.
(2/113)
17 - باب
مخلقة وغير مخلقة
(2/114)
318 –حدثنا مسدد: ثنا حماد، عن عبيد الله
بن أبي بكر، عن أنس بن مالك، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((إن الله - عز وجل - وكل
بالرحم ملكا، يقول: يارب نطفة، يارب
علقة، يارب مضغة، فإذا أراد أن يقضي الله خلقه قَالَ: أذكر
أم أنثى؟ أشقي أم
سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب في بطن أمه)) .
اختلف السلف في تأويل قول الله - عز وجل -: {ثُمَّ مِنْ
مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج:5] :
فقال مجاهد: هي المضغة التي تسقطها المرأة؛ منها ما هوَ
مخلق فيهِ تصوير وتخطيط، ومنها ماليس بمخلق ولا تصوير
فيهِ، أرى الله تعالى ذَلكَ عباده ليبين لهم أصل ما خلقوا
منه، والذي يقره في الأرحام هوَ الذي يتم خلقه ويولد.
وقالت طائفة: المخلقة هي التي يتم خلقها، وغير مخلقة هي
التي تسقط قبل أن تكون مضغة.
(2/114)
روى الشعبي، عن علقمة، عن ابن مسعود،
قَالَ: النطفة إذا استقرت في الرحم حملها ملك بكفه، وقال:
أي رب، مخلقة أم غير مخلقة؟ فإن قيل: غير مخلقة لم تكن
نسمة، وقذفتها الأرحام، وإن قيل: مخلقة، قَالَ: أي رب،
أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ ما الأجل؟ ما الأثر؟ وبأي أرض
تموت؟ قَالَ: فيقال للنطفة: من ربك؟ فتقول: الله، فيقال:
من رازقك؟ فتقول: الله عز وجل: اذهب إلى الكتاب، فإنك ستجد
فيه قصة هذه النطفة.
قَالَ: فتخلق، فتعيش في أجلها، وتأكل رزقها، وتطأ في
أثرها، حتى إذا جاء أجلها ماتت، فدفنت في ذَلكَ، ثُمَّ تلا
الشعبي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ
مِنَ الْبَعْثِ} إلى قوله: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5] ، فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق
الرابع، فكانت نسمة فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام
دما، وإن كانت مخلقة نكست نسمة.
خرجه ابن أبي حاتم وغيره، وآخره هو من قول الشعبي.
وقد يستأنس بهذا من يقول: إن الحامل لا تحيض ولا ترى دم
الحيض في حال حملها، وأنها لا ترى إلا دم النفاس خاصة، وفي
ذَلكَ نظر.
وقد قيل: إن هذا هو مراد البخاري بتبويبه هذا.
(2/115)
وقد روي عن الحسن في قول الله - عز وجل -:
{إِنَّا خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ
أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] ، أن النطفة مشجت – أي: خلطت بدم
الحيض -، فإذا حملت المرأة ارتفع حيضها.
وحديث أنس الذي خرجه البخاري يدل على أنه لا يخلق إلا بعد
أن يكون
مضغة، وليس فيه ذكر مدة ذَلكَ، وذكر المدة في حديث ابن
مسعود – وقد خرجه البخاري في مواضع أخر -، قَالَ: حدثنا
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – وهو
الصادق المصدوق -: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين
يوما، ثُمَّ يكون علقة مثل ذَلكَ، ثُمَّ يكون مضغة مثل
ذَلكَ، ثُمَّ يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات: بكتب
رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ثُمَّ ينفخ فيه الروح))
- وذكر الحديث.
وقد روي هذا المعنى عن ابن مسعود موقوفا عليه، وعن ابن
عباس، وغيرهما من الصحابة.
وقد أخذ كثير من العلماء بظاهر حديث ابن مسعود، وقالوا:
أقل ما يتبين فيه خلق الولد أحد وثمانون يوما؛ لأنه لا
يكون مضغة إلا في الأربعين الثالثة، ولا يتخلق قبل أن يكون
مضغة.
قَالَ الإمام أحمد: ثنا هشيم: أبنا داود، عن الشعبي،
قَالَ: إذا نكس السقط في الخلق الرابع وكان مخلقا عتقت به
الأمة، وانقضت به العدة.
قَالَ أحمد:
(2/116)
إذا تبين الخلق فهو نفاس، وتعتق به إذا
تبين.
قَالَ: ولا يصلى على السقط إلا بعد أربعة أشهر 0 قيل له:
فإن كان أقل من أربعة؟ قَالَ: لا، هوَ في الأربعة يتبين
خلقه 0وقال: العلقة: هي دم لا يتبين فيها الخلق.
وقال أصحابنا أصحاب الشافعي - بناء على أن الخلق لا يكون
إلا في المضغة -: أقل ما يتبين فيهِ خلق الولد أحد وثمانون
يوما، في أول الأربعين الثالثة التي يكون فيها مضغة، فإن
أسقطت مضغة مخلقة انقضت بها العدة وعتقت بها أم الولد، ولو
كانَ التخليق خفيا لا يشهد به إلا من يعرفه من النساء
فكذلك.
فإن كانت مضغة لا تخليق فيها ففي انقضاء العدة وعتق الأمة
به روايتان عن
أحمد.
وهل يعتبر للمضغة المخلقة أن يكون وضعها بعد تمام أربعة
أشهر؟ فيهِ قولان، أشهرهما: لا يعتبر ذَلِكَ، وهو قول
جمهور العلماء، وهو المشهور عن أحمد، حتَّى قالَ: إذا تبين
خلقه ليس فيهِ اختلاف، أنها تعتق بذلك.
وروي عنه ما يدل على اعتبار مضي الأربعة أشهر، وعنه رواية
أخرى في العلقة إذا تبين أنها ولد أن الأمة تعتق بها، ومن
أصحابنا من طرد ذَلكَ في انقضاء العدة بها –
(2/117)
أيضا -، وهذه الرواية قول النخعي، وحكي
قولاً للشافعي.
وهذا يدل على أنه يمكن التخليق في العلقة، وقد روي ما يدل
عليه، والأطباء تعترف بذلك.
فأما الصَّلاة على السقط: فالمشهور عن أحمد أنه لا يصلى
عليه حتّى ينفخ فيه الروح، ليكون ميتا بمفارقة الروح له،
وذلك بعد مضي أربعة أشهر، وهو قول ابن المسيب، وأحد أقوال
الشافعي، وإسحاق.
وإذا ألقت ما يتبين فيه خلق الإنسان فهي نفساء، ويلزمها
الغسل، فإن لم يتبين فيه الإنسان وكان مضغة فلا نفاس لها،
ولا غَسَلَ عليها في المشهور عن أحمد، وعنه رواية: أنها
نفساء -: نقلها عنه الحسن بن ثواب، ولم يشترط شيئا؛ لا
المضغة مظنة تبين التخلق والتصوير غالبا. وإن ألقت علقة
فلا نفاس لها فيهِ، ولأصحابنا وجه ضعيف: أنها نفساء، بناء
على القول بانقضاء العدة به.
ومذهب الشافعية والحنفية: أن الاعتبار في النفاس بما تنقضي
به العدة، وتصير به الأمة أم ولد، فحيث وجد ذَلكَ فالنفاس
موجود، وإلا فلا، والاعتبار عندهم في ذَلكَ كله بما يتبين
فيه خلق الإنسان.
وقال إسحاق: إذا استتم الخلق فهو نفاس -: نقله عنه حرب.
(2/118)
18 - باب
كيف تهل الحائض بالحج والعمرة؟
خرج فيه:
(2/119)
319 – حديث: ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة،
قالت: خرجنا مع النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في حجة الوداع.
فذكرت الحديث، إلى أن قالت:
فحضت، فلم أزل حائضا حتّى كان يوم عرفة، ولم أهلل إلاّ
بعمرة، فأمرني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن أنقض رأسي، وأمتشط، وأهل بحج، وأترك
العمرة، ففعلت ذَلكَ حتّى قضيت حجي، فبعث معي عبد الرحمن
بن أبي بكر، فأمرني أن أعتمر مكان عمرتي من التنعيم.
فيه: دليل على أن الحائض إذا أرادت الإحرام فإنها تغتسل
له، ثُمَّ تهل بما تريد أن تحرم به من حج أو عمرة.
والإهلال: التلبية.
وخرج مسلم من حديث جابر، النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: قَالَ لعائشة لما حاضت: ((اغتسلي، ثُمَّ أهلي
بالحج)) .
ومن حديث جابر - أيضا -، قَالَ: خرجنا مع النَّبيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتّى أتينا ذا الحليفة،
فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف أصنع؟
(2/119)
قَالَ: ((اغتسلي واستثفري بثوب، وأحرمي)) .
ومن حديث عائشة، قالت: نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي
بكر بالشجرة، فأمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أبا بكر [يأمرها] أن تغتسل وتهل.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من رواية خصيف، عن
عكرمة ومجاهد وعطاء، عن ابن عباس – يرفع الحديث إلى
النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن
النفساء والحائض تغتسل وتحرم، فتقضي المناسك كلها، غير أن
لا تطوف بالبيت حتّى تطهر)) .
وقال الترمذي: حديث حسن.
وهذا قول جماعة أهل العلم، لا يعلم بينهم اختلاف فيه: أن
الحائض يجوز أن تحرم بالحج والعمرة، وتفعل مايفعله الطاهر،
سوى الطواف بالبيت، كما سبق.
ولكن؛ منهم من كره لها أن تبتدئ الإحرام من غير حاجة إليه،
فكره الضحاك وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري: أن تحرم في
حال دمها قبل الميقات؛ لأنه لا حاجة لها إلى ذَلكَ، فإذا
وصلت إلى الميقات، ولم تطهر فإحرامها حينئذ ضرورة.
وكره عطاء لمن كانت بمكة وهي حائض: أن تخرج إلى الميقات،
فتهل بعمرة، وقال: لا تخرج حتّى تطهر.
وهو محمول على المقيمة بمكة، التي يمكنها تأخير الإحرام
إلى حال طهرها.
(2/120)
19 - باب
إقبال المحيض وإدباره
وكن نساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف، فيه
الصفرة، فتقول: لا تعجلن حتّى ترين القصة البيضاء - تريد
بذلك: الطهر من الحيضة.
وبلغ ابنة زيد بن ثابت أن نساء يدعون بالمصابيح من جوف
الليل، ينظرن إلى الطهر، فقالت: ما كان النساء يصنعن هذا،
وعابت عليهن.
هذان الأثران، خرجهما مالك في ((المؤطا)) ، فروى عن علقمة
بن أبي
علقمة، عن أمه مولاة عائشة، أنها قالت: كان النساء يبعثن
إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف، فيه الصفرة من دم الحيضة،
يسألنها عن الصَّلاة، فتقول: لا تعجلن حتّى ترين القصة
البيضاء - تريد بذلك: الطهر من الحيضة.
وروى - أيضاً - عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمته، عن ابنة
زيد بن ثابت، أنه بلغها أن نساءكن يدعون بالمصابيح من جوف
الليل، ينظرن
(2/121)
إلى الطهر، فكانت تعيب ذَلكَ عليهن، وتقول:
ما كان النساء يصنعن هذا.
وإنما كان نساء الصدر الأول يصنعن هذا لشدة اهتمامهن
بالصلاة، وأمور الدين - رضي الله عنهن -.
قَالَ ابن عبد البر: إنما أنكرت بنت زيد بن ثابت على
النساء افتقاد أحوالهن في غير وقت الصَّلاة وما قاربها؛
لأن جوف الليل ليس بوقت صلاة، وإنما على النساء افتقاد
أحوالهن للصلاة، فإن كن قد طهرن تأهبن للغسل، لما عليهن من
الصَّلاة. انتهى.
وفيما قاله نظر، فإن جوف الليل وقت لصلاة العشاء، فإذا
طهرت فيه الحائض لزمها صلاة العشاء وصلاة المغرب – أيضاً –
عند كثير من العلماء.
وإنما أنكرت بنت زيد – والله أعلم – النظر في لون الدم،
وأن مدة العادة تحكم بأن جميع ما يرى فيها دم حيض؛ وإن
اختلفت ألوانه.
وهذا المعنى أقرب إلى إدخال البخاري له في هذا الباب، وإلى
إدخال مالك له في ((الموطإ)) في ((باب: طهر الحيض)) ؛
وسياقهما له بعد قول عائشة الذي صدر به البخاري هذا الباب.
و ((الدرجة)) : قد رويت بضم الدال المشددة وسكون الراء،
فتكون تأنيث
((درج)) ، ورويت بكسر الدال وفتح الراء، فتكون جمع ((درج))
كما تجمع
((خرج وترس)) على ((خرجة وترسة)) .
((الدرج)) : المراد به هنا: خرق تلف وفيها قطن، وهو
الكرسف، فتدخله المرأة الحائض في فرجها؛ لتنظر ما يخرج على
القطن، فإذا خرج عليه دم أحمر أو أسود علمت المرأة أن دم
حيضها باق، وإن خرج عليه صفرة فقد أفتت عائشة – رضى الله
عنها – بأنه حيض – أيضاً -، وأن الحائض لا ينقطع حيضها
حتّى ترى القصة البيضاء.
و ((القصة)) –
(2/122)
بفتح القاف -: أصلها القطعة من الجص
الأبيض، وأرادت عائشة بذلك أن القطنة تخرج بيضاء، ليس فيها
شيء من الصفرة، ولا الكدرة، فيكون ذَلكَ علامة نقائها
وطهرها.
وقالت طائفة: بل القصة البيضاء عبارة عن ماء أبيض يخرج عقب
الدم من النساء في آخر الحيض، فلا تطهرن بدونه.
وقيل: إنه يشبه الخيط الأبيض، وهذا قول مالك وغيره.
وروى الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن ميسرة، عن عبد
الرحمن بن
ذؤيب، عن عائشة، قالت: الطهر أن ترى المرأة بعد الدم ماء
أبيض قطعا.
خرجه حرب الكرماني.
وحكى الخطابي، عن ابن وهب، أنه قَالَ في تفسير القصة
البيضاء: رأيت القطن الأبيض، كأنه هو.
وعن ابن أبي سلمة، قَالَ: إذا كان ذَلكَ نظرت المرأة إلى
مثل ريقها في اللون، فتطهر بذلك، فيما بلغنا.
وعن مالك، قَالَ: سألت النساء عن القصة البيضاء، فإذا ذاك
أمر معروف عند النساء، يرينه عند الطهر.
وهذا المحكي عن مالك يوافق القول الثاني الذي ذكرناه، وأن
القصة البيضاء عبارة عن شيء أبيض يخرج في آخر دم الحيض 0
وقال ابن عبد البر: اختلف أصحاب مالك عنه في علامة الطهر،
ففي ((المدونة)) : قَالَ مالك: إذا كانت المرأة ممن ترى
القصة البيضاء فلا تطهر حتّى تراها، وإن كانت ممن لاتراها
فطهرها الجفوف، وذلك أن
(2/123)
تدخل الخرقة فتخرجها جافة، وبه قَالَ عيسى
بن دينار، قَالَ: القصة البيضاء أبلغ في براءة الرحم من
الجفوف.
وفي ((المجموعة)) : قَالَ مالك: إذا رأت الجفوف وهي ممن
ترى القصة البيضاء فلا تصلي حتّى تراها، إلا أن يطول ذَلكَ
بها.
وقال ابن حبيب: تطهر بالجفوف، وإن كانت ممن ترى القصة
البيضاء.
قَالَ ابن حبيب: والجفوف أبرأ للرحم من القصة البيضاء.
قَالَ: فمن كان طهرها القصة البيضاء ورأت الجفوف فقد طهرت.
قَالَ: ولا تطهر التي طهرها الجفوف برؤيتها القصة البيضاء
حتّى ترى الجفوف.
قَالَ: وذلك أن أول الحيض دم، ثُمَّ صفرة، ثُمَّ ترية،
ثُمَّ كدرة، ثُمَّ يكون ريقاً كالفضة، ثُمَّ ينقطع، فإذا
انقطع قبل هذه المنازل فقد برئت الرحم من الحيض. قَالَ:
والجفوف أبرأ وأوعب، وليس بعد الجفوف انتظار. انتهى ما
ذكره ابن عبد البر –
رحمه الله.
وفي ((تهذيب المدونة)) : تغتسل إن رأت القصة البيضاء، فإن
كانت ممن لا تراها فحين ترى الجفوف.
قَالَ ابن القاسم: والجفوف أن
(2/124)
تدخل الخرقة، فتخرجها جافة 0 قَالَ أبو
عبيد: الترية: الشيء الخفي اليسير، وهو أقل من الصفرة
والكدرة، ولا تكون الترية إلا بعد اغتسال، فأما ما كان في
أيام الحيض فهو حيض وليس بترية. انتهى.
واختلف قول الإمام أحمد في تفسير القصة البيضاء:
فنقل الأكثرون عنه: أنه شيء أبيض يتبع الحيضة، ليس بصفرة
ولا كدرة، فهو علامة الطهر، وحكاه أحمد عن الشافعي.
ونقل حنبل، عن أحمد: أن القصة البيضاء هو الطهر وانقطاع
الدم، وكذلك فسر سفيان الثوري القصة البيضاء بالطهر من
الحيض.
وأرسلت امرأة إلي عمرة بنت عبد الرحمن بدرجٍ فيهِ كرسفة
قطن، فيها كالصفرة، تسألها: هل ترى إذا لَم تر المرأة مِن
الحيضة إلا هَذا أن قَد طهرت؟ فقالت: لا، حتى ترى البياض
خالصاً.
وروى الأثرم بإسناده، عَن ابن الزبير، أنَّهُ قالَ على
المنبر: يا معشر النساء، إذا رأت إحداكن القصة البيضاء
فَهوَ الطهر.
وقال مكحول: لا تغتسل المرأة مِن الحيض إذا طهرت حتى ترى
طهراً أبيض.
وقد حكى أبو عبيد القولين في تفسير القصة البيضاء.
ودل قول عائشة - رضي الله عنها - هَذا على أن الصفرة
والكدرة في
(2/125)
أيام الحيض حيض، وأن مِن لها أيام معتادة
تحيض فيها فرأت فيها صفرة أو كدرة، فإن ذَلِكَ يكون حيضاً
معتبراً.
وهذا قول جمهور العلماء، حتى إن مِنهُم مِن نقله إجماعاً،
مِنهُم: عبد الرحمن بنِ مهدي وإسحاق بنِ راهويه، ومرةً خص
إسحاق حكاية الإجماع بالصفرة دونَ الكدرة.
ولكن ذهب طائفة قليلة، مِنهُم: الأوزاعي وأبو ثور وداود
وابن المنذر وبعض الشافعية إلى أنه لا يكون ذَلِكَ حيضاً
حتى يتقدمه في مدة العادة دم.
واشترط بعض الشافعية أن يكون الدم المتقدم يبلغ أقل الحيض.
ومنهم مِن اشترط أن يلحقه دم - أيضاً.
ومنهم مِن اشترط أن يلحقه دم يبلغ أقل الحيض.
وقال أبو يوسف: الصفرة حيض، والكدرة ليسَ حيضاً، إلا أن
يتقدمها دم.
وحكي عَن داود أن الصفرة والكدرة لا تكون حيضاً بكل حال.
فأما ما زاد على أيام العادة، واتصل بها، وكان صفرة أو
كدرة، فهل يكون حيضاً، أم لا؟ فيهِ قولان:
أحدهما: أنَّهُ حيض، وَهوَ أشهر الروايتين عَن مالك،
والمشهور عَن الشَافِعي
- أيضاً -، وعليه أكثر أصحابه، وقول الحكم وأبي حنيفة
وإسحاق.
والثاني: أنه ليسَ بحيض، وَهوَ رواية عَن مالك،
(2/126)
وقول الثوري والإصطخري وغيره مِن الشافعية.
وأما الإمام أحمد، فإنه يرى أن الزائد على العادة لا يلتفت
إليه أول مرة حتى يتكرر مرتين أو ثلاثاً على اختلاف عَنهُ،
وقد سبق ذكر ذَلِكَ.
فإن زاد على العادة بصفرة أو كدرة وتكرر ثلاثاً، فهل يكون
حيضاً، أم لا؟ فيهِ عَنهُ روايتان.
وقد روي عَن عائشة، أنها لا تلتفت إلى الزائد على العادة
مِن الصفرة والكدرة.
خرجه حرب والبيهقي مِن رواية سليمان بنِ موسى، عَن عطاء،
عَن عائشة، قالت: إذا رأت المرأة الدم فلتمسك عَن الصلاة
حتى تراه أبيض كالفضة؛ فإذا رأت ذَلِكَ فلتغتسل ولتصل؛
فإذا رأت بعد ذَلِكَ صفرة أو كدرة فلتتوضأ ولتصل، فإذا رأت
دماً أحمر فلتغتسل ولتصل.
وروي عَن أسماء بنت أبي بكر ما يشعر بخلاف ذَلِكَ، فروى
البيهقي وغيره مِن رواية ابن إسحاق، عَن فاطمة بنت المنذر،
عَن أسماء، قالت: كنا في حجرها معَ بنات أخيها، فكانت
إحدانا تطهر، ثُمَّ تصلي، ثُمَّ تنتكس بالصفرة اليسيرة،
فنسألها، فتقول: اعتزلن الصلاة ما رأيتن ذَلِكَ، حتى ترين
البياض خالصاً.
وقد حمله بعض أصحابنا على أن الصفرة أو الكدرة إذا رؤيت
بعد
(2/127)
الطهر وانقطاع الدم فإنها لا تكون حيضاً
ولو تكررت، على الصحيح عندهم، بخلاف ما إذا رأت ذَلِكَ
متصلاً بالدم وتكرر.
فهذا كله في حق المعتادة.
فأما المبتدأة، فإذا رأت في زمن يصلح للحيض صفرة أو كدرة،
فقالت طائفة مِن أصحابنا كالقاضي أبي يعلى ومن تابعه،
وأكثر أصحاب الشَافِعي: إنه يكون حيضاً؛ لأن زمن الدم
للمبتدأة كزمن العادة للمعتادة.
وقالت طائفة مِن أصحابنا: لا يكون حيضاً، وقالوا: إنه ظاهر
كلام أحمد، وَهوَ قول طائفة مِن الشافعية - أيضاً -، وحكاه
الخطابي عَن عائشة وعطاء وأكثر
الفقهاء؛ لأنه اجتمع فيهِ فَقد العادة ولون الدم المعتاد،
فقويت جهة فساده، وعلى هَذا فينبغي أنَّهُ إن تكرر ذَلِكَ
ثلاثاً أن يكون حيضاً، إن قلنا: إن المتكرر بعد العادة
حيض، وقد يفرق بينهما بأن المتكرر بعد العادة قَد سبقه دم
بخلاف هَذا.
وقد ذهب طائفة مِن أصحابنا، مِنهُم: ابن حامد وابن عقيل
إلى أن المبتدأة إذا رأت أول مرةٍ دماً أحمر فليس بدم حيض
حتى يكون أسود، وَهوَ قول بعض الشافعية - أيضاً -؛ للحديث
المروي عَن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أنَّهُ قالَ - في دم الحيض -: ((إنه أسود
يعرف)) .
وهذا ينتقض عليهم بالمعتادة؛ فإنها إذا كانت عادتها أسود
ثُمَّ رأت في مدة العادة دماً أحمر فإنه حيض بغير خلاف.
(2/128)
ثُمَّ خرج البخاري في هَذا الباب:
(2/129)
320 - مِن حديث: سفيان - هوَ: ابن عيينة -،
عَن هشام، عَن أبيه، عَن عائشة، أن فاطمة بنت أبي حبيش
كانت تستحاض، فسألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فقالَ:
((ذَلِكَ عرق، وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي
الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي)) .
وقد سبق هَذا الحديث، وذكرنا اختلاف العلماء في معناه،
وأنه هل المراد بإقبال الحيضة وإدبارها: إقبال الدم الأسود
وإدباره، أم المراد: إقبال وقت عادتها وإدبارها؟ وأن أكثر
الأئمة حملوا الحديث على الأول، وَهوَ اعتبار التمييز في
الدم.
والمميزة ترجع إلى ما تراه مِن أغلظ الدماء وأفحشها لوناً،
فتجلس مدة الدم الأسود دونَ الأحمر، والأحمر دونَ الأصفر.
ولا يعتبر للتمييز تكرر على أصح الوجهين لأصحابنا، لكن
يشترط عندهم أن لا ينقص عَن أقل الحيض ولا يتجاوز أكثره،
وأن يكون بين الدمين أقل مدة الطهر، وَهوَ قول الشافعية -
أيضاً.
وحكي عَن أحمد رواية أخرى: أنه لا يعتبر أن لا يجاوز أكثر
الحيض، فعلى هَذهِ الرواية تجلس منهُ قدر الأكثر خاصةً.
وأما على تفسير إقبال الحيضة وإدبارها بإقبال العادة
وإدبارها، فتجلس ما تراه مِن الدم في أيام عادتها خاصة،
على أي صفة كانَ، ولا تزيد على ذَلِكَ، فإذا انقضت مدة
عادتها فهي طاهر، تغتسل وتصلي.
(2/129)
20 - باب
لا تقضي الحائضُ الصلاةَ
وقال جابر بنِ عبد الله وأبو سعيد، عَن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((تدع الصلاة)) .
حديث أبي سعيد المشار إليه، قَد خرجه بتمامه في ((باب: ترك
الحائض
الصوم)) ، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((أليس إذا حاضت لَم تصل ولم تصم؟)) قلن:
بلى. قالَ: ((فذلك مِن نقصان دينها)) [.. .. .. .. .. ..
..] .
وحديث جابر المشار إليه [.. .. .. .. .. ..] .
وقد سبق حديث عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قالَ للمستحاضة: ((إذا أقبلت الحيضة فدعي
الصلاة)) .
وقد أجمع العلماء على أن الحائض لا يجوز لها الصلاة في حال
حيضها، فرضاً ولا نفلاً.
وقد استحب لها طائفة مِن السلف أن تتوضأ في وقت كل صلاة
مفروضة، وتستقبل القبلة، وتذكر الله - عز وجل - بمقدار تلك
الصلاة، مِنهُم: الحسن وعطاء وأبو جعفر محمد بنِ علي،
وَهوَ قول إسحاق.
وروي عَن عقبة بنِ عامر، أنه كانَ يأمر الحائض بذلك، وأن
تجلس بفناء مسجدها.
خرجه الجوزجاني.
(2/130)
وقال مكحول: كانَ ذَلِكَ مِن هدي نساء
المسلمين في أيام حيضهن.
وأنكر ذَلِكَ أكثر العلماء:
وقال أبو قلابة: قَد سألنا عَن هَذا فما وجدنا لَهُ أصلاٍ.
خرجه حرب الكرماني.
وقال سعيد بن عبد العزيز: ما نعرف هَذا، ولكننا نكرهه.
قالَ ابن عبد البر: على هَذا القول جماعة الفقهاء وعامة
العلماء في الأمصار.
وممن قالَ: ليسَ ذَلِكَ على الحائض: الأوزاعي، والثوري،
وأبو حنيفة، ومالك، وكذلك قالَ أحمد، قالَ: ليسَ عليها
ذَلِكَ، ولا بأس أن تسبح وتهلل وتكبر.
وبه قالَ أبو خيثمة، وسليمان بنِ داود الهاشمي، وأبو ثور،
وأصحاب الشَافِعي، وزادوا: أنه يحرم عليها الوضوء إذا قصدت
بهِ العبادة ورفع الحدث، وإنما يجوز لها أن تغتسل أغسال
الحج؛ لأنه لا يراد بها رفع الحدث، بل النظافة.
وقد روى يحيى بنِ صاعد: ثنا عبد الجبار بنِ العلاء: ثنا
أيوب بنِ سويد الرملي: ثنا عتبة بنِ أبي حكيم، عَن أبي
سفيان طلحة بنِ نافع، حدثني عبد الله بنِ عباس، أنه بات
عندَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
ليلة ميمونة بنت الحارث، فقام النَّبيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسبغ الوضوء،
(2/131)
[وأقل] هراقة الماء، وقام فافتتح الصَّلاة،
فقمت فتوضأت، وقمت عَن يساره، فأخذ بأذني فأقامني عَن
يمينه، وكانت ميمونة حائضاً، فقامت فتوضأت، ثُمَّ قعدت
خلفه تذكر
الله - عز وجل -.
خرجه الطبراني في ((مسند الشاميين)) وغيره.
وهذا غريب جداً.
وأيوب بنِ سويد الرملي، ضعيف.
خرج البخاري في هَذا الباب:
(2/132)
321 - حديث: قتادة: حدثتني معاذة، أن امرأة
قالت لعائشة: أتجزي إحدانا صلاتها إذا هي طهرت؟ فقالت:
أحرورية أنت؟ كنا نحيض معَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فلا يأمرنا بهِ - أو قالت: فلا نفعلهُ.
قولها: ((أتجزي)) ، هوَ بفتح التاء، و ((صلاتها)) بفتح
التاء، والمعنى: أتقضي صلاتها إذا طهرت مِن حيضها.
وقول عائشة: ((أحرورية أنت؟)) - تعني: أنت مِن أهل حروراء،
وهم الخوارج؛ فإنه قَد قيل: إن بعضهم كانَ يأمر بذلك،
وقيل: إنها أرادت أن هَذا مِن جنس تنطع الحرورية، وتعمقهم
في الدين حتى خرجوا منهُ.
ثُمَّ ذكرت أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كانَ لا يأمرهن بذلك إذا حضن - أو لا يفعلنه - شك الراوي
أي اللفظتين قالت.
ومعناهما
(2/132)
متقارب؛ فإن نساء النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كن يحضن في زمانه فلا يقضين
الصلاة إذا طهرن، فإنما يكون ذَلِكَ بإقرار النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذَلِكَ، وأمره بهِ، فإن
مثل هَذا لا يخفى عليهِ، ولو كانَ القضاء واجباً عليهن لَم
يهمل ذَلِكَ، وَهوَ لا يغفل عَن مثله لشدة اهتمامه بأمر
الصلاة.
وقد خرج هَذا الحديث مسلم في ((صحيحه)) بلفظ: ((ثُمَّ لا
نؤمر بالقضاء)) - مِن غير تردد، وخرجه بلفظ آخر، وَهوَ:
((كانَ يصيبنا ذَلِكَ على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء
الصلاة)) .
وقد حكى غير واحد مِن الأئمة إجماع العلماء على أن الحائض
لا تقضي الصلاة، وأنهم لَم يختلفوا في ذَلِكَ، مِنهُم:
الزهري، والإمام أحمد، وإسحاق بنِ راهويه، والترمذي، وابن
جرير، وابن المنذر وغيرهم.
وقال عطاء وعكرمة: قضاء الحائض الصلاة بدعة.
وقال الزهري: أجمع الناس على أن الحائض تقضي الصوم ولا
تقضي الصلاة، وقال: وليس في كل شيء نجد الإسناد.
وقد حكي عَن بعض الخوارج: أن الحائض تقضي الصلاة، وعن
(2/133)
بعضهم: أنها تصلي في حال حيضها.
ولكن في ((سنن أبي داود)) بإسناد فيهِ لين، أن سمرة بنِ
جندب كانَ يأمر النساء بقضاء صلاة الحيض.
وقد ذكر البخاري في ((الصيام)) مِن ((كتابه)) هَذا عَن أبي
الزناد، أنه قالَ: إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيراً على
خلاف الرَأي، فلا يجد المسلمون بداً مِن اتباعها؛ مِن
ذَلِكَ أن الحائض تقضي الصوم دونَ الصلاة.
وهذا يدل على أن هَذا مما لا يدرك بالرأي، ولا يهتدي
الرَأي إلى وجه الفرق
فيهِ.
وقد فرق كثير مِن الفقهاء مِن أصحابنا وأصحاب الشافعي بين
قضاء الصوم والصلاة، بأن الصلاة تتكرر كل يوم وليلة خمس
مرات، والحيض لا يخلو منهُ كل شهر - غالباً -، فلو أمرت
الحائض بقضاء الصلاة معَ أمرها بأداء الصلاة في أيام طهرها
لشق ذَلِكَ عليها، بخلاف الصيام؛ فإنه إنما يجيء مرةً
واحدةً في السنة، فلا يشق قضاؤه.
ومنهم مِن قالَ: جنس الصلاة يتكرر في كل يوم مِن أيام
الطهر، فيغني ذَلِكَ عَن قضاء ما تركته منها في الحيض،
بخلاف صيام رمضان؛ فإنه شهر واحد في السنة لا يتكرر فيها،
فإذا طهرت الحائض أمرت بقضاء ما تركته أيام حيضها؛ لتأتي
بتمام عدته المفروضة في السنة، كَما يؤمر بذلك مِن أفطر
لسفر أو مرض.
وإنما يسقط عَن الحائض قضاء الصلاة التي استغرق حيضها
وقتها، ولم
(2/134)
تكن مجموعة إلى ما قبلها أو بعدها، فإن لَم
يستغرق حيضها وقت الصلاة، بل طهرت في آخر الوقت، أو حاضت
بعد مضي أوله، ففي لزوم قضائها لها خلاف، يأتي ذكره في
((كِتابِ الصلاة)) - إن شاء الله تعالى.
وكذلك لو طهرت في آخر وقت صلاة تجمع إلى ما قبلها؛ مثل أن
تطهر في آخر وقت العصر أو العشاء، فهل يلزمها قضاء الظهر
والمغرب؟ فيهِ - أيضاً - اختلاف، يذكر في ((الصلاة)) - إن
شاء الله تعالى.
وإن حاضت في أول وقت صلاة تجمع إلى ما بعدها، ففي لزوم
القضاء لما بعد الصلاة التي حاضت في وقتها اختلاف - أيضاً
-، والقول بوجوب القضاء هنا أبعد مِن التي قبلها.
(2/135)
21 - باب
النومِ معَ الحائضِ وهي في ثيابها
خرج فيهِ:
(2/136)
322 - حديث: يحيى بنِ أبي كثير، عَن أبي
سلمة، عَن زينب بنت أبي سلمة، حدثته أن أم سلمة قالت: حضت
وأنا معَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
في الخميلة، فانسللت، فخرجت منها، فأخذت ثياب حيضتي،
فلبستها، فقالَ لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -:
((أنفست؟)) قلت: نعم، فدعاني فأدخلني معه في الخميلة.
قالت: وحدثتني أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- كانَ يقبلها وَهوَ صائم، وكنت أغتسل أنا والنبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِن إناء واحد مِن الجنابة.
أول هَذا الحديث قَد خرجه البخاري فيما تقدم في ((باب: مِن
سمى النفاس حيضاً)) ، وسبق الكلام هناك على شرحه وضبط مشكل
ألفاظه.
وإنما أعاده هنا؛ لأنه استنبط منهُ جواز نوم الرجل معَ
امرأته وهي حائض في ثياب حيضها في لحاف واحد، وقد سبق
القول في ذَلِكَ مستوفى في ((باب: مباشرة الحائض)) .
(2/136)
ويختص هَذا الباب: بأن ثياب الحائض وإن
كانت مختصةً بحال حيضها فلا يجب اتقاؤها والتنزه عَن
ملابستها، وأنه لا تنجس ما أصابها مِن جسد الرجل أو ثيابه،
ولا يغسل مِن ذَلِكَ شيئاً ما لَم ير فيه دماً، وقد سبق
هَذا المعنى مبسوطاً في ((باب: هل تصلي المرأة في ثوب حاضت
فيهِ؟)) .
وذكرنا فيهِ حديث عائشة، قالت: كنت أنا ورسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشعار الواحد، وأنا
حائض طامث، فإن أصابه مني شيء غسل ما أصابه، لم يعده إلى
غيره، ثُمَّ صلى فيهِ.
خرجه النسائي.
وأما باقي هَذا الحديث، فَقد تقدم الكلام على اغتسال النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبعض أزواجه مِن إناء
واحد مِن الجنابة في موضعه مِن الكِتابِ، ويأتي الكلام على
القبلة للصائم مِن موضعها مِن ((الصيام)) - إن شاء الله
تعالى.
(2/137)
22 - باب
منِ اتخذَ ثيابَ الحيضِ سوى ثيابِ الطهرِ
خرج فيهِ:
(2/138)
323 - حديث: أم سلمة - بالإسناد المتقدم -؛
قالت: بينا أنا معَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مضطجعة في خميلة حضت، فانسللت، فأخذت ثياب
حيضتي، فقالَ: ((أنفست؟)) فقلت: نعم. فدعاني، فاضطجعت معه
في الخميلة.
قَد سبق حديث عائشة، قالت: ((ما كانَ لإحدانا إلا ثوب واحد
تحيض
فيهِ)) . وقد خرجه البخاري في ((باب: هل تصلي المرأة في
ثوب حاضت فيهِ؟)) . وسبق هناك أحاديث متعددة بهذا المعنى.
وظاهر حديث أم سلمة هَذا: يدل على أنَّهُ كانَ لها ثياب
لحيضها غير ثياب طهرها، فيكون هَذا كله جائزاً غير ممنوع
منهُ ولا مكروه، فلا يكره أن تحيض المرأة وتطهر في ثوب
واحد وتصلي فيهِ، ولا أن تتخذ لحيضها ثياباً غير ثياب
طهرها، ولا يعد ذَلِكَ سرفاً ولا وسواساً.
ويحتمل أن يجمع بين الحديثين بأن يكون المراد بثياب الحيضة
في حديث أم سلمة: الإزار التي كانَ النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر الحائض في فور حيضها
(2/138)
أن تأتزر بهِ، ثُمَّ يباشرها وهي حائض،
كَما روت ذَلِكَ عائشة وميمونة، وقد سبق حديثهما في ((باب:
مباشرة الحائض)) ، فيجمع بذلك بين حديث عائشة: ((ما كانَ
لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيهِ)) ، وبين حديثها الآخر في
أمرها بالاتزار في فور الحيض.
(2/139)
23 - باب
شهودِ الحائضِ العيدينِ ودعوةَ المسلمينَ ويعتزلنَ المصلى
(2/140)
324 - حدثنا محمد بنِ سلام: ثنا عبد
الوهاب، عَن أيوب، عَن حفصة، قالت: كنا نمنع عواتقنا أن
يخرجن في العيدين، فقدمت امرأة فنزلت قصر بني خلف، فحدثت
عَن أختها - وكان زوج أختها غزا معَ النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثنتي عشرة، وكانت أختي معه في ست -،
قالت: كنا نداوي الكلمى، ونقوم على المرضى، فسألت أختي
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أعلى إحدانا
بأس إذا لَم يكن لها جلباب أن لا تخرج؟ قالَ: ((لتلبسها
صاحبتها مِن جلبابها ولتشهد الخير ودعوة المسلمين)) . فلما
قدمت أم عطية سألتها: أسمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالت: بأبا، نعم - وكانت لا تذكره
إلا قالت: بأبي - سمعته يقول: ((يخرج العواتق وذوات الخدور
- أو العواتق ذوات الخدور - والحيض، وليشهدن الخير ودعوة
المؤمنين، ويعتزل الحيض المصلى)) .
قالت حفصة:
(2/140)
فقلت: الحيض؟ فقالت: أليس تشهد عرفة وكذا
وكذا؟
((حفصة)) ، هي: بنت سيرين أخت محمد وإخوته.
و ((العواتق)) : جمع عاتق، وهي البكر البالغ التي لَم
تزوج.
و ((الجلباب)) : هي الملاءة المغطية للبدن كله، تلبس فوق
الثياب، وتسميها العامة: الإزار، ومنه قول الله - عز وجل
-: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} .
وفي الحديث: أمر للنساء بشهود العيدين، معللاً بما فيهِ
مِن شهود الخير ودعوة المسلمين، ويأتي استيفاء الكلام على
ذَلِكَ في موضعه مِن ((الصلاة)) - إن شاء الله
تعالى.
وإنما المقصود هنا: شهود الحيض، وقد استنكرت ذَلِكَ حفصة
بنت سيرين، فأجابتها أم عطية بأن الحائض تشهد عرفة وكذا
وكذا، كأنها تعني: مجامع الحج مِن الوقوف بالمزدلفة، ورمي
الجمار وغير ذَلِكَ، فإنها تصنع ما يصنع الحاج غير الطواف
بالبيت، كَما سبق، فكذلك تشهد مجمع العيدين وهي حائض؛
لأنها مِن أهل الدعاء والذكر، فلها أن تفعل ذَلِكَ بنفسها،
وتشهد مجامع المسلمين المشتملة عليهِ.
وأما أمر الحائض باعتزال المصلى، فَقد قيل: بأن مصلى
العيدين مسجد، فلا يجوز للحائض المكث فيهِ، وَهوَ ظاهر
كلام بعض أصحابنا، مِنهُم: ابن أبي موسى في
((شرح الخرقي)) ، وَهوَ - أيضاً - أحد الوجهين
(2/141)
للشافعية، والصحيح عندهم: أنَّهُ ليسَ
بمسجد، فللجنب والحائض المكث فيهِ.
وأجابوا عَن حديث الأمر باعتزال الحيض للمصلى: بأن المراد
أن يتسع على غيرهن، ويتميزن.
وفي هَذا نظر؛ فإن تميز الحائض عَن غيرها مِن النساء في
مجلس وغيره ليسَ بمشروع، وإنما المشروع تميز النساء عَن
الرجال جملة؛ فإن اختلاطهن بالرجال يخشى منهُ وقوع
المفاسد.
وقد قيل: إن المصلى يكون لَهُ حكم المساجد في يوم العيدين
خاصةً، في حال اجتماع الناس فيهِ دونَ غيره مِن الأوقات.
وفي ذَلِكَ - أيضاً - نظر، والله أعلم.
والأظهر: أن أمر الحيض باعتزال المصلى إنما هوَ حال
الصلاة؛ ليتسع على النساء الطاهرات مكان صلاتهن، ثُمَّ
يختلطن بهن في سماع الخطبة.
وقد صرح أصحابنا: بأن مصلى العيد ليسَ حكمه حكم المسجد،
ولا في يوم العيد، حتى قالوا: لو وصل إلى المصلى يوم العيد
والإمام يخطب فيهِ بعد الصلاة؛ فإنه يجلس مِن غير صلاة؛
لأنه لا تحية لَهُ.
واختلفوا: لو كانَ يخطب في المسجد: هل يصلي التحية؟ على
وجهين.
وقول أم عطية: ((بأبا)) هوَ بفتح الباء الثانية، وقد زعم
بعضهم أن حديث أم عطية لَم يرد إلا كذلك.
وهما لغتان: ((بأبي)) بكسر الباء، و ((بأبا)) بفتح الباء.
والمراد: تفدية النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بأبيها.
(2/142)
24 - باب
إذا حاضتْ في شهرٍ ثلاثَ حيضٍ، وما يصدقُ النساءُ
في الحيضِ والحملِ فيها يمكنُ منَ الحيضِ
لقول الله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ
مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنّ}
[البقرة: 228] .
ويذكر عَن علي وشريح: إن جاءت ببينة مِن بطانة أهلها - ممن
يرضى دينه - أنها حاضت ثلاثاً في شهر؛ صدقت.
وقال عطاء: أقراؤها كانت.
وبه قالَ إبراهيم.
وقال عطاء: الحيض يوم إلى خمسة عشر.
وقال المعتمر، عَن أبيه: سألت ابن سيرين عَن المرأة ترى
الدم بعد قرئها بخمسة أيام؟ قالَ: النساء أعلم بذلك.
أمَّا قول الله - عز وجل -: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ
يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنّ}
[البقرة: 228] ، فإنه يدل على أن المرأة مؤتمنة على
الإخبار بما في رحمها، ومصدقة فيهِ إذا ادعت مِن ذَلِكَ
ممكناً.
روى الأعمش، عَن مسلم، عَن مسروق، عَن أبي بنِ كعب، قالَ:
إن مِن الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها.
(2/143)
وقد اختلف المفسرون مِن السلف فَمِن بعدهم
في المراد بقولِهِ تعالى: {مَا خَلَقَ اللهُ فِي
أَرْحَامِهِنّ} ، ففسره قوم بالحمل، وفسره قوم بالحيض.
وقال آخرون: كل منهما مراد، واللفظ صالح لهما جميعاً. وهذا
هوَ المروي عَن أكثر السلف، مِنهُم: ابن عمر، وابن عباس،
ومجاهد، والحسن، والضحاك.
وأما ما ذكره عَن علي وشريح:
فقالَ حرب الكرماني: ثنا إسحاق - هوَ: ابن راهويه -: ثنا
عيسى بنِ يونس، عَن إسماعيل بنِ أبي خالد، عَن الشعبي، أن
امرأة جاءت إلى علي بنِ أبي طالب، فقالت: إني طلقت، فحضت
في شهر ثلاث حيض؟ فقالَ علي لشريح: قل فيها، فقالَ: أقول
فيها وأنت شاهد! قالَ: قل فيها، قالَ: إن جاءت ببطانة مِن
أهلها ممن يرضى دينهن وأمانتهن فقلن: إنها حاضت ثلاث حيض
طهرت عند كل حيضة؛ صدقت. فقالَ علي: قالون. قالَ عيسى:
بالرومية: أصبت.
قالَ حرب: وثنا إسحاق: أبنا محمد بن بكر: ثنا سعيد بن أبي
عروبة، عَن قتادة، عَن عزرة، عَن الحسن العرني، أن امرأة
طلقها زوجها، فحاضت في خمس وثلاثين ليلة ثلاث حيض، فرفعت
إلى شريح فلم يدر ما يقول فيها، ولم يقل شيئاً، فرفعت إلى
علي بن أبي طالب، فقالَ: سلوا عنها جاراتها، فإن كانَ هكذا
حيضها فَقد انقضت عدتها، وإلا فأشهر ثلاث.
(2/144)
وهذا الإسناد فيهِ انقطاع؛ فإن الحسن
العرني لَم يدرك علياً -: قاله أبو حاتم الرازي.
وأما الإسناد الذِي قبله، فإن الشعبي رأى علياً يرجم شراحة
ووصفه. قالَ يعقوب بنِ شيبة: لكنه لَم يصحح سماعه منهُ.
وأما ما ذكره البخاري عَن عطاء والنخعي:
فروى ابن المبارك، عَن ابن لهيعة، عَن خالد بنِ يزيد، عَن
عطاء، في امرأة طلقت، فتتابعت لها ثلاث حيض في شهر: هل
[حلت] ؟ قالَ: أقراؤها ما كانت.
وروي نحوه عَن النخعي، كَما حكاه البخاري، وحكاه عَنهُ
إسحاق بن
راهويه.
فهؤلاء كلهم يقولون: إن المرأة قَد تنقضي عدتها بثلاثة
أقراء في شهر واحد، وَهوَ قول كثير مِن العلماء، مِنهُم:
مالك، وأحمد، وإسحاق وغيرهم.
وهذا ينبني على أصلين:
أحدهما: الاختلاف في الأقراء: هل هي الأطهار، أو الحيض؟
وفيه قولان مشهوران.
ومذهب مالك والشافعي: أنها الأطهار، ومذهب أحمد - الصحيح
عَنهُ -، وإسحاق: أنها الحيض، وستأتي المسألة مستوفاةً في
موضع آخر مِن الكِتابِ - إن شاء الله تعالى.
(2/145)
والثاني: الاختلاف في مدة أقل الحيض وأقل
الطهر بين الحيضتين.
فأما أقل الحيض: فمذهب الشَافِعي وأحمد - المشهور عَنهُ -
وإسحاق: أنَّهُ يوم وليلة.
وأما أقل الطهر بين الحيضتين: فمذهب الشافعي وأحمد - في
رواية عَنهُ -: أنَّهُ خمسة عشر يوماً، وَهوَ قول كثير مِن
أصحاب مالك.
والمشهور عَن أحمد: أن أقله ثلاثة عشر يوماً.
وعند إسحاق: أقله عشرة أيام -: نقله عَنهُ حرب.
وَهوَ رواية ابن القاسم، عَن مالك.
واختلفت الرواية عَن مالك في ذَلِكَ.
فعلى قول مِن قالَ: الأقراء الحيض، وأقل الطهر بين
الحيضتين ثلاثة عشر يوماً، فيمكن انقضاء العدة بثلاثة قروء
في تسعة وعشرين يوماً.
وعلى قول مِن قالَ: الأقراء الحيض، وأقل الطهر خمسة عشر
فلا تنقضي العدة في أقل مِن ثلاثة وثلاثين يوماً.
وأما على قول مِن يقول: الأقراء الأطهار: فإن قيل: بأن أقل
الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر؛ فأقل ما تنقضي فيهِ العدة
بالأقراء ثمانية وعشرون يوماً.
وإن قيل: أقل الطهر خمسة عشر؛ فاثنان وثلاثون يوماً.
فأما مالك وأصحابه، فقالَ ابن القاسم: سألت مالكاً، إذا
قالت: قَد حضت ثلاث حيض في شهر؟ قالَ: تسأل النساء عَن
ذَلِكَ، فإن كن يحضن كذلك ويطهرن
لَهُ؛ كانت مصدقة.
وهذا هوَ مذهب مالك المذكور في ((المدونة)) ، واختاره
الأبهري مِن أصحابه، وبناه على أن الحيض لا حد لأقله، بل
أقله دفقة وأقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر.
(2/146)
ومن المالكية مِن قالَ: يقبل في أربعين
يوماً، فاعتبر أقل الطهر وخمسة أيام مِن كل حيضة. ومنهم
مِن قالَ: تنقضي في ستة وثلاثين يوماً، فاعتبر أقل الطهر
وثلاثة أيام للحيضة.
فلم يعتبر هَذا ولا الذِي قبله الحيض ولا أكثره.
وقد ينبني الذِي نقله ابن القاسم، عَن مالك، على قولُهُ:
إنه لا حد لأقل الطهر بين الحيضتين، بل هوَ على ما تعرف
المرأة مِن عادتها.
وَهوَ رواية منصوصة عَن أحمد، اختارها أبو حفص البرمكي مِن
أصحابنا، وأورد على نفسه: أنَّهُ يلزم على هَذا أنها إذا
ادعت انقضاء العدة في أربعة أيام قبل منها: فأجاب: أنَّهُ
لا بد مِن الأقراء الكاملة، وأقل ما يُمكن في شهر.
كذا قالَ.
ونقل الأثرم عَن أحمد، أنَّهُ لا توقيت في الطهر بين
الحيضتين، إلا في موضع واحد: إذا ادعت انقضاء عدتها في
شهر؛ فإنها تكلف البينة.
ونقل ابن عبد البر: أن الشَافِعي قالَ: أقل الطهر خمسة
عشر، إلا أن يعلم طهر امرأة أقل مِن خمسة عشر، فيكون القول
قولها.
ومذهب أبي حنيفة: لا تصدق في دعوى انقضاء العدة في أقل مِن
ستين يوماً، واختلف عَنهُ في تعليل ذَلِكَ:
فنقل عَنهُ أبو يوسف: أنها تبدأ بطهر كامل خمسة عشر يوماً،
وتجعل كل حيضة خمسة أيام، والأقراء عندهم: الحيض.
ونقل عَنهُ الحسن بنِ زياد: أنَّهُ اعتبر أكثر الحيض -
وَهوَ عشرة أيام عندهم - وأقل الطهر - وَهوَ خمسة عشر -
وبدأ بالحيض.
(2/147)
وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد: لا تصدق إلا
في كمال تسعة وثلاثين يوماً، بناء على أقل الحيض، وَهوَ
عندهم ثلاثة، وأقل الطهر، وَهوَ خمسة عشر.
وقال سفيان الثوري: لا تصدق في أقل مِن أربعين يوماً،
وَهوَ أقل ما تحيض فيهِ النساء وتطهر. وهذا كقول أبي يوسف
ومحمد.
وعن الحسن بنِ صالح: لا تصدق في أقل مِن خمسة وأربعين
يوماً -: نقله عَنهُ الطحاوي.
وقال حرب الكرماني: ثنا إسحاق: ثنا أبي، قالَ: سألت ابن
المبارك فقالَ: أرأيت قول سفيان: تصدق المرأة في انقضاء
عدتها في شهر، كيف هَذا؟ وما معناه؟ فقالَ: جعل ثلاثاً
حيضاً، وعشراً طهراً، وثلاثاً حيضاً، كذا قالَ.
وقد ذكر بعض أصحاب سفيان في مصنف لَهُ على مذهبه رواية ابن
المبارك هَذهِ عَن سفيان: أنها لا تصدق في أقل مِن تسعة
وثلاثين يوماً، وعزاها إلى الطحاوي، ووجهها بأن أقل الحيض
ثلاثة أيام وأقل الطهر خمسة عشر. قالَ: ورواية المعافى
والفريابي عَن سفيان، أنها لا تصدق في أقل مِن أربعين
يوماً. قالَ: وهما بمعنى واحد.
وأما إسحاق بنِ راهويه، فإنه حمل المروي عَن علي في ذَلِكَ
على أنَّهُ جعل الطهر عشرة أيام، والحيض ثلاثة، لكن إسحاق
لا يرى أن أقل الحيض ثلاث.
(2/148)
ولم يذكر أكثر هؤلاء أن قبول دعواها يحتاج
إلى بينة، وَهوَ قول الخرقي مِن أصحابنا.
والمنصوص عَن أحمد: أن دعوى انقضاء العدة في شهر لا تقبل
بدون بينة، تشهد بهِ مِن النساء، ودعوى انقضائها في زيادة
على شهر تقبل بدون بينة؛ لأن المرأة مؤتمنة على حيضها كَما
قالَ أبي بن كعب وغيره، وإنما اعتبرنا البينة في دعواها في
الشهر خاصة للمروي عَن علي بن أبي طالب، كَما تقدم.
ومن أصحابنا مِن قالَ: إن ادعته في ثلاثة وثلاثين يوماً
قبل بغير بينة؛ لأن أقل الطهر المتفق عليهِ خمسة عشر
يوماً، وإنما يحتاج إلى بينة إذا ادعته في تسعة وعشرين؛
لأنه يُمكن؛ فإن أقل الطهر ثلاثة عشر في رواية.
ومنهم مِن قالَ: إنما يقبل ذَلِكَ بغير بينة في حق مِن
ليسَ لها عادة مستقرة، فأما مِن لها عادة منتظمة فلا تصدق
إلا ببينة على الأصح، كذا قاله صاحب ((الترغيب)) .
وقال ابن عقيل في ((فنونه)) : ولا تقبل معَ فساد النساء
وكثرة كذبهن دعوى انقضاء العدة في أربعين ولا خمسين
[يوماً] ، إلا ببينة تشهد أن هَذهِ عادتها، أو أنها رأت
الحيض على هَذا المقدار، وتكرر ثلاثاً.
وقال إسحاق وأبو عبيد: لا تصدق في أقل مِن ثلاثة أشهر، إلا
أن تكون لها عادة معلومة قَد عرفها بطانة أهلها المرتضى
دينهن وأمانتهن
(2/149)
فيعمل بها حينئذ، ومتى لَم يكن كذلك فَقد
وقعت الريبة، فيحتاط وتعدل الأقراء بالشهور، كَما في حق
الآيسة والصغيرة.
وأما ما حكاه البخاري عَن عطاء، أن الحيض يوم إلى خمسة
عشر، فهذا معروف عَن عطاء.
وقد اختلف العلماء في أقل الحيض وأكثره:
فأما أقله:
فمنهم مِن قالَ: يوم، كَما روي عَن عطاء. ومنهم مِن قالَ:
يوم وليلة، وروي - أيضاً - عَن عطاء.
وروي - أيضاً - مثل هذين القولين عَن الأوزاعي والشافعي
وأحمد، فقالَ كثير مِن أصحابهم: إنهما قولان لَهُم، ومن
أصحابنا وأصحاب الشَافِعي مِن قالَ: إنما مراد الشَافِعي
[وأحمد] يوم معَ ليلته؛ فإن العرب تذكر اليوم كثيراً
ويريدون: معَ ليلته. وممن قالَ: أقله يوم وليلة: إسحاق
وأبو ثور.
وقالت طائفة: لا حد لأقله، بل هوَ على ما تعرفه المرأة مِن
نفسها، وَهوَ المشهور عَن مالك، وقول أبي داود وعلي بنِ
المديني، وروي عَن الأوزاعي - أيضاً.
ونقل ابن جرير الطبري عَن الربيع، عَن الشَافِعي، أن الحيض
يكون يوماً
[وأقل] وأكثر. قالَ الربيع: وآخر قولي الشَافِعي: أن أقله
يوم وليلة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: أقله ثلاثة أيام.
وروي ذَلِكَ عَن ابن مسعود وأنس مِن قولهما، وروي -
مرفوعاً - مِن طرق، والمرفوع كله باطل لا يصح، وكذلك
الموقوف طرقه واهية، وقد طعن فيها غير واحد
(2/150)
مِن أئمة الحفاظ.
وقالت طائفة: أقله خمسة أيام، وروي عَن مالك.
ولم يصح عند أكثر الأئمة في هَذا الباب توقيت مرفوع ولا
موقوف، وإنما رجعوا فيهِ إلى ما حكي مِن عادات النساء
خاصة، وعلى مثل ذَلِكَ اعتمد الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم.
وأما أكثر الحيض.
فقالَ عطاء: هوَ خمسة عشر يوماً. وحكي مثله عَن شريك
والحسن بنِ صالح، وَهوَ قول مالك والشافعي وأحمد - في
المشهور عَنهُ - وإسحاق وداود وأبي ثور وغيرهم.
ومن أصحابنا والشافعية مِن قالَ: خمسة عشر يوماً بلياليها،
قالَ بعض الشافعية: وهذا القيد لا بد مِنه، لتدخل الليلة
الأولى، والاعتماد في ذَلِكَ على ما حكي مِن حيض بعض
النساء خاصة.
وأما الرواية عَن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، أنَّهُ قالَ في نقصان دين النساء: ((تمكث شطر عمرها لا
تصلي)) فإنه لا يصح، وقد طعن فيهِ ابن منده والبيهقي
وغيرهما مِن الأئمة.
وقالت طائفة: أكثره سبعة عشر، حكي عَن عبد الرحمن بنِ مهدي
وعبد الله بن نافع صاحب مالك.
وَهوَ رواية عَن أحمد واختارها أبو بكر عبد العزيز، ومن
أصحابنا - كأبي حفص البرمكي - مِن قالَ: لا يصح عَن أحمد،
إنما حكى ذَلِكَ أحمد عَن غيره ولم يوافقه.
وحكي عَن بعضهم: أكثره ثلاثة عشر، وحكي عَن سعيد بنِ جبير.
(2/151)
وقال سفيان وأبو حنيفة وأصحابه: أكثره عشرة
أيام، واعتمدوا في ذَلِكَ على أحاديث مرفوعه وآثار موقوفة
عَن أنس وابن مسعود وغيرهما كَما سبق.
والأحاديث المرفوعة باطلة، وكذلك الموقوفة على الصحابة -:
قاله الإمام أحمد في رواية الميموني وغيره.
وقد روي - أيضاً - عَن الحسن وخالد بنِ معدان، وأنكره
الإمام أحمد عَن خالد.
وروي عَن الحسن: أكثره خمسة عشر.
وحكي عَن طائفة: [أن] أكثره سبعة أيام:
[قالَ مكحول: وقت الحائض سبعة أيام] .
وعن الضحاك، قالَ: تقعد سبعة أيام، ثُمَّ تغتسل وتصلي.
وعن الأوزاعي في المبتدأة: تمكث [أعلى] أقراء النساء سبعة
أيام، ثُمَّ تغتسل وتصلي كَما تفعل المستحاضة.
وحكى الحسن بنِ ثواب، عَن أحمد، قالَ: عامة الحيض ستة أيام
إلى سبعة.
[قيل لَهُ: فإن امرأة مِن آل أنس كانت تحيض خمسة عشر؟
قالَ: قَد كانَ ذَلِكَ، وأدنى الحيض: يوم، وأقصاه - عندنا
-: ستة أيام إلى سبعة] ، ثُمَّ ذكر حديث: ((تحيضي في علم
الله ستاً أو سبعاً)) .
وكلام أحمد ومن ذكرنا معه في هَذا إنما مرادهم بهِ - والله
أعلم - أن السبعة غالب الحيض وأكثر عادات النساء؛ لا
أنَّهُ أقصى حيض النساء كلهن.
(2/152)
وقالت طائفة: لا حد لأكثر الحيض، وإنما هوَ
على حسب ما تعرفه كل امرأة مِن عادة نفسها، فلو كانت
المرأة لا تحيض في السنة إلا مرة واحدة وتحيض شهرين
متتابعين فَهوَ حيض صحيح، وري نَحوَ ذَلِكَ عَن ميمون بن
مهران والأوزاعي، ونقله حرب عَن إسحاق وعلي بن المديني.
ويشبه هَذا: ما قاله ابن سيرين: النساء أعلم بذلك، كَما
حكاه البخاري عَنهُ - تعليقاً - مِن رواية معتمر بنِ
سليمان، عَن أبيه، أنه سأل ابن سيرين عَن امرأة ترى الدم
بعد قرئها بخمسة أيام؟ قالَ: النساء أعلم بذلك.
ومراد ابن سرين - والله أعلم -: أن المرأة أعلم بحيضها
واستحاضتها، فما اعتادته حيضاً وتبين لها أنَّهُ حيض جعلته
حيضاً، وما لَم تعتده ولم يتبين لها أنَّهُ حيض فَهوَ
استحاضة.
وقد ذكر طائفة مِن أعيان أصحاب الشَافِعي: أن مِن لها عادة
مستمرة على حيض وطهر أقل مِن يوم وليلة وأكثر مِن خمسة عشر
أنها تعمل بعادتها في ذَلِكَ، مِنهُم: أبو إسحاق
الإسفراييني والقاضي حسين والدارمي وأبو عمرو بنِ الصلاح،
وذكر أنه نص الشَافِعي -: نقله عَنهُ صاحب ((التقريب)) .
وما نقله ابن جرير عَن الربيع، عَن الشَافِعي، كَما تقدم،
يشهد لَهُ - أيضاً.
خرج البخاري في هَذا الباب حديثاً، فقالَ:
(2/153)
325 - ثنا أحمد بنِ أبي رجاء: ثنا أبو
أسامة، قالَ: سمعت هشام بنِ عروة، قالَ: أخبرني أبي، عَن
عائشة، أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
(2/153)
فقالت: إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟
قالَ: ((لا، إن ذَلِكَ عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام
التي كنت تحيضين فيها، ثُمَّ اغتسلي وصلي)) .
هَذا الحديث استدل بهِ مِن ذهب إلى أن أقل الحيض ثلاثة
أيام؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ردها
إلى قدر الأيام التي كانت تحيضها، والأيام جمع، وأقل الجمع
ثلاثة.
وأجاب مِن خالفهم عَنهُ بجوابين:
أحدهما: أن المراد بالأيام: الأوقات، لأن اليوم قَد يعبر
بهِ عَن الوقت قل أو
كثر، كَما قالَ تعالى: {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ
مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] ، والمراد: وقت مجيء
العذاب، وقد يكون ليلاً ويكون نهاراً، وقد يستمر وقد لا
يستمر، ويقال: يوم الجمل، ويوم صفين، وكل منهما كانَ عدة
أيام.
والثاني: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد
امرأة واحدةً إلى عادتها، والظاهر: أن عادتها كانت أياماً
متعددة في الشهر، إمَّا ستة أيام أو سبعة، فليس فيهِ دليل
على أن كل حيض امرأة يكون كذلك.
واستدل الإمام أحمد بقولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين
فيها)) على أن الحيض قَد يكون أكثر مِن عشرة أيام؛ لأنه لو
كانَ الزائد على العشرة استحاضة لبين لها ذَلِكَ.
ولكن قَد يُقال: في الزيادة على الخمس عشرة كذلك - أيضاً.
والظاهر: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كانَ يعلم أن حيض هَذهِ المرأة أقل مِن ذَلِكَ، فلذلك ردها
إلى أيامها.
(2/154)
25 - باب
الصفرةِ والكدرةِ في غيرِ أيام الحيضِ
(2/155)
326 - حدثنا قتيبة: ثنا إسماعيل، عَن أيوب،
عَن محمد، عَن أم عطية: كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئاً.
كذا رواه ابن علية ومعمر، عَن أيوب.
ورواه وهيب، [عَن أيوب] ، عَن حفصة بنت سيرين، عَن أم
عطية.
وزعم محمد بنِ يحيى الذهلي أن قول وهيب أصح. وفيه نظر.
وقد خرج أبو داود مِن طريق حماد بنِ سلمة، عَن قتادة، عَن
أم الهذيل - وهي: حفصة بنت سيرين -، عَن أم عطية - وكانت
بايعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
قالت: كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً.
(2/155)
ثُمَّ قالَ: ثنا مسدد: ثنا إسماعيل: أبنا
أيوب، عَن محمد بنِ سيرين، عَن أم عطية - مثله.
وظاهر هَذا السياق: يدل على أن رواية أيوب، عَن محمد مثل
رواية قتادة، عَن أم الهذيل، وأن فيها هَذهِ اللفظة: ((بعد
الطهر)) .
معَ أن شعبة كانَ يقول: ((مثله)) ليسَ بحديث، يشير إلى
أنَّهُ قَد يقع التساهل في لفظه.
وخالفه سفيان، فقالَ: هوَ حديث.
وخرج الدارقطني مِن رواية هشام بنِ حسان، عَن حفصة، عَن أم
عطية، قالت: كنا لا نرى الترية بعد الطهر شيئاً - وهي
الصفرة والكدرة.
وروى وكيع، عَن أبي بكر الهذلي، عَن معاذة، عَن عائشة،
قالت: ما كنا نعد الكدرة والصفرة شيئاً.
وأبو بكر الهذلي، ضعيف.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه مِن رواية أبي سلمة،
أن أم بكر
أخبرته، عَن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قالَ في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر:
((إنما هوَ عرق - أو عروق)) .
وأم بكر - ويقال: أم أبي بكر -، لَم يرو عنها غير هَذا
الحديث، وليست بمشهورة.
وقد بوب البخاري على حديث أم عطية: ((الصفرة والكدرة في
غير
(2/156)
أيام
الحيض)) ، ولم يخرج الحديث بزيادة: ((بعد الطهر)) كَما
خرجه أبو داود.
ولم يتفرد بهِ حماد بنِ سلمة، عَن قتادة، بل قَد رواه حرب
في ((مسائله)) ، عَن الإمام أحمد، عَن غندر، عَن شعبة، عَن
قتادة - بمثله.
وقد روي حديث أم عطية بلفظ آخر، وَهوَ: ((كنا لا نعتد
بالكدرة والصفرة بعد الغسل شيئاً)) .
خرجه الدارمي في ((مسنده)) .
وقد سبق ذكر الصفرة والكدرة في ((باب: إقبال المحيض
وإدباره)) ، وأن الصفرة والكدرة لهما ثلاثة أحوال:
حال: تكون في مدة عادة المعتادة، فتكون حيضاً عند جمهور
العلماء، سواء سبقها دم أم لا.
وحال: تكون بعد انقضاء العادة، فإن اتصلت بالعادة ولم يفصل
بينهما طهر، وكانت في مدة أيام الحيض - أعني: الأيام التي
يحكم بأنها حيض، وهي: الخمسة عشر، أو السبعة عشر، أو
العشرة عند قوم -، فهل تكون حيضاً بمجرد اتصالها بالعادة،
أم لا تكون حيضاً حتى تتكرر ثلاثاً أو مرتين، أم لا تكون
حيضاً وإن تكررت؟ فيهِ ثلاثة أقوال للعلماء:
الأول: ظاهر مذهب مالك والشافعي. والثاني: رواية عَن أحمد.
(2/157)
والثالث: قول أبي حنيفة والثوري، وأحمد في
رواية.
وإن انقطع الدم عند تمام العادة، ثُمَّ رأت بعده صفرة أو
كدرة في مدة الحيض، فالصحيح عند أصحابنا: أنَّهُ لا يكون
حيضاً، وإن تكرر.
وقد قالَ أكثر السلف: إنها إذا رأت صفرة أو كدرة بعد الغسل
أو بعد الطهر فإنها تصلي، وممن روي ذَلِكَ عَنهُ: عائشة،
وسعيد بنِ المسيب، وعطاء، والحسن، وإبراهيم النخعي، ومحمد
ابن الحنيفة وغيرهم.
وحديث أم عطية يدل على ذَلِكَ.
وحال: ترى الصفرة والكدرة بعد أكثر الحيض، فهذا لا إشكال
في أنَّهُ ليسَ بحيض.
(2/158)
26 - باب
عرقِ الاستحاضةِ
خرج فيهِ:
(2/159)
327 - حديث: ابن أبي ذئب، عَن ابن شهاب،
عَن عروة - وعن عمرة -، عَن عائشة زوج النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن أم حبيبة استحيضت سبع
سنينَ، فسألت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- عَن ذَلِكَ، فأمرها أن تغتسل، فقالَ: ((هَذا عرق)) ،
فكانت تغتسل لكل صلاة.
هَذا الحديث اختلف في إسناده على الزهري: فروي عَنهُ عن
عروة، عن عائشة. وروي عنه، عن عمرة، عن عائشة. وروي عنه،
عن عروة وعمرة، عَن عائشة كَما في هَذهِ الرواية، ورواية
الزهري لَهُ عنهما صحيح -: قاله الدارقطني.
واختلف - أيضاً - في اسم المستحاضة:
فقالَ الأكثرون في روايتهم: أم حبيبة، ومنهم مِن قالَ: أم
حبيبة بنت جحش.
(2/159)
وقد خرجه مسلم مِن طرق، عَن الزهري كذلك.
وفي رواية لَهُ: عَن عمرو بنِ الحارث، عَن الزهري، عَن
عروة وعمرة، عَن عائشة، أن أم حبيبة بنت جحش ختنة رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتحت عبد
الرحمن بن عوف استحيضت سبع سنينَ - وذكر الحديث.
ولمسلم - أيضاً - مِن حديث عراك بنِ مالك، عَن عروة، عَن
عائشة، أن أم حبيبة بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بنِ
عوف شكت إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
الدم، فقالَ لها: ((امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثُمَّ
اغتسلي)) ، فكانت تغتسل عند كل صلاة.
ورواه أبو داود الطيالسي عَن ابن أبي ذئب، عَن الزهري،
وقال في حديثه: إن زينب بنت جحش استحيضت.
ووهم في قولُهُ: ((زينب)) -: ذكر ذَلِكَ الدراقطني في
((علله)) .
وذكر أبو داود في ((سننه)) أن أبا الوليد الطيالسي رواه،
عَن سليمان بنِ
كثير، عَن الزهري، عَن عروة، عَن عائشة: استحيضت زينب بنت
جحش - فذكره.
وكذلك خرجه مسلم مِن رواية ابن عيينة، عَن الزهري، عَن
عمرة، عَن
عائشة، أن زينب بنت جحش كانت تستحاض سبع سنينَ -
(2/160)
فذكره.
وقد رواه مالك في ((الموطإ)) عَن هشام بنِ عروة، عَن أبيه،
عَن زينب بنت أبي سلمة، أنها رأت زينب بنت جحش التي كانت
تحت عبد الرحمن بنِ عوف، وكانت تستحاض، وكانت تغتسل وتصلي.
ولم يرفع هشام شيئاً مِن الحديث.
وذكر ابن عبد البر: أن مالكاً وهم في قولُهُ: ((زينب)) ،
وإنما هي: أم حبيبة.
وقد رواه الليث بنِ سعد، عَن هشام، فقالَ فيهِ: إن أم
حبيبة بنت جحش.
وكذلك رواه يحيى بنِ سعيد، عَن عروة وعمرة، عَن زينب بنت
أبي سلمة، أن أم حبيبة - وذكر الحديث.
وروى ابن عيينة، عَن الزهري، عَن عمرة، عَن عائشة، أن
حبيبة بنت جحش استحيضت - فذكره.
وقال: كذا حفظت أنا في الحديث: والناس يقولون: أم حبيبة.
خرجه حرب الكرماني في ((مسائله)) عَن الحميدي، عَنهُ.
وقد روي عبد الله بنِ محمد بنِ عقيل، عَن إبراهيم بنِ محمد
بنِ طلحة، عَن عمه عمران بنِ طلحة، عَن أمة حمنة بنت جحش،
قالت: كنت استحاض حيضة [كبيرة] شديدة، فأتيت النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أستفتيه، فوجدته في بيت
أخي زينب - وذكرت حديثاً طويلاً.
خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي.
وقال:
(2/161)
حسن صحيح.
وحكى عَن البخاري أنه حسنه، وعن الإمام أحمد أنه قالَ: هوَ
حسن صحيح.
وقد اختلف قول الإمام أحمد فيهِ، فقيل عَنهُ أكثر أصحابه
أنَّهُ ضعفه، وقيل: إنه رجع إلى تقويته والأخذ بهِ -: قاله
أبو بكر الخلال.
وقد رواه جماعة عَن ابن عقيل كَما ذكرناه، وخالفهم ابن
جريجٍ، فرواه عَنهُ، وقال فيهِ: عَن حبيبة بنت جحش.
ذكره الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله وقال: خالف الناس
- يشير إلى أنها
حمنة، ليست حبيبة.
وقد خرجه ابن ماجه مِن طريق ابن جريج، عَن ابن عقيل، إلا
أن في روايته:
((عَن أم حبيبة بنت جحش)) .
وحاصل الأمر: أن بنات جحش ثلاث:
زينب بنت جحش أم المؤمنين، كانت زوج زيد بنِ حارثة، فطلقها
فتزوجها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي
التي ذكرها الله سبحانه في سورة الأحزاب.
وحمنة بنت جحش، هي التي خاضت في الإفك، وكانت تحت طلحة بنِ
عبيد الله.
وأم حبيبة، وكانت تحت عبد الرحمن بنِ عوف، ويقال فيها -
أيضاً -: أم حبيب -: قاله الإمام أحمد
(2/162)
في رواية ابنه صالح، وأكثر الناس يسميها:
أم حبيبة.
وقال طائفة مِن المحققين: إنما هي أم حبيب، واسمها حبيبة،
ففي ((تاريخ)) المفضل الغلابي - والظاهر أنه عَن يحيى بنِ
معين؛ لأنه في سياق كلام حكاه عَنهُ -، قالَ: المستحاضة
حبيبة بنت جحش، وكانت تحت عبد الرحمن ابن عوف، وهي أخت
حمنة.
[وكذا ذكر الزبير بنِ بكار في كِتابِ [.. ..] ((الأنساب))
، إلا أنه لَم يكنها، وكذا قالَ أبو بكر بنِ أبي داود] .
وحكى الدارقطني في ((علله)) عَن إبراهيم الحربي، أنه قالَ:
الصحيح أن المستحاضة أم حبيب، واسمها حبيبة بنت جحش، وهي
أخت حمنة، ومن قالَ فيهِ: أم حبيبة أو زينب فَقد وهم.
قالَ الدارقطني: وقول إبراهيم صحيح، وكان مِن أعلم الناس
بهذا الشأن.
وقال ابن سعد في ((طبقاته)) : هي أم حبيب بنت جحش، واسمها:
حبيبة. قالَ: وبعض أهل الحديث يقلب اسمها، فيقول: أم
حبيبة.
وحكى
(2/163)
عَن الواقدي، أنه قالَ: بعضهم يغلط، فيروي
أن المستحاضة حمنة بنت جحش، ويظن أن كنيتها أم حبيبة،
والأمر على ما ذكرنا، هي أم حبيب حبيبة بنت جحش، وكانت تحت
عبد الرحمن بنِ عوف، ولم تلد لَهُ شيئاً.
وحكى البيهقي في ((كِتابِ المعرفة)) ، عَن ابن المديني،
أنه قالَ: أم حبيبة هي حمنة. وعن يحيى بنِ معين، أنها
غيرها.
ثُمَّ قالَ البيهقي: حديث ابن عقيل يدل على أنها غيرها،
كَما قالَ يحيى.
قلت: رواية ابن عقيل، عَن ابن إبراهيم بنِ محمد بنِ طلحة،
عَن عمه عمران بن طلحة، عَن أمه حمنة صريح في أنها حمنة لا
تحتمل غير ذَلِكَ؛ لأن حمنة هي زوج طلحة بنِ عبيد الله،
وولدت لَهُ عمران، وَهوَ رواي هَذا الحديث عَن أمه، [وأما
أختها حبيب فلم يكن لها ولد بالكلية -: قاله الزبير بنِ
بكار وغيره] ، وحينئذ فيحتمل أن تكون حمنة استحيضت، وأختها
حبيبة استحيضت - أيضاً.
وقد حكى ابن عبد البر هَذا قولاً، قالَ: وقيل: إنهن كلهن
استحضن - يعني: زينب، وأم حبيب، وحمنة.
وعلى ما ذكره الأولون، فالمستحاضة هي أم حبيب حبيبة خاصة
دونَ أختيها.
وذكر أبو الوليد بنِ الصفار الأندلسي - وكان مِن أعيان
علماء الأندلس - في شرح ((الموطإ)) لَهُ: أن كلا مِن
الأخوات الثلاث تسمى زينب، وأن حمنة لقب.
قالَ القرطبي: وإذا صح هَذا فَقد صح قول مِن سمى المستحاضة
زينب.
(2/164)
قلت: وفي هَذا بعد، وَهوَ مخالف لقول
الأئمة المعتبرين، كَما سبق. والله أعلم.
ووقع في متن حديث عائشة اختلاف ثالث، وَهوَ أهم مما قلبه،
وذلك أنَّهُ اختلف في غسلها لكل صلاة، فَمِن الرواة: مِن
ذكر أنها كانت تغتسل لكل صلاة، وأن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَم يأمرهم بذلك. ومنهم: مِن ذكر أن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها بذلك.
فأما الذين لَم يرفعوه: فهم الثقات الحفاظ:
وقد خرجه البخاري هاهنا مِن حديث ابن أبي ذئب، مِن الزهري،
وفي حديثه: ((فكانت تغتسل لكل صلاة)) .
وخرجه مسلم مِن طريق الليث، عَن ابن شهاب، عَن عروة، عَن
عائشة، وفي حديثه: قالَ الليث: لَم يذكر ابن شهاب أن رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أم حبيبة
بنت جحش أن تغتسل عند كل صلاة، ولكنه شيء فعلته هي.
وخرجه - أيضاً - مِن رواية عراك بنِ مالك، عَن عروة، عَن
عائشة، وفي حديثه: ((فكانت تغتسل عند كل صلاة)) .
وأما الذين رفعوه: فرواه ابن إسحاق، عَن الزهري، عَن عروة،
عَن عائشة، أن أم حبيبة استحيضت في عهد رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمرها بالغسل لكل صلاة.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
قالَ: ورواه أبو الوليد الطيالسي،
(2/165)
ولم أسمعه منهُ، عَن سليمان بنِ كثير، عَن
الزهري، عَن عروة، عَن عائشة: استحيضت زينب بنت جحش، فقالَ
لها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اغتسلي
لكل صلاة)) .
وابن إسحاق وسليمان بنِ كثير، في روايتهما عَن الزهري
اضطراب كثير، فلا يحكم بروايتهما عَنهُ معَ مخالفة حفاظ
أصحابه.
وروى يزيد بنِ عبد الله بنِ الهاد، عَن أبي بكر - هوَ: ابن
حزم -، عَن عمرة، عَن عائشة، أن أم حبيبة بنت جحش كانت تحت
عبد الرحمن بنِ عوف، وأنها استحيضت فلا تطهر، فذكر شأنها
لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالَ:
((ليست بالحيضة، ولكنها ركضة مِن الرحم، فلتنظر قدر قرئها
التي كانت تحيض لَهُ، فلتترك الصلاة، ثُمَّ لتنظر ما بعد
ذَلِكَ فلتغتسل [عند] كل صلاة، ولتصل)) .
خرجه الإمام أحمد والنسائي.
وَهوَ مخالف لرواية الزهري، عَن عمرة، كَما سبق، ورواية
الزهري أصح.
وقال الإمام أحمد: كل مِن روى عَن عائشة: الأقراء الحيض،
فَقد أخطأ. قالَ: وعائشة تقول: الأقراء الأطهار.
وكذا قالَ الشَافِعي في
(2/166)
رواية الربيع، وأشار إلى أن رواية الزهري
أصح مِن هَذهِ الرواية.
وحكى الحاكم عَن بعض مشايخه: أن حديث ابن الهاد غير محفوظ.
وقد روى أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر
أم حبيبة بالغسل لكل صلاة -: يحيى بنِ أبي كثير، عَن أبي
سلمة، عَن زينب بنت أبي سلمة.
خرجه أبو داود.
وقد اختلف في إسناده على يحيى، والصحيح: عَنهُ، عَن أبي
سلمة - مرسلاً -: قاله أبو حاتم، معَ أن رواية زينب بنت
أبي سلمة مرسلة - أيضاً -، وقيل: عَنهُ، عَن أبي سلمة، عَن
أم حبيبة، ولا يصح.
ورواه الأوزاعي، عَن يحيى، عَن أبي سلمة مرسلاً، وجعل
المستحاضة زينب بنت أبي سلمة، وَهوَ وهم فاحش؛ فإن زينب
حينئذ كانت صغيرة.
وقد روي عَن طائفة مِن الصحابة والتابعين أن المستحاضة
تغتسل لكل صلاة، ومنهم مِن حمل ذَلِكَ على الوجوب.
وقد روي عَن ابن عباس أنه قالَ: لا أجد لها إلا ذَلِكَ.
ومنهم مِن حمله على الاستحباب، وقد حكي الوجوب رواية عَن
أحمد، والمشهور عَنهُ الاستحباب كقول الأكثرين.
(2/167)
وقد تعلق بعضهم للوجوب بأن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها أن تغتسل وتصلي، وهذا
يعم كل صلاة؛ فإنه كالنهي أن تصلي حتى تغتسل، وقد فهمت
المأمورة ذَلِكَ، فكانت تغتسل لكل صلاة، وهي أفهم لما أمرت
بهِ.
ويجاب عَن ذَلِكَ، بأنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إنما أمرها أن تغتسل إذا ذهبت أيام حيضتها،
فلا يدخل في ذَلِكَ غير الغسل عند فراغ حيضتها، وأما ما
فعلته فَقد تكون فعلته احتياطاً وتبرعاً بذلك -: كذلك قاله
الليث بنِ سعد وابن عيينة والشافعي وغيرهم مِن الأئمة.
ويدل على أن أمرها بالغسل لَم يعم كل صلاة: أن عائشة روت
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها أن
تغتسل، وقالت عائشة: ((فكانت تغتسل لكل صلاة)) ، فدل على
أن عائشة فهمت مِن أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - غير ما فعلته المستحاضة، وعائشة راوية الحديث،
وهي أفقه وأفهم مِن غيرها مِن النساء.
وقد ذهب مالك والشافعي - في أشهر قوليه - في المتحيرة -
وهي: المستحاضة التي نسيت وقتها وعددها ولا تمييز لها -
أنها تغتسل لكل صلاة وتصلي أبداً.
واختلف أصحاب الشَافِعي: هل تقضي أم لا؟ على وجهين لَهُم،
واختار ابن سريج مِنهُم: أنها تصلي كل يوم وليلة عشر صلوات
بست اغتسالات وأربعة وضوآت، ليسقط الفرض عنها بيقين.
(2/168)
وفي هَذا حرج عظيم، وعسر شديد، والكتاب
ناطق بانتفائه عَن هَذهِ الأمة، فكيف تكلف بهِ امرأة ضعيفة
مبتلاة، معَ أن دين الله يسر - وليس بعسر.
وذهبت طائفة: إلى أن المستحاضة تغتسل كل يوم غسلاً واحد،
وروي عَن أحمد ما يدل على وجوبه. وعند أحمد وإسحاق: لها أن
تجمع بين الصلاتين بغسل
واحد، وفي ذَلِكَ أحاديث مرفوعة عَن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[مخرجة] في ((السنن)) .
وأما قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((هَذا عرق)) ، وتبويب البخاري هاهنا على هَذهِ اللفظة،
فَقد سبق الكلام على معناه مستوفى في ((باب: الاستحاضة)) .
وليس في حديث الزهري الذِي خرجه البخاري في هَذا الباب أن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المستحاضة
أن تدع الصلاة أيام حيضها، كَما في حديث هشام بنِ عروة
وعراك بنِ
مالك، عَن عروة، لكن في حديث هشام: أن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر فاطمة بنت أبي حبيش، وفي
حديث عراك: أمر أم حبيبة بنت جحش.
وقد ذكر الأوزاعي، عَن الزهري في حديثه هَذا، أنه - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ لأم حبيبة: ((إذا أقبلت
الحيضة فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي)) ، وتفرد
بذلك.
وكذلك روى ابن عيينة، عَن الزهري، أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها،
وَهوَ وهم منهُ - أيضاً -: قاله الإمام أحمد وأبو داود
وغيرهما ورواه محمد بنِ عمرو، عَن الزهري، وزاد
(2/169)
فيهِ: ((إذا كانَ دم الحيض، فإنه أسود
يعرف)) ، وقيل: إنه وهم منهُ - أيضاً -، لكنه جعله عَن
عروة، عَن فاطمة بنت أبي حبيش.
ورواه سهيل، عَن الزهري، عَن عروة، عَن أسماء بنت عميس،
وزاد فيهِ هَذا المعنى - أيضاً.
وقد سبق ذكر ذَلِكَ في ((باب: الاستحاضة)) .
والمحفوظ عَن الزهري في هَذا الحديث: ما رواه عَنهُ أصحابه
الحفاظ، وليس فيهِ شيء مِن ذَلِكَ. والله [سبحانه وتعالى]
أعلم.
(2/170)
27 - باب
المرأةِ تحيضُ بعدَ الإفاضةِ
خرج فيهِ حديثين:
أحدهما:
(2/171)
328 - مِن حديث: عمرة، عَن عائشة، أنها
قالت لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن
صفية قَد حاضت، فقالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((لعلها تحبسنا، ألم تكن طافت معكن؟)) قالوا:
بلى. قالَ: ((فاخرجي)) .
والثاني:
(2/171)
329 - مِن حديث: طاوس، عَن ابن عباس، قالَ:
رخص للحائض أن تنفر إذا حاضت.
(2/171)
330 - وكان ابن عمر يقول في أول أمره: إنها
لا تنفر، ثُمَّ سمعته يقول: تنفر؛ إن رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص لهن.
(2/171)
قَد سبق أن الحائض ممنوعة مِن الطواف في
حال حيضها، فإن حاضت قبل طواف الإفاضة فإنها لا تنفر حتى
تطوف للإفاضة، وإن طافت طواف الإفاضة، ثُمَّ حاضت، فذهب
جمهور أهل العلم إلى أنها تنفر، كَما دلت عليهِ هَذهِ
الأحاديث الثلاثة - أعني: حديث عائشة، وابن عمر، وابن
عباس.
وقد روي عَن عمر، وابنه عبد الله، وزيد بنِ ثابت، أنهم
قالوا: لا تنفر حتى تطهر، وتطوف للوداع. ووافق جماعة مِن
الأنصار زيد بنِ ثابت في قولُهُ هَذا، وتركوا قول ابن
عباس.
فأما ابن عمر: فَقد صح عَنهُ برواية طاوس هَذهِ أنه رجع
عَن ذَلِكَ.
وأما زيد: ففي ((صحيح مسلم)) عَن طاوس - أيضاً -، أنه
قالَ: كنت معَ ابن عباس إذ قالَ زيد بنِ ثابت: أتفتي أن
تصدر الحائض قبل أن يكون عهدها بالبيت؟ فقالَ لَهُ ابن
عباس: إمَّا لا، فسل فلانة الأنصارية، هل أمرها بذلك رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالَ: فرجع زيد
إلى ابن عباس يضحك، وَهوَ يقول: ما أراك إلا قَد صدقت.
وأما عمر: فَقد روي - أيضاً - أنه رجع عما قاله في ذَلِكَ،
فروى عبد الرزاق، أبنا محمد بنِ راشد، عَن سليمان بنِ
موسى، عَن نافع، قالَ: رد عمر نساء مِن ثنية هرشي، وذلك
أنهن أفضن يوم النحر، ثُمَّ
(2/172)
حضن فنفرن، فردهن حتى يطهرن ويطفن بالبيت،
قالَ: ثُمَّ بلغ عمر بعد ذَلِكَ حديث [غير] ما صنع، فترك
عمر صنيعه الأول.
قالَ: وأبنا محمد بنِ راشد: أخبرني عبدة بنِ أبي لبابة،
عَن هشام بنِ يحيى المخزومي، أن رجلاً مِن ثقيف أتى عمر
بنِ الخطاب، فسأله عَن امرأة زارت يوم
النحر، ثُمَّ حاضت؟ قالَ: فلا تنفر حتى تطهر، فيكون آخر
عهدها بالبيت، فقالَ الرجل: فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر في مثل هَذهِ المرأة بغير ما
أفتيت، فضربه عمر بالدرة، وقال: ولم تستفتني في شيء قَد
أفتى فيهِ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
!
وخرج الإسماعيلي في ((مسند عمر)) مِن طريق هشام بنِ عمار:
ثنا صدقة: ثنا الشعيثي، عَن زفر بنِ وثيمة، أن رجلاً مِن
ثقيف أتى عمر، فقالَ: امرأة منا حاضت، وقد أفاضت يوم
النحر؟ فقالَ: ليكن آخر عهدها بالبيت. فقالَ: إن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفتى امرأة منا أن
تصدر، فحمل عمر عليهِ، فضربه، وقال: تستفتيني في شيء قَد
أفتى فيهِ
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ !
وقد روي على وجه آخر، خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي
من رواية الوليد بن عبد الرحمن، عن الحارث بن عبد الله بن
أوس، قالَ: أتيت عمر بن الخطاب، فسألته عن المرأة تطوف
بالبيت يوم النحر، ثم تحيض؟ فقالَ: ليكن آخر
(2/173)
عهدها
بالبيت. قالَ الحارث: كذلك أفتاني رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالَ عمر: أربت عن يديك،
سألتني عن شيء سألت عنه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لكيما أخالف.
والوليد هذا، ليس بالمشهور.
وخرجه الإمام أحمد والترمذي من طريق آخر، عن الحارث بن عبد
الله بن
أوس، قالَ: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- يقول: ((من حج هذا البيت أو اعتمر فليكن آخر عهده
بالبيت)) . فقالَ لهُ عمر: خررت من يديك، سمعت هذا من رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم تخبرنا به.
وفي إسناده: حجاج بن أرطاة، وقد اختلف عليهِ في إسناده.
وهذه الرواية تدل على أن الحارث بن أوس لم يسمع من النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحائض بخصوصها إذا
كانت قد أفاضت: أنها تحتبس لطواف الوداع، إنما سمع لفظاً
عاماً، وقد صح الإذن للحائض إذا كانت قد طافت للإفاضة أن
تنفر، فيخص من ذَلِكَ العموم، وعلى هذا عمل العلماء كافة
من الصحابة فمن بعدهم.
وقد روى عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبي فروة، أنه سمع
القاسم بن محمد يقول: رحم الله عمر، كل أصحاب محمد -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أمروها
(2/174)
بالخروج. يقول: إذا كانت أفاضت.
وروى بإسناده عن سعد بن أبي وقاص، أنه ذكر لهُ قول عمر: لا
تنفر حتى تطهر ليكون آخر عهدها بالبيت، فقالَ: ما يجعلها
حراماً بعد إذ حلت، إذا كانت قد طافت يوم النحر فقد حلت،
فلتنفر.
يشير سعد إلى أن من طاف طواف الإفاضة فقد حل الحل كله، فلا
يكون محتبساً بعد حله، وإنما يبقى عليهِ بقايا من توابع
المناسك، كالرمي والمبيت بمنى وطواف الوداع، فما أمكن
الحائض فعله من ذَلِكَ كالرمي والمبيت فعلته، وما تعذر
فعله عليها كالطواف سقط عنها، ولم يجز إلزامها بالاحتباس
لهُ.
وكل من خالف في ذَلِكَ فإنما تمسك بعموم قد صح تخصيصه
بنصوص صحيحة خاصة بالحائض، ولم يصح عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحائض بخصوصها نهي أن
تنفر.
وحديث الرجل الثقفي الذي حدث عمر بما سمع من النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد روي على ثلاثة أوجه
كما سبق، وأسانيده ليس بالقوية، فلا يكون معارضاً لأحاديث
الرخصة للحائض في النفر؛ فإنها خاصة، وأسانيدها في غاية
الصحة والثبوت.
(2/175)
28 - باب
إذا رأتِ المستحاضةُ الطهرَ
قالَ ابن عباس: تغتسل وتصلي، ولو ساعة، ويأتيها زوجها إذا
صلت؛ الصلاة أعظم.
هذا الأثر، ذكره أبو داود تعليقاً، فقالَ: روى أنس بن
سيرين، عن ابن عباس في المستحاضة، قالَ: إذا رأت الدم
البحراني فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل
وتصلي.
وقد ذكره الإمام أحمد واستحسنه، واستدل به وذهب إليه.
وقال في رواية الأثرم وغيره: ثنا إسماعيل - هوَ: ابن علية
-: ثنا خالد الحذاء، عن أنس بن سيرين، قالَ: استحيضت امرأة
من آل أنس، فأمروني، فسألت ابن عباس، فقالَ: أما ما رأت
الدم البحراني فإنها لا تصلي، وإذا رأت الطهر ساعة فلتغتسل
ولتصل.
قالَ أحمد: ما أحسنه.
والدم البحراني: قيل: هوَ الأحمر الذي يضرب إلى سواد.
وروي عن عائشة، أنها قالت: دم الحيض بحراني أسود.
خرجه البخاري في ((تاريخه)) .
(2/176)
وقيل: البحراني هوَ الغليط الواسع الذي
يخرج من قعر الرحم، ونسب إلى البحر لكثرته وسعته.
وقول ابن عباس: ((إذا رأت الطهر ساعة من نهار فلتغتسل
ولتصل)) ، محمول على غير المستحاضة؛ فإن المستحاضة تصلي
إذا جاوزت أيام حيضها، سواء انقطع دمها أو لم ينقطع، وإذا
اغتسلت عندَ انقضاء حيضها وصلت، ثم انقطع دمها بعد ذَلِكَ؛
فلا غسل عليها عندَ انقطاعه، وإنما يصح حمل هذا على الدم
الجاري في أيام الحيض، وأنه إذا انقطع ساعة فهي طاهر تغتسل
وتصلي، وسواء كانَ بعد تمام عادة الحيض أو قبل تمام
العادة.
وقد ذهب الإمام أحمد إلى قول ابن عباس في هذا، واستدل به،
وعليه أكثر أصحابنا. ومنهم من اشترط مع ذَلِكَ: أن ترى
علامة الطهر مع ذَلِكَ، وهو القصة البيضاء، كما سبق ذكرها.
وعن أحمد: لا يكون الطهر في خلال دم الحيض أقل من يوم،
وصحح ذَلِكَ بعض الأصحاب؛ فإن دم الحيض لا يستمر جريانه،
بل ينقطع تارة ويجري تارة، فإذا كانَ مدة انقطاعه يوماً
فأكثر فهوَ طهر صحيح، وإلا فلا.
وحكى الطحاوي الإجماع على أن انقطاع الدم ساعة ونحوها لا
(2/177)
عبرة به، وأنه كالدم المتصل، وليس كما
ادعاه.
ومن العلماء: من ذهب إلى أن مدة النقاء في أثناء خلال الدم
وإن طالت، إذا عاد الدم بعد ذَلِكَ في مدة الحيض يكون
حيضاً، لا تصلي فيهِ ولا تصوم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه،
والثوري، وأحد قولي الشافعي، وروي ابن منصور عن أحمد نحوه.
وتعرف المسألة بمسألة التلفيق، ولها فروع وتفاصيل كثيرة
جداً.
وحينئذ؛ ففي تبويب البخاري: ((المستحاضة إذا رأت الطهر))
نظر، بل الأولى أن يقال: ((الحائض إذا رأت الطهر ساعة)) .
وإنما اعتمد على لفظ الرواية عن ابن عباس، ولعل ابن عباس
أراد أن المستحاضة إذا كانت مميزة جلست زمن دمها الأسود،
فإذا انقطع الأسود ولو ساعة فإنه زمن طهرها، فتغتسل وتصلي
حينئذ.
وقد حمله إسحاق بن راهويه على مثل هذا، فقالَ في رواية حرب
- في استدلاله على اعتبار التمييز للمستحاضة بحديث: ((إذا
كانَ دم الحيض، فإنه أسود يعرف)) ، الحديث -، قالَ: وكذلك
روي عن ابن عباس، أنه قالَ لامرأة مستحاضة: أما ما دامت
ترى الدم البحراني فلتدع الصلاة، فإذا جاوزت ذَلِكَ اغتسلت
وصلت.
وكذلك وقع في كلام الإمام أحمد في رواية الشالنجي حمل كلام
(2/178)
ابن عباس على مثل هذا، وهو يرجع إلى أن
المستحاضة تعمل بالتمييز، فتجلس زمن الدم الأسود، فإذا
انقطع عنها ورأت حمرةً أو صفرةً أو كدرةً فإن ذَلِكَ
طهرها، فتغتسل حينئذ وتصلي. والله أعلم.
وأما ما ذكر البخاري، أنه يأتيها زوجها إذا صلت؛ الصلاة
أعظم، فظاهر سياق حكايته يقتضي أن ذَلِكَ من تمام كلام ابن
عباس، ولم نقف على إسناد ذَلِكَ عن ابن عباس، وليس هوَ من
تمام رواية أنس بن سيرين في سؤاله لابن عباس عن المستحاضة
من آل أنس.
وقد روي عن ابن عباس من وجه آخر الرخصة في وطء المستحاضة
من رواية ابن المبارك، عن أجلح، عن عكرمة، عن ابن عباس،
قالَ في المستحاضة: لا بأس أن يجامعها زوجها.
ويحتمل أن يكون البخاري ذكر هذا الكلام من عندَ نفسه بعد
حكايته لما قبله عن ابن عباس.
وهذا الكلام إنما يعرف عن سعيد بن جبير:
روى وكيع، عن سفيان، عن سالم الأفطس، قالَ: سألت سعيد بن
جبير عن المستحاضة يجامعها زوجها؟ قالَ: لا بأس به؛ الصلاة
أعظم من الجماع.
(2/179)
وممن رخص في ذَلِكَ: ابن المسيب والحسن
وعطاء وبكر المزني وعكرمة وقتادة ومكحول، وهو قول الأوزاعي
والثوري والليث وأبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحاق وأبي
ثور، ورواية عن أحمد.
وقد تقدم أن أم حبيبة لما استحيضت كانت تحت عبد الرحمن بن
عوف، وحمنة كانت تحت طلحة، وقد سألتا النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن حكم الاستحاضة فلم يذكر لهما
تحريم الجماع، ولو كانَ حراماً لبينه.
وفي ((سنن أبي داود)) عن عكرمة، عن حمنة بنت جحش، أنها
كانت تستحاض وكان زوجها يجامعها. قالَ: وكانت أم حبيبة
تستحاض وكان زوجها يغشاها؛ ولأن لها حكم الطاهرات في
الصلاة والصوم وسائر العبادات، فكذلك في الوطء.
وقالت طائفة: لا توطأ المستحاضة، وروي ذَلِكَ عن عائشة، من
رواية سفيان، عن غيلان - هوَ: ابن جامع -، عن عبد الملك بن
مسيرة، عن الشعبي، عن قمير - امرأة مسروق -، عن عائشة،
أنها كرهت أن يجامعها زوجها.
(2/180)
خرجه وكيع في ((كتابه)) ، عن سفيان، به.
ورواه [شعبة] ، عن عبد الملك بن ميسرة، عن الشعبي، واختلف
عليهِ فيهِ، فوقفه بعض أصحاب شعبة، عنه على الشعبي، وأسنده
بعضهم عنه إلى عائشة كما رواه غيلان -: ذكر ذَلِكَ الإمام
أحمد، ولم يجعل ذَلِكَ علة في وصله إلى عائشة، كما فعل
البيهقي وغيره.
وممن نهى عن وطء المستحاضة: ابن سيرين، والشعبي، والنخعي،
والحكم، وسليمان بن يسار، ومنصور، والزهري، وروي - أيضاً -
(2/181)
عن الحسن، وهو المشهور عن الإمام أحمد، إلا
أنه رخص فيهِ إذا خشي الزوج على نفسه العنت.
وبدون خوف العنت، فهل النهي عنه للتحريم أو للكراهة؟ حكى
أصحابنا فيهِ روايتين عن أحمد، ونقل ابن منصور وصالح عنه:
لا يأتيها زوجها، إلا أن يطول.
ولعله أراد أنه إذا طالت مدة الاستحاضة شق على الزوج حينئذ
ترك الوطء، فيصير وطؤه من خوف العنت؛ فإن العنت يفسر
بالمشقة والشدة.
وقد قالَ أحمد في رواية حرب: المستحاضة لا يغشاها زوجها
إلا أن لا يصبر. وقال في رواية علي بن سعيد: لا يأتيها
زوجها إلا أن يغلب ويجيء أمر شديد،
لا يصبر.
وقال أبو حفص البرمكي: معنى قول أحمد: ((لا يأتيها زوجها
إلا أن يطول)) ، ليس مراده أنه يباح إذا طال ويمنع منه إذا
قصر، ولكن أراد: إذا طال علمت أيام حيضها من استحاضتها
يقيناً، وهذا لا تعلمه إذا قصر ذَلِكَ.
وكذلك روى حرب عن إسحاق بن راهويه، قالَ: الذي نختار في
غشيان المستحاضة: إذا عرفت أيام أقرائها ثم استحيضت
(2/182)
ولم يختلط عليها حيضها، أن يجامعها زوجها،
وتصلي وتصوم، وإذا اختلط عليها دم حيضها من استحاضتها،
فأخذت بالاحتياط في الصلاة بقول العلماء، وتحرت أوقات
[حيضها] من استحاضتها ولم تستيقن بذلك أن لا يغشاها زوجها
حتى تكون على يقين من استحاضتها.
فهذا قول ثالث في وطء المستحاضة، وهو: إن تيقنت استحاضتها
بتميزها من حيضها جاز وطؤها فيها، وإن لم تكن على يقين من
ذَلِكَ لم توطأ؛ لاحتمال وطئها في حال حيضها.
ومذهب الشافعي وأصحابه: أن المتحيرة الناسية لعادتها ولا
تميز لها تغتسل لكل صلاة، وتصلي أبداً، ولا يأتيها زوجها؛
لاحتمال مصادفته الحيض.
ونقض أصحابنا ذَلِكَ عليهم في المعتادة، والمبتدأة بعد
الشهر الأول؛ فإن زيادة الحيض ونقصه، وتقدمه وتأخره ممكن -
أيضاً.
واستدل من نهى عن وطء المستحاضة مطلقاً بقول الله عز وجل:
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً
فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]
ودم الاستحاضة أذى؛ ولهذا حرم الوطء في الدبر؛ لأنه محل
الأذى.
وروى حرب بإسناد جيد، عن مرثد بن عبد الله اليزني، قالَ:
سمعت عقبة بن عامر يقول: والله، لا أجامع امرأتي في اليوم
الذي تطهر فيهِ حتى يصير لها يوم.
وهذا محمول على التنزه والاحتياط خشية عود دم الحيض. والله
أعلم.
(2/183)
واختلفوا في الحائض المعتادة: إذا طهرت
لدون عادتها: هل يكره وطؤها أم لا؟ على قولين:
أحدهما: يكره، وهو قول أبي حنيفة، والأوزاعي، وأحمد في
رواية،
وإسحاق؛ لأن عود الدم لا يؤمن.
والثاني: لا يكره، وهو قول الشافعي، ورواية عن أحمد.
ثم خرج البخاري في هذا الباب:
(2/184)
331 - حديث: هشام، عن أبيه، عن عائشة،
قالت: قالَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك
الدم وصلي)) .
وقد سبق هذا الحديث والكلام عليهِ.
وإنما خرجه هاهنا؛ لأنه يرى أن إقبال الحيض وإدباره المراد
به التميز، فإقبال الحيضة: إقبال الدم الأسود. وإدباره:
انفصال الأسود وانتقاله إلى غيره، فيكون ذَلِكَ موافقاً
لما أفتى به ابن عباس، على ما حمل كلامه عليهِ أحمد
وإسحاق، كما سبق. والله أعلم.
(2/184)
29 - باب
الصلاةِ على النفساءِ وسنتها
خرج فيهِ:
(2/185)
332 - من حديث: شعبة، عن حسين المعلم، عن
ابن بريدة، عن سمرة ابن جندب، أن امرأة ماتت في بطن، فصلى
عليها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقام
وسطها.
لم يخرج البخاري في أحكام النفساء سوى هذا الحديث، كأنه لم
يصح عنده في أحكام النفاس حديث على شرطه.
وليس في هذا الحديث سوى الصلاة على النفساء إذا ماتت في
نفاسها.
وقد اعترض الإسماعيلي على البخاري في ذَلِكَ، وقال: ليس في
الحديث إلا أنها ماتت في بطن، والمراد: أنها ماتت مبطونة،
فلا مدخل للحديث في النفاس بالكلية.
وهذا الذي قاله غير صحيح؛ فإنه قد خرجه البخاري في
((الجنائز)) ، ولفظه: ((صلى على امرأة ماتت في نفاسها،
فقام وسطها)) .
وخرجه مسلم
(2/185)
كذلك - أيضاً.
ويؤخذ من هذا الحديث: أن [دم] النفاس وإن كانَ يمنع
النفساء، من الصلاة فلا يمنع من الصلاة عليها إذا ماتت
فيهِ، وكذلك دم الحيض، فإنه يصلى على الحائض والنفساء إذا
ماتتا في دمهما، كما يصلى على الجنب إذا مات، وكل منهم
يغسل ويصلى عليهِ، إلا أن يكون شهيداً في معركة.
فإن استشهد في معركة وكان عليهِ غسل جنابة أو حيض أو نفاس،
فهل يغسل أم لا؟ فيهِ روايتان عن أحمد، أشهرهما: أنه يغسل.
وعلى هذا: فلو استشهدت من هي حائض أو نفساء في دمها قبل
انقطاعه، ففي غسلها وجهان، بناهما الأصحاب على أن الموجب
لغسل الحيض والنفاس: هل هوَ خروج الدم، أو انقطاعه؟
ولو خرج البخاري هاهنا حديث: أمر النَّبيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء بنت عميس لما نفست بمحمد بن
أبي بكر بالشجرة أن تغتسل وتهل، لكان حسناً؛ فإنه يدل على
أن حكم النفاس حكم الحيض في الإهلال بالحج.
وقد خرجه مسلم من حديث جابر وعائشة، إلا أن حديث جابر
(2/186)
ليس هوَ على شرط البخاري.
ودم النفاس حكمه حكم دم الحيض فيما يحرمه ويسقطه، وقد حكى
الإجماع على ذَلِكَ غير واحد من العلماء، منهم: ابن جرير
وغيره.
واختلف العلماء في أقل النفاس وأكثره:
أما أقله:
فأكثرهم على أنه لا حد لهُ، وأنها لو ولدت ورأت قطرة من دم
كانت نفاساً، وهو قول عطاء، والشعبي، والثوري، ومالك،
والشافعي، وأحمد في ظاهر مذهبه، وإسحاق، وأبي ثور، ومحمد
بن الحسن وغيرهم، وهو الصحيح عن أبي حنيفة وأبي يوسف.
وعن أبي حنيفة رواية: أقله خمسة وعشرون يوماً. وعن أبي
يوسف، أقله أحد عشر يوماً. وعن الثوري رواية: أقله ثلاثة
أيام، كالحيض عنده، وحكي عن أحمد رواية كذلك: أن أقله
ثلاثة أيام، وحكي عنه رواية: أن أقله يوم. وعن المزني:
أقله اربعة أيام. وعن الحسن: أقله عشرون يوماً.
وأما أكثره:
فأكثر العلماء على أن أكثره أربعون يوماً، وحكاه بعضهم
إجماعاً من الصحابة.
قالَ إسحاق: هوَ السنة المجمع عليها. قالَ: ولا يصح في
مذهب من جعله إلى شهرين سنة، إلا عن بعض التابعين.
قالَ الطحاوي: لم يقل بالستين أحد من الصحابة، إنما قاله
بعض من
(2/187)
بعدهم.
وكذا ذكر ابن عبد البر وغير واحد.
وممن روي عنه توقيته بالأربعين من الصحابة: عمر، وعلي،
وابن عباس، وأنس، وعثمان بن أبي العاص، وعائذ بن عمرو، وأم
سلمة.
وممن ذهب إلى هذا: الثوري، وابن المبارك، والليث،
والأوزاعي في رواية، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وأبو
عبيد، والمزني، وحكاه الإمام أحمد عن أهل الحديث، وحكاه
الترمذي عن الشافعي، وهو غريب عنه.
وحكى الترمذي عن الحسن: أن أكثره خمسون يوماً. وعن عطاء
والشعبي: أكثره ستون يوماً.
وقد اختلف فيهِ عن عطاء والحسن، وروي عنهما: أكثره أربعون
يوماً.
(2/188)
وممن قالَ بالستين: الشعبي، والعنبري،
ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وحكي رواية عن أحمد.
وحكى الليث عن بعض العلماء: أن أكثره سبعون يوماً.
وقيل: لا حد لأكثره، وإنما يرجع إلى عادات النساء، وحكي عن
الأوزاعي، وهو رواية عن مالك، ونقل ابن القاسم أن مالكاً
رجع إلى ذَلِكَ.
وحكي عن ربيعة: أكثره ثلاثة أشهر.
وقيل: أكثره من الغلام ثلاثون يوماً، ومن الجارية أربعون
يوماً -: قاله مكحول، وسعيد بن عبد العزيز، وحكاه الأوزاعي
عن أهل دمشق.
وقيل: أكثره من الغلام خمسة وثلاثون يوماً، ومن الجارية
أربعون -: رواه الخشني عن الأوزاعي.
وحكي عن الضحاك: أكثره أربع عشرة ليلة.
(2/189)
وفي الباب أحاديث مرفوعة فيها ضعف.
ومن أجودها: ما خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه
والترمذي من حديث مسة الأزدية، عن أم سلمة، قالت: كانت
النفساء تجلس على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أربعين يوماً.
وخرجه أبو داود بلفظ آخر، وهو: ((كانت المرأة من نساء
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقعد في النفاس
أربعين ليلة، لا يأمرها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بقضاء صلاة النفاس)) .
وصححه الحاكم، وفي متنه نكارة؛ فإن نساء النَّبيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يلد منهن
(2/190)
أحد بعد فرض الصَّلاة؛ فإن خديجة - عليها
السلام - ماتت قبل أن تفرض الصلاة.
ومتى انقطع الدم قبل بلوغ أكثره فهي طاهرة، تصوم وتصلي.
وهل يكره وطؤها، أم لا؟ فيهِ قولان:
أحدهما: أنه يكره، وهو مروي عن طائفة من الصحابة، وأن
النفساء لا توطأ إلا بعد الأربعين، وإن انقطع دمها قبل
ذَلِكَ، منهم: علي، وابن عباس، وعثمان بن أبي العاص، وعائذ
بن عمرو، وأم سلمة، وهو ظاهر مذهب أحمد، وروي - أيضاً - عن
مالك، وسعيد بن عبد العزيز.
وحكي عن أحمد تحريمه.
وقال آخرون: لا يكره ذَلِكَ، وهو قول الأوزاعي، والشافعي،
وحكي رواية عن أحمد.
وعن أبي حنيفة: لا يكره، إلا أن ينقطع دمها لدون عادتها،
فلا توطأ حتى تذهب أيام عادتها.
وقال إسحاق: يكره احتياطا، إلا أن ينقطع لعادة كانت لها
فلا يكره؛ لأن احتمال عوده حينئذ بعيد جداً، فهي كحائض
انقطع دمها لعادتها لدون أكثر الحيض.
(2/191)
30 - باب
خرج فيهِ:
(2/192)
333 - من حديث: سليمان الشيباني، عن عبد
الله بن شداد، قالَ: سمعت خالتي ميمونة زوج النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنها كانت تكون حائضاً لا
تصلي، وهي مفترشة بحذاء مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يصلي على خمرتة، إذا سجد أصابني
بعض ثوبه.
في هذا الحديث دلالة على طهارة ثياب الحائض التي تلبسها في
حال حيضها، وأن المصلي إذا أصابه شيء من ثيابها في
(2/192)
تلك الحال لم تفسد صلاته. وقد سبق هذا
المعنى مستوفى في ((باب: هل تصلي المرأة في ثوب حاضت
فيهِ؟)) .
والظاهر: أن مراد ميمونة في هذا الحديث مسجد بيت النَّبيّ
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كانَ يصلي فيهِ
من بيته؛ لأن ميمونة لا تفترش إلا بحذاء هذا المسجد، ولم
ترد - والله أعلم - مسجد المدينة.
وتأتي باقي فوائد الحديث في ((كتاب الصلاة)) - إن شاء الله
سبحانه وتعالى.
وقد خرج الإمام أحمد والنسائي من حديث منبوذ، عن أمه، عن
ميمونة، قالت: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يضع رأسه في حجر إحدانا يتلو القرآن، وهي
حائض، وتقوم إحدانا بخمرته، إلى المسجد فتبسطها وهي حائض.
والظاهر: حمله - أيضاً - على مسجد البيت.
ويشهد لهُ: أن الإمام أحمد خرجه بلفظ آخر، عن ميمونة،
قالت: كانت إحدانا تقوم وهي حائض فتبسط لهُ خمرةً في
مصلاه، فيصلي عليها في بيتي.
وكذلك: ما خرجه مسلم من حديث عائشة، قالت: قالَ لي رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(2/193)
((ناوليني الخمرة من المسجد)) . قلت: إني
حائض؟ قالَ: ((إن حيضتك ليست في يدك)) .
ومساجد البيوت لا يثبت لها أحكام المساجد عندَ جمهور
العلماء، فلا يمنع الجنب والحائض منها، خلافاً لإسحاق في
ذَلِكَ.
ومن حمل حديث ميمونة وعائشة على مسجد المدينة، استدل
بحديثهما: على أن الحائض لها أن تمر في المسجد لحاجة إذا
أمنت تلويثه. وحكي ذَلِكَ عن طائفة من السلف، منهم: ابن
المسيب، وعطاء، والحسن، وسعيد بن جبير، وزيد بن أسلم،
وعمرو بن دينار، وقتادة، وهو قول الشافعي وأحمد.
واختلف أصحابنا: هل يباح لها الدخول لأخذ شيء ووضعه، أم لا
يباح إلا للأخذ خاصة؟ على وجهين.
ونص أحمد: على أنه لا يباح إلا للأخذ خاصة في رواية حنبل.
وقال إسحاق: هما سواء.
وحديث ميمونة فيهِ الدخول لبسط الخمرة، وهو دخول لوضع.
وكل من منع الجنب من المرور في المسجد لغير ضرورة منع منه
الحائض،
وأولى، وهو قول الثوري، وأبي حنيفة، ومالك، وإسحاق.
ومنهم: من أباحه للجنب دون الحائض، كالأوزاعي، ومالك في
رواية؛ لأن حدث الحيض أفحش من الجنابة وأغلظ، وحكى ابن
عقيل وجهاً لأصحابنا بمثل ذَلِكَ. والله سبحانه وتعالى
أعلم.
* * *
(2/194)
|