فتح الباري لابن رجب

81 - باب
الأبواب والغلق للكعبة والمساجد
وقال لي عبد الله بن محمد: ثنا سفيان، عن ابن جريج، قال: قال لي ابن أبي مليكة: يا عبد الملك، لو رأيت مساجد ابن عباس وأبوابها.
هذا الأثر رواه الإمام أحمد، عن ابن عيينة.
قال يعقوب بن بختان: سئل أبو عبد الله - يعني: أحمد - عن المسجد يجعل له أبواب؟ فلم ير به بأسا، وقال: ثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، قال: قال لي ابن أبي مليكة: لو رأيت مساجد ابن عباس وأبوابها.
وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد الله يسأل عن المسجد يغلق بابه؟ قال: إذا خاف أن يدخله كلب او صبيان.
وقال في رواية مهنا: ينبغي أن تجنب الصبيان المساجد.
وقال أصحاب الشافعي: لا بأس بإغلاق المسجد في غير وقت الصلاة؛ لصيانته أو حفظ آلاته.
قال بعضهم: هذا إذا خيف امتهانه وضياع ما فيه، ولم تدع إلى فتحه حاجة، فأما إذا لم يخف من فتحه مفسدة ولا انتهاك حرمة، وكان فيه

(3/386)


رفق بالناس، فالسنة فتحه، كما لم يغلق مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زمنه ولا بعده.
وقالوا: يكره إدخال المجانين والصبيان - الذين لا يميزون - المساجد، ولا يحرم ذلك؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى وهو حامل أمامة، وفعله لبيان الجواز.
وقال أصحاب مالك: إذا كان الصبي يعبث فلا يؤت به المسجد، وإن كان لا يعبث ويكف إن نهي فجائز.
قالوا: وإن أتى أباه وهو في الصلاة المكتوبة نحاه عن نفسه، ولا بأس بتركه في النافلة.
وخرج ابن ماجه بإسناد ضعيف، عن واثلة مرفوعا: ((جنبوا مساجدنا صبيانكم، ومجانينكم)) .
وروي عن بعض السلف أن أول ما استنكر من أمر الدين لعب الصبيان في المساجد.
واختلف الحنفية في إغلاق المساجد في غير أوقات الصلوات: فمنهم من كرهه؛ لما فيه من المنع من العبادات. ومنهم من أجازه؛ لصيانته وحفظ ما فيه.
قال البخاري - رحمه الله -:

(3/387)


468 - ثنا أبو النعمان وقتيبة بن سعيد، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم مكة، فدعا عثمان بن طلحة ففتح الباب، فدخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبلال وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة، ثم أغلق الباب، فلبث فيه ساعة، ثم خرجوا. قال ابن عمر: فبدرت فسألت بلالا، فقال: صلى فيه، فقلت في أي؟ قال: بين الأسطوانتين. قال ابن عمر: فذهب علي أن أساله: كم صلى؟
هذا الحديث يدل على أن الكعبة كان لها باب يغلق عليهم ويفتح، ولم يزل ذلك في الجاهلية والإسلام، وقد أقر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها على ما كانت عليه، ودفع مفتاح الكعبة إلى عثمان بن

(3/387)


طلحة، وأقره بيده على ما كان.
وفي ((المسند)) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عائشة أن تطلب من شيبة أن يفتح لها الكعبة ليلا، فأتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: والله ما فتحته بليل في جاهلية ولا في إسلام، فقال: ((فانظر ما كنت تصنع فافعله، ولا تفتحه)) وأمر عائشة أن تصلي في الحجر.
وقد روي عن ابن جريج وغيره، أن أول من جعل للكعبة بابا يغلق وكساها كسوة كاملة تبع.
وذكر ابن إسحاق أن ذلك بلغه عن غير واحد من أهل العلم -: ذكره الأزرقي في ((أخبار مكة)) .
ولكن الكعبة لا تقاس بها سائر المساجد في صيانتها

(3/388)


واحترامها؛ فإن سائر المساجد إنما تراد ليعبد الله فيها، فإغلاقها لغير حاجة يمنع من المقصود منها، وأما الكعبة فالعبادة حولها لا فيها؛ فإن أخص العبادات منها الطواف، وإنما يطاف حولها ثم الصلاة، وإنما يصلى إليها.
وقد اختلف العلماء في الصلاة فيها كما سبق ذكره، وكذلك الاعتكاف، فإغلاقها لا يمنع حصول المقصود منها من عبادة الله حولها.
وأما غلق المسجد الحرام المبني حولها، فحكمه حكم غلق سائر المساجد أو أشد؛ لما فيه من منع الطواف الذي لا يتمكن منه في غير ذلك المسجد، بخلاف غلق سائر المساجد؛ فإنه لا يتعذر بإغلاقها الصلاة؛ فإن الأرض كلها مسجد. والله أعلم.

(3/389)


82 - باب
دخول المشرك المسجد

(3/390)


469 - حدثنا قتيبة: ثنا الليث، عن سعيد بن أبي سعيد، أنه سمع أبا هريرة يقول: بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيل قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد.
قد سبق هذا الحديث بأتم من هذا السياق في ((باب: الأسير يربط في
المسجد)) ، وفيه: أن ثمامة حين ربط كان مشركا، وأنه إنما أسلم بعد إطلاقه.
وفي هذا: دليل على جواز إدخال المشرك إلى المسجد، لكن بإذن المسلمين.
وقد أنزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفد ثقيف في المسجد؛ ليكون أرق لقلوبهم.
خرجه أبو داود من رواية الحسن، عن عثمان بن أبي العاص.
وروى وكيع، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن، قال: إن وفدا

(3/390)


قدموا على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ثقيف، فدخلوا عليه المسجد، فقيل له: إنهم مشركون؟ قال: ((الأرض لا ينجسها شيء)) .
وخرجه أبو داود في ((المراسيل)) من رواية أشعث، عن الحسن، أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضرب لهم قبة في مؤخرة المسجد؛ لينظروا صلاة المسلمين، إلى ركوعهم، وسجودهم، فقيل: يا رسول الله، أتنزلهم المسجد وهم مشركون؟ قال: ((أن الأرض لا تنجس، إنما ينجس ابن آدم)) .
وكذلك سائر وفود العرب ونصارى نجران، كلهم كانوا يدخلون المسجد إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويجلسون فيه عنده.
ولما قدم مشركو قريش في فداء أسارى بدر كانوا يبيتون في المسجد.
وقد روى ذلك الشافعي بإسناد له.
وقد خرج البخاري حديث جبير بن مطعم - وكان ممن قدم في فداء الاسارى -، أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرا في المغرب بالطور. قال: وكان ذلك أول ما وقر الأيمان في قلبي.
وخرج البخاري فيما سبق في ((كتاب: العلم)) حديث دخول ضمام بن ثعلبة المسجد، وعقله بعيره فيه، وسؤاله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الإسلام، ثم أسلم عقب ذلك. وروى أبو داود في المراسيل بإسناد عن الزهري، قال: اخبرني

(3/391)


سعيد بن المسيب، أن أبا سفيان كان يدخل المسجد بالمدينة وهو كافر، غير أن ذلك لا يصلح في المسجد الحرام؛ لما قَالَ الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28]
وقد اختلف أهل العلم منهم في دخول الكافر المسجد، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وحكي رواية عن أحمد، رجحها طائفة من أصحابنا.
قال أصحاب الشافعي: وليس له أن يدخل المسجد إلا بأذن المسلم. ووافقهم طائفة من أصحابنا على ذلك.
وقال بعضهم: لا يجوز للمسلم أن يأذن فيه إلا لمصلحة من سماع قرآن، أو رجاء إسلام، أو إصلاح شيء ونحو ذلك، فأما لمجرد الأكل واللبث والاستراحة فلا.
ومن أصحابنا: من أطلق الجواز، ولم يقيده بإذن المسلم.
وهذا كله في مساجد الحل، فأما المسجد الحرام فلا يجوز للمسلمين الإذن في دخوله للكافر، بل لا يمكن الكافر من دخول الحرم بالكلية عند الشافعي وأحمد وأصحابهما.
واستدلوا بقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] ، وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر مناديا ينادي: ((لا يحج بعد العام مشرك)) .
وأجازه أبو حنيفة وأصحابه.

(3/392)


فأما مسجد المدينة، فالمشهور عندنا وعند الشافعية أن حكمه حكم مساجد الحل.
ولأصحابنا وجه: أنه ملحق بالمسجد الحرام؛ لأن المدينة حرم، وحكي عن ابن حامد، وقاله القاضي أبو يعلى في بعض كتبه.
وهذا بعيد؛ فإن الأحاديث الدالة على الجواز إنما وردت في مسجد المدينة بخصوصه، فكيف يمنع منه ويخص الجواز بغيره؟
وقالت طائفة: لا يجوز تمكين الكافر من دخول المساجد بحال، وهذا هو المروي عن الصحابة، منهم: عمر، وعلي، وأبو موسى الأشعري، وعن عمر بن عبد العزيز، وهو قول مالك، والمنصوص عن أحمد، قال: لا يدخلون المسجد ولا ينبغي لهم أن يدخلوهم.
واستدلوا بقول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ} [البقرة:114] .
وظاهره: يدل على أن الكفار لا يمكنون من دخول المساجد، فإن دخلوا أخيفوا وعوقبوا، فيكونون في حال دخولهم خائفين من عقوبة المسلمين لهم.
وقد روي عن علي، أنه كان على المنبر فبصر بمجوسي، فنزل وضربه وأخرجه.
خرجه الأثرم.

(3/393)


وعلى هذا القول، فأحاديث الرخصة قد تحمل على أن ذلك قبل النهي عنه، أو أن ذلك كان جائزا حيث كان يحتاج إلى تألف قلوبهم، وقد زال ذلك.
وفرقت طائفة بَيْن أهل الذمة وبين أهل الحرب، فقالوا: يجوز إدخال أهل الذمة دون أهل الحرب، وروي عن جابر بن عبد الله وقتادة.
وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ
هَذَا} [التوبة:28] قال: إلا أن يكون عبدا أو أحداً من أهل الذمة.
وقد روى مرفوعا من رواية شريك: ثنا أشعث بن سوار، عن الحسن، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا يدخل مسجدنا هذا مشرك بعد عامنا هذا، غير أهل الكتاب وخدمهم)) .
خرجه الإمام أحمد.
وفي رواية له: ((غير أهل العهد وخدمهم)) .
وأشعث بن سوار، ضعيف الحديث.
وقد خص بعض أصحابنا حكاية الخلاف المحكي عن أحمد في المسألة بأهل الذمة.

(3/394)


83 - باب
رفع الصوت في المسجد
خرج فيه حديثين:
الحديث الأول: موقوف:

(3/395)


470 - ثنا علي بن المديني: ثنا يحيى بن سعيد القطان: ثنا الجعيد بن
عبد الرحمن: ثنا يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد، قال: كنت قائما في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين. قال: فجئته بهما، فقال: من أنتما - ومن أين أنتما؟ - قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -!
إنما فرق عمر بين أهل المدينة وغيرها في هذا؛ لأن أهل المدينة لا يخفى عليهم حرمة مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتعظيمه، بخلاف من لم يكن من أهلها؛ فإنه قد يخفى عليه مثل هذا القدر من احترام المسجد، فعفى عنه بجهله.
ولعل البخاري يرى هذا القبيل من المسند - أعني: إذا أخبر الصحابي عن شهرة أمر وتقريره، وأنه مما لا يخفى على أهل مدينة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن

(3/395)


ذلك يكون كرفعه.
ويشبه هذا: ما قال الفقهاء: أن من ارتكب حدا كالزنا ونحوه ممن نشأ في بادية بعيدة عن الإسلام، وادعى الجهل بتحريمه، فإنه لا يقام عليه ويعذر بذلك، بخلاف من نشأ ببلاد الإسلام.
وفيه: أن التنبيه في المسجد بالحصب بالحصى جائز، وقد كان ابن عمر إذا رأى من يصلي ولا يرفع يديه حصبه بالحصى. وكذلك إذا رأى من يتكلم والإمام يخطب.
وفي هذه الرواية: ((كنت قائما في المسجد)) ، كذا هو في كثير من نسخ
((صحيح البخاري)) ، وقد خرجه البيهقي في سننه، وقرأته بخطه من رواية أبي خليفة، عن علي بن المديني، وفيه: ((كنت نائما)) بالنون.
وقد خرجه الإسماعيلي في مسند عمر من طرق، وعنده: أنه قال: كنت مضطجعا وهذه صريحة في النوم، ولم ينكر عليه عمر نومه في المسجد.
وخرجه الإسماعيلي - أيضا - من رواية حاتم - هو: ابن إسماعيل -، عن الجعيد، عن السائب - لم يذكر بينهما: ((يزيد بن خصيفة)) .
وأشار إلى ترجيح هذه الرواية على رواية القطان وفي قوله نظر.
والجعيد - ويقال: الجعد - بن عبد الرحمن بن أوس، وينسب تارة إلى جده. وقد وقع في بعض

(3/396)


روايات هذا الحديث تسميه: ((الجعد)) ، وفي بعضها تسميته: ((الجعد بن أوس)) ، وهو رجل واحد، فلا يتوهمن غير ذلك.
وقد روي هذا عن عمر من وجه آخر:
خرجه الإسماعيلي في مسند عمر من طريق عبدة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، أن رجلا من ثقيف أخبره، أن عمر بن الخطاب سمع ضحك رجل في المسجد، فأرسل إليه، فدعاه، فقال: ممن أنت؟ فقال: أنا رجل من أهل الطائف، فقال: أما إنك لو كنت من أهل البلد لنكلت بك، أن مسجدنا هذا لا يرفع فيه صوت.
وقد روي في حديث واثلة المرفوع: ((جنبوا مساجدكم خصوماتكم ورفع أصواتكم)) .
خرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف جدا.
وروي عن ابن مسعود، أنه كان يكره أن ترفع الأصوات في المسجد. وقد سبق.
ورفع الأصوات في المسجد على وجهين:
أحدهما: أن يكون بذكر الله وقراءة القرآن والمواعظ وتعليم العلم وتعليمه، فما كان من ذلك لحاجة عموم أهل المسجد إليه، مثل الأذان والإقامة

(3/397)


وقراءة الإمام في الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة، فهذا كله حسن مأمور به.
وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب علا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش، يقول: ((صبحكم ومساكم)) ، وكان إذا قرأ في الصلاة بالناس تسمع قراءته خارج المسجد، وكان بلال يؤذن بين يديه ويقيم في يوم الجمعة في المسجد.
وقد كره بعض علماء المالكية في مسجد المدينة خاصة لمن بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يزيد في رفع صوته في الخطب والمواعظ على حاجة إسماع الحاضرين، تأدبا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاضر يسمع ذلك، فيلزم التأدب معه، كما لو كان حيا.
وما لا حاجة إلى الجهر فيه، فإن كان فيه أذى لغيره ممن يشتغل بالطاعات كمن يصلي لنفسه ويجهر بقراءته، حتى يغلط من يقرأ إلى جانبه أن يصلي، فإنه منهي عنه.
وقد خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة على أصحابه وهم يصلون في المسجد ويجهرون بالقراءة، فقال: ((كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن.
وفي رواية: ((فلا يؤذ بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي سعيد.
وكذلك رفع الصوت بالعلم زائدا على الحاجة مكروه عند أكثر العلماء، وقد سبق ذكره مستوفى في أوائل ((كتاب: العلم))

(3/398)


في باب رفع الصوت بالعلم.
الوجه الثاني: رفع الصوت بالاختصام ونحوه من أمور الدنيا، فهذا هو الذي نهى عنه عمر وغيره من الصحابة.
ويشبه: إنشاد الضالة في المسجد، وفي صحيح مسلم، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كراهته والزجر عنه، من رواية أبي هريرة وبريدة.
وأشد منه كراهة: رفع الصوت بالخصام بالباطل في أمور الدين؛ فإن الله ذم الجدال في الله بغير علم، والجدال بالباطل، فإذا وقع ذلك في المسجد ورفعت الأصوات به تضاعف قبحه وتحريمه.
وقد كره مالك رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره.
ورخص أبو حنيفة ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك في رفع الصوت في المسجد بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس؛ لأنه مجمعهم ولا بد لهم منه.
وهذا مبني على جواز القضاء في المساجد. وقد سبق ذكره.
الحديث الثاني:
قال البخاري:

(3/399)


471 - حدثنا أحمد: ثنا ابن وهب: اخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: حدثني عبد الله بن كعب بن مالك، أن كعب بن مالك

(3/399)


اخبره، أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، فارتفعت اصواتهما حتى سمعها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى كشف سجف حجرته، ونادى كعب بن مالك، فقال: ((يا كعب)) قال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ((ضع الشطر من دينك)) . قال كعب: قد فعلت يا رسول الله. قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((قم فاقضه)) .
البخاري يروي في كتابه هذا عن أحمد - غير منسوب -، عن ابن وهب، وقد اختلف فيه:
فقيل: هو: ابن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي ابن وهب -: قاله أبو أحمد الحاكم وغيره.
وأنكر آخرون أن يكون يروي عن ابن أخي ابن وهب هذا شيئا في كتابه؛ فإنه قد كثر الطعن عليه.
قالوا: ويحتمل أنه أحمد بن صالح المصري الحافظ، أو أحمد بن عيسى التستري؛ فإنه روى عنهما صريحا في مواضع. والله أعلم.
ويستدل بهذا الحديث من يجيز رفع الأصوات بالخصومات في المساجد عند الحكام وغيرهم؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينكر ذلك عليهما، إنما أصلح بينهما، وأمر صاحب الحق بأن يضع شيئا منه، ثم أمر المدين بالقضاء لما بقي عليه، وهذا إصلاح.
ومن كره ذلك أجاب: بأن ما وقع من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو قطع لما وقع

(3/400)


بينهما من التشاجر، ورفع الأصوات في المسجد، فهو في معنى الإنكار؛ لأن المقصود من الإنكار إزالة ما ينكر، وقد حصل بذلك لا سيما والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما خرج من بيته لسماع أصواتهما المرتفعة، فدل على أنه قصد إزالة ذلك، ومنعهما منه، فأزال ذلك وأزال المشاجرة بينهما، وأصلح ذات بينهما، وأمر كل واحد منهما بالإحسان إلى صاحبه برفق ورأفة من غير عنف.
ولعل هذين كانا غير عالمين بكراهة رفع الصوت في المسجد، فلهذا أزال ما وقع منهما من المكروه برفق ورأفة - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسليما كثيرا.

(3/401)


84 - باب
الحلق والجلوس في المسجد
خرج فيه ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:

(3/402)


472 - من رواية: عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سأل رجل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على المنبر: ما ترى في صلاة الليل؟ قال: ((مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة، فأوترت له ما صلى)) ، وأنه كان يقول: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر به.
الضمير في: ((أنه كان يقول)) يعود إلى ابن عمر - رضي الله عنهما.
والحديث الثاني:

(3/402)


473 - من رواية: أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رجلا جاء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يخطب، فقال: كيف صلاة الليل؟ قال: ((مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة، توتر لك ما قَدْ صليت)) .

(3/402)


ثم قال: وقال الوليد بن كثير: حدثني عبيد الله بن عبد الله، أن ابن عمر حدثهم أن رجلا نادى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد.
وإنما ذكر رواية الوليد بن كثير تعليقا - وقد خرجها مسلم في ((صحيحه)) مسندة -؛ لأن فيما التصريح بأن ذلك كان في المسجد.
وفي الروايتين اللتين أسندهما البخاري أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب، وكان أكثر خطبه على المنبر في المسجد، إلا خطبه في العيدين وفي موسم الحج ونحو ذلك.
وإنما أدخل البخاري هذا الحديث في هذا الباب؛ لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خطب على المنبر جلس الناس حوله، واستقبلوه بوجوههم.
وقد خرج البخاري في ((كتاب: الجمعة)) حديث أبي سعيد، قال: جلس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله.
فكانت خطبه على المنبر مثل حلق الذكر والعلم، وكان يسأل في حال الخطبة عن مسائل من الدين، ويجيب عنها، وقد سبق ذكر ذلك في أول ((كتاب: العلم)) ، وفي آخره - أيضا - في ((باب: ذكر العلم والفتيا في المسجد)) .
الحديث الثالث:

(3/403)


474 - من رواية: مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أن

(3/403)


أبا مرة مولى عقيل أخبره، عن أبي واقد الليثي، قال: بينما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، فأقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذهب واحد، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الآخر فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((ألا أخبركم عن الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه)) .
وقد سبق في ((كتاب: العلم)) ، واستوفينا الكلام عليه هناك بما فيه كفاية - إن شاء الله تعالى.

(3/404)


85 - باب
الاستلقاء في المسجد

(3/405)


475 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عباد بن تميم، عن عمه، أنه رأى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستلقيا في المسجد، واضعا إحدى رجليه على الأخرى.
وعن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب: كان عمر وعثمان يفعلان ذلك.
هذا الحديث رواه أكابر أصحاب الزهري، عنه، عن عباد، عن عمه.
وخالفهم عبد العزيز بن الماجشون، فرواه عن الزهري: حدثني محمود بن لبيد، عن عباد.
فزاد في إسناده: ((محمود بن لبيد)) ، وهو وهم -: قاله مسلم بن الحجاج، وأبو بكر الخطيب وغيرهما.
وعم عباد بن تميم، هو: عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، صاحب حديث الوضوء.
والاستلقاء في المسجد جائز على أي وجه كان، ما لم يكن منبطحا على وجهه؛ فإنه يروى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن ذلك، وقال: ((إنها

(3/405)


ضجعة يبغضها الله عز وجل)) . وقد ذكرنا إسناده في ((باب: النوم في المسجد)) .
وقد ذكر الزهري، عن ابن المسيب، عن عمر وعثمان، إنهما كانا يفعلان ذلك.
وأما الاستلقاء على هذا الوجه، وهو وضع إحدى الرجلين على الأخرى في المسجد وغيره فقد اختلف فيه:
فروي كراهته والتغليظ فيه عن كعب بن عجرة، وأبي سعيد، وقتادة بن النعمان، وسعيد بن جبير.
وقد روي النهي عنه مرفوعا. خرجه مسلم من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ويروى - أيضا - من حديث ابن مسعود وأبي هريرة وأخي أبي سعيد - وهو: قتادة بن النعمان.
وأما أكثر العلماء، فرخصوا فيه.
وممن روي أنه كان يفعله: عمر، وعثمان، وابن مسعود، ونص أحمد على جوازه.
واختلفوا في أحاديث النهي:
فمنهم من قال: هي منسوخة بحديث الرخصة، ورجحه الطحاوي وغيره.
ومنهم من قال: هي محمولة على من كان بين الناس فيخاف أن تنكشف عورته، أو لم يكن عليه سراويل، روي ذلك عن الحسن.
وروي عنه، أنه قال فيمن كره ذلك: ما أخذوا ذلك إلا عن

(3/406)


اليهود.
خرجه الطحاوي.
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني ابن المسيب، قال: كان ذلك من عمر وعثمان ما لا يحصى منهما. قال الزهري: وجاء الناس بأمر عظيم.
وقال الحكم: سئل أبو مجلز عن الرجل يضع إحدى رجليه على الأخرى؟ فقال: لا بأس به، إنما هذا شيء قاله اليهود: أن الله لما خلق السموات والأرض استراح، فجلس هذه الجلسة، فأنزل الله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] .
خرجه أبو جعفر ابن أبي شيبة في ((تاريخه)) .
وقد ذكر غير واحد من التابعين: أن هذه الآية نزلت بسبب قول اليهود: أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع، منهم: عكرمة وقتادة.
فهذا كلام أئمة السلف في إنكار ذلك ونسبته إلى اليهود، وهذا يدل على أن الحديث المرفوع المروي في ذلك لا أصل لرفعه، وإنما هو متلقى عن اليهود، ومن قال: أنه على شرط الشيخين فقد أخطأ.
وهو من رواية محمد بن فليح بن سليمان، عن أبيه، عن سعيد بن الحارث، عن عبيد

(3/407)


بن حنين: سمع قتادة بن النعمان يحدثه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعنى قول أبي مجلز. وفي آخره: وقال عز وجل: ((إنها لا تصلح لبشر)) .
وعبيد بن حنين، قيل: أنه لم يسمع من قتادة بن النعمان - قاله البيهقي.
وفليح، وإن خرج له البخاري فقد سبق كلام أئمة الحفاظ في تضعيفه، وكان يحيى بن سعيد يقشعر من أحاديثه، وقال أبو زرعة - فيما رواه عنه سعيد البرذعي -: فليح واهي الحديث، وابنه محمد واهي الحديث.
ولو كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يروي عن ربه أنه قال: ((إنها لا تصلح لبشر)) لم

(3/408)


يفعله رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو كان قد انتسخ فعله الأول بهذا النهي لم يستمر على فعله خلفاؤه الراشدون الذين هم أعلم أصحابه به، وأتبعهم لهديه وسنته.
وقد روي عن قتادة بن النعمان من وجه أخر منقطع، من رواية سالم أبي النضر، عن قتادة بن النعمان - ولم يدركه -، أنه روى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه نهى عن ذلك.
خرجه الإمام أحمد.
وهذا محتمل، كما رواه عنه جابر وغيره.
فأما هذه الطامة، فلا تحتمل أصلاً.
وقد قيل: أن هذه مما اشتبه على بعض الرواة فيه ما قاله بعض اليهود، فظنه مرفوعاً فرفعه، وقد وقع مثل هذا لغير واحد من متقدمي الرواة، وأنكر ذلك عليهم، وأنكر الزبير على من سمعه يحدث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: إنما حكاه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بعض أهل الكتاب.
فروى مسلم بن الحجاج في ((كتاب التفصيل)) والبيهقي فِي ((المدخل)) من رواية ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن عبد الله بن عروة، عن عروة، أن الزبير سمع رجلاً يحدث حديثاً عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستمع الزبير له، حتى إذا قضى الرجل حديثه قال له الزبير: أنت سمعت هذا من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ الرَّجُلُ: نَعَمْ. فَقَالَ الزُّبَيْر: هَذَا وأشباهه مِمَّا يمنعنا أن نحدث عَن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَدْ – لعمري – سَمِعْت

(3/409)


هَذَا من
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا يومئذ حاضر، ولكن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابتدأ هذا الحديث، فحدثاه عن رجل من أهل الكتاب حدثه إياه، فجئت أنت بعد أن تقضى صدر الحديث وذكر الرجل الذي من أهل الكتاب، فظننت أنه من حديث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروى مسلم - أيضا - في ((كتاب التفصيل)) بإسناد صحيح، عن بكير بن الأشج، قال: لنا بسر بن سعيد: أيها الناس، اتقوا الله، وتحفظوا في الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة، فيحدثنا عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحدثنا عن كعب، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كعب، ويجعل حديث كعب عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولو ذكرنا الأحاديث المرفوعة التي أعلت بأنها موقوفة: إما على عبد الله بن سلام، أو على كعب، واشتبهت على بعض الرواة فرفعها، لطال الأمر.

(3/410)


86 - باب
المسجد يكون في الطريق من غير ضرر للناس فيه
وبه قال الحسن وأيوب ومالك.

(3/411)


476 - حدثنا يحيى بن بكير: ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طرفي النهار بكرة وعشية، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، ويعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين.
هذه قطعة من حديث الهجرة الطويل، وقد خرجه بتمامه في ((باب: الهجرة)) .
والمقصود منه هاهنا: أن أبا بكر - رضي الله عنه - ابتنى مسجدا بفناء داره بمكة، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة، وكان يأتي بيت أبي بكر كل يوم مرتين بكرة

(3/411)


وعشية، ولم ينكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك على أبي بكر، ولم يغيره، فدل على جواز بناء المسجد في الطريق الواسع إذا لم يضر بالناس.
وقد حكى البخاري جوازه عن الحسن وأيوب ومالك، وهو - أيضا - قول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد - في رواية عنه -، وأبي حنيفة، وسليمان بن داود الهاشمي.
واختلفوا: هل يجوز ذلك بدون إذن الإمام، أم لا يجوز بدون إذنه؟ على قولين: أحدهما: أن إذنه معتبر لذلك، وهو قول الثوري ورواية عن أحمد، وحكي عن ابن مسعود وقتادة ما يدل عليه؛ لأن نفع الطريق حق مشترك بين المسلمين، فلا يجوز تخصيصه بجهة خاصة بدون إذن الإمام كقسمة الأموال المشتركة بين المسلمين.
والثاني: لا يعتبر إذن الإمام، وهو المحكي عن الحسن وأيوب وأبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم ممن جوزه، وهو رواية عن أحمد - أيضا - لأن الطريق إذا كان متسعا لا يضر بالمارة بناء مسجد فيه، فحق الناس في المرور فيه المحتاج إليه باق لم يتغير، بخلاف قسمة أموال بيت المال؛ فإن مصارفها كثيرة جدا، فيرجع فيها إلى اختيار الإمام.
وعن أحمد رِوَايَة ثالثة: أنه لا يجوز بناء المساجد فِي الطريق بحال، بل تهدم ولا يصلى فيها.
فمن أصحابنا من حكاها مطلقة، ومنهم من خصها بما إذا لم يأذن

(3/412)


فيها الإمام، وهذا أقرب.
وأجاز الجوزجاني بناء المساجد في الطريق، بشرط أن يبقى من الطريق بعد المسجد سبعة أذرع.
ونسب ذلك إلى أحمد، ولا يصح ذلك عن أحمد.
وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع)) ، معناه - عند أحمد وأصحابه -: إذا أرادوا أن يحدثوا طريقا في ارض موات أو مملوكة، وليس معناه - عندهم - أنه يجوز البناء في الطريق الواسع حتى يبقى منه سبعة أذرع، كما قاله الجوزجاني.

(3/413)


87 - باب
الصلاة في مسجد السوق
وصلى ابن عون في مسجد في دار يغلق عليهم الباب.
قد سبق ذكر مساجد البيوت والصلاة فيها، وما ذكره البخاري هناك أن البراء ابن عازب صلى في مسجد بيته جماعة، وذكرنا قول أحمد، أنه لا يحصل بالصلاة فيها فضيلة الصلاة في المسجد، إلا أن يكون يؤذن فيه ويقام، كأنه يشير إلى أن يكون في حال الصلاة غير ممنوع، وأن إسحاق قال: لا يحصل بالصلاة فيه جماعة فضل الجماعة في المسجد، إلا أن يكون له عذر.
وما حكاه البخاري هنا عن ابن عون، ظاهره: يدل على حصول فضل الجماعة في المسجد بذلك، وإن كان مغلقا، وهو قياس قول من أجاز الاعتكاف فيه، كما سبق ذكره، ويحتمل أن يكون ابن عون لا يرى حضور المساجد في الجماعة واجبا، أو أنه كان لهم عذر. والله أعلم.
وأما مساجد الأسواق، إذا كانت مسبلة، فحكمها حكم سائر المساجد المسبلة.
وقد كره طلحة اليامي الصلاة في مساجد السوق.
خرجه حرب الكرماني من رواية ليث عنه.

(3/414)


وكأنه يشير إلى أنه إنما يستحب الصلاة في المسجد الأعظم الذي يجمع فيه.
وقد ورد التصريح بفضل الصلاة في مسجد الجامع على الصلاة في مساجد القبائل التي لا يجمع فيها.
خرجه ابن ماجه: ثنا هشام بن عمار: ثنا أبو الخطاب الدمشقي: ثنا رزيق أبو عبد الله الألهاني، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة)) .
رزيق الألهاني - بتقديم الراء على الزاي -، قال أبو زرعة الرازي: لا بأس به. وذكره ابن حبان في ((ثقاته)) وذكره - أيضا في ((الضعفاء)) ، وقال: لا يحتج به.
وأما أبو الخطاب الدمشقي، فقيل: اسمه: حماد، وقع كذلك مصرحا به في ((معجم الطبراني الأوسط)) ، وذكر ابن عدي أنه: معروف الخياط الذي رأى واثلة بن الأسقع، وأن هشام بن عمار يروي عنه وفيه ضعف.
وقال ابن ماكولا:

(3/415)


اسمه: سلمة بن علي، كان يسكن اللاذقية، روى عنه هشام بن عمار والربيع بن نافع. قال: والحديث منكر، ورجاله مجهولون.
كذا قال، وليس فيهم من يجهل حاله سوى أبي الخطاب هذا.
وقد كان بالمدينة مساجد في قبائل الأنصار، وهي دورهم، يصلون فيها الجماعات سوى الجمع.
وروى ابن لهيعة، أن بكير بن الأشج حدثه، أنه كان بالمدينة تسعة مساجد مع مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يسمع أهلها تأذين بلال على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيصلون في مساجدهم بني عمرو بن مبذول من بني النجار، ومسجد بني ساعدة، ومسجد بني عبيد، ومسجد بني سلمة، ومسجد بني رابح من بني عبد الاشهل، ومسجد بني زريق، ومسجد بني غفار، ومسجد أسلم، ومسجد جهينة. وشك في التاسع.
خرجه أبو داود في ((المراسيل)) .
قال البخاري - رحمه الله -:

(3/416)


477 - حدثنا مسدد: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح،
عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته

(3/416)


وصلاته
في سوقه خمسا وعشرين درجة، فإن أحدكم إذا توضأ فأحسن وأتى المسجد لا يريد
إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة أو حط عنه بها خطيئة حتى
يدخل المسجد، وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه وتصلي
الملائكة عليه مادام في مجلسه الذي يصلي فيه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم
يحدث فيه)) .
وقد خرجه البخاري - أيضا - في موضع أخر من كتابه بزيادة تصريح الأعمش بالسماع له من أبي صالح، فزال ما كان يتوهم من تدليس الأعمش له.
والحديث: نص في أن الصلاة في المسجد تزيد على صلاة المرء في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين درجة، وهو أعم من أن تكون صلاته في بيته وفي سوقه في جماعة أو منفردا.
ويدل على ذلك: أنه ذكر سبب المضاعفة، وهو فضل مشيه إلى المسجد على طهارة،

(3/417)


وفضل انتظاره للصلاة حتى تقام، وفضل قعوده في المسجد حتى يحدث، وهذا كله لا يوجد شيء منه في صلاته في بيته وفي سوقه.
لكن المراد - والله أعلم -: صلاته في سوقه في غير مسجد، فإنه لو صلى في سوقه في مسجد لكان قد حصل له فضل المشي إلى المسجد، وانتظار الصلاة فيه، والجلوس فيه بعد الصلاة - أيضا -، وإن كان المسجد الأعظم يمتاز بكثرة الخطا إليه، وبكثرة الجماعة فيه، وذلك يتضاعف به الفضل - أيضا - عند جمهور العلماء، خلافا لمالك.
وقد روي من حديث أبي بن كعب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله)) .
خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) والحاكم.
وقال علي بن المديني: ما أراه إلا صحيحا.
ويفضل - أيضا - المسجد الأعظم بكونه عتيقا:
قال أبو نعيم الفضل بن دكين: ثنا عمارة بن زاذان، عن ثابت البناني، قال كنت اقبل مع أنس بن مالك من الزاوية، فإذا مر بمسجد قال: أمحدث هذا؟ فإن قلت: نعم مضى، وأن قلت: عتيق صلى.

(3/418)


88 - باب
تشبيك الأصابع في المسجد وغيره
فيه حديثان:
أحدهما:
قال:

(3/419)


481 - ثنا خلاد بن يحيى: ثنا سفيان: عن أبي بردة بن عبد الله بن أبي بردة، عن جده، عن أبي موسى، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إن المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا)) - وشبك أصابعه.
ليس في هذا الحديث أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان حينئذ في المسجد؛ فلهذا بوب على تشبيك الأصابع في المسجد وغيره.
وهذا التشبيك من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث كان لمصلحة وفائدة، لم يكن عبثا؛ فإنه لما شبه شد المؤمنين بعضهم بعضا بالبنيان، كان ذلك تشبيها بالقول، ثم أوضحه بالفعل، فشبك أصابعه بعضها في بعض؛ ليتأكد بذلك المثال الذي

(3/419)


ضربه لهم بقوله، ويزداد بيانا وظهورا.
ويفهم من تشبيكه: أن تعاضد المؤمنين بينهم كتشبيك الأصابع بعضها في بعض، فكما أن أصابع اليدين متعددة فهي ترجع إلى اصل واحد ورجل واحد، فكذلك المؤمنون وإن تعددت أشخاصهم فهم يرجعون إلى اصل واحد، وتجمعهم أخوة النسب إلى آدم ونوح، وأخوة الإيمان.
وهذا كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث النعمان بن بشير: ((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالحمى والسهر)) .
خرجاه في الصحيحين.
وفي رواية: ((المؤمنون كرجل واحد، أن اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) .
الحديث الثاني:

(3/420)


482 - ثنا إسحاق: ثنا ابن شميل: أبنا ابن عون: عن ابن سيرين، عن أبي
هريرة، قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدى صلاتي العشي - قال ابن سيرين: قد سماها أبو هريرة، ولكن نسيت أنا - قال: فصلى بنا ركعتين، ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه

(3/420)


غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: ((لم أنس، ولم تقصر)) . فقال: ((أكما يقول ذو اليدين؟)) قالوا: نعم فتقدم فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر.
فربما سألوه: ثم سلم؟ فيقول: نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم.
المسئول: ((ثم سلم)) ؟ هو ابن سيرين.
وقد أعاده البخاري في ((أبواب: سجود السهو)) ، ويأتي الكلام عليه هناك مستوفي - إن شاء الله تعالى.
إنما المقصود في هذا الباب منه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام بعد سلامه من الصلاة إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها، ووضع يده اليمنى

(3/421)


على ظهر كفه اليسرى، وشبك بين أصابعه، فدل على جواز تشبيك أصابع اليدين في المسجد لغير حاجة إليه.
والظاهر: أنه إنما فعله لما غلبه من الهم؛ فإن ذلك يفعله المهموم كثيرا.
وقد رخص في التشبيك في المسجد جماعة:
قال وكيع: ثنا الربيع بن صبيح، قال رأيت الحسن في المسجد هكذا - وشبك وكيع بين أصابعه.
وقال حرب: رأيت إسحاق جالسا في المسجد يقرأ وشبك أصابعه.
وقد روي النهي عن التشبيك في المسجد من رواية مولى لأبي سعيد الخدري، أنه كان مع سعيد وهو مع رسول الله، قال: فدخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرأى رجلا جالسا في وسط المسجد مشبكا أصابعه يحدث نفسه فأومأ إليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يفطن، فالتفت إلى أبي سعيد، فقال: ((إذا صلى أحدكم فلا يشبكن بين أصابعه؛ فإن التشبيك من الشيطان؛ وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه)) .
خرجه الإمام أحمد.
وفي إسناده عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، ضعفه ابن معين.
وروي - أيضا - النهي عن تشبيك الأصابع لمن هو

(3/422)


ماش إلى المسجد للصلاة فيه، من حديث كعب بن عجرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه؛ فإنه في صلاة)) .
خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه.
وفي إسناده اختلاف كثير واضطراب.
وقد ذكر أبو بكر الإسماعيلي في ((صحيحه)) المخرج على ((صحيح البخاري)) أن حديث كعب بن عجرة وما في معناه لا ينافي حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري في هذا الباب، وأنه يمكن الجمع بينهما، بأنه إنما يكره التشبيك لمن كان في صلاة، أو حكمه حكم من كان في صلاة، كمن يمشي إلى المسجد أو يجلس فيه لانتظار الصلاة، فأما من قام من الصلاة وانصرف منها، كما فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سلم من ركعتين وقام إلى الخشبة المعترضة، فإنه صار منصرفا من الصلاة لا منتظرا لها، فلا يضره التشبيك
حينئذ.
قال: وقد قيل إن من كان في صلاة ومنتظرا الصلاة في جماعة فهم على ائتلاف، فإذا شبك لم يؤمن أن يتطير بهم عدوهم، بأنهم سيختلفون، ألا تراه في حديث عبد الله بن عمرو يقول: ((مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا وصاروا هكذا)) - وشبك بين أصابعه، ولم يؤمن أن يكون ذلك سببا أو أمارة لاختلاف فهم،

(3/423)


كما أمرهم بأن يستووا في صفوفهم، وقال: ((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) . انتهى ما ذكره.
وهو مناسبة بعيدة جدا؛ فإن التشبيك كما مثل به الاختلاف والافتراق فقد مثل به الائتلاف والتعاون والتناصر، كما في حديث أبي موسى الذي خرجه البخاري في أول الباب، فليس كراهته لمشابهته لمثل الافتراق بأولى من عدم كراهته لمشابهته لمثل التعاون والتعاضد والتناصر.
ومثل هذه المعاني توجد كثيرا في كتب شروح الحديث المتأخرة، وأكثرها مدخول، ولم يكن علماء سلف الأمة يقعون في شيء من ذلك، وكذلك لم أستكثر من ذكر مثله في هذا الكتاب، وإنما ذكرت هذا لأن الإسماعيلي مع تقدمه ذكره في ((صحيحه)) ، ونبهت على ما فيه.
وجمع الخطابي في ((الأعلام)) بين حديث كعب بن عجرة في النهي وحديث أبي هريرة في فعل التشبيك، بأن النهي إنما يحمل على الاحتباء بالتشبيك للأصابع؛ لأنه يجلب النوم الناقض للوضوء، وما سواه فمباح.
فخص الكراهة بحالة الاحتباء، وهذا في غاية البعد؛ لأن حديث كعب فيه
النهي عن التشبيك للعامد إلى المسجد، والمراد به الماشي إليه، والماشي لا يحتبي،

(3/424)


وقد ورد مصرحا بذلك في رواية خرجها مسلم في كتاب ((العلل)) له عن أبي ثمامة القماح، قال: لقيني كعب بن عجرة وأنا رائح إلى المسجد مشبك بين أصابعي، فضرب يدي ضربة ففرق بينهما، وقال: نهينا أن نشبك بين أصابعنا في الصلاة. فقلت: إني لست في صلاة. فقال: أن الرجل إذا توضأ فأحسن وضوءه، ثم خرج يؤم المسجد فهو في صلاة.
وخرجه أبو داود بمعناه، إلا أنه لم يذكر قوله: ((إني لست في صلاة)) ، وصرح برفع آخر الحديث إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأعل محمد بن يحيى الهمداني في ((صحيحه)) حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري في هذا الباب، وقال: ذكر تشبيك الأصابع ووضع الخد لا أعلم ذكره غير النضر - يعني: ابن شميل -، عن ابن عون.
وأما تشبيك الأصابع في الصلاة فمكروه.
وقد خرج ابن ماجه حديث كعب بن عجرة المتقدم، ولفظه: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا قد شبك بين أصابعه في الصلاة، ففرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أصابعه.

(3/425)


وخرج وكيع، عن عاصم بن محمد العمري، عن ابن المنكدر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه، مرسلا.
وخرج أبو داود بإسناده عن نافع، أنه سئل عن الرجل يصلي وهو مشبك
أصابعه؟ فقال: قال ابن عمر: تلك صلاة المغضوب عليهم.
وكرهه طاوس والنخعي.
وقال النعمان بن أبي عياش: كانوا ينهون عن ذلك.
وكلام ابن عمر يدل على أنه كره لما فيه من مشابهة أهل الكتاب، وهو - أيضا - من نوع العبث الذي تنزه عنه الصلاة، ومثله تفقيع الأصابع.
وقد روى الحارث، عن علي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهاه أن يفقع أصابعه في الصلاة.
وخرجه ابن ماجه.
وخرج الإمام أحمد من رواية زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إن الضاحك في الصلاة، والملتفت، والمفقع أصابعه بمنزلة واحدة)) .
وزبان وسهل، فيهما ضعف.
وفيه إشارة إلى أن ذلك كله من العبث المنافي للخشوع في الصلاة.

(3/426)


89 - باب
المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي
صلى فيها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
خرج فيه حديثين:
أحدهما:
قال:

(3/427)


483 - ثنا محمد بن بكر المقدمي: ثنا فضيل بن سليمان: ثنا موسى بن عقبة، قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في تلك الأمكنة.
وحدثني نافع، عن ابن عمر، أنه كان يصلي في تلك الأمكنة.
وسألت سالما، ولا أعلمه إلا وافق نافعا في الأمكنة كلها، إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء.
قد ذكرنا فيما سبق في ((باب: اتخاذ المساجد في البيوت)) حكم أتباع آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والصلاة في مواضع صلاته، وأن ابن عمر كان يفعل ذلك، وكذلك ابنه سالم.
وقد رخص أحمد في ذلك على ما فعله ابن عمر، وكره ما أحدثه الناس بعد ذلك من الغلو والإفراط، والأشياء المحدثة التي لا أصل لها في

(3/427)


الشريعة.
وقد كان ابن عمر مشهورا بتتبع آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن ذلك صلاته في المواضع التي كان يصلي فيها.
وهي على نوعين:
أحدهما: ما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقصده للصلاة فيه، كمسجد قباء، ويأتي ذكره في موضعه من ((الكتاب)) - إن شاء الله تعالى.
والثاني: ما صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتفاقا لإدراك الصلاة له عنده، فهذا هو الذي اختص ابن عمر بأتباعه.
وقد روى ابن سعد: أنا معن بن عيسى: ثنا عبد الله بن المؤمل، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: ما كان أحد يتبع آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في منازله، كما كان ابن عمر يتبعه.
وروى أبو نعيم من رواية خارجة بن مصعب، عن موسى بن عقبة، عن نافع، قال: لو نظرت إلى ابن عمر إذا اتبع أثر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقلت: هذا مجنون.
ومن طريق عاصم الأحول، عمن حدثه، قال: كان ابن عمر إذا رآه أحد ظن أن به شيئا من تتبعه آثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن طريق أبي مودود، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان في طريق مكة يقود برأس راحلته يثنيها، ويقول: لعل خفا يقع على خف -

(3/428)


يعني: خف راحلة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والمسجد الذي وقع فيه الاختلاف بشرف الروحاء، والروحاء من الفرع، بينها وبين المدينة مرحلتان، يقال: بينهما أربعون ميلا، وقيل ثلاثون ميلا.
وفي ((صحيح مسلم)) : بينهما ستة وثلاثون ميلا.
يقال: أنه نزل بها تبع حين رجع من قتال أهل المدينة يريد مكة، فأقام بها وأراح، فسماها: الروحاء.
وقيل: إن بها قبر مضر بن نزار.
وقد روى الزبير بن بكار بإسناد له، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صلى بشرف الروحاء، عن يمين الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، وعن يسارها وأنت مقبل من مكة.
ودون هذا الشرف الذي به هذا المسجد موضع يقال له: ((السيالة)) ، ضبطها صاحب ((معجم البلدان)) بتخفيف الياء، كان قرية مسكونة بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبها آثار البناء والأسواق، وآخرها شرف الروحاء، والمسجد المذكور عنده قبور عتيقة، كانت مدفن أهل السيالة، ثم تهبط منه في وادي الروحاء، ويعرف اليوم بوادي بني سالم.
الحديث الثاني:
هو حديث طويل، فنذكره قطعا قطعا، ونشرح كل قطعة منه بانفرادها:
قال البخاري - رحمه الله -:

(3/429)


484 - حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي: ثنا أنس بن عياض: ثنا موسى بن
عقبة، عن نافع، أن عبد الله بن عمر أخبره، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر وفي حجته حين حج تحت سمرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة، وكان إذا رجع من غزوة، وكان في تلك الطريق أو حج أو عمرة هبط بطن واد، فإذا ظهر من بطن واد أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية، فعرس ثم حتى يصبح، ليس عند المسجد الذي بحجارة ولا على الأكمة التي عليها المسجد، كان ثم خليج يصلي عبد الله عنده في بطنه كثب، كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يصلي، فدحا فيه السيل بالبطحاء حتى دفن ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه.
ذو الحليفة: قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، وهي ميقات أهل المدينة، وتسمى - أيضا -: الشجرة، وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينزل بها حين يعتمر وحين حج حجة الوداع، وقد اعتمر منها مرتين: عمرة الحديبية، وعمرة القضية.
وقد ذكر ابن عمر في حديثه هذا أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل بها

(3/430)


تحت سمرة في موضع المسجد الذي بني بها، وهذا يدل على أن المسجد لم يكن حينئذ مبنيا، إنما بني بعد ذلك في مكان منزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها، وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحرم منها، وكان يصلي بها في موضع المسجد.
وقد روي أنه صلى في المسجد، ولعل المراد في بقعته وأرضه، قبل أن يجعل مسجدا، حتى يجمع بذلك بين الحديثين.
وقد خرج البخاري في ((الحج)) عن إبراهيم بن المنذر - أيضا -، عن أنس ابن عياض، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة
وخرج مسلم من حديث الزهري، أن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أخبره، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل بذي الحليفة مبدأه، وصلى في مسجدها.
ومن حديث الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل.
وفي ((الصحيحين)) من حديث مالك، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه، قال: ما أهل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا من عند المسجد - يعني: مسجد ذي الحليفة.

(3/431)


وفي رواية لمسلم من رواية حاتم بن إسماعيل، عن موسى بن عقبة: إلا من عند الشجرة.
وخرج البخاري - أيضا - في ((الحج)) من حديث عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوادي العقيق يقول: ((أتاني الليلة آت من ربي عز وجل، فقال: صل في هذا الوادي المبارك؛ وقل: عمرة في حجة)) .
ووادي العقيق متصل بذي الحليفة.
فهذا كان حال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفره إلى مكة.
فأما حاله في رجوعه إلى المدينة إذا رجع على ذي الحليفة من حج أو عمرة، أو من غزاة في تلك الجهة، فإنه كان يهبط بطن واد هنالك، فإذا ظهر من بطن الوادي أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية، فيعرس هناك حتى يصبح.
قال الخطابي: التعريس: نزول استراحة بغير إقامة، وفي الأكثر يكون آخر الليل، ينْزلون فينامون نومة خفيفة، ثم يرتحلون.
قال: والبطحاء: حجارة ورمل.
قلت: المراد بالتعريس هنا: نومة حتى يصبح.
وقد خرجه البخاري في ((الحج)) عن إبراهيم بن المنذر، عن أنس بن

(3/432)


عياض، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي، وبات حتى يصبح.
وخرج فيه - أيضا - من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أناخ بالبطحاء بذي الحليفة فصلى بها، وكان عبد الله يفعل ذلك.
ومن طريق موسى بن عقبة، قال: حدثني سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رئي وهو معرس بذي الحليفة ببطن الوادي، قيل له: إنك ببطحاء مباركة. وقد أناخ بنا سالم يتوخى بالمناخ الذي كان عبد الله ينيخ يتحرى معرس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي، بينه وبين الطريق وسط من ذلك.
وقد خرجه مسلم مع حديث مالك الذي قبله، وخرج حديث أنس بن عياض بلفظ أخر.
فظهر من هذه الأحاديث كلها: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبيت بالمعرس، وهو ببطحاء ذي الحليفة حتى يصبح، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي هناك، وأنه كان هناك مسجد قد بني ولم يكن في موضع صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل

(3/433)


كان قريباً منه.
وفي حديث سالم: أن المسجد كان ببطن الوادي، وفي حديث موسى بن عقبة بن نافع - الطويل الذي خرجه البخاري هنا -، أنه كان مبنياً بحجارة على أكمة، وفي حديثه: أنه كان ثم خليج يصلي عبد الله عنده، في بطنه كثب، كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم
يصلي.
قال الخطابي: الخليج: واد له عمق، ينشق من آخر أعظم منه. والكثب: جمع كثيب، وهو ما غلظ وأرتفع عن وجه الأرض.
وقوله: ((فدحا السيل فيه بالبطحاء حتى دفن ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه)) .
قال الخطابي: معنى ((دحا السيل)) : سواه بما حمل من البطحاء. والبطحاء: حجارة ورمل.
وهذه الصلاة التي كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في هذا الموضع قد جاء في رواية إنها كانت صلاة الصبح إذا أصبح.
وقد خرجه الأمام أحمد عن موسى بن قرة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، أن
عبد الله حدثه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعرس بها حتى يصلي صلاة الصبح.
قال ابن عبد البر في كلامه على حديث مالك الذي ذكرناه من قبل:

(3/434)


هذه البطحاء المذكورة في هذا الحديث هي المعروفة عند أهل المدينة وغيرهم بالمعرس.
قال مالك في ((الموطإ)) : لا ينبغي لأحد أن يتجاوز المعرس إذا قفل حتى يصلي
فيه، وأنه من مر به في غير وقت صلاة فليقم حتى تحل الصلاة ثم يصلي ما بدا له؛ لأنه بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرس به، وأن ابن عمر أناخ به.
قال ابن عبد البر: واستحبه الشافعي، ولم يأمر به.
وقال أبو حنيفة: من مر بالمعرس من ذي الحليفة فإن أحب أن يعرس به حتى يصلي فعل، وليس ذلك عليه.
وقال محمد بن الحسن: وهو عندنا من المنازل التي نزلها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طريق مكة، وبلغنا أن ابن عمر كان يتبع آثاره، فلذلك كان ينزل بالمعرس، لا أنه كان يراه واجباً ولا سنة على الناس. قال ولو كان واجباً أو سنه من سنن الحج لكان سائر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقفون وينزلون ويصلون، ولم يكن ابن عمر ينفرد بذلك دونهم.
وقال إسماعيل بن إسحاق القاضي: ليس نزوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمعرس كسائر نزوله بطريق مكة؛ لأنه كان يصلي الفريضة حيث أمكنه، والمعرس إنما كان يصلي فيه نافلة. قال: ولو كان المعرس كسائر المنازل ما أنكر ابن عمر على نافع تأخره عنه.
وذكر حديث موسى بن عقبه، عن نافع، أن ابن عمر سبقه إلى المعرس فأبطأ عليه، فقال له: ما حسبك؟ فذكر

(3/435)


عذراً، قال: ما ظننت انك أخذت الطريق ولو فعلت لأوجعتك ضرباً. انتهى.
وفي قوله: ((أنه صلى بالمعرس نافلة)) نظر، وقد قدمنا أنه إنما صلى به الصبح لما أصبح.
وظاهر كلام أحمد: استحباب الصلاة بالمعرس، فإنه قال في رواية صالح: كان ابن عمر لا يمر بموضع صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا صلى فيه، حتى أنه صب الماء في أصل شجرة، فكان ابن عمر يصب الماء في أصلها.
وإنما أخرج أحمد ذلك مخرج الاحتجاج به؛ فإنه في أول هذه الرواية استحب ما كان ابن عمر يفعله من مسح منبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومقعده منه.
وقد تبين بهذه النصوص المذكورة في هذا الموضع: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج من المدينة إلى مكة في طريق ويرجع في غيره، كما كان يفعل ذلك في العيدين، وكما كان يدخل مكة من أعلاها ويخرج من أسفلها.
وقد خرج البخاري في ((الحج)) من حديث ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج من طريق الشجرة ويدخل من طريق المعرس.
وخرجه مسلم - أيضا.
وهذا يدل على أن موضع الشجرة - وهو مسجد ذي الحليفة - غير طريق المعرس، والذي كان يرجع منه.

(3/436)


وخرج البزار نحوه من حديث أبي هريرة.
ثم رجعنا إلى بقية حديث موسى بن عقبة عن نافع الذي خرجه البخاري هاهنا:

(3/437)


485 - وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى حيث المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الروحاء، وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يقول ثم عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلي، وذلك المسجد على حافة الطريق اليمنى، وأنت ذاهب إلى مكة، بينه وبين المسجد الأكبر رمية بحجر، أو نحو ذلك.
هذا هو المسجد الذي اختلف فيه سالم ونافع، كما ذكرناه في شرح الحديث الأول.
وهذا الحديث: يدل على أن بالروحاء مسجدين: كبير وصغير، فالكبير بشرف الروحاء، ولم يصل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنده، إنما صلى موضع الصغير عن يمين ذلك المسجد، وأن بين المسجدين رمية بحجر.
ثم رجعنا إلى بقية الحديث.

(3/437)


486 - وأن ابن عمر كان يصلي إلى العرق الذي عند منصرف الروحاء، وذلك العرق انتهاء طرفه على حافة الطريق، دون المسجد الذي بينه وبين المنصرف، وأنت ذاهب إلى مكة وقد ابتني ثم مسجد، فلم يكن عبد الله يصلي في ذلك المسجد، كان يتركه عن يساره ووراءه ويصلي أمامه إلى العرق نفسه، وكان عبد الله يروح من الروحاء فلا يصلي الظهر حتى يأتي ذلك المكان، فيصلي فيه الظهر، وإذا أقبل من مكة فإن مر به قبل الصبح بساعة أو من آخر السحر عرس حتى يصلي بها الصبح.
قال الخطابي: العرق: جبيل صغير.
ومنصرف الروحاء: المنصرف - بفتح الراء -، ويقال: أن بينه وبين بدر أربعة برد، والمسجد المبني هناك، قيل: أنه في آخر وادي الروحاء مع طرف الجبل على يسار الذاهب إلى مكة. وقيل: أنه لم يبق منه زمان إلا آثار يسيرة، وأنه كان يعرف حينئذ بمسجد الغزالة.
وذكروا: أن عن يمين الطريق لمن كان بهذا المسجد وهو مستقبل النازية موضع كان ابن عمر ينزل فيه، ويقول: هذا منزل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان ثم شجرة، كان ابن عمر إذا نزل وتوضأ صب فضل وضوئه

(3/437)


في أصلها، ويقول: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل.
والنازية: قال صاحب ((معجم البلدان)) : - بالزاي وتخفيف الياء -: عين على طريق لآخذ من مكة إلى المدينة قرب الصفراء، وهي إلى المدينة أقرب.
ولم يصرح ابن عمر في صلاته إلى هذا العرق بأنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إليه، ولكن محافظته على الصلاة في هذا المكان ذاهبا وراجعا وتعريسه به حتى يصلي به يدل على أنه إنما فعل ذلك إقتداء بصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه.
ثم رجعنا إلى بقية الحديث:

(3/439)


487 - وأن عبد الله حدثه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل تحت سرحة ضخمة دون الرويثة عن يمين الطريق، ووجاه الطريق في مكان بطح سهل حتى يفضي من أكمة دوين بريد الرويثة بميلين وقد انكسر أعلاها فانثنى في جوفها، وهي قائمة على ساق، وفي ساقها كثب كثيرة.
السرحة: شجرة، وتجمع على سرح كتمرة وتمر، وهو ضرب من الشجر له ثمر، وقيل: هي شجرة بيضاء. وقيل: كل شجرة طويلة سرحة.
وقال إبراهيم الحربي: السرح شجر كبار طوال لا ترعى، يستظل به، لا ينبت في رمل أبدا، ولا جبل، ولا تأكله الماشية إلا قليلا، له غصن اصفر.

(3/439)


وقد وصفها بأنها ضخمة - أي: عظيمة -، وأنه انكسر أعلاها فانثنى في جوفها، وأنها قائمة على ساق، وفي كثب كثيرة.
وقد سبق أن الكثب جمع كثيب، وهو ما غلظ وارتفع عن وجه الأرض.
والبطح: الواسع. والرويثة مكان معروف بين مكة والمدينة.
وأما مكان هذه السرحة، فلا يعرف منذ زمان، وقد ذكر ذلك بعض من صنف في أخبار المدينة بعد السبعمائة، وذكر أنه لا يعرف في يومه ذاك من هذه المساجد المذكورة في هذا الحديث سوى مسجد الروحاء ومسجد الغزالة، وذكر معهما مسجدا ثالثا، وزعم أنه معروف - أيضا - بالروحاء، عند عرق الظبية، عند جبل ورقان، وذكر فيه حديثا رواه الزبير بن بكار بإسناد ضعيف جدا، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لقد صلى في هذا المسجد قبلي سبعون نبيا)) . وهذا لا يثبت، ولعله أحد المسجدين بالروحاء، وقد تقدم ذكرهما.
ثم رجعنا إلى بقية الحديث:

(3/440)


488 - وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في طرف تلعة من وراء العرج كبيرة، وأنت ذاهب إلى هضبة عند ذلك المسجد

(3/440)


قبران أو ثلاثة، على القبور رضم من حجارة، عن يمين الطريق عند سلمات الطريق، بين أولئك السلمات كان
عبد الله يروح من العرج بعد أن تميل الشمس بالهاجرة، فيصلي الظهر في ذلك المسجد.
وفي رواية الإمام أحمد لهذا الحديث زيادة في هذا بعد قوله: ((وأنت ذاهب على راس خمسة أميال من العرج فِي مسجد إلى هضبة)) - وذكر باقيه.
والتلعة: المكان المرتفع من الأرض.
قال الخطابي: التلعة مسيل الماء من فوق لأسفل. قال: والهضبة فوق الكثيب في الارتفاع ودون الجبل. والرضم: حجارة كبار واحدتها رضمة. والسلمات: جمع سلمة، وهي شجرة ورقها القرظ الذي يدبغ به الأدم. وقيل: السلم يشبه القرظ وليس به. انتهى ما ذكره.
وحكى غيره أن الهضبة كل جبل خلق من صخرة واحدة وكل صخرة راسية تسمى هضبة، وجمعها هضاب -: قاله الخليل.
وقال الأصمعي: الهضبة: الجبل المنبسط على الأرض.

(3/441)


والسلمات - بالفتح -: شجر، والسلمات بالكسر -: حجارة. والرضم والرضام: دون الهضاب -: قاله أبو عمرو. والوحدة منها رضمة. والعرج: مكان معروف بين مكة والمدينة؛ يقال: أنه عقبة.
رجعنا إلى بقية الحديث:

(3/442)


489 - وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل عند سرحات عن يسار الطريق، في مسيل دون هرشي، ذلك المسيل لاصق بكراع هرشي، بينه وبين الطريق قريب من غلوة، وكان عبد الله بن عمر يصلي إلى سرحة هي اقرب السرحات إلى الطريق، وهي أطولهن.
قال الخطابي: هرشي: ثنية معروفة، وكراعها: ما يمتد منها دون سفحها.
وقال غيره: الغلوة - بفتح الغين المعجمة -: قدر رمية بعيدة بسهم أو حجر.
وعند الإمام أحمد في حديث ابن عمر هذا، في هذا الموضع زيادة: ((غلوة
سهم)) .
وقال صاحب ((معجم البلدان)) هرشي: ثنية في طريق مكة، قريبة من
الجحفة، يرى منها البحر ولها طريقان، فكل من سلك واحدا منهما أفضى به إلى موضع واحد.

(3/442)


وفي صحيح مسلم عن ابن عباس، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بوادي الأزرق، فقال: ((أي واد هذا؟)) قالوا: وادي الأزرق. قال: ((كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية وله جؤار إلى الله بالتلبية)) ، ثم أتى على ثنية هرشي، فقال: ((أي ثنية هذا؟)) قالوا: هرشي. قال: ((كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء جعدة، عليه جبة من صوف، خطام ناقته خلبة، وهو يلبي)) .
قال هشيم: يعني: ليفا.
رجعنا إلى بقية الحديث:

(3/443)


490 - وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل في المسيل الذي في أدنى مر الظهران قبل المدينة حين يهبط من الصفراوات، ينزل في بطن ذلك المسيل عن يسار الطريق، وأنت ذاهب إلى مكة، ليس بين منزل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين الطريق إلا رمية بحجر.
مر الظهران: معروف قريب من مكة ويسمى بطن مر.
والصفراوات: موضع قريب منه بينه وبين عسفان.
رجعنا إلى بقية الحديث:

(3/443)


491 - وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل بذي طوى، ويبيت حتى يصبح،

(3/443)


يصلي الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك على أكمة غليظة، ليس في المسجد الذي بني ثم، ولكن أسفل من ذلك على أكمة غليظة.
هذه القطعة من هذا الحديث خرجها مسلم في ((صحيحه)) عن محمد بن إسحاق المسيبي، عن أبي ضمرة أنس بن عياض، بإسناد البخاري.
وذو طوى: يروى بضم الطاء وكسرها وفتحها، وهو واد معروف بمكة بين الثنيتين، وتسمى أحداهما: ثنية المدنيين، تشرف على مقبرة مكة، وثنية تهبط على جبل يسمى: الحصحاص، بحاء مهملة وصادين مهملين.
وكان بذي طوى مسجد بني بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فيه، وإنما صلى أسفل منه على أكمة غليظة.
وذكر الأزرقي في ((أخبار مكة)) أن المسجد بنته زبيدة.
وخرج من طريق مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عم موسى بن عقبة، أن نافعا حدثه، أن ابن عمر اخبره، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل بذي طوى حين يعتمر وفي حجته حين حج، تحت سمرة في موضع المسجد.
قال ابن جريج: وحدثني نافع، أن ابن عمر حدثه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينزل ذا طوى فيبيت به حتى يصلي

(3/444)


الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك على أكمة غليظة الذي بالمسجد الذي بني ثم، ولكنه أسفل من الجبل الطويل الذي قبل مكة، تجعل المسجد الذي بني يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسفل منه على الأكمة السوداء، تدع من الأكمة عشرة اذرع ونحوها بيمين، ثم تصلى مستقبل الفرضتين من الجبل الطويل الذي بينه وبين الكعبة.
كذا ذكره الأزرقي.
ومسلم بن خالد، لم يكن بالحافظ.
وهذا إنما يعرف عن موسى بن عقبة عن نافع، فجعله عن ابن جريج، عنه.
وبقي من الحديث الذي خرجه البخاري:

(3/445)


492 - وأن عبد الله بن عمر حدثه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استقبل فرضتي الجبل الذي بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة، فجعل المسجد الذي بني ثم يسار المسجد بطرف الأكمة، ومصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسفل منه على الأكمة السوداء، تدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها، ثم تصلي مستقبل

(3/445)


الفرضتين من الجبل الذي بينك وبين الكعبة.
وهذه القطعة خرجها - أيضا - مسلم عن المسيبي، عن أبي ضمرة، وأعاد إسنادها بعد تخريج القطعة التي قبلها.
وهذا كله يوهم أن هذه صفة موضع آخر صلى فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل دخوله مكة، وليس كذلك، وإنما هو من تمام صفة موضع صلاته بذي طوى كما ساقه الأزرقي في رواية.
والظاهر: أنه هناك مسجدان مبنيان بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يعرف منهما اليوم شيء.
وفرضة الجبل - بضم الفاء - مدخل الطريق إليه؛ وأصله مأخوذ من الفرض وهو القطع غير البليغ -: قاله الخطابي.
وفي مبيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذي طوى، وصلاته الصبح في هذا المكان: دليل على أن من كان قادرا على الدخول إلى مكة معاينة الكعبة فله أن يصلي خارجا منها بغير معاينة، وأن من كان بمكة وبينه وبين الكعبة حائل أصلي كالجبل فله أن يصلي بالاجتهاد إلى الكعبة، ولا يلزمه أن يعلو فوق الجبال حتى يشهد الكعبة؛ لما في ذلك من الحرج والمشقة.
وهذا قول أصحابنا والشافعية، ولا نعلم فيه خلافا.
وهذا ((أخر أبواب المساجد)) ، وبعدها ((أبواب السترة)) ، وما يصلى إليه، والمرور بين يدي المصلي، ونحو ذلك.

(3/446)


90 - باب
سترة الإمام سترة لمن خلفه
خرج فيه ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
قال:

(4/5)


493 - ثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس، أنه قال: أقبلت راكبا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد.
وقد خرجه - أيضا - في ((كتاب العلم)) عن إسماعيل، عن مالك.
وخرجه في آخر ((المغازي)) في ((باب: حجة الوداع)) عن يحيى بن قزعة، عن مالك.
وذكره تعليقا، قال: وقال الليث: حدثني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله، أن ابن عباس أخبره، أنه أقبل يسير على حمار، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائم بمنى في حجة الوداع يصلي بالناس، فسار الحمار بين يدي بعض الصف، ثم نزل عنه فصف مع الناس.
ولكن هذا لفظ رواية يونس.

(4/5)


وقد خرجه به مسلم في ((صحيحه)) من طريق ابن وهب، عنه.
وخرجه مسلم - أيضا - من طريق ابن عينية، عن الزهري، وقال: والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بعرفة.
ومن طريق معمر، عن الزهري، ولم يذكر فيه: منى ولا عرفة، وقال في حجة الوداع - أو يوم الفتح.
واقتصر من حديث ابن عيينة ومعمر على هذا.
وذكر يوم الفتح لا وجه له؛ فإن ابن عباس لم يكن قد ناهز يومئذ الاحتلام، ولا كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي يومئذ بمنى ولا عرفة.
وفي رواية ابن عيينة: جئت أنا والفضل على أتان لنا.
وفي رواية - أيضا - فلم يقل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنا شيئا.
وقد خرجه النسائي بتمامه هكذا.
وخرج الترمذي حديث معمر بتمامه، ولفظه: كنت رديف الفضل على أتان، فجئنا والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بأصحابه بمنى، فنزلنا عنها، فوصلنا الصف، فمرت بين أيديهم، فلم تقطع صلاتهم.
ففي هذه الروايات: أن ابن عباس مر على حماره بين يدي بعض الصف والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس، فلم ينكر ذلك عليه أحد، لا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أحد ممن صلى خلفه.
وبهذا استدل البخاري وغيره من العلماء على أن سترة الإمام سترة لمن خلف؛ لأن سترة الإمام إذا كَانَتْ محفوظة كفى ذَلِكَ المأمومين، ولم يضرهم مرور من مر بَيْن
أيديهم؛ ولذلك لا يشرع للمأمومين اتخاذ سترة لهم وهم خلف الإمام.

(4/6)


ولا نعلم أحدا ذكر في حديث ابن عباس: ((إلى غير جدار)) غير مالك. وقد خرجه في ((الموطإ)) في موضعين، ذكر في أحدهما هذه الكلمة، وأسقطها في الأخرى.
وقد قال الشافعي: قول ابن عباس: ((إلى غير جدار)) ، أراد - والله أعلم -: إلى غير سترة.
واستدل بذلك على أن السترة غير واجبة في الصلاة.
وحمله غيره على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إلى عنزة، فإن هذه كانت عادته في الأسفار، على ما يأتي - إن شاء الله تعالى.
فكلام البخاري قد يدل على هذا؛ لإدخاله هذا الحديث في أن سترة الإمام سترة لمن خلفه.
وحمله الإمام أحمد - في رواية ابن منصور والأثرم - على مثل هذا.
لكن البخاري قد خرج الحديث، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى غير جدار، كما تقدم، إلا أن يقال: لا يلزم من عدم الجدار نفي استتاره بحربة ونحوها.
وقد ذكر الأثرم أن ابن أخي الزهري روى هذا الحديث عن الزهري، وذكر فيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى غير سترة.
وقد روي عن الإمام أحمد مثل قول الشافعي، وأنه حمل الحديث على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى غير سترة -: نقله عنه الحسن بن ثواب.

(4/7)


واستدل بالحديث - في رواية جماعة من أصحابه عنه - على أن مرور الحمار بين يدي المصلي لا يقطع صلاته، وعارض به حديث أبي ذر.
وهذا إنما يكون إذا كان يصلي إلى غير سترة.
وقد ورد في رواية التصريح بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إلى غير سترة. وفي حديث آخر التصريح بأن ابن عباس مر بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فأما الأول، فمن طريق الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن أبي الصهباء، قال: تذاكرنا ما يقطع الصلاة عند ابن عباس، قال: جئت أنا وغلام من بني عبد المطلب على حمار، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، فنزل ونزلت وتركنا الحمار أمام الصف، فما بالاه، وجاءت جاريتان من بني عبد المطلب فدخلتا بين الصف، فما بالى ذلك.
خرجه أبو داود - وهذا لفظه -، والنسائي.
وخرجه الأثرم، وعنده: ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في أرض خلاء.
وخرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافي)) من طريق شعبة، ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في فضاء ليس بين يديه سترة.
وقد ذكره الإمام أحمد بهذا اللفظ من حديث شعبة، واحتج به، ولم

(4/8)


نجده في ((المسند)) بهذا اللفظ.
وذكر الأثرم أن شعبة ومنصورا رويا في هذا الحديث: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في فضاء من الأرض، ليس بين يديه سترة، ولعل هذا مما تصرفوا في لفظه لما فهموه من معناه، هكذا رواه شعبة ومنصور، عن الحكم، عن يحيى، عن صهيب.
ورواه شعبة - أيضا - عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن ابن عباس - من غير ذكر: ((صهيب)) في إسناده.
خرجه الإمام أحمد كذلك.
وقد روي عن منصور، عن الحكم كذلك - أيضا.
خرجه ابن حبان في ((صحيحه)) كذلك.

(4/9)


ورواه حجاج، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن ابن عباس - من غير ذكر: ((أبي الصهباء)) - أيضا - ولفظ حديثه: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فضاء، ليس بين يديه شيء - ولم يزد على ذلك.
خرجه من طريقه الإمام أحمد.
وأبو الصهباء، اسمه: صهيب المدني، وهو ثقة، وثقه أبو زرعة وغيره. ويقال أنه البكري، وهو مدني، لكن سئل عن صهيب هذا، فقال: شيخ من أهل البصرة. وهذا يدل على أنه غير المدني.
وصحح أبو حاتم الرازي - فيما نقله عنه ابنه - كلا القولين: إدخال صهيب في إسناده، وإسقاطه.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) : أن يحيى بن الجزار لم يسمعه من ابن عباس.
والظاهر: أن ذلك من قول شعبة.
وكلام أحمد يدل على أن الصحيح دخوله في الإسناد.
وذكر الإمام أحمد هذا الحديث، واستدل به على أن الصلاة إلى غير سترة صحيحة، وقال: ليس هو بذاك.
يعني: من جهة إسناده، ولعله رأى أن صهيبا هذا غير معروف، وليس هو بأبي الصهباء البكري مولى ابن عباس؛ فإن ذاك مدني.
وأما الثاني: فمن طريق ابن جُرَيْج: حَدَّثَنِي عَبْد الكريم الجزري، أن

(4/10)


مجاهدا
أخبره، عن ابن عباس، قال: أتيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا والفضل على أتان، فمررنا بين يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة وهو يصلي المكتوبة، ليس شيء يستره، يحول بيننا وبينه.
خرجه البزار.
وخرج الإمام أحمد من طريق ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: جئت أنا والفضل على حمار، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس في فضاء من الأرض، فمررنا بين يديه ونحن عليه، حتى جاوزنا عامة الصف، فما نهانا ولا ردنا.
وشعبة هذا، تكلم فيه.
فعلى تقدير أن يكون ابن عباس مر بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي إلى غير سترة، فإنه يحمل على أنه مر بين يديه من بعد؛ فإنه لا يظن بالفضل وأخيه أن يمرا على حمار بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقرب منه، وإذا كان مرورهما بين يديه متباعدا فإنه لا يضر، ومرورهما على هذه الحال وجوده كعدمه.
وعلى تقدير أن يكونا لم يمرا إلا بين يدي بعض الصف، ولم يمرا بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والروايات الصحيحة إنما تدل على ذلك فمع ما علم من عادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاته إلى العنزة في أسفاره.
وقد روي ذلك من حديث

(4/11)


ابن عباس - أيضا.
خرجه الإمام أحمد: ثنا يزيد بن أبي حكيم: حدثني الحكم بن أبان، قال: سمعت عكرمة يقول: قال ابن عباس قال: ركزت العنزة بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات، فصلى والحمار من وراء العنزة.
والظاهر: أنه أشار إلى مروره على الحمار بين يديه، فيستدل بالحديث حينئذ على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، كما استدل به البخاري.
وسواء كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ يصلي إلى سترة أو إلى غير سترة؛ لأن قبلته كانت محفوظة عن المرور فيها، وكان هو - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سترة لمن وراءه؛ فلذلك لم يضرهم مرور الحمار بين أيديهم.
وهذا قول جمهور العلماء: إن سترة الإمام سترة لمن خلفه.
قال ابن المنذر: روي ذلك عن ابن عمر، وبه قال النخعي ومالك والأوزاعي واحمد. انتهى.
وروي - أيضا - عن أبي قلابة وعن الشعبي.
وروي عنه، عن مسروق.
ولكن أنكره الإمام أحمد، وذكره عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن فقهاء المدينة السبعة

(4/12)


في مشيخة سواهم من نظرائهم أهل ثقة وفضل، وهو قول الثوري.
وقد روي فيه حديث مرفوع:
خرجه الطبراني من رواية سويد بن عبد العزيز، عن عاصم الأحول، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((سترة الإمام سترة لمن خلفه)) .
ولكن لا يصح؛ وسويد هذا ضعيف جدا.
وقد أنكر الإمام أحمد عليه أنه روى عن حصين، عن الشعبي، عن مسروق أنه قال: سترة الإمام سترة لمن خلفه، وقال: إنما هو قول الشعبي. فكيف لو سمع أنه روى ذلك بإسناد له عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
ومنهم من قال: الإمام سترة لمن خلفه، وهو قول طائفة من أصحاب مالك.
ومعنى كون سترة الإمام سترة لمن خلفه: أن المأمومين لا يشرع لهم أن ينصبوا بين أيديهم سترة إمامهم، وأنه لا يضرهم من مر بين أيديهم إذا لم يمر بين يدي إمامهم.
ويدل على ذلك - أيضا -: ما روى هشام بن الغاز، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: هبطنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(4/13)


ثنية أذاخر، فحضرت الصلاة - يعني: إلى جدر - فاتخذه قبلة ونحن خلفه، فجاءت بهيمة تمر بين يديه، فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدر، ومرت من ورائه.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
وهذا يدل على أن المرور بين الإمام وسترته محذور، بخلاف المرور بين يدي من خلفه، إذا كانت سترة الإمام محفوظة.
وأما جواز المرور بين يدي المأمومين إذا كانت سترة إمامهم محفوظة ففيه قولان:
أحدهما: أنه منهي عنه - أيضا - نص عليه في رواية الأثرم، في الرجل يكون خلف الإمام وبين يديه صف، فيكون في الصف الذي بين يديه خلل عن يساره ليس هو بحذائه، أيمشي إليه فيسده؟ قال: إن كان بحذائه فعل فأما أن يمشي معترضا فيؤذي الذي إلى جنبه ويمر بين يديه فلا.
وهذا يدل على أن المشي بين يدي المأمومين داخل في النهي.
ومن أصحابنا من حمل ذلك على كراهة التنزيه، بخلاف المشي بين الإمام والمنفرد.
والكراهة قول أصحاب الشافعي - أيضا - وسيأتي عن الشافعي ما يدل عليه.
وقال سفيان: لا يعجبني ذلك.
وذكر مالك في ((الموطإ)) أنه بلغه، أن ابن عمر كان يكره أن يمر بين يدي النساء وهن

(4/14)


يصلين.
وحمله بعضهم على كراهة المرور بين يدي صفوف النساء في مؤخرة المسجد إذا صلين مع الإمام.
والقول الثاني: جوازه من غير كراهة، وأنه غير داخل في النهي، وقد حكاه بعض أصحابنا رواية عن أحمد، إذا كان مشيه لحاجة؛ كمشيه إلى فرجة في الصف، أو إذا لم يجد موضعا يصلي قيه.
وهو ظاهر كلام كثير من أصحابنا؛ فإنهم استدلوا بحديث ابن عباس على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وجعلوا عدم الإنكار على ابن عباس دليلا على ذلك.
وكلام ابن عباس يدل عليه - أيضا - فإنه استدل بعدم الإنكار على الجواز.
وهو مستلزم لعدم بطلان الصلاة، وهذا مذهب مالك وأصحابه.
ذكر مالك في ((الموطإ)) : ((باب: الرخصة في المرور بين يدي المصلي)) ، وخرج فيه حديث ابن عباس هذا، ثم قال: بلغني أن سعد بن وقاص كان يمر بين يدي بعض الصفوف والصلاة قائمة.
قال مالك: وأنا أرى ذلك واسعا، إذا أقيمت الصلاة بعد أن يحرم الإمام ولم يجد المرء مدخلا إلى المسجد إلا بين الصفوف.
وقد ذكر أبو داود في ((سننه)) بعض كلام مالك، عن القعنبي، عنه.
وقال سفيان الثوري: إذ انتهى إلى المسجد والطريق بين أيديهم، فانه يمشي معترضا حتى يدخل المسجد.

(4/15)


وفي ((تهذيب المدونة)) للبرادعي: ولا بأس بالمرور بين الصفوف عرضا، والإمام سترة لهم، وإن لم يكونوا إلى سترة، وكذلك من رعف وأحدث فليخرج عرضا، وليس عليه أن يرجع الى عجز المسجد.
وذكر ابن عبد البر في ((التمهيد)) أن المأموم لا يدفع من مر بين يديه، وقال: لا أعلم بين أهل العلم فيه خلافا.
وذكر في ((الاستذكار)) قول مالك الذي ذكره في ((الموطإ)) ، وذكر أن مالكا يرخص في ذلك لمن لم يجد منه بدا، وأن غيره لا يرى به بأسا - يعني: بكل حال، سواء اضطر إليه أو لا -؛ لحديث ابن عباس. قال: وقد قدمنا أن الإمام سترة لمن خلفه، فالماشي خلفه أمام الصف كالماشي خلفه دون صف. قال: ويحتمل هذا أن يكون المار لم يجد بدا كما قال مالك. ولكن الظاهر ما قدمنا من الآثار الدالة على أن الإمام سترة لمن خلفه.
وهذا الكلام يدل على أن للعلماء اختلافا: هل الرخصة تختص بحال الضرورة أم تعم؟
وقد حكى بعض أصحابنا رواية أخرى عن أحمد، بأن من كان بين يديه فرجة فلا يكره له أن يمشي عرضا بين الصفوف حتى يقوم فيها.

(4/16)


وهذا قول ثالث بالرخصة في ذلك لحاجة إليه، وإن لم يكن ضرورة.
وذكر البيهقي في كتابه ((المعرفة)) عن الشافعي في القديم، أنه ذكر قول مالك في هذا، واعتراض من اعترض عليه ثم أخذ في الذب عنه، واحتج بحديث ابن عباس
وغيره، وأشار إلى أن ذلك إنما قاله في المرور بين يدي المتنفلين الذين عليهم قطع النافلة للمكتوبة، ولا يجد الداخل طريقا غير الممر بين أيديهم.
ومعنى هذا أنه إنما يجوز المرور للضرورة بين يدي من يصلي صلاة مكروهة، هو من يتنفل بعد إقامة الصلاة، أو يطيل في نافلته وقد أقيمت الصلاة.
ولكن أصحاب مالك حملوا كلام مالك على عمومه في حال الضرورة كما تقدم، وهذا الكلام من الشافعي يدل على أن المأمومين لا يجوز المرور بين أيديهم إذا كانوا يقتدون بصلاة الإمام لضرورة ولا غيرها، كما قاله أحمد في غير حال الضرورة في رواية الأثرم.
وقال أصحاب الشافعي: إذا وجد الداخل فرجة في الصف الأول، فله أن يمر بين يدي الصف الثاني ويصف فيها؛ لتقصير أهل الثاني بتركها.
وهذا موافق لكلام الشافعي، حيث لم يجز المرور إلا مع تقصير المصلين، لكنه يخصه بحال الضرورة وأصحابه لم يخصوه بذلك.
ونص الشافعي في كتاب ((مختلف الحديث)) على أن المرور بين يدي المصلي إلى غير سترة مباح غير مكروه، واستدل بحديث

(4/17)


ابن عباس هذا، وبحديث المطلب بن أبي وداعة.
وذهبت طائفة من العلماء إلى أن سترة الإمام ليست سترة لمن خلفه من المأمومين:
فروى الجوزجاني وغيره من طريق ابن سيرين، أنه بلغه، أن الحكم الغفاري أم جيشا، وأنه كان بين يديه رمح، فمر به ما يقطع الصلاة، فأعاد بالقوم الصلاة، فلما انصرف ذكر ذلك له، فقال: أولم تروا إلى ما مر بين أيدينا؟ فأنا ومن يليني قد سترنا الرمح، فإنما أعدت الصلاة من أجل العامة.
قال ابن المنذر في ((كتابه الكبير)) : وروي عن عطاء نحوه.
وروى عمر بن شبة في كتاب ((أخبار قضاة البصرة)) : ثنا محمد بن حاتم: ثنا إسماعيل بن إبراهيم: ثنا يونس؛ قال: كان موسى بن أنس يصلي بالناس في صحن المسجد، فكان كلب يمر بين أيديهم، فسألوا الحسن، فقال: أما الإمام ومن كان إلى سارية ومن كان خلف الصف فلا يعيد، ومن كان بين السواري فليعد.
وأما على تقدير أن يكون ابن عباس مر على الأتان بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يصلي إلى غير سترة، ولم ينهه عن ذلك، فهذا يحتمل وجوها:
أحدها: أن يكون مر بين يديه من بعد، والمار أمام المصلي إلى غير

(4/18)


سترة عن بعد كالمار خلف سترته.
ولكن خرج الإمام أحمد من حديث الحسن العرني، عن ابن عباس، قال: أقبلت على حمار ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس، حتى إذا كنت قريبا منه نزلت عنه، وخليت عنه، ودخلت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته، فما أعاد صلاته، ولا نهاني عما صنعت.
والحسن العرني لم يسمع من ابن عباس -: قاله الإمام أحمد، فحديثه عنه منقطع.
والثاني: أن يحمل على أن الاستتار في الصلاة غير واجب، وإنما هو على الاختيار، وهذا حكاه البيهقي عن الشافعي.
ولكن يقال: فالمرور بين يدي المصلي إلى غير سترة، إما أنه حرام، أو مكروه، فكيف أقر عليه ولم ينكر؟
وقد يجاب: بأنه إذا كان مكروها، فإنكاره غير واجب.
ولأصحابنا وجه: أن من صلى إلى غير سترة لم يكن المرور بين يديه منهيا عنه إنما النهي يختص بمن صلى إلى سترة، فينهى عن المرور بينه وبين السترة، وهو قول ابن المنذر.
وقال أصحاب الشافعي: لا يحرم المرور بين يدي المصلي إلى غير

(4/19)


سترة، بل يكره.
وهل للمصلي إلى غير سترة أن يدفع المار بين يديه؟ على وجهين لهم، أصحهما: ليس له الدفع.
والثالث: أن يكون مرور ابن عباس بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى كما في رواية مالك وغيره من أصحاب الزهري، وحكم الحرم أنه يجوز المرور فيه بين يدي المصلي دون سائر البلدان -: قاله طائفة من أصحابنا، وستأتي هذه المسألة فيما بعد حيث بوب البخاري عليها.
وقد روي ما يخالف هذا، وأن المار يرد بالأبطح، فروى ابن لهيعة: حدثني حبان بن واسع، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد وأبي بشير الأنصاري، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم ذات يوم وامرأة بالبطحاء، فأشار إليها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تأخري، فرجعت حتى صلى ثم مرت.
خرجه الإمام أحمد.
وابن لهيعة، حاله مشهور.
الحديث الثاني:
قال:

(4/20)


494 - ثنا إسحاق: ثنا عبد الله بن نمير: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس من ورائه، وكان يفعل ذلك في السفر، فمن ثم اتخذها الأمراء.

(4/20)


في هذا الحديث: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا صلى في فضاء من الأرض صلى إلى الحربة، فيركزها بين يديه، ثم يصلي إليها، فكان يفعل ذلك في العيدين؛ لأنه كان يصليهما بالمصلى، ولم يكن فيه بناء ولا سترة، وكان يفعل ذلك في أسفاره – أيضا -؛ لأن المسافر لا يجد غالبا جدارا يستتر به، وأكثر ما يصلي في فضاء من الأرض.
وخرج ابن ماجه من طريق الأوزاعي: أخبرني نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغدو إلى المصلى في يوم عيد، والعنزة تحمل بين يديه، فإذا بلغ المصلى نصبت بين يديه، فيصلي إليها، وذلك أن المصلى كان فضاء ليس شيء يستتر به.
وخرج البخاري أوله دون آخره.
وقال أبو نعيم: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن مكحول، قال: كانت تحمل الحربة مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان يصلي إليها.
وما ذكر في حديث ابن عمر من اتخاذ الأمراء لها، فالأمراء الذين عناهم في زمنه إنما اتخذوها تعاظما وكبرا، لم يتخذوها لأجل الصلاة كما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتخذها للصلاة.
وفي الحديث: دليل على استحباب السترة للمصلي وإن كان في فضاء، وهو قول الأكثرين.
ورخص طائفة من العلماء لمن في فضاء أن يصلي إلى غير سترة، منهم: الحسن وعروة.
وكان القاسم وسالم يصليان في السفر إلى غير سترة. وروي عن الإمام أحمد نحوه -: نقله

(4/21)


عنه الأثرم وغيره. وهو - أيضا - مذهب مالك.
قال صاحب ((تهذيب المدونة)) : ولا يصلي في الحضر إلا إلى سترة، ويصلي في السفر أو بموضع يأمن فيه مرور شيء بين يديه إلى غير سترة.
ويستدل لذلك بصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى إلى غير جدار، كما تقدم في رواية مالك لحديث ابن عباس، وان الشافعي وغيره فسروه بصلاته إلى غير سترة بالكلية.
وقد قيل: إن فائدة السترة منع المرور بين يدي المصلي.
وقيل: كف النظر عما وراء السترة.
والأول أظهر وأشبه بظواهر النصوص، والعنزة ونحوها لا تكف النظر.
وحيث تستحب الصلاة إلى السترة، فليس ذلك على الوجوب عند الأكثرين، وهو المشهور عند أصحاب الإمام أحمد.
ومنهم من قال: هي واجبة، لكن لا تبطل الصلاة بتركها حتى يوجد المرور المبطل للصلاة الذي لأجله شرعت السترة.
وقال الأثرم: حديث ابن عباس في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى غير سترة إن كان محفوظا فإنما وجهه إذا لم يجد سترة أجزأه.
فحمله على حالة تعذر وجود السترة، وفيه نظر؛ فان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يتعذر عليه تحصيل ما يستتر به، وهو بمنى أو بعرفة، ومعه الخلق العظيم من

(4/22)


المسلمين.
ورخصت طائفة في الصلاة إلى غير سترة مطلقا؛ روى جابر، عن الشعبي، قال: لا بأس أن يصلي إلى غير سترة.
وقال ابن سيرين قلت لعبيدة: ما يستر المصلي، وما يقطع الصلاة؟ قال: يسترها التقوى ويقطعها الفجور. قال: فذكرته لشريح، فقال: أطيب لنفسك أن تجعل بين يديك شيئا.
خرجهما وكيع.
وروى بإسناده، عن ابن مسعود، قال: من الجفاء أن يصلي الرجل إلى غير سترة.
الحديث الثاني:

(4/23)


495 - ثنا أبو الوليد: ثنا شعبة، عن عون بن أبي جحيفة، قال: سمعت أبي يحدث، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم بالبطحاء - وبين يديه عنزة - الظهر ركعتين والعصر ركعتين، يمر بين يديه المرأة والحمار.
هذا - أيضا - يدل - كما دل عليه حديث ابن عمر - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في أسفاره إلى عنزة تستره ممن يمر بين يديه،

(4/23)


وهذا مما يضعف حمل الأثرم لصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى أو عرفة إلى غير سترة على أنه تعذر عليه السترة؛ فان حديث أبي جحيفة يدل على أن العنزة كانت معه في حجة الوداع، وانه صلى إليها بمكة.
وقوله: ((يمر بين يديه المرأة والحمار)) مما يسدل به على أن مرورها بين يدي المصلي إلى غير سترة يقطع عليه صلاته، ولولا ذلك لم يكن لتخصيص المرأة والحمار بمرورهما بين يديه من وراء السترة - معنى.
وقوله: ((يمر بين يديه المرأة والحمار)) - يعني: من وراء العنزة، كما في الرواية الأخرى: يمرون من ورائها، وستأتي قريبا - إن شاء الله تعالى.

(4/24)


91 - باب
قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة؟

(4/25)


496 - حدثنا عمرو بن زرارة: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل، قال: كان بين مصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين الجدار ممر مشاة.

(4/25)


497 - حدثنا المكي بن إبراهيم: ثنا يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة، قال: كان جدار المسجد عند المنبر، ما كادت الشاة تجوزها.
هذا الحديث الثاني أحد ثلاثيات البخاري، وهي الأحاديث التي بينه وبين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها ثلاثة رجال.
وحديث سهل يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي قريبا من الجدار بحيث لا يكون بين موقفه وبين الجدار غير قدر ما تمر فيه الشاة.
وأما حديث سلمة بن الأكوع، فتخريج البخاري له في هذا الباب يدل على أنه فهم منه أن المنبر كان بإزاء موقف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته أو متقدما عليه، متنحيا عن جدار قبلة المسجد، وبينهما خلل لا تجوز منه الشاة.
وقد قيل: أنه يحتمل أن المراد به: أنه كان بين المنبر وبين جدار المسجد الغربي خلل يسير، لا تكاد الشاة تجوز منه، وانه

(4/25)


ليس المراد به جدار القبلة.
لكن قد خرج البخاري هذا الحديث في كتاب ((الاعتصام)) بلفظ صريح في المعنى الذي فهمه منه هاهنا، عن ابن أبي مريم، عن أبي غسان، عن أبي حازم، عن سهل، أنه كان بين جدار المسجد مما يلي القبلة وبين المنبر ممر الشاة.
وخرج الإمام أحمد، عن حماد بن مسعدة، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة، قال: كان بين المنبر والقبلة قدر ممر شاة.
وفي القرب من السترة أحاديث أخر:
فمنها: ما خرجه البخاري في باب مفرد بعد هذا من حديث موسى بن عقبة، عن نافع، أن عبد الله كان إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حين يدخل، وجعل الباب قبل ظهره يمشي حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع صلى به، يتوخى المكان الذي أخبره به بلال أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فيه.
ومنها: ما ورد في الأمر بالدنو من السترة من غير تقدير بشيء:
فروى نافع بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة، يبلغ به النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في

(4/26)


((صحيحه)) .
وذكر أبو داود في إسناده اختلافا، وكذلك ذكره البخاري في ((تاريخه)) .
وقد روى - أيضا - عن نافع بن جبير - مرسلا، وفيه: ((فإن الشيطان يمر بينه وبينها)) .
وقال العقيلي: حديث سهل هذا ثابت.
وقال الميموني: قلت لأبي عبد الله - يعني: أحمد -: كيف إسناد حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا صلى أحدكم فليدن من سترته)) ؟ قال: صالح، ليس بإسناده بأس.
وروى ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه.
وروي هذا المتن من وجوه أخر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروى إسحاق بن سويد، عن عمر، أنه رأى، رجلا يصلي متباعدا عن
القبلة، فقال: تقدم، لا يفسد الشيطان عليك صلاتك،

(4/27)


أما إني لم أقل إلا ما سمعت من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الإسماعيلي وغيره.
وهو منقطع؛ فإن إسحاق لم يسمع من عمر.
وقد روي عنه مرسلا.
وروي عنه، عمن حدثه، عن عمر.
وروى مصعب بن ثابت، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أرهقوا القبلة)) .
خرجه البزار والأثرم.
وقال الدارقطني - فيما نقله عنه البرقاني -: لم يروه إلا مصعب بن ثابت، وليس بالقوي.
ومعنى إرهاق القبلة مضايقتها ومزاحمتها والدنو منها -: فسره ابن قتيبة وغيره، وتوقف أحمد في تفسيره.
وخرجه الجوزجاني، ولفظه: ((إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليقرب منها)) .
وفي الباب أحاديث أخر مسندة ومرسلة:
وروى وكيع بإسناده عن ابن مسعود، قال: يصلي وبينه وبين القبلة مقدار ممر رجل.
وعنه: قال: لا يصلين أحدكم وبينه وبين القبلة فجوة.
وسئل الحسن: هل كانوا يرقبون في البعد شيئا؟ قال: لا أعلمه.
وقال ابن المنذر: كان عبد الله بن معقل يجعل بينه وبين سترته ستة

(4/28)


أذرع.
وقال عطاء: أقل ما يكفيك ثلاثة أذرع، وبه قال الشافعي.
وقال مهنأ: سألت أحمد عن الرجل يصلي، كم يكون بينه وبين القبلة؟ قال: يدنو من القبلة ما استطاع، ثم قال: إن ابن عمر قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكعبة، فكان بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع.
وقال الأثرم: سئل أبو عبد الله عن مقدار ما بين المصلي وبين السارية؟ فذكر حديث ابن عمر هذا. قيل له: يكون بينه وبين الجدار إذا سجد شبر؟ قال: لا أدري ما شبر.
قال الأثرم: ورأيته يتطوع وبينه وبين القبلة كثير، أذرع ثلاثة أو أكثر.
قال ابن عبد البر: ولم يحد مالك في ذلك حدا.
ثم أشار ابن عبد البر إلى أن الآخذين بحديث سهل بن سعد الذي خرجه البخاري في قدر ممر الشاة أولى.
وقال في موضع آخر: حديث ابن عمر أصح إسنادا من حديث سهل، وكلاهما حسن.
قلت: ولو جمع بين حديث سهل وابن عمر فأخذ بحديث ابن عمر في النافلة وحديث سهل في الفريضة لكان له وجه؛ فإن صلاة النبي في الكعبة كانت تطوعا، وسهل إنما أخبر عن مقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجده الذي كان يصلي فيه بالناس الفرائض.

(4/29)


وقال القرطبي: قدره بعض الناس بقدر شبر.
قلت: هذا فيما يفصل عن محل سجوده، لا عن محل قيامه، كما سئل عنه الإمام أحمد فيما سبق.
قال: ولم أحد في ذلك حدا، إلا أن ذلك بقدر ما يركع فيه ويسجد، ويتمكن من دفع من يمر بين يديه.
قال: وقد حمل بعض شيوخنا حديث ممر الشاة على ما إذا كان قائما، وحديث ثلاثة أذرع على ما إذا ركع أو سجد.
كذا وجدته، وينبغي أن يكون بالعكس؛ فإن الراكع والساجد يدنوان من السترة أكثر من القائم كما لا يخفى.
وذكر صاحب ((المهذب)) من الشافعية: أن ممر العنز قدر ثلاثة أذرع، فعلى قوله يتحد معنى حديث سهل وحديث ابن عمر، وهو بعيد جدا.
ومتى صلى إلى سترة وتباعد عنها، فقال أصحاب الشافعي: هو كما لو صلى إلى غير سترة، في المرور بين يديه ودفعه للمار، على ما سبق حكاية مذهبهم.

(4/30)


92 - باب
الصلاة إلى الحربة

(4/31)


498 - حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن عبد الله بن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت تركز له الحربة، فيصلي إليها.
قد تقدم هذا الحديث بأبسط من هذا السياق.

(4/31)


93 - باب
الصلاة إلى العنزة

(4/32)


499 - حدثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا عون بن أبي جحيفة، قال: سمعت أبي، قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمهاجرة، فأتي بوضوء فتوضأ، فصلى بنا الظهر والعصر، وبين يديه عنزة، والمرأة والحمار يمرون من ورائها.

(4/32)


500 - حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع، ثنا شاذان، عن شعبة، عن عطاء بن أبي ميمونة، قال: سمعت انس بن مالك يقول: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام، ومعنا عكازة أو عصى أو عنزة، ومعنا إداوة، فإذا فرغ من حاجته ناولناه الإداوة.
((شاذان)) ، هو: أسود بن عامر، وشاذان لقب له.
وحديث انس قد خرجه في ((كتاب الوضوء)) ، في ((أبواب الاستنجاء)) ، وذكرنا هناك فائدة حمل العنزة.
وظاهر تبويب البخاري يدل على التفريق بين العنزة والحربة، وأكثر العلماء فسروا العنزة بالحربة.
وقال أبو عبيد: العنزة عصا قدر نصف الرمح أو أكثر، لها سنان.

(4/32)


وقد خرج مسلم حديث ابن عمر الذي خرجه البخاري في الباب الماضي من حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان تركز له العنزة ويصلي إليها.
قال عبيد الله: وهي الحربة.
وقد فرق قوم بين العنزة والحربة، فعن الأصمعي قال: العنزة: ما دور نصله، والحربة: العريضة النصل.
وأشار بعضهم إلى عكس ذلك.
وصلاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى العنزة والحربة يستفاد منه: أن السترة يستحب أن يكون عرضها كعرض الرمح ونحوه، وطولها ذراع فما فوقه.
قال ابن المنذر: جاء الحديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبالي من مر وراء ذلك)) .
وقال أنس وأبو هريرة بذلك في الطول.
وقال الأوزاعي: يجزئ السهم والسوط والسيف.
وقال عطاء: قدر مؤخرة الرحل يكون حالقها على وجه الأرض ذراعا.
وبه قال الثوري وأصحاب الرأي.
وقال مالك والشافعي: قدر عظم الذراع فصاعدا.
وقال قتادة: ذراعا وشبرا.
وقال الأوزاعي: يستر المصلي مثل مؤخرة الرحل، وبه قال الثوري. انتهى.

(4/33)


وسئل أبو العالية عن السترة؟ فقال: طول الرحل، والعرض ما عرض أحب إلي.
وقال ابن عبد البر: قال مالك: أقل ما يجزئ المصلي في السترة غلظ الرمح، وكذلك السوط أن كان قائما، وارتفاعها: قدر عظم الذراع، هذا أقل ما يجزئ عنده، ولا تفسد عنده صلاة من صلى إلى غير سترة، وإن كان ذلك مكروها له.
وقول الشافعي في ذلك كقول مالك.
وقال الثوري وأبو حنيفة: أقل السترة: قدر مؤخرة الرحل، ويكون ارتفاعها على ظهر الأرض ذراعا، وهو قول عطاء.
وقال قتادة: ذراع وشبر.
وقال الأوزاعي: قدر مؤخرة الرحل، ولم يحد ذراعا، ولا عظم ذراع، ولا غير ذلك، وقال: يجزئ السهم والسوط والسيف - يعني في الغلظ. انتهى.
وفي ((تهذيب المدونة)) للبرادعي المالكي: ويستره قدر مؤخرة الرحل، وهو نحو من عظم الذراع. قال مالك: وإني لأحب أن يكون في جلة الرمح أو الحربة، وليس السوط بسترة. انتهى.
وأما مذهب الشافعي وأصحابه، فيستحب عندهم أن يكون ارتفاع السترة قدر مؤخرة الرحل، واختلفوا في تقديرها، فالمشهور عندهم: إنها نحو ثلثي ذراع فصاعدا. وقيل: ذراع، وأما عرضها فلا حد له عندهم،

(4/34)


بل يكفي الغليظ والدقيق.
وأما مذهب أحمد وأصحابه، فنص أحمد على أن السترة قدر مؤخرة الرحل، وأن مؤخرة الرحل ذراع -: نقله عنه أكثر أصحابه.
ونقل ابن قاسم، عنه في قدر ما يستر المصلي، قال: قدر عظم الذراع من الأشياء، وهو كمؤخرة الرحل.
وهذا مثل قول من قدره بنحو ثلثي ذراع؛ لأن ذَلِكَ هُوَ طول عظم ذراع الإنسان.
وأما عرضها فلا حد له عند أصحابنا، إلا أنه كلما غلظ كان أولى.
وقال إسحاق: قدر مؤخرة الرحل ذراع.
وقد خرج البخاري حديث الصلاة إلى مؤخرة الرحل من حديث ابن عمر، وسيأتي قريبا - أن شاء الله.
وخرج مسلم من حديث سماك، عن موسى ابن طلحة، عن أبيه طلحة بن عبيد الله، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبالي بمن مر وراء ذلك)) .
قال علي بن المديني: إسناده حسن.
وخرج مسلم - أيضا - من حديث أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل في غزوة تبوك عن سترة المصلى؟ فقال: ((كمؤخرة الرحل)) .

(4/35)


ومن حديث عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل)) .
وخرج الإمام أحمد من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة، عن أبيه، عن
جده، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يستر الرجل في صلاته السهم، وإذا صلى أحدكم فليستتر بسهم)) .
وفي رواية له ـ أيضا ـ بهذا الإسناد: ((ليستتر أحدكم في صلاته، ولو بسهم)) .
وخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.
وخرج الحاكم ـ أيضا ـ من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال:
((يجزئ من السترة مؤخرة الرحل، ولو بدقة شعرة)) .
وزعم أنه صحيح على شرطهما، وليس كذلك؛ فإن هذا تفرد برفعة محمد بن القاسم الأسدي، عن ثور بن يزيد، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن مكحول، عن يزيد بن جابر، عن أبي هريرة.

(4/36)


والأسدي، ضعيف جدا.
قال الدارقطني: غيره لا يرفعه ـ يعني: أنه يقفه على أبي هريرة.
وسئل ابن معين عن حديث أبي هريرة الموقوف. فقال: هو مستقيم الإسناد.
وروى مسعر، عن الوليد بن أبي مالك، عن أبي عبيد الله، عن أبي هريرة: يجزئ المصلي مثل مؤخرة الرحل في مثل جلة السوط.
كذا رواه الحفاظ عن مسعر، وهو المحفوظ ـ: قَالَ الدارقطني وغيره.
وأبو عُبَيْدِ الله، هُوَ: مُسْلِم بْن مشكم صاحب معاذ -: قاله يعقوب بن سفيان [وابن ناجية] .
والوليد ومسلم شاميان ثقتان.
ورواه أبو هشام الرفاعي، عن حفص بن غياث، عن مسعر ـ فرفعه.
خرجه الإسماعيلي.
وأبو هشام ليس بالقوي.
وسنذكر ـ أن شاء الله ـ حديث الصلاة إلى العصا.
وهذا كله مما استدل به على مالك في قوله: إن ما كان دون عرض الرمح لا تحصل به سنة الاستتار.

(4/37)


وعن أبي العالية، قال: يستر المصلي كحرف القلم.
خرجه وكيع.
وأما إذا لم يجد ما يصلي إليه، إلا ما كان دون مؤخرة الرحل في الانتصاب، مثل حجر أو عصا لا يستطيع نصبها، فهل يضعها بين يديه ويصلي إليها، أم لا؟ فِيهِ قولان:
أحدهما: أنه يصلي إلى ذَلِكَ إذا لَمْ يجد غيره، وحكاه ابن المنذر عَن سَعِيد بن جبير والأوزاعي وأحمد، وَهُوَ قَوْلِ إسحاق –أيضا -.
وروى ابن أبي شيبة في ((كتابه)) عن الشعبي ونافع بن جبير نحوه.
وقال طائفة من الشافعية: إذا لم يجد شيئا شاخصا بسط مصلى.
وروي عن أبي سعيد: كنا نستتر بالسهم والحجر في الصلاة.
ذكره ابن المنذر.
والثاني: تكره الصلاة إلى ذلك.
قال ابن المنذر: كره النخعي الصلاة إلى عصا يعرضها.
وقال الثوري: الخط أحب إلي من هذه الحجارة التي في الطريق إذا لم يكن ذراعا.
وحكى بعض من صنف في مذهب سفيان: أن سفيان سئل: هل يجزئ الحبل الممدود المعترض؟ قال: لا يغني من السترة.
وروى حرب بإسناده، عن النخعي، أنه سئل عن الرجل يصلي يستتر بحبل معترضا؟ قال: لو كان الحبل بالطول كان أحب إلي.
وهذا يدل على أن الصلاة إلى المستطيل أولى من الصلاة إلى المعترض عنده؛ لأن المستطيل أشبه بالسترة القائمة.
والأكثرون،

(4/38)


كالأوزاعي والثوري وأحمد يرون أن المعترض أولى؛ ولهذا رجحوا في الخط أن يكون معترضا.
ولو صلى وبين يديه ما يمنع الاستطراق من نهر أو نحوه، فهل هو سترة؟
قالت طائفة: هو سترة، منهم الحسن والأوزاعي.
وروي ذلك عن ابن عمر بإسناد ضعيف.
خرجه كله حرب الكرماني.
وقال: سألت إسحاق عن ذلك، فقال: إذا كان نهرا تجري فيه السفن فلا يصلي، وإن لم يكن تجري فيه فهو أسهل.
يشير إسحاق إلى أنه إذا كان تجري فيه السفن فهو طويق مسلوك، فلا يصلي إليه بدون سترة تحول بينه وبينه.
وأيضا؛ فالصلاة إلى النهر الجاري مما يلهي المصلي؛ فإنه مما يستحسن النظر إليه، وقد سبق كراهة الصلاة إلى ما يلهي.
وقال سفيان: إذا صلى على حائط قدر ثلاثة أذرع أو نحو ذلك فأرجو أن يكون سترة ما لم يكن طريقا.
وسئل النخعي عن الصلاة على السطح، والناس يمرون بين يديه؟ قال: يتأخر حتى لا يراهم.
ونقل الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز مثل قول النخعي.
قال الوليد: وقال مالك: إن كان ارتفاع السطح مثل مؤخرة الرحل فأكثر من ذلك فصل.
وأما الخط في الأرض إذا لم يجد ما يستتر به ففيه قولان:
أحدهما: أنه يحصل به الاستتار - أيضا -، وهو قول أبي هريرة،

(4/39)


وعطاء، وسعيد بن جبير، والأوزاعي، والثوري، والشافعي في أحد قوليه - ورجحه كثير من أصحابه أو أكثرهم - وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور.
والثاني: أنه ليس بسترة، وهو قول مالك، والنخعي، والليث، وأبي حنيفة، والشافعي في الجديد.
وقال مالك: الخط باطل.
واستدل من قال بالخط بما روى إسماعيل بن أمية، عن أبي محمد عمرو بن حريث العذري، عن جده، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يجد عصا فليخط خطا، ثم لا يضره ما مر بين يديه)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في ((صحيحه)) .
وحكي عن ابن المديني أنه صححه.
وحكى ابن عبد البر عن أحمد وعلي بن المديني أنهما صححاه.
وأحمد لم يعرف عنه التصريح بصحته، إنما مذهبه العمل بالخط، وقد يكون اعتمد على الآثار الموقوفة لا على الحديث المرفوع.
فإنه قال

(4/40)


في رواية ابن القاسم: الحديث في الخط ضعيف.
وكان الشافعي يقول بالخط، ثم توقف فيه، وقال: إلا أن يكون فيه حديث يثبت.
وهذا يدل على أنه توقف في ثبوته.
وقال ابن عيينة لم نجد شيئا نشد به هذا الحديث، ولم يجئ إلا من هذا الوجه.
وذكر أن هذا الشيخ الذي روى عنه إسماعيل بن أمية سئل عنه فخلط فيه.
ذكر ذلك أبو داود في ((سننه)) بإسناده عن ابن عيينة.
وقد اختلف على إسماعيل في تسمية شيخه، وفيمن رواه عنه شيخه:
فقيل: عنه كما ذكرنا.
وقيل: عنه، عن أبي عمرو بن محمد بن حريث.
وقيل: عنه، عن أبي عمرو بن حريث.
وأما الاختلاف فيمن رواه عنه شيخه.
فقيل: عن إسماعيل، عن شيخه هذا - على اختلاف في تسميته كما تقدم -، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وقيل: عنه، عن شيخه هذا، عن جده، عن أبي هريرة.
وقيل: عنه، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وقيل: عنه، عن شيخه هذا، عن أبي هريرة - بغير واسطة بينهما.
وقال أبو زرعة: الصحيح: عن إسماعيل، عن أبي عمرو بن حريث، عن أبيه، عن أبي هريرة.
ونقل الغلابي في ((تاريخه)) عن يحيى بن معين، أنه قال: الصحيح: إسماعيل بن أمية، عن جده حريث - وهو: أبو أمية، وهو من عذرة.

(4/41)


قال: ومن قال فيه: عمرو بن حريث فقد أخطأ.
وهذا الكلام يفيد شيئين:
أحدهما: أن إسماعيل بن أمية هذا هو ابن حريث، وهو يروي هذا الحديث عن جده حريث العذري، عن أبي هريرة.
وكذا رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن إسماعيل، عن حريث بن عمار عن أبي هريرة.
والثاني: أن إسماعيل هذا ليس هو ابن أمية القرشي المشهور، بل هو: ابن أمية بن حريث العذري.
وهذا غريب جدا، ولا أعلم أحدا ذكر إسماعيل هذا، وهذا الحديث قد رواه الأعيان عن إسماعيل، منهم: الثوري وابن جريج وابن عيينة، وإنما يروي هؤلاء عن إسماعيل بن أمية الأموي المكي الثقة المشهور، ويمتنع أن يوري هؤلاء كلهم عن رجل لا يعرف، ولا يذكر اسمه في تاريخ ولا غيره.
ولكن هذا الرجل الذي روى عنه إسماعيل وأبوه وجده قد قيل: إنهم مجهولون.
وقد اختلف - أيضا - في رفع هذا الحديث ووقفه على أبي هريرة، لكن الأكثرون رفعوه.
وقال الدارقطني: رفعه عن إسماعيل بن أمية صحيح.
وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر:
روى وكيع في ((كتابه)) ، عن أبي مالك، عن أيوب بن موسى، عن المقبري، عن أبي هريرة، قال: إذا صلى أحدكم فلم يجد ما يستره فليخط خطا.

(4/42)


وقد روي عن الأوزاعي، عن أيوب بن موسى، عن أبي سلمة - مرفوعا.
وقيل: عن الأوزاعي، عن رجل من أهل المدينة، عن أبي هريرة - موقوفا.
قال الدارقطني: والحديث لا يثبت.
قلت: وقد روي في الخط بين يدي المصلي حديث مرفوع من حديث انس.
خرجه حمزة السهمي في ((تاريخ إستراباذ)) .
وإسناده مجهول ساقط بمرة.
واختلف القائلون بالخط: هل يخط طولا، أو عرضا كالهلال؟ على قولين:
قال عطاء والثوري وأحمد وإسحاق: يكون عرضا.
وقال عمرو بن قيس وغيره: يكون طولا.
وأجازه أحمد على كل حال، ولكن المعترض عنده أولى،

(4/43)


94 - باب
السترة بمكة وغيرها

(4/44)


501 - حدثنا سليمان بن حرب: ثنا شعبة، عن الحكم، عن أبي جحيفة، قال: خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالهاجرة، فصلى بالبطحاء الظهر والعصر ركعتين، ونصب بين يديه عنزة، وتوضأ، فجعل الناس يتمسحون بوضوئه.
مراد البخاري: أن السترة تشرع بمكة وغيرها، واستدل بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالبطحاء - وهو أبطح مكة - في حجته إلى عنزة.
وقد اختلف العلماء في حكم مكة في السترة: هل حكمها كحكم سائر
البلدان، أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أن حكمها في سترة الصلاة حكم سائر البلدان، وهو اختيار البخاري وقول [........] والشافعي، وحكي رواية عن أحمد.
وروي نحوه عن ابن عمر:
قال أبو نعيم الفضل بن دكين في ((كتاب الصلاة)) : ثنا جعفر بن برقان، عن يزيد الفقير، قال: كنت أصلي إلى جنب ابن عمر بمكة، فلم أر رجلا اكره أن يمر بين يديه منه.
ثنا عبد العزيز الماجشون، عن صالح بن كيسان، قال: رأيت ابن عمر يصلي في الكعبة، فلا يدع أحدا يمر بين يديه، يبادره - قال: يرده.

(4/44)


وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن يحيى بن أبي كثير، قال: رأيت انس بن مالك في المسجد الحرام قد نصب عصا يصلي إليها.
القول الثاني: أن مكة تجوز الصلاة فيها إلى غير سترة، والمرور بين يدي المصلي من غير كراهة في ذلك، وهو قول طاوس وعطاء وأحمد، نص عليه في رواية ابن الحكم وغيره.
وكان محمد بن الحنفية يصلي بمسجد منى، والناس يمرون بين يديه، فجاء فتى من أهله، فجلس بين يديه.
وروى ابن جريج، عن ابن أبي عمار، قال: رأيت ابن الزبير طاف بالبيت، ثم جاء فصلى، والطواف بينه وبين القبلة.
قال: تمر بين يديه المرأة فينتظرها حتى تمر، ثم يضع جبهته في موضع قدميها.
واستدل الإمام أحمد بحديث المطلب بن أبي وداعة:
وقد خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من رواية ابن جريج، عن كثير بن كثير، عن أبيه، عن المطلب بن أبي وداعة، قال: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا فرغ من سبعه جاء حتى يحاذي بالركن، فيصلي ركعتين في حاشية المطاف، وليس بينه وبين الطواف أحد.
وخرجه الإمام أحمد - أيضا - عن ابن عيينة، قال: حدثني كثير بن

(4/45)


كثير ابن أبي وداعة، سمع بعض أهله يحدث، عن جده، أنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي مما يلي الباب بني سهم، والناس يمرون بين يديه، ليس بينهم سترة.
قال ابن عيينة: وكان ابن جريج أخبرنا عنه، فقال: ثنا كثير، عن أبيه، فسألته، فقال: ليس من أبي سمعته، ولكن من بعض أهلي، عن جدي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى مما يلي باب بني سهم، ليس بينه وبين الطواف سترة.
وخرجه أبو داود عن الإمام أحمد.
وقد تبين برواية ابن عيينة هذه أنها أصح من رواية ابن جريج، ولكن يصير في إسنادها من لا يعرف.
وقد رواه غير واحد عن كثير بن كثير كما رواه عنه ابن جريج.
وصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأبطح إلى العنزة لا يعارض حديث المطلب؛ لأن حديث المطلب دل على جواز الصلاة بمكة إلى غير سترة، وحديث أبي جحيفة دل على جواز الصلاة بمكة إلى سترة.
وقد نص أحمد على أن مكة مخصوصة من بين البلدان بذلك ومن أصحابنا من قال: إن حكم الحرم كله كذلك، ولو قيل: إن الصلاة إلى غير سترة مختص بالمسجد الحرام وحده دون بقاع مكة والحرم لكان جمعا بين الحديثين متوجها، وكلام القاضي

(4/46)


أبي يعلى في كتابه ((الجامع الكبير)) يدل عليه، وصرح به غيره من أصحابنا.
وحمل الشافعي حديث المطلب بن أبي وداعة على أن الأمر بالصلاة إلى السترة على الاستحباب دون الوجوب، كما حمل عليه حديث ابن عباس في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى إلى غير جدار.
وحديث أبي جحيفة قد يوهم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالهاجرة الظهر والعصر، فجمع بينهما في أول وقتهما وهو مقيم بمكة، ولم يستدل به أحد - فيما نعلم - على الجمع بين الصلاتين.
وقد جاء في رواية للإمام أحمد: ((فصلى الظهر أو العصر)) - بالشك.
ولكن رواية من قال: ((بالهاجرة)) يدل على أنه صلى الظهر بغير شك.
وقد خرجه مسلم، ولفظه: فتقدم، فصلى الظهر ركعتين، يمر بين يديه الحمار والكلب لا يمنع، ثم صلى العصر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة.
وهذا يدل على أنه إنما صلى العصر في وقتها.
وقد رواه حجاج بين أرطاة، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، وقال فيه - بعد ذكر صلاة الظهر - ثم حضرت العصر، فقام بلال فأذن، فصلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين.
خرجه من طريقه ابن سعد.

(4/47)


وهو صريح في أنه لم يجمع بين الصلاتين.
وحجاج بن أرطاة، وإن كان متكلما فيه، إلا أنه فقيه يفهم معنى الكلام، فيرجع إلى زيادته على من ليس له مثل فهمه في الفقه والمعاني.

(4/48)


95 - باب
الصلاة إلى الأسطوانة
وقال عمر: المصلون أحق بالسواري من المتحدثين إليها.
ورأى ابن عمر رجلا يصلي بين أسطوانتين، فأدناه إلى سارية، فقال: صل إليها.
خرج فيه حديثين:
الحديث الأول:

(4/49)


502 - ثنا المكي: ثنا يزيد بن أبي عبيد، قال: كنت آتي مع سلمة بن الأكوع، فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف، فقلت: يا أبا مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة؟ قال: فإني رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحرى الصلاة عندها.
هذا - أيضا - من ثلاثيات البخاري.
والأسطوانة: السارية.
وهذه الأسطوانة الظاهر أنها من أسطوان المسجد القديم الَّذِي يسمى الروضة، وفي الروضة أسطوانتان، كل منهما يقال: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إليها:
الأسطوانة المخلقة، وتعرف بأسطوانة المهاجرين؛ لأن أكابرهم كانوا

(4/49)


يجلسون إليها ويصلون عندها، وتسمى: أسطوان عائشة.
ويقال: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إليها المكتوبة بعد تحويل القبلة بضع عشرة يوما، ثم تقدم إلى مصلاه اليوم.
وهي الأسطوانة الثالثة من المنبر، والثالثة من القبلة، والثالثة من القبر الشريف، وهي متوسطة في الروضة.
وأسطوانة التوبة، وهي التي ربط فيها أبو لبابة نفسه حتى تاب الله عليه.
وقد قيل: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا اعتكف في رمضان طرح له فراشه، ووضع سريره وراءها.
وقد روي عن عمر مولى غفرة ومحمد بن كعب، أن أكثر نوافل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت عندها.
وهي الأسطوانة الثانية من القبر الشريف، والثالثة من القبلة، والرابعة من المنبر.
وفي الحديث: دليل على أنه لا بأس أن يلزم المصلي مكانا معينا من المسجد يصلي فيه تطوعا.
وقد ورد في رواية التصريح بأن هذه الصلاة كانت تطوعا.
خرجه ابن ماجه، ولفظ حديثه: أن سلمة كان يأتي إلى سبحة الضحى فيعمد إلى الأسطوانة دون المصحف، فيصلي قريبا منها،

(4/50)


فأقول له: ألا تصلي هاهنا، وأشير إلى بعض نواحي المسجد، فيقول: إني رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحرى هذا المقام.
وقوله: ((قريبا منها)) قد يحمل على أنه كان ينحرف عنها في صلاته، ولا يستقبلها استقبالا.
وخرج البزار، من رواية يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن عبد الرحمن ابن صفوان، قال: لما خرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من البيت سألت من كان معه: أين صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالوا: صلى ركعتين عند السارية الوسطى، عن يمينها.
ويزيد بن أبي زياد ليس بالحافظ.
وروى عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، سأل بلالا: أين صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني: في الكعبة –؟ قَالَ: فأشار لَهُ بلال إلى السارية الثانية عِنْدَ
الباب. قال: صلى عن يمينها، تقدم عنها شيئا.
وعبد العزيز - أيضا - ليس بالحافظ.
وقد صرح أصحابنا وأصحاب الشافعي وغيرهم بأنه يستحب لمن صلى إلى سترة منصوبة أن ينحرف عنها ولا يستقبلها.
وصرح بذلك من أصحابنا: أبو بكر عبد العزيز وابن بطة والقاضي أبو يعلى وأصحابه.
وأخذوه من نص الإمام أحمد على أن الإمام يقوم عن

(4/51)


يمين طاق المحراب.
وكذا قال النخعي.
واستدلوا بما روى علي بن عياش، عن الوليد بن كامل، عن المهلب بن حجر البهراني، عن ضباعة بنت المقداد بن الأسود، عن أبيها: ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى عود ولا إلى عمود ولا إلى شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمدا.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
وخرجه الإمام أحمد - أيضا من رواية بقية بن الوليد، عن الوليد بن كامل، عن حجر - أو ابن حجر - بن المهلب، عن ضبيعة بنت المقداد بن معد يكرب، عن أبيها، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا صلى إلى عمود أو خشبة أو شبه ذلك لا يجعله نصب عينيه ولكن يجعله على حاجبه الأيسر.
ولعل هذه الرواية أشبه: وكلام ابن معين وأبي حاتم الرازي يشهد له.
والشاميون كانوا يسمون المقدام بن معد يكرب: المقداد، ولا ينسبونه - أحيانا، فيظن من سمعه غير منسوب أنه ابن الأسود، وإنما هو ابن معد يكرب وقد وقع هذا الاختلاف لهم في غير حديث من رواياتهم.
والمهلب بن حجر شيخ ليس بالمشهور.
والوليد، قال أبو حاتم: وهو

(4/52)


شيخ. وقال البخاري: عنده عجائب.
قال القرطبي: لعل هذا كَانَ أول الإسلام؛ لقرب العهد بإلف عبادة الحجارة والأصنام، حتى تظهر المخالفة في استقبال السترة لما كانوا عليه من استقبالهم تلك المعبودات. انتهى.
وقد كره مالك أن يصلي إلى حجر في الطريق، فأما إلى حجارة كثيرة فجائز.
ذكره في ((تهذيب المدونة)) .
وقد ورد النهي عن أن يوطن الرجل له مكانا في المسجد يصلي فيه: من رواية تميم بن محمود، عن عبد الرحمن بن شبل، قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المكان الذي في المسجد كما يوطن البعير.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
وفي إسناده اختلاف كثير.
وتميم بن محمود، قال البخاري: في حديثه نظر.
وقد حمل أصحابنا حديث النهي على الصلاة المفروضة، وحديث الرخصة على الصلاة النافلة.
وكان للإمام أحمد مكان يقوم فيه في الصلاة المكتوبة خلف الإمام، فتأخر يوماً فنحاه الناس وتركوه، فجاء بعد ذلك فقام في طرف الصف ولم يقم فيه، وقال: قد جاء أنه يكره أن يوطن الرجل مكانه.

(4/53)


الحديث الثاني:

(4/54)


503 - حدثنا قبيصة: ثنا سفيان، عن عمرو بن عامر، عن أنس، قال: لقد أدركت كبار أصحاب محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبتدرون السواري عند المغرب.
وزاد شعبة، عن عمرو، عن أنس: حتى يخرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
رواية شعبة قد أسندها البخاري في ((كتاب الأذان)) .
وخرج مسلم من رواية عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري، فركعوا ركعتين، حتى أن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما.
فهذا الحديث: يدل على أن عادة أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زمنه كان التنفل إلى السواري قبل الصلاة المكتوبة وبعدها، وبخلاف الصلاة المكتوبة، فإنهم كانوا يصلونها صفوفاً صفوفاً، ولا يعتبرون لها سترةً، بل يكتفون بسترة إمامهم.
وروى وكيع، عن هشام بن الغاز، عن نافع، قال: كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلاً إلى سارية من سواري المسجد قال لي: اجلس وول ظهرك.

(4/54)


96 - باب
الصلاة بين السواري في غير جماعة

(4/55)


504 - حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: دخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البيت وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحه وبلال، فأطال ثم خرج، فكنت أول الناس دخل على أثره، فسألت بلالاً: أين أصلي؟ فَقَالَ: بَيْن العمودين المقدمين.

(4/55)


505 – حَدَّثَنَا عبد الله بْن يوسف: أبنا مَالِك بْن أنس، عَن نَافِع، عَن ابن
عمر، أن رسوا الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل الكعبة وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي، فأغلقها عليه، ومكث فيها، فسألت بلالاً حين خرج: ما صنع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: جعل عمودا عن يساره، وعموداً عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه - وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة -، ثم صلى.
وقال إسماعيل: حدثني مالك، فقال: عمودين عن

(4/55)


يمينه.
قد دل هذان الحديثان على أن البيت الحرام كان فيه ستة أعمدة حين دخله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكانت الأعمدة صفين، في كل صف ثلاثة أعمدة، فجعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأعمدة الثلاثة التي تلي باب البيت خلف ظهره، وتقدم إلى الأعمدة المتقدمة، فصلى بين عمودين منها.
وفي رواية مالك التي ذكرها البخاري - تعليقا -: أنه جعل عمودين عن يمينه، وعمودا عن يساره.
وقد خرجها مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك.
وهذا يدل على أنه كان إلى جهة الركن اليماني أقرب منه من جهة الحجر.
ويشهد لذلك - أيضا -: رواية سالم، عن أبيه، أنه سأل بلالا: هل صلى فيه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: نعم، بين العمودين اليمانيين.
وقد خرجها البخاري في ((الحج)) .
والمراد باليمانيين: ما يلي جهة الركن اليماني.
ويدل عليه - أيضا -: حديث مجاهد، عن ابن عمر، أنه سأل بلالا: أصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكعبة؟ قال: نعم، بين الساريتين اللتين على يساره إذا دخل.
وقد خرجه البخاري في ((أبواب استقبال القبلة)) ، وقد مضى.
وقد روى عبد العزيز بن أبي رواد، قال: حدثني نافع، أن ابن عمر

(4/56)


سأل بلالا: أين صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فأشار له بلال إلى السارية الثانية عند الباب، قال: صلى عن يمينها، تقدم عنها شيئا.
خرجه الأزرقي.
وقوله: ((السارية الثانية عند الباب)) ، كأنه يريد السارية الثانية مما يلي الباب؛ فإن الباب يليه سارية من الصف المؤخر، ثم يليها سارية ثانية من الصف المقدم، وهي السارية الوسطى من ذلك الصف.
وقوله: ((صلى عن يمينها)) يوهم أنه جعلها عن يساره حتى يكون مصليا عن يمينها، وعلى هذا التقدير، فيكون قد جعل عمودا عن يمينه وعمودين عن يساره.
وهذا يخالف رواية مالك المتقدمة، وتلك الرواية مع ما عضدها وشهد لها أصح من رواية ابن أبي رواد، ويزيد بن أبي زياد التي ذكرناها في الباب الماضي.
وقوله في رواية ابن أبي رواد: ((تقدم عنها شيئا)) يدل على أنه صلى متقدما عنها إلى مقدم البيت، وسيأتي في الباب الذي يلي هذا أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل بينه وبين الجدار نحو ثلاثة أذرع.
وقد روى الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي الشعثاء - وهو: سليم المحاربي -، قال: خرجت حاجا، فجئت حتى دخلت البيت، فلما كنت بين الساريتين مضيت حتى لزقت بالحائط، فجاء ابن عمر فصلى إلى جنبي، فلما صلى قلت له: أين صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(4/57)


من البيت؟ قال: أخبرني أسامة بن زيد، أنه صلى هاهنا.
خرجه الإمام أحمد وابن حبان في ((صحيحه)) .
وفيه: دليل على أنه صلى متقدما على الساريتين، وإن لم يكن جعلهما خلف ظهره، كما جعل الأعمدة الثلاثة المتأخرة التي تلي باب البيت، فإنه جعلها وراء ظهره في صلاته.
ومقصود البخاري بهذا الباب: أن من صلى بين ساريتين منفردا، كمن يصلي تطوعا؛ فإنه لا يكره له ذلك كما فعله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الكعبة، وكان ابن عمر يفعله.
وكذا لو صلى جماعة، وكان إمامهم، ووقف بين الساريتين وحده، وقد فعل ذلك سعيد بن جبير وسويد بن غفلة.
ورخص فيه سفيان للإمام وكرهه للمأمومين.
وإنما يكره ذلك؛ لصف تقطعه السواري، فلو صلى اثنان أو ثلاثة جماعة بين ساريتين لم يكره - أيضا -، هذا قول أصحابنا وأصحاب الشافعي وغيرهم من العلماء.
وعلى مثل ذلك حملوا ما ورد من النهي عنه - مرفوعا، وموقوفا.
فالمرفوع؛ روي من حديث سفيان، عن يحيى بن هانئ بن عروة المرادي، عن عبد الحميد بن محمود، قال: صلينا خلف أمير من الأمراء، فاضطرنا الناس فصلينا بين الساريتين، فلما صلينا قال انس بن مالك: كنا نتقي هذا على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن خزيمة وابن

(4/58)


حبان في ((صحيحيهما)) والحاكم، وقال: صحيح.
وقال الترمذي: حديث حسن.
وعبد الحميد هذا ابن محمود المعولي البصري، روى عنه جماعة، وقال أبو حاتم: هو شيخ.
ويحيى بن هانئ المرادي، كوفي ثقة مشهور.
وروى هارون بن مسلم أبو مسلم، عن قتادة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، قال: كنا ننهي أن نصف بين السواري على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونطرد عنها طردا.
خرجه ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) والحاكم وصححه.
وقال ابن المديني: إسناده ليس بالصافي. قال: وأبو مسلم هذا مجهول.
وكذا قال أبو حاتم: هو مجهول.
وليس هو بصاحب الحناء؛ فإن ذاك معروف، وقد فرق بينهما مسلم في كتاب ((الكنى)) وأبو حاتم الرازي.
وفيه: عن ابن عباس - مرفوعا -، ولا يثبت.

(4/59)


قال ابن المنذر: لا اعلم في هذا خبرا يثبت.
وقد روي النهي عنه، عن حذيفة وابن مسعود وابن عباس، وهو قول النخعي، وحكاه الترمذي عن أحمد وإسحاق.
وقد نص أحمد على كراهة الصلاة بين الأساطين مطلقا من غير تفصيل -: نقله عنه جماعة، منهم: أبو طالب وابن القاسم، وسوى في روايته بين الجمعة وغيرها.
ونقل عنه حرب: يكره ذلك، قلوا أو كثروا، وإن كانوا عشرة.
وصرح أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافي)) بكراهة قيام الإمام بين السواري.
وأما القاضي أبو يعلى وأصحابه، فقالوا: إنما يكره ذلك لصف تقطعه السواري، وحملوا كلام أحمد على ذلك.
ويشهد له: ما نقله ابن منصور، عن أحمد، وقد سأله: هل يقوم الإمام بين الساريتين، يؤم القوم؟ قال: إنما يكره للصف، إذا كان يستتر بشيء فلا بأس.
قال إسحاق بن راهويه كما قال.
وكذا نقل حرب، عن إسحاق، أنه يكره ذلك للصف، ولا يكره لمن صلى وحده.
ورخص فيه ابن سيرين وأبو حنيفة ومالك وابن المنذر.
وفي

(4/60)


((تهذيب المدونة)) للمالكية: لا بأس بالصلاة بين الأساطين لضيق المسجد.
وقد روي عن حذيفة، أنه كرهه لقطع الصفوف - أيضا.
قال أبو نعيم: ثنا زفر - وهو ابن عبد الله، عن حصين بن عبد الرحمن، عن هلال بن يساف، قال: كان حذيفة يكره أن نقوم بين الأسطوانتين لتقطع الصفوف.
ومن أهل الحديث من حمل الكراهة على من صلى وحده مع الجماعة بين السواري، لأنه يصير فذا، بخلاف من صلى مع غيره.
وهذا بعيد جدا، ولا فرق في هذا بين ما بين السواري وغيرها.

(4/61)


97 - باب

(4/62)


506 - حدثنا إبراهيم بن المنذر: ثنا أبو ضمرة: ثنا موسى بن عقبة، عن نافع، أن عبد الله كان إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حين يدخل، وجعل الباب قبل ظهره، فمشى حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبا من ثلاثة أذرع صلى، يتوخى المكان الذي أخبره به بلال أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فيه.
قال: وليس على أحدنا بأس أن يصلي في أي نواحي البيت شاء.
هذا الحديث: مما يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في الكعبة تلقاء وجهه لما دخل، وجعل الباب وراء ظهره.
وقد خرج مسلم من حديث أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أنه سأل بلالا: أين صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: بين العمودين، تلقاء وجهه.
وفي هذا الحديث: زيادة: أنه صلى إلى الجدار الذي تلقاء وجهه حتى كان بينه وبينه قريب من ثلاثة أذرع.
وقد روي في حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن بلال هذه الزيادة - أيضا -، وانه صلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع.
وقد خرجها أبو داود من رواية ابن مهدي، عن مالك.
وقال جماعة، عن مالك،

(4/62)


فيه: ((نحو من ثلاثة أذرع)) .
وقد خرجه النسائي كذلك من رواية ابن القاسم، عن مالك.
وقد روى حماد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، أن معاوية قدم مكة، فدخل الكعبة، فأرسل إلى ابن عمر: أين صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: صلى بين الساريتين بحيال الباب، فجاء ابن الزبير، فدخل، فقال لمعاوية: أما إنك قد علمت أني اعلم مثل الذي يعلم، ولكنك حسدتني.
خرجه الإمام أحمد.
وخرجه الأزرقي بسياق مطول، من حديث عبد الحميد بن جبير بن شيبة، عن أخيه شيبة بن جبير بن شيبة بن عثمان، قال: حج معاوية وهو خليفة - فذكر حديثا طويلا، وفيه: أنه فتح له باب الكعبة، فدخل وأرسل إلى ابن عمر، فجاءه، فقال له معاوية: يا أبا عبد الرحمن، أين صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام دخلها؟ فقال: بين العمودين المقدمين، واجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة - وذكر بقية الحديث في دخول ابن الزبير، وغير ذلك.
وقد ذكرنا هذا الحديث في ((باب الدنو من السترة)) .
وفي الحديث - أيضا - دليل على أن من دخل مسجدا وأراد أن يصلي فيه تطوعا، فالأولى له أن يصلي في صدر المسجد، لا

(4/63)


عند بابه.
وقد روي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ليلة اسري به إلى المسجد الأقصى في صدر المسجد - أيضا -: فخرج الإمام أحمد من رواية حماد بن سلمة: ثنا أبو سنان، عن عبيد بن
آدم، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لكعب: أين ترى أن اصلي - يعني: في بيت المقدس -؟ أن أخذت عني صليت خلف الصخرة، فكانت القدس كلها بين يديك. فقال عمر - رضي الله عنه -: ضاهيت اليهود، ولكن اصلي حيث صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتقدم إلى القبلة، فصلى، ثم جاء فبسط رداءه وكنس الكناسة في ردائه، وكنس الناس.
عبيد بن آدم، ذكره ابن حبان في ((ثقاته)) . وأبو سنان، هو: القسملي عيسى بن سنان، ضعفه الأكثرون، منهم: أحمد ويحيى. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال العجلي: لا باس به. وقال ابن خراش: صدوق.
وقد رواه أبو أسامة، عن أبي سنان عيسى بن سنان القسملي، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: صليت مع عمر في كنيسة مريم، في وادي جهنم، فلما انصرف قال: لقد كنت غنيا أن تصلي على باب من أبواب جهنم، ثم تنخع، فاخرج قميصه، فبزق فيه فقلنا: يا أمير المؤمنين، لو تفلت في الكنيسة، وهو مكان شرك؟ فَقَالَ: أنه وان كَانَ يشرك

(4/64)


فِيهِ فإنه يذكر فِيهِ اسم الله كثيرا. قَالَ ثُمَّ دخلنا المسجد، فَقَالَ عُمَر: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صليت ليله اسري بي فِي مقدم المسجد، ثُمَّ دخلت فِي الصخرة الَّتِيْ فِي بيت المقدس)) – وذكر بقية الحَدِيْث، وفي أخره: قَالَ: ((ثُمَّ انطلق بي إلى السماء، ففرضت عَلِيّ الصلاة، ثُمَّ رجعت إلى خديجة، وما تحولت عَن جانبها الآخر)) .
خرجه الإسماعيلي في ((مسند عمر)) في ترجمة: ((حديث: عبد الرحمن بن محمد والد المغيرة بن عبد الرحمن، عن عمر)) .
وقد كره بعض المتقدمين التطوع في مقدم المسجد من السحر:
فخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عامر الالهاني، قال: دخل المسجد حابس بن سعد الطائي من السحر - وقد أدرك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرأى الناس يصلون في مقدم المسجد، فقال: مراءون ورب الكعبة، أرعبوهم، فمن أرعبهم فقد أطاع الله ورسوله، فأتاهم الناس فأخرجوهم، فقال: أن الملائكة تصلي من السحر في مقدم المسجد.
وإنما خرجه في ((المسند)) لقول حابس: ((من أرعبهم فقد أطاع الله
ورسوله)) ، وهذا في حكم المرفوع.
وحابس بن سعد معدود من الصحابة.

(4/65)


وقد روي - أيضا - النهي عن ذلك عن عمر بن الخطاب، وأنه ضرب من رآه في مقدم المسجد يصلي، وقال: ألم أنهكم أن تقدموا في مقدم المسجد بالسحر؛ إن له عوامر.
خرجه جعفر الفرياني في ((كتاب الصلاة)) .
قال القاضي أبو يعلى من أصحابنا: هذا يدل على كراهة التقدم في الصف الأول في صدر المسجد قبل السحر.
ويكره - أيضا - استناد الظهر إلى القبلة بين أذان الفجر والإقامة.
وكرهه ابن مسعود، وقال: لا تحولوا بين الملائكة وبين صلاتهم.
وقال النخعي: كانوا يكرهونه.
وقال الإمام أحمد: هو مكروه، وأمر من فعله أن يحول وجهه إلى القبلة.
وروي عن عمر بن عبد العزيز، أنه نهى أن يستند إلى القبلة في مواقيت الصلاة.
وهذا يعم سائر الصلوات، ولعله كرهه؛ لأن الداخل إلى المسجد يصلي عند دخوله، فإذا كان بين يديه رجل مسند ظهره إلى القبلة صلى مستقبل وجهه، وذلك مكروه، كما تقدم.
وقد روي فيه حديث مرفوع، يدل على الرخصة فيه في غير صلاة الفجر، من رواية عيسى بن المسيب، عن الشعبي، عن كعب بن عجرة، قال: بينما أنا جالس في مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مسندي ظهورنا إلى قبلة مسجده سبعة رهط، إذ خرج إلينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الظهر حتى انتهى

(4/66)


إلينا، فقال: ((ما يجلسكم ها هنا؟)) فقلنا: يا رسول الله، ننتظر الصلاة. قال: فارم قليلا، ثم رفع رأسه، فقال: ((أتدرون ما يقول ربكم؟)) - ثم ذكر حديثا طويلا في فضل المحافظة على الصلوات.
خرجه الإمام أحمد.
وعيسى بن المسيب، تكلم فيه.
وذكر مالك عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع، قال: كنت اصلي وابن عمر مسند ظهره إلى جدار القبلة، فلما قضيت صلاتي انصرفت إليه.
قال ابن عبد البر: فيه الاستناد إلى حائط القبلة في المسجد، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يفعله من يستقبل الصلاة.
وقوله: ((وَقَالَ: ليس على احدنا باس أن يصلي في نواحي البيت شاء)) .
الظاهر أنه من قول نافع، وقد وافقه أكثر العلماء على ذلك، منهم: الثوري والشافعي.
وقد روي عن أحمد أنه لا يصلي في الكعبة إلا إلى الجهة التي صلى أليها النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وحمله أصحابنا على الاستحباب، وقد سبق ذلك.

(4/67)


98 - باب
الصلاة إلى الراحلة والبعير والشجر والرحل

(4/68)


507 - حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي البصري: ثنا معتمر بن سليمان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يعرض راحلته فيصلي إليها. فقلت: أفرأيت إذا هبت الركاب؟ قال: كان يأخذ الرحل فيعد له، فيصلي إلى آخرته - أو قال: مؤخرته -، وكان ابن عمر يفعله.
قد ذكرنا في ((باب: الصلاة في مواضع الإبل)) الاختلاف في رفع هذا الحديث ووقفه، وحكم الاستتار بالبعير في الصلاة.
وقوله: ((يعرض راحلته)) بكسر الراء - أي: ينيخها، معترضة بينه وبين جهة القبلة.
وفيه لغة أخرى: يعرض - بضم الراء -، ذكرها صاحب ((كشف المشكل)) .
وقوله ((هبت الركاب)) ، معناه: قامت الإبل للسير -: قاله الهروي وغيره.
ويقال للنائم إذا قام من نومه: هب من منامه.

(4/68)


والمراد إذا لم يكن عنده إبل باركة يستتر بها.
وقاله الخطابي: هبت أي هاجت، يقال: هب الفحل هبيبا إذا هاج. قال: يريد، أن الإبل إذا هاجت لم تهدا، ولم تقر، فتفسد على المصلي إليها صلاته.
وهذا الذي قاله في غاية البعد، وان كان محتملا في اللفظ، فليس هو المراد في الحديث.
وقوله: ((يأخذ الرحل)) : رحل البعير، هو: ما على ظهره مما يركب عليه، والراحلة: هي ما يرتحل الرجل - أي: يركبه في ارتحاله، بعيرا كان أو ناقة -: قاله الأزهري وغيره.
ومنه: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((الناس كإبل مائة، ليست فيها راحلة)) .
وقوله: ((فيعدله)) - بفتح الياء، وكسر الدال.
قال الخطابي: أي يقيمه تلقاء وجهه.
و ((آخرة الرحل)) - بكسر الخاء -: هي الخشبة التي يستند إليها الراكب على الرحل.
وقد سبق الخلاف في تقديرها: هل هو ذراع تام بالذراع الذي يذرع به، أو ذراع بعظم ذراع الإنسان،

(4/69)


وهو نحو ثلثي ذراع مما يذرع به؟
ويقال في آخرة الرحل: مؤخرة الرحل.
واختلفوا في ضبطها:
فمنهم من ضبطها بضم الميم وسكون الهمزة، وكسر الخاء المعجمة.
وقد حكاها أبو عبيد، وانكرها ابن السكيت وغيره.
وقال بعضهم: لا يقال: مؤخرة ومقدم - بكسر -، إلا في العين خاصة، وإنما يقال في غيرها بالفتح.
وضبطها بعضهم بسكون الهمزة، وفتح الخاء وتخفيفها.
ذكره ثابت في ((دلائله)) وأنكر ذلك ابن قتيبة وغيره.
وضبطها الأصيلي في نسخته بالبخاري - فيما حكى عنه - بفتح الميم وسكون الواو وكسر الخاء.
وضبطها بعضهم بضم الميم وفتح الهمزة والخاء وتشديدها.
ذكره صاحب ((المشارق)) ، وانكرها صاحب ((النهاية)) .
وقال بعضهم: المحدثون يروونه بتشديد الخاء، والصواب: آخرة.
وقد تبين بهذا الحديث الذي ذكره البخاري في ((صحيحه)) جواز الاستتار بالراحلة وبالبعير، سواء كان مرتحلا أو غير مرتحل، اللهم إلا أن يكون غير المرتحل
هائجا، فيخشى من هيجانه إفساد الصلاة على من يصلي إليه كما ذكره الخطابي.
وجواز الاستتار برحل الراحلة.
وأما الشجر، فذكره البخاري في تبويبه، ولم يذكر فيه شيئا، وهو مأخوذ من الاستتار بالرحل؛ فإن الرحل خشب، والخشب

(4/70)


مأخوذ من الشجر، فإذا ثبت جواز الاستتار في الصلاة بالخشب دل على جواز الاستتار بالشجر قبل قطعه.
وفيه حديث ليس على شرط البخاري، من رواية أبي إسحاق، عن حارثة ابن مضرب، عن علي، قال: لقد رايتنا ليلة بدر، وما فينا إنسان ألا نائم، إلا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه كان يصلي إلى شجرة، ويدعو حتى أصبح.
خرجه الإمام أحمد والنسائي.
وابن حبان في صحيحه، وعنده: ((تحت شجرة)) .
وقد رواه بعضهم، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي.
ورواه غيره، عن أبي إسحاق، عن البراء.
والصحيح: عن حارثة، عن علي -: قاله الدارقطني.
وخرج أبو داود بإسناد فيه نظر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل بتبوك إلى نخلة، فقال: ((هذه قبلتنا)) ، ثم صلى إليها.
وقد سبق حديث المقداد، أنه لم ير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر.

(4/71)


99 - باب
الصلاة إلى السرير

(4/72)


508 - حدثنا عثمان بن أبي شيبة: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: أعدلتمونا بالكلب والحمار؟! لقد رأيتني مضطجعة على السرير، فيجيء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيتوسط السرير فيصلي، فأكره أن أسنحه، فأنسل من قبل رجلي السرير حتى أنسل من لحافي.
زعم الإسماعيلي: أن هذا الحديث لا دلالة فيه على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إلى السرير، وإنما يدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي على السرير.
قال: ولكن صلاته إلى السرير موجود في حديث الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي والسرير بينه وبين القبلة.
وحديث الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة: خرجه البخاري فيما بعد، ولفظه: لقد رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وإني لبينه وبين القبلة، وأنا مضطجعة على السرير.
وخرجه - أيضا - من طريق الأعمش بهذا الإسناد، وبإسناد آخر، عن إبراهيم، عن الأسود، عن

(4/72)


عائشة، قالت: لقد رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وأنا على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة.
وكذا خرجه مسلم من حديث الأعمش بالإسنادين، ومن طريق جرير عن منصور، كما خرجه البخاري في هذا الباب.
وهذه الألفاظ كلها ليس فيها تصريح بأنه كان يصلي تحت السرير.
ولكن خرجه الإمام أحمد، عن ابن نمير، عن الأعمش، بالإسنادين معا. فذكر الحديث -، وفيه: لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي مقابل السرير، وأنا عليه بينه وبين القبلة.
وقول عائشة: ((فأكره أن أسنحه)) .
قال الخطابي: قولها: ((أسنحه)) من قولك: سنح لي الشيء، إذا عرض، تريد: أني أكره أن أستقبله ببدني في صلاته. ومن هذا سوانح الطير والظباء، وهي ما يعترض الركب والمسافرين، فتجيء عن مياسرهم وتجوز إلى ميامنهم.
في الحديث: دليل على جواز أن يصلي المصلي إلى سترة شاخصة من الأرض، وإن كان فوقها إنسان نائم.
ونظيره: الصلاة إلى سرير الطفل وهو فيه.

(4/73)


وروى الإمام أحمد: ثنا محمد بن بكر: أبنا ابن جريج: أخبرني عطاء، عن عروة أن عائشة أخبرته، قالت: لقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وإني لمعترضة على السرير بينه وبين القبلة. قلت: أبينهما جدر المسجد؟ قالت: لا، في البيت إلى جدره.
وهذا يدل على أن سترته كانت جدار البيت دون السرير، ولعل السرير لم يكن مرتفعا شاخصا عن الأرض كمؤخرة الرحل.
ويدل على هذا: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أحيانا إذا سجد يغمزها برجله، ولو كان السرير مرتفعا عن الأرض قدر ذراع أو قريب منه لم يتمكن من ذلك.

(4/74)


100 - باب
يرد المصلي من مر بين يديه
ورد ابن عمر في التشهد وفي الكعبة، وقال: أن أبى إلا أن يقاتله قاتله.
رد ابن عمر في الكعبة قد ذكرناه في ((باب: السترة بمكة وغيرها)) .
وأما رده في التشهد، فقال أبو نعيم: ثنا فطر بن خليفة، عن عمرو بن دينار، قال: مررت بابن عمر بعد ما جلس في آخر صلاته حتى أنظر ما يصنع، فارتفع من مكانه فدفع في صدري.
قال: وثنا جعفر بن برقان، عن عمرو بن دينار، قال: أردت أن أمر بين يدي ابن عمر وهو يصلي، فانتهرني بتسبيحه.
قال: وثنا بشير بن مهاجر، قال: رأيت أنس بن مالك وهو جالس في صلاته لم ينصرف، فجاء رجل يريد أن يمر بينه وبين السارية، فأماطه.

(4/75)


وروى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: انصرف الإمام من العصر، فقمت أبادر مجلس عبيد بن عمير، فمررت بين يدي ابن عمر وأنا لا أشعر، فقال: سبحان الله، سبحان الله - مرتين - وجثا على ركبتيه، ومد يديه حتى ردني.
وأما قول ابن عمر: ((أن أبى إلا أن تقاتله فقاتله)) . فقد خرجه عبد الرزاق في ((كتابه)) عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا تدع أحدا يمر بين يديك وأنت تصلي، فإن أبى إلا أن تقاتله فقاتله.
وقد روي عن ابن عمر مرفوعا من رواية الضحاك بن عثمان، عن صدقة بن يسار، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله؛ فإن معه القرين)) .
خرجه مسلم.
وفي رواية أخرى لابن ماجه: ((فإن معه العزى)) .
وروى النضر بن كثير أبو سهل السعدي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

(4/76)


قال: ((إذا كنت تصلي فمر بين يديك أحد، فرده، فإن أبى فرده، فإن أبى فقاتله؛ فإنه شيطان)) .
خرجه الدارقطني في ((المختلف والمؤتلف)) .
وقال في النضر هذا: فيه نظر.
وكذا قال أبو حاتم الرازي: شيخ فيه نظر. وكذا قال البخاري: فيه نظر. وقال في موضع آخر: عنده مناكير.
وخرجه الطبراني في ((الأوسط)) ، وقال: تفرد به النضر بن كثير.
ولفظه: ((فإن عاد الرابعة فقاتله)) .
وخرجه البزار، وقال: لا نعلم أسند قتادة عن نافع، عن ابن عمر إلا هذا، ولا رواه عن سعيد إلا النضر، وهو بصري مشهور لا بأس به.
وزعم ابن حبان: أنه يروي الموضوعات عن الثقات. فالله اعلم.
قال البخاري - رحمه الله -:

(4/77)


509 - حدثنا أبو معمر: ثنا عبد الوارث: ثنا يونس، عن حميد بن هلال، عن أبي صالح، أن أبا سعيد قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وحدثنا آدم: ثنا سليمان بن المغيرة: ثنا حميد بن هلال

(4/77)


العدوي: ثنا أبو صالح السمان، قال: رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه، فدفع أبو سعيد في صدره، فنظر الشاب فلم يجد مساغا إلا بين يديه، فعاد ليجتاز، فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى، فنال من أبي سعيد، ثم دخل على مروان، فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد، ودخل أبو سعيد خلفه على مروان، فقال: مالك ولابن أخيك يا أبا سعيد؟ قال: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان)) .
سليمان بن المغيرة، لم يخرج له البخاري إلا هذا الحديث متابعة لحديث يونس بن عبيد، وإنما خرجه بعد إسناد حديث يونس؛ لما فيه من الزيادة في إسناده ومتنه.
أما في إسناده، ففيه: التصريح بسماع حميد له من أبي صالح، وسماع أبي صالح له من أبي سعيد.
وأما في المتن، فإن فيه: ذكر الصلاة إلى السترة، وليس هو في حديث يونس.
وكذلك رواه سليم بن حيان، عن حميد، ولم يقل - أيضا - ((إذا

(4/78)


صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس)) .
وحينئذ؛ فلفظ الحديث الذي ساقه البخاري لسليمان بن المغيرة، وحمل حديث يونس عليه، ولم ينبه على ما في حديث سليمان من الزيادة.
وقد نبه على ذلك الإسماعيلي.
وكذلك روى مالك، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد
الخدري، عن أبيه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا كان أحدكم يصلى فلا يدع أحدا يمر بين يديه، وليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان)) .
خرجه مسلم.
وقد روي هذا الحديث عن أبي سعيد من رواية عطاء بن يسار وأبي الوداك.
وروي - أيضا - من رواية عطاء بن يسار، عنه.
وليس في حديث احد منهم ذكر الصلاة إلى السترة، وإنما تفرد بذكرها سليمان بن المغيرة في حديثه عن حميد بن هلال. والله اعلم.
وتابعه على ذكرها: ابن عجلان، عن زيد بن اسلم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه.
وقد خرج حديثه أبو داود وابن ماجه.
وليس ابن عجلان بذاك الحافظ.
وتابعه - أيضا -: داود بْن قيس، عَن زيد بْن أسلم.
خرج حديثه عبد الرزاق، عنه، بسياق مطول، وفيه: أن أبا سعيد دفع

(4/79)


الفتى حتى صرعه، وانه لما سأله مروان عن ذلك قال: ما فعلت، إنما دفعت شيطانا، ثم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((إذا أراد أن يمر بين يديك وبين سترتك احد فاردده، فإن أبى فاردده فإن أبى فقاتله؛ فإنما هو شيطان)) .
وخرج الإمام أحمد عن عبد الرزاق المرفوع منه خاصة.
وخرج من حديث زهير، عن زيد بن اسلم الحديث بنحو رواية مالك، من غير ذكر سترة.
وخرج مسلم حديث سليمان بن المغيرة: عن شيبان بن فروخ، عنه، وفي سياقه أشياء مخالفة لسياق البخاري.
منها: أن أبا سعيد دفع في نحر الشاب مرتين، وقال في الثانية: فمثل قائما، فنال من أبي سعيد، ثم زاحم الناس، فخرج فدخل على مروان. وفيه: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((فليدفع في نحره)) .
وفيما فعله أبو سعيد: دليل على دفع المار بين المصلي وبين سترته، وإن ازدحم الناس، ولم يجد المار سبيلا سوى ذلك.
ويدل عليه - أيضا -: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر)) .
فإنه يدل على أن وقوفه أربعين ينتظر مسلكا يباح له المرور فيه خير له من المرور بين يدي المصلي، وإن لم يجد طريقا غيره.

(4/80)


وقد قال بعض الشافعية والمالكية وبعض أصحابنا: لا يكره المرور حينئذ، ولا يمنع منه.
قال أصحابنا: لكن يضع المار شيئا يمر من ورائه، أو يخط خطا إذا لم يجد.
وكلام أحمد وأكثر أصحابنا ليس فيه شيء من هذا، وكذا كلام أكثر أصحاب الشافعي، والرجوع إلى ما فهمه الصحابي من الحديث الذي رواه وعمل به مستدلا به أولى.
وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع)) . أمر بدفع المار، ونهى عن تمكينه من المرور، وظاهره الوجوب.
وقد وقع في كلام ابن عبد البر ما يقتضيه، وانه لا يعلم فيه خلافا ووقع في كلامه - أيضا - ما يقتضي أنه على الندب دون الوجوب، وهو قول كثير من أصحابنا والشافعية وغيرهم.
وروي أبو نعيم: ثنا سفيان، عن داود، عن الشعبي، قال: إذا مر الرجل بين يديك وأنت تصلي فلا ترده.
ولعله أراد إذا مر وذهب من بين يديه إلى الناحية الأخرى، فإنه لا يرده من حيث جاء، فإنه يصير مرورا ثانيا.
وهذا قول الجمهور، وخالف فيه بعض السلف، منهم ابن مسعود وسالم.

(4/81)


وفي كلام بعض المالكية ما يقتضي وجوب الدفع، إذا كان للمار مندوحة عنه وكان المصلى قد تعرض لذلك في ابتداء صلاته.
وسيأتي مزيد بيان لذلك في الباب الأتي - إن شاء الله.
وفي رواية سليمان بن المغيرة المخرجة في ((الصحيحين)) : ((إذا كان أحدكم يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد احد أن يمر بين يديه، فليدفعه)) : دليل من قبل مفهوم الشرط على أن من صلى إلى غير سترة فلا يرد من مر بين يديه، وهو قول ابن المنذر وبعض أصحابنا.
وأما أكثر أصحابنا فعندهم: أن رد المصلي لا يختص بمن كان يصلي إلى سترة، بل يشترك فيه من صلى إلى سترة ومن صلى إلى غير سترة ومر بقربه مار.
واستدلوا بعموم الأحاديث التي لَمْ يذكر فيها هذا الشرط، وجعلوا هذه الرواية المذكور فيها الشرط من باب تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر، فلا يقتضي تخصيصه، إلا أن يكون له مفهوم، فيبنى على أنه: هل يخص العموم بالمفهوم، أم لا؟
وأما الشافعية، فقالوا يحرم المرور بين يدي المصلي إلى سترة وبين سترته، على الصحيح عندهم، ومن صلى إلى غير سترة كره المرور بين يديه، ولم يحرم.
وهل يدفعه المصلي؟ لهم فيه وجهان: أصحها

(4/82)


عندهم: لا يدفعه؛ لمفهوم قوله: ((إذا كان أحدكم يصلي إلى سترة)) .
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فليدفعه)) ، وفي رواية مسلم: ((فليدفع في نحره)) ، وفي روايته: أن أبا سعيد دفع في نحر المار بين يديه، وفي رواية البخاري: أنه دفع في صدره.
وقد كان ابن عمر وغيره من الصحابة يدفعون المار بين أيديهم.
ونقل أبو طالب، عن أحمد، وذكر حديث أبي سعيد هذا، فقال أحمد: يمنعه فإن أبى عليه فهو في صلاته يدرأ عن نفسه ما استطاع.
وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء: رأيت أبا عبد الله - يعني: أحمد - إذا صلى فمر بين يديه احد دفعه دفعا رفيقا، فإن أبى إلا أن يمر دفعه دفعا شديدا.
وقال أبو الحارث: أخبرني بعض أصحابنا، أنه رأى أحمد يوم الجمعة يصلي في مسجد الجامع، فمر بين يديه رجل فرده، فأبى أن يرجع، فدفعه حتى رمى به.
وقال في رواية حنبل: إذا أراد أن يمر بين يديك رجل فامنعه ما قدرت.
وقد دل فعل أبي سعيد على أن المار إذا أبى أن يرجع بالدفع الأول فإنه يدفع في المرة الثانية اشد من

(4/83)


الدفع الأول وكذلك فعله الإمام أحمد.
وأما قوله: ((فإن أبى فليقاتله)) ، إذن في قتاله في المرة الثانية.
وفي رواية ابن عمر: أن القتال في الرابعة، لكن في إسنادها ضعف كما سبق.
وقال أصحاب الشافعي: يدفعه دفع الصائل بالأسهل فالأسهل، ويزيد بحسب الحاجة، وإن أدى إلى قتله فمات منه فلا ضمان فيه كالصائل.
وحكى القاضي أبو يعلى ومن تابعه من أصحابنا عن أحمد في قتاله روايتين:
إحداهما: يقاتله، وذكروا نصوص أحمد السابقة.
والثانية: لا يفعل؛ فإنه قال في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي: يدرأ ما استطاع، وأكره القتال في الصلاة.
ذكره عنه الجوزجاني في ((كتابه المترجم)) ، وخالف في ذلك، وقال: بل يقاتله؛ فإنه شيطان لا حرمة له.
وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) في قوله: ((فليقاتله)) : المراد بالمقاتلة: المدافعة، وأظنه كلاما خرج على التغليظ، ولكل شيء حد. قال: وأجمعوا على أنه لا يقاتله بسيف ولا بخاطفة ولا يبلغ معه مبلغا تفسد به صلاته.
وحكى عن أشهب، أنه قال: يرده بإشارة، ولا يمشي إليه؛ لأن مشيه إليه أشد من مروره بين يديه، فإن فعل لم تبطل صلاته إذا لم

(4/84)


يكن عملا كثيرا.
قال ابن عبد البر: وقد بلغني أن عمر بن عبد العزيز - في أكبر ظني - ضمن رجلا دفع آخر مرّ بين يديه وهو يصلي، فكسر أنفه دية ما جنى على أنفه، فدل على أنه لم يكن له أن يبلغ به ذلك.
وقد كان الثوري يدفع المار بين يديه دفعا عنيفا.
وذكر القاضي أبو يعلى من أصحابنا: أن أبا بكر أحمد بن سلمان النجاد روى بإسناده عن مالك، أنه بلغه أن رجلا في زمان عثمان مر بين يدي رجل وهو يصلي، فرماه فشجه، فأتوا عثمان، فقال: أيمر بين يدي وأنا أصلي؟ فقال عثمان: الذي صنعت أعظم.
وقال ابن عبد البر: في ((الاستذكار)) . فإن دافعه مدافعة لا يقصد بها قتله فكان فيها تلف نفسه كانت عليه ديته كاملة في ماله.
وقد قيل: الدية على عاقلته.
وقيل: هي هدر على حسب ثنية العاض.
قال: وهذا كله يدل على نفي القود؛ لأنه فعل تولد من عمل أصله مباح.
قال: وقد كان أبو سعيد الخدري يشتد في هذا - وهو راوي الحديث - طلبا لاستعمال ظاهره.
ثم ذكر عن ابن أبي شيبة، أنه روى عن أبي معاوية، عن عاصم، عن ابن
سيرين، قال: كان أبو سعيد قائما يصلي،

(4/85)


فجاءه عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يمر بين يديه، فمنعه، فأبى إلا أن يمضي، فدفعه أبو سعيد وطرحه، فقيل له: تصنع هذا بعبد الرحمن؟ فقال: والله لو أبى إلا أن آخذ بشعره لأخذت.
قال: وذكر عبد الرزاق، عن الثوري، عن عاصم، عن محمد بن سيرين، عن أبي العالية، عن أبي سعيد الخدري، قال: مر رجل من بني مروان بين يدي في الصلاة، فدفعته ثلاث مرات، فشكاني إلى مروان، فذكر ذلك لي، فقلت: لو أبى لأخذت بشعره.
قال عبد الرزاق: وأنا ابن جريج، قال: سمعت سليمان بن موسى يحدث، عن عطاء، قال: أراد داود بن مروان أن يمر بين يدي أبي سعيد الخدري، وهو يصلي، وعليه حلة له، ومروان أمير بالمدينة، فرده، فكأنه أبى، فلهزه في صدره، فذهب الفتى إلى أبيه، فاخبره، فدعا مروان أبا سعيد، فذكر ذلك له، فقال: نعم؛ قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أردده، فإن أبى فجاهده)) .
وروى أبو نعيم في ((كتاب الصلاة)) : ثنا عبد الله بن عامر، عن زيد بن أسلم، قال: بينما أبو سعيد يصلي في المسجد، فأقبل الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فأراد أن يمر بين يديه، فدرأه، فأبى إلا أن يمر، فدفعه ولطمه، وقال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((أن أبى إلا أن يمر فاردده، فإن أبى إلا أن يمر فادفعه؛ فإنما تدفع الشيطان)) .

(4/86)


عبد الله بن عامر الأسلمي فيه ضعف.
وزيد بن أسلم، إنما رواه عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، كما تقدم.
وتسمية المار الوليد بن عقبة غريب غير محفوظ.
وروى ابن أبي شيبة: ثنا أبو أسامة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: سمعت عبد الحميد بن عبد الرحمن - عامل عمر بن عبد العزيز -، ومر بين يديه رجل وهو يصلي، فجبذه حتى كاد يخرق ثيابه.
وبإسناده، عن سعيد بن جبير، أنه سئل: أدع أحدا يمر بين يدي؟ قال: لا. فقيل له: فإن أبى؟ قال: فما تصنع؟ قيل له: إن ابن عمر كان لا يدع أحدا يمر بين يديه. قال: أن ذهبت تصنع صنيع ابن عمر دق أنفك.
وفي هذا إشارة إلى شدة رد ابن عمر من مر بين يديه، وأن غيره لا يتمكن من مثل ذلك.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فإنما هو شيطان)) . تعليل للإذن في قتاله.
وقد اختلف في معناه:
فقيل: المعنى: أن معه الشيطان المقترن به، وهو يأمره بذلك وهو اختيار أبي حاتم وغيره.
ويدل عليه: حديث ابن عمر: ((فإن معه

(4/87)


القرين)) .
وقيل: المراد: أن فعله هذا فعل الشيطان، فهو بذلك من شياطين الإنس، وهو اختيار الجوزجاني وغيره.
وروى الدراوردي، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، أنه كان يصلي ومر بين يديه ابن لمروان، فضربه، فقال مروان: ضربت ابن أخيك؟ فقال: ما ضربت إلا شيطانا؛ سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((إن أبى فرده، فإن أبى فقاتله؛ فإنما هو شيطان)) .
وبكل حال؛ فيستدل به على تحريم المرور بين المصلي وسترته؛ لأنه جعله من عمل الشياطين، وأمر بالعقوبة عليه، وذلك من أدلة التحريم.

(4/88)


101 - باب
إثم المار بين يدي المصلي

(4/89)


510 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن
عبيد الله، عن بسر بن سعيد، أن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جهيم يسأله: ماذا سمع من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المار بين يدي المصلي؟ فقال أبو جهيم: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه)) .
قال أبو النضر: لا أدري: قال أربعين يوما، أو شهرا، أو سنة؟
وخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك.
وخرجه - أيضا - من طريق وكيع، عن سفيان - هو: الثوري -، عن سالم أبي النضر - بمعنى حديث مالك.
ورواه ابن عيينة، عن سالم أبي النضر، عن بسر بن سعيد، قال: أرسلني أبو الجهيم، أسأل

(4/89)


زيد بن خالد الجهني: ما سمعت من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول - فذكره من رواية زيد بن خالد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
كذا رويناه في ((مسند الحميدي)) ، عن سفيان.
وكذا خرجه ابن ماجه، عن هشام بن عمار، عن ابن عيينة، إلا أنه قال: ((أرسلوني إلى زيد بن خالد أسأله)) - ولم يذكر من أرسله.
وذكر أن الشك في تمييز الأربعين من ابن عيينة.
وهذا كله وهم.
وممن نص على أن جعل الحديث من مسند زيد بن خالد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم من ابن عيينة، وخطأ: ابن معين في رواية ابن أبي خيثمة، وأشار إليه الإمام أحمد في رواية حنبل.
وقد اضطرب ابن عيينة في لفظه وإسناده، ولم يحفظه جيدا.
وقد روي عنه كقول مالك وسفيان على الصواب.
خرجه ابن خزيمة، عن علي بن خشرم، عنه.
ومن تكلف الجمع بين القولين من المتأخرين، فقوله ليس بشيء، ولم

(4/90)


يأت بأمر يقبل منه.
وأبو الجهيم، هو: ابن الحارث بن الصمة، وقد سبق له حديث في ((التيمم)) .
وقد رواه الضحاك بن عثمان، عن سالم أبي النضر، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن خالد، قال: قَالَ: رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي والمصلي ما عليهما)) - وذكر الحديث.
خرجه أبو العباس السراج في ((مسنده)) .
وهذا يوافق رواية ابن عيينة، وهو - أيضا - وهم.
وزيادته: ((والمصلي)) غير محفوظة - أيضا.
وقد وقع في بعض نسخ كتاب البخاري، ومسلم - أيضا - بعد: ((ماذا عليه)) : ((من الإثم)) ، وهي غير محفوظة.
وذكر ابن عبد البر: أن هذه اللفظة في رواية الثوري، عن سالم أبي النضر.
وقد وقعت في كتاب ابن أبي شيبة من رواية الثوري، مدرجة بلفظة: ((يعني: من الإثم)) ، فدل على إنها مدرجة من قول بعض الرواة، وتفسير للمعنى؛ فإن هَذَا يفهم من قوله: ((ماذا عَلِيهِ)) ، فإن ابن آدم لَهُ عمله الصالح وعليه عمله السيئ، كما قَالَ تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46] . وقال: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] ، وإذا كان هذا عليه فهو من سيئاته.
وفي المعنى أحاديث أخر، ليست على شرط البخاري:

(4/91)


فروى عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن عمه، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لو يعلم أحدكم ما له أن يمشي بين يدي أخيه معترضا وهو يناجي ربه، كان لأن يقف في ذلك المكان مائة عام أحب إليه أن يخطو)) .
خرجه أحمد، وهذا لفظه.
وخرجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) بمعناه.
وخرجه ابن ماجه، ولم يذكر: ((وهو يناجي ربه)) ، وعنده: ((معترضا في الصلاة)) .
وعبيد الله بن عبد الله بن موهب، ضعفه يحيى. وقال النسائي: ليس بذاك القوي. وقال ابن عدي هو حسن الحديث يكتب حديثه.
وخرج الطبراني من رواية ابن أخي ابن وهب، عن عمه: ثنا عبد الله بن عيا ش، عن أبي رزين الغافقي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((الذي يمر بين يدي الرجل وهو يصلي عمدا، يتمنى يوم القيامة أنه شجرة يابسة)) .
إسناده ليس بقوي.

(4/92)


وقد روي موقوفا، بلفظ آخر، من وراية أبي عبد الرحمن المقري: ثنا موسى بن أيوب، قال: سمعت أبا عمران الغافقي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: لأن يكون الرجل رمادا يذرى به خيرا له من أن يمر بين يدي رجل متعمدا وهو يصلي.
خرجه ابن عبد البر وغيره.
وروى ابن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: سمعت عبد الحميد بن عبد الرحمن - عامل عمر بن عبد العزيز - يقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي لأحب أن تنكسر فخذه ولا يمر بين يديه)) .
هذا مرسل.
وأبو أسامة، قد قيل: إنه كان يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم الشامي، ويسميه: ابن جابر، وابن تميم ضعيف، وابن جابر ثقة.
وذكر مالك في ((الموطإ)) عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن كعب الأحبار، قال: لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يخسف به خير له من أن يمر بين يديه.
وروى أبو نعيم في ((كتاب الصلاة)) : ثنا سليمان بن المغيرة، عن

(4/93)


حميد بن هلال، قال: قَالَ عمر - رضي الله عنه -: لو يعلم المار بين يدي المصلي ما يصيب من الإثم ما مر أحد بَيْن يدي أحد، وهو يصلي.
وروى أبو بكر النجاد الفقيه الحنبلي، بإسناده عن ابن عمر، قال: لأن يكون الرجل رمادا يذري به خير من أن يمر بين يدي رجل وهو يصلي
وبإسناده، عن قتادة، أن عمر وأبا الدرداء قالا: لو يعلم المار بين يدي المصلي كان أن يقوم حولا أهون عليه من أن يمر بَيْن يديه.
وروى أبو النعيم – أيضا -: ثنا أبو خلدة، عن أبي العالية، قالا: إن الإنسان إذا صلى بين يديه ملك يكتب ما يقول، فما أحب أن يمر بين يدي شيء.
وفي هذا إشارة إلى علة كراهة المرور بين يدي المصلي، وهو قرب الملائكة منه، فالمار يصير دخيلا بين المصلي وملائكته الموكلين به.
وفي حديث أبي هريرة المتقدم: إشارة إلى أن المصلي مشتغل بمناجاة ربه، والرب تعالى يقرب المصلي له إليه، قربا لا يشبه قرب المخلوقين، كما سبق ذكره في ((أبواب: البصاق في القبلة)) .
فالداخل بين المصلي وبين ربه في حال مناجاته له، وتقريبه إياه، وإقباله عليه، واستماعه

(4/94)


منه ما يناجيه، ورده عليه جواب ما يتلوه من كتابه متعرض لمقت الله، ومستحق لعقوبته.
وهذا كله يدل على تحريم المرور بين يدي المصلي، وهو الصحيح عند أصحابنا، والمحققين من أصحاب الشافعي.
وطائفة منهم ومن أصحابنا أطلقوا الكراهة.
وكذلك أطلقها غيرهم من أهل العلم، منهم: ابن عبد البر وغيره.
وحكاه الترمذي عن أهل العلم.
وقد حمل إطلاق هؤلاء للكراهة على التحريم؛ فإن متقدمي العلماء كانوا يستعملون ذلك كثيرا.
وقد حكى ابن حزم في ((كتاب الإجماع)) الاتفاق على أن المار بين المصلي وسترته آثم.
وفي الحديث: دليل على تحريم المرور بين يدي المصلي، سواء كان يصلي إلى سترة أو لم يكن، فإن كان يصلي إلى سترة حرم المرور بينه وبينها، إذا لم يتباعد عنها كثيرا.
وإن لم يكن بينه وبين القبلة سترة، أو كانت سترة وتباعد عنها تباعدا فاحشا، ففي تحريم المرور وجهان لا صحابنا:
أصحهما: التحريم؛ لعموم حديث أبي جهيم.
والثاني: يكره ولا يحرم، وهو قول أصحاب الشافعي.
والذي نص عليه الشافعي في ((كتاب اختلاف الحديث)) أنه مباح غير مكروه،

(4/95)


واستدل عليه بحديث ابن عباس والمطلب بن أبي وداعة.
وفي قدر القرب الذي يمنع المرور فيه وجهان لأصحابنا
أحدهما: أنه محدود بثلاثة اذرع؛ لأنها منتهى المسنون في وضع السترة، على ما سبق.
والثاني: حده بما لو مشى إليه لدفع المار أو غيره، لم تبطل صلاته.
وجاء في حديث مرفوع من حديث ابن عباس: تقديره بقدر قذفة بحجر.
خرجه أبو داود وسنذكره فيما بعد - أن شاء الله تعالى.

(4/96)


وحكي عن الحنفية، أنه لا يمنع من المرور إلا في محل سجود المصلي خاصة.
وحكى أبو بكر ابن العربي، عن قوم أنهم قدروه بمثل طول الرمح، وعن آخرين أنهم قدروه برمية السهم، وقالوا: هو حريم للمصلي. قال: وأخذوه من لفظ المقاتلة، ولم يفهموا المراد منها. قال: والمقاتلة هنا: المنازعة بالأيدي خاصة.
وقال الشافعي: قوله: ((فليقاتله)) - يعني: فليدفعه.
فإما من وقف في مجاز الناس الذي ليس لهم طريق غيره وصلى، فلا إثم في المرور بين يديه، صرح به أصحابنا وغيرهم؛ لأنه مفرط بذلك، فلا حرمة له.
وحكى القرطبي، عن أصحابهم المالكية، أن المصلي إذا كان في موضع لا يأمن المرور عليه اشترك هو والمار في ألاثم.
وهذا يدل على أنه يحرم المرور بين يديه - أيضا -، ولكنه يأثم المار والمصلي جميعا.
وكذلك قال بعض الشافعية: أنه إذا صلى على الطريق، أو قصر في الدفع شارك المار في الإثم، وحملوا رواية السراج المتقدمة: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي والمصلي ما عليهما)) على ذلك.
وحكي عن بعض الفقهاء، أنه إن كان للمار مندوحة عن المرور، وكان المصلي متعرضا لذلك أثما جميعا، وإن لم يكن للمار مندوحة، ولا

(4/97)


المصلي متعرضا لذلك فلا إثم على واحد منهما، وإن لم يتعرض المصلي لذلك، وكان للمار مندوحة إثم المار وحده، وإن لَمْ يتعرض المصلي لذلك، ولم يكن للمار مندوحة أثم المصلي وحده.
وقال أبو عمر ابن عبد البر، الإثم على المار بين يدي المصلي فوق الإثم على الذي يدعه يمر بين يديه، وكلاهما عاص إذا كان بالنهي عالما، والمار اشد إثما إذا تعمد ذلك، وهذا مما لا اعلم فيه خلافا.
كذا قال؛ مع أنه ذكر في موضع آخر: أن الدفع ليس بلازم، ولا يأثم من تركه، وإنه قول الثوري وغيره.
وخرج ابن أبي شيبة من رواية الأسود، قال: قال عبد الله - هو: ابن مسعود -: من استطاع منكم أن لا يمر بين يديه وهو يصلي فليفعل؛ فإن المار بين يدي المصلي انقص من الممر عليه.
ولعله أراد أن المار انقص علما أو دينا أو خيرا من الممر عليه، ولم يرد - والله أعلم - أنه انقص منه إثما، اللهم إلا أن يحمل على ما إذا كان المصلي مفرطا بصلاته في موضع مرور الناس، والمار لا يجد بدا من مروره كما سبق.

(4/98)


وقد روى عن جماعة من الصحابة، أن الصلاة تنقص بمرور المار:
فروى أبو نعيم: ثنا سليمان بن المغيرة - أظنه: عن حميد بن هلال -، قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لو يعلم المصلي قدر ما ينقص من صلاته ما صلى أحدكم إلا إلى شيء يستره من الناس.
وهذا منقطع.
وقد روي عن ابن مسعود، أنه ينقص نصف صلاته.
قال أبو طالب: قلت لأحمد: قول ابن مسعود: أن ممر الرجل يضع نصف صلاته؟ قَالَ: نَعَمْ، يضع من صلاته، ولكن لا يقطعها، ينبغي له أن يمنعه.
وهذا الذي أشار إليه خرجه أبو بكر النجاد بإسناده، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، قال: كان عبد الله إذا مر بين يديه رجل وهو يصلي التزمه حتى يرده. قال: وقال عبد الله: إن مرور الرجل بين يدي الرجل ليضع نصف صلاته.
قال القاضي أبو يعلي: وينبغي أن يكون هذا محمولا على ما إذا

(4/99)


أمكنه أن يرده فلم يرده، فيكون قد اخل بفضيلة الرد.
كذا قال؛ وفيه نظر.
ومذهب أحمد وأصحابه: أن مرور الكلب الأسود يبطل الصلاة ويقطعها، سواء أمكنه الرد وتركه، أو تركه عجزا، كما سيأتي ذكره - أن شاء الله تعالى.
وعلى هذا؛ فلا يبعد القول بنقص كمال الصلاة بمرور غير الكلب، وإن عجز عَن دفع ذَلِكَ.
ولهذا المعنى رد طائفة من العلماء حديث قطع الصلاة بمرور الكلب وغيره، وقالوا: إنه مخالف للقرآن في قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ، كما ذكر ذلك الشافعي.
وقد روي: أن مرور الرجل بين يدي الرجل في صلاته يقطع صلاته.
وخرجه أبو داود في ((سننه)) بإسناد فيه نظر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بتبوك إلى
نخلة، فأقبل غلام يسعى حتى مر بينه وبين قبلته، فقال: ((قطع صلاتنا، قطع الله
أثره)) . قال: فما قمت عليها إلى يومي هذا.
وهذا مما يستدل به على أن قطع الصلاة يراد به إذهاب كمال فضلها، دون إبطالها من أصلها، وإيجاب إعادتها، كما سيأتي ذكره - أن شاء الله تعالى.

(4/100)


وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في ((المسند)) : ثنا سويد بن سعيد: ثنا إبراهيم بن سعد: حدثني أبي، عن أبيه، قال: كنت أصلي، فمر رجل بين يدي فمنعته، فسألت عثمان بن عفان، فقال: لا يضرك يا ابن أخي.
وظاهر هذا: أنه لا ينقض الصلاة، ويحتمل أنه أراد أنه لم تبطل صلاته أو لعله أراد أنه إذا منعه من المرور فلا يضره إذا رجع ولم يمر.
وقد روي، عن عائشة ما يدل على أن المرور بين يدي المصلي إذا لم يقطع صلاته فهو جائز:
قال: عبد الله ابن الإمام أحمد في ((مسائله)) : ثنا أبي: ثنا حجاج: أبنا شعبة، قال: سمعت عبد الرحمن بن سعيد بن وهب، قال: سمعت صفية بنت شيبة، قالت: كانت امرأة تصلي عند البيت إلى مرفقة، وكانت عائشة تطوف، فمرت عَائِشَة بينها وبين المرفقة، فقالت عائشة: إنما يقطع الصلاة الهر والكلب الأسود.
ولعل عائشة - رضي الله عنها - كانت ترى أن المسجد الحرام لا يمنع فيه المرور بين يدي المصلي كما سبق، وإنما ذكرت أن الصلاة لا تقطع بذلك لئلا؛ تظن تلك المرأة بطلان صلاتها. والله أعلم.

(4/101)


102 - باب
استقبال الرجل الرجل وهو يصلي
وكره عثمان أن يستقبل الرجل وهو يصلي.
وهذا إذا اشتغل به، فأما إذا لم يشتغل به، فقد قال زيد بن ثابت: ما باليت؛ إن الرجل لا يقطع صلاة الرجل.
حكى البخاري عن عثمان - رضي الله عنه -، أنه كره أن يستقبل الرجل وهو يصلي، وعن زيد بن ثابت، أنه قال: لا يبالي بذلك؛ إن الرجل لا يقطع صلاة الرجل.
وجمع بينهما بان الكراهة إذا اشتغل به المصلي عن صلاته، وعدم الكراهة إذا لم يشتغل به عن صلاته.
وقد روى في هذا حديث مرفوع يشهد لما قاله:
رواه عبد الأعلى الثعلبي، عن محمد بن الحنفية، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نظر إلى رجل يصلي إلى رجل، فأمره أن يعيد الصلاة، فقال: يا رسول الله، إني قد أتممت؟ فقال: ((إنك صليت وأنت تنظر إليه مستقبله)) .
خرجه أبو داود في ((المراسيل)) .
وخرجه البزار في ((مسنده))

(4/102)


والإسماعيلي في ((مسند علي)) ، وعندهما: عن ابن الحنفية، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وعبد العلي هذا، ضعيف الحديث.
وقد علل الإعادة بالنظر إليه، وهو يشعر بأن نظره إليه ألهاه عن صلاته.
وقال البزار بعد تخريجه للحديث: إنما أمره بالإعادة؛ لاستقباله وجه الرجل من غير انحراف عنه.
وروى أبو نعيم: ثنا مسعر، قال: أراني أول من سمعته من القاسم، قال: ضرب عمر رجلين: أحدهما مستقبل الآخر وهو يصلي.
وهذا منقطع.
ونص أحمد على كراهة أن يصلي مستقبل رجل -: نقله عنه المروذي.
ونقل عنه ابنه صالح، أنه قال: هذا منهي عنه.
وعلل الأصحاب كراهة ذلك بان فيه تشبها بعبادة المخلوقين، فكره كما تكره الصلاة إلى صورة منصوبة.
وعلى هذا التعليل، فلا فرق بين أن يشتغل بالنظر إلى ذلك، أو لا يشتغل. والله اعلم.
وكره أصحاب الشافعي الصلاة إلى آدمي، يستقبله ويراه، وعللوه بأنه

(4/103)


يشغل المصلي ويلهيه نظره إليه.
قال البخاري - رحمه الله -:

(4/104)


511 - ثنا إسماعيل بن خليل: أبنا علي بن مسهر، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، ذكر عندها ما يقطع الصلاة، فقالوا: يقطعها الكلب والحمار والمرأة، فقالت: لقد جعلتمونا كلابا؛ لقد رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، وإني لبينه وبين القبلة، وأنا مضطجعة على السرير، فتكون لي الحاجة، فأكره أن استقبله، فأنسل انسلالا.
وعن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - نحوه.
وقد روى هذا الحديث أبو معاوية، عن الأعمش، بالإسناد الثاني، وقال في حديثه: فأنسل من قبل رجلى السرير، كراهة أن استقبله بوجهي.
خرجه عنه الإمام أحمد.
ورواه ابن أبي زائدة، عن الأعمش بالإسنادين، وقال فيه: وأكره أن أستقبله بوجهي فأوذيه، فأنسل من قبل رجلى السرير.
وهذا يدل عل إنها كانت تعلم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكره أن يستقبله أحد بوجهه وهو يصلي، وكان ذلك ليلا، ولم يكن في البيوت مصابيح،

(4/104)


كما صرحت به عائشة في حديثها الآخر، فدل على أن كراهة استقبال المصلي وجه إنسان والإنسان ليس هو لمعنى الاشتغال بالنظر إليه عن الصلاة، كما يراه البخاري. والله اعلم.
والظاهر: أن البخاري استدل بصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عائشة على أنه لا تكره الصلاة مستقبل إنسان، وفي ذلك نظر؛ فإن عائشة لم تكن مستقبلة له، بل كانت مضطجعة، وإنما كره من كره استقبال وجه الآدمي.

(4/105)


103 - باب
الصلاة خلف النائم

(4/106)


512 - حدثنا مسدد: ثنا يحيى: ثنا هشام: قال: حدثني أبي، عن عائشة، قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقضني فأوترت.
استدل البخاري بصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عائشة بالليل على أنه لا تكره الصلاة خلف النائم.
وكذلك قال أصحاب الشافعي.
ونقل حرملة عن الشافعي، أنه إن كان النائم لا يحتشم من المصلي، ولا يحتشم المصلي منه كالزوجة فلا بأس به، وان النهي عن الصلاة خلف نائم يحتشمه.
والنهي الذي أشار إليه هو من رواية محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا تصلوا خلف النيام والمتحدثين)) .
خرجه أبو داود وابن ماجه.
وله طرق إلى محمد بن كعب، كلها واهية -: قاله أبو داود والعقيلي والبيهقي وغيرهم.

(4/106)


وخرج البزار من رواية ابن أبي ليلى، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((نهيت أن أصلي إلى النيام والمتحدثين)) .
ابن أبي ليلى، ضعيف؛ لسوء حفظه.
وخالفه سُفْيَان، فرواه وكيع، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن مجاهد -
مرسلا، وهو أصح.
وكره طائفة الصلاة إلى النائم مطلقا، منهم: أحمد وإسحاق.
وعلل ذلك أصحابنا؛ بأنه لا يؤمن أن يكون من النائم ما يشغل المصلي.
وأجاب من ذهب إلى هذا عن حديث عائشة، بأن الحاجة دعت إليه؛ لضيق البيت.
وعن أحمد، أنه تختص الكراهة بالفريضة دون

(4/107)


النافلة؛ جمعا بين حديث عائشة وحديث ابن عباس.
ولعل هذا القول اقرب مما قبله.
وإذا خالف وصلى، فلا إعادة عليه في ظاهر مذهب أحمد وإسحاق، وهو قول جمهور العلماء.
وعن أحمد، أنه يعيد الفريضة.
قال القاضي أبو يعلى: يحتمل أن هذا على الاستحباب دون الإيجاب.
وسئل النخعي عن الرجل يصلي إلى نائم ومضطجع: أيكون له سترة؟ قَالَ:
لا. قيل له: فيستر الجالس؟ قال: نعم.
وأما الصلاة خلف المتحدث، فكرهها أكثر العلماء.
روى سفيان، عن أبي إسحاق، عن معد يكرب، عن عبد الله، قال: لا تصلوا إلى قوم يتحدثون.
خرجه الأثرم.
وخرجه أبو نعيم في ((كتاب الصلاة)) ، ولفظه: لا تصلوا بين يدي قوم يمترون.
وهذا يدل على كراهة الصلاة أمام المتحدثين - أيضا.
قال ابن المنذر: روينا عن ابن مسود وسعيد بن جبير، أنهما كرها الصلاة إلى المتحدثين. وبه قال أحمد وأبو ثور. ورخص فيه الزهري والنعمان.

(4/108)


وحكى الخطابي، عن الشافعي، أنه كرهه - أيضا.
وعلل أحمد الكراهة بأن المتحدث يشغل المصلي إليه.
وفرق سعيد بن جبير بين المتحدثين بذكر الله وغيره، فكره الصلاة إلى المتحدث بغير الذكر، دون الذاكر.
خرجه حرب الكرماني وغيره.
ولا إعادة على من صلى إلى متحدث عند الجمهور.
ونقل حرب، عن أحمد، أنه قال: نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه. وقال: الفريضة أشد.
وكأنه ذهب إلى أنه يعيد.

(4/109)


104 - باب
التطوع خلف المرأة

(4/110)


513 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن
عبيد الله، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما.
قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح.
دل هذا الحديث على أن من صلى إلى امرأة بين يديه، وليست معه في صلاة واحدة فإن صلاته صحيحة، وقد نص على ذلك سفيان وأحمد وإسحاق، ولا نعلم فيه خلافا.
وإنما اختلفوا: إذا كانا في صلاة واحدة، وليس بينهما سترة.
وقد سبق ذكر ذلك في ((باب: إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد)) .
ولكن يجيء على قول من يقول: إن مرور المرأة يبطل الصلاة، وإن قيامها وجلوسها واضطجاعها كمرورها، أنه تبطل الصلاة باستقبالها.
وقد حكي رواية عن أحمد، ونص أحمد على أن المرأة إذا كانت بين يدي المصلي، وهي في غير صلاة فلا بأس به، واحتج بحديث عائشة -: نقله عنه حرب.

(4/110)


وكره الشافعي أن يستتر الرجل بالمرأة في صلاته؛ لما يخشى من فتنتها للمصلي، وشغلها لقلبه.
وهذا إذا كان بحيث ينظر إليها، فأما إن كان ذلك في ظلمة الليل، كما في حديث عائشة، فقد أمن من ذلك.
ولم يفرق الشافعي وأحمد بين النفل والفرض.
وظاهر تبويب البخاري يدل على التفريق بينهما، وأن الرخصة في النفل خاصة.
وقد نص أحمد على مثل ذلك في رواية أخرى عنه، وأن الرخصة في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المرأة كان مخصوصا به؛ لأنه كان يملك نفسه، وغيره يخشى عليه الفتنة، وهذه دعوى لا دليل عليها.

(4/111)


105 - باب
من قال: لا يقطع الصلاة شيء

(4/112)


514 - حدثنا عمر بن حفص بن غياث: ثنا أبي: ثنا الأعمش: ثنا إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة.
قال الأعمش: وحدثني مسلم، عن مسروق عن عائشة، ذكر عندها ما يقطع الصلاة: الكلب والحمار والمرأة، فقالت: شبهتمونا بالحمير والكلاب، والله لقد رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وأنا على السرير، بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس فأوذي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فانسل من عند رجليه.

(4/112)


515 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم: ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد: ابنا ابن أخي ابن شهاب، أنه سأل عمه عن الصلاة يقطعها شيء؟ قال: لا يقطعها شيء.
قال: وأخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: لقد كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم فيصلي من الليل، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله.
في الرواية الأولى: أن عائشة استدلت بحديثها هذا على أن المرأة لا تقطع
الصلاة، وأنكرت التسوية بين المرأة والحمار والكلب، وهذا يشعر بموافقتها على الحمار والكلب، وسيأتي كلامها صريحا في ذلك فيما بعد - إن شاء الله تعالى.
وفي الرواية الثانية: أن الزهري استدل بحديث عائشة على أن الصلاة لا يقطعها شئ؛ لما فيه من الدلالة على أن المرأة لا

(4/112)


تقطع صلاة الرجل إذا كانت بين يديه.
وقد اختلف العلماء في هذا:
فقالت طائفة - كما قاله الزُّهْرِيّ -: لا يقطع الصلاة شئ.
وروي ذلك عن عثمان وعلي وحذيفة وأبي سعيد وابن عمر وابن عباس، على اختلاف عن بعضهم.
وروي عن أبي بكر وعمر من وجه لا يصح، وسيأتي ذكره ـ أن شاء الله.
وممن قال ذلك بعد الصحابة: سعيد بن المسيب وعبيدة السلماني والشعبي والقاسم بن محمد وعروة والزهري، وهو قول الثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأبي ثور وغيرهم.
وروى شعبة، عن عبيد الله بن عمر، عن سالم ونافع، عن ابن عمر، قال: كان يقال: لا يقطع صلاة المسلم شئ.
ورواه إبراهيم بن يزيد الخوزي، عن سالم، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر قالوا: ((لا يقطع صلاة المسلم شئ، وادرأ ما استطعت)) .
خرجه الدارقطني.

(4/113)


والخوزي، ضعيف جدا.
وصحح الدارقطني في كتاب ((العلل)) وقفة، وأنكر رفعه.
وخرج أبو داود من رواية أبي أسامة، عن مجالد، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال ((لا يقطع الصلاة شئ، وادرءوا ما استطعتم)) .
وخرجه –أيضا - من رواية عبد الواحد بن زياد، عن مجالد، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد، قال: إن الصلاة لا يقطعها شئ، ولكن قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ادرءوا ما استطعتم)) .
فجعل أوله موقوفا.
ومجالد، فيه ضعف مشهور.
وقال أحمد: كم من أعجوبة لمجالد.
وروى إدريس بن يحيى الخولاني، عن بكر بن مضر، عن صخر بن عبد الله بن حرملة، سمع عمر بن عبد العزيز يقول: عن أنس بن مالك، أن رسول ألله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالناس، فمر بين أيديهم حمار، فقال عياش بن أبي ربيعة: سبحان الله، سبحان الله، فلما سلم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من المسبح آنفا: سبحان الله وبحمده؟)) قال: أنا يا رسول الله؛ إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة. قال: ((لا يقطع الصلاة شئ)) .
خرجه الدارقطني.
وقال في كتاب ((العلل)) : خالف إدريس في رواية هذا الحديث الوليد

(4/114)


بن مسلم، فرواه عن بكر بن مضر، عن صخر، عن عمر بن عبد العزيز، عن عياش بن أبي ربيعة. وغيرهما يرويه عن بكر بن مضر، عن صخر، عن عمر ابن عبد العزيز - مرسلا. والمرسل أصح.
وقد روي هذا المتن من حديث علي وأبي هريرة وعائشة وأبي أمامه، ولا يثبت منها شئ.
قال العقيلي: الرواية في هذا الباب فيها لين وضعف.
وقالت طائفة: يقطع الصلاة مرور بعض الحيوانات.
ثم اختلفوا:
فمنهم من قال: يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة، روي ذلك عن ابن عباس وأنس وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة

(4/115)


ومكحول والحسن وأبي الإحوص.
ومنهم من قال: يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض والحمار والكافر، رواه جابر بن زيد، عن ابن عباس.
وروي عن الحكم الغفاري، أنه أعاد الصلاة من مرور حمار بين يديه.
وروي عن عكرمة، قال: يقطع الصلاة الكلب والمرأة والخنزير والحمار والكافر.
وعن عطاء، قال: يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب الأسود.
واختاره أبو بكر ابن خزيمة، وزاد عليهما: الحمار.
والمشهور: عن عطاء، أنه يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود.
وهو قول ابن جريج وأحمد في رواية عنه.
وروت صفية بنت شيبة، عن عائشة، قالت: إنما يقطع الصلاة الكلب والحمار والسنور.
وفي رواية أخرى عن عائشة، أنها قالت: والسنور الأسود.
وحكي رواية عن أحمد في السنور الأسود.
وقالت طائفة: لا يقطع الصلاة سوى الكلب، وروي ذلك عن ابن عمر.
وروي عنه أنه أعاد صلاته من مرور كلب أصفر بين يديه، رواه مطر الوراق، عن نَافِع، عَنْهُ.
وروى بكر المزني، أن ابن عمر أعاد ركعة

(4/116)


من جرو مر بين يديه.
وهذا يدل على أنه تختص الإعادة بالركعة التي مر فيها الكلب.
وروى ليث، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: ادرءوا عن صلاتكم ما استطعتم، وأشد ما يتقى عليها مرابض الكلاب.
وقال ابن طاوس: كان أبي يشدد في الكلاب.
ومن هؤلاء من خص القطع بالكلب الأسود دون غيره من سائر الألوان.
وروى شعبة، عن الحكم، عن خيثمة، عن الأسود، عن عائشة، قالت: لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود.
وقال أبو نعيم: ثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الكلب الأسود البهيم شيطان، وهو يقطع الصلاة.
حدثنا ابن عيينة، عن ليث، عن مجاهد، عن معاذ ـ مثله.
وهو المشهور عن أحمد، وقول إسحاق وأبي خيثمة زهير بن حرب وسليمان ابن داود الهاشمي والجوزجاني وغيرهم من فقهاء أهل الحديث.
واستدل من قال: تقطع الصلاة بشئ من ذلك بأحاديث رويت عن

(4/117)


النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس شئ منها على شرط البخاري، ولا مما يحتج به.
وقد خرج مسلم منها حديثين: حديث: أبي ذر، وحديث أبي هريرة.
فحديث أبي ذر: خرجه من طريق حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود. قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ فقال: يا ابن أخي، سألت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سألتني، فقال: ((الكلب الأسود شيطان)) .
وحديث أبي هريرة خرجه من طريق عبيد الله بن عبد الله بن الأصم: ثنا يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، قال: قال: رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب، ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل)) .
فأما حَدِيْث أبي ذر، فَقَدْ قَالَ الإمام أحمد –فِي رِوَايَة المروذي -: إليه أذهب، وَهُوَ صحيح الإسناد، وَقَالَ - في رواية علي بن سَعِيد -: هو حديث ثبت، يرويه شعبة وسليمان بن المغيرة - يعني: عن حميد بن هلال -، ثم قال: ما في نفسي من هذا الحديث شيء.
وقال الترمذي: حديث أبي ذر حسن صحيح.
وقال البيهقي في ((كتاب

(4/118)


المعرفة)) : هذا الحديث صحيح إسناده، ونحن نحتج بأمثاله في الفقهيات، وإن كان البخاري لا يحتج به.
وقوله: ((إن البخاري لا يحتج به)) ، يشير إلى أنه لا يحتج بحديث عبد الله ابن الصامت بن أخي أبي ذر، ولم يخرج له في ((كتابه)) شيئا.
وقال الشافعي في كتاب ((مختلف الحَدِيْث)) - في الحديث الذي فيه المرأة والحمار والكلب -: أنه عندنا غير محفوظ.
ورده لمخالفته لحديث عائشة وغيره، ولمخالفته لظاهر قول الله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] .
وفي مسائل الحسن بن ثواب عن الإمام أحمد: قيل له: ما ترى في الحمار والكلب والمرأة؟ قال: الكلب الأسود يقطع؛ أنه شيطان. قيل له حديث أبي ذر؟ قال: هاتوا غير حديث أبي ذر، ليس يصح إسناده، ثم ذكر حديث الفضل بن عباس، أنه مر على بعض الصف وهو على حمار. قيل له: إنه كان بين يديه عنزة؟ قَالَ: هَذَا الحَدِيْث فِي

(4/119)


فضاء.
وأما حَدِيْث أبي هُرَيْرَةَ، فَلَمْ يخرج البخاري ليزيد بْن الأصم، ولا بني أخيه:
عبد الله بن عبد الله أبي العنبس، وأخيه عبيد الله شيئا.
وهذا الحديث من رواية عبيد الله كما وجد في بعض النسخ، وقيل: إن الصواب: أنه من رواية عبد الله.
وقد روى حديث أبي هريرة من وجه آخر: من رواية هشام الدستوائي، عن قتادة عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال:
((يقطع الصلاة المرأة والكلب والحمار)) .
خرجه الإمام أحمد وابن ماجه.
وفي إسناده اختلاف على هشام في رفعه ووقفه، وفي ذكر: ((سعد بن
هشام)) في إسناده وإسقاطه منه، والصحيح: ذكره -: قاله الدارقطني.
ورواه ابن أبي عروبة وغير واحد، عن قتادة، فوقفوه، وذكروا في إسناده:
((هشاما)) .
ولعل وقفه أشبه.
وقد روي عن أبي هريرة مرفوعا من وجه أخر لا يصح.
وروى يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة؛ قال: سمعت جابر بن

(4/120)


زيد يحدث، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب)) .
خرجه أبو داود، وابن ماجه وابن خزيمة في ((صحيحة)) ، وعند هما: ((الكلب الأسود)) .
قال أبو داود: وقفه سعيد وهشام وهمام، عن قتادة، عن ابن عباس. انتهى.
وكذا وقفه غندر، عن شعبة. ورفعه سفيان بن حبيب، عن شعبة.
وذكر الحافظ أبو نعيم بإسناده، عن يحيى بن سعيد، قال: لم يرفعه عن قتادة غير شعبة. قال يحيى: وأنا أفرقه.
وحكى غيره عن يحيى، أنه قال: أخاف أن يكون وهم - يعني: شعبة.
وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى، قال شعبة رفعه. قال: وهشام لم يرفعه.
قال أحمد: كان هشام حافظا.
وهذا ترجيح من أحمد لوقفه، وقد تبين أن شعبة اختلف عليه في وقفه ورفعه.
ورجح أبو حاتم الرازي رفعه.
وخرج أبو داود، عن محمد بن إسماعيل البصري - هو: ابن أبي

(4/121)


سمينة -، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن يحيى - هو: ابن أبي كثير -، عن عكرمة، عن ابن عباس - قال: أحسبه عَن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا صلى أحدكم إلى غير سترة فإنه يقطع صلاته الحمار والخنزير واليهودي والمجوسي والمرأة، ويجزئ عنه إذا مروا بين يديه على قذفه بحجر)) .
وقال أبو داود: لم أر أحدا يحدث به عن هشام، واحسب الوهم فيه من ابن أبي سمينة؛ لأنه يحدثنا من حفظه. انتهى.
وهو مشكوك في رفعه.
وقد خرجه ابن عدي من طريقين، عن معاذ، وقال: هذا عن يحيى غير محفوظ بهذا المتن.
وقد تبين بذلك أن ابن أبي سمينة لم ينفرد به كما ظنه أبو داود، ولكنه منكر كما قاله ابن عدي.
وخرجه ابن أبي شيبة عن أبي داود، عن هشام، عن يحيى، عن عكرمة - من قوله.
ورواه عبيس بن ميمون، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال أبو زرعة الرازي، هو حديث منكر، وعبيس شيخ ضعيف الحديث.
وقال الأثرم: هذا إسناد واه.

(4/122)


وروى سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب)) .
خرجه الإمام أحمد وابن ماجه وابن حبان في ((صحيحة)) .
وقد اختلف فيه على قتادة، وعلى الحسن:
فقيل: عن قتادة، كما ترى في الإسناد، وهو الصحيح عند الدارقطني وغيره.
وقيل عن سعيد، عن قتادة، عن أنس.
وقيل عنه، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس - من قوله كما سبق.
وقال هشام: عن قتادة، عن زرارة، عن سعد، عن أبي هريرة كما سبق.
واختلف فيه عن الحسن:
فقيل: عنه كما ترى.
وقال حوشب: عن الحسن، عن الحكم بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وذكر هذا الاختلاف الدارقطني، وقال: الصحيح من ذلك: قتادة، عن الحسن، عن ابن مغفل.
وروى يحيى بن أبي كثير، عن شعبة: عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((يقطع الصلاة الكلب والمرأة والحمار)) .
خرجه البزار.
وكذا رواه أبو زيد الهروي سعد بن

(4/123)


الربيع، عن شعبة - مرفوعا.
ورواه غندر وأبو الوليد ومحمد بن كثير، عن شعبة، عن عبيد الله، عن أنس موقوفا.
قال الدارقطني: والموقوف اصح.
وخرج الإمام أحمد ثنا أبو المغيرة: ثنا صفوان: ثنا راشد بن سعد، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((لا يقطع صلاة المسلم شيء، إلا الحمار والكافر والكلب والمرأة)) . قالت عائشة: يا رسول الله، لقد قرنا بدواب سوء.
هذا منقطع؛ راشد لَمْ يسمع من عَائِشَة بغير شك.
ووهم فِي ذَلِكَ، وإنما الصحيح: ما رواه أصحاب عائشة الحفاظ، عنها، أنه ذكر عندها ذلك، فقالت: لقد قرنتمونا بقرناء سوء، ونحو هذا المعنى.
وقد ذكر الميموني أن أحمد ذكر له أن ألحوضي روى من طريق الأسود، عن عائشة - مرفوعا -: ((يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود)) . . فقال أحمد: غلط الشيخ عندنا؛ هذا عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي تقول: عدلتمونا بالكلب والحمار؟ ! .
يعني: لو كان هذا عندها عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(4/124)


لما قالت ما قالت.
وخرج أبو داود من رواية سعيد بن عبد العزيز، عن مولى ليزيد بن نمران، عن يزيد بن نمران، قال، رأيت رجلا بتبوك مقعدا، فقال: مررت بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا على حمار وهو يصلي، فقال: ((اللهم اقطع أثره)) ، فما مشيت عليها بعد.
وفي رواية له: فقال: ((قطع صلاتنا قطع الله أثره)) .
وفي إسناد جهالة.
فالقائلون: بأن الصلاة يقطعها الكلب والحمار والمرأة تعقلوا بظواهر هذه الأحاديث.
وأما من قال: لا يقطع الصلاة غير الكلب الأسود، كما قاله أحمد في ظاهر مذهبه، وإسحاق، فقالوا: المرأة والحمار قد تعارضت فيهما الأحاديث، فحديث عائشة دل على عدم قطع الصلاة بالمرأة، وحديث ابن عباس دل على أن الحمار لا يقطع الصلاة، وبقي الكلب الأسود لا معارض له فيؤخذ به.
وهذا هو جادة مذهب أحمد وأصحابه، وما قالوه في ذلك.
ولهم في ذلك مسلكان آخران:
أحدهما: أن حديث عائشة لا يعارض حديث أبي ذر؛ فإن حديث

(4/125)


عائشة في وقوف المرأة بين يدي المصلي، وانه لا يبطل صلاته، وحديث أبي ذر في مرور المرأة، وأنه مبطل للصلاة، فيعمل بكلا الحديثين، فتبطل الصلاة بمرور هذه الثلاثة دون وقوفها في قبلة المصلي، وهو رواية عن أحمد.
وهذا يتوجه على إحدى الروايتين عن أحمد في إبطال الصلاة بمرور الثلاثة المذكورة في حديث أبي ذر، وقد رجحها بعض أصحابنا المتأخرين.
وقد تقدم قول عائشة: ((فأكره أن أسنحه)) - أي: أعترض بين يديه مارة، فدل على أن مرورها بين يديه مما يكره ويتقى، بخلاف نومها معترضة.
وروى الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كنت أكون بين يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي، فإذا أردت أن أقوم كرهت أن أمر بين يديه، فأنسل انسلالا.
ويدل على أنه يفرق بين المرور والوقوف: أن المصلي مأمور بدفع المار ولو كان حيوانا، وقد وردت السنة بالصلاة إلى الحيوان البارك والمرأة النائمة، فدل على الفرق بين الأمرين.
وقد استدل الإمام أحمد بهذا على التفريق بين المرور والوقوف.
والثاني: أن يحمل حديث عائشة على صلاة النفل،

(4/126)


فلا تقطعها المرأة، وحديث أبي ذر على الفريضة.
وهذا مسلك آخر لأصحابنا، وقد حكوا رواية عن أحمد بالفرق بين الفريضة والنافلة في قطع الصلاة بمرور هذه الثلاثة.
ومما استدل به أحمد على الفرق بين الفريضة والنافلة: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أو يوتر أيقظ عائشة، ولم يوتر وهي معترضة بين يديه.
وفي رواية خرجها أبو داود من حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن يوتر قال لها: ((تنحي)) .
وبهذه الرواية احتج أحمد في هذه المسألة.
وخرج الجوزجاني من رواية موسى بن أيوب الغافقي، أن عمه إياس بن عامر حدثه، أنه سمع علي بن أبي طالب يقول: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يوتر أمرها - يعني: عائشة - أن تتنحى عنه، وقال: إنها صلاة ازددتموها.
فإذا فرق بين النفل المطلق والوتر في الصلاة إلى المرأة، فالفريضة أولى.
وقد سلك بعضهم مسلكا آخر، وهو نسخ القطع بالمرأة والحمار بحديث عائشة وابن عباس؛ لأن حَدِيْث ابن عَبَّاس كَانَ فِي حجة الوداع فِي آخر عُمَر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحديث عَائِشَة يدل بظاهره عَلَى استمرار النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا أخبرت بِهِ عَنْهُ إلى آخر
عمره، ولو كان قد

(4/127)


ترك ذلك في آخر عمره لما خفي عليها، وبقي الكلب الأسود لا ناسخ له.
وهذا المسلك فيه نظر، وقد أنكره الإمام أحمد في رواية حرب، وأنكره - أيضا - الشافعي في ((كتاب مختلف الحديث)) .
وعلى هذا المسلك يتوجه القول بإبطال الصلاة بالكلب الأسود خاصة.
وأحمد كان شديد الورع في دعوى النسخ، فلا يطلقه إلا عن يقين وتحقيق؛ فلذلك عدل عن دعوى النسخ هنا إلى دعوى تعارض الأخبار، والأخذ بأصحها إسنادا، فأخذ بحديث عائشة في المرأة، وحديث ابن عباس في الحمار، فبقي الكلب الأسود من غير معارض.
وهذا إنما يتوجه على القول بالفرق بين الوقوف والمرور، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد.
فأما على الرواية الثانية عنه بالتسوية بينهما، فلا تعارض بين حديث عائشة وحديث أبي ذر في المرأة، وإنما التعارض بين حديث ابن عباس في مرور الحمار وبين حديث أبي ذر، فمقتضى ذلك حينئذ أن تبطل الصلاة بمرور الكلب والمرأة دون الحمار، ولا يعرف هذا عن أحمد.
وعلى رواية التفريق بين الفرض والنفل، فلا تعارض بين حديث عائشة

(4/128)


وأبي ذر في حق المرأة، وإن قلنا: إن الوقوف كالمرور، وأما أن فرقنا بينهما انتفى التعارض حينئذ من وجهين، وتبقى المعارضة بين حديث أبي ذر وحديث ابن عباس في مرور الحمار، فإن حديث ابن عباس في الفرض وحديث أبي ذر عام في الفرض والنفل، فيخرج من هذا أن يقال: حديث أبي ذر عام في الفرض والنفل في مرور الثلاثة، خص من عمومه النفل بمرور المرأة إن سوينا بينه وبين الوقوف، وإن فرقنا بينهما فالوقوف غير داخل في لفظ حديث أبي ذر ولا في معناه.
فأما الحمار فقد عارضه حديث ابن عباس، وهو في الفرض، وهو أصح من حديث أبي ذر، ولكن يلزم من العمل بحديث ابن عباس وترك حديث أبي ذر في الفرض إبطال حكم مرور الحمار جملة، وذلك نسخ.
ويخص - أيضا - من عموم حديث أبي ذر في الكلب النفل بالقياس على المرأة، فيقتضي هذا التقرير أن يقال: إن مرور الكلب والمرأة يبطل الصلاة المفروضة دون النافلة، ومرور الحمار لا يبطل شيئا.
وهذا - أيضا - قول غريب لا يعرف عن أحمد ولا غيره.
وإنما حكى القاضي أبو يعلى رواية عن أحمد أن هذه الثلاثة يبطل مرورها الفرض دون النفل.
وأخذه مما رواه بكر بن محمد وغيره، عن أحمد: يقطع الصلاة الكلب والمرأة والحمار، فذكر حديث عائشة،

(4/129)


فقال: هو عندي في المار بين يدي المصلي، فإذا كانت بين يديه كان أسهل، وهذا في التطوع، فأما الفرض فهو آكد، أليس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أراد أن يوتر قال: ((تنحي)) ؟
قال: هذا إنما يدل على تفريق أحمد بين الفرض والتطوع في استقبال المرأة في الصلاة دون مرورها، أما في المرور فلم يفرق، وإنما فرق في الصلاة إلى المرأة النائمة ونحوها بين الفرض والنفل، فجوزه في النفل وكرهه في الفرض، وفرق بين المرور والوقوف في إبطال الصلاة بالمرور دون الوقوف، فما يبطل الصلاة - وهو المرور - لم يفرق فيه بين فرض ونفل، إنما فرق بينهما فيما يكره في الصلاة، وهو الصلاة إلى المرأة، فكرهه في الفرض دون النفل، هذا هو الذي دل عليه كلام أحمد هذا. والله اعلم.
وظاهر قول عائشة - رضي الله عنها -: ((عدلتمونا بالحمر والكلاب)) ، واستدلالها بصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليها: يدل على أنها رأت المرور والوقوف سواء، وإلا فلو كان الحكم عندها مختصا بالمرور لم يكن لها في حديثها دليل.
ومتى قيل: إن حديث ابن عباس في مروره بالحمار بين يدي بعض الصف لم يكن مرورا بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل كانت سترته محفوظة، فلا

(4/130)


دليل في حديثه هذا على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة، وإن انضم إلى ذلك التفريق بين مرور المرأة ووقوفها وجلوسها ونومها لم يبق في حديثها دليل على أن المرأة لا يقطع مرورها، فيسلم حينئذ حديث أبي ذر وما أشبهه من معارض في الكلب والمرأة والحمار.
وأما جمهور أهل العلم الذين لم يروا قطع الصلاة وبطلانها بمرور شيء بين يدي المصلي، فاختلفت مسألكهم في هذه الأحاديث المروية في قطع الصلاة:
فمنهم: من تكلم فيها من جهة أسانيدها، وهذه تشبه طريقة البخاري؛ فإنه لم يخرج منها شيئا، وليس شيء منها على شرطه كما سبق بيانه.
ومنهم: من ادعى نسخها بحديث مرور الحمار وهو في حجة الوداع، وهي في آخر عمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإذا نسخ منها شيء دل على نسخ الباقي، وسلك هذا الطحاوي وغيره من الفقهاء.
وفيه ضعف، وقد أنكر الشافعي وأحمد دعوى النسخ في شيء من هذه الأحاديث؛ لعدم العلم بالتاريخ.
ومنهم من قال: حديث أبي ذر ونحوه قد عارضه ما هو أصح منه إسنادا، كحديث ابن عباس وعائشة، وقد أعضدهما أحاديث أخر تشهد لهما:
فروى شعبة، أن الحكم أخبره، قال: سمعت يحيى - هو: ابن

(4/131)


الجزار - يحدث، عن صهيب، قال: سمعت ابن عباس يحدث، أنه مر بين يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو وغلام من بني هاشم على حمار بين يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي، فنزلوا ودخلوا معه، فصلوا فلم ينصرف، فجاءت جاريتان تسعيان من بني عبد المطلب، فأخذنا بركبتيه، ففرع بينهما ولم ينصرف.
خرجه الإمام أحمد والنسائي، وهذا لفظه، وقد سبق ذكر إسناده.
وخرج النسائي - أيضا - من رواية ابن جريج: أخبرني محمد بن عمر بن علي، عن عباس بن عبيد الله بن عباس، عن الفضل بن عباس بن عبد المطلب، قال: زار رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عباسا في بادية لنا، ولنا كليبة وحمارة ترعى، فصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر وهما بين يديه، فلم يزجرا ولم يؤخرا.
وخرجه الإمام أحمد وأبو داود، ولفظه: أتانا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن في بادية لنا، ومعه عباس، فصلى في صحراء، ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكليبة تعبثان - أو تعيثان - بين يديه، فما بالى ذاك.
ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، وثقه الدارقطني وغيره.
وعباس بن عبيد الله بن عباس، روى عنه أيوب السختياني مع جلالته، انتقاده للرجال، حتى قال أحمد: لا تسأل عمن روى عنه أيوب. وذكره ابن حبان في ((الثقات)) .

(4/132)


وقد اختلف قول أحمد في هذا: فمرة، قال: حديث أبي ذر يخالفه، ولم يعتد به -: نقله عنه علي بن سعيد. ومرة، عارض به حديث أبي ذر، وقدمه عليه -: نقله عنه الحسن بن ثواب.
لكن ليس في هذا الحديث أن الكلب كان أسود؛ فلذلك لم يرد به حديث أبي ذر في الكلب الأسود، ولم يجعله معارضا له.
وروى أسامة بن زيد، عن محمد بن قيس - قاص عمر بن عبد العزيز -، عن أبيه، عن أم سلمة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في حجرة أم سلمة، فمر بين يديه عبد الله - أو عمر بن أبي سلمة -، فقال بيده فرجع، فمرت زينب بنت أم سلمة، فقال بيده هكذا، فمضت، فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((هن أغلب)) .
خرجه ابن ماجه.
وقد يفرق من يقول ببطلان الصلاة بمرور المرأة بين الجارية التي لم تبلغ وبين
البالغ، ويقول: إذا أطلقت المرأة لم يرد بها إلا البالغ، وزينب حينئذ كانت صغيرة، والصغيرة لا تسمى امرأة في الحال؛ ولهذا قَالَتْ

(4/133)


عَائِشَة: إذا بلغت الجارية تسع سنين فَهِيَّ امرأة.
وفي دخول الصغيرة في مسمى النساء خلاف ذكره الماوردي وغيره من
المفسرين، فكذا ينبغي أن يكون في دخولها في مسمى المرأة.
وقد سلك الشافعي في ((كتاب مختلف الحديث)) هذا المسلك في ترجيح أحاديث الرخصة على أحاديث قطع الصلاة، وعضدها بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ} [الأنعام:164] .
وسلك آخرون مسلكا آخر، وهو: أن الأحاديث إذا تعارضت نظر إلى ما عمل به الصحابة فيرجح، وقد عمل الصحابة بأن الصلاة لا يقطعها شيء، وقد روي ذلك عن الخلفاء الراشدين الأربعة وغيرهم.
وقد سلك هذا أبو داود في ((سننه)) ، وهو من أجل أصحاب الإمام أحمد.
وسلك آخرون مسلكا آخر، وهو: تأويل القطع المذكور في هذه الأحاديث، وانه ليس المراد به إبطال الصلاة وإلزام إعادتها، وإنما المراد به القطع عن إكمالها والخشوع فيها بالاشتغال بها، والالتفات إليها، وهذا هو الذي قاله الشافعي في رواية حرملة، ورجح هذا الخطابي والبيهقي وغيروهما من العلماء.
وقد تعرض عليه بأن المصلي قد يكون أعمى، وقد يكون ذلك ليلا

(4/134)


بحيث لا يشعر به المار ولا من مر عليه، والحديث يعم هذه الأحوال كلها،
وأيضا؛ فقد يكون غير هذه الثلاثة أكثر إشغالا للمصلي كالفيل والزرافة والوحوش والخيل المسومة، ولا يقطع الصلاة مرور شيء من ذلك.
وأقرب من هذا التأويل: أن يقال: لما كان المصلي مشتغلا بمناجاة الله، وهو في غاية القرب منه والخلوة به، أمر المصلي بالاحتراز من دخول الشيطان في هذه الخلوة الخاصة، والقرب الخاص؛ ولذلك شرعت السترة في الصلاة خشية من دخول الشيطان، وكونه وليجة في هذه الحال فيقطع بذلك مواد الأنس والقرب؛ فإن الشيطان رجيم مطرود مبعد عن الحضرة الإلهية، فإذا تخلل في محل القرب الخاص للمصلي أوجب تخلله بعدا وقطعا لمواد الرحمة والقرب والأنس.
فلهذا المعنى - والله اعلم - خصت هذه الثلاث بالاحتراز منها، وهي: المرأة؛ فإن النساء حبائل الشيطان، وإذا خرجت المرأة من بيتها استشرفها الشيطان، وإنما توصل الشيطان إلى إبعاد آدم من دار القرب بالنساء. والكلب الأسود: شيطان، كما نص عليه الحديث. وكذلك الحمار؛ ولهذا يستعاذ بالله عند سماع صوته بالليل، لأنه يرى الشيطان؛ فلهذا أمر - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدنو من السترة خشية أن يقطع الشيطان عليه صلاته، وليس ذلك موجبا لإبطال الصلاة وإعادتها. والله أعلم.
وإنما هو منقص لها، كما نص عليه الصحابة، كعمر وابن مسعود، كما سبق

(4/135)


ذكره في مرور الرجل بين يدي المصلي، وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدفعه وبمقاتلته، وقال: ((إنما هو شيطان)) .
وفي رواية: ((أن معه القرين)) .
لكن النقص الداخل بمرور هذه الحيوانات التي هي بالشيطان أخص أكثر وأكثر، فهذا هو المراد بالقطع، دون الإبطال والإلزام بالإعادة. والله اعلم.
وقد ذكرنا فيما سبق حديث أبي داود في مرور الغلام بتبوك بين يدي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه قال: ((قطع علينا صلاتنا)) ، ودعا عليه، فهذا قطع لا يقتضي البطلان.
ويدل على ذلك - أيضا -: أن ابن عباس قد قال: يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب الأسود والحمار، كما سبق عنه.
وروي عنه إنكار بطلان الصلاة بذلك:
فروى الحسن العرني، قال: ذكر عند ابن عباس: يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة. قال: بئسما عدلتم بامرأة مسلمة كلبا وحمارا، لقد رأيتني أقبلت على حمار ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس، حتى إذا كنت قريبا منه نزلت عنه، وخليت عنه، ودخلت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته، فما أعاد صلاته ولا نهاني عما صنعت، ولقد كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس، فجاءت وليدة تخلل الصفوف، حتى عاذت برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فما أعاد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاته، ولا نهاها عما صنعت، ولقد كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في مسجد، فخرج جدي من بعض حجراته، فذهب يجتاز بين يديه، فمنعه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال ابن عباس: أفلا

(4/136)


تقولون: الجدي يقطع الصلاة؟
خرجه الإمام أحمد.
ومراد ابن عباس، أنه ليس كل ما أمر بدفعه ومنعه من المرور تبطل الصلاة بمروره، ولا يقطعها بمعنى أنه يبطلها، وإن كان قد يسمى قطعا باعتبار أنه ينقصها.
وروى سفيان، عن سماك، عن عكرمة، قال: قيل لابن عباس: أيقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب؟ فقال: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، فما يقطع هذا، ولكن يكره.
خرجه البيهقي.
وقد أشار طائفة من السلف إلى أن الشيطان لا سبيل له إلى قطع قرب المصلي، ولا أن يحول بين المصلي وبين تقريب الله له، واختصاصه بما اختصه به.
قال ابن أبي شيبة: ثنا ابن نمير: ثنا حنظلة، عن القاسم، قال: لا يقطع الصلاة شيء، الله أقرب من كل شيء.
وقال الحكيم الترمذي في ((تفسيره)) : ثنا مؤمل بن هشام اليشكري: ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن ابن عون، عن القاسم بن محمد، قال: لا يقطع الصلاة شيء؛ فإن الله دون كل شيء إلى العبد.
قال الحكيم: يعني: أدنى إليه من كل شيء، كما

(4/137)


قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] .
وحينئذ فيتوجه أن يقال: أن المصلي وجد منه تفريط في حصول مرور الشيطان بين يديه، إما بصلاته في موضع تجتاز فيه المرأة والحمار والكلب من غير سترة، أو مر ذلك وفرط في دفعه ورده، فإنه ينقص أجر صلاته.
وربما يقال: أنه يستحب له إعادتها، كما أعاد ابن عمر صلاته من مرور جرو الكلب.
وكذلك الحكم الغفاري، أعاد من مرور حمار.
وإما إن لَمْ يحصل منه تفريط في ذلك بالكلية، فإنه لا ينقص صلاته، كمن صلى ومر بين يديه رجل فدفعه ولم يندفع، فإنه لا تبطل صلاته، بل ولا تنقص مع إخبار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن المار بين يديه شيطان.
وهو بمنزلة من صلى وهو يدافع وساوس الشيطان، فإنه لا يضره ذلك، ولا يكون به محدثا لنفسه في صلاته، وإنما يكون محدثا لنفسه إذا استرسل مع وساوسه وخواطره.
وقد ألحق طائفة من أصحابنا بمرور الكلب والمرأة والحمار: مرور الشيطان حقيقة، وقالوا: إن حكم مروره حكم مرور الكلب.
وقد صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: ((أن الشيطان تفلت علي البارحة؛ ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه)) .
وقد خرجه البخاري فيما سبق في ((باب: ربط الأسير ونحوه في المسجد)) .
والظاهر: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد بقطع صلاته ما ذكرناه.

(4/138)


وقد خرج البخاري حديث عائشة، قالت: سألت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: ((هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)) .
وفي حديث أبي ذر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يزال الله مقبلا على العبد وهو مقبل عليه في صلاته، ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة في ((صحيحة)) .
وفي حديث الحارث الأشعري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات، أن يعمل بهن، وان يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن)) - فذكر الحديث - وفيه: ((وآمركم بالصلاة؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا)) .
خرجه الإمام أحمد والترمذي وصححه.
والالتفات - أيضا - مما يسرقه الشيطان من صلاة العبد، فتنقص به صلاته.
وقد روي: ((لا صلاة لملتفت)) ، وإنما أريد نفي كمالها وتمامها؛

(4/139)


فإنه يوجب إعراض الله من عبده في تلك الحال.
وكذلك تنخم المصلي أمامه في صلاته يوجب إعراض الله عن عبده المصلي له في حال تقريبه له وخلوته بمناجاته.
فالشيطان يحمل المصلي على هذا كله ليقطع عليه صلاته، بمعنى: أنه ينقص عليه كمالها وفوائدها وثمراتها من خشوعها وحضورها، وما يتنعم به المصلي وتقر به عينه من ذكر الله فيها، ومناجاته بتلاوة كتابه.
وكذلك ما يقذفه الشيطان في قلب المصلي من الوساوس ويذكره به حتى ينسيه كم صلى وقد أمر المصلي حينئذ بان يسجد سجدتين، فتكونا ترغيمتين للشيطان، ولا تبطل الصلاة، ولا تجب إعادتها بشيء من ذلك كله. والله أعلم.
* * *

(4/140)


106 - باب
إذا حمل جارية صغيرة على عنقه

(4/141)


516 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أبي قتادة الأنصاري، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها.
((أمامة)) ، هذه التي حملها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته هي بنت ابنته زينب، وأبوها: أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، وأم أبي العاص: هالة بنت خويلد، أخت خديجة بنت خويلد.
وفي رواية مالك لهذا الحديث: ((أبو العاص بن ربيعة)) ، وكذا رواه عامة رواه ((الموطإ)) عنه.
والصواب: ابن الربيع.

(4/141)


وقد خرجه مسلم، عن يحيى بن يحيى، عن مالك على الصواب.
وأمامة، تزوجها علي بن أبي طالب بعد موت فاطمة عليها السلام.
وقد خرج مسلم هذا الحديث من طريق مالك.
وخرجه - أيضا - من طريق سفيان بن عيينة، عن عثمان بن أبي سليمان وابن عجلان، سمعا عامر بن عبد الله بن الزبير يحدث، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أبي قتادة، قال رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤم الناس وأمامة ابنة أبي العاص - وهي بنت زينب ابنة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها.
ومن طريق ابن وهب: أخبرني مخرمة، عن أبيه، عن عمرو بن سليم الزرقي، قال: سمعت أبا قتادة الأنصاري يقول: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي للناس، وأمامة ابنة أبي العاص على عنقه، فإذا سجد وضعها.

(4/142)


ومن طريق سعيد المقبري، عن عمرو بن سليم، سمع أبا قتادة يقول: بينا نحن في المسجد جلوس، خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنحوه، غير أنه لم يذكر أنه أم الناس في تلك الصلاة.
وخرجه أبو داود من طريق ابن إسحاق، عن المقبري، عن عمرو بن سليم، عن أبي قتادة، قال: بينما نحن ننتظر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال للصلاة، خرج إلينا وأمامة بنت أبي العاص بنت ابنته على عاتقه، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مصلاه، فقمنا خلفه، وهي في مكانها الذي هي فيه، قال: فكبر فكبرنا. قال: حتى إذا أراد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يركع أخذها فوضعها، ثم ركع وسجد حتى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردها في مكانها، فما زال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع بها ذلك في كل ركعة حتى فرغ من صلاته.
وخرج الزبير بن بكار في كتابه ((الجمهرة)) بإسناد له عن عمرو بن سليم
الزرقي، أن الصلاة التي صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يحمل أمامة صلاة الصبح.
وهو مرسل، ضعيف الإسناد.

(4/143)


فمجموع هذه الروايات يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استفتح الصلاة بالناس إماما لهم في صلاة الفريضة، وهو حامل أمامة، وأنه كان إذا ركع وسجد وضعها بالأرض، فإذا قام إلى الركعة الثانية عاد إلى حملها إلى أن فرغ من صلاته.
والحديث نص صريح في جواز مثل هذا العمل في الصلاة المكتوبة، وأن ذلك لا يكره فيها، فضلا عن أن يبطلها.
وقد أخذ بذلك كثير من العلماء أو أكثرهم:
فقال الحسن والنخعي: ترضع المرأة جنينها وهي تصلي.
خرجه الأثرم عنهما بإسناد صحيح.
وروى - أيضا - بإسناد صحيح، عن ابن مسعود، أنه ركع ثم سجد، فسوى الحصى ثم خبطه بيده.
قال الأثرم: وسئل أبو عبد الله - يعني: أحمد - عن الرجل يكبر للصلاة وبين يديه رمح منصوب، فيريد أن يسقط فيأخذه فيركزه مرة أخرى - وقيل له: حكوا عن ابن المبارك أنه أمر رجلا صنع هذا أن يعيد التكبير -؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأس أن لا يعيد التكبير، ثم ذكر حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يصلي الفرض بالناس وأمامة على عاتقه.
قال: وسمعت أبا عبد الله سئل: أيأخذ الرجل ولده وهو يصلي؟ قال: نعم.
قال: وأخبرني محمد بن داود

(4/144)


المصيصي، قال: رأيت أبا عبد الله رأى رجلا قد خرج عن الصف، فرده وهو في الصلاة.
قال: وربما رأيته يسوي نعليه برجليه في الصلاة.
وقال الجوزجاني في كتابه ((المترجم)) : حدثني إسماعيل بن سعيد، قال: سألت أحمد بن حنبل عمن حمل صبيا ووضعه في صلاته، كما فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: صلاته جائزة.
قلت له: فمن فعل في صلاته فعلا كفعل أبي برزة حين مشى إلى الدابة، فأخذها حين انفلتت منه، وهو في صلاته؟ فقال: صلاته جائزة.
وبه قال أبو أيوب - يعني: سليمان بن داود الهاشمي - وأبو خيثمة.
وقال ابن أبي شيبة: من فعل ذلك على ما جاء عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجونا أن تكون صلاته تامة.
قال: ويجزئ عمن فعل كفعل أبي برزة في صلاته.
قال الجوزجاني: وأقول: إن اتباع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نجاة لا رجاء، وإنما الرجاء في اتباع غيره فيما لم يكن عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ثم خرج حديث أبي قتادة في حمل أمامة بإسناده.
ومراده: الإنكار على ابن أبي شيبة في قوله: ((أرجو)) ، وأن مثل هذا لا ينبغي أن يكون فيه رجاء؛ فإنه اتباع لسنة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك نجاة وفلاح.
وحديث أبي برزة في اتباع فرسه وأخذها في صلاته، قد خرجه

(4/145)


البخاري، وسيأتي في موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وحكى ابن المنذر عن الشافعي وأبي ثور جواز حمل الصبي في الصلاة المفروضة.
وإذا عرفت هذا تبين لك ضعف ما قاله ابن عبد البر: أنه لا نعلم خلافا أن هذا العمل في الصلاة مكروه، ولم يحك كراهته عن أحد إلا عن مالك، فإنه قال: ذكر أشهب عن مالك، أن ذلك من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة النافلة، وان مثل هذا الفعل غير جائز في الفريضة، وحكى عن بعض أهل العلم أنه لا يحب لأحد فعل ذلك في صلاته، ولا يرى عليه إعادة به.
وقد تبين أن أكثر العلماء أجازوه من غير كراهة، وتخصيصه بالنافلة مرود بالنصوص المصرحة بأنه فعل ذلك في الفريضة، وهو يؤم الناس فيها.
وروى الإسماعيلي في ((صحيحه)) من حديث عبد الله بن يوسف، عن مالك، أنه قال - بعد روايته هذا الحديث -: من حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناسخ ومنسوخ، وليس العمل على هذا.
ومالك إنما يشير إلى عمل من لقيه من فقهاء أهل المدينة خاصة كربيعة ونحوه، وقد عمل به فقهاء أهل العراق كالحسن والنخعي، وفقهاء أهل الحديث،

(4/146)


ويتعذر على من يدعي نسخه الإتيان بنص ناسخ له.
وقد رخص عطاء في ذلك - أيضا -:
قال عبد الرزاق: عن ابن جريج، قلت لعطاء: أمرآة يبكي ابنها وهي في الصلاة أتتوركه: قال: نعم: قد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأخذ حسنا في الصلاة فيحمله حتى إذا سجد وضعه. قلت: في المكتوبة؟ قال: لا أدري.
وقال حرب الكرماني: ثنا محمد بن يحيى، ثنا عمر بن علي: ثنا عبد الملك ابن أبي سليمان، عن عطاء في الرجل يصلي ومعه المتاع بين يديه، فيتقدم الصف أو يتأخر فيحني ظهره، فيقدم متاعه أو يؤخره؟ قال: لا بأس به.
قال حرب: قلت لأحمد: الرجل يكون في الصلاة فيسقط رداؤه عن ظهره، أيحمله؟ قال: أرجو أن لا يضيق ذلك. قلت: فيفتح الباب بحيال القبلة؟ قال: في التطوع.
قال حرب: وثنا المسيب بن واضح، قال: سمعت ابن المبارك سئل عن الرجل يكون معه الثوب أو غيره، فيضعه بين يديه في الصلاة، فيتقدم الصفوف، أو يتأخر فيتناول ذلك الشيء، ويتقدم ويتأخر؟ قال: لا بأس بذلك. قيل: وما وقت ما يمشي المصلي في صلاته؟ قال: ما لا يخرج إلى حد المشي.
وقال الخطابي: في هذا الحديث من الفقه أن من صلى وعلى ظهره أو عاتقه كارة أو نحوها لم تبطل صلاته، ما لم يحتج لإمساكه إلى

(4/147)


عمل كثير، أو التزام له ببعض أعضائه.
قال: ويشبه أن يكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتعمد لحملها؛ لأن ذلك يشغله عن صلاته وعن الخشوع فيها، وأنها كانت إذا سجد جاءت فتعلقت بأطرافه والتزمته، فينهض من سجوده فيخليها وشأنها، فتبقى محمولة كذلك إلى أن يركع، فيرسلها إلى الأرض، حتى إذا سجد وأراد النهوض عاد إلى مثله.
قلت: هذا تبطله الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه خرج على الناس وهو حاملها، ثم صلى لهم وهو حاملها.
وفي حديث أبي قتادة: دليل على أن حمل الجارية الصغيرة في الصلاة ووضعها ليس بمبطل للصلاة، ولا هو بداخل فيما يبطل الصلاة من مرور المرأة بين يدي المصلي؛ فإن هذا ليس بمرور، وأكثر ما فيه أنه كان يضعها بين يديه، وليس هذا بأكثر من صلاته إلى عائشة وهي معترضة بين يديه، بل هذا أهون؛ لأن ذلك لم يكن يستمر في جميع صلاته. وأيضا؛ فهذه صغيرة لَمْ تكن بلغت حينئذ.
وقد سبق فِي حَدِيْث أن زَيْنَب بِنْت أم سَلَمَة مرت بَيْن يدي النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ
يصلي، فلم يقطع صلاته، وكانت زينب حينئذ صغيرة، وأن المرأة إذا أطلقت لم يرد بها إلا المرأة البالغ.
وهذا هو المعنى الذي بوب البخاري عليه هنا،

(4/148)


وخرج الحديث لأجله.
وفيه - أيضا -: دليل على طهارة ثياب الأطفال؛ فإنه لو كان محكوما بنجاستها لم يصل وهو حامل لأمامة.
وقد نص الشافعي وغيره على طهارتها، ومن أصحاب الشافعي من حكى لهم قولين في ذلك.
ومنع ابن أبي موسى من أصحابنا من الصلاة في ثيابهم حتى تغسل؛ لأنهم لا يتنزهون من البول.
وروى أبو النعيم الفضل بن دكين في ((كتاب الصلاة)) : ثنا مندل: ثنا إسماعيل بن مسلم، عن الحارث العكلي، عن إبراهيم النخعي، قال: كانوا يكرهون أن يصلوا في ثياب الصبيان.
إسناد ضعيف.
وقد كره الصلاة في ثيابهم كثير من أصحابنا، وحكي مثله عن الحسن، ورخص فيه آخرون، وهو اختيار بعض أصحابنا، وهذا أصح، وهذا الحديث نص في ذلك. والله سبحانه وتعالى اعلم.

(4/149)


107 - باب
إذا صلى إلى فراش فيه حائض

(4/150)


517 - حدثنا عمرو بن زرارة: أبنا هشيم، عن الشيباني: عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: أخبرتني خالتي ميمونة بنت الحارث، قالت: كان فراشي حيال مصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فربما وقع ثوبه علي وأنا على فراشي.

(4/150)


518 - حدثنا أبو النعمان: ثنا عبد الواحد بن زياد: أبنا الشيباني: ثنا عبد الله بن شداد، قال: سمعت ميمونة تقول: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وأنا إلى جنبه نائمة، فإذا سجد أصابني ثوبه، وأنا حائض.
ليس في الرواية الأولى أنها كانت حائضا، وهو في الرواية الثانية.
وقد خرجه البخاري في آخر ((كتاب الحيض)) بلفظ ثالث، وهو: عن

(4/150)


ميمونة: أنها كانت تكون حائضا لا تصلي، وهي مفترشة بحذاء مسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يصلي على خمرته، إذا سجد أصابني بعض ثوبه.
وخرجه - أيضا - فيما سبق في ((أبواب الصلاة في الثياب)) ، في ((باب: إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد)) ، ولفظه فيه: قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وأنا حذاءه، وأنا حائض، وربما أصابني ثوبه إذا سجد.
وقد تبين بالرواية الثانية التي خرجها البخاري في هذا الباب، أنها كانت نائمة إلى جانبه وهو يصلي، ولم تكن مضطجعة بين يديه.
وقد روي من حديث عائشة، أنها كانت تضطجع أمامه وهي حائض، فيصلي إليها.
خرجه أبو داود من رواية شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن عروة، عن عائشة، قالت: كنت بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين القبلة - قال شعبة: وأحسبها قالت -: وأنا حائض.
قال أبو داود: رواه الزهري وعطاء وأبو بكر بن حفص وهشام

(4/151)


بن عروة وأبو مالك وأبو الأسود وتميم بن سلمة، كلهم عن عروة، عن عائشة. لم يذكروا فيه: ((وأنا حائض)) . ورواه إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - وأبو الضحى، عن مسروق، عن عائشة - والقاسم، وأبو سلمة، عن عائشة -، ولم يذكروا: حائض.
وقد روي عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل، وأنا إلى جنبه، وأنا حائض.
خرجه مسلم من طريق طلحة بن يحيى، عن عبيد الله بن عبد الله، قال: سمعته عن عائشة.
وقد سبق الكلام على ما يتعلق بحديث ميمونة من طهارة الحائض وثيابها.
والمقصود هنا منه: أن الصلاة إليها لا تبطل الصلاة.
ولكن لم يخرج البخاري لفظا صريحا في الصلاة إلى فراش الحائض، بل في إحدى روايتيه: أنها كانت نائمة إلى جانبه، وفي الثانية أن فراشها كان حيال مصلاه، والمراد: أنه كان محاذيا له ومقابلا، وهذا يصدق بكونه إلى جانبه، عَن يمينه أوشماله، ويشهد لذلك: قولها في تمام الحديث: ((فربما وقع ثوبه علي وأنا على

(4/152)


فراشي)) ، وهذا إنما يكون إذا كانت إلى جانبه، أما لو كانت بين يديه فمن أين كان يقع بعض ثيابه عليها؟
وبكل حال؛ فالصلاة إلى المرأة الحائض كالصلاة إلى الطاهر، إلا عند من يرى أن مرور الحائض يقطع الصلاة دون الطاهر، وأن وقوف المرأة واضطجاعها في قبلة المصلي كمرورها فيها.
وقد سبق ذلك كله، وسبق الكلام - أيضا - على التطوع خلف المرأة في بابه.
ولو كان بين يدي المصلي كافر قاعدا أو مضطجعا، فرخص الحسن في الصلاة إليه، وكرهه الإمام أحمد، وقال: هو نجس، وحكي مثله عن إسحاق.

(4/153)


108 - باب
هل يغمز الرجل امرأته عند السجود لكي يسجد؟

(4/154)


519 - حدثنا عمرو بن علي: ثنا يحيى: ثنا عبيد الله: ثنا القاسم، عن عائشة، قالت: بئسما عدلتمونا بالكلب والحمار؛ لقد رأيتني ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة، فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فقبضتهما.
وقد تقدم هذا الحديث في ((باب: التطوع خلف المرأة)) من رواية أبي سلمة، عن عائشة، أنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما. قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح.
فدل على أن غمزها عند السجود كان لضيق المكان حيث كانت قدماها في موضع سجوده، فكان يغمزها لتكف قدميها فيسجد في موضعهما، وكان ذلك في سواد الليل وظلمته، فلم يكن يدرك التنبيه منه بإشارة ونحوها، فلذلك احتاج إلى غمزها.
ولم يجئ في حديثها هذا: بأي شيء كان يغمزها.
وقد روي في حديث آخر، أنه كان إذا أراد أن يوتر غمزها برجله.
وفي رواية: مسها برجله. ويأتي في موضعه - أن شاء الله تعالى.
واستدل بالحديث على

(4/154)


أن مس النساء بغير شهوة لا ينقض الطهارة، كما هو قول مالك وأحمد في ظاهر مذهبه. ومن يقول: إن المس لا ينقض بكل حال، كما يقول أبو حنيفة وأحمد في رواية عنه.

(4/155)


109 - باب
المرأة تطرح عن المصلي شيئا من الأذى

(4/156)


520 - حدثنا أحمد بن إسحاق: ثنا عبيد الله بن موسى: ثنا إسرائيل: عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، قال: بينما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائم يصلي عند الكعبة، وجمع قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي، أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضعه بين كتفيه، وثبت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساجدا، فضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة - وهي جويرية -، فأقبلت تسعى، وثبت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساجدا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة قال: ((اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش)) ، ثم سمى: ((اللهم

(4/156)


عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة ابن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد)) .
قال عبد الله: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب: قليب بدر.
ثم قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وأتبع أصحاب القليب لعنة)) .
قد سبق هذا الحديث بتمامه في أواخر ((الوضوء)) في ((باب: إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته)) .
وخرجه هناك من طريق شعبة ويوسف بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، ببعض زيادة في متنه ونقص، وفيه: ((وعد السابع فلم نحفظه)) .
وفي هذه الرواية: أن السابع عمارة بن الوليد.
والمعروف في السير: أن عمارة بن الوليد مات في جزيرة في أرض الحبشة في يد ابن عمه عبد الله بن أبي ربيعة، وكان النجاشي قد أمر به فنفخ في إحليله سحر، فذهب مع الوحش، ولم يقدر عليه حتى أمسكه عبد الله بن أبي ربيعة، فجعل يقول: أرسلني، فلم يرسله فمات في يده.
وفي هذه الرواية - مع الرواية التي خرجها في الطهارة -: ذكر عقبة بن أبي معيط، وقد روي أن عقبة أسر يوم بدر، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتله

(4/157)


صبرا بين يديه، وصلبه بالصفراء في مرجعهم إلى المدينة.
وخرجه - أيضا - في ((مبعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) ، من طريق شعبة، عن أبي إسحاق - مختصرا، وفي سياقه: أن عقبة بن أبي معيط هو الذي جاء بسلى الجزور، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((اللهم عليك الملأ من قريش: أبا جهل بن هشام، وعقبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف)) - أو ((أبي بن خلف)) ، شعبة الشاك -، فرأيتهم قتلوا يوم بدر، فألقوا في بئر، غير أمية - أو أبي - تقطعت أوصاله، فلم يلق في البئر.
وذكر أبي بن خلف وهم - أيضا -؛ فإن أبي بن خلف إنما قتل يوم أحد، ومات بعد الوقعة، كما روى ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، قال: أسر أبي بن خلف يوم بدر، فلما افتدى من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن عندي فرسا أعلفها كل يوم من ذرة، لعلي أقتلك عليها، فقال له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((بل أنا أقتلك عليها، إن شاء الله)) . فلما كان يوم أحد أقبل أبي ابن خلف تركض فرسه تلك، حتى دنا من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاعترض رجال من المسلمين له ليقتلوه، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((استأخروا، استاخروا)) ، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحربة في يده، فرمى بها أبي بن خلف، فكسرت ضلعا من أضلاعه، فرجع إلى أصحابه ثقيلا، فاحتملوه حتى ولوا به، وطفقوا يقولون له: لا بأس، فقال أبي: ألم يقل لي: ((بل أنا أقتلك، إن شاء الله)) ، فانطلق به

(4/158)


أصحابه، فمات ببعض الطريق، فدفنوه.
قال سعيد بن المسيب: وفيه أنزل الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] .
وفي هذا الحديث: أنواع من معجزات النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإجابة دعوته، وتعجيل عقوبة من أذاه، وأن العقوبة من جنس الذنب، بأن هؤلاء تواطؤا على وضع فرث الجزور على ظهره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السجود، فما مضى إلا يسير حتى قتلوا وسحبوا إلى القليب في يوم شديد الحر، وخرج فرث كل منهم وحشوته من بطنه، وكان ذلك جزاء وفاقا.
والمقصود من تخريج هذا الحديث في هذا الباب: أن المصلي يجوز أن تدنو منه المرأة في صلاته، وتزيل عنه الأذى، ولا يقدح ذلك في صلاته.
والظاهر: أن فاطمة عليها السلام إنما جاءت من ورائه، فطرحت عنه ما طرحوا عليه، وكانت إذا ذاك جويرية صغيرة، كما صرح به في الحديث.
وقد سبق الكلام على حكم النجاسة إذا أصابت المصلي في صلاته، ثم أزيلت عنه في ((الطهارة)) ، وعلى حكم تكرار الدعاء ثلاثا في ((كتاب العلم)) .
والله سبحانه وتعالى أعلم.

(4/159)