المكان الذي يعمل فيه المرء عمله وينتشر
فيه لمصالح اكتسابه ونحو ذلك.
وهذا مما يدل على أن المراد بالدرن الصغائر التي تصيب
الأنسان في كسبه ومعاشه ومخالطته للناس المخالطة
المباحة.
(4/227)
7 - باب
في تضييع الصلاة عن وقتها
(4/228)
529 - حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا مهدي، عن
غيلان، عن أنس، قال: ما أعرف شيئاً مما كان على عهد
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيل:
الصلاة؟ قال: أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها؟
(4/228)
530 - حدثنا عمرو بن زرارة: ثنا عبد الواحد
بن واصل أبو عبيدة الحداد، عن عثمان بن أبي رواد أخي
عبد العزيز، قال: سمعت الزهري يقول: دخلت على أنس بن
مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف
شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت.
وقال بكر بن خلف: حدثنا محمد بن بكر البرساني: أبنا
عثمان بن أبي رواد نحوه.
إنما كان يبكي أنس بن مالك من تضييع الصلاة إضاعة
مواقيتها، وقد جاء ذلك مفسراً عنه، وروى سليمان بن
المغيرة، عن ثابت، قال: قال أنس: ما أعرف فيكم
(4/228)
اليوم شيئاً كنت أعهده على عهد رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ليس قولكم: لا إله
إلا الله. قلت: يا أبا حمزة، الصلاة؟ قال: قد صليتم
حين تغرب الشمس، فكانت تلك صلاة رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ !.
خرجه الإمام أحمد.
ورواه حماد بن سلمة، أن ثابتاً أخبره، قال: قال أنس:
ما شيء شهدته على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا وقد أنكرته اليوم، إلا
شهادتكم هذه. فقيل: ولا الصلاة؟ فقال: إنكم تصلون
الظهر مع المغرب، أهكذا كان رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يصلي؟ !.
وهذا استفهام إنكار من أنس، يعني: ان هذه لم تكن صلاة
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرج الإمام أحمد من حديث عثمان بن سعد، قال: سمعت أنس
بن مالك يقول: ما أعرف شيئاً مما عهدت مع رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليوم. قيل له: ولا
الصلاة؟ قال: أوليس قد علمت ما صنع الحجاج في الصلاة؟
ويقال: أن الحجاج هو أول من أخر الصلاة عن وقتها
بالكلية، فكان يصلي الظهر والعصر مع غروب الشمس، وربما
كان يصلي الجمعة عند غروب الشمس، فتفوت الناس صلاة
العصر، فكان بعض التابعين يومئ في المسجد الظهر والعصر
خوفا من الحجاج.
وقد روي هذا الحديث عن أنس من وجوه متعددة.
(4/229)
وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي
عمران الجوني، عن أنس، قال: ما أعرف شيئاً مما كنا
عليه على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -. قلت: أين الصلاة؟ قال: أو لم تصنعوا في
صلاتكم ما قد علمتم؟
وغيلان - الذي خرجه البخاري من طريقه أولاً، عن أنس -
هو: ابن جرير، رواه عنه مهدي بن ميمون.
وعثمان بن أبي رواد هو اخو عبد العزيز بن أبي رواد،
يكنى: أبا عبد الله. قال ابن معين: كان ثقة. وقد روى
عنه شعبة وغيره، وقد بين البخاري أنه روى عنه هذا
الحديث: أبو عبيدة الحداد ومحمد بن بكر البرساني.
وبكر بن خلف الذي علق البخاري عنه الحديث، يقال له:
ختن المقرئ، يكنى ابا بشر، ثقة، روى عنه أبو داود وابن
ماجه.
ولهم شيخ آخر، يقال له: عثمان بن جبلة بن أبي رواد
المروزي والد عبدان عبد الله بن عثمان، وهو ابن أخي
عثمان هذا، يروي عن شعبة وطبقته، وروى عنه عمه عثمان
بن أبي رواد، وهو ثقة – أيضا -، وقد خرج البخاري عن
أبيه عبدان، عنه.
(4/230)
8 - باب
المصلي يناجي ربه عز وجل
(4/231)
531 - حدثنا مسلم بن إبراهيم: نا هشام، عن
قتادة، عن أنس، قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن أحدكم إذا صلى يناجي ربه،
فلا يتفلن عن يمينه، ولكن تحت قدمه اليسرى)) .
وقال سعيد، عن قتادة: ((لا يتفل قدامه أو بين يديه.
ولكن عن يساره أو تحت قدمه)) .
وقال شعبة: ((لا يبزق بين يديه، ولا عن يمينه، ولكن عن
يساره أو تحت قدمه)) .
وقال حميد، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((لا يبزق في القبلة، ولا عن يمينه، ولكن
عن شماله، أو تحت قدمه)) .
(4/231)
532 - حدثنا حفص بن عمر: ثنا يزيد بن
إبرهيم: ثنا قتادة، عن أنس عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: ((اعتدلوا في السجود،
ولا يبسط احدكم ذراعية كالكلب، وإذا بزق فلا يبزق بين
يديه، ولا عن يمينه؛ فإنه يناجي ربه عز وجل)) .
(4/231)
عامة إلفاظ حديث أنس التي علقها هاهنا قد
خرجها في " أبواب القبلة والبزاق في المسجد". وخرج
هناك مناجاة المصلي لربه عز وجل من حديث أبي هريرة،
ومعناه من حديث ابن عمر، وذكرنا نحن هناك أحاديث
متعددة في هذا المعنى، وتكلمنا [على ذلك] بما فيه
كفاية.
والنجاء: الحديث الخفي. والنداء: عكسه.
وإنما خرج البخاري هذه الأحاديث في هذا الباب ليبين
بذلك فضل الصلاة، وإن المصلى مناج لربه في صلاته، وإذا
كان المصلي مناجياً لربه وكان ربه قد أوجب عليه أن
يناجيه كل يوم وليلة خمس مرات في خمس أوقات، واستدعاه
لمناجاته بدخول الوقت والأذان فيه؛ فإن الأذان يشرع في
أول الوقت، فإفضل المناجين له أسرعهم إجابة لداعيه،
وقيأماإلى مناجاته، ومبادرة إليها في أول الوقت.
ولهذا المعنى - والله أعلم - خرجه في " أبواب مواقيت
الصلاة".
ويستدل لذلك بأن الله تعالى لما استدعى موسى عليه
السلام لمناجاته وكلامه أسرع إليه، فقال له ربه:
{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى قَالَ هُمْ
أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ
لِتَرْضَى} [طه: 83، 84] فدل على أن المسارعة إلى
مناجاة الله توجب رضاه.
وهذا دليل حسن على فضل الصلاة في أول أوقاتها. والله
سبحانه وتعالى أعلم.
(4/232)
9 - باب
الإبراد بالظهر في شدة الحر
خرج فيه أربعة أحاديث:
الحديث الأول:
قال:
(4/233)
533، 534 - ثنا أيوب بن سليمان بن بلال:
ثنا أبو بكر، عن سليمان، قال صالح بن كيسان: حدثنا
الأعرج عبد الرحمان وغيره، عن أبي هريرة - ونافع مولى
عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر -، أنهما حدثاه
عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
أنه قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة؛ فإن شدة
الحر من فيح جهنم)) .
أبو بكر، هو: ابن أبي أويس. وسليمان، هو: ابن بلال.
وهذا من جملة نسخة يرويها أيوب، عن أبي بكر، عن
سليمان. والبخاري يخرج منها كثيراً، وقد توقف فيها أبو
حاتم الرازي؛ لأنها مناولة، فإنه قال: قال ابن أبي
أويس: أخذت أنا وأيوب بن سليمان بن بلال من أخي ألفاً
ومائتي ورقة مناولة، فعارضنا بها. قال أبو حاتم: فزهدت
فيها من أجل ذلك، فلم أسمعها من واحد منهما.
(4/233)
ولكن الرواية بالمناولة جائزة عند
الأكثرين.
وقد ذكر الطبراني أن هذا الحديث تفرد به أيوب بهذا
الإسناد.
ولكن قد روي حديث الأعرج، عن أبي هريرة من غير هذا
الوجه.
خرجه ابن ماجه عن هشام بن عمار، عن مالك، عن أبي
الزناد، عنه. وهو في " الموطا" كذلك.
وكذلك حديث نافع، خرجه ابن ماجة - أيضا - من طريق
الثقفي، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((أبردوا
بالظهر)) .
الحديث الثاني:
(4/234)
535 - حدثنا محمد بن بشار: ثنا غندر ثنا
شعبة، عن المهاجر أبي الحسن: سمع زيد بن وهب، عن أبي
ذر: أذن مؤذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- الظهر، فقال: ((أبرد، أبرد)) - او قال - ((انتظر،
انتظر)) - وقال: ((شدة الحر من فيح جهنم؛ فإذا اشتد
الحر فأبردوا عن الصلاة)) . حتى رأينا فيء التلول.
قال ابن خراش في " تاريخه": زيد بن وهب، كوفي ثقة، دخل
الشام، وروايته عن أبي ذر صحيحة. والمهاجر أبو الحسن
صدوق كوفي.
(4/234)
وهذا الحديث لم يروه إلا شعبة: ((أبردوا
بالظهر)) .
الحديث الثالث:
قال:
(4/235)
536 - ثنا علي بن عبد الله المديني: ثنا
سفيان، قال: حفظناه من الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن
أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة؛
فإن شدة الحر من فيح جهنم)) .
(4/235)
537 - ((واشتكت النار إلى ربها، فقالت:
ربي، أكل بعضي بعضاً. فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء،
ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما
تجدون من الزمهرير)) .
قول سفيان بن عيينة: ((حفظناه من الزهري عن سعيد))
يشير إلى أنه إنما حفظه عن الزهري، عن ابن المسيب، لم
يحفظه عنه عن أبي سلمة.
وقد روي عن ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد أو أبي سلمة
- بالشك.
ذكره الدارقطني.
(4/235)
وروي عن الزهري، عن أبي سلمة وحده، عن أبي
هريرة -: قاله عنه شعيب بن أبي حمزة.
وقد خرج البخاري في " بدء الخلق" من طريقه بهذا
الإسناد حديث:
((اشتكت النار إلى ربها)) .
ورواه جماعة، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة - معاً -،
عن أبي هريرة.
وقد خرج مسلم حديث: الإبراد من رواية الليث ويونس
وعمرو بن الحارث، عن الزهري، عنهما.
وخرج حديث: ((اشتكت النار)) من حديث يونس، عن ابن
شهاب، عن أبي سلمة وحده.
وروى حديث [الإبراد] عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة -
معاً -: يحيى الأنصاري ... وعبيد الله بن عمر وابن
جريج وابن أبي ذئب ومعمر وغيرهم.
قال الدارقطني: القولان محفوظان عن الزهري.
يعني: عن سعيد وأبي سلمة.
(4/236)
الحديث الرابع:
(4/237)
538 - حدثنا عمر بن حفص بن غياث: ثنا أبي:
ثنا الأعمش: ثنا أبو صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أبردوا
بالظهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم)) .
تابعه: سفيان ويحيى وأبو عوانة، عن الأعمش.
يعني: كلهم رووه، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد
الخدري.
وقد خرجه البخاري في " بدء الخلق" عن الفريأبي، عن
سفيان كذلك، ولفظه: ((أبردوا بالصلاة)) .
إلا أن رواية حفص فيها تصريح الأعمش بسماعه له من أبي
صالح، فأمن بذلك تدليسه له عنه.
وإنما ذكر البخاري المتابعة لحفص على قوله؛ لأن عبد
الرزاق والأشجعي روياه، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن
أبي هريرة.
ذكره الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله.
وخرجه كذلك في " مسنده" في " مسند أبي هريرة"، ثم
أتبعه بحديث أبي سعيد أنه هو الصواب.
(4/237)
وكذلك حدث به عبد الرحمان بن عمر الأصبهاني
– ويلقب: رسته -، عن ابن مهدي، عن سفيان، أملاه عليهم
- قال أبي: من حفظه -، فأنكره عليه أبو زرعة، وقال: هو
غلط؛ الناس يروونه عن أبي سعيد، فلما رجع رسته إلى
بلده نظر في أصله فإذا هو عن أبي سعيد، فرجع عما
أملاه، وكتب إلى أبي زرعة يعتذر عما وقع منه.
وعامة روايات هذا الحديث من طرقه إنما فيها: ((أبردوا
بالصلاة)) أو ((عن الصلاة)) ، وليس في شيء منها في "
الصحيح" ذكر " الظهر"، إلا في رواية أبي سعيد التي
خرجها البخاري هاهنا.
وفي أحاديث الباب كله؛ الأمر بالإبراد بالصلاة في
اشتداد الحر.
قال الخطأبي: قوله: ((أبردوا بالصلاة)) أي: تأخروا
عنها مبردين، أي: داخلين في وقت البرد. قال: والمراد:
كسر شدة [حر] الظهيرة؛ لأن فتور حرها بالإضافة إلى وهج
الهاجرة برد، وليس المراد أن يؤخر إلى أحد بردي
النهار، وهو برد العشي؛ إذ فيه الخروج من قول الأمة.
قال: وفيح جهنم شدة استعارها، وأصله السعة والانتشار،
وكانت العرب تقول في غاراتها: فيحي فياح.
(4/238)
وقال غيره: الفيح سطوع الحر، يقال: فاحت
القدر تفوح إذا غلت.
وأماقول صاحب " الغريبين": أبردوا بالظهر: صلوها في
أول وقتها. وبرد النهار أوله.
فهو خطأ، وتغيير للمعنى، وصلاة الظهر في أول وقتها في
شدة الحر ليس إبراداً، بل هو ضده، بخلاف أول النهار،
كما في الحديث: ((من صلى البردين دخل الجنة)) .
وقد بوب البخاري على هذه الأحاديث: ((الإبراد بالظهر
في شدة الحر)) فدل ذلك على أنه يرى الإبراد في شدة
الحر بكل حال، سواء كان في البلاد الحارة أو غيرها،
وسواء كان يصلي جماعة أو وحده.
وهذا قول كثير من أهل العلم، وذكر طائفة من المالكية
كالقاضي إسماعيل وأبي الفرج أنه مذهب مالك، وذكر صاحب
" المغني" من أصحابنا أنه ظاهر كلام أحمد والخرقي،
ورجحه، وكذلك حكاه ابن المنذر عن أحمد وإسحاق، وحكاه
الخطأبي عن أحمد ورجحه ابن المنذر، وحكاه عن أهل
الرأي، وحكاه الترمذي في " جامعه" عن ابن المبارك
وأحمد وإسحاق، ورجحه.
ولذلك ذكر
(4/239)
بعض الشافعية أنه ظاهر الحديث، ومال إليه،
والمنصوص عن الشافعي: أنه لا يستحب الإبراد إلا في شدة
الحر في البلاد الحارة لمن يصلي جماعة في موضع يقصده
الناس من بعد، كذا نص عليه في " الأم"، وعليه جمهور
أصحابه.
ولهم وجه: أنه لا يشترط البلاد الحارة، وحكوا قولاً
للشافعي: أنه لا يشترط بعد المسجد، بل يبرد ولو كانت
منازلهم قريبة منه.
واشترط طائفة من أصحابنا للإبراد: أن تكون الصلاة في
مسجد، قالوا: وسواء كان مما ينتابه الناس أو لا، وأن
تكون البلدان حارة شديدة الحر أو متوسطة.
ومنهم من اشترط مسجد الجماعة فقط.
وكذلك قال ابن عبد الحكم وطائفة من المالكية
العراقيين: أنه لا يبرد إلا بالصلاة في مساجد الجماعة
دون من صلى منفرداً.
وذكر القاضي إسماعيل، عن ابن أبي أويس، عن مالك، قال:
بلغني أن عمر قال لأبي محذورة: إنك بأرض حارة، فأبرد،
ثم أبرد، ثم ناد، فكأنني عندك.
واختلفوا في المعنى الذي لأجله أمر بالإبراد.
فمنهم من قال: هو حصول الخشوع في الصلاة؛ فإن الصلاة
في شدة الحر
(4/240)
كالصلاة بحضرة طعام تتوق نفسه إليه، وكصلاة
من يدافع الأخبثين، فإن النفوس حينئذ تتوق إلى
القيلولة والراحة، وعلى هذا فلا فرق بين من يصلي وحده
أو في جماعة.
ومنهم من قال: هو خشية المشقة على من بعد من المسجد
بمشيه في الحر، وعلى هذا فيختص الإبراد بالصلاة في
مساجد الجماعة التي تقصد من الأمكنة المتباعدة.
ومنهم من قال: هو وقت تنفس جهنم.
وقد ثبت في " صحيح مسلم" من حديث عمرو بن عبسة، عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال:
((الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح، ثم
اقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء،
فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر)) .
وفي " صحيحي ابن خزيمة وابن حبان" من حديث أبي هريرة -
مرفوعاً، قال:
((فإذا انتصف النهار فاقصر عن الصلاة حتى تميل الشمس؛
فإن حينئذ تسعر جهنم، وشدة الحر من فيح جهنم، فإذا
مالت الشمس فالصلاة محضورة مشهودة متقبلة حتى تصلي
العصر)) .
وخرجه ابن ماجه، ولفظه: " فإذا كانت - يعني: الشمس –
على رأسك كالرمح فدع الصلاة؛ فإن تلك الساعة تسعر فيها
جهنم، وتفتح فيها أبوابها، حتى تزيغ الشمس عن حاجبك
الأيمن، فإذا زالت فالصلاة
(4/241)
محضورة متقبلة".
وهذا يدل على أن شدة الحر عقيب الزوال من أثر تسجرها،
فكما تمنع الصلاة وقت الزوال، فإنه يستحب تأخرها بعد
الزوال حتى يبرد حرها ويزول شدة وهجها؛ فإنه إثر وقت
غضب، والمصلي يناجي ربه، فينبغي أن يتحرى بصلاته أوقات
الرضا والرحمة، ويجتنب أوقات السخط والعذاب، وعلى هذا
فلا فرق بين المصلي وحده وفي جماعة – أيضا.
والأمر بالإبراد أمر ندب واستحباب، لا أمر حتم وإيجاب،
هذا مما لا خلاف فيه بين العلماء.
فإن شذ أحد من أهل الظاهر جرياً على عادتهم، ولم يبال
بخرق إجماع المسلمين، كان محجوباً بالإجماع قبله،
وبحديث عمرو بن عبسة وأبي هريرة المذكورين، فإنهما
يصرحان بأن الصلاة بعد الزوال مشهودة محضورة متقبلة،
ولم يفرق بين فرض ونفل.
وذهب طائفة من العلماء إلى أن الإبراد رخصة، وأن تركه
سنة، والصلاة في أول الوقت بكل حال أفضل، وهو قول
الليث بن سعد وطائفة من أصحاب الشافعي.
والأحاديث الصحيحة ترده.
وقد جعل مالك القول بترك الإبراد قول الخوارج.
وأماحد الإبراد، فقال القاضي أبو يعلى من أصحابنا:
يكون بين الفراغ من الصلاة وبين آخر وقت الصلاة فضل.
(4/242)
وقال الشافعية: حقيقة الإبراد: أن يؤخر
الصلاة عن أول الوقت بقدر ما يحصل للحيطان فيء يمشي
فيه طالب الجماعة، ولا يؤخر عن النصف الأول من الوقت.
وحكى سفيان الثوري وإسحاق بن راهوية عن بعض العلماء،
أنه إذا أخر الصلاة إلى نصف وقتها فلم يفرط، وإذا
أخرها حتى كانت إلى وقت الصلاة الأخرى أقرب فقد فرط.
ولعله يريد: أنه يكره ذلك، لا أنه يحرم.
وأماصلاة الظهر في غير شدة الحر، فجمهور العلماء على
أن الأفضل تعجيلها، وفيه خلاف عن مالك يأتي ذكره فيما
بعد - إن شاء الله.
واستدل من لم ير استحباب الإبراد بحديث خباب بن الأرت:
شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حر الرمضاء، فلم يشكنا، وقد ذكرناه في "
باب: السجود على الثوب"، وذكرنا أن الصحيح في تفسيره:
أنهم طلبوا منه تأخير الصلاة بالهاجرة، فلم يجبهم إلى
ذلك، وأمرهم بالصلاة إذا زالت الشمس.
وقد أجيب عنه بوجهين:
أحدهما: أنهم طلبوا منه التأخير الفاحش المقارب آخر
الوقت، فلم يجبهم إليه.
والثاني: أنه منسوخ بالأمر بالإبراد، وهو جواب الإمام
أحمد والأثرم.
واستدلا بحديث المغيرة بن شعبة، قال: كنا نصلي مع رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(4/243)
الظهر بالهاجرة، فقال لنا: ((أبردوا
بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم)) .
خرجه الإمام أحمد وابن حبان في " صحيحه" وابن ماجه.
وزعمت طائفة أن معنى حديث خباب: أنهم شكوا إلى النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم يعذبون في
رمضاء مكة في شدة الحر، وسألوه أن يدعو لهم، فلم
يجبهم.
وهذا بعيد، وألفاظ الحديث ترده، وقد سبق ذكره.
وأماقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((اشتكت النار إلى ربها)) ، فالمحققون من العلماء على
أن الله أنطقها بذلك نطقاًحقيقياً كما ينطق الأيدي
والأرجل والجلود يوم القيامة، وكما أنطق الجبال وغيرها
من الجمادات بالتسبيح والسلام على رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وغير ذلك مما يسمع نطقه
في الدنيا.
ويشهد لذلك: ما خرجه الإمام أحمد والترمذي - وصححه -،
من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((يخرج عنق
من النار يوم القيامة، لها عينان تبصران، وأذنان
تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار
عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين)) .
وقد روي عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الإمام أحمد - أيضا.
وقيل: إن هذا الإسناد هو المحفوظ.
(4/244)
وخرجه البزار بهذا الإسناد، ولفظ حديثه:
((يخرج عنق من النار يتكلم بلسان طلق ذلق، لها عينان
تبصر بهما، ولها لسان تتكلم به)) - وذكر الحديث.
وقوله: ((فأشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من
الزمهرير)) - بمعنى: أنه من تنفس جهنم.
وقد فسر ذلك الحسن بما يحصل منه للناس أذى من الحر
والبرد.
قال ابن عبد البر: أحسن ما قيل في معنى هذا الحديث: ما
روي عن الحسن البصري - رحمه الله -، قال: اشتكت النار
إلى ربها، قالت: يارب، أكل بعضي بعضاً، فخفف عني. قال:
فخفف عنها، وجعل لها كل عام نفسين، فما كان من برد
يهلك شيئاً فهو من زمهريرها، وما كان من سموم يهلك
شيئاً فهو من حرها.
وقد جعل الله تعالى ما في الدنيا من شدة الحر والبرد
مذكوراً بحر جهنم وبردها، ودليلاً عليها، ولهذا تستحب
الاستعاذة منها عند وجود ذلك.
كما روى عثمان الدارمي وغيره من رواية دراج، عن أبي
الهيثم، عن أبي سعيد - أو عن ابن حجيرة الأكبر، عن أبي
هريرة، أو أحدهما - حدثه، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا كان يوم حار، فإذا
قال الرجل: لا إله إلا الله، ما أشد حر هذا اليوم،
اللهم أجرني من حر
(4/245)
جهنم، قال الله لجهنم: إن عبداً من عبيدي
استجارني من حرك، وأنا أشهدك أني قد أجرته، وإذا كان
يوم شديد البرد، فإذا قال العبد: لا إله إلا الله، ما
أشد برد هذا اليوم، اللهم أجرني من زمهرير جهنم، قال
الله لجهنم: إن عبداً من عبادي قد استعاذني من
زمهريرك، فإني أشهدك أني قد أجرته)) . قالوا: وما
زمهرير جهنم؟ قال: ((بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من
شدة بردها)) .
(4/246)
10 - باب
الإبراد بالظهر في السفر
(4/247)
539 - حدثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا مهاجر أبو
الحسن مولى لبني تيم الله، قال: سمعت زيد بن وهب، [عن
أبي ذر] الغفاري، قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فأراد المؤذن أن
يؤذن للظهر، فقال له: " أبرد"، ثم أراد أن يؤذن، فقال
له: " أبرد"، حتى رأينا فيء التلول، فقال النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن شدة الحر من
فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة".
وقال ابن عباس: {يَتَفَيَّأُ} [النحل: 48] يتميل.
مقصود البخاري بهذا الباب: أن الإبراد بالظهر مشروع في
الحضر والسفر، وسواء كان جماعة المصلين مجتمعين في
مكان الصلاة أو كانوا غائبين.
وقد استدل الترمذي في " جامعه" بهذا الحديث على أن
الإبراد لا يختص بالمصلي في مسجد ينتابه الناس من
البعد، كما يقوله الشافعي؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان هو وأصحابه مجتمعين في
السفر، وقد أبرد بالظهر.
وقوله: " حتى رأينا فيء التلول" - يعني: حتى مالت
الشمس وبعدت عن وسط السماء، حتى ظهر للتلول فيء.
(4/247)
والفيء هو الظل العائد بعد زواله، فإن
الشمس إذا طلعت كان للتلول ونحوها ظل مستطيل، ثم يقصر
حتى يتناهى قصره وقت قيام الشمس بالظهيرة، ثم إذا زالت
الشمس عاد الظل وأخذ في الطول، فما كان قبل الزوال
يسمى ظلاً، وما كان بعده يسمى فيئاً؛ لرجوع الظل بعد
ذهابه، ومنه سمى الفيء فيئاً، كأنه عاد إلى المسلمين
ما كانوا أحق به مما كان في يده.
وقد حكى البخاري عن ابن عباس أنه فسر قوله:
{يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ} : يتميل.
وفي حديث أبي ذر دليل على أن حد الإبراد إلى [أن] يظهر
فيء التلول ونحوها.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم من حديث
ابن مسعود، قال: كان قدر صلاة رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصيف ثلاثة أقدام، وفي
الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام.
وقد روي موقوفاً على ابن مسعود، وأنه قال في الصيف:
ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام.
قال بعض أصحابنا: وهذا يدل على أنه إلى الطرف الأول
أقرب، وهذا يشبه قول الشافعية: أنه لا يؤخر إلى النصف
الآخر من الوقت، وهو
(4/248)
الصحيح.
وقد تقدم عن سفيان، أنه حكى عن بعض العلماء، أنه عد
التاخير إلى النصف الثاني تفريضاً، فظاهر حديث أبي ذر
الذي خرجه البخاري يدل على انه يشرع الإبراد بالأذان
عند إرادة الإبراد بالصلاة، فلا يؤذن إلا في وقت يصلي
فيه، فإذا أخرت الصلاة أخر الأذان معها، وأن عجلت عجل
الأذان.
وقد وقع في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن من أخر
الصلاة في السفر إلى آخر وقتها وهو سائر، أنه يؤذن إذا
نزل وأراد الصلاة، وحملوا فعل ابن مسعود بالمزدلفة على
ذلك، إذا دخل وقت الثانية أذن لها.
ويشهد لذلك: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ليلة جمع لما غربت له الشمس بعرفة، ودفع،
لم ينقل عنه أنه أذن للصلاة، فلما قدم جمعاً أذن وأقام
وصلى.
وهذا يدل على أن الصلاتين المجموعتين في وقت الثانية
لا يؤذن لهما إلا عند صلاتهما في وقت الثانية، فيكون
الأذان للوقت الذي يصلي فيه لا للوقت الذي يجمع فيه.
ولكن قد روى أبو داود الطيالسي هذا الحديث في "
مسنده"، عن شعبة - وخرجه من طريقه الترمذي - ولفظه:
قال أبو ذر: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في سفر ومعه بلال، فأراد ان يقيم، فقال
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أبرد"،
ثم أراد أن يقيم، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: " أبرد في الظهر". قال: حتى رأينا فيء
التلول، ثم أقام فصلى، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن شدة الحر من فيح جهنم،
فأبردوا عن الصلاة".
(4/249)
ففي هذه الرواية التصريح بأن الإبراد إنما
كان بالإقامة، والإقامة تسمى أذاناً، كما في قوله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بين كل أذانين
صلاة"، ومراده: بين الأذان والإقامة.
وقد خرجه البخراي في الباب الماضي، ولفظه: أذن مؤذن
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر،
فقال: "أبرد، أبرد" - أو قال: " انتظر، انتظر".
وهذا – أيضا - يدل على أنه إنما أخره بالإبراد
والانتظار بعد ان أذن، وهو دليل على أنه يؤذن في أول
وقت الصلاة بكل حال، سواء أبراد أو لم يبرد.
ولكن إن أراد تأخيرها عن وقتها بالكلية حتى يصليها في
وقت الثانية جمعاً، فإنه يؤخر الأذان إلى وقت الثانية.
ويدل على هذا: ما خرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة،
قال: كان بلال يؤذن إذا دحضت الشمس، فلا يقيم حتى يخرج
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا خرج
أقام حين يراه.
وفي الأذان للمجوعتين في وقت الثانية خلاف يذكر في
موضع آخر.
ومتى فرق بين المجموعتين في وقت الثانية تفريقاً
كثيراً، فقال القاضي أبو يعلى من أصحابنا: تحتاج
الثانية إلى أذان آخر.
وقد روي عن ابن مسعود في جمعه بالمزدلفة ما يشهد له.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
(4/250)
11 - باب
وقت الظهر عند الزوال
وقال جابر: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يصلي الظهر بالهاجرة.
حديث جابر هذا خرجه في " باب وقت المغرب "، ويأتي في
موضعه - إن شاء الله.
وقد سبق الحديث أبي جحيفة في صلاة النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر بالبطحاء بالهاجرة.
وقد ذكرنا - أيضا - حديث جابر بن سمرة، أن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الظهر إذا
دحضت الشمس.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث زيد بن ثابت، قال:
كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي
الظهر بالهاجرة، ولم يكن (يصلي) صلاة أشد على أصحاب
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها،
فنزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطَى} (البقرة: 238) .
وخرج الإمام أحمد والنسائي نحوه من حديث أسامة بن زيد،
أن رسول الله كان يصلي الظهر بالهجير، ولا يكون وراءه
إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم، فأنزل
الله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطَى} .
(4/251)
والحديثان إسنادهما واحد، مختلف فيه، وفيه
نظر.
خرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
قال:
(4/252)
540 - حدثنا أبو اليمان: أبنا شعيب، عن
الزهري، قال: أخبرني أنس بن مالك، أن رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج حين زاغت
الشمس، فصلى الظهر، فقام على المنبر، فذكر الساعة؛
فذكر أن فيها أموراً عظاماً، ثم قال: " من أحب أن يسأل
عن شيء فليسأل، فلا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم ما دمت
في مقامي " فأكثر الناس في البكاء، وأكثر أن يقول: "
سلوا "، فقام عبد الله بن حذاقة السهمي، فقال: من أبي؟
قال: " أبوك
حذافة "، ثم أكثر أن يقول: " سلوني " فبرك عمر على
ركبتيه، فقال: رضينا بالله ربا، وبالاسلام دينا،
وبمحمد نبيا. فسكت. ثم قال: " عرضت علي الجنة والنار
آنفا في عرض هذا الحائط، فلم أر كالخير والشر ".
زيغ الشمس: ميلها، وهو عبارة عن زوالها.
والحديث يدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صلى الظهر في ذلك اليوم حين زالت الشمس من
غير مهلة، لكن هل كانت تلك عادته في صلاة الظهر، أم
(4/252)
عجلها ذلك اليوم لأمر حدث حتى يخبرهم به،
ولذلك خطبهم وذكر الساعة؟
هذا محتمل، والثاني أظهر، فإنه - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤخر صلاة الظهر في شدة
الحر، كما تقدم، وأمافي غير ذلك فكان يعجلها، لكن هل
كانت عادته أن يدخل في صلاة الظهر حين تزول الشمس في
غير وقت شدة الحر دائما؟ هذا فيه نظر، بل الأظهر
خلافه.
وقد روي عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه
كان يصلي إذا زالت الشمس أربع ركعات، ويقول:
" إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، ويستجاب الدعاء "
خرجه الترمذي وغيره.
وقد كان يصلي قبل الظهر ركعتين، وروي عنه أنه كان يصلي
أربعا.
وهذا كله يدل على أنه لم يكن يحرم الصلاة عقيب الزوال
من غير مهلة بينهما.
وقد ذكرنا في الباب الماضي حديث ابن مسعود في صلاة
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشتاء
خمسة أقدام إلى سبعة – يعني: قدر الظل.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، أنه أمر بلالاً أن يجعل بين أذانه وإقامته قدر ما
يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا
دخل لقضاء حاجته.
خرجه الترمذي من حديث جابر، وقال: إسناده مجهول.
وخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد من حديث أبي بن كعب.
وخرجه الدارقطني وغيره من حديث علي.
(4/253)
وروي – أيضا – من حديث أبي هريرة وسلمان.
وأسانيده كلها ضعيفة.
والصحيح عند أصحابنا: أنه يستحب أن تكون الصلاة بعد
مضي قدر الطهارة وغيرها من شرائط الصلاة، وكذلك هو
الصحيح عند أصحاب الشافعي، وقالوا: لا يضر الشغل
الخفيف كأكل لقم وكلام قصير، ولا يكلف خلاف العادة.
ولهم وجه آخر: أنه لا يحصل فضيلة أول الوقت حتى يقدم
ذلك كله قبل الوقت حتى تنطبق الصلاة على أول الوقت.
قال بعضهم: وهذا غلط صريح مخالف للسنة المستفيضة، وقد
جعله مالك قول الخوارج وأهل الاهواء.
وللشافعية وجه آخر: لا تفوت فضيلة أو نصف الوقت، ولا
يستحب عندهم أن ينتظر بها مصير الفيء مثل الشراك.
وحكى الساجي، عن الشافعي، أنه يستحب ذلك، وحكى عن غيره
أنه لا يجوز فعلها قبل ذلك؛ فإن جبريل عليه السلام صلى
بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أول يوم
الظهر والفيء مثل الشراك.
وهذا ليس بشيء، وهو مخالف للإجماع، وقد حمل حديث جبريل
على أن الشمس يومئذ زالت على قدر الشراك من الفيء.
ونقل ابن القاسم، عن مالك، أنه كان يستحب لمساجد
الجماعات أن يؤخروا صلاة الظهر بعد الزوال حين يكون
الفيء ذراعاً، صيفا وشتاءً،
(4/254)
عملا بما رواه في " الموطإ " عن نافع، أن
عمر كتب إلى عماله بذلك.
وقال سفيان الثوري: كان يستحب أن يمهل المؤذن بين
أذانه وإقامته في الصيف مقدار أربعين آية، وفي الشتاء
على النصف منها، ويمهل في العصر أربعين آية، وفي
الشتاء على النصف منها، وفي المغرب إذا وجبت الشمس
أذن، ثم قعد قعدة، ثم قام وأقام الصلاة. قال: ويمهل في
العشاء الآخرة قدر ستين آية. وفي الفجر إذا طلع الفجر
أذن، ثم صلى ركعتين، ثم سبح الله وذكره.
وهذا يدل على استجابة الإبراد بالعصر في الصيف.
وحكي مثله عن أشهب من المالكية.
وقد استحب كثير من السلف المشي إلى المساجد قبل
الأذان، وكان الإمام أحمد يفعله في صلاة الفجر،
والاثار في فضل المبادرة بالخروج إلى المساجد كثيرة.
وبقية الحديث، قد سبق الكلام عليه، بعضه في " كتاب
العلم "، وبعضه في " الصلاة على التنور والنار ".
وعرض الحائط – يضم العين -: جانبه.
الحديث الثاني:
قال:
(4/255)
541 - حدثنا حفص بن عمر: ثنا شعبة، عن أبي
المنهال، عن أبي برزة، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الصبح وأحدنا يعرف جليسه،
ويقرأ
(4/255)
فيها ما بين الستين إلى المئة، ويصلي الظهر
إذا زالت الشمس، والعصر وأحدنا يذهب إلى أقصى المدينة،
ثم يرجع والشمس حية، ونسيت ما قال في المغرب، ولا
يبالي بتأخر العشاء إلى ثلث الليل – ثم قال: إلى شطر
الليل.
وقال معاذ: قال شعبة: ثم لقيته مرة، فقال: أو ثلث
الليل.
الكلام على هذا الحديث يأتي مفرقاً في أبوابه، حيث
أعاد البخاري تخريجه فيها.
والغرض منه هاهنا صلاة الظهر، وأنه كان يصليها إذا
زالت الشمس، وهذا يدل على مداومته على ذلك، أو على
كثرته وتكراره، وهذا هو الأغلب في استعمال: " كان فلان
يفعل ". وإنما يقع ذلك لغير التكرار نادراً.
وهذا لا ينافي ما قدمنا أنه يتأهب لها بعد دخول الوقت،
وبعد الأذان فيه، وصلاة ركعتين أو أربع.
وقد روي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كان يصلي الجمعة إذا زالت الشمس ومعلوم أنه كان يخطب
قبل صلاته خطبتين، ثم يصلي، وهذا كله لا يمنع أن يقال:
كان يصلي الظهر أو الجمعة إذا زالت الشمس.
وفي رواية لحديث أبي برزة – وقد خرجها البخاري فيما
بعد -: كان يصلي الهجير التي تدعونها الاولى إذا دحضت
الشمس.
وفي هذه الرواية: أن لصلاة الظهر اسمين آخرين:
أحدهما: الهجير؛ لأنها تصلى بالهاجرة.
والثاني: الأولى.
وقيل: سميت بذلك لأنها أول
(4/256)
صلاة صلاها جبريل بالنبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند البيت، في أول ما فرضت
الصلوات الخمس ليلة الإسراء.
الحديث الثالث:
قال:
(4/257)
542 - حدثنا محمد بن مقاتل: ثنا عبد الله:
أبنا خالد بن عبد الرحمان: حدثني غالب القطان، عن بكر
بن عبد الله المزني، عن أنس بن مالك، قال: كنا إذا
صلينا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر.
قد سبق هذا الحديث في " باب: السجود على الثياب".
وفيه: دليل على أن صلاة الظهر كانت تصلى في حال شدة حر
الحصى الذي يسجد عليه.
ويشهد لهذا المعنى: حديث خباب: شكونا إلى رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حر الرمضاء، فلم
يشكنا، وكله يدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يبرد بالظهر إبراداً يسيراً حتى تنكسر
شدة الحر، ولم يكن يؤخرها إلى آخر وقتها حتى يبرد
الحصى.
وقد روي بمثل هذا الإسناد الذي خرجه البخاري ها هنا عن
بكر، عن أنس، قال: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شدة الحر فيأخذ أحدنا
الحصى في يده، فإذا برد وضعه وسجد عليه.
ذكره البيهقي في كتاب " المعرفة " تعليقاً.
(4/257)
والمعروف في هذا حديث جابرٍ، قال: كنت أصلي
الظهر مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، فآخذ قبضة من الحصى لتبرد في كفي، أضعها لجبهتي،
أسجد عليها؛ لشدة الحر.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في "
صحيحه" والحاكم.
وليس هذا مما ينهى عنه من مس الحصى في الصلاة، كما
سيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى – فإن ذلك المنهي عنه
مسه عبثا، وهذا لمصلحة المصلي.
وقال مالك: يكره أن ينقل التراب والحصى من موضع الظل
إلى موضع الشمس ليسجد عليه.
(4/258)
12 - باب
تأخير الظهر إلى العصر
(4/259)
543 – حدثنا أبو النعمان: ثنا حماد بن زيد،
عن عمرو - وهو: ابن دينار - عن جابر بن زيد، عن ابن
عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب
والعشاء.
فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة؟ قال: عسى.
وخرجه مسلم من طريق حماد - أيضا -، ولم يذكر فيه قول
أيوب.
وخرجه من طريق ابن عيينة، عن عمرو، ولفظ حديثه: صليت
مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمانيا
جميعاً وسبعاً جميعاً. قلت: يا أبا الشعثاء، أظنه أخر
الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا
أظن ذلك.
وخرجه البخاري - أيضا - في " أبواب: صلاة التطوع".
وخرجه النسائي عن قتيبة، عن سفيان، وأدرج تفسيره في
الحديث.
قال ابن عبد البر: الصحيح: أن هذا ليس من الحديث، إنما
هو من ظن أبي الشعثاء وعمرو بن دينار.
(4/259)
ورواه محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن
دينار، وزاد في حديثه: " من غير مرضٍ ولا علة".
خرجه من طريقه الطبراني.
ومحمد بن مسلم، ليس بذاك الحافظ.
وخرج النسائي من طريق حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن
هرم، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، أنه صلى بالبصرة
الأولى والعصر، ليس بينهما شيء، والمغرب والعشاء، ليس
بينهما شيء، [فعل ذلك من شغلٍ، وزعم ابن عباس، أنه صلى
مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بالمدينة الأولى والعصر ثمان سجدات، ليس بينهما شيء] .
وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من وجوه أخر، بألفاظ
مختلفة، روي عنه من رواية سعيد بن جبير، عن ابن عباس،
قال: صلى لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الظهر والعصر جميعاً بالمدينة، في غير
خوفٍ ولا سفرٍ.
خرجه مسلم.
وخرجه أبو داود، وزاد: قال مالك: أرى ذلك كان في مطرٍ.
وخرجه مسلم – أيضا - من طريق زهير، عن أبي الزبير -
بمثله، وزاد: قال ابن عباس: أراد أن لا يحرج أحداً من
أمته.
وخرجه – أيضا - من طريق قرة، عن أبي الزبير، وذكر فيه:
أن ذلك كان في سفرةٍ سافرها في غزوة تبوك، وذكر فيه
قول ابن عباس: أراد
(4/260)
أن لا يحرج أمته.
وخرج - أيضا - من طريق الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جمع رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الظهر والعصر،
والمغرب والعشاء بالمدينة، في غير خوف ولا مطر. قلت
لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: كيلا يحرج أمته.
وقد اختلف على الأعمش في إسناد هذا الحديث، وفي لفظه -
أيضا -:
فقال كثير من أصحاب الأعمش، عنه فيه: من غير خوف ولا
مطر.
ومنهم من قال عنه: من غير خوف ولا ضررٍ.
ومنهم من قال: ولا عذرٍ.
وذكر البزار، أن لفظة " المطر" تفرد بها حبيبٌ، وغيرهُ
لا يذكرها. قال: على أن عبد الكريم قد قال نحو ذلك.
وكذلك تكلم فيها ابن عبد البر.
وروينا من طريق عبد الحميد بن مهدي البالسي: حدثنا
المعافي بن سليمان الجزري: ثنا محمد بن سلمة: ثنا أبو
عبد الرحيم، عن
(4/261)
زيد بن [أبي أنيسة، عن] أبي الزبير، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: صليت مع رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة من غير
مطر ولا قر الظهر والعصر جمعاً. قلت له: لم فعل ذلك؟
قال ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته.
وعن زيد، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن
عباس – مثله.
ولكن؛ عبد الحميد هذا، قال فيه الحافظ عبد العزيز
النخشبي: عنده مناكير.
وأمارواية عبد الله بن شقيق، فمن طريق الزبير بن
الخريت، عن عبد الله بن شقيق، قال: خطبنا ابن عباس
يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، وجعل
الناس يقولون: الصلاة الصلاة. قال فجاءه رجل من بني
تميم، لايفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة. فقال ابن
عباس: أتعلمني السنة لا أم لك؟ ثم قال: رأيت رسول الله
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر
والعصر والمغرب والعشاء.
قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت
أبا هريرة، فسألته فصدق مقالته.
(4/262)
خرجه مسلم.
وخرجه - أيضا - من رواية عمران بن حدير، عن عبد لله بن
شقيق، قال: قال رجل لابن عباس: الصلاة، فسكت، ثم قال:
الصلاة، فسكت، ثم قال: الصلاة، فسكت، ثم قال: لا أم
لك، تعلمنا الصلاة؟ ! كنا نجمع بين الصلاتين على عهد
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأمارواية عكرمة، فمن طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة،
عن ابن عباس، قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقيما غير مسافر سبعاً وثمانياً.
خرجه الإمام أحمد.
وفي رواية أشعث بن سوار - وفيه ضعف -، عن عكرمة، عن
ابن عباسٍ، قال: جمع رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الظهر والعصر، والمغرب
والعشاء بالمدينة، من غير خوف ولا مطر، أراد التخفيف
عن أمته.
وأمارواية عطاء بن يسار، فمن رواية عبد الرحمن بن زيد
بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، أن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر
والعصر، والمغرب والعشاء، من غير مرض ولا مطر. فقيل
لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: التوسعة على أمته.
خرجه حرب الكرماني، عن يحيى الحماني، عن عبد الرحمان،
به.
وعبد الرحمان، فيه ضعف.
وأمارواية صالح مولى التوأمة، فذكرها أبو داود
تعليقاً. وفيها: من
(4/263)
غير مطر.
وخرجها الإمام أحمد من طريق داود بن قيس، عن صالح مولى
التوأمة، عن ابن عباس، قال: جمع رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الظهر والعصر، والمغرب
والعشاء، في غير مطر ولا سفر. قالوا: يا أبن عباس، ما
أراد بذلك؟ قال: التوسع على الامة.
وصالح، مختلف في أمره، وفي سماعه من ابن عباس - أيضا.
وفي الباب أحاديث أخر، في أسانيدها مقال.
وخرج النسائي من رواية يحيى بن هانئ المرادي: حدثنا
أبو حذيفة، عن عبد الملك بن محمد بن أبي بشير، عن عبد
الرحمان بن علقمة، قال: قدم وفد ثقيف على النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأهدوا له هدية،
وقعد معهم يسألهم ويسألونه، حتى صلى الظهر مع العصر.
قال الدارقطني: عبد الملك وابو حذيفة مجهولان. وعبد
الرحمان بن علقمة لا تصح صحبته ولا يعرف.
وقد اختلفت مسالك العلماء في حديث ابن عباس هذا، في
الجمع من غير خوف ولا سفر، ولهم فيه مسالك متعددة:
(4/264)
المسلك الاول: أنه منسوخ بالإجماع على
خلافه، وقد حكى الترمذي في آخر " كتابه" أنه لم يقل به
أحد من العلماء.
وهؤلاء لا يقولون: إن الإجماع ينسخ، كما يحكى عن
بعضهم، وإنما يقولون: هو يدل على وجود نص ناسخ.
المسلك الثاني: معارضته بما يخالفه، وقد عارضه الإمام
أحمد بأحاديث المواقيت، وقوله: " الوقت ما بين هذين"،
وبحديث أبي ذر في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن
وقتها، وأمره بالصلاة في الوقت، ولو كان الجمع جائزاً
من غير عذر لم يحتج إلى ذلك، فإن أولئك الأمراء كانوا
يجمعون لغير عذرٍ، ولم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى
الليل، ولا صلاة الليل إلى النهار.
وكذلك في حديث أبي قتادة، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال لما ناموا عن صلاة
الفجر حتى طلعت الشمس: " ليس في النوم تفريط، إنما
التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة
الاخرى".
خرجه مسلم.
وخرجه أبو داود، وعنده: " إنما التفريط في اليقظة أن
تؤخر صلاة حتى يدخل وقت صلاة اخرى".
وقد عارض بعضهم حديث ابن عباس هذا بحديث آخر يروى عنه،
وقد أشار إلى هذه المعارضة الترمذي وابن شاهين، وهو من
رواية حنش، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " من جمع بين
(4/265)
صلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من ابواب
الكبائر".
خرجه الترمذي.
وقال: حنش هذا هو أبو علي الرحبي، وهو حسين بن قيس،
وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أحمد وغيره، والعمل على
هذا عند أهل العلم.
يعني: على حديث حنش مع ضعفه.
وخرجه الحاكم وصححه، ووثق حنشا، وقال: هو قاعدة في
الزجر عن الجمع بلا عذر.
ولم يوافق على تصحيحه.
وقال العقيلي: ليس لهذا الحديث أصل.
ورواه بعضهم، وشك في رفعه ووقفه.
كذلك خرجه الحارث بن أبي اسامة.
ولعله من قول ابن عباس.
وقد روي مثله عن عمر وأبي موسى:
وروي وكيع، عن سفيان، عن هشام، عن رجل، عن أبي
العالية، عن عمر بن الخطاب، قال: الجمع بين الصلاتين
من غير عذر من الكبائر.
وعن أبي هلال الراسبي، عن حنظلة السدوسي، عن أبي موسى،
قال: الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر.
(4/266)
المسلك الثالث: حمله على أن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخر الظهر إلى آخر وقتها،
فوقعت في آخر جزء من الوقت، وقدم العصر في أول وقتها،
فصلاها في أول جزء من الوقت، فوقعت الصلاتان مجموعتين
في الصورة، وفي المعنى كل صلاة وقعت في وقتها، وفعل
هذا ليبين جواز تأخير الصلاة [إلى] آخر وقتها.
وقد روي من حديث معاذ بن جبل، أن جمع النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الصلاتين بتبوك كان
على هذا الوجه - أيضا.
خرجه الطبراني في " أوسطه" بإسناد في ضعف.
وقد سبق عن عمرو بن دينار وأبي الشعثاء، أنهما حملا
الحديث على هذا الوجه، كما خرجه مسلم، وأشار اليه
الإمام أحمد وغيره.
وعلى مثل ذلك حمل الجمع بين الصلاتين في السفر بغير
عرفة والمزدلفة من لا يرى الجمع في السفر، منهم: سفيان
الثوري وغيره من الكوفيين.
والمسلك الرابع: أن ذلك كان جمعا بين الصلاتين لمطر،
وهذا هو الذي حمله عليه ايوب السختياني كما في رواية
البخاري، وهو الذي حمله عليه مالك - أيضا.
ومن ذهب إلى هذا المسلك فإنه يطعن في رواية من روى: "
من غير خوف ولا مطر" كما قاله البزار وابن عبد البر
وغيرهما.
ومن حمل الحديث على هذا فإنه يلزم من قوله جواز الجمع
في الحضر للمطر بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقد
اختلف في ذلك:
(4/267)
فأماالجمع بين العشاءين للمطر، فقد روي عن
ابن عمر.
روى مالك، عن نافع، أن ابن عمر كان يجمع في الليلة
المطيرة.
وقد رويناه من طريق سفيان بن بشير، عن مالك، عن نافع،
عن ابن عمر - مرفوعاً -، ولا يصح رفعه.
وفيه حديث آخر مرفوع من رواية أولاد سعد القرظ، عن
آبائهم، عن أجدادهم، عن سعد القرظ، أن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجمع بين المغرب
والعشاء في المطر.
خرجه الطبراني.
وإسناده ضعيف.
قال يحيى في أولاد سعد القرظ: كلهم ليسوا بشيء.
وممن رأى الجمع للمطر: مالك في المشهور عنه،
والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.
وروي عن عمر بن عبد العزيز، عن فقهاء المدينة السبعة.
وعن مالك رواية: لا يجوز الجمع للمطر إلا في المدينة
في مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛
لفضله، ولأنه ينتاب من بعد، فيجمع بينهما بعد مغيب
الشفق، وليس بالمدينة غيره.
والمشهور عنه الأول.
وأصل هذا: أن الأمراء بالمدينة كانوا يجمعون في الليلة
المطيرة، فيؤخرون المغرب ويجمعون بينها وبين العشاء
قبل مغيب الشفق،
(4/268)
وكان ابن عمر يجمع معهم، وقد علم شدة
متابعة ابن عمر للسنة، فلو كان ذلك محدثا لم يوافقهم
عليه البتة.
وقد نص على ان جمع المطر يكون على هذا الوجه المذكور
قبل مغيب الشفق: مالك وأحمد وإسحاق.
وقيل لأحمد: فيجمع بينهما بعد مغيب الشفق؟ قال: لا،
إلا قبل، كما فعل ابن عمر. وقال: يجمع إذا اختلط
الظلام.
وأماالجمع بين الظهر والعصر في المطر، فالأكثرون على
أنه غير جائز: وقال أحمد: ما سمعت فيه شيئاً. وأجازه
الشافعي إذا كان المطر نازلاً، وبه قال أبو ثور، هو
رواية عن أحمد.
والعجب من مالك - رحمه الله - كيف حمل حديث ابن عباس
على الجمع للمطر، ولم يقل به في الظهر والعصر، والحديث
صريح في جمع الظهر والعصر والمغرب والعشاء؟!
المسلك الخامس: أن الذي نقله ابن عباس عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان في السفر
لا في الحضر، كما في رواية قرة، عن أبي الزبير، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن ذلك كان في غزوة تبوك،
وقد خرجه مسلم كما تقدم.
وكذلك روى عبد الكريم، عن مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء
وطاوس، أخبروه عن ابن عباس، أنه أخبرهم، أن رسول الله
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجمع بين
المغرب والعشاء في السفر من غير أن يعجله شيء، ولا
يطلبه عدو،
(4/269)
ولا يخاف شيئا.
ولكن؛ عبد الكريم هذا، هو: أبو أمية، وهو ضعيف جداً.
وأكثر رواة حديث ابن عباس ذكروا أن جمعه كان بالمدينة،
وهم أكثر وأحفظ.
والمسلك السادس: أن جمعه ذلك كان لمرض.
وقد روي عن الإمام أحمد، أنه قال: هذا عندي رخصة
للمريض والمرضع.
وقد اختلف في جمع المريض بين الصلاتين:
فرخص فيه طائفة، منهم: عطاء والنخعي والليث وأحمد
وإسحاق.
وكذلك جوزه مالك للمضطر في [رمضة] ، فإن جمع لغير
ضرورة أعاد في الوقت عنده، وعند أبي حنيفة.
والشافعي لا يبيح من المرض الجمع بين الصلاتين بحالٍ.
واستدل من أباح الجمع للمريض، بأمر النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المستحاضة أن تجمع بين
الصلاتين بغسل واحد؛ لمشقة الغسل عليها لكل صلاة، وذلك
ما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
من حديث حمنة بنت جحش وعائشة وأسماء بنت عميس، وفي
أسانيدها بعض شيء.
وأمر به: علي وابن عباس، وهو قول عطاء والنخعي
والأوزاعي وأحمد وإسحاق.
(4/270)
والمسلك السابع: أن جمعه كان لشغل، وفي
رواية حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن هرم، عن جابر بن
زيد، عن ابن عباس، أنه جمع من شغل، كما خرجه النسائي
وقد سبق.
وكذلك في حديث عبد الرحمان بن علقمة، أن وفد ثقيف
شغلوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرج النسائي من رواية سالم، عن ابن عمر، أنه لما
استصرخ على امرأته صفية أسرع السير، وجمع بين الظهر
والعصر والمغرب والعشاء، ثم قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ?: " إذا حضر أحدكم
أمراً يخشى فوته فيصلي هذه الصلاة".
وخرجه النسائي، وفي رواية له: "إذا حضر أحدكم الأمر
الذي يخاف فواته، فليصل هذه الصلاة".
وقد نص أحمد على جواز الجمع بين الصلاتين للشغل.
قال القاضي وغيره من أصحابنا: مراده: الشغل الذي يباح
معه ترك الجمعة والجماعة.
وفي ذلك نظر.
وعن ابن سيرين: لا بأس بالجمع بين الصلاتين للحاجة
والشيء مالم يتخذ عادة.
المسلك الثامن: حمل الحديث على ظاهره، وأنه يجوز الجمع
بين
(4/271)
الصلاتين في الحضر لغير عذر بالكلية، وحكي
ذلك عن ابن عباس وابن سيرين، وعن أشهب صاحب مالك.
وروى ابن وهب وغيره، عن مالك أن آخر وقت الظهر والعصر
غروب الشمس.
قال ابن عبد البر: وهذا محمول عند أصحابه على أهل
الضرورات كحائض تطهرت، ومغمى عليه يفيق.
وحكى – أيضا - عن طاوس: امتداد الظهر والعصر إلى غروب
الشمس.
وعن عطاء: امتدادهما إلى أن تصفر الشمس.
وكذلك روي عن عطاء وطاوس أن وقت المغرب والعشاء لا
يفوت حتى يطلع الفجر.
وحكي معنى ذلك عن ربيعة، وأن الوقتين مشتركان، وأن وقت
الصلاتين يمتد إلى غروب الشمس.
وحكي عن أهل الحجاز جملة.
وعده الأوزاعي مما يجتنب من أقوالهم، فروى الحاكم، عن
الأصم: أخبرنا العباس بن الوليد البيروتي: ثنا أبو عبد
الله بن بحر، قال: سمعت الأوزاعي يقول: يجتنب من قول
أهل العراق: شرب المسكر، والأكل عند الفجر في رمضان،
ولا جمعة إلا في سبعة أمصار، وتأخير صلاة العصر حتى
يكون ظل كل شيء أربعة امثاله، والفرار يوم الزحف. ومن
قول أهل الحجاز: استماع الملاهي، والجمع بين الصلاتين
من غير عذر، والمتعة بالنساء، والدرهم بالدرهمين
والدينار بالدينارين، وإتيان النساء
(4/272)
في أدبارهن.
قال الأثرم في " كتاب العلل": قلت لأبي عبد الله –
يعني: أحمد – أي شيء تقول في حديث ابن عباس، أن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ثمانياً
جميعاً وسبعاً جميعاً، من غير خوف ولا سفر؟
فقال: ابن عباس كما ترى قد أثبت هذا - أو صححه -،
وغيره يقول - ابن عمر ومعاذٌ وغير واحدٍ -، يقولون:
إنه في السفر. فقلت: أيفعله الأنسان؟ فقال: إنما فعله
لئلا يحرج أمته.
وذكر الأثرم نحوه في " كتاب مسائله لأحمد"، وزاد: قال
أحمد: أليس قال ابن عباس: أن لا يحرج أمته، إن قدم رجل
أو آخر - نحو هذا.
وهذا الذي زاده في " كتاب المسائل" يبين أن أحمد حمله
على تأخير الصلاة الأولى إلى آخر وقتها، وتقديم
الثانية إلى أول وقتها، كما حمله على ذلك أبو الشعثاء
وعمرو بن دينار وغيرهما كما سبق. والله أعلم.
وقول ابن عباس: " من غير خوف ولا سفر"، يدل بمفهومه
على جواز الجمع للخوف والسفر، فأماالجمع للسفر فيأتي
الكلام فيه في موضعه - إن شاء الله تعالى -، وأماالجمع
للخوف للحضر فظاهر حديث ابن عباس جوازهُ.
وقد اختلف العلماء في جواز تأخير الصلاة عن وقتها
بالكلية، وإن لم تكن مما تجمع، كتأخير صلاة الصبح حتى
تطلع الشمس، والعصر حتى تغرب الشمس، إذا اشتد الخوف.
وفيه عن أحمد روايتان.
(4/273)
فتأخير الصلاتين المحموعتين إلى وقت
الثانية وتقديمها في أول وقت الأولى إذا احتيج إلى ذلك
في الخوف أولى بالجواز، بل لاينبغي أن يكون في جوازه
خلاف عند من يبيح الجمع للسفر والمرض والمطر، ونحو ذلك
من الأعذار الخفيفة.
وعن أحمد روايتان في جواز الفطر في الحضر للقتال، ومن
أصحابنا من طردهما في قصر الصلاة - أيضا.
وقد حكى ابو عبيد في " غريبه" عن عثمان بن عفان – رضي
الله عنه - جواز قصر الصلاة في الحضر للخوف.
فالجمع أولى بالجواز. والله أعلم.
(4/274)
13 - باب
وقت العصر
خرج فيه عن عائشة، وأبي برزة، وأنس:
فحديث عائشة: خرجه من طرق مسندات تعليقاً، فقال:
وقال أبو أسامة، عن هشام: في قعر حجرتها.
وفي بعض النسخ ذكر هذا بعد ان اسنده من حديث أبي ضمرة،
وهو أحسن وقال:
(4/275)
544 - نا إبراهيم بن المنذر، قال: نا أنس
بن عياض، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر
والشمس لم تخرج من حجرتها.
(4/275)
545 - ثنا قتيبة: ثنا الليث، عن ابن شهاب،
عن عروة، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صلى العصر والشمس في حجرتها، لم يظهر
الفيء من حجرتها.
(4/275)
546 - ثنا ابو نعيم: نا ابن عيينة، عن
الزهري، عن عروة،
(4/275)
عن عائشة، قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاة العصر والشمس طالعة في
حجرتي، لم يظهر الفيء بعد.
قال ابو عبد الله: وقال مالك، ويحيى بن سعيد، وشعيب،
وابن أبي حفصة: والشمس قبل أن تظهر.
حديث مالك هذا الذي اشار اليه، قد خرجه في أول " كتاب:
المواقيت" في ضمن حديث أبي مسعود الأنصاري، من طريق
مالك، عن الزهري، ولفظه: قال عروة: ولقد حدثتني عائشة،
أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان
يصلي العصر والشمس في حجرتها، قبل أن تظهر.
وكان مقصود عروة: الاحتجاج على عمر بن عبد العزيز -
رحمه الله - حيث أخر العصر يوماً شيئاً، فأخبره عروة
بهذا الحديث، مستدلاً به على ان النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعجل العصر في اول وقتها.
ووجهة الدلالة من الحديث على تعجيل العصر: أن الحجرة
الضيقة القصيرة الجدران يسرع ارتفاع الشمس منها، ولا
تكون الشمس فيها موجودة، إلا والشمس مرتفعة في الافق
جداً.
وفسر الهروي وغيره: ظهور الشمس من الحجرة بعلوها على
السطح، فيكون الظهور العلو، ومنه: قوله تعالى:
{وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33] ،
وقوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ
(4/276)
يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97] ، وقول النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تزال طائفة
من أمتي ظاهرين على الحق".
وقد ذكر ابن عبد البر في معنى ظهور الشمس من الحجرة في
هذا الحديث قولين: أحدهما: العلو كما تقدم. والثاني:
أن معناه خروج الشمس من قاعة الحجرة. قال: وكل شيء خرج
فقد ظهر.
قلت: ورواية أبي ضمرة أنس بن عياض، عن هشام التي خرجها
البخاري ها هنا تدل على هذه؛ لأنه قال في روايته: "
والشمس لم تخرج من حجرتها " وفي رواية الليث وغيره: "
لم يظهر الفيء من حجرتها ".
والفيء: هو الظل بعد الزوال بذهاب الشمس منه، والمعنى:
أن الفيء لم يعم جميع حجرتها، بل الشمس باقية في
بعضها.
وعلى هذه الرواية، فيكون معنى ظهور الفيء من الحجرة:
وجوده وبيانه ووضوحه.
وفسر - أيضا - ظهوره: بعلوه لجدر الحجرة.
وفسر محمد بن يحيى الهمداني في " صحيحه" ظهور الفيء
بغلبته على الشمس. قال: والمعنى: لم يكن الفيء أكثر من
الشمس حين صلى العصر، كما يقال: ظهر فلان على فلان إذا
غلب عليه.
(4/277)
وفي بعض روايات ابن عيينة لهذا الحديث
زيادة: " بيضاء نقية".
وأمارواية أبي أسامة، عن هشام التي ذكرها البخاري -
تعليقا -: " والشمس في قعر حجرتها"، فهذه الرواية تدل
على أن الشمس كانت موجودة في وسط الحجرة وأرضها، لم
تظهر على جدران الحجرة.
وهذه الرواية تدل على شدة تعجيل العصر أكثر من غيرها
من الروايات، فإن بقية الروايات إنما تدل على بقاء
الشمس في الحجرة لم تخرج منها، فيحتمل ان تكون موجودة
على حيطان الحجرة قد قاربت الخروج.
ورواية أبي أسامة تدل على ان الشمس كانت موجودة في أرض
الحجرة.
وقد خرجه الإسماعيلي في " صحيحه" والبيهقي من حديث أبي
أسامة، عن هشام، عن عائشة، قالت: كان رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس
في قعر حجرتي.
وخرجه البيهقي - أيضا - من طريق أبي معاوية: نا هشام -
فذكره، وقال: " والشمس بيضاء في قعر حجرتي طالعة".
وحكى عن الشافعي، أنه قال: هذا من أبين ما روي في أول
الوقت؛ لأن حجر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في موضع منخفض من المدينة، وليست
بالواسعة، وذلك أقرب لها من أن ترتفع الشمس منها في
اول وقت العصر.
(4/278)
وحديث أبي برزة:
قال:
(4/279)
547 - حدثنا محمد بن مقاتل: أبنا عبد الله:
أبنا عوف، عن سيار بن سلامة، قال: دخلت أنا وأبي على
أبي برزة الأسلمي، فقال له أبي: كيف كان رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي المكتوبة؟
فقال: كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض
الشمس، ويصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى
المدينة والشمس حية - ونسيت ما قال في المغرب -، وكان
يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة، وكان
يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة
الغداة حين يعرف الرجل جليسه، ويقرأ بالستين إلى
المائة.
المقصود من هذا الحديث في هذا الباب: قول أبي برزة: "
كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي
العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس
حية".
وقد سبق الحديث من رواية شعبة، عن أبي المنهال، وفيه:
" ويصلي العصر وأحدنا يذهب إلى اقصى المدينة، ثم يرجع
والشمس حية"، وذكر في حديثه: زيادة الرجوع.
وقوله: " والشمس حية" فسر خيثمة حياتها بأن تجد حرها.
خرجه البيهقي.
(4/279)
وقيل: حياتها: بقاء لونها.
وقيل: بقاء حرها ولونها -: قاله الخطأبي وغيره.
وحديث أنس:
خرج له ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
(4/280)
548 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك،
عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك،
قال: كنا نصلي العصر، ثم يخرج الأنسان إلى بني عمرو بن
عوف، فنجدهم يصلون العصر.
وكذا خرجه مسلم، عن يحيى بن يحيى، عن مالك، به. وكذا
هو في " الموطإ ".
ورواه ابن المبارك وعتيق بن يعقوب، عن مالك، عن إسحاق،
عن أنس، قال: كنا نصلي العصر مع رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرا الحديث، وصرحا
برفعه.
والرواية المشهورة عن مالك في معنى المرفوع؛ لأن أنسا
إنما أخرجه في مخرج الاستدلال به على تعجيل العصر.
وبنو عمرو بن عوف على ثلثي فرسخ من المدينة، وروي ذلك
في حديث عن عروة بن الزبير.
(4/280)
وفي الحديث: دليل على جواز تأخير العصر، ما
لم يدخل وقت الكراهة؛ فإن الصحابة فيهم من كان يؤخرها
عن صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
عهده، والظاهر: أنه كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يعلم ذلك، ويقر عليه.
وروى ربعي بن حراش، عن أبي الأبيض، عن أنس، قال: كنت
أصلي مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- العصر والشمس بيضاء محلقة، ثم آتي عشيرتي وهم جلوس،
فأقول: ما مجلسكم؟ صلوا؛ فقد صلى رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الإمام أحمد.
وخرج النسائي إلى قوله: " محلقة".
وخرجه الدارقطني بتمامه، وزاد فيه: وهم في ناحية
المدينة.
وأبو الأبيض هذا، قال الإمام أحمد: لا أعرفه، ولا أعلم
روى عنه الا ربعي بن حراش.
الحديث الثاني:
(4/281)
549 - حدثنا ابن مقاتل: أبنا عبد الله:
أبنا أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف، قال: سمعت أبا
أمامة يقول: صلينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثم
خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك، فوجدناه يصلي العصر،
فقلت: ياعم، ما هذه الصلاة التي صليت؟
(4/281)
قال: العصر، وهذه صلاة رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? التي كنا نصلي معه.
أبو أمامة، هو: ابن سهل بن حنيف.
وصلاة عمر بن عبد العزيز هذه كانت بالمدينة، حيث كان
أميراً من قبل الوليد، وقد تقدم أنه حينئذ لم يكن عنده
علم من مواقيت الصلاة المسنونة، فكان يجري على عادة
أهل بيته وعموم الناس معهم في تأخير الصلاة أحياناً،
فلما بلغته السنة اجتهد حينئذ على العمل بها، ولكنه لم
يعمل القيام بها على وجهها إلا في أيام خلافته، فإنه
بالغ حينئذ في إقامة الحق على وجهه، ولم يترخص في شيء
مما يقدر عليه، ولا أخذته في الله لومة لائم - رضي
الله عنه.
[الحديث الثالث] :
(4/282)
550 - حدثنا أبو اليمان: أبنا شعيب، عن
الزهري: حدثني أنس بن مالك، قال: كان رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر والشمس
مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي، فيأتيهم والشمس
مرتفعة.
وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه.
(4/282)
551 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك،
عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك، قال: كنا نصلي العصر، ثم
يذهب الذاهب إلى قباء،
(4/282)
فيأتيهم والشمس مرتفعة.
إنما خرجه من هذين الوجهين، ليبين مخالفته لأصحاب
الزهري في هذا الحديث.
وقد خالفهم فيه من وجهين:
أحدهما: أنه لم يذكر فيه النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذكره أصحاب الزهري، كما خرجه
البخاري هنا من رواية شعيب.
وخرجه في أواخر " كتابه" من رواية صالح بن كيسان، ثم
قال: زاد الليث، عن يونس: " وبعد العوالي أربعة أميال
أو ثلاثة".
وخرجه مسلم من رواية الليث وعمرو بن الحارث - كلاهما
-، عن الزهري، به.
ورواه أبو صالح، عن الليث، عن يونس، عن الزهري.
وما ذكره البخاري في رواية شعيب من قوله: " وبعض
العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه"، فهو من
قول الزهري، أدرج في الحديث.
قال البيهقي: وقد بين ذلك معمر، عنه.
ثم خرجه من طريق معمر عنه، وقال في آخر حديثه: قال
الزهري: والعوالي من المدينة على ميلين وثلاثة - أو
حسبه قال: وأربعة.
والوجه الثاني: أن مالكا قال في روايته: " ثم يذهب
الذاهب إلى قباء"، كذا رواه أصحابه عنه، وكذا هو في "
الموطا ".
وخالفه سائر
(4/283)
أصحاب الزهري، فقالوا: " إلى العوالي".
وقد رواه خالد بن مخلد، عن مالك، فقال فيه: "
العوالي"، وليس هو بمحفوظ عن مالك.
قال النسائي: لم يتابع مالكاً احد على قوله في هذا
الحديث: " إلى قباء " والمعروف: " إلى العوالي".
وقال ابن عبد البر: رواه جماعة أصحاب الزهري عنه،
فقالوا: " إلى العوالي"، وهو الصواب عند أهل الحديث.
قال: وقول مالك: " إلى قباء " وهم لا شك فيه عندهم،
ولم يتابعه أحد عليه.
وكذا ذكر أبو بكر الخطيب وغيره.
قلت: قد رواه الشافعي في القديم: أنا [أبو] صفوان ابن
سعيد بن عبد الملك ابن مروان، عن ابن أبي ذئب، عن
الزهري، عن أنس، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العصر، ثم يذهب الذاهب إلى
قباء فيأتيها والشمس مرتفعة.
(4/284)
ورواه عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب،
وقال: " إلى العوالي".
وكذا رواه الواقدي، عن معمر، عن الزهري. وهذا لا يلتفت
إليه.
قال ابن عبد البر: إلا أن المعنى في ذلك متقارب على
سعة الوقت؛ لأن العوالي مختلفة المسافة، فأقربها إلى
المدينة ما كان على ميلين أو ثلاثة، ومثل هذا هي
المسافة بين قباء وبين المدينة، وقباء من بني عمرو بن
عوف، وقد نص على بني عمرو بن عوف في [حديث أنس] هذا
إسحاق بن أبي طلحة.
يشير إلى حديثه المتقدم، وخرجه من طريق إبراهيم بن أبي
عبلة، عن الزهري، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال فيه: " والعوالي من
المدينة على عشرة أميال"، وكان الزهري ذكر في هذه
الرواية أبعد ما بين العوالي والمدينة، كما ذكر في
الرواية المتقدمة أقرب ما بينها وبين المدينة.
وفي الباب حديث آخر: خرجه البخاري في " القسمة"، فقال:
نا محمد ابن يوسف: نا الأوزاعي: نا أبو النجاشي، قال:
سمعت رافع بن خديج [قال] : كنا نصلي مع النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر، فننحر جزرواً،
فتقسم عشر قسم، فناكل لحماً نضيجاً قبل ان تغرب الشمس.
(4/285)
قال الدارقطني: ابو النجاشي، اسمه: عطاء بن
صهيب، ثقة مشهور، صحب رافع بين خديج ست سنين.
والكلام هاهنا في مسألتين:
احداهما:
في حد وقت العصر: اوله واخره:
فأمااوله: فحكى ابن المنذر فيه اقوالا، فقال:
اختلفوا في اول وقت العصر: فكان مالك والثوري والشافعي
وأحمد وإسحاق وابو ثور يقولون: وقت الظهر إذا صار ظل
كل شيء مثله.
واختلفوا بعد، فقال بعضهم: اخر وقت الظهر اول وقت
العصر، فلو ان رجلين صلى احدهما الظهر والاخر العصر
حين صار ظل كل شيء مثله لكانا مصليين الصلاتين في
وقتها، قال بهذا إسحاق، وذكر ذلك عن ابن المبارك.
وأماالشافعي فكان يقول: اول وقت العصر إذا جاوز ظل كل
شيء مثله ما كان، وذلك حين ينفصل من اخر وقت الظهر.
قلت: هذا هو المعروف في مذهب أحمد وأصحابه، وحكى بعض
المتأخرين رواية عنه كقول ابن المبارك وإسحاق، وهي غير
معروفة.
قال ابن المنذر: وحكي عن ربيعة قول ثالث، وهو: ان وقت
الظهر والعصر إذا زالت الشمس.
وفيه قول رابع، وهو: ان وقت العصر ان يصير
(4/286)
الظل قائمتين بعد الزوال، ومن صلاها قبل
ذلك لم تجزئه، وهذا قول النعمان - يعني: ابا حنيفة.
وحكى ابن عبد البر، عن مالك مثل قول ابن المبارك
وإسحاق، وعن الثوري والحسن بن صالح وأبي يوسف ومحمد
وأحمد وإسحاق وأبي ثور مثل قول الشافعي، وعن أبي
حنيفة: آخر وقت الظهر إذا صار ظل كل شيء مثليه.
قال: فخالف القياس في ذلك، وخالفه أصحابه فيه.
وذكر الطحاوي رواية اخرى عن أبي حنيفة، أنه قال: آخر
وقت الظهر حين يصير ظل كل شيء مثله، كقول الجماعة. ولا
يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه، فترك بين
الظهر والعصر وقتا مفرداً لا يصلح لاحدهما.
قال: وهذا لم يتابع عليه - أيضا.
وحكى ابن عبد البر، عن أبي ثور والمزني مثل قول ابن
المبارك ومن تابعه، بالاشترك بين الوقتين إذا صار ظل
كل شيء مثليه بقدر اربع ركعات، فمن صلى في ذلك الوقت
الظهر والعصر كان مؤديا لها.
وحكي عن عطاء وطاوس، ان ما بعد مصير ظل كل شيء مثله
وقت الظهر والعصر معاً، قال طاوس: إلى غروب الشمس،
وقال عطاء:
(4/287)
إلى اصفرارها، وقد سبق ذكر قولها، وانه حكى
رواية عن مالك.
وقد نص الشافعي على ان وقت العصر لا يدخل حتى يزيد ظل
الشيء على مثله، وكذلك قاله الخرقي من أصحابنا.
واختلف أصحاب الشافعي في معنى قوله: "بالزيادة".
فمنهم من قال: هي لبيان انتهاء الظل إلى المثل، والا
فالوقت قد دخل قبل حصول الزيادة بمجرد حصول المثل،
فعلى هذا تكون الزيادة من وقت العصر.
ومنهم من قال: انها من وقت الظهر، وانما يدخل العصر
عقبها، وقيل: انه ظاهر كلام الشافعي والعراقيين من
أصحابه.
ومنهم من قال: ليست الزيادة من وقت الظر ولا من وقت
العصر، بل هي فاصل بين الوقتين. وهو اضعف الاقوال لهم.
وأماالمنقول عن السلف، فاكثرهم حدده بقدر سير الراكب
فرسخاً أو فرسخين قبل غروب الشمس.
فروى مالك، عن نافع، أن عمر كتب إلى عماله: صلوا الظهر
إذا كان الفيء ذراعاً، الا ان يكون ظل أحدكم مثله،
والعصر والشمس بيضاء نقية، قدر ما يسير الراكب فرسخين
أو ثلاثة، قبل غروب الشمس.
ورواه غيره: عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر.
(4/288)
وروى ابو نعيم الفضل بن دركين: نا سعد بن
أوس، عن بلال العبسي، ان عمر كتب إلى سعد: صل العصر
وانت تسير لها ميلين او ثلاثة.
نا يزيد بن مردانبه، قال: سالت أنس بن مالك عن وقت
العصر، فقال: إذا صليت العصر ثم سرت ستة اميال حتى إلى
غروب الشمس فذلك وقتها.
نا ابن عيينة، عن أبي سنان، عن سعيد بن جبير، قال:
تصلي العصر قدر ما تسير البعير المحملة فرسخين.
نا ابن عيينة، عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي
الهذيل، قال: فرسخ.
وأمااخر وقت العصر، ففيه اقوال:
أحدهما: أنه غروب الشمس، روي ذلك عن ابن عباس وعكرمة
وأبي جعفر محمد بن علي.
والثاني: إلى مصير ظل كل شيء مثليه، روي عن أبي هريرة،
وهو قول الشافعي، وأحمد في رواية.
والثالث: حتى تصفر الشمس، روي عن عبد الله بن عمرو بن
العاص، وهو قول الاوزعي، وأحمد في
(4/289)
رواية، وأبي يوسف، ومحمد.
وفيه حديث، عن عبد الله بن عمرو، اختلف في رفعه ووقفه،
وقد خرجه مسلم في "صحيحه" مرفوعاً.
واكثر من قال بهذا القول والذي قبله، قالوا: لا يخرج
وقت العصر بالكلية باصفرار الشمس ولا بمصير ظل كل شيء
مثليه، انما يخرج وقت الاختيار، ويبقى ما بعده وقت
ضرورة.
وهل يكون التأخير اليه لغير ذوي الاعذار محرما، او
مكروهاً كراهة تنزيه؟ فيه وجهان لأصحابنا.
وقال الاصطخري من الشافعية: يخرج وقت العصر بالكلية
حتى يصير ظل الشيء مثليه، ويصير بعد ذلك قضاء، ولم
يوافقه على ذلك احد.
والمشهور عند الشافعية: انه بعد مصير ظل كل شيء مثليه
إلى اصفرار الشمس يجوز التأخير اليه بلا كراهة، ولكن
يفوت وقت الفضيلة والاختيار، وقالوا: يفوت وقت الفضيلة
بمصير ظل الشيء مثله ونصف مثله، ووقت الاختيار بمصير
ظل الشيء مثليه، ووقت الجواز يمتد إلى اصفرار الشمس،
ومن وقت الاصفرار إلى ان تغرب الشمس وقت كراهة لغير
ذوي الاعذار.
وحكى ابن عبد البر عن مالك وغيره من العلماء: ان من
صلى العصر قبل اصفرار الشمس فقد صلاها في وقتها
المختار، وحكاه اجماعاً، وحكاه عن الثوري وغيره.
قال: وهذا يدل على ان
(4/290)
اعتبار المثلين انما هو للاستحباب فقط.
وحكى عن أبي حنيفة: ان وقت الاختيار بمتد إلى اصفرار
الشمس.
وحكى عن إسحاق وداود: اخر وقت العصر ان يدرك المصلي
منها ركعة قبل الغروب، وسواء المعذور وغيره.
وسيأتي القول في ذلك فيما بعد - ان شاء الله سبحانه
وتعالى.
وحكى الترمذي في "جامعه" عن أبي بكرة انه نام عن صلاة
العصر، فاستيقط عند الغروب، فلم يصل حتى غربت الشمس.
وهذا قد ينبني على ان وقت العصر يخرج بالكلية باصفرار
الشمس، فتصير قضاء، والفوائت لا تقضي في اوقات النهي
عند قوم من اهل العلم.
ونهى عمر بن الخطاب من فاته شيء من العصر ان يطول فيما
يقضيه منها، حشية ان تدركه صفرة الشمس قبل ان يفرغ من
صلاته.
والمسألة الثانية:
هل الافضل تعجيل العصر في اول وقتها، او تأخيرها؟ فيه
قولان:
احدهما - وهو قول الحجازيين وفقهاء الحديث -: ان
تعجيلها في اول وقتها افضل، وهو قول الليث، والاوزاعي،
وابن مبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وقول اهل
المدينة: مالك وغيره.
ولكن مالك
(4/291)
يستحب لمساجد الجماعات ان يوخروا العصر بعد
دخول وقتها قليلاً؛ وليتلاحق الناس إلى الجماعة.
وقد تقدم انكار عروة على عمر بن عبد العزيز تأخيره
العصر شيئا، وانكار أبي مسعود الانصاري على المغيرة
تأخير العصر شياً.
والاحاديث التي خرجها البخاري في هذا الباب كلها تدل
على استحباب تعجيل العصر وتقديمها في اول وقتها.
والقول الثاني: ان تأخير إلى اخر وقتها ما لم تصفر
الشمس افضل، وهو قول اهل العراق، منهم: النخعي،
والثوري، وابو حنيفة.
قال النخعي: كان من قبلكم اشد تأخير للعصر منكم، وكان
ابراهيم يعصر العصر - أي: يضيقها إلى اخر وقتها.
وقال ابو قلابة وابن شبرمة: انما سميت العصر لتعصر.
وقد روي هذا القول عن علي، وابن مسعود وغيرهما، وفيه
احاديث مرفوعة، كلها غير قوية.
قال العقيلي: الرواية في تأخير العصر فيها لين.
وذكر الدارقطني انه لا يصح منها شيء يقاوم احاديث
التعجيل؛ فانها احاديث كثيرة، واسانيدها صحيحة من اصح
الاسانيد واثبتها. وقال: احاديث تأخير العصر لم يثبت،
وانما وجهها - ان كانت محفوظة -: ان يكون ذلك على غير
تعمد، ولكن للعذر والأمر يكون.
(4/292)
14 - باب
إثم من فاتته العصر
(4/293)
522 - حدثنا عبد الله بن يوسف: انا مالك
عن، نافع، عن عبد الله بن عمر، أن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((الذي تفوته صلاة
العصر فكأنما وتر أهله وماله)) .
قال أبو عبد الله: ? {يَتِرَكُمْ} [محمد:35] : وترت
الرجل، إذا قتلت له قتيلاً، وأخذت ماله.
فوات صلاة العصر: أريد به: فواتها في وقتها كله، كذا
فسره ابن عبد البر وغيره.
وقد فسره الاوزاعي: بفوات وقت الاختيار، بعد أن روى
هذا الحديث عن نافع، قال الأوزاعي: وذلك أن ترى ما على
الأرض من الشمس مصفراً.
خرجه أبو داود في " سننه" ومحمد بن يحيى الهمداني في "
صحيحه".
وقد أدرج بعضهم هذا في الحديث:
(4/293)
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه
الوليد، عن الأوزاعي، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من
فاتته صلاة العصر - وفواتها: أن تدخل الشمس صفرةٌ -
فكأنما وتر أهله وماله)) ؟ فقال أبي: التفسير من قول
نافع. انتهى.
وقد تبين أنه من قول الأوزاعي كما سبق.
وقد رويت هذه اللفظة من حديث حجاج والأوزاعي، عن
الزهري، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ?.
وروى هذا الحديث الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه من طريقه مسلم.
ورواه حفص بن غيلان، عن سالم، وزاد فيه: " في جماعة".
وهذه - أيضا - مدرجة، وكأنها في تفسير بعض الرواة، فسر
فواتها المراد في الحديث بفوات الجماعة لها، وإن صلاها
في وقتها، وفي هذا نظر.
وعلى تفسير الأوزاعي يكون المراد: تأخيرها إلى وقت
الكراهة، وإن صلاها في وقتها المكروه.
وعلى مثل ذلك يحمل ما رواه مالك في " الموطأ" عن يحيى
بن سعيد، أنه قال: إن الرجل ليصلي الصلاة وما قاتته،
ولما فاتته من وقتها أعظم - أو أفضل - من أهله وماله.
وقد رواه الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن يعلى بن
مسلم،
(4/294)
عن طلق بن حبيب، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً.
ورواه جعفر بن عون، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن
المنكدر، عن يعلى، عن طلق، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ورواه حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن
المنكدر، عن طلق بن حبيب، قال: كان يقال - فذكره، ولم
يذكر: النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه محمد بن نصر المروزي من هذه الوجوه كلها.
وقد روي موصولاً من وجوه أخر:
فروى وكيع في " كتابه" عن شعبة عن سعد بن إبراهيم، عن
الزهري، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن الرجل ليدرك الصلاة،
وما فاته من وقتها خير له من أهله وماله".
ورواه نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن شعبة، به.
والزهري لم يسمع من ابن عمر عند جماعة، وقيل: سمع منه
حديثاً أو حديثين.
ورواه هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن
(4/295)
القرشي، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنحوه.
خرجه محمد بن نصر المروزي.
والوليد هذا، لا أعرفه، إلا أن يكون الجرشي الحمصي،
فإنه ثقة معروف.
وروى إبراهيم بن الفضل المدني، عن المقبري، عن أبي
هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
قال: ((إن أحدكم ليصلي الصلاة لوقتها، وقد ترك من
الوقت الأول ما هو خير له من اهله وماله)) .
خرجه الدارقطني.
وإبراهيم هذا، ضعيف جداً.
ورواه - أيضا - يعقوب بن الوليد المدني، عن ابن أبي
ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه.
ويعقوب هذا، منسوب إلى الكذب.
قال ابن عبد البر في " الاستذكار": وقد روي هذا الحديث
من وجوه ضعيفة. وزعم في " التمهيد" أن حديث أبي هريرة
هذا حسن، وليس كما قال.
قال ابن عبد البر: كان مالك - فيما حكى عنه ابن القاسم
- لا يعجبه قول يحيى بن سعيد هذا - يعني: الذي حكاه
عنه في " الموطا".
وذكر ابن
(4/296)
عبد البر أن سبب كراهة مالك لذلك - والله
اعلم - أن وقت الصلاة كله يجوز الصلاة فيه، كما قال: "
ما بين هذين وقت"، ولم يقل: أوله أفضل. والذي يصح عندي
في ذلك: أن مالكا إنما أنكر قول يحيى بن سعيد؛ لأنه
إنما صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أنه قال ذلك فيمن فاتته العصر بالكلية حتى غربت الشمس،
فكأن مالكا لم ير أن بين اول الوقت ووسطه وآخره من
الفضل ما يبلغ ذهاب الأهل والمال؛ لأن ذلك إنما هو في
ذهاب الوقت كله.
وفي هذا الحديث: أن ذهاب بعض الوقت كذهاب الوقت كله،
وهذا لا يقوله أحد من العلماء، لا من فضل اول الوقت
على آخره، ولا من سوى بينهما؛ لأن فوت بعض الوقت مباح،
وفوت الوقت كله لا يجوز، وفاعله عاص لله إذا تعمد ذلك،
وليس كذلك من صلى في وسط الوقت وآخره، وان كان من صلى
في [أول] وقته أفضل منه. انتهى.
وقد تقدم أن الأوزاعي حمله على من فوت وقت الاختيار،
وصلى في وقت الضرورة، وهو يدل على انه يرى ان التأخير
إليه محرم، كما هو أحد الوجهين لأصحابنا، وهو قول ابن
وهب وغيره.
ومنهم من حمله على من فوتها حتى غربت الشمس بالكلية.
(4/297)
وظاهر تبويب البخاري يدل على ان الحديث
محمول على من فوت العصر عمداً لتبويبه عليه: " باب:
إثم من فاتته العصر".
فأمامن نام عنها أو نسيها فإن كفارته أن يصليها إذا
ذكرها، وإذا كان ذلك كفارة له فكأنه قد أدرك بذلك
فضلها في وقتها.
وفي هذا نظر، ولا يلزم من الإتيان بالكفارة إدراك فضل
ما فاته من العمل، وفي الحديث: " من ترك الجمعة
فليتصدق بدينار، أو بنصف دينار"، ولا يلزم من ذلك ان
يلحق فضل من شهد الجمعة.
ولهذا المعنى يقول مالك والأوزاعي وغيرهما فيمن صلى في
الوقت صلاة فيها بعض نقص: إنها تعاد في الوقت، ولا
تعاد بعده؛ لأن نقص فوات الوقت أشد من ذلك النقص
المستدرك بالإعادة بعده، فلا يقوم الإتيان به خارج
الوقت مقام الإتيان به في الوقت، بل الإتيان في الوقت
بالصلاة على وجه فيه نقص أكمل من الإتيان بالصلاة
كاملة في غير الوقت.
ويدل على ما قاله البخاري: ما خرجه الإمام أحمد من
رواية حجاج بن أرطاة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " الذي تفوته
صلاة العصر متعمداً حتى تغرب الشمس فكأنما وتر أهله
وماله".
ويدل عليه - أيضا - حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "
(4/298)
من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس
فلم تفته".
خرجه الإمام أحمد من رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي
سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
ورواه ابو غسان وهشام بن سعد، عن زيد بن اسلم، عن عطاء
بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه.
وقد روي ما يدل على أن الناسي لا تكون الصلاة فائتة له
كالنائم:
فروى الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر: ثنا سعيد، عن
قتادة، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة الأنصاري -
فذكر قصة نومهم مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس -، وفيه:
قال: فقلت: يا رسول الله، هلكنا، فاتتنا الصلاة، فقال
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لم
تهلكوا ولم تفتكم الصلاة، وإنما تفوت اليقطان ولا تفوت
النائم)) - وذكر الحديث.
وقد حمل بعض السلف هذا الحديث على من فاتته العصر بكل
حال، وإن كان ناسياً.
فروى زهير بن معاوية: نا أسيد بن شبرمة الحارثي، قال:
سمعت سالما يحدث عن عبد الله بن عمر، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((الذي تفوته
صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)) قال: فقلت: وإن
نسي؟ قال: وإن نسي، فصلاة ينساها أشد عليه من ذهاب
أهله وماله.
(4/299)
خرجه الدارقطني في أول كتابه " المختلف
والمؤتلف".
وذكر أن أسيد بن شبرمة، يقال: فيه " أسيد " - أيضا -
بالضم، قال: ولا اعرف له غير هذا الحديث، وحديث آخر
رواه عن الزهري.
وقوله: " وتر أهله وماله ".
قيل: معناه: حرب أهله وماله وسلبهما، من وترت فلاناً
إذا قتلت حميمه، والوتر: الحقد، بكسر الواو، ولا يجوز
فتحها، وذلك أبلغ من ذهاب الأهل والمال على غير هذا
الوجه، لأن الموتور يهم بذهاب ما ذهب منه ويطلب ثأره
حتى يأخذ به.
وقيل: معناه: أفرد عن أهله وماله، من الوتر - بكسر
الواو وفتحها -، وهو الفرد - أي: صار هو فرداً عن أهله
وماله.
وعلى هذا والذي قبله، فالمعنى: ذهاب جميع أهله وماله.
وقيل: معناه: قلل ونقص، ومنه: قوله تعالى: {وَلَنْ
يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] .
و ((أهله وماله)) : روايتهما بنصب اللام، على أنه
مفعول ثان لـ" وتر "؛ لأن ((وتر)) و ((نقص)) يتعديان
إلى مفعولين، ولو روي بضم اللام على المفعول الأول لم
يكن لحنا، غير أن المحفوظ في الرواية الأول -: قاله
الحافظ أبو موسى المديني.
وقال أبو الفرج ابن الجوزي في " كشف المشكل": في إعراب
الأهل
(4/300)
والمال، قولان:
أحدهما: نصبهما، وهو الذي سمعناه وضبطناه على أشياخنا
في كتاب أبي عبيد وغيره، ويكون المعنى: فكأنما وتر في
أهله وماله، فلما حذف الخافض انتصب.
والثاني: رفعهما على من لم يسم فاعله، والمعنى: نقصنا.
وكأنه يشير إلى أن النصب والرفع يبنى على الاختلاف في
معنى " وتر": هل هو بمعنى: سلب، أو بمعنى: نقص؟ والله
اعلم.
وفي الحديث: دليل على تعظيم قدر صلاة العصر عند الله
عز وجل وموقعها من الدين، وأن الذي تفوته قد فجع بدينه
وبما ذهب منه، كما يفجع من ذهب أهله وماله.
وهذا مما يستدل به على أن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى
المأمور بالمحافظة عليها خصوصاً بعد الأمر بالمحافظة
على الصلوات عموماً.
وقد زعم بعض العلماء: أن هذا لا يختص بفوات العصر، وأن
سائر الصلوات فواتها كفوات العصر في ذلك، وأن تخصيص
العصر بالذكر إنما كان بسؤال سائل سأل عنه فأجيب،
ورجحه ابن عبد البر، وفيه نظر.
وقد يستدل له بما خرجه الإمام أحمد وغيره من حديث عمرو
بن
(4/301)
شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " من
ترك الصلاة سكراً مرةً واحدة فكأنما كانت له الدنيا
وما عليها، فسلبها".
واستدل من قال: إن جميع الصلوات كصلاة العصر في ذلك
بما روى ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد
الرحمن بن الحارث بن هشام، عن نوفل بن معاوية الديلي،
قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: " من فاتته الصلاة فكأنما وتر اهله وماله".
قال: وهذا يعم جميع الصلوات، فإن الاسم المعرف بالألف
واللام كما في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] .
وهذا ليس بمتعين؛ لجواز أن يكون الألف واللام هنا
للعهد، كما في قوله تعالى {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ
بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة:106] على تأويل من فسرها
بصلاة العصر.
وحديث نوفل بن معاوية قد اختلف في إسناده ومتنه، وقد
خرجه البخاري ومسلم في " الصحيحين" في ضمن حديث آخر
تبعا لغيره مخرجاً من حديث صالح بن كيسان، عن الزهري،
عن
(4/302)
ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ستكون
فتن القاعد فيها خير من القائم" - الحديث.
وعن الزهري: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث،
عن عبد الرحمن بن مطيع بن الأسود، عن نوفل بن معاوية،
مثل حديث أبي هريرة، إلا أن أبا بكر يزيد: " من الصلاة
صلاةٌ من فاتته فكأنما وتر أهله وماله". كذا خرجه
البخاري في " علامات النبوة" من " صحيحه"، وخرجه مسلم
في " كتاب الفتن".
وكذا رواه عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري بهذا
الإسناد لحديث نوفل.
ورواه ابن أبي ذئب، عن الزهري، فأسقط من إسناده: عبد
الرحمن بن مطيع.
وكذلك روي عن معن، عن مالك، عن الزهري.
قال النسائي: أخاف أن لا يكون محفوظاً، عن مالك،
ولعله: معن، عن ابن أبي ذئب.
وقد روي، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن
نوفل، وهو وهم على ابن أبي ذئب.
(4/303)
وأماالاختلاف في متن الحديث، فقد روي عن
[ابن] أبي ذئب أنه قال في الحديث: " من فاتته الصلاة"
كما تقدم، وروي عنه أنه قال في حديثه: " من فاتته
صلاة" وروي عنه في حديثه: " من فاتته صلاة العصر".
وفي رواية له: " من فاتته الصلاة " وفي آخر الحديث -
قلت لأبي بكر: ما هذه الصلاة؟ قال: هي العصر؛ سمعت ابن
عمر يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "من فاتته صلاة العصر" - الحديث.
وفي رواية: قال ابو بكر: لا أدري.
وقد خرجه الإمام أحمد بالوجهين، وهذه الرواية إن كانت
محفوظة فإنها تدل على أن الزهري سمعه من أبي بكر بن
عبد الرحمن، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما سمعه من سالم، عن أبيه.
وقد أشار الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله إلى أن
الصحيح حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه كما سبق.
ويدل على صحة ما ذكره: أن البيهقي خرج حديث ابن أبي
ذئب، ولفظه: " من فاتته الصلاة فكأنما وتر أهله
وماله"، وزاد: قال ابن شهاب: فقلت: يا أبا بكر، أتدري
أنت [أية] صلاة هي؟ قال ابن شهاب: بلغني أن عبد الله
بن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله
وماله".
قال: ورواه أبو داود الطيالسي، عن ابن أبي ذئب، وقال
في آخره: قال الزهري: فذكرت ذلك لسالم، فقال: حدثني
أبي، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: " من ترك صلاة العصر".
(4/304)
وأمارواية صالح بن كيسان، عن الزهري
المخرجة في " الصحيحين"، فقد سبق لفظها، وهو: " إن في
الصلاة صلاةٌ من فاتته فكأنما وتر أهله وماله".
ولحديث نوفل طريق آخر: من رواية جعفر بن ربيعة، عن
عراك بن مالك، عن نوفل بن معاوية، أنه حدثه، أنه سمع
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
" من فاتته صلاةٌ فكأنما وتر أهله وماله". قال عراك:
فأخبرني عبد الله بن عمر انه سمع رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من فاتته صلاة
العصر فكأنما وتر اهله وماله".
خرجه النسائي.
وخرجه - أيضا - من طريق الليث، عن يزيد بن أبي حبيب،
عن عراك، أنه بلغه ان نوفل بن معاوية قال: قال رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من
الصلاة، صلاةٌ من فاتته فكأنما وتر أهله وماله"؛ قال
ابن عمر: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: " هي صلاة العصر".
وخرجه - أيضا - من طريق ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي
حبيب، عن عراك، قال: سمعت نوفل بن معاوية يقول: صلاةٌ،
من فاتته فكأنما وتر أهله وماله؛ قال ابن عمر: قال
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هي
صلاة العصر".
ففي رواية ابن إسحاق وجعفر بن ربيعة، ان عراكا سمعه من
نوفل، وفي حديث الليث ان عركا بلغه عن نوفل.
(4/305)
قال ابو بكر الخطيب: الحكم يوجب القضاء في
هذا الحديث لجعفر بن
ربيعة بثبوت اتصاله للحديث؛ لثقته وحفظه. قال: ورواية
الليث ليست تكذيباً؛ لأنه يجوز أن يكون عراك بلغه
الحديث عن نوفل ثم سمعه منه، فرواه على الوجهين
جميعاً. انتهى.
وخرج الطحاوي حديث ابن إسحاق بزيادة حسنة، عن يزيد بن
أبي حبيب، عن عراك بن مالك، قال: سمعت نوفل بن معاوية
وهو جالس مع عبد الله بن عمر بسوق المدينة يقول: سمعت
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
" صلاةٌ من فاتته فكأنما وتر أهله وماله" فقال ابن
عمر: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: " هي العصر".
وهذه الرواية إن كانت محفوظة دلت على سماع عراك للحديث
من نوفل وابن عمر.
وقال البيهقي: الحديث محفوظ عنهما جميعاً؛ رواه عراك
عنهما، أمابلاغاً او سماعاً.
وهذا يدل على توقفه في سماع عراك له منهما.
(4/306)
15 - باب
من ترك العصر
(4/307)
553 - حدثنا مسلم بن إبراهيم ثنا هشام:
أبنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي المليح،
قال: كنا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم، فقال: بكروا
بصلاة العصر؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله".
قد سبق القول مبسوطا في حبوط العمل بترك بعض الفرائض
وارتكاب بعض المحارم في " كتاب الايمان"، وبينا أن
أكثر السلف والأمة على القول بذلك، وإمرار الاحاديث
الواردة فيه على ما جاءت من غير تعسف في تأويلاتها،
وبينا أن العمل إذا أطلق لم يدخل فيه الايمان وإنما
يراد به أعمال الجوارح، وبهذا فارق قول السلف قول
الخوارج؛ فإنهم أحبطوا بالكبيرة الإيمان [والعمل] ،
وخلدوا بها في النار، وهذا قول باطل.
وأماالمتأخرون فلم يوافقوا السلف على ما قالوه،
فاضطربوا في تأويل هذا الحديث وما أشبهه، وأتوا بأنواع
من التكلف والتعسف.
فمنهم من قال: ترك صلاة العصر يحبط عمل ذلك اليوم.
ومنهم من قال: إنما يحبط العمل الذي هو تلك الصلاة
التي تركها
(4/307)
فيفوته أجرها، وهذا هو الذي ذكره ابن عبد
البر.
وهو من أضعف الاقوال، وليس في الإخبار به فائدة:
ومنهم من حمل هذا الحديث على ان من ترك صلاة واحدة
متعمداً حتى يخرج وقتها فإنه يصير بذلك كافراً مرتداً،
كما يقول ذلك من يقوله ممن يرى أن ترك الصلاة كفر.
وهذا يسقط فائدة تخصيص العصر بالذكر، فإن سائر الصلوات
عنده كذلك.
وقد روي تقييد تركها بالتعمد:
فروى عباد بن راشد، عن الحسن وأبي قلابة؛ أنهما كانا
جالسين، فقال أبو قلابة: قال أبو الدرداء: قال رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من ترك
صلاة العصر متعمداً حتى تفوته فقد حبط عمله".
خرجه الإمام أحمد.
وأبو قلابة لم يسمع من أبي الدرداء.
ورواه أبان بن أبي عياش - وهو متروك -، عن أبي قلابة،
عن أم الدرداء، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
وروى راشد أبو محمد، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء،
عن أبي الدرداء، قال: أوصاني خليلي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تترك صلاةً مكتوبةً
متعمداً، فمن تركها متعمداً فقد برئت منه الذمة".
خرجه ابن ماجة.
وخرجه البزار، ولفظه: " فقد كفر".
(4/308)
وهذا مما استدل به على كفر تارك الصلاة
المكتوبة متعمداً؛ فإنه لم يفرق بين صلاةٍ وصلاة.
وروى إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن عبد
الرحمن بن جبير بن نفير، عن معاذ بن جبل، قال: أوصاني
خليلي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره
بنحوه، وقال: " فقد برئت منه ذمة الله عز وجل".
خرجه الإمام أحمد.
ورواه - أيضا - عمرو بن واقد - وهو ضعيف -، عن يونس بن
ميسرة، عن أبي إدريس، عن معاذ.
خرجه الطبراني ومحمد بن نصر المروزي.
وخرجه المروزي - أيضا - من طريق سيار بن عبد الرحمن،
عن يزيد بن قوذر، عن سلمة بن شريح، عن عبادة بن
الصامت، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بنحوه، وقال: " فمن تركها متعمداً فقد خرج من الملة".
وقال البخاري في " تاريخه": لا يعرف إسناده.
(4/309)
وروى مكحول عن أم أيمن، أن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا تتركي الصلاة
متعمداً؛ فإنه من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه
ذمةُ الله ورسوله".
خرجه الإمام أحمد.
وهو منقطع؛ مكحول لم يلق أم أيمن.
ورواه غير واحد؛ عن مكحول، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً.
ورواه عبد الرزاق، عن محمد بن راشد، عن مكحول، عن رجل،
عن أبي ذر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
قال عبد الرزاق: وأبنا شيخ من أهل الشام، عن مكحول،
قال: ومن برئت منه ذمة الله فقد كفر.
ورواه أبو فروة الرهاوي - وفيه ضعف -، عن أبي يحيى
الكلاعي، عن جبير بن نفير، عن أميمة مولاة النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه.
خرجه محمد بن نصر المروزي.
وذكر عن محمد بن يحيى الذهلي،
(4/310)
أنه قال: هذه هي أم أيمن، فقال أبو فروة:
أميمة - يعني: أنه أخطأ في تسميتها.
فأسانيد هذا الحديث كلها غير قوية.
وأماحديث بريدة، فصحيح، وقد رواه عن يحيى بن أبي كثير:
هشام الدستوائي والأوزاعي، فأماهشام فرواه كما خرجه
البخاري من طريقه، وأماالأوزاعي فخالفه في إسناده
ومتنه.
أماإسناده: فقيل فيه: عن الأوزاعي: حدثني يحيى، وثني
أبو قلابة: حدثني أبو المهاجر، عن بريدة.
وخرجه من هذا الوجه الإمام أحمد وابن ماجة.
وقال الإمام أحمد في رواية مهنا: هو خطأ من الأوزاعي،
والصحيح حديث هشام الدستوائي. وذكر – أيضا - أن أبا
المهاجر لا أصل له، إنما هو أبو المهلب عم أبي قلابة،
كان الأوزاعي يسميه أبا المهاجر خطأ، وذكره في هذا
الإسناد من أصله خطأ، فإنه ليس من روايته، إنما هو من
رواية أبي المليح،
(4/311)
وكذا قاله الإمام أحمد في رواية ابنه عبد
الله.
وقيل: عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي
الميح، كما رواه هشام، عن يحيى.
وخرجه من هذا الوجه الاسماعيلي في " صحيحه".
وقيل: عن الأوزاعي، عن يحيى، عن ابن بريدة.
وقيل: عن الثوري، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي قلابة،
عن بريدة، بغير واسطة بينهما.
وهذا كله مما يدل على اضطراب الأوزاعي فيه، وعدم ضبطه.
وأمامتنه، فقال الأوزاعي فيه: إن بريدة قال: كنا مع
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
غزوة، فقال: " بكروا بالصلاة في اليوم الغيم فإنه من
فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله".
كذلك خرجه الإمام أحمد وابن ماجة والإسماعيلي وغيرهم.
فخالف هشأمافي ذلك؛ فإن هشأماقال في روايته: إن أبا
المليح قال: كنا مع بريدة في غزوة في يوم غيم، فقال:
بكروا بصلاة العصر؛ فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من ترك صلاة العصر فقد
حبط عمله".
فلم يرفع منه غير هذا القدر، وجعل الذين كانوا معه في
الغزوة في يوم الغيم، والذي أمر بالتكبير بصلاة العصر
هو بريدة، وهو الصحيح.
(4/312)
واللفظ الذي رواه الأوزاعي لو كان محفوظاً
لكان دليلاً على تأخير العصر في غير يوم الغيم، ولكنه
وهم.
وقد خرج البخاري حديث بريدة فيما بعد وبوب عليه: "
باب: التبكير بالصلاة في يوم غيم "، ثم خرج فيه حديث
بريدة، عن معاذ بن فضالة، عن هشام، فذكره كما خرجه
هاهنا، غير أنه لم يذكر: " في غزوة"، وقال فيه: عن
بريدة: " بكروا بالصلاة"، ولم يقل: " صلاة العصر".
قال الإسماعيلي: جعل الترجمة لقول بريدة، لا لما رواه
عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان
حق هذه الترجمة أن يكون الحديث المقرون بها ما فيه عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الامر
بتعجيل العصر في اليوم الغيم.
ثم ذكر حديث الأوزاعي بإسناده ولفظه، ثم قال: فإن كان
هذا الإسناد لا يصح عنده كان ترك هذه الترجمة أولى.
وإنما أراد البخاري قول بريدة في يوم غيم: " بكروا
بالصلاة"، ولهذا ساق الرواية التي فيها ذكر الصلاة،
ولم يسقه كما ساقه في هذا الباب بتخصيص صلاة العصر،
يشير إلى أنه يستحب في الغيم التبكير بالصلوات والقول
بالتبكير لجميع الصلوات في يوم الغيم مما لا يعرف به
قائل من العلماء، ولم يرد بريدة ذلك إنما أراد صلاة
العصر خاصة، ولا يقتضي القياس ذلك، فإن التبكير
بالصلوات في الغيم مطلقا يخشى منه وقوع الصلاة قبل
الوقت، وهو محذور، والأفضل أن لا يصلي
(4/313)
الصلاة حتى يتيقن دخول وقتها.
فإن غلب على ظنه، فهل يجوز له الصلاة حينئذ، أم لا؟
فيه قولان:
أحدهما: أنه جائز، وهو قول الثوري والشافعي وأكثر
أصحابنا.
والثاني: لا يجوز حتى يتيقن، وهو وجه لأصحابنا وأصحاب
الشافعي.
واستدل الأولون: بأن جماعة من الصحابة صلوا ثم تبين
لهم أنهم صلوا قبل الوقت، فأعادوا، منهم: ابن عمر وأبو
موسى، وهذا يدل على أنهم صلوا عن اجتهاد، وغلب على
ظنهم دخول الوقت من غير يقين.
وقال الحسن: شكوا في طلوع الفجر في عهد ابن عباس، فأمر
مؤذنه فأقام الصلاة.
خرجه ابن أبي شيبة.
وقال ابو داود: " باب: المسافر يصلي ويشك في الوقت"،
ثم خرج من حديث المسحاج بن موسى، أن أنسا حدثه، قال:
كنا إذا كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في السفر، فقلنا: زالت الشمس، أو لم تزل،
صلى الظهر ثم ارتحل.
والمنصوص عن أحمد: أنه لا يصلي الظهر حتى يتيقن الزوال
في حضر ولا سفر، وكذا قال إسحاق في الظهر والمغرب
والصبح؛ لأن هذه الصلوات لا تجمع إلى ما قبلها.
ولكن وقع في كلام مالك
(4/314)
وأحمد وغيرهما من الأئمة تسمية الظن الغالب
يقينا، ولعل هذا منه. والله اعلم.
وقد اختلف العلماء في الصلاة في يوم الغيم:
فقال الشافعي: ويحتاط ويتوخى أن يصلي بعد الوقت أو
يحتاط بتأخيرها ما بينه وبين أن يخاف خروج الوقت. وقال
إسحاق نحوه.
ولا يستحب عند الشافعي التاخير في الغيم مع تحقق دخول
الوقت، إلا في حال يستحب التاخير في الصحو كشدة الحر
ونحوه.
وحكى بعض أصحابنا مثل ذلك عن الخرقي، وحكاه – أيضا -
رواية عن أحمد.
وعن أبي حنيفة رواية باستحباب تاخير الصلوات كلها مع
الغيم.
وقالت طائفة: يؤخر الظهر ويعجل العصر، ويؤخر المغرب
ويعجل العشاء مع الغيم، وهو قول أبي حنيفة والثوري
وأحمد، وحكي - أيضا - عن الحسن والأوزاعي، ونقله ابن
منصور عن إسحاق.
وقال النخعي: كانوا يؤخرون الظهر ويعجلون العصر، ويؤخر
المغرب في يوم الغيم.
قال ابن المنذر: روينا عن عمر، أنه قال: إذا كان يوم
الغيم فعجلوا العصر وأخروا الظهر.
قال أصحابنا: يستحب ذلك مع تحقق دخول الوقت.
واختلفوا في
(4/315)
تعليل ذلك:
فمنهم من علل بالاحتياط لدخول الوقت، ولو كان الأمر
كذلك لاستوت الصلوات كلها في التأخير.
ومنهم من علل بأن يوم الغيم يخشى فيه وقوع المطر،
ويكون فيه ريح وبرد غالبا، فيشق الخروج إلى الصلاتين
المجموعتين في وقتين، فإذا أخر الأولى وقدم الثانية
خرج لهما خروجاً واحداً، فكان ذلك أرفق به، وهذا قول
القاضي أبي يعلى وأصحابه.
واختلفوا: هل يختص ذلك بمن يصلي جماعة، أو تعم الرخصة
من يصلي وحده؟ وفيه وجهان:
ومن المتأخرين من قال: المعنى في تأخير الأولى من
المجموعتين في يوم الغيم وتعجيل الثانية: أن تعجيل
الأولى منهما عن الوقت غير جائز، وتعجيل الثانية جائز
في حال الجمع، والجمع يجوز عند أحمد للأعذار،
والاشتباه في الوقت نوع عذر؛ فلهذا استحب تأخير الأولى
حتى يتيقن دخول الوقت دون الثانية، فهذا احتياط للوقت
لكن مع وقع الصلاة في الوقت المشترك فكان اولى.
وقد نص أحمد على ان المسافر حال اشتباه الوقت عليه في
الصحو – أيضا - يؤخر الظهر ويعجل العصر؛ لهذا المعنى،
وهو يدل على ان التفريق بين المجموعتين في وقت الأولى
لا يضر وأن نية الجمع لا تشترط، وقد سبقت الإشارة إلى
ذلك في أول " أبواب المواقيت".
ويدل – أيضا - على أنه يجوز تعجيل الثانية من
المجموعتين، وإن لم يتيقن دخول وقتها،
(4/316)
ويستحب تأخير الاولى منهما حتى يتيقن دخول
وقتها في السفر والغيم، وهذا أشبه بكلام الإمام أحمد.
ومن أصحابنا من استحب تأخير الظهر وتعجيل العصر في
الغيم دون المغرب لما في تأخيرها من الكراهة؛ فإن
وقتها مضيق عند كثيرٍ من العلماء، والمنصوص عن أحمد
خلافه.
وروي عن ابن مسعود، قال: إذا كان يوم الغيم فعجلوا
الظهر والعصر، وأخروا المغرب والإفطار.
وعن عبد العزيز بن رفيع، قال: عجلوا صلاة العصر؛ فإنه
بلغنا ان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: " عجلوا الصلاة" –يعني: صلاة في اليوم الغيم.
وفي رواية، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عجلوا الصلاة في يوم غيم،
وأخروا المغرب".
وكان الربيع بن خثيم إذا كان يوم غيم قال لمؤذنه:
أغسق، أغسق - يعني: أخر حتى يظلم الوقت.
وروي استحباب التبكير بالصلاة في اليوم الغيم من وجوه:
فخرج محمد بن نصر المروزي في " كتاب الصلاة" بإسناد
فيه ضعف عن أبي سعيد الخدري - مرفوعاً -، قال: " أربع
من كن فيه بلغ حقيقة الإيمان" -
(4/317)
فذكر منها -: " ابتدار الصلاة في اليوم
الدجن".
وخرج ابن وهب في " مسنده" بإسناد ضعيف - أيضا -، عن
أبي الدرداء - مرفوعاً -، قال: " تعجيل الصلاة في
اليوم الدجن من حقيقة الإيمان".
وروى ابن سعد في " طبقاته" بإسناده، أن عمر بن الخطاب
- رضي الله عنه - وصى ابنه عند موته بخصال الإيمان،
وعد منها: تعجيل الصلاة في يوم الغيم.
وقال الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير: ست من كن فيه فقد
استكمل الإيمان، فذكر منها: التبكير بالصلاة في اليوم
الغيم.
(4/318)
16 - باب
فضل صلاة العصر
فيه حديثان:
أحدهما:
قال:
(4/319)
554 - حدثنا الحميدي: ثنا مروان بن معاوية:
ثنا إسماعيل، عن قيس، عن جرير بن عبد الله، قال: كنا
عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنظر
إلى القمر ليلة البدر، فقال: " إنكم سترون ربكم كما
ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن
لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها
فافعلوا". ثم قرأ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] .
قال إسماعيل: افعلوا لا تفوتنكم.
هذا الحديث نص في ثبوت رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة،
كما دل على ذلك قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
نَاضِرَةٌ*إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]
، ومفهوم قوله في حق الكفار: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ
رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]
.
قال الشافعي وغيره: لما حجب أعداءه في السخظ دل على أن
أولياءه يرونه في الرضا.
(4/319)
والأحاديث في ذلك كثيرة جداً، وقد ذكر
البخاري بعضها في أواخر " الصحيح" في ... " كتاب
التوحيد"، وقد أجمع على ذلك السلف الصالح من الصحابة
والتابعين لهم بإحسان من الإئمة وأتباعهم.
وإنما خالف فيه طوائف أهل البدع من الجهمية والمعتزلة
ونحوهم ممن يرد النصوص الصحيحة لخيالات فاسدة وشبهات
باطلة، يخيلها لهم الشيطان، فيسرعون إلى قبولها منه،
ويوهمهم أن هذه النصوص الصحيحة تستلزم باطلاً، ويسميه
تشبيها أو تجسيما، فينفرون منه، كما خيل إلى المشركين
قبلهم أن عبادة الأوثان ونحوها تعظيم لجناب الرب، وأنه
لا يتوصل إليه من غير وسائط تعبد فتقرب إليه زلفا، وأن
ذلك أبلغ في التعظيم والاحترام، وقاسه لهم على ملوك
بني آدم، فاستجابوا لذلك، وقبلوه منه.
وإنما بعث الله الرسل وانزل الكتب لإبطال ذلك كله، فمن
اتبع ما جاءوا به فقد اهتدى، ومن أعرض عنه أو عن شيءٍ
منه واعترض فقد ضل.
وقوله: " كما ترون هذا القمر" شبه الرؤية بالرؤية، لا
المرئي بالمرئي سبحانه وتعالى.
وإنما شبه الرؤية برؤية البدر؛ لمعنيين:
أحدهما: أن رؤية القمر ليلة البدر لا يشك فيه ولا
يمترى.
والثاني: يستوي فيه جميع الناس من غير مشقة.
وقد ظن المريسي ونحوه ممن ضل وافترى على الله، أن هذا
الحديث يرد؛ لما يتضمن من التشبيه، فضل وأضل. واتفق
السلف الصالح على تلقي هذا الحديث
(4/320)
بالقبول والتصديق.
قال يزيد بن هارون: من كذب بهذا الحديث فهو بريء من
الله ورسوله.
وقال وكيع: من رد هذا الحديث فاحسبوه من الجهمية.
وكان حسين الجعفي إذا حدث بهذا الحديث قال: زعم
المريسي.
وقوله: " لا تضامون في رؤيته".
قال الخطأبي: " لا تضامون"، روي على وجهين:
مفتوحة التاء، مشددة الميم. وأصله تتضامون، أي: لا
يضام بعضكم بعضاً، أي: لا يزاحم، من الضم، كما يفعل
الناس في طلب الشيء الخفي، يريد أنكم ترون ربكم وكل
واحد منكم وادع في مكانه، لا ينازعه فيه احد.
والآخر: مخفف: تضامون - بضم التاء - من الضيم، أي: لا
يضيم بعضكم بعضا فيه. انتهى.
وذكر ابن السمعاني فيه رواية ثالثة: " تضامون" - بضم
التاء، وتشديد الميم -، قال: ومعناها: لا تزاحمون،
قال: ورواية فتح التاء مع تشديد الميم معناها: لا
تزاحمون.
وقوله: " كما ترون القمر ليلة البدر" يقوي المعنى
الأول.
وجاء التصريح به في رواية أبي رزين العقيلي، أنه قال:
يارسول الله، أكلنا يرى ربه يوم القيامة؟ وما آيةُ ذلك
في خلقه؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: " أليس
(4/321)
كلكم ينظر إلى القمر مخلياً به؟ " قال:
بلى، قال: " فالله أعظم".
خرجه الإمام أحمد.
وخرجه ابنه عبد الله في " المسند" بسياق مطول جداً،
وفيه ذكر البعث والنشور، وفيه: " فتخرجون من الأصواء -
أو من مصارعكم -، فتنظرون إليه وينظر إليكم". قال:
قلت: يا رسول الله، وكيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد،
ينظر إلينا وننظر إليه؟ قال: " أنبئك بمثل ذلك، الشمس
والقمر، آية منه صغيرة، ترونهما ويريانكم ساعة واحدة،
لا تضارون في رؤيتهما، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن
يراكم وترونه من أن ترونهما ويريانكم، لا تضارون في
رؤيتهما" - وذكر بقية الحديث.
وخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وقد ذكر أبو عبد الله بن منده إجماع أهل العلم على
قبول هذا الحديث ونقل عباس الدوري، عن ابن معين أنه
استحسنه.
وقوله: " فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع
(4/322)
الشمس وقبل غروبها فافعلوا". أمر بالمحافظة
على هاتين الصلاتين، وهما صلاة الفجر وصلاة العصر،
وفيه إشارة إلى عظم قدر هاتين الصلاتين، وأنهما أشرف
الصوات الخمس، ولهذا قيل في كل منهما: إنها الصلاة
الوسطى، والقول بأن الوسطى غيرهما لا تعويل عليه.
وقد قيل في مناسبة الأمر بالمحافظة على هاتين الصلاتين
عقيب ذكر الرؤية: أن أعلى ما في الجنة رؤية الله عز
وجل، وأشرف ما في الدنيا من الأعمال هاتان الصلاتان،
فالمحافظة عليهما يرجى بها دخول الجنة ورؤية الله عز
وجل فيها.
كما في الحديث الآخر: " من صلى البردين دخل الجنة"،
وسيأتي – إن شاء الله – في موضعه.
وقيل: هو إشارة إلى أن دخول الجنة إنما يحصل بالصلاة
مع الإيمان، فمن لا يصلي فليس بمسلم، ولا يدخل الجنة
بل هو من أهل النار، ولهذا قال أهل النار لما قيل لهم:
{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ
الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 42، 43] .
ويظهر وجه آخر في ذلك، وهو: أن أعلى أهل الجنة منزلة
من ينظر في وجه الله عز وجل مرتين بكرة وعشياً، وعموم
أهل الجنة يرونه في كل جمعة في يوم المزيد، والمحافظة
على هاتين الصلاتين على ميقاتهما ووضوئهما وخشوعهما
وآدابهما يرجى به أن يوجب النظر إلى الله عز وجل في
(4/323)
الجنة في هذين الوقتين.
ويدل على هذا ما روى ثوير بن أبي فاختة، قال: سمعت ابن
عمر يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: " إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى
جنانه وأزواجه ونعيمة وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة،
وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوةً وعشياً"، ثم
قرأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إلى رَبِّهَا
نَاظِرَةٌ*} [القيامة: 22، 23] .
خرجه الإمام أحمد والترمذي، وهذا لفظه. وخرجه - أيضا -
موقوفاً على ابن عمر. وثوير فيه ضعف.
وقد روي هذا المعنى من حديث أبي برزة الأسلمي مرفوعاً
- أيضا -، وفي إسناده ضعف.
وقاله غير واحد من السلف، منهم: عبد الله بن بريدة
وغيره.
فالمحافظة على هاتين الصلاتين تكون سبباً لرؤية الله
في الجنة في مثل هذين الوقتين، كما أن المحافظة على
الجمعة سبب لرؤية الله في يوم المزيد في الجنة، كما
قال ابن مسعود: سارعوا إلى الجمعات؛ فإن الله يبرز
لأهل الجنة في كل جمعة على كثيب من كافور أبيض،
فيكونون منه في الدنو على قدر تبكيرهم إلى الجمعات.
وروي عنه مرفوعاً.
خرجه ابن ماجة.
(4/324)
وروي عن ابن عباس، قال: من دخل الجنة من
أهل القرى لم ينظر إلى وجه الله؛ لأنهم لا يشهدون
الجمعة.
خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في " كتاب الشافي"
بإسناد ضعيف.
وقد روي من حديث أنس - مرفوعاً -: " إن النساء يرين
ربهن في الجنة في يومي العيدين".
والمعنى في ذلك: أنهن كن يشاركن الرجال في شهود
العيدين دون الجمع.
وقوله: ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]
الظاهر أن القارئ لذلك هو النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد روي من رواية زيد بن أبي أنيسة، عن إسماعيل بن أبي
خالد، عن جرير البجلي في هذا الحديث: ثم قرأ رسول الله
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ} - الآية.
خرجه أبو إسماعيل الأنصاري في " كتاب الفاروق".
وقد قيل: إن هذه الكلمة مدرجة، وإنما القارئ هو جرير
بن عبد الله البجلي.
وقد خرجه مسلم في " صحيحه" عن أبي خيثمة، عن مروان بن
(4/325)
معاوية - فذكر الحديث، وقال في آخره: ثم
قرأ جرير: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] .
وكذا رواه عمرو بن زرارة وغيره، عن مروان بن معاوية،
وأدرجه عنه آخرون.
الحديث الثاني:
(4/326)
555 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك،
عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي ? -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " يتعاقبون
فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في
صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين كانوا فيكم،
فيسألهم – وهو أعلم بهم -: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون:
تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون".
قوله: " يتعاقبون فيكم ملائكة" جمع فيه الفعل مع
إسناده إلى ظاهر، وهو مخرج على اللغة المعروفة بلغة "
أكلوني البراغيث"، وقد عرفها بعض متأخري النحاة بهذا
الحديث، فقال: " هي لغة يتعاقبون فيكم ملائكة".
والتعاقب: التناوب والتداول، والمعنى: أن كل ملائكة
تأتي تعقب الأخرى.
وقد دل الحديث على أن ملائكة الليل غير ملائكة النهار.
وقد خرجا في "الصحيحين" من حديث الزهري، عن سعيد وأبي
سلمة،
(4/326)
عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " تجتمع ملائكة الليل،
وملائكة النهار في صلاة الفجر". ثم يقول أبو هريرة:
اقرءوا إن شئتم: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ
مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] .
ففي هذه الرواية: ذكر اجتماعهم في صلاة الفجر، واستشهد
أبو هريرة بقول الله عز وجل: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ
كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] .
وقد روي في حديث من رواية أبي الدرداء - مرفوعاً -،
انه يشهده الله وملائكته.
وفي رواية: " ملائكة الليل وملائكة النهار".
خرجه الطبراني وابن منده وغيرهما.
فقد يكون تخصيص صلاة الفجر لهذا، وصلاة العصر يجتمع
–أيضا - فيها ملائكة الليل والنهار، كما دل عليه حديث
الأعرج، عن أبي هريرة.
وقد روي نحوه من حديث حميد الطويل، عن بكر المزني، عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً.
وهؤلاء الملائكة، يحتمل أنهم المعقبات، وهم الحفظة،
ويحتمل أنهم كتبة الأعمال.
وروى أبو عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود، في قوله:
{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} ، قال:
يعني صلاة الصبح، يتدارك فيه الحرسان ملائكة الليل
وملائكة النهار.
(4/327)
وقال إبراهيم، عن الأسود بن يزيد: يلتقي
الحارسان من ملائكة الليل وملائكة النهار عند صلاة
الصبح، فيسلم بعضهم على بعض، ويحيى بعضهم بعضاً، فتصعد
ملائكة الليل وتبسط ملائكة النهار.
قال ابن المبارك: وكل بابن آدم خمسة أملاك: ملكا
الليل، وملكا النهار، يجيئان ويذهبان، والخامس لا
يفارقه ليلاً ولا نهاراً.
وممن قال: إن ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع في
صلاة الفجر، وفسر بذلك قول الله عز وجل: {وَقُرْآنَ
الْفَجْرِ [إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ] كَانَ
مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] : مجاهدٌ ومسروقٌ وغيرهما.
قال ابن عبد البر: والأظهر أن ذلك في الجماعات. قال:
وقد يحتمل الجماعات وغيرها.
قلت: يشهد للأول قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: " إذا أمن الإمام فأمنوا، فمن وافق
تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه".
ونهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من
أكل الثوم أن يشهد المسجد، وتعليله: أن الملائكة تتأذى
مما يتأذى منه بنو آدم.
وقد بوب البخاري على اختصاصه بالجماعات في " أبواب
صلاة الجماعة"، كما سيأتي في موضعه - إن شاء الله
تعالى.
ويشهد الثاني: أن المصلي ينهى عن أن يبصق في صلاته عن
يمينه؛ لأن عن يمينه ملكاً، ولا يفرق في هذا بين مصلي
جماعة وفرادي.
(4/328)
17 - باب
من أدرك من العصر ركعة قبل الغروب
فيه ثلاثة أحاديث:
الأول:
(4/329)
556 - حدثنا أبو نعيم: ثنا شيبان، عن يحيى،
عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: قال رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا أدرك أحدكم سجدة من
صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك
سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته".
وقد خرجه فيما بعد من وجه آخر عن أبي هريرة، عن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولفظه: " من
أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح،
ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك
العصر".
ومقصود البخاري بهذا الحديث في هذا الباب: أن وقت
العصر يمتد إلى غروب الشمس؛ ولهذا جعله مدركا لها
بإدراك ركعة منها قبل غروب الشمس، فإدراكها كلها قبل
الغروب أولى أن يكون مدركاً لها.
وقد سبق قول من قال: إن وقت العصر إلى غروب الشمس،
منهم:
(4/329)
ابن عباس وعكرمة، وهو رواية عن مالك
والثوري وهو قول إسحاق.
قال إسحاق: آخر وقتها للمفرط، وصاحب عذر هو قدر ما
يبقى إلى غروب الشمس ركعة -: نقله عنه ابن منصور.
وحكي مثله عن داود.
وروي عن أبي جعفر محمد بن علي ما يشبهه.
وهو وجه ضعيف للشافعية مبني على قولهم: إن الصلاة كلها
تقع أداء كما سيأتي.
والصحيح عندهم: أنه لا يجوز التاخير حتى يبقى من الوقت
ركعة.
وإن قيل: إنها أداء - كمذهبنا ومذهب الأكثرين وأكثر
العلماء - على ان تأخيرها إلى أن يبقى قدر ركعة قبل
الغروب لا يجوز لغير أهل الأعذار، وهو قول الأوزاعي
والشافعي وأحمد وأبي ثور وحكاه عن العلماء.
وقد دل على ذلك ما خرجه مسلم في " صحيحه" من حديث عبد
الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قال: " وقت العصر ما لم تصفر الشمس".
ومن حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي
هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: " تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا
كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا، لا يذكر الله
فيها إلا قليلاً".
(4/330)
وخرجه أبو داود - بمعناه، وزاد: "حتى إذا
اصفرت الشمس فكانت بين قرني الشيطان - أو على قرني
الشيطان" - وذكر باقيه.
فهذا يدل على [أن] تأخيرها إلى بعد اصفرار الشمس
وتضيقها للمغرب غير جائز لمن لا عذر له.
وأجمع العلماء على ان من صلى بعض العصر ثم غربت الشمس
أنه يتم صلاته، ولا إعادة عليه.
وأجمعوا على أن عليه إتمام ما بقي منها، وهو يدل على
أن المراد بإدراكها إدراك وقتها.
واختلفوا في الواقع منها بعد غروب الشمس: هل هو أداء،
أو قضاء؟ وفيه وجهان لأصحابنا والشافعية:
أحدهما: أنه قضاء، وهو قول الحنفية؛ لوقوعه خارج
الوقت.
والثاني: أنه أداء، وهو أصح عند أصحابنا والشافعية؛
لقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فقد
أردكها".
وللشافعية وجه آخر: أنها كلها تكون قضاء، وهو ضعيف.
هذا كله إذا أدرك في الوقت ركعة فصاعداً، فإن أدرك دون
ركعة ففيه للشافعية طريقان:
أحدهما: أنه على هذا الخلاف - أيضا.
والثاني: أن الجميع قضاء، وبه قطع أكثرهم.
وأمامذهب أصحابنا:
فقال أكثرهم: لا فرق بين أن يدرك في الوقت
(4/331)
ركعة أو ما دونها، حتى لو أدرك تكبيرة
الإحرام كان كإدراك ركعة.
واستدلوا بحديث " من أدرك سجدة"، وقالوا: المراد به
قدر سجدة.
وفيه نظر؛ فإن السجدة يراد بها الركعة، وهو المراد من
هذا الحديث والله اعلم.
وحكى بعضهم رواية عن أحمد، أنه لا يكون مدركا لها في
الوقت بدون إدراك ركعة كاملة، وبذلك جزم ابن أبي موسى
في " إرشاده"، وجعله مذهب أحمد ولم يحك عنه فيه
خلافاً، فعلى هذا ينبغي أن يكون الجميع قضاء إذا لم
يدرك في الوقت ركعة، وهو ظاهر قول الأوزاعي.
الحديث الثاني:
قال:
(4/332)
557 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: حدثني
إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن
أبيه، أنه أخبره، أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إنما بقاؤكم فيما سلف من
الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي
أهل التوراة التوراة، فعملوا بها حتى إذا انتصف النهار
عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي أهل الإنجيل
الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا، فأعطوا
قيراطاً قيراطاً، ثم أوتينا القرآن، فعملنا إلى غروب
الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين. فقال أهل الكتأبين:
أي ربنا، أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا
قيراطاً قيراطاً، ونحن أكثر عملاً؟ قال الله: هل
ظلمتكم
(4/332)
من أجركم من شيء؟ قالوا: لا. قال: فهو فضلي
أوتيه من أشاء".
قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنما
بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم" إنما أراد به - والله
أعلم -: أتباع موسى وعيسى عليهما السلام، وقد سمى الله
بني إسرائيل بانفرادهم أمما، فقال:
{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} ? [الأعراف:
168] ؛ ولهذا فسر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ذلك بعمل أهل التوارة بها إلى انتصاف
النهار، وعمل أهل الإنجيل به إلى العصر، وعمل المسلمين
بالقرآن إلى غروب الشمس.
ويدل على ذلك - أيضا -: حديث أبي موسى الذي خرجه
البخاري بعد هذا، ولفظه: " مثل المسلمين واليهود
والنصارى كمثل رجل أستأجر قوما يعملون له إلى الليل" -
وذكر الحديث، كما سيأتي - إن شاء الله.
وإنما قلنا: إن هذا هو المراد من الحديث؛ لأن مدة هذه
الأمة بالنسبة إلى مدة الدنيا من أولها إلى آخرها لا
يبلغ قدر ما بين العصر إلى غروب الشمس بالنسبة إلى ما
مضى من النهار، بل هو أقل من ذلك بكثير.
ويدل عليه صريحا: ما خرجه الإمام أحمد والترمذي من
حديث أبي سعيد، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صلى بهم صلاة العصر يوماً بنهار، ثم قام
خطيباً، فلم يدع شيئاً يكون إلى قيام الساعة إلا
أخبرنا به - فذكر الحديث بطوله، وقال في آخره: قال:
وجعلنا نلتفت إلى الشمس هل بقي منها شيء، فقال رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الا إنه
لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا
فيما مضى منه".
وقال الترمذي: حديث حسن.
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن عمر، قال: كنا جلوسا عند
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والشمس على
قعيقعان بعد العصر، فقال: " ما أعماركم في أعمار من
مضى إلى كما بقي من النهار فيما مضى منه".
ومن حديث ابن عمر، أنه كان واقفا بعرفات ينظر إلى
الشمس حين تدلت مثل الترس للغروب، فبكى، وقال: ذكرت
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو
واقف بمكاني هذا، فقال: " أيها الناس، لم يبق من
دنياكم فيما مضى إلا كما
(4/333)
بقي من يومكم هذا فيما مضى منه".
ويشهد لذلك من الأحاديث الصحيحة: قول النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بعثت أنا والساعة
كهاتين"، وقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى.
خرجاه في " الصحيحين" من حديث أنس، وخرجاه - أيضا -
بمعناه من حديث أبي هريرة وسهل بن سعد.
وخرجه مسلم بمعناه من حديث جابر.
(4/334)
وخرج الترمذي من حديث المستورد بن شداد، عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: "
بعثت في نفس الساعة، فسبقتها كما سبقت هذه هذه" -
لأصبعيه: السبابة والوسطى.
وفي " مسند الإمام أحمد" عن بريدة، عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " بعثت أنا والساعة
جميعاً، إن كادت لتسبقني".
وروى الإمام أحمد –أيضا: ثنا أبو ضمرة: حدثني أبو
حازم، لا أعلمه إلا عن سهل بن سعد، عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " مثلي ومثل الساعة
كهاتين" - وفرق كذا بين أصبعيه الوسطى والتي تلي
الإبهام، ثم قال: " مثلي ومثل الساعة كمثل فرسي رهان"،
ثم قال: "مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة،
فلما خشي أن يسبق الاح بثوبه أتيتم أتيتم". ثم يقول
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنا
ذاك".
وكل هذا النصوص تدل على شدة اقتراب الساعة، كما دل
عليه قوله تعالى:
{اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}
[القمر:1] ، وقوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1] .
وقد فسر قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "
بعثت أنا والساعة كهاتين" - وقرن بين السبابة والوسطى
بقرب زمانه من الساعة، كقرب السبابة من الوسطى، وبأن
زمن بعثته تعقبه السعة من غير تخلل نبي آخر بينه وبين
الساعة، كما قال في الحديث الصحيح: " أنا الحاشر،
(4/335)
يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب".
فالحاشر: الذي يحشر الناس لبعثهم يوم القيامة على قدمه
- يعني: ان بعثهم وحشرهم يكون عقيب رسالته، فهو مبعوث
بالرسالة وعقيبه يجمع الناس لحشرهم.
والعاقب: الذي جاء عقيب الأنبياء كلهم، وليس بعده نبي،
فكان إرساله من علأماالساعة.
وفي " المسند"، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " بعثت بالسيف بني يدي
الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له".
وفسر قتادة وغيره قوله: " كهاتين" - وأشار بالسبابة
والوسطى، بأن المراد: كفضل إحداهما على الأخرى – يعني:
كفضل الوسطى على السبابة.
وقد ذكر ابن جرير الطبري: أن فضل ما بين السبابة
والوسطى نحو نصف سبع، وكذلك قدر ما بين صلاة العصر في
أوسط نهارها بالإضافة إلى باقي النهار نصف سبع اليوم
تقريباً، فإن كانت الدنيا سبعة آلاف سنة، فنصف يوم
خمسمائة سنة.
وقد روي في ذلك حديث ابن زمل - مرفوعاً - أن الدنيا
سبعة آلاف سنة، وأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في آخرها ألفاً.
(4/336)
وإسناده لا يصح.
ويشهد لهذا الذي ذكره ابن جرير: ما خرجه أبو داود من
حديث أبي ثعلبة الخشني، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " لن يعجز الله هذه الأمة
من نصف يوم".
وروي موقوفاً، ووقفه أصح عند البخاري وغيره.
وخرج أبو داود –أيضا - بإسناد منقطع عن سعد، عن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " إني
لأرجو أن لا يعجز امتي عند ربهم أن يؤخرهم نصف يوم".
قيل لسعد: كم نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة.
وإن صح هذا، فإنما يدل على أنه - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجا لأمته تاخير نصف يوم، فأعطاه
الله رجاءه وزاده عليه، فإنا الآن في قريب رأس
الثمانمائة من الهجرة، وما ذكره ابن جرير من تقدير ذلك
بنصف سبع يوم على التحديد لا يصلح، وقد ذكر غيره أن
المسبحة ستة أسباع الوسطى طولاً، فيكون بينهما من
الفضل سبع كامل، وذلك ألف سنة، على تقدير أن تكون
الدنيا سبعة آلاف سنة، وأن بعثة النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في آخرها ألفاً، وهذا – أيضا -
لا يصح، ولا يبلغ الفضل بينهما سبعاً كاملاً.
وقيل: إن قدر الفضل بينهما نحو من ثمن، كما سنذكره -
ان شاء الله.
(4/337)
وفي " صحيح مسلم" عن أنس، أن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " بعثت أنا
والساعة كهاتين". قال: وضم السبابة والوسطى.
وقد سبق في رواية الإمام أحمد، أنه فرق بينهما، وقد
ذكر بعضهم على تقدير صحة رواية التفريق ان فرج ما بين
الأصابع الخمسة ستة امثال فرجة ما بين السبابة
والوسطى، وحجم الأصابع الخمس ضعف ما بين المسبحة
والوسطى، فيكون حجم الأصابع الخمس مع الفرج الأربع
الواقعة بينهم ثمانية أجزاء فرجة ما بين السبابة
والوسطى جزء منها.
ويئول المعنى إلى أن ما بينه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وبين الساعة قدر ثمن الدنيا، وهو ثمانمائة
وخمس وسبعون سنة على تقدير ما تقدم ذكره.
قال: ويعتضد ذلك بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم كما بين
صلاة العصر والمغرب)) ، فإن ما بين العصر والغرب قريب
من ثُمن زمان دورة الفلك التامة مرةً واحدة، وهي أربعة
وعشرون ساعة. انتهى ما ذكره.
وأخذ بقاء ما بقي من الدنيا على التحديد من هذه النصوص
لا يصح؛ فإن الله استأثر بعلم الساعة، ولم يطلع عليه
أحداً من خلقه، وهو من مفاتح الغيب الخمس التي لا
يعلمها إلا الله؛ ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ما المسؤول عنها بأعلم من
السائل)) . وإنما خرج هذا من النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على وجه التقريب للساعة من غير
تحديد لوقتها.
(4/338)
وقد قدمنا أن المراد بهذا الحديث مدةُ أمة
محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع مدة أمة
موسى وعيسى عليهم السلام، فمدة هذه الأمم الثلاث كيوم
تام، ومدة ما مضى من الأمم في أول الدنيا كليلة هذا
اليوم؛ فإن الليل سابق للنهار، وقد خلق قبله على أصح
القولين، وتلك الليلة السابقة كان فيها نجومُ تضيء
ويهتدى بها، وهم الأبيياء المبعوثون فيها، وقد كان
–أيضا - فيهم قمرٌ منير، وهو إبراهيم الخليل عليه
السلام، إمام الحنفاء ووالدُ الأنبياء، وكان بين آدم
ونوح ألف سنة، وبين نوح وإبراهيم ألف سنة، وبين
إبراهيم وموسى عليه السلام ألف سنة. قال ذلك غير واحد
من المتقدمين، حكاه عنهم الواقدي.
وذكر بعض علماء أهل الكتاب أن من آدم إلى إبراهيم
ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثمان وعشرون سنة، ومن إبراهيم
إلى خروج موسى من مصر خمسمائة وسبع وستون سنة، وذكر إن
من آدم إلى مولد المسيح خمسة آلاف وخمسمائة سنة، ومن
مولد المسيح إلى هجرة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ستمائة وأربع عشر سنة، ومن آدم إلى الهجرة
ستة آلاف سنة ومائة وأربع عشرة سنة، ومن خروج بني
أسرائيل إلى الهجرة ألفان ومائتان وتسع وسبعون سنة،
ولكن إنما يؤرخون بالسنة الشمسية لا القمرية.
وأماابتداء رسالة موسى عليه السلام فكانت كابتداء
النهار، فإن موسى وعيسى ومحمداً - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم أصحاب الشرائع والكتب المتبعة
والأمم العظيمة.
وقد أقسم الله بمواضع رسالاتهم في قوله: {وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ
الأَمِينِ*} .
(4/339)
[التين: 1 - 3]
وفي التوراة: ((جاء الله من طور سيناء، وأشرق من
ساعير، واستعلن من جبال فاران)) .
ولهذا سمي محمداً - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
سراجاً منيراً؛ لأن نوره للدنيا كنور الشمس وأتم وأعظم
وأنفع، فكانت مدة عمل بني إسرائيل إلى ظهور عيسى كنصف
النهار الأول، ومدة عمل أمة عيسى كما بين الظهر
والعصر، ومدة عمل المسلمين كما بين العصر إلى غروب
الشمس، وهذا أفضل أوقات النهار.
ولهذا كانت الصلاة الوسطى هي العصر على الصحيح؛ وأفضل
ساعات يوم الجمعة ويوم عرفة من العصر إلى غروب الشمس،
فلهذا كان خيرُ قرون بني آدم القرن الذي بعث فيه محمد
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد خرج البخاري ذلك من حديث أبي هريرة – مرفوعاً.
وقد أعطى الله تعالى من عمل بالتوراة والإنجيل قيراطاً
قيراطاً، وأعطى هذه الامة لعملهم قيراطين.
فقال الخطأبي: كان كل من الأمم الثلاثة قد استؤجر
ليعمل تمام النهار بقيراطين، فلما عجز كل واحد من
الأمتين قبلها، وانقطع عن عمله في وسط المدة أعطى
قيراطاً واحداً، وهذه الأمة قد أتمت مدة عملها فكمل
لها أجرها.
وقد جاء في رواية أخرى من حديث ابن عمر، أن كل طائفة
منهم استؤجرت لتعمل إلى مدة انتهاء عملها على ما حصل
لها من الأجر.
فقال الخطأبي: لفظه مختصر، وإنما أخبر الراوي بما آل
إليه الأمر فقط.
(4/340)
وفيما قال نظر، وسيأتي الكلام عليه في
الحديث الثالث – إن شاء الله.
وعجز اليهود والنصارى عن إتمام المدة هو بما حصل لهم
مما لا ينفع معه عمل، مع البقاء على ما هم عليه من
النسخ والتبديل، مع تمكنهم من إتمام العمل بالإيمان
بالكتاب الذي أنزل بعد كتابهم.
وقولهم: ((نحن أكثر عملاً وأقل أجراً)) .
أماكثرة عمل اليهود فظاهر؛ فإنهم عملوا إلى انتصاف
النهار، وأماالنصارى فإنهم عملوا من الظهر إلى العصر،
وهو نظير مدة عمل المسلمين.
فاستدل بذلك من قال: إن أول وقت العصر مصير كل شيء
مثليه، وهم أصحاب أبي حنفية، قالوا: لأنه لو كان أول
وقت العصر مصير ظل كل شيء مثله لكان مدة عملهم ومدة
عمل المسلمين سواء.
وأجاب عن ذلك من قال: إن أول وقت العصر مصير ظل الشيء
مثله من أصحابنا والشافعية وغيرهم بوجوه:
منها: أن أحاديث المواقيت مصرحة بأن أول وقت العصر
مصير ظل الشيء مثله، وهذا الحديثُ إنما ساقه النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مساق ضرب الأمثال،
والأمثال مظنة التوسع فيها، فكان الأخذ بأحاديث توقيت
العصر المسوقة لبيان الوقت أولى.
ومنها: أن المراد بقولهم: ((أكثر عملاً)) ، أن عمل
مجموع
(4/341)
الفريقين أكثر.
فإن قيل: فقد قالوا: ((وأقل أجراً)) ومجموع الفريقين
لهم قيراطان كأجر هذه الأمة.
قيل: لكن القيراطان في مقابلة عمل كثير، فإنهما عملا
ثلاثة أرباع النهار بقيراطين، وعمل المسلمون ربع
النهار بقيراطين، فلذلك كان أولئك أقل أجراً.
ومنها: أن وقت العصر إذا سقط من أوله مدة التأهب
للصلاة بالأذان والإقامة والطهارة والستارة وصلاة أربع
ركعات والمشي إلى المساجد، صار الباقي منه إلى غروب
الشمس أقل مما بين الظهر والعصر.
وحقيقةُ هذا: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إنما أراد أن أمته عملت من زمن فعل صلاة
العصر المعتاد لا من أول دخول وقتها.
ومنها: أن كثرة العمل لا يلزم منه طول المدة، فقد يعمل
الأنسان في مدة قصيرة أكثر مما يعمل غيره في مدة
طويلة.
وقد ضعف هذا؛ بأن ظاهر الحديث يرده، ويدل على اعتبار
طول المدة وقصرها، إلا أن يقال: كنى عن كثرة العلم
وقلته بطول المدة وقصرها، وفيه بعد.
وقد روى هشام بن الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن
عباس، قال: كان بين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة سنة،
ولم يكن بينهما فترة، وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني
إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى
والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألف سنة
وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء، وكانت
الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولاً أربعمائة سنة
وأربع وثمانون سنة.
(4/342)
هذا إسناد ضعيف، لا يعتمد عليه.
وإنما يصح ذلك على تقدير أن يكون بين عيسى ومحمد
أنبياء، والحديث الصحيح يدل على أنه ليس بينهما نبي،
ففي ((صحيح البخاري)) عن سلمان، أن مدة الفترة كانت
ستمائة سنة.
وقد ذكر قوم: أن من لدن خلق آدم إلى وقت هجرة النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ستة آلاف سنة، تنقص
ثمان سنين.
وقال آخرون: بينهما أربعة آلاف وستمائة واثنان وأربعون
سنة وأشهر.
واختلفوا في مدة بقاء الدنيا جميعها:
فروي عن ابن عباس، أنها جمعة من جمع الآخرة، سبعة آلاف
سنة.
وعن كعب ووهب، أنها ستة آلاف سنة.
وعن مجاهد وعكرمة، قالا: مقدار الدنيا من أولها إلى
آخرها خمسون ألف سنة، ولا يعلم ما مضى منه وما بقي إلا
الله عز وجل، وأن ذلك هو اليوم الذي قال الله فيه:
{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي
يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} .
[المعارج: 4]
خرجه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) .
وقد قدمنا: أن حديث ابن عمر الذي خرجه البخاري هاهنا
يدل على أن مدة الدنيا كلها كيوم وليلة، وأن مدة الأمم
الثلاث أصحاب الشرائع المتبعة قريب من نصف ذلك، وهو
قدر يوم تام، وأن مدة اليهود منه إلى ظهور عيسى حيث
كانت أعمالهم صالحة تنفعهم
(4/343)
عند الله كما بين صلاة الصبح إلى صلاة
الظهر، ومدة النصارى إلى ظهور محمد - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث كانت أعمالهم صالحة مقبولة
كما بين صلاةِ الظهر والعصر، ومدة المسلمين منه من
صلاة العصر إلى غروب الشمس، وذلك في الزمان المعتدل
قدر ربع النهار، وهو قدر ثمن الليل والنهار كما سبق
ذكره وتقديره.
لكن مدة الماضي من الدنيا إلى بعثة محمد - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومدة الباقي منها إلى يوم
القيامة، لا يعلمه على الحقيقة إلا الله عز وجل، وما
يذكر في ذلك فأنما هو ظنون لا تفيد علماً.
وكان مقصود البخاري بتخريج هذا الحديث في هذا الباب:
أن وقت العصر يمتد إلى غروب الشمس؛ لأنه جعل عمل
المسلمين مستمراً من وقت العصر إلى غروب الشمس، وإنما
ضرب المثل لهم بوقت صلاة العصر، واستمرار العمل إلى
آخر النهار لاستمرار مدة وقت العصر إلى غروب الشمس،
وأن ذلك كله وقت لعملهم، وهو صلاة العصر، فكما أن مدة
صلاتهم تستمر إلى غروب الشمس، فكذلك مدة عملهم بالقرآن
في الدنيا مستمر من حين بعث محمد - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى تقوم عليهم الساعة ويأتي أمر
الله وهم على ذلك.
الحديث الثالث:
قال:
(4/344)
558 - حدثنا أبو كريب: ثنا أبو أسامة، عن
بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((مثل المسلمين
واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له
عملاً إلى الليل، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا: لا
حاجة لنا إلى أجرك، فاستأجر آخرين، فقال: أكملوا بقية
(4/344)
يومكم ولكم الذي شرطت، فعملوا حتى إذا كان
حين صلاة العصر قالوا: لك ما عملنا، فاستأجر قوماً
فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر
الفريقين)) .
ظاهر هذه الرواية: يدل على أن كلاً من الفريقين اليهود
والنصارى أبطلوا عملهم ولم يسقطوا أجرهم فلم يستحقوا
شيئاً، وهذا بخلاف ما في حديث ابن عمر الماضي أنهم
أعطوا قيراطاً قيراطاً.
وقد يحمل حديث ابن عمر على من مات قبل نسخ دينه
وتبديله، وكان عمله على دين حق، وحديث أبي موسى هذا
على من أدركه التبديل والنسخ، فاستمر على عمله، فإنه
قد أحبط عمله وأبطل أجره، فلم يستحق شيئاً من الأجر.
فإن قيل: فمن مات قبل التبديل والنسخ مؤمن، له أجره
عند الله، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى
وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ} [البقرة:
(4/345)
62] .
قيل: هو كذلك، وإنما لهم أجر واحد على عملهم؛ لأنه شرط
لهم ذلك، كما جاء في رواية أخرى صريحة من حديث أيوب،
عن نافع، عن ابن عمر، وهذه الأمة شرط لها على اتمام
عمل بقية اليوم أجران.
وقوله: ((فاستكملوا أجر الفريقين)) ؛ لأنه لما بطل
عملهما وسقط أجرهما، وعمل المسلمون بقيةَ النهار على
قيراطين، فكأنهم أخذوا القيراطين منهما واستحقوا ما
كان لهما على عملهما وحازوه دونهما،
(4/345)
ولهذا قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لئلا يَعْلَمَ أَهْلُ
الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
[الحديد: 28، 29] ؛ ولهذا اعترف أهل الكتاب أنهم لم
يظلموا من أجرهم شيئاً.
وفي حديث أيوب: ((أن اليهود استؤجرت لتعمل إلى الظهر
على قيراط، والنصارى إلى العصر على قيراط)) ، وهذا
صحيح؛ فإن كلاً من الطائفتين أشعر بنسخ دينه وتأقيته،
وانه يعمل عليه إلى أن يأتي نبي آخر بكتاب آخر مصدق
له، وإن لم يذكر لهم ذلك الوقت معيناً.
وقد تنازع أهل الأصول فيمن أمر أن يعمل عملاً إلى وقت
غير معين، ثم أمر بترك ذلك العمل، والعمل بغيره: هل هو
نسخ في حقه، أم لا؟ مثل قوله تعالى: {فَاعْفُوا
وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}
[البقرة: 109] .
وفي الجملة، فاستحقاق اليهود والنصارى قيراطاً واحداً
على عملهم وإحباط أجرهم وإبطاله هو بالنسبة إلى
طائفتين منهم، لا إلى طائفة واحدة.
وقد استدل أصحابنا بحديث أبي موسى على أن من استؤجر
لعمل في مدة معينة، فعمل بعضه في بعض المدة، ثم ترك
العمل في باقي المدة باختياره من غير عذر، أنه قد أسقط
حقه من الأجرة، ولا يستحق منها شيئاً.
(4/346)
ومقصود البخاري بهذا الحديث – أيضا -: أن
ضرب المثل لعمل المسلمين من وقت صلاة العصر إلى غروب
الشمس يؤخذ منه بقاء وقت صلاة العصر وامتداده إلى غروب
الشمس، كما سبق.
(4/347)
18 - باب
وقت المغرب
وقال عطاء: يجمع المريض بين المغرب والعشاء.
قد سبق الكلام على جمع المريض مستوفى في الكلام على
حديث ابن عباس في الجمع لغير عذر.
وخرج في هذا الباب أربعة أحاديث:
الحديث الأول:
قال:
(4/348)
559 - حدثنا محمد بن مهران: ثنا الوليد:
ثنا الأوزاعي: حدثني أبو النجاشي مولى رافع – هو: عطاء
بن صهيب -، قال: سمعت رافع بن خديج قال: كنا نصلي
المغرب مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله.
وقد روي هذا المعنى عن غير واحد من الصحابة في صلاتهم
مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المغرب،
ولم يخرج في ((الصحيحين)) من غير هذه الطريق.
وقد روى شعبة، عن أبي بشر، عن حسان بن بلال، عن رجال
من أسلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -؛ أنهم كانوا يصلون مع النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يرجعون
(4/348)
إلى أهليهم إلى أقصى المدينة يرمون، يبصرون
مواقع سهامهم.
خرجه النسائي.
وخرجه الإمام أحمد عن هشيم، عن أبي بشر، عن علي بن
بلال الليثي، عن ناس من الأنصار، قالوا: كنا نصلي مع
رسول الله المغرب، ثم ننصرف فنترامى حتى نأتي ديارنا،
فيما يخفى علينا مواقع سهامنا.
وخرجه –أيضا - من رواية أبي عوانة، عن أبي بشر –
بنحوه.
وهو أشبه من رواية شعبة -: قاله البخاري في ((تاريخه))
.
وروى الزهري، عن رجل من أبناء النقباء، عن أبيه، قال:
كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - المغرب، ثم ننصرف فننظر إلى مواقع النبل،
وبينهم نحو من ميل – يعني: قباء.
وفي رواية: ثم نخرج إلى منازلنا، وإن أحدنا لينظر إلى
موقع نبله، قيل للزهري: كم كان منازلهم؟ قال: ثلثا
ميل.
وخرج الإمام أحمد وابن خزيمة في ((صحيحه)) من حديث
جابر، قال: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المغرب، ثم نأتي بني سلمة ونحن
نبصر مواقع النبل.
وخرجه الإمام أحمد من رواية ابن عقيل، عن جابر –
بنحوه، إلا أنه قال: ثم نرجع إلى منازلنا وهي [على
قدري] ميل وأنا أبصر موقع النيل.
(4/349)
وهذا كله يدل على شدة تعجيل النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة المغرب، ولهذا كانت
تسمى صلاة البصر.
كما خرجه الإمام أحمد من رواية أبي طريف الهذلي، قال:
كنت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين
جاء خبر أهل الطائف، فكان يصلي بنا صلاة البصر، حتى لو
أن رجلاً رمي لرأى موقع نبله.
(4/350)
قال الإمام أحمد: صلاة البصر: هي صلاة
المغرب.
الحديث الثاني:
(4/351)
560 - ثنا محمد بن بشار: ثنا محمد بن جعفر:
ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن محمد بن عمرو بن
الحسن بن علي، قال: قدم الحجاج، فسألنا جابر بن عبد
الله، فقال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس نقية،
والمغرب إذا وجبت، والعشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم
اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطئوا أخر، والصبح كانوا – أو
كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها
بغلس.
مقصوده من هذا الحديث في هذا الباب: صلاة النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المغرب إذا وجبت –
يعني: الشمس -، ووجوبها: سقوطها، كقوله تعالى: {فَإذا
وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36] ،
والمعنى: إذا سقط قرص الشمس وذهب في الأرض وغاب عن
أعين الناس.
الحديث الثالث:
قال: 561 - حدثنا المكي بن إبراهيم: ثنا يزيد بن أبي
عبيد، عن سلمة، قال: كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المغرب إذا توارت بالحجاب.
هذا [أحد] ثلاثيات البخاري، والضمير يعود إلى غير
مذكور، وهو الشمس، وقرينة صلاة المغرب تدل عليه، وهو
كقوله تعالى في قصة سليمان:
(4/351)
{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ
الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ
حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ
بِالْحِجَابِ} [ص: 31، 32] ، فحذف ذكر الشمس لدلالة
العشي عليها، والمعني بتواريها بالحجاب: تواري قرصها
عن أعين الناظرين، بما حجبها عنها من الأرض.
وخرج مسلم حديث سلمة، ولفظه: كان النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي المغرب إذا غربت الشمس
وتوارت بالحجاب.
وخرجه أبو داود، ولفظه: كان يصلي ساعة تغرب الشمس، إذا
غاب حاجبها.
وهذا الحديث والذي قبله يدلان على أن مجرد غيبوبة
القرص يدخل به وقت صلاة المغرب، كما يفطر الصائم بذلك،
وهذا إجماع من أهل العلم -: حكاه ابن المنذر وغيره.
قال أصحابنا والشافعية وغيره: ولا عبرة ببقاء الحمرة
الشديدة في السماء بعد سقوط قرص الشمس وغيبوبته عن
الأبصار.
ومنهم من حكى رواية عن أحمد باعتبار غيبوبة هذه
الحمرة، وبه قال الماوردي من الشافعية. ولا يصح ذلك.
وأماإن بقي شيء من شعاعها على الجدران أو تلك الجبال
فلابد من ذهابه.
وحكى الطحاوي عن قوم، أنهم اعتبروا مع مغيب الشمس طلوع
(4/352)
النجم، ولم يسمهم.
والظاهر: أنه قول طائفة من أهل البدع كالروافض ونحوهم،
ولم يقل أحد من العلماء المعتد بهم.
وروى أبو نعيم الفضل بن دكين: ثنا إسرائيل، عن طارق،
عن سعيد بن المسيب، قال: كتب عمر إلى أمراء الأمصار:
لا تصلوا المغرب حتى تشتبك النجوم.
وهذا إنما يدل على استحباب ذلك، وقد روي عن عمر خلاف
ذلك موافقة لجمهور الصحابة.
والأحاديث والآثار في كراهة التأخير حتى يطلع النجم
كثيرة جداً:
ومن أجودها: ما روى ابن إسحاق: ثنا يزيد بن أبي حبيب،
عن مرثد بن عبد الله، قال: قدم علينا أبو أيوب غازياً
وعقبة بن عامر يومئذ على مصر، فأخر المغرب، فقام إليه
أبو أيوب، فقال له: ما هذه الصلاة يا عقبة؟ قال:
شغلنا. قال: أماسمعت من رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((لا تزال أمتي بخير – أو
قال: على الفطرة – ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك
النجوم)) ؟
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن خزيمة في ((صحيحه))
والحاكم وصححه.
وقد خولف ابن إسحاق في إسناده،
(4/353)
فرواه حيوة بن شريح، عن يزيد ابن أبي حبيب،
عن أسلم أبي عمران، عن أبي أيوب، قال: كنا نصلي المغرب
حين تجب الشمس.
ورواه ابن لهيعة، عن يزيد، ورفعه إلى النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال أبو زرعة: حديث حيوة أصح.
وخرج الإمام أحمد معناه من حديث السائب بن يزيد، عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه ابن ماجه من حديث العباس بن عبد المطلب، عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز، أنه أخر ليلة المغرب
حتى طلع نجمان، فأعتق رقبتين كفارة لتأخيره.
فأماالحديث الذي خرجه مسلم من حديث أبي بصرة الغفاري،
قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - العصر، فقال: ((إن هذه الصلاة عرضت على من
قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين، ولا
صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد)) ، والشاهد النجم.
(4/354)
فقد اختلف العلماء في تأويله:
فمنهم من حمله على كراهة التنفل قبل المغرب حتى تصلى،
وهو قول من كره ذلك من العلماء، وقال: قوله: ((لا صلاة
بعدها)) إنما هو نهي عن التنفل بعد العصر فيستمر النهي
حتى تصلى المغرب، فإذا فرغ منها حينئذ جاز التنفل،
وحينئذ تطلع النجوم غالباً.
ومنهم من قال: إنما أراد أن النهي يزول بغروب الشمس،
وإنما علقه بطلوع الشاهد لأنه مظنة له، والحكم يتعلق
بالغروب نفسه.
ومنهم من زعم أن الشاهد نجم خفي يراه من كان حديد
البصر بمجرد غروب الشمس، فرؤيته علامة لغروبها.
وزعم بعضهم: أن المراد بالشاهد الليل، وفيه بعد.
وقد أجمع العلماء على أن تعجيل المغرب في أول وقتها
أفضل، ولا خلاف في ذلك مع الصحو في الحضر، إلا ما روي
عن عمر كما تقدم، وروي عنه خلافه من وجوه.
فأمافي الغيم ففيه اختلاف سبق ذكره، وأمافي السفر
فيستحب تأخيرها ليلة النحر بالمزدلفة من دفع من عرفة
حتى يصليها مع العشاء بالمزدلفة كما فعل النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي صحة صلاتها في طريقه قبل وصوله إلى المزدلفة
اختلاف يذكر في موضع آخر – إن شاء الله.
وأمافي غير تلك الليلة في السفر فيجوز تأخيرها للجمع
بينها وبين العشاء.
وقال مالك: يصلي المقيم المغرب إذا غربت
(4/355)
الشمس، والمسافر لا بأس أن يمد ميلاً ثم
ينزل فيصلي.
وقد روي ذلك عن ابن عمر. وروي عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيضا.
وكذلك رخص الثوري في تأخيرها في السفر دون الحضر،
وقال: كانوا يكرهون تأخيرها [في الحضر دون السفر] .
وهل يستحب أن يفصل بين آذان المغرب وإقامتها بجلسة
خفيفة؟ فيه قولان:
أحدهما: يستحب، وهو قول النخعي والثوري وأحمد وإسحاق
وأبي يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: يفصل بينهما بسكتة بقدر ثلاث آيات
قائماً؛ لأن مبناها على التعجيل، والقائم أقرب إليه،
فإن وصل الإقامة بالأذان كره عنده.
والقول الثاني: لا يستحب الفصل بجلوس ولا غيره؛ لأن
وقتها مضيق، وهو قول مالك.
وقال أحمد: الفصل بينهما بقدر ركعتين كما كانوا يصلون
الركعتين في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بين الأذان والإقامة للمغرب. كما سيأتي في
موضعه – إن شاء الله تعالى.
وعند الشافعي وأصحابه: يفصل بينهما فصلاً يسيراً بقعدة
أو سكوت ونحوهما.
الحديث الرابع:
قال:
(4/356)
562 - ثنا آدم: ثنا شعبة ثنا عمرو بن
دينار، قال: سمعت جابر بن زيد، عن عبد الله بن عباس،
قال: صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
سبعاً جميعاً،
(4/356)
وثمانياً جميعاً.
قد سبق هذا الحديث في ((باب: تأخير الظهر إلى العصر))
والكلام عليه مستوفى.
ومقصود البخاري بتخريجه في هذا الباب: أن يستدل به على
جواز تأخير المغرب إلى آخر وقتها قبل غروب الشفق، وأن
وقتها ممتد إلى غروب الشفق، فإن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها مع العشاء جميعاً في الحضر
من علة، وقد حمله طائفة من العلماء على أنه أخر المغرب
إلى آخر وقتها، وقدم العشاء في أول وقتها، كذلك حمله
عليه أبو الشعثاء وعمرو بن دينار، وأحمد في رواية عنه،
وتبويب البخاري هنا يدل عليه.
وعلى هذا التقدير، فهو دليل ظاهر على امتداد وقت
المغرب إلى مغيب الشفق.
ويدل على ذلك صريحاً: ما في ((صحيح مسلم)) عن عبد الله
بن شقيق، قال: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى
غربت الشمس وبدت النجوم، فجعل الناس يقولون: الصلاة
الصلاة. قال: فجاءه رجل من بني تميم، لا يفتر ولا
ينثني: الصلاة الصلاة، فقال ابن عباس: أتعلمني السنة
لا أم لك؟! ثم قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر، والمغرب
والعشاء.
قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت
أبا هريرة فسألته، فصدق مقالته.
وممن ذهب إلى أن وقت المغرب يمتد إلى مغيب الشفق:
الحسن بن حي والثوري وأبو حنيفة ومالك في ((الموطأ)) ،
والشافعي في قول له رجحه طائفة من أصحابه، وأحمد
وإسحاق وأبو ثور، وروي عن ابن عباس وغيره.
وخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
(4/357)
قال: ((إذا صليتم المغرب، فإنه وقت إلى أن
يسقط الشفق)) .
وفي رواية له – أيضا -: ((وقت المغرب ما لم يسقط ثور
الشفق)) .
وفي رواية له – أيضا -: ((وقت صلاة المغرب ما لم يغب
الشفق)) .
وقد اختلف في رفعه ووقفه.
وخرج مسلم – أيضا – من حديث بريدة، أن سائلاً سأل
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مواقيت
الصلاة – فذكر الحديث بطوله، وفيه: أنه صلى في اليوم
الأول المغرب حين وجبت الشمس، وفي اليوم الثاني صلى
قبل أن يقع الشفق، وقال: ((ما بين ما رأيت وقت)) .
وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث محمد بن فضيل، عن
الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن للصلاة أولاً
وآخراً)) – فذكر الحديث، وفيه: ((وإن أول وقت المغرب
حين تغرب الشمس، وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق)) .
وله علة، وهي أن جماعة رووه عن الأعمش، عن مجاهد، قال:
كان يقال ذلك.
وهذا هو الصحيح عند ابن معين والبخاري والترمذي
(4/358)
وأبي حاتم والبزار والعقيلي والدارقطني
وغيرهم.
وذهب طائفة إلى أن للمغرب وقتاً واحداً حين تغرب
الشمس، ويتوضأ ويصلي ثلاث ركعات، وهو قول ابن المبارك،
ومالك في المشهور عنه، والأوزاعي، والشافعي في ظاهر
مذهبه.
واستدلوا: بأن جبريل صلى بالنبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المغرب في اليومين في وقت واحد،
وصلى به سائر الصلوات في وقتين.
وزعم الأثرم أن هذه الأحاديث أثبت، وبها يعمل.
ومن قال: يمتد وقتها، قال: قد صح حديث بريدة، وكان ذلك
من فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بالمدينة، فهو متأخر عن أحاديث صلاة جبريل.
وفي حديث عبد الله بن عمرو: أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ذلك بقوله، وهو أبلغ من
بيانه بفعله.
ويعضده: عموم قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- في حديث أبي قتادة: ((إنما التفريط في اليقظة، أن
(4/359)
يؤخر صلاة حتى يدخل وقت الأخرى)) ، خرج من
عموم ذلك الصبح بالنصوص والإجماع، بقي ما عداها داخلاً
في العموم.
ولأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر
من حضره العشاء بتقديمه على الصلاة، ولولا اتساع وقت
المغرب لكان تقديم العشاء تفويتاً للمغرب عن وقتها
للأكل، وهو غير جائز.
ولأن الجمع بين المغرب والعشاء جائز في وقت المغرب
للعذر بالاتفاق من القائلين: بأن وقتها واحد، ولا يمكن
الجمع بينهما في وقت المغرب إلا مع امتداد وقتها
واتساعه لوقوع الصلاتين.
ولعل البخاري إنما صدر الباب بقول عطاء: ((يجمع المريض
بين المغرب والعشاء)) لهذا المعنى الذي أشرنا إليه.
والله أعلم.
ومتى غاب الشفق، فات وقت المغرب بإجماع من سمينا ذكره.
وروي عن عطاء وطاوس: لا يفوت حتى يفوت العشاء بطلوع
الفجر، وحكي رواية عن مالك – أيضا -، والأحاديث
المذكورة ترد ذلك.
واختلفوا في الشفق الذي يفوت وقت المغرب بمغيبه: هل هو
الحمرة، أو البياض؟ على قولين.
ومذهب الثوري ومالك والشافعي: أنه الحمرة.
ومذهب أبي حنيفة والمزني: أنه البياض.
واختلف قول أحمد وأصحابه في ذلك، وسنذكره فيما بعد –
إن شاء الله تعالى.
(4/360)
19 - باب
من كره أن يقال للمغرب: العشاء
(4/361)
563 - حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو:
ثنا عبد الوارث، عن الحسين: ثنا عبد الله بن بريدة:
حدثني عبد الله المزني، أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لا تغلبنكم الأعراب على
اسم صلاتكم المغرب)) . قال: وتقول الأعراب: هي العشاء.
عبد الله المزني، هو: ابن مغفل – رضي الله عنه.
وقد استدل بهذا الحديث من كره تسمية المغرب العشاء،
وهو قول الشافعي وغيرهم.
وقال أصحابنا: لا يكره ذلك، واستدلوا بأن العشاء تسمى
العشاء الآخرة، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا
العشاء الآخرة)) .
خرجه مسلم.
وسيأتي بعض الأحاديث المصرحة بذلك، فدل على أن المغرب
العشاء الأولى.
(4/361)
وأجاب بعضهم بأن وصف العشاء بالآخرة لأنها
آخر الصلوات، لا لأن قبلها عشاء أخرى.
وقد حكي عن الاصمعي، انه أنكر تسميتها العشاء الآخرة،
ولا يلتفت إلى ذلك.
وفي ((صحيح مسلم)) عن علي، أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العصر يوم الأحزاب بين
العشاءين: المغرب والعشاء.
قال أصحابنا: وحديث أبن مغفل يدل على أن تسميتها
بالمغرب أفضل، ونحن نقول بذلك.
ومن متأخريهم من قال: حديث ابن مغفل إنما يدل على
النهي عن أن يغلب اسم العشاء على المغرب حتى يهجر اسم
المغرب، أو يقل تسميتها بذلك، كما هي عادة الأعراب،
فأماإذا لم يغلب عليها هذا الاسم فلا يتوجه النهي
حينئذ إليه.
وقد تقدم أنها تسمى صلاة البصر - أيضا - فإذا سميت
بذلك من غير أن يهجر تسميتها بالمغرب، ويغلب تسميتها
بذلك؛ جاز.
(4/362)
20 - باب
ذكر العشاء والعتمة، ومن رآه واسعاً
مراده: أن العشاء الآخرة تسمى العشاء، وتسمى العتمة،
وأنه يجوز تسميتها بالعتمة من غير كراهة، وإن كان
تسميتها بالعشاء أفضل اتباعاً لقول الله عز وجل:
{وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58] .
وهذا قول كثير من العلماء، أو اكثرهم، وهو ظاهر كلام
أحمد، وقول أكثر أصحابه، وكذا قال الشافعي في ((الأم))
: أحب إلي أن لا تسمى العشاء الآخرة عتمة، وهو قول
كثير من أصحابه، أو أكثرهم.
ومنهم من قال: يكره أن تسمى عتمة، وهو وجه ضعيف
لأصحابنا.
وقد روي عن طائفة من السلف، منهم: ابن عمر وكان يكرهه
كراهة شديدة، ويقول أول من سماها بذلك الشيطان. وكرهه
- أيضا - ابنه سالم وابن سيرين.
وخرج مسلم من حديث عبد الله بن أبي لبيد، عن أبي سلمة،
عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قال: ((لا تغلبنكم الأعراب على اسم
صلاتكم، ألا إنها العشاء، وهم يعتمون بالإبل)) .
وفي رواية له - أيضا -: ((لا تغلبنكم الأعراب على اسم
صلاتكم العشاء، فإنها في كتاب الله
(4/363)
العشاء، وإنها تعتم بحلاب الإبل)) .
كذا رواه ابن أبي لبيد، عن أبي سلمة.
وابن أبي لبيد كان يتهم بالقدر. وقال العقيلي: كان
يخالف في بعض حديثه.
وتابعه عليه ابن أبي ليلى، عن أبي سلمة، وابن أبي ليلى
ليس بالحافظ.
ورواه عبد الرحمن بن حرملة، عن أبي سلمة، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً.
وقيل: عن ابن حرملة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة
– مرفوعاً.
خرجه ابن ماجه. وليس بمحفوظ.
وفيه – أيضا -: عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي إسناده جهالة.
(4/364)
وقد حمله بعض أصحابنا على كراهة نفي الكمال
دون الكراهة، وحمله بعضهم على كراهة هجران اسم العشاء
وغلبة اسم العتمة علها كفعل الإعراب.
وتسميتها في كتاب الله بالعشاء لا يدل على كراهة
تسميتها بغيره، كما أن الله تعالى سمى صلاة الصبح صلاة
الفجر، ولا يكره تسميتها صلاة الصبح.
خرج البخاري في هذا الباب حديثاً مسنداً، وذكر فيه
أحاديث كثيرة تعليقاً، وقد خرج عامتها في مواضع أخر من
كتابه، فقال:
وقال أبو هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((أثقل الصلاة على المنافقين العشاء
والفجر) . وقال: (لو يعلمون ما في العتمة والفجر)) .
حديث أبي هريرة قد أسنده في ((باب: فضل صلاة العشاء في
جماعة)) ، وخرج قبله في ((باب: فضل التهجير إلى
الظهر)) من حديث أبي هريرة – مرفوعاً -: ((لو يعلمون
ما في العتمة والصبح)) . وخرجه أيضا – في ((باب:
الأستهمام على الأذان)) ثم قال البخاري:
(4/365)
فالاختيار أن يقول: العشاء؛ لقول الله:
{وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور:
(4/366)
58] .
قال:
ويذكر عن أبي موسى: كنا نتناوب إلى النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند صلاة العشاء، فأعتم
بها.
حديث أبي موسى هذا قد خرجه بعد هذا قريباً في ((باب:
فضل العشاء)) ، وخرجه في مواضع أخر، وقد علقه هنا
بقوله: ((ويذكر)) ، فدل على أن هذه الصيغة عنده لا
تقتضي ضعفاً فيما علقه بها، وأنه يعلق بها الصحيح
والضعيف، إلا أن أغلب ما يعلق بها ما ليس على شرطه.
ثم قال:
وقال ابن عباس وعائشة: أعتم النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[بالعشاء.
وقال بعضهم: عن عائشة أعتم النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] بالعتمة.
حديث عائشة خرجه في ((باب: فضل العشاء)) ، ولفظ:
((أعتم بالعشاء)) .
وحديث ابن عباس خرجه في ((باب: النوم قبل العشاء)) ،
بلفظ حديث عائشة.
وخرج مسلم حديث عائشة، ولفظه: ((أعتم رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة
(4/366)
بصلاة العشاء، وهي التي تدعى العتمة)) .
وخرج النسائي حديث عائشة وابن عباس، وعنده فيهما: أعتم
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بالعتمة.
وخرج أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري، قال: صلينا مع
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة
العتمة.
ومن حديث معاذ بن جبل، قال: أبقينا النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة العتمة.
ثم قال البخاري:
وقال جابر: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يصلي العشاء.
حديث جابر قد خرجه البخاري في الباب الذي بعد هذا، وقد
خرجه فيما مضى – أيضا.
قال:
وقال أبو برزة: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يؤخر العشاء.
حديث أبي برزة هذا خرجه فيما مضى في ((باب: وقت
العصر)) ولفظه: ((وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي
(4/367)
تدعونها العتمة)) .
ثم قال:
وقال أنس: أخر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - العشاء الآخرة.
حديث أنس هذا خرجه النسائي، وخرجه البخاري في مواضع،
ولفظه: ((أخر العشاء)) .
وخرج مسلم من حديث ابن عمر، قال: مكثنا ليلة ننتظر
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة
العشاء الآخرة.
ثم قال البخاري:
وقال ابن عمر وأبو أيوب: صلى النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المغرب والعشاء.
وحديثهما في جمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، وقد خرجه
البخاري في ((كتاب الحج)) . وخرجه مسلم – أيضا.
وأماالحديث الذي أسنده في هذا الباب:
فقال:
(4/368)
564 - حدثنا عبدان: أبنا عبد الله: ثنا
يونس، عن الزهري: قال سالم: أخبرني عبد الله، قال: صلى
لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ليلة صلاة العشاء –
(4/368)
وهي التي يدعو الناس العتمة -، ثم أنصرف
فأقبل علينا، فقال: ((أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن راس
مائة سنة [منها] لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد)) .
في هذا الحديث: أن صلاة العشاء يدعوها الناس العتمة،
وكذا في حديث عائشة وأبي برزة، وهذا كله على اشتهار
اسمها بين الناس بالعتمة، وهو الذي نهى النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان ابن عمر وغيره
يكرهونه أن يغلب عليها اسم العتمة حتى لا تسمى بالعشاء
إلا نادراً.
وأماإذا غلب عليها اسم العشاء، ثم سميت – أحياناً -
بالعتمة بحيث لا يزول بذلك غلبة اسم العشاء عليها،
فهذا غير منهي عنه، وإن كان تسميتها بالعشاء – كما
سماها الله بذلك في كتابه – أفضل.
وأماما قاله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من
أنه: ((لا يبقى على رأس مائة سنة من تلك الليلة أحد))
، فمراده بذلك: انخرام قرنه وموت أهله كلهم الموجودين
منهم في تلك الليلة على الأرض، وبذلك فسره أكابر
الصحابة كعلي بن أبي طالب وابن عمر وغيرهما.
ومن ظن أنه أراد بذلك قيام الساعة الكبرى فقد وهم،
وإنما اراد قيام ساعة الأحياء حينئذ وموتهم كلهم، وهذه
الساعة الوسطى، والساعة الصغرى موت كل أنسان في نفسه،
فمن مات فقد قامت ساعته الصغرى، كذا قاله المغيرة بن
شعبة وغيره.
(4/369)