فتح الباري لابن
رجب 10 - كتاب
الآذان
بسم الله الرحمن الرحيم
1 - باب
بدء الأذان
وقول الله عز وجل: {وَإذا نَادَيْتُمْ إلى الصَّلاةِ
اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ
لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58] . وقول تعالى: {إذا نُودِي
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ
اللَّهِ} [الجمعة: 9] .
يشير إلى أن الأذان مذكور في القرآن في هاتين الآيتين:
الأولى منهما: تشتمل النداء إلى جميع الصلوات؛ فإن الأفعال
نكرات، والنكرة في سياق الشرط تعم كل صلاة.
والثانية منهما: تختص بالنداء إلى صلاة الجمعة.
وقد روى عبد العزيز بن عمران، عن إبراهيم بن أبي حبيبة، عن
(5/177)
داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس،
قال: الأذان نزل على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مع فرض الصلاة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا نُودِي لِلصَّلاةِ
مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ} .
هذا إسناد ساقط لا يصح.
وهذه الآية مدنية، والصلاة فرضت بمكة، ولم يصح أن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بمكة جمعة. وقوله:
{وَإذا نَادَيْتُمْ إلى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا}
[المائدة: 58] مدنية - أيضا -، ولم يؤذن للصلاة بمكة.
والحديث الذي روي أن جبريل لما أم النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أول ما فرضت الصلاة أمره أن يؤذن
بالصلاة، قد جاء مفسراً في رواية أخرى، أنه يؤذن: الصلاة
جامعة.
وقد سبق ذكره في أول " كتاب الصلاة".
وقد روي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ليلة أسري خرج ملك من وراء الحجاب فأذن، فحدثه ربه عز وجل
والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسمع ذلك، ثم
أخذ الملك بيد محمد فقدمه فأم أهل السماء، منهم آدم ونوح.
قال أبو جعفر محمد بن علي: فيومئذ أكمل الله لمحمد -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشرف على أهل السماء
وأهل الأرض.
وقد خرجه البزار والهيثم بن كليب في " مسنديهما" بسياق
مطول من طريق زياد بن المنذر أبي الجارود، عن محمد بن علي
بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن علي.
(5/178)
وهو حديث لا يصح.
وزياد بن المنذر أبو الجارود الكوفي، قال فيه الإمام أحمد:
متروك. وقال ابن معين: كذاب عدو الله، لا يساوي فلساً.
وقال ابن حبان: كان رافضياً يضع الحديث.
وروى طلحة بن زيد الرقي، عن يونس، عن الزهري، عن سالم، عن
أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما
أسري به إلى السماء أوحى الله إليه الأذان، فنزل به، فعلمه
جبريل.
خرجه الطبراني.
وهو موضوع بهذا الإسناد بغير شك.
وطلحة هذا، كذاب مشهور.
ونبهنا على ذلك لئلا يغتر بشيء منه.
وإنما شرع الأذان بعد هجرة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إلى المدينة، والأحاديث الصحيحة كلها تدل على
ذلك.
والأذان له فوائد:
منها: أنه إعلام بوقت الصلاة أو فعلها.
ومن هذا الوجه هو إخبار بالوقت أو الفعل. ولهذا كان المؤذن
مؤتمنا.
ومنها: أنه إعلام للغائبين عن المسجد؛ فلهذا شرع فيه رفع
الصوت، وسمي نداءً؛ فإن النداء هو الصوت الرفيع.
ولهذا المعنى قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لعبد الله بن زيد: " قم فألقه على بلال؛ فإنه أندي صوتاً
منك".
(5/179)
ومنها: أنه دعاء إلى الصلاة؛ فإنه معنى
قوله: " حي على الصلاة، حي على الفلاح".
وقد قيل: إن قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ
دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33] الآية:
نزلت في المؤذنين، روي عن طائفة من الصحابة.
وقيل في قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إلى
السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43] : إنها الصلوات
الخمس حين ينادي بها.
ومنها: أنه إعلان بشرائع الإسلام من التوحيد والتكبير
والتهليل والشهادة بالوحدانية والرسالة.
خرج البخاري في هذا الباب حديثين:
الحديث [الأول] :
قال:
(5/180)
603 - ثنا عمران بن ميسرة: ثنا عبد الوارث:
ثنا خالد، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: ذكروا النار
والناقوس، فذكروا اليهود والنصارى، فأمر بلال أن يشفع
الأذان ويوتر الإقامة.
وخرجه البخاري في الباب الآتي، بلفظ آخر، وهو: " قال: لما
كثر
(5/180)
الناس وانتشروا في المدينة. قال: ذكروا أن
يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن يوروا ناراً أو
يضربوا ناقوساً، فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة".
وخرجه مسلم - أيضا.
وهذا يدل على أن الأذان تأخر عن أول قدوم النبي ? - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة حتى كثر الناس
وانتشروا في المدينة ومن حولها، واحتاجوا حينئذ إلى تعليم
وقت الصلاة بشيء يعرفونه معرفة تامة.
وقوله في هذه الرواية: " فذكروا اليهود والنصارى" - يعني:
أنهم كرهوا النار والناقوس؛ لمشابهة اليهود والنصارى في
أفعالهم.
ولا يعرف ذكر " النار" إلا في هذه الرواية، وإنما في أكثر
الأحاديث ذكر الناقوس والبوق، وفي بعضها ذكر راية تنصب
ليراها الناس.
وقد روي من حديث خالد، عن أبي قلابة ذكر الناقوس والبوق -
أيضا.
خرجها ابن خزيمة في " صحيحه" والطبراني من رواية روح بن
عطاء بن أبي ميمونة، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن
أنس، قال: كانت الصلاة إذا حضرت على عهد النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعى رجل إلى
(5/181)
الطريق، فنادى: الصلاة الصلاة، فاشتد ذلك
على الناس، فقالوا: لو اتخذنا ناقوساً يا رسول الله؟ قال:
" ذلك للنصارى". قالوا: فلو اتخذنا بوقاً؟ قال: " ذلك
لليهود". فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة.
وقال الطبراني: لم يروه - بهذا التمام - عن خالد إلا روح.
انتهى.
وروح، متكلم فيه.
وفي حديث عبد الله بن زيد، أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالناقوس يعمل ليضرب به للناس
لجمع الصلاة.
خرجه أبو داود وغيره.
ويعضده: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان
يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء.
وفي رواية إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق لحديث عبد الله بن
زيد، قال: لما أجمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن يضرب بالناقوس لجمع الناس للصلاة، وهو كاره
لموافقة النصارى.
وهذا يدل على أن الناس قد اجتمعوا على ذلك، ووافقهم -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع كراهته له.
(5/182)
وقوله: " فأمر بلال" لا يشك أن الآمر له هو
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما صرح
به ابن عمر في حديثه الآتي.
قال الخطأبي: الأذان شريعة من الشرائع، والأمر المضاف إلى
الشريعة في زمان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لا يضاف إلى غيره. قال: ومن زعم ان الآمر لبلال به أبو
بكر فقد غلط؛ لأن بلالاً لم يقم بالمدينة بعد موت النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما لحق بالشام أيام
أبي بكر. أنتهى.
ولقد أبطل من زعم أن أمر بلال بالأذان تأخر إلى زمن أبي
بكر، وأن مدة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
خلت عن أذان، وهذا لا يقوله من يعقل ما يقول.
ولعل هذا الزاعم إنما زعم أن أبا بكر أمر بابتار الإقامة
بعد أن كانت على غير ذلك في زمن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهذا في غاية البطلان - أيضا -، وإنما يحمل عليه الهوى
والتعصب، وكيف يغير أبو بكر بعد موت النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شريعته في إقامة الصلاة ويقره الناس
على ذلك؟
والحديث صريح في أن أمر بلال بذلك كان في أول أمر الأذان،
حيث كانوا يترددون فيما يحصل به إعلام الناس بوقت الصلاة،
فيحنئذ أمر بلال بأن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، لا يحتمل
الكلام غير هذا المعنى. والله اعلم.
(5/183)
وقد خرج النسائي هذا الحديث من رواية عبد
الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، أن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلالاً أن يشفع
الأذان ويوتر الإقامة.
ونقل عباس الدوري، عن ابن معين، قال: لم يرفعه إلا الثقفي.
وقد خرجه الدارقطني من طرق أخرى مصرحاً برفعه - أيضا - كما
رواه الثقفي.
(5/184)
الحديث الثاني:
(5/185)
604 - ثنا محمود بن غيلان: ثنا عبد الرزاق:
ثنا ابن جريج: أخبرني نافع أن ابن عمر كان يقول: كان
المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة، ليس
ينادى لها، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا
ناقوساً مثل ناقوس النصارى. وقال بعضهم: بل بوقاً مثل قرن
اليهود. فقال عمر: أولا تبعثون رجلاً منكم ينادي بالصلاة؟
فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا
بلال، قم فناد بالصلاة".
وخرجه مسلم من طريق عبد الرزاق وحجاج، كلاهما عن ابن جريج
به، بنحوه.
والحديث صريح في أن المسلمين اول ما قدموا المدينة ورسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معهم لم يكونوا
ينادون للصلاة، وإنما كانوا أولاً يتحينون الصلاة - يعني:
يقدرون احيانها لياتوا إليها - والحين: الوقت والزمان -،
ثم إنهم تشاوروا في ذلك وتكلموا فيه لما شق عليهم التحين،
فربما كان منهم من يتقدم قبل الوقت، فيفوته ما كان يعمل،
ومنهم من كان يتأخر فتفوته الصلاة.
وقد روى فليح، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن
ابن أبي ليلى، عن معاذ، أن الناس كانوا يتحينون وقت
الصلاة، فيصلون
(5/185)
بغير أذان، فإذا حضرت الصلاة فمنهم من
يدرك، وأكثرهم لا يدرك، فهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ذلك - وذكر حديث عبد الله بن زيد بطوله -،
فلما أهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وأصحابه ذلك اجتمعوا فتشاوروا في امر يعلمون به وقت الصلاة
ويجتمعون عليه في المسجد.
وفي هذا: دليل على استحباب التشاور في مصالح الدين
والاهتمام بها، فلما تشاوروا أشار بعضهم بالناقوس كفعل
النصارى، وأشار بعضهم بالبوق كفعل اليهود، فقال عمر: أولا
تبعثون رجلا ينادي بالصلاة.
وهذا من إلهام عمر للحق ونطقه به، وقد كان كثيراً ما ينطق
بالشيء فينزل الوحي بموافقته، وهذا مما نزل القرآن بتصويب
قوله.
وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا
بلال، قم فناد بالصلاة" يدل على ان النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل ما أشار به عمر دون غيره.
وأمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنداء
بالصلاة، يحتمل انه أمره أن ينادي في الطرقات: " الصلاة،
الصلاة" كما تقدم في الحديث الذي خرجه ابن خزيمة، ويكون
(5/186)
ذلك قبل ان يشرع الأذان. ويحتمل أنه أمره
بالأذان، وهو اظهر.
ويحتمل أن عمر إنما أشار بذلك بعد أن رآه في منامه، ويدل
عليه ما روي عن عمر، وعن ابن عمر –أيضا -:
أماالمروي عن عمر، فمن طريق سفيان بن وكيع: ابنا عبد الله
بن رجاء، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عمر،
قال: ائتمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وأصحابه حين قدموا المدينة: كيف يجعلون الأذان بالصلاة
يجتمعون لها؟ فائتمروا بالناقوس. قال عمر: فرايت في
المنام: لم تجعلون الناقوس بل أذنوا. فذهب عمر إلى النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليخبره بالذي رأى، وقد
جاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوحي
بذلك، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"سبقك الوحي بذلك يا عمر". قال: فذهبت إلى الصلاة، فإذا
بلال يهتف بالأذان.
خرجه الإسماعيلي في " مسند عمر".
وسفيان بن وكيع، فيه ضعف.
وهو مرسل.
وخرجه ابو داود في " المراسيل": ثنا أحمد بن إبراهيم: ثنا
حجاج، عن ابن جريج: أخبرني عطاء، أنه سمع عبيد بن عمير
يقول: ائتمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو
وأصحابه، كيف يجعلون شيئاً إذا أرادوا جمع الصلاة اجتمعوا
لها [به] ، فائتمروا بالناقوس، فبينما عمر يريد أن يبتاع
خشبتين لناقوس إذ رأى عمر في المنام أن لا تجعلوا الناقوس،
بل أذنوا بالصلاة، فذهب عمر إلى النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليخبره بالذي رأى، وقد جاء الوحي
بذلك، فما راع عمر إلا بلال يؤذن، فقال النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " سبقك بذلك الوحي"، حين
(5/187)
أخبره عمر بذلك.
وقد روى مالك في " الموطا" عن يحيى بن سعيد، قال: كان
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أراد أن
يتخذ خشبتين يضربهما ليجمع الناس للصلاة، فأري عبد الله بن
زيد خشبتين في النوم، فقال: إن هاتين الخشبتين لنحو مما
يريده رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فقيل: ألا تؤذنون للصلاة، فأتى رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين استيقظ، فذكر ذلك له، فأمر رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[بالآذان] .
وأماالمروي عن ابن عمر، فمن طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن
الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: إن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استشار الناس لما يهمهم للصلاة،
فذكروا البوق، فكرهه من أجل اليهود. ثم ذكروا الناقوس،
فكرهه من أجل النصارى، فأري النداء تلك الليلة رجل من
الأنصار - يقال له: عبد الله ابن زيد - وعمر بن الخطاب،
فطرق الانصاري رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -[ليلاً، فأمر رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] بلالاً فاذن به.
قال الزهري: وزاد بلال في نداء الغداة: " الصلاة خير من
النوم" - مرتين -، فأقرها رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال عمر: يا رسول الله؛ قد رأيت مثل الذي رأى، ولكنه
سبقني.
خرجه ابن ماجه.
(5/188)
وخرجه ابن سعد من طريق مسلم بن خالد: حدثني
عبد الرحيم بن عمر، عن ابن شهاب - بإسناده، ومعناه.
وفي كون هذا الحديث محفوظاً عن الزهري بهذا الإسناد نظر؛
فإن المعروف: رواية الزهري، عن ابن المسيب - مرسلاً.
وروي عن الزهري، عن ابن المسيب، عن عبد الله بن زيد.
وحديث عبد الله بن زيد، قد روي من وجوه:
أحدها: رواية ابن إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، عن
محمد بن عبد الله بن زيد، عن أبيه - بسياق مطول -، وفيه:
أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما امر
بعمل الناقوس طاف بعبد الله وهو نائم رجل يحمل ناقوساً،
فقال له: يا عبد الله، أتبيع الناقوس؟ قال: فما تصنع به؟
قال: ندعوا به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟
قال: بلى، قال: تقول:
" الله أكبر"، فعلمه الأذان مثنى مثنى، والإقامة مرة مرة.
فما اصبح اتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فأخبره، فقال له: " الرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال
فألق عليه ما رأيت؛ فإنه أندى صوتاً منك". قال: فقمت مع
بلال فجعلت ألقيه عليه، وبلال يؤذن به. قال: فسمع ذلك عمر
بن الخطاب وهو في بيته، فخرج يجر رداءه، ويقول: والذي بعثك
بالحق يا رسول الله، لقد رأيت مثل ما رأى. فقال رسول الله
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فلله الحمد".
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي، وصححه،
وابن خريمة وابن حبان في " صحيحهما".
وحكى البيهقي أن الترمذي حكى في " علله" عن البخاري، أنه
قال: هو عندي صحيح.
(5/189)
وبه استدل الإمام أحمد، وعليه اعتمد.
وقال الخطأبي: قد روي هذا الحديث والقصة باسانيد مختلفة،
وهذا الإسناد أصحها.
وحكى ابن خزيمة عن محمد بن يحيى الذهلي، أنه قال: ليس في
أخبار عبد الله بن زيد في قصة الأذان خبر اصح من هذا؛ لأن
محمد بن عبد الله سمعه من أبيه.
قال ابن خزيمة: خبر ابن إسحاق ثابت صحيح؛ لأن محمد بن عبد
الله بن زيد سمعه من أبيه، وابن إسحاق سمعه من التيمي.
(5/190)
كذا قال؛ وقد توقف البخاري في " تاريخه" في
سماع محمد بن عبد الله ابن زيد من أبيه، فقال: عبد الله بن
محمد بن عبد الله بن زيد، عن أبيه، عن جده، لم يذكر سماع
بعضهم من بعض.
قال الحاكم: إنما ترك الشيخان حديث عبد الله بن زيد بهذا
الإسناد؛ لتقدم موت عبد الله بن زيد، فقد قيل: إنه [استشهد
بأحد] . وقيل: بعد ذلك بيسير. انتهى.
وعلى هذا؛ فجميع الروايات عنه مرسلة.
وخرج أبو داود من حديث أبي عمير بن أنس، عن عمومة له من
الأنصار، قالوا: اهتم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - للصلاة كيف يجمع لها الناس؟ فقيل له: انصب
راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها أخبر بعضهم بعضاً، فلم
يعجبه - وذكر الحديث بطوله، ورؤيا عبد الله بن زيد الأذان
في منامه - قال: وكان عمر ابن الخطاب قد رآه قبل ذلك،
فكتمه عشرين يوماً - وذكر بقية الحديث.
وخرج – أيضا - من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت
(5/191)
ابن أبي ليلى يقول: ثنا أصحابنا، أن رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لقد أعجبني
ان تكون صلاة المسلمين واحدة، حتى لقد هممت أن أبث رجالاً
في الدور، ينادون الناس بحين الصلاة، وحتى هممت أن آمر
رجالاً يقومون على الآكام، ينادون المسلمين بحين الصلاة.
قال: فجاء رجل من الانصار، فقال: يا رسول الله، إني لما
رجعت لما رأيت من اهتمامك رأيت رجلا كان عليه ثوبان
أخضران، فقام على المسجد فأذن، ثم قعد قعدةً، ثم قام فقال
مثلها، إلا أنه يقول: " قد قامت الصلاة"، ولولا أن يقولوا
لقلت إني كنت يقظاناً غير نائم. فقال رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لقد أراد الله خيراً، فمر
بلالاً فيؤذن". قال: فقال عمر: إني قد رأيت مثل ما رأى،
ولكني لما سبقت استحييت.
وخرجه - أيضا - من طريق المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن ابن
أبي ليلى، عن معاذ - فذكره.
ورواه حصين وغيره، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى، عن
عبد الله ابن زيد.
وابن أبي ليلى، لم يسمع من معاذ، ولا من عبد الله بن زيد،
فروايته عنهما منقطعة.
ورواية شعبة أصح.
وتابعه الأعمش، فرواه عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن
أبي ليلى: ثنا أصحاب محمد، أن عبد الله بن زيد رأى الأذان
في المنام - فذكره.
وهذا إسناد جيد متصل، وعدم تسمية الصحابة لا
(5/192)
يضر؛ فإنهم كلهم عدول - رضي الله عنهم.
لكن اختلف على الأعمش، وروي عنه، عن عمرو، عن ابن أبي ليلى
- مرسلاً.
وقال العقيلي: الرواية في هذا الباب فيها لين، وبعضها أفضل
من بعض.
يشير إلى حديث عبد الله بن زيد ورؤية الأذان في منامه.
وعبد الله بن زيد هذا، هو: ابن عبد ربه الأنصاري، من
الخزوج.
قال الترمذي: لا يصح له غير حديث الأذان.
وزعم ابن عيينة أنه صاحب " حديث الوضوء" عبد الله بن زيد
بن عاصم المازني، أنصاري من بني النجار، وهو عم عباد بن
تميم.
وله أحاديث متعددة مرسلة، منها: عن معمر، عن الزهري، عن
ابن المسيب، قالوا:
(5/193)
كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قبل أن يؤمر بالأذان ينادي منادي النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الصلاة جامعة، فيجتمع
الناس، فلما صرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان، وكان
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد أهمه
أمر الأذان، وأنهم ذكروا أشياء يجمعون بها الناس للصلاة -
وذكر بقية الحديث، ورؤيا عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب
-، ثم قال: قالوا: [وأذن بالأذان وبقي مناد في الناس: "
الصلاة جامعة"، للأمر بحديث] ، وإن كان في غير وقت صلاة.
ففي هذه الرواية: أن الأذان كان بعد صرف القبلة إلى
الكعبة، وكان صرف القبلة إلى الكعبة في السنة الثانية.
وقد روي ما يستدل به على أن الأذان إنما شرع بعد غزوة بدر
بعد صرف القبلة بيسير.
ففي " المسند" وغيره عن حارثة بن مضرب، عن علي، قال: لما
كان ليلة بدر وطلع الفجر نادى: " الصلاة عباد الله "، فجاء
الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد روى وكيع في " كتابه" عن هشام، عن قتادة، عن سعيد بن
المسيب، قال: كان بدء الأذان إذا حضرت الصلاة نودي: "
الصلاة الجامعة"، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: " لو اتخذتم ناقوساً أو كبراً" - الكبر -
بفتحتين -: الطبل ذو الرأسين. وقيل: الطبل الذي له وجه
واحد - فرأى ابن زيد في المنام رجلاً في يده عود، قال: ما
تصنع به؟ قال: نتخذه ناقوساً،
(5/194)
قال: أولا أدلك على ما هو خير من ذلك، إذا
حضرت الصلاة قام أحدكم فيشهد أن لا اله إلا الله وأن
محمداً رسول الله.
وقد روي أنه زيد في الأذان كلمات، كما سبق عن الزهري، ان
بلالاً زاد في أذان الفجر: "الصلاة خير من النوم" - مرتين
-، فأقرها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد خرجه الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، عن
سعيد ابن المسيب، عن عبد الله بن زيد - في سياق حديثه
الطويل -، وقال في آخره: قال سعيد بن المسيب: فأدخلت هذه
الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر.
وخرجه ابن أبي شيبة، عن عبدة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن
ابن المسيب، ولم يذكر فيه: " عبد الله بن زيد"، وجعله كله
من رواية ابن المسيب.
والأشبه: أن ذكر زيادة بلال في آخر الحديث مدرجة من قول
الزهري؛ كما سبق. ورواها معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب،
عن بلال.
خرجه من طريقه ابن ماجه.
وابن المسيب، لم يسمع من بلال - أيضا.
ورواها النعمان بن المنذر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب،
عن أبي هريرة.
ورواها صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.
(5/195)
خرجه الطبراني من الطريقين.
ورواها يونس، عن الزهري، عن حفص بن عمر بن سعد المؤذن،
قال: حدثني اهلي، أن بلالاً أتى النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره.
ورواها شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب - مرسلاً.
خرجه من الطريقين البيهقي.
والمرسل أشبه.
وخرج أبو داود في " مراسيله" من طريق يونس، عن ابن شهاب:
أخبرني حفص بن عمر بن سعد المؤذن، أن بلالاً أتى النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره.
وفي رواية له: عن حفص بن عمر بن سعد: حدثني اهلي، عن بلال.
وروى الحديث بطوله، بدون هذه الزيادة: أبو صالح، عن الليث،
عن يونس، عن ابن شهاب: أخبرني سعيد بن المسيب - فذكره كله
مرسلاً.
وكذا رواه معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب - مرسلاً.
وروي: أن عمر أمر بلالاً بزيادة الشهادة بالرسالة في
الأذان.
خرجه ابن خزيمة في " صحيحه" والإسماعيلي، من رواية عبد
الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، أن بلالاً كان يقول
إذا أذن: " أشهد ان لا إله الله، حي على الصلاة"، فقال
عمر: قل في إثرها: " أشهد أن محمداً رسول الله"، فقال رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "قل ما أمرك
عمر".
عبد الله بن نافع، ضعيف جداً.
(5/196)
2 - باب
الأذان مثنى مثنى
(5/197)
605 - ثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد بن زيد،
عن سماك بن عطية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: أمر
بلال ان يشفع الأذان، ويوتر الإقامة، إلا الإقامة.
(5/197)
606 - حدثني محمد - هو: ابن سلام -، قال:
حدثني عبد الوهاب الثقفي: ثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة،
عن أنس بن مالك، قال: لما كثر الناس، قال: ذكروا أن يعلموا
وقت الصلاة بشيء يعرفونه، فذكروا أن يوروا ناراً، أو
يضربوا ناقوساً، فأمر بلال ان يشفع الأذان، وأن يوتر
الإقامة.
سماك بن عطية، قال: حماد: كان من جلساء أيوب، ومات قبل
أيوب.
وقد تقدم أن عبد الوهاب الثقفي روى عنه هذا الحديث
بالتصريح برفعه، وذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
وكذا روي، عن ابن إسحاق، عن أيوب.
وكذا رواه خارجة بن مصعب، عن أيوب.
وروي مثله، عن الثوري، عن أيوب. وعن الثوري عن خالد
الحذاء.
(5/197)
والصحيح عن الثوري - كقول الجماعة -: " أمر
بلال".
وقد تقدم أنه لا يشك في أن الآمر له هو النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومعنى قوله: " يشفع الأذان" أن يجعله شفعاً: مثنى مثنى.
ومعنى: "يوتر الإقامة" أن يجعلها وتراً، أي: فرداً فرداً.
والشفع ضد الوتر: فالوتر: الفرد، والشفع الزوج.
ولهذا فسر " الشفع" في الآية بالخلق؛ لأن الخلق كله زوج؛
قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}
[الذاريات:49] ، وقال: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ
الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ
أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس: 36] .
وفسر" الوتر" بالله عز وجل؛ لأنه وتر يحب الوتر.
والمقصود بهذا الباب: أن كلمات الأذان شفع.
لكن اختلف في التكبير في اوله: هل هو تكبيرتان، أو أربع؟
وقد اختلفت في ذلك روايات عبد الله بن زيد في قصة المنام،
وحديث أبي محذورة حيث علمه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الأذان مرجعه من حنين، وأمره أن يؤذن لأهل
مكة.
وقد خرج مسلم في " صحيحه" حديث أبي محذورة، وفي اوله:
التكبير مرتين.
وخرج أبو داود وغيره حديث عبد الله بن زيد بالوجهين.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث أبي
(5/198)
محذورة: ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة
كلمة.
وإنما يكون الأذان تسع عشرة كلمة إلا إذا كان التكبير في
أوله اربعاً.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود حديث عبد الله بن زيد، وفي
أوله: أربع تكبيرات.
وأشار أبو داود إلى الاختلاف في ذلك، وخرج من حديث ابن أبي
ليلى، عن معاذ التكبير في أوله مرتين.
وكذلك الشهادتان، ففي حديث عبد الله بن زيد: ان الشهادتين
في الأذان أربع، وفي حديث أبي محذورة: أن الشهادتين ثمان
مرات، يعيدها مرتين، وسمي الترجيع، وقد خرجه مسلم كذلك.
ولا اختلاف فيما بقي من الأذان بين أذان أبي محذورة وعبد
الله بن زيد الذي ألقاه على بلال في الروايات المشهورة في
" السنن" و" المسانيد"، وليس في الأذان كلمة إلا شفع غير
كلمة التهليل في آخر [الأذان] .
وقد روي أن أبا محذورة كان يقدم التهليل على التكبير في
آخر أذانه من وجه منقطع.
قال أبو نعيم في " كتاب الصلاة": ثنا عيسى بن المسيب، عن
إبراهيم، قال: كان أبو محذورة يقول: " لا إله إلا الله،
والله وأكبر"، وكان بلال يقول: " الله أكبر، الله اكبر، لا
إله إلا الله"، بلال في السفر وأبو محذورة في الحضر.
(5/199)
وهذا غريب، وعيسى فيه ضعف.
وقد ثبت عن أبي محذورة من وجهة عكس هذا، وأنه كان يختم
أذانه بقوله: " الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله ".
وقد خرجه مسلم في " صحيحه".
وروي - أيضا - تأخير التكبير عن بلال من وجه فيه ضعف.
قال أبو نعيم في " كتاب الصلاة": ثنا زهير، عن عمران بن
مسلم، قال: أرسلني سويد بن غفلة إلى مؤذنا، فقال: قل له
يختم أذانه بـ " لا إله إلا الله والله أكبر"؛ فإنه أذان
بلال.
وروى أبو نعيم بإسناد ضعيف مثل ذلك عن ابن عمر، وعن مؤذن
علي بن أبي طالب، وعن أبي جعفر محمد بن علي.
وروي عن أبي يوسف، أن الأذان على أذان بلال المعروف، وأنه
يزاد في آخره
: " والله أكبر"، يختم بذلك.
والأحاديث الصحيحة تدل على أن آخر الأذان: " الله أكبر، لا
إله إلا الله"، وبه يقول جمهور العلماء من المتقدمين
والمتأخرين.
وخرج النسائي من رواية الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن
بلال، قال: آخر الأذان: " الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا
الله".
وفي رواية: " كان آخر أذان بلال" –مثل ذلك.
وكذا رواه منصور وغيره، عن إبراهيم.
(5/200)
ورواه حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، أن
بلالاً كان يبدأ بالتكبير ويختم بالتكبير.
وهذا وهم.
وروى محارب بن دثار، قال: حدثني الأسود بن يزيد، عن أبي
محذورة، حدثه أن آخر الأذان: " لا إله إلا الله".
خرجه النسائي.
واختلفوا في عدد التكبير في أوله:
فقالت طائفة: أربع، وهو قول أبي حنيفة والثوري والحسن بن
صالح وعبيد الله بن الحسن والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقالت طائفة: التكبير في أوله تكبيرتان، وهو قول مالك
والليث من سعد، ورواية عن أبي يوسف. وقيل: إنه رجع عنها.
واختلفوا في الترجيع - وهو تكرير الشهاداتين -:
فذهب إليه مالك والشافعي وأصحابهما.
واختلف أصحاب الشافعي: هل هو ركن في الأذان فلا يصح بدونه،
(5/201)
أو سنة فيصح؟ والصحيح عندهم انه سنة. ونقل
عن نص الشافعي خلافه.
وذهب الكوفيون إلى ترك الترجيع، وهو قول الأوزاعي.
وقال أحمد وإسحاق وأبو بكر بن أبي شيبة وداود وابن خزيمة
وغيرهم: يجوز الأمران؛ لصحة الأحاديث بهما.
والأفضل عندهم ترك الترجيع؛ لأنه أذان بلال.
قيل لأحمد: أليس أذان أبي محذورة بعده؟ قال: بلى، ولكن لما
رجع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى
المدينة أقر بلالاً على أذانه.
ووافقه إسحاق على ذلك.
وقال الجوزجاني: الترجيع افضل؛ لأنه آخر الأمرين:
وروي عن أهل البصرة في صفة الأذان غير ما تقدم.
روى حجاج بن منهال: ثنا يزيد بن إبراهيم، أنه سمع الحسن
وابن سيرين يصفان الأذان: " الله اكبر الله اكبر، الله
أكبر الله أكبر، أشهد ان لا إلا إلا الله، أشهد أن محمداً
رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح"، يسمع بذلك من
حوله، ثم يرجع فيمد صوته، ويجعل إصبعيه في أذنيه، فيقول: "
اشهد أن لا إله إلا الله - مرتين - أشهد أن محمداً رسول
الله – مرتين - حي على الصلاة - مرتين - حي على الفلاح -
مرتين - الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".
خرجه ابن عبد البر.
روي عنهما على وجه آخر:
خرجه ابن أبي شيبة في " كتابه"، فقال:
(5/202)
ثنا إبن عليه، عن يونس، قال: كان الحسن
يقول: " الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن
محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح" ثم يرجع
فيقول: " الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله،
أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الفلاح -
مرتين - الله اكبر الله أكبر، لا إله إلا الله".
قال: وحدثنا ابن عليه، عن ابن عون، عن محمد - يعني: ابن
سيرين -، قال: كان الأذان أن يقول: الله أكبر الله أكبر،
اشهد ان لا إله إلا الله، أشهد أن لا اله إلا الله، أشهد
أن محمداً رسول الله، اشهد ان محمداً رسول الله، حي على
الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح،
الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر".
قال: وحدثنا ابن عليه: ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر،
قال: كان أذان ابن عمر: " الله أكبر الله أكبر، شهدت أن لا
إله إلا الله، شهدت أن لا إله إلا الله
– ثلاثاً - شهدت أن محمداً رسول الله، شهدت أن محمداً رسول
الله، شهدت أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة - ثلاثاً
-، حي على الفلاح - ثلاثاً - الله اكبر - أحسبه قال: لا
إله إلا الله.
قال: وثنا عبدة: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن
عمر، أنه كان يجعل آخر أذانه: " الله اكبر الله اكبر، لا
إله إلا الله ".
(5/203)
قال: وثنا يزيد بن هارون: أبنا سليمان
التيمي، عن حبيب بن قيس، عن ابن أبي محذورة، عن أبيه، أنه
كان يؤذن فيخفض صوته بالأذان - مرة مرة -، حتى إذا انتهى
إلى قوله: " أشهد أن محمداً رسول الله " رجع إلى قوله: "
أشهد أن لا إله إلا الله "، فرفع بها صوته - مرتين مرتين -
حتى إذا انتهى إلى: " حي على الصلاة"قال: " الصلاة خير من
النوم"، في الأذان الأول من الفجر.
وهذه الصفة تخالف [ما رواه] الحجازيون من أذان أبي محذورة،
ورواياتهم عنه أولى.
وعلى هذا – والذي قبله -؛ فيكون الأذان وتراً لا شفعاً.
وروى وكيع في " كتابه" عن أبي المعتمر، عن ابن سيرين، عن
ابن عمر، أنه مر على مؤذن، فقال له: أوتر أذانك.
وعن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: لا بأس إذا بلغ "
حي على الصلاة، حي على الفلاح" أن يقولها مرة.
ولعل هذا في الاقامة. وكذلك خرجها وكيع في " باب: من افرد
الإقامة".
قال ابن أبي شيبة: وثنا أبو أسامة: ثنا عبيد الله، عن
نافع، قال: كان ابن عمر ربما زاد في اذانه: " حي على خير
العمل".
(5/204)
وثنا أبو خالد، عن ابن عجلان، عن نافع، عن
ابن عمر، انه كان يقول في أذانه: " الصلاة خير من النوم".
وربما قال: " حي على خير العمل".
ثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه ومسلم بن أبي مريم،
أن علي ابن حسين كان يؤذن، فإذا بلغ " حي على الفلاح" قال:
" حي على خير العمل"، ويقول: هو الأذان الأول.
وقال البيهقي: روي ذلك عن أبي أمامة.
ثم خرج بإسناده من حديث أولاد سعد القرظ، عن آبائهم، عن
بلال، أنه كان ينادي بالصبح، فيقول: " حي على خير العمل"،
فأمره النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجعل
مكانها: " الصلاة خير من النوم"، ويترك" حي على خير
العمل".
ثم قال: هذه اللفظة لم تثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيا علم بلالا وابا محذورة، ونحن
نكره الزيادة فيه. وبالله التوفيق.
(5/205)
3 - باب
الإقامة واحدة، إلا قوله: " قد قامت الصلاة"
(5/206)
607 - ثنا علي بن عبد الله: ثنا إسماعيل بن
إبراهيم: ثنا خالد، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: أمر بلال
أن يشفع الأذان، وأن يوتر الإقامة.
قال إسماعيل: فذكرت لأيوب فقال: إلا الإقامة.
قد تقدم هذا الحديث من حديث خالد وأيوب، عن أبي قلابة.
وقول أيوب: " إلا الإقامة"، مراده: أن الحديث فيه هذه
اللفظة، ولكن لم يذكر سندها، وقد ذكر سندها عنه سماك بن
عطية - على ما تقدم في الباب الذي قبله -، وأن أيوب رواها
عن أبي قلابة، عن أنس.
وقد تابعه - أيضا - معمر، عن أيوب.
خرج حديثه الإسماعيلي في " صحيحه" من حديث عبد الرزاق:
أبنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: كان بلال يثني
الأذان ويوتر الإقامة، ويقول: " قد قامت الصلاة، قد قامت
الصلاة" - مرتين.
وفي رواية له - أيضا قوله: " قد قامت الصلاة".
وفي الباب: عن ابن عمر من رواية شعبة، عن أبي جعفر مؤذن
مسجد العريان، قال: سمعت أبا المثنى مؤذن مسجد الأكبر
يقول: سمعت ابن عمر قال: إنما كان الأذان على عهد النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرتين مرتين، والإقامة
(5/206)
مرة مرة، غير أنه يقول: "قد قامت الصلاة،
قد قامت الصلاة" فإذا سمعنا الإقامة توضأنا، ثم خرجنا إلى
الصلاة.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان
في " صحيحهما" والحاكم، وصححه.
وقال: أبو جعفر، هو: عمير بن يزيد الخطمي.
ووهم في ذلك، إنما هو: أبو جعفر محمد بن إبراهيم مسلم بن
أبي المثنى، وقد ينسب إلى جده مسلم أبي المثنى، وثقه ابن
معين وابن حبان. وقال: ابن معين - مرة -: لا بأس به.
كذا ذكره ابن حبان وأبو أحمد الحاكم وابن عقدة والدارقطني
وغيرهم.
وفرق بينهما غير واحد، منهم: مسلم في " كتاب الكنى"، وذكر
أبا جعفر هذا ممن لا يعرف اسمه. وأن محمد بن إبراهيم يكنى
أبا إبراهيم.
وكذا ذكر ابن أبي حاتم أن أبا جعفر هذا ليس هو محمد بن
إبراهيم بن مسلم، بل قال في ذلك: " يكنى أبا إبراهيم"،
وقال في أبي
(5/207)
جعفر هذا: " سئل أبو زرعة عنه فقال: هو
كوفي لا أعرفه إلا في هذا الحديث".
قال: " وقلت لأبي: روى عيس بن يونس عن شعبة، فقال: عن أبي
جعفر القاري؟ فقال: أخطأ عيس بن يونس، ليس هذا أبو جعفر
القاري، هذا كوفي، والقاري مديني". انتهى.
ورواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي جعفر - وليس
بالفراء.
وكذا قال أبو حاتم الرازي: ليس بالفراء.
وخرجه البيهقي من طريق أبي النضر، عن شعبة، عن أبي جعفر -
يعني: الفراء.
كذا قال، وهو من ظن بعض الرواة، وليس هذا بالفراء، الفراء
اسمه: كيسان أو سلمان، وهو غير هذا.
قال البيهقي: ورواه غندر وعثمان بن جبلة، عن شعبة، عن أبي
جعفر المديني.
قلت: هذا يوافق قول الحاكم: أنه أبو جعفر الخطمي الأنصاري.
وقال الحافظ أبو نعيم: أبو جعفر، اسمه: مسلم.
كذا رأيته ذكره في " الحلية"، وليس بشيء، إنما مسلم هو
شيخه أبو المثنى.
وخرجه الإمام أحمد، عن حجاج: حدثنا شعبة، قال: سمعت أبا
جعفر مؤذن مسجد بني العريان في مسجد بني بلال يحدث، عن
مسلم أبي المثني مؤذن مسجد الجامع - فذكر هذا الحديث.
وأماأبو المثنى فاسمه: " مسلم"، ويقال: " مهران" -: ذكره
مسلم بن الحجاج
(5/208)
في "كتاب الكنى"، وفي تسميته اختلاف وهو
مؤذن مسجد الكوفة.
وهو عند ابن معين وابن عقدة: والد أبي جعفر -: نقله عنه
عباس الدوري.
وهو عند الدارقطني وابن حبان: ابن ابنه.
وعند أبي زرعة ومسلم وابن أبي حاتم: أنه ليس بينهما نسب.
وثقه أبو رزعة وابن حبان. وقال الدارقطني: لا بأس به.
وقد روى هذا الحديث إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي المثنى،
فخالف شعبة في رفعه ووقفه.
ذكره البخاري في " تاريخه"، وقال: قال وكيع، عن ابن أبي
خالد، عن المثنى - أو أبي المثنى -، عن ابن عمر، قال: إذا
قمت فاجعلها واحدة.
وقال عارم: ثنا عبد العزيز بن مسلم، عن إسماعيل، عن
المثنى، عن أبيه، عن ابن عمر - مثله. انتهى ما ذكره.
وفي رواية عبد العزيز، عن إسماعيل: زيادة رجل، وهو المثنى.
وقال ابن معين: إسماعيل بن أبي خالد يروي عن أبي المثنى
الكوفي، وهو هذا – يعني: الذي روى عنه شعبة.
وخرج ابن أبي شيبة في " كتابه": ثنا أبو معاوية، عن حجاج،
عن أبي المثنى، عن ابن عمر، قال: كان بلال يشفع الأذان
ويوتر الإقامة.
وهذا في معنى رفع الحديث، كما رواه شعبة.
(5/209)
قال: وثنا عبدة، عن إسماعيل، عن أبي
المثنى، أن ابن عمر كان يأمر المؤذن يشفع الأذان ويوتر
الإقامة، ليعلم المار الأذان من الإقامة.
وقد رواه الإمام أحمد - فيما رواه عنه ابنه عبد الله في "
كتاب العلل" -، عن وكيع كما ذكره البخاري.
ورواه أحمد - أيضا -، عن محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن
المثنى، عن ابن عمر - مثله.
وعن محمد بن يزيد، عن حجاج، عن أبي المثنى، عن ابن عمر -
نحوه.
وذكر - أيضا – حديث شعبة، عن أبي جعفر المتقدم.
وروى أحمد - أيضا -، عن وكيع، [عن الثوري] ، عن أبي جعفر
المؤذن، عن [أبي] سلمان، عن أبي محذورة.
(5/210)
وعن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان - أيضا.
قال عبد الرحمن: ليس هو الفراء - يعني: أبا جعفر.
وهذا إشارة إلى اختلاف آخر على أبي جعفر، عن أبي محذورة،
أنه كان إذا بلغ: " حي على الفلاح" في الفجر، قال: "
الصلاة خير من النوم" - مرتين.
وخرجه أبو نعيم في " كتاب الصلاة" عن سفيان، عن أبي جعفر
الفراء - فذكره بمعناه.
وقد تقدم ان أبا جعفر ليس بالفراء، بل هو المؤذن.
وخرجه النسائي من طرق عن سفيان، ولفظ حديثه: عن أبي
محذورة، قال: كنت أؤذن للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فكنت أقول في أذنان الفجر الأول: " حي على
الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح،
الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله
أكبر، لا إله إلا الله".
وقال: أبو جعفر ليس بالفراء.
وقد روي عن أبي محذورة: الأذان مثنى مثنى، والإقامة مرة
مرة من طرق غير قوية.
وروي عنه، ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
علمه الإقامة مثنى مثنى.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث
(5/211)
همام، عن عامر الأحول، عن مكحول، عن ابن
محيريز، عن أبي محذورة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة
كلمة.
وصححه الترمذي.
وخرجه مسلم من رواية هشام الدستوائي، عن عامر، ولم يذكر
فيه الإقامة، ولا عدد كلمات الأذان، بل ذكره مفصلاً،
والتكبير في أوله مرتين.
وفي رواية: تمام التكبير في أوله أربعاً.
واختلف العلماء في صفة الإقامة على أقوال:
أحدها: انها فرادى سوى التكبير فإنه مرتين في أولها
وآخرها، وهذا قول مالك والليث والشافعي في القديم.
وممن روي عنه الأمر بإفراد الإقامة: ابن عمر وسلمة بن
الأكوع وعطاء والحسن وعمر بن عبد العزيز وعروة، ومكحول
والزهري، وقالا: مضت السنة بذلك.
وقال بكير بن الأشج: أدركت أهل المدينة على ذلك.
والقول الثاني: أنه تفرد الإقامة سوى التكبير، وكلمة
الإقامة فإنها تثنى، وهو المشهور من مذهب الشافعي وقول
أحمد وإسحاق. وروي عن الحسن ومكحول والزهري والأوزاعي.
وللشافعية وجه - ومنهم من حكاه قولاً -: أنه يفرد التكبير
- أيضا - في أول الإقامة وآخرها، مع إفراد لفظ الإقامة.
ولهم قول آخر: انه يفرد التكبير في آخرها خاصة، مع لفظ
الإقامة.
والثالث: أن الإقامة كالأذان مثنى مثنى؛ لحديث أبي محذورة.
(5/212)
وروي - أيضا - من حديث ابن أبي ليلى، عن
معاذ وعن بلال وعن أصحاب محمد، كما سبق ذكر الاختلاف عنه.
وهو قول الكوفيين: النخعي والثوري والحسن بن صالح وأبي
حنيفة وأصحابه وأبي بكر بن أبي شيبة، وهو قول مجاهد وابن
المبارك.
وروي عن علي، وذكره حجاج بن أرطاة، عن أبي إسحاق، عن أصحاب
علي وابن مسعود.
وروي - أيضا - عن سلمة بن الأكوع.
وقال النخعي: لا بأس إذا بلغ " حي على الصلاة"، حي على
الفلاح" أن يقولها مرة مرة.
ولو أن الأذان يؤذن فأقام، فقال النخعي والشعبي: يعيد
الأذان.
وقال الثوري: يجعل إقامته إذا قام [000] .
ومذهب مالك: أنه يعيد الأذان؛ لكنه يرى الإقامة فرادى.
والرابع: أنه يجوز تثنية الإقامة وإفرادها، والإفراد أفضل،
وهو قول أحمد وإسحاق وداود الظاهري وجماعة من فقهاء أهل
الحديث؛ لورود الحديث بذلك كله.
وكذا قال ابن خزيمة؛ لكنه قال: يجوز الترجيع في الأذان مع
تثنية الإقامة، وتثنية الأذان بغير ترجيع مع إفراد
الإقامة.
فأماتثنية الأذان من غير ترجيع وتثنية الإقامة، فلم يصح
ذلك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والخامس: إن أذان وأقام أفرد الإقامة، وإن صلى وحده، وإن
اقتصر على الإقامة ثناها لتكون له تأذينا، روي ذلك عن أبي
العالية وسليمان بن موسى، ونقله حرب عن إسحاق.
(5/213)
4 - باب
فضل التاذين
(5/214)
608 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك،
عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا نودي
بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا
قضي النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضي
التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا،
اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم
صلى".
النداء بالصلاة، المراد به: الأذان للصلاة.
والتثويب، المراد به: الإقامة؛ فإنه رجوع إلى النداء،
يقال: ثاب الرجل، إذا رجع.
ومنه: قوله تعالى:: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً
لِلنَّاسِ} [البقرة:125] ، أي: يترددون ويرجعون إليه.
ومنه: حديث أبي هريرة: " إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم
تسعون" - الحديث.
وقيل: سميت الإقامة تثويباً؛ لترديد قوله: " قد قامت
الصلاة" مرتين.
(5/214)
وهو بعيد حكاه الخطأبي، ورجح أنها تسمى "
تثويباً" لرفع الصوت بها.
قال: والتثويب: الاستغاثة، واصله أن يلوح الرجل بثوبه عند
الفزع، يعلم أصحابه.
وهذا الذي قاله ضعيف، ولو كان صحيحاً لكان تسمية الأذان
تثويباً أحق من الإقامة.
وفي الحديث: دليل على فضل الأذان، وانه يطرد الشيطان حتى
يدبر عنده وله ضراط، بحيث لا يسمع التأذين.
والأذان والإقامة في هذا سواء.
وضراط الشيطان، محمول على ظاهره عند كثير من العلماء،
ومنهم من تأوله، ولا حاجة إلى ذلك.
وفي " صحيح مسلم" عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " إن
الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة ذهب حتى يكون مكان
الروحاء".
قال الأعمش: سألته عن الروحاء، فقال: هو من المدينة ستة
وثلاثون ميلاً.
(5/215)
وروى النيسابوري، عن بشير بن عمرو، عن عمر
بن الخطاب، قال: إذا رأيتم الغيلان فأذنوا بالصلاة.
وروى الحسن، عن سعد بن أبي وقاص، قال: أمرنا إذا رأينا
الغول أن ينادي بالصلاة.
خرجهما ابن أبي الدنيا.
وقال مالك: استعمل زيد بن أسلم على معدن بني سليم، وكان
معدنا لا يزال الناس يصابون فيه من قبل الجن، فذكروا ذلك
لزيد بن أسلم، فأمرهم بالأذان، وأن يرفعوا أصواتهم به،
ففعلوا فارتفع ذلك عنهم، وهم عليه حتى اليوم.
قال مالك: وأعجبني ذلك من رأي زيد بن أسلم.
وفي " صحيح مسلم"، عن سهيل بن أبي صالح، قال: أرسلني أبي
إلى بني حارثة، قال: ومعي غلام لنا - أو صاحب لنا -،
فناداه مناد من حائط باسمه. قال: وأشرف الذي معي على
الحائط فلم ير شيئاً، فذكرت ذلك لأبي، فقال: لو شعرت أنك
تلقى هذا لم أرسلك؛ ولكن إذا سمعت صوتاً فنادي بالصلاة؛
فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: " إن الشيطان إذا نودي
بالصلاة ولى وله حصاص".
وقد قيل في سر ذلك: إن المؤذن لا يسمعه جن ولا أنس إلا شهد
له يوم القيامة، كما سيأتي في الحديث بعد هذا، فيهرب
الشيطان من سماع الأذان ويضرط؛ حتى يمنعه ضراطه من
استماعه، حتى لا يكلف الشهادة به يوم القيامة.
(5/216)
وقيل: إن إعلان التكبير له سر في إذابة
الشيطان، وقد جاء في حديث ضعيف: " إذا رأيتم الحريق
فكبروا؛ فإنه يطفئه"، والشيطان خلق من النار، فهو يذوب من
سماع التكبير وإعلانه.
وكذلك الإعلان بالتهليل:
قال ابو الجوزاء: ما للشيطان طرد عن القلب غير " لا إلا
إلا الله"، ثم تلا: {وَإذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي
الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ
نُفُورًا} [الإسراء: 46] .
ويكره لمن كان جالس أن يبادر إلى القيام، ولو إلى الصلاة؛
لأن فيه مشابهة بالشيطان في إدباره عند سماع الأذان.
قال الإمام أحمد في رواية الأثرم، وسئل عن الرجل يقوم حين
يسمع المؤذن، يبادر يركع؟ قال: يستحب ركوعه بعدما يفرغ
المؤذن أو يقرب من الفراغ؛ لأنه يقال: إن الشيطان ينفر حين
يسمع الأذان.
(5/217)
5 - باب
رفع الصوت بالنداء
وقال عمر بن عبد العزيز: أذن أذانا سمحاً، وإلا فاعتزلنا.
قال وكيع: ثنا سفيان، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين المكي،
أن مؤذنا أذن فطرب في أذانه، فقال له عمر بن عبد العزيز:
أذن أذاناً سمحاً، وإلا فاعتزلنا.
وخرج الدارقطني هذا مرفوعاً من حديث ابن عباس، وإسناده لا
يصح.
وروي عن ابن عمر، أنه قال لمؤذن: إني أبغضك في الله؛ إنك
تبغي في أذانك.
يشير إلى أنه يتجاوز الحد المشروع بتمطيطه والتطريب فيه.
وفي رواية: أنه قال: إنك تختال في أذانك.
كأنه يشير إلى التفخيم في صوته والتشادق والتكبر.
(5/218)
وقال أحمد في التطريب في الأذان: هو محدث.
يعني: انه لم يكن على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
والقول في الأذان بالتطريب كالقول في قراءة القرآن
بالتلحين. وكرهه مالك والشافعي - أيضا.
وقال إسحاق: هو بدعة -: نقله عنه إسحاق بن منصور.
ونقل عنه حرب، قال: التسميح احب إلي، فإن كان يؤذن باجر
فإني أكرهه - يعني: التطريب -، وإن من كان بغير أجر، وكان
أنشط للعامة فلا بأس.
وقد يستدل لذلك بقول ابن عمر: إني أبغضك في الله؛ إنك تحسن
صوتك - يعني: في الأذان -؛ لأجل الدارهم.
وسنذكره فيما بعد – إن شاء الله.
قال البخاري - رحمه الله -:
(5/219)
609 - ثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن
عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة الأنصاري ثم المازني،
عن أبيه، أنه أخبره، أن أبا سعيد الخدري قال له: إني أراك
تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وباديتك فإذنت
للصلاة فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه " لا يسمع مدى صوت المؤذن
جن ولا أنس [ولا شيء] إلا شهد له يوم القيامة".
قال ابو سعيد: سمعته من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
كذا روى مالك هذا الحديث.
ورواه ابن عيينة، عن شيخه، فقال: عن
(5/219)
عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة.
قال الشافعي: أصاب مالك في اسم الرجل، وأخطأ ابن عيينة
فيما أرى.
وذكر الإمام أحمد هذا المعنى - أيضا.
وقد تقدم بهذا الإسناد في أوائل " كتاب الإيمان" حديث: "
يوشك [أن يكون] خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال" -
الحديث، وذكرنا الاختلاف في إسناده على مالك، وأنه سماه
بعضهم عنه كما سماه ابن عيينة، والصحيح خلافه.
وروى هذا الحديث عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد الرحمن بن
أبي صعصعة، كما رواه مالك، إلا أنه لم يرفعه.
وما تضمنه حديث أبي سعيد من سكنى البادية بالغنم فقد سبق
القول فيه مستوفى في " كتاب الإيمان" عند الكلام على حديثه
المشار اليه.
وما تضمنه من الأذان للصلاة بالبادية، فيأتي بسط القول فيه
عند تبويب البخاري على " الأذان في السفر" - إن شاء الله.
أماالأمر برفع الصوت في الأذان، فإنما هو من قول أبي سعيد،
واستدل له بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: " لا يسمع صوت المؤذن" –الحديث.
كذا رواه ابن عيينة صريحاً، وكذا ما قبله كله من قول أبي
سعيد.
وقد روي نحوه عن أبي هريرة.
روى وكيع وأبو نعيم في " كتأبيهما": ثنا أبو العنيس سعيد
بن كثير، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: ارفع
(5/220)
صوتك بالأذان؛ فإنه يشهد لك كل شيء سمعك.
لفظ وكيع، وخرجه عنه ابن شيبة.
ولفظ أبي نعيم، قال: من أذن فليسمع؛ فإنه يشهد له يوم
القيامة ما انتهى إليه صوته من سمعه.
وخرجه ابن أبي شيبة بإسناده، عن الزبير بن عدي، عن رجل، عن
ابن عمر، انه قال لرجل: ما عملك؟ قال: الأذان. قال: نعم
العمل عملك؛ يشهد لك كل شيء سمعك.
ورى وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: المؤذن يشهد له كل
رطب ويابس سمعه.
ورواه غيره عن الأعمش، عن مجاهد - مرسلاً0، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال الدارقطني: هو أشبه.
قال: ورواه عمار بن رزيق، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر
- مرفوعاً.
قال: ورواه محمد بن عبيد الطنافسي وعمرو بن عبد الغفار، عن
الأعمش، عن مجاهد، عن أبي هريرة – مرفوعاً.
وقد خرجه الإمام أحمد من رواية عمار بن رزيق كما تقدم، ومن
رواية زائدة عن الأعمش، عن رجل، عن ابن عمر - مرفوعاً.
ورواه عبد الله بن بشر، عن الأعمش كرواية عمار بن رزيق.
(5/221)
وروي عن إسماعيل بن زكريا، عن الأعمش، عن
مجاهد، عن ابن عباس - مرفوعاً.
قال الدارقطني في موضع من " علله": الصحيح: الأعمش، عن
مجاهد، عن ابن عمر - مرفوعاً.
وهذا يخالف قوله في مسند أبي هريرة: إن إرساله أصح.
ورواه إبراهيم بن طهمان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر
- موقوفاً.
ورواه حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة
- مرفوعاً.
وروي مرفوعاً من وجه آخر: من رواية شعبة، عن موسى بن أبي
عثمان، عن أبي يحيى، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " المؤذن يغفر له مد
صوته، ويشهد له كل رطب ويابس".
خرجه أبو داود والنسائي.
وخرجه ابن ماجه، وعنده: " ويسغفر له كل رطب ويابس".
وخرجه ابن خزيمة وابن حبان في " صحيحيهما".
وقال ابن حبان: ابو يحيى هو
(5/222)
سمعان مولى أسلم، [حدثني] أبي يحيى.
وموسى بن أبي عثمان كوفي، أثنى عليه سفيان، ووصفه بالخير.
وقال أبو حاتم: شيخ.
وله طريق آخر: من رواية منصور بن المعتمر؛ واختلف عليه:
فرواه وهيب، عن منصور، عن يحيى بن عباد أبي هبيرة، عن
عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
وسأل وهيب منصوراً، عن عطاء هذا، فقال: هو رجل. قال: وليس
ابن أبي رباح ولا ابن يسار.
وكذا رواه زائدة وفضيل بن عياض، عن منصور، عن ابن عباد،
(5/223)
عن عطاء - رجل من أهل المدينة -، عن أبي
هريرة - موقوفاً غير موفوعٍ.
وكذا رواه جرير، عن منصور، عن يحيى بن عباد، عن رجل من أهل
المدينة، عن أبي هريرة - موقوفاً.
ورواه بعد الرزاق، عن معمر، عن منصور، عن عباد بن أنس، عن
أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(5/224)
وخرجه عنه الإمامان: أحمد وإسحاق في "
مسنديهما".
قال أبو زرعة الرازي والدارقطني: حديث معمر وهم، والصحيح:
حديث منصور.
قلت: ويشهد لقول منصور: أن أبا أسامة رواه عن الحسن بن
الحكم، عن أبي هبيرة يحيى بن عباد، عن شيخ من الأنصار، عن
أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه عنه ابن أبي شيبة في " كتابه".
قال الدارقطني: الصحيح: قول زائدة وفضيل بن عياض وجرير، عن
منصور.
يعين: الموقوف. والله اعلم.
وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث قتادة، عن أبي إسحاق
الكوفي، عن البراء بن عازب، أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " المؤذن يغفر له مد صوته،
ويصدقه من سمعه من رطب ويابس، وله مثل أجر من صلى معه".
(5/225)
وأبو إسحاق هذا، قال أحمد: ما أظنه
السبيعي.
وذكر الترمذي في " العلل" أنه لا يعرف لقتادة سماعاً من
أبي إسحاق الكوفي.
وقوله: " لا يسمع مدى صوت المؤذن": المدى: الغاية حيث
ينتهي الصوت.
(5/226)
وقوله: " كل رطب ويابس" يدل على أن
الجمادات سواء كانت رطبة أو يابسة فإن لها سماعاً في
الدنيا وشهادة في الآخرة.
فدل ذلك على صحة أشياء مختلف في بعضها:
منها: إدراك الجمادات ونطقها.
وقد أثبت ذلك جمهور السلف، سواء كانت رطبة أو يابسة، كما
دل عليه قوله: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] ،
وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} ?
[الإسراء: 44] .
وخص الحسن التسبيح بما كان رطباً قبل ان ييبس.
والجمهور على خلافه.
وأمامن قال: تسبيحها: دلالاتها على صانعها بلسان الحال،
فقول ضعيف جداً، والأدلة الكثيرة تبطله.
ومنها: أن الجمادات [000] يوم القيامة.
وقد دل على ذلك حديث عبد الله بن أنيس في سؤال الحجر
والعود.
والحديث الصحيح: أن الغال يأتي بما غل من بقر وغنم وصامت
ورقاع تخفق. وأن مانع الزكاة يجعل له ماله صفائح يكوى به.
كما دل عليه قوله: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ
جَهَنَّمَ} [التوبة: 35] .
وأماقوله في الحديث الآخر: " يغفر له مدى صوته".
(5/227)
فقيل: معناه: لو كانت ذنوبه أجسأمالغفر له
منها قدر ما يملأ المسافة التي بينه وبين منتهى صوته.
وقيل: معناه: تمد له الرحمة بقدر مد الأذان.
وقال الخطأبي: معناه أنه يستكمل مغفرة الله تعالى إذا
استوفى وسعه في رفع الصوت، فيبلغ الغاية من المغفرة إذا
بلغ الغاية من الصوت.
ورفع الصوت بالأذان مستحب؛ ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الله بن زيد لما رأى الأذان في
منامه: " ألقه على بلال؛ فإنه اندى صوتاً منك".
خرجه أبو داود وغيره.
والمؤذن، أماأن يؤذن لنفسه، أو يؤذن للجماعة؛ فإن أذن
للجماعة فلا يحصل الإتيان بالأذان المشروع في حقهم حتى
يسمعهم.
قال الإمام أحمد في رواية حنبل، في رجل ضعيف الصوت، لا
يرفع صوته ولا يخرج من المسجد، فإذا كان يسمع اهل المسجد
والجيران فلا بأس.
قال القاضي أبو يعلى: ظاهر هذا، أنه إذا لم يسمع الجيران
لم يصب سنة الأذان؛ لأن القصد ومن الأذان الإعلام، فإذا لم
يسمع الجيران لم
(5/228)
يوجد المقصود.
فأماكمال السنة فهو: أن يرفع صوته نهاية جهده، ولا يزيد
على ذلك حتى يخشى على نفسه ضرراً.
قال أحمد في رواية حنبل: يرفع صوته ما استطاع.
وقال الميموني: رأيت أحمد وهو يؤذن، صوتا بين الصوتين،
وكان إلى خفض الصوت أقرب.
قال القاضي: ظاهر هذا، أنه لا يرفع صوته رفعاً يخرجه عن
طبعه.
ومن الأصحاب من جعل هذه رواية ثانية؛ بأن التوسط في رفع
الصوت أفضل.
وفي " المراسيل" لأبي داود، عن ابن سيرين، أن بلالاً جعل
اصبعيه في أذنيه في بعض أذانه، أو في إقامته، بصوت ليس
بالرفيع ولا بالوضيع.
ومتى خافت ببعضه فهو كمخافتته بكله عند أصحابنا.
وإن كان يؤذن لنفسه فله أن يسر به؛ لأنه لا يعلم غيره.
وقال أصحاب الشافعي: يستحب له أن يرفع صوته ما أمكنه، بحيث
لا يلحقه ضرر، فإن أسر به لم يصح على الصحيح عندهم.
ولهم وجه: أنه يصح، كما لو أسر بالقراءة في صلاة الجهر.
(5/229)
ووجه ثالث: يصح إن سر بعضه خاصة، ونص عليه
الشافعي في [مكان] .
قال الماوردي منهم: لو سمع واحداً من الجماعة أجزأه؛ لأن
الجماعة تحصل بهما.
وأمامن يؤذن لنفسه، فيجزئه أن يسمع نفسه على الصحيح عندهم.
وقيل: يشترط إسماع من عنده. والمذهب: الأول.
ومتى رفع صوته رفعاً يخشى على نفسه الضرر منه كره.
وقد قال عمر لأبي محذورة لما سمعه يؤذن بمكة: أماخشيت أن
ينشق مريطاؤك؟
ذكره أبو عبيد وغيره.
والمريطاء: بالمد والقصر.
قال أبو عبيد: والمحفوظ: المد. قال: وهو قول الأصمعي. قال:
وقال الأحمر: هي مقصورة. قال: وقال أبو عمرو: تمد وتقصر.
وهي ما بين السرة والعانة -: قاله أبو عبيد والأكثرون.
وقيل: ما بين الصدر والعانة.
(5/230)
6 - باب
ما يحقن بالأذان من الدماء
(5/231)
610 - حدثني قتيبة: ثنا إسماعيل بن جعفر،
عن حميد، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، أنه كان إذا غزا بنا قوماً لم يغز بنا حتى
يصبح وينظر، فإن سمع أذانا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانا
أغار عليهم. قال: فخرجنا إلى خيبر، فانتهينا إليهم ليلاً،
فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب، وركبت خلف أبي طلحة، وإن
قدمي لتمس قدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال: فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم، فلما رأوا النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: محمد والله،
محمد والخميس. قال: فلما رآهم رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " الله أكبر، الله أكبر. خربت
خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".
في هذا الحديث فوائد كثيرة:
منها: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان
لا يغير على العدو.
والإغارة: تبيت العدو ليلاً.
وقد جاءت نصوص أخر بإباحة
(5/231)
الإغارة، وموضع ذكر ذلك " كتاب الجهاد" -
إن شاء الله.
ومنها: التفاؤل؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لما رآهم خرجوا بالمكاتل - وهي: الزبيل
والقفاف -، والمساحي - وهي: المجرفة -، وهذه آلات الحراث،
ووقع الأمر كذلك.
ومنها: التكبير على العدو عند مشاهدته.
ويحتمل أن يكون سر ذلك أن التكبير طارد لشيطان الجن
تقارنهم، فإذا انهزمت شياطينهم المقترنة بهم انهزموا، كما
جرى للمشركين يوم بدر، فإن إبليس كان معهم يعدهم ويمنيهم،
فلما انهزم انهزموا.
وقولهم: " محمد والخميس"، فيه روايتان: الخميس، والجيش،
وهما بمعنى واحد.
وسمي الجيش خميساً؛ لأنه ينقسم خمس أجزاء: مقدمة، وساقة،
وميمنة، وميسرة، وقلب.
ومنها - وهو المقصود بهذا الباب -: أنه - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجعل [الأذان] فرق ما بين دار
الكفر ودار الإسلام، فإن سمع مؤذناً [للدار] كحكم ديار
الإسلام، فيكف عن دمائهم وأموالهم، وإن لم يسمع أذاناً
أغار عليهم بعد ما يصبح.
وفي هذا: دليل على أن إقامة الصلاة توجب الحكم بالإسلام؛
فإن الأذان إنما هو دعاء إلى الصلاة، فإذا كان موجباً
للحكم
(5/232)
بالإسلام، فالصلاة التي هو المقصود الأعظم
أولى.
ولا يقال: إنما حكم بإسلامهم بالأذان لما فيه من ذكر
الشهادتين؛ لأن الصلاة تتضمن ذلك - أيضا -، فإذا رأينا من
ظاهره يصلي - ولا سيما في دار الحرب أو دار لم يعلم أنها
دار إسلام - حكمنا بإسلامه لذلك. وهو قول كثير من العلماء،
وهو ظاهر مذهب أحمد.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
أنه كان يأمر بالكف عن دار يسمع فيها الأذان، أو يرى فيها
مسجد، من رواية ابن عصام المزني، عن أبيه - وكانت له صحبة
-، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- إذا بعث جيشاً أو سرية يقول لهم: " إذا رأيتم مسجداً، أو
سمعتم مؤذناً فلا تقتلوا [أحداً] ".
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي.
وقال: حسن غريب.
وقال ابن المديني: إسناد مجهول، وابن عصام لا يعرف، ولا
ينسب أبوه.
(5/233)
وروى الهرماس بن حبيب العنبري، عن أبيه، عن
جده، قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عيينة بن حصن حين أسلم الناس ودجا الإسلام على
الناس، فهجم على بني عدي بن جندب فوق النباح بذات الشقوق،
فلم يسمعوا أذانا عند الصبح، فأغاروا عليهم، فأخذوا
أموالهم حتى أحضروها المدينة عند النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت وفود بني العنبر: أخذنا يا
رسول الله مسلمين غير مشركين. فرد عليهم رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذراريهم وعقار بيوتهم،
وعمل الجيش أنصاف الأموال.
خرجه إبراهيم الحربي في " كتاب غريب الحديث" وأبو القاسم
البغوي في " معجم الصحابة".
(5/234)
وقال الحربي: إنما رد عليهم النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذراريهم؛ لأنه لم ير أن يسبيهم
إلا على أمر صحيح لا شك فيه، وهؤلاء مقرون بالإسلام، وليس
حجة من سباهم، إلا أنهم قالوا: لم نسمع أذاناً. وكذلك فعل
في عقار بيوتهم - يريد: أرضهم -، وعمل الجيش جعالة عمالة
لهم أنصاف الأموال؛ وذلك لأن أصحاب الجيش ادعوا أن ذلك
فيئاً لهم؛ لأنهم لم يسمعوا أذاناً، والمأخوذ منهم ادعوا
أنه لهم؛ أسلموا عليه.
ثم روى الحربي من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي
حازم، قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إلى أناس من خثعم، فاستعصموا
(5/235)
بالسجود، فقتل منهم رجل، فأعطاهم النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصف الدية.
قال الحربي: لا، لم يقروا بالإسلام، وإنما سجدوا، وقد يسجد
ولم يسلم، فلذلك أعطاهم نصف الدية.
قلت: هذا حديث مرسل.
والذين يقولون: إن الكافر يصير مسلماً بالصلاة، فصلاته
عندهم كإقراره بالإسلام.
وذكر - أيضا - حديث الزبيب العنبري، وقد خرجه أبو داود في
" سننه"، وفيه: أنهم سبوا، ثم شهد لهم شاهد بالإسلام، وحلف
الزبيب، فأعطاهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- الذراري ونصف الأموال.
قال الحربي: لأنه لم تكمل البينة.
قلت: في سياق حديث أبي داود: أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم: " لولا أن الله لا يحب
ضلالة العمل ما رزيناكم عقالاً".
(5/236)
وهذا تعليل بغير ما ذكره الحربي.
وحاصل الأمر: أن الدار إن سمع فيها أذان لم يجز الإقدام
على قتلهم ابتداءً، بل يصيرون في عصمة دمائهم وأموالهم
كالمسلمين؛ فإن الأذان وإن كان لم يسمع من بعضهم، إلا أن
ظهوره في دار قوم دليل على إقرارهم بذلك ورضاهم.
فأماالمؤذن نفسه فإنه يصير مسلماً بذلك، ولا سيما إذا كان
في دار كفر وموضع لا يخاف فيه من المسلمين ولا يتقيهم.
وعند أصحابنا: أنه يصير الكافر بالأذان مسلماً.
وبه قال الليث بن سعد، وسعيد بن عبد العزيز. وقالا: لو
ادعى أنه فعله تقية وخيفة على نفسه أنه لا يقبل منه، ويصير
مرتداً.
وحكى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي ومالك، أنه يقبل منه ذلك
ولا يقتل.
ذكره محمد بن نصر المروزي في " كتاب الصلاة".
وينبغي أن يقبل هذا بموضع يحتمل فيه ذلك كدار الإسلام، أو
دار يخشى أن يغار عليها المسلمون؛ فإن الكافر إذا أتى
بالشهادتين على وجه الإسلام كالذي يجيء ليسلم، فتعرض عليه
الشهادتان فيقولهما، فإنه يصير مسلماً بغير خلاف.
وإن قالهما على غير هذا الوجه، ثم ادعى أنه لم يرد بهما
الإسلام، فالمشهور عن أحمد، أنه لا يقبل منه ويصير مرتداً.
وعنه رواية، أنه يقبل منه ولا يقتل. وهو قول إسحاق.
وضعف هذه الرواية أبو بكر الخلال.
(5/237)
وعن أحمد، أنه يجبر على الإسلام، ولا يقتل
إن أباه.
وللشافعية - أيضا - وجهان فيما [إذا] أتى بالشهادتين على
غير وجه الاستدعاء ولا الحكاية: هل يصير مسلماً، أم لا؟
وأصحهما: أنه يصير مسلماً -: حكاهما صاحب " شرح المهذب".
وإن لم يسمع في الدار أذان:
فإن كانت معروفة قبل ذلك بأنها دار حرب جاز ابتداؤهم
بالقتل والسبي والنهب، هذا هو الذي دل عليه حديث أنس
المخرج في هذا الباب.
وإن كانت معروفة بأنها دار إسلام، ولم يسمع فيها أذان،
فهذا مسألة قتال أهل البلدة المسلمين إذا اتفقوا على ترك
الأذان.
وهي مبنية على أن الأذان على أهل الأمصار والقرى: هل هو
فرض كفاية، أو سنة مؤكدة؟
وفيه قولان:
أحدهما: أنه فرض كفاية، وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد، وقول
داود، ووافقهم جماعات من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي.
وكذا قال عطاء ومجاهد وابن أبي ليلى والأوزاعي وأهل
الظاهر: إن الأذان فرض.
وحكي عن هؤلاء كلهم أن الإقامة شرط لصحة الصلاة، فمن ترك
الإقامة وصلى أعاد الصلاة.
وعن الأوزاعي: أنه يعيد في الوقت.
وقال عثمان بن كنانة من المالكية: يعيد إذا تركها عمداً.
وذهب الجمهور إلى أنه لا إعادة على من صلى بغير أذان ولا
(5/238)
إقامة.
واستدلوا لوجوب الأذان بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم".
وقد خرجه البخاري من حديث مالك بن الحويرث وعمرو بن سلمة
الجرمي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروى ابن جرير الطبري، عن يونس بن عبد الأعلى، عن أشهب، عن
مالك، قال: إذا ترك الأذان مسافر عمداً أعاد الصلاة.
وهذا غريب جداً.
وحكى ابن عبد البر نحوه عن داود.
ونقل ابن منصور، عن إسحاق، قال: إذا نسي الأذان والإقامة
وصلى أجزأه، وإن كان في السفر فلا بد له من الإقامة.
والقول الثاني: أن الأذان سنة مؤكدة، وهو ظاهر مذهب مالك
وأبي حنيفة والشافعي، ورواية عن أحمد.
فمن قال: الأذان فرض كفاية، قال: إذا اجتمع أهل بلد على
تركه قوتلوا عليه حتى يفعلوه.
ومن قال: هو سنة، اختلفوا على قولين:
أحدهما: أنهم يقاتلون عليه - أيضا -، لأنه من أعلام الدين
وشرائعه الظاهرة،
(5/239)
وهو قول محمد بن الحسن وطائفة من الشافعية.
والثاني: لا يقاتلون عليه كسائر النوافل، وهو قول أبي
حنيفة وطائفة من الشافعية.
وقال أبو يوسف: آمرهم وأضربهم، ولا أقاتلهم؛ لأنه دون
الفرائض وفوق النوافل.
واستدل بعض من قال: يقاتلون على تركه بحديث أنس هذا؛ فإن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الأذان
مانعاً من القتال، وتركه مبيحاً له، فدل على استباحة
القتال بمجرد تركه، وإن جاز ان يكونوا قد أسلموا.
(5/240)
7 - باب
ما يقول إذا سمع المنادي
فيه حديثان:
الحديث الأول:
(5/241)
611 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك،
عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري،
أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "
إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن".
هكذا روى هذا الحديث مالك في " الموطإ"، وكذا رواه الثقات
من أصحابه عنه.
ورواه المغيرة بن سقلاب، عن مالك، عن الزهري، عن سعيد بن
المسيب، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد.
وزيادة: " سعيد بن المسيب" لا تصح.
والمغيرة متروك.
(5/241)
وروي عن عمرو بن مرزوق، عن مالك، عن
الزهري، عن أنس.
وهو وهم. وقيل: إنه ممن رواه عن عمرو، وهو محمد بن عبد
الرحيم الشماخي.
ورواه عبد المنعم بن بشير - وهو ضعيف جداً -، عن مالك، عن
نافع، عن ابن عمر. ولا يصح.
وتابع مالكا على روايته، عن الزهري، عن عطاء، عن أبي سعيد:
معمر ويونس.
وقيل: وسفيان وإبراهيم بن سعد.
(5/242)
وخالفهم عبد الرحمن بن إسحاق، فرواه عن
الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة.
وخرجه ابن ماجة من طريقه.
وقيل: عنه، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة.
والصحيح: قول مالك ومن تابعه -: قاله أبو حاتم الرازي
والترمذي وابن عدي والدارقطني.
(5/243)
ورواه حجاج بن نصير، عن عباد بن كثير، عن
عقيل، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن [أبي] أيوب
الأنصاري.
وهو وهم من حجاج أو عباد -: قاله الدارقطني.
الحديث الثاني:
قال:
(5/244)
612 - ثنا معاذ بن فضالة: ثنا هشام، عن
يحيى، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، قال: حدثني عيسى بن
طلحة، أنه سمع معاوية يوماً،
(5/244)
فقال مثله، إلى قوله: (وأشهد أن محمداً
عبده ورسوله) .
(5/245)
613 - ثنا إسحاق: ثنا وهب بن جرير: ثنا
هشام، عن يحيى - مثله.
قال يحيى: وحدثني بعض إخواننا، أنه لما قال: (حي على
الصلاة) ، قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، وقال: هكذا
سمعنا نبيكم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول.
هكذا خرجه مختصراً.
وخرجه الإمام أحمد بتمامه، عن إسماعيل بن ابراهيم - هو:
ابن علية - وأبي عامر العقدي، قالا: ثنا هشام، عن يحيى بن
أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة - قال أبو
عامر في حديثه: ثنا عيسى بن طلحة -، قال: دخلنا على
معاوية، فنادى المنادي بالصلاة، فقال: (الله أكبر، الله
اكبر) . فقال معاوية: (الله أكبر، الله أكبر) ، فقال:
(أشهد أن لا إله إلا الله) ، فقال معاوية: (وأنا أشهد) -
قال أبو عامر في حديثه: (أن لا إله إلا الله) -، فقال:
(أشهد أن محمداً رسول الله) ، فقال معاوية: (وأنا اشهد) -
قال أبو عامر: (أن محمداً رسول الله) .
قال يحيى: ثنا رجل، أنه لما قال: (حي على الصلاة) قال: (لا
حول ولا قوة إلا بالله) ، قال معاوية: هكذا سمعت نبيكم -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول.
(5/245)
وخرجه الإسماعيلي بنحوه من طريق ابن علية.
وله طريق آخر عن معاوية:
خرجه البخاري في "الجمعة" في " كتابه" هذا من طريق ابن
المبارك: أبنا أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف، [عن أبي
أمامة بن سهل بن حنيف] ، قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان
وهو جالس على المنبر أذن المؤذن، فقال: (الله أكبر، الله
أكبر) ، فقال معاوية: (الله أكبر، الله أكبر) . فقال:
(أشهد ان لا إله إلا الله) ، فقال معاوية: (وأنا) ، فقال:
(أشهد أن محمداً رسول الله) ، فقال معاوية: (وأنا) ، فلما
قضى التاذين، قال: يأيها الناس، إني سمعت رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على هذه المجلس حين أذن
المؤذن يقول كما سمعتم مقالتي.
وقد روي عن معاوية من طريق أخرى، وفي بعضها: انه قال عند:
(حي على الصلاة) ، (وحي على الفلاح) : (لا حول ولا قوة إلا
بالله) موافقة للرواية التي أرسلها يحيى بن أبي كثير.
فخرج الإمام أحمد والنسائي من رواية ابن جريج: أخبرني عمرو
بن يحيى، أن عيسى بن عمر أخبره، عن عبد الله بن علقمة بن
وقاص، عن علقمة بن وقاص، قال: إني عند معاوية إذ أذن
مؤذنه، فقال معاوية كما قال المؤذن، حتى إذا قال: (حي على
الصلاة) قال: (لا حول ولا قوة إلا
(5/246)
بالله) ، فلما قال: (حي على الفلاح) قال:
(لا حول ولا قوة إلا بالله) . وقال بعد ذلك ما قال المؤذن،
ثم قال: سمعت رسول لاله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- يقول ذلك.
وخرجه الإمام أحمد بمعناه من رواية محمد عمرو بن علقمة، عن
أبيه، عن جده، قال: كنا عند معاوية – فذكره بمعناه.
وروى عبد الوهاب بن الضحاك: ثنا إسماعيل بن عياش، عن مجمع
بن جارية، عن أبي امامة بن سهل، قال: سمعت معاوية يقول:
سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول
- إذا أذن المؤذن - مثل قوله، وإذا قال: (حي على الصلاة)
قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله) .
عبد الوهاب، متروك الحديث. وإسماعيل، لا يحفظ حديث
الحجازيين.
وقد رواه الإمام أحمد عن يعلى بن عبيد ويزيد بن هارون،
(5/247)
كلاهما عن مجمع - بنحو سياق حديث أبي بكر
بن عثمان الذي خرجه البخاري.
وخرجه - أيضا - عن وكيع، عن مجمع - مختصراً.
ورواه أبو نعيم في " كتاب الصلاة" عن مجمع – بنحو رواية
يعلى ويزيد.
وليس في حديث أحد منهم: ذكر الحيعلة.
وفي رواية يعلى ويزيد وأبي نعيم: انه لما كبر المؤذن -
اثنين - كبر - اثنين - ولما شهد انه لا اله الا الله –
اثنين - شهد - اثنين -، ولما شهد ان محمد رسول الله -
اثنين - شهد - اثنين.
وهذا يشعر بأن التكبير في اول الاذان مرتان.
وروي هذا المعنى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من غير حديث معاوية:
فخرج مسلم في "صحيحه" من حديث عمارة بن غزية، عن خبيب بن
عبد الرحمن بن يساف، عن حفص بن عاصم بن عمر، عن أبيه، عن
جده عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((إذا قال المؤذن: الله اكبر، الله
اكبر، فقال احدكم، الله اكبر. ثم قال: اشهد ان لا اله الا
الله، فقال اشهد ان لا اله الا الله. ثم قال: اشهد ان محمد
رسول الله، قال: اشهد
(5/248)
ان محمد رسول الله - ثم قال: حي الصلاة،
قال: لاحول ولا قوة الا بالله. ثم قال: حي عل الفلاح، قال:
لا حول ولا قوة الا بالله. ثم قال: الله اكبر الله اكبر،
قال: الله اكبر الله اكبر. ثم قال: لا الله الا الله، قال:
لا اله الا الله من قلبه؛ دخل الجنة)) .
وعمارة بن غزية، ثقة ولم يخرج له البخاري.
(5/249)
وقد روي نحوه من حديث عاصم بن عبيد الله
العمري، عن علي بن حسين، عن أبي رافع، عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان إذا سمع [المؤذن] قال
مثل ما يقول حتى إذا بلغ: ((حي على الصلاة، حي على
الفلاح)) قال: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) .
خرجه الإمام أحمد والنسائي في "اليوم والليلة".
وعاصم هذا، ضعفوه، وقد اختلف عليه في إسناده.
وروي نحوه من حديث أنس بن مالك، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه ابن عدي، وقال: هو منكر، وإسناده لا يصح.
واجابه المؤذن مستحبة عند الجمهور العلماء، وليست واجبة.
وكان الحسن كثيراً يسمع المؤذن وهو يتحدث فلا يقطع حديثه
ولا يجيبه،
(5/250)
وكذلك إسحاق بن راهويه.
ونص أحمد على ان الاجابة غير واجبة.
وحكى الطحاوي عن وقم انهم واجبوا اجابته. والظاهر: انه قول
بعض الظاهرية. وحكي عن بعض الحنفية - أيضا.
وروي عن ابن مسعود، انه قال: من الجفاء ان لا يقول مثل ما
يقول المؤذن.
وقد روي مرفوعاً من وجوه ضعيفة.
واختلف العلماء: هل يجيب المؤذن، فيقول كقوله في جميع ما
يقول، ام لا؟
فقالت طائفة: يقول مثل ما يقول سواء في جميع اذانه؛ لظاهر
حديث أبي سعيد.
وفي "صحيح مسلم" من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا سمعتم
المؤذن فقولوا مثل ما يقول)) .
وقد روي عن طائفة من السلف، انهم قالوا: يقول مثل قول
المؤذن، ولم يستثنوا، منهم: النخعي:
وروي عن أبي عمر، انه كان يقول مثل ما
(5/251)
يقول المؤذن.
وهو ظاهر قول الخرقي من أصحابنا.
وقالت طائفة: يقول كقوله، الا في قوله: (حي على الصلاة، حي
على الفلاح) ، فانه يقول: (لا حول ولا قوة الا بالله) .
وهذا مروي عن الحسن، وهو منصوص عن أحمد، والشافعي، وهو قول
طائفة من الحنفية والمالكية.
وهؤلاء؛ جعلوا حديث أبي سعيد وما في معناه عاماً، وحديث
عمر ومعاوية وما في معناهما خاصة، فتقضي على النصوص
العامة.
ومن الحنفية من قال: يقول عند قوله: (حي على الصلاة) : (لا
حول ولا قوة الا بالله) . وعند: (حي على الفلاح) : (ما شاء
الله كان، وما لم يشأ لم يكن) .
وقالت طائفة: هو مخير بين ان يقول مثل قول المؤذن في
الحيعلة، وبين ان يقول: "لا حول ولا قوة الا بالله"،
وجمعوا بين الاحاديث بذلك، وهذا قول أبي بكر الاثرم ومحمد
بن جرير الطبري.
وقالت طائفة: بل يجمع بين ان يقول مثل قول المؤذن، وبين
قوله: "لا حول ولا قوة الا بالله".
وهذا قول بعض أصحابنا، وهو ضعيف؛ لان الجمع لم يرد.
وكان بعض شيوخنا يقول: يجمع بين الاحاديث في هذا بأن من
سمع المؤذن وهو في المسجد قال مثل قوله، فإن سمعه خارج
المسجد قال: "لا حول ولا قوة بالا بالله"؛ لانه يحتاج إلى
سعي
(5/252)
فيستعين بالله عليه.
وقالت طائفة: يجيب المؤذن إلى اخر الشهادتين، ولا يجيبه
فيما زاد على ذلك، وهو رواية عن مالك.
وفي "تهذيب المدونة": انه يجيبه إلى قوله: "اشهد ان محمداً
رسول الله"، وان اتم الاذان معه فلا بأس.
وظاهره: انه يتمه معه بلفظ الاذان.
وهؤلاء؛ قد يحتجون ببعض روايات حديث معاوية التي فيها
الاجابة إلى الشهادتين، ولكن قد روي عنه عن وجوه: اجابته
في تمام الاذان.
وروي من حديث الحكم بن ظهير، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله،
ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجاب المؤذن
إلى الشهادتين، ثم سكت.
ذكره ابو بكر الاثرم، وقال: هو حديث واه.
يشير إلى ان الحكم بن ظهير ضعيف جداً.
وروى ابو نعيم في "كتاب الصلاة": ثنا ابن عيينة، عن عمرو،
عن أبي جعفر، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إذا سمع المنادي يقول (اشهد ان لا اله الا
الله) قال: (وانا) . وإذا قال: (اشهد ان محمد رسول الله)
قال: (وانا) ، ثم سكت.
وهذا مرسل.
(5/253)
وحكى ابن عبد البر عن قوم، انهم راوا اجابة
المؤذن الحيعلتين خاصة.
وعن قوم. انهم راوا اجابته في الشهادتين خاصة، دون ما
قبلهما وبعدهما.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده، عن قتادة، ان عثمان كان إذا
سمع المؤذن يؤذن يقول كما يقول، في الشتهد والتكبير كله،
فإذا قال: "حي على الصلاة" قال: ما شاء الله، لا حول ولا
قوة الا بالله. فإذا قال: ((قد قامت الصلاة)) قال: مرحبا
بالقائلين عدلاً، وبالصلاة مرحباً واهلاً. ثم ينهض إلى
الصلاة.
وبإسناده عن مجاهد، انه كان إذا قال المؤذن: (حي على
الصلاة) قال: المستعان الله. [فاذا] قال: (حي على الفلاح)
قال: لا حول ولا قوة الا بالله.
وفي "مسند الامام أحمد" عن علي بن أبي طالب، انه كان إذا
سمع المؤذن يؤذن قال كما يقول، فإذا قال: "اشهد ان لا الله
الا الله، واشهد ان محمداً رسول الله" قال علي: اشهد ان لا
اله الا الله، واشهد ان محمداً رسول الله.
وخرج ابن السني بإسناد لايصح، عن معاوية، قال: كان
(5/254)
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إذا سمع المؤذن قال: (حي على الفلاح) قال:
(اللهم اجعلنا مفلحين) .
وذكر ابن جرير بإسناده، عن سعيد بن جبير، انه كان إذا سمع
المؤذن يقول: "حي على الصلاة" يقول: سمعنا واطعنا.
ولا فرق في استحباب اجابة المؤذن بين النساء والرجال، هذا
ظاهر اطلاق العلماء، وظواهر الاحاديث؛ فان خطاب الذكور
يدخل في الاناث تبعاً في كثير من العمومات، وهو قول أصحاب
الامام أحمد وغيرهم ممن تكلم في اصول الفقه.
وقد روي التصريح باجابة النساء المؤذن من حديث عائشة
وميمونة، وإسنادهما لا يصح.
وقد خرج ابن جرير الطبري حديث ميمونة، وفيه ان النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " وللرجال الضعفان
من الاجر" – يعني: في الاجابة.
وذكر ابن جرير، عن بعض اهل الحديث، انه قال: لا يحتاج بهذا
الحديث ذو علم بالاثار ومعرفة الرجال.
والامر كما قال؛ فإن إسناده ضعيف جداً.
وقد خرج ابو الشيخ الاصبهاني في "كتاب ثواب الاعمال" معناه
– أيضا - من حديث ابن المنكدر - مرسلاً.
وهذا قد يشعر بأن النساء في ثواب الاعمال نصف اجر الرجال.
(5/255)
ويشهد له: ما خرجه ابن أبي حاتم في
"تفسيره" من حديث الاشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي
المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن أبي عباس، في قوله: {وَلا
تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى
بَعْضٍ} [النساء: 32] الاية، قال: اتت امرأة النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا نبي الله،
للذكر مثل حظ الانثيين، وشهادة امراتين بشهادة الرجل،
أفنحن في العمل هكذا، ان عملت امراة حسنة كتب لها نصف
حسنة، فانزل الله هذه الاية {وَلا تَتَمَنَّوْا} ، فانه
عدل مني، وانا صنعته.
وبإسناده عن السدي في هذه الاية، قال: قال الرجال: نريد ان
يكون لنا من الاجر الضعف على اجر النساء كما لنا في السهام
سهمان ونريد ان يكون من الأجر اجران. وقالت النساء: نريد
ان يكون لنا اجر مثل اجر الرجال الشهداء، فانا لا نستطيع
ان نقاتل، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا. فأبي الله ذلك،
ولكن قال لهن: "سلوا الله من فضله يرزقكم الاعمال، وهو خير
لكم".
وروي قتادة هذا المعنى - أيضا.
وهذا كله يشعر بان النساء لهن نصف اجر الرجال في الاعمال
كلها.
وقد يخص ذلك بما لا يشرع مشاركة النساء للرجال في الاعمال،
او ما
(5/256)
يجوز لهن مشاركتهم فيها، [والاوصى] ترك
المشاركة، كصلاة الجماعة.
واجاب المؤذن؛ فانه داع إلى الصلاة في الجماعة.
وقد روي في حديث غريب، خرجه ابو نعيم في "تاريخ اصبهان":
ان صلاة المرأة وحدها تضاعف على صلاتها في الجماعة ببضع
وعشرون درجة.
وفي إسناده مقال.
وربما يأتي ذكره بلفظه في موضع اخر - ان شاء الله.
وهل يشرع للمؤذن نفسه ان يجيب نفسه بين كلمات الاذان؟
ذكر أصحابنا ان يشرع له ذلك.
وروي عن الامام أحمد انه كان إذا اذن يفعل ذلك.
واستدلوا بعموم قوله: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا كما يقول".
والمؤذن يسمع نفسه، فيكون مأمور بالاجابة.
وقاسوه على تأمين الامام على قراءة الفاتحة مع المأمومين.
وفي هذا نظر؛ فان تامين الامام وردت به نصوص.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا سمعتم
المؤذن)) ، ظاهره: يدل على التفريق بين السامع والمؤذن،
فلا يدخل المؤذن، كما قال أصحابنا في النهي عن الكلام لمن
يسمع الامام وهو يخطب، انه لا يشمل الامام، بل له
(5/257)
الكلام.
وكذا قال في الايمان ونحوها، لو قال: من دخل داري. او خاطب
غيره، فقال: من دخل دارك، وعلق على ذلك طلاقاً او غيره: لم
يدخل هو في عموم اليمين في الصورة [الاولى] ، ولا المخاطب
في الصورة الثانية.
وللمسألة نظائر كثيرة، في بعضها اختلاف، قد ذكرناها في
كتاب "القواعد في الفقه".
واستحب أحمد للمؤذن ان يبسط يديه ويدعو عنه قوله: "حي على
الصلاة". قال: اريت يزيد بن هارون يفعله، وهو حسن.
يعني: لما ورد من استحبابه للدعاء عن الاذان، وفيه احاديث
كثيرة مرفوعة، وموقوفة.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا سمعتم
المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن" يدخل فيه الاذان
والاقامة؛ لان كلا منهما نداء إلى الصلاة، صدر من المؤذن.
وقد اختلف العلماء: هل يشرع الاجابة في الاقامة؟ على
قولين:
احدهما: انه يشرع ذلك، وهو قول القاضي أبي يعلى واكثر
أصحابنا، وهو ظاهر مذهب الشافعي.
وفي "سنن أبي داود" من رواية محمد بن ثابت العبدي: ثنا رجل
من اهل الشام، عن شهر بن حوشب، عن أبي امامة - او عن بعض
أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ان
بلالا اخذ في الاقامة، فلما ان قال: "قد قامت الصلاة" قال
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اقامها الله
وادامها"، وقال في سائر الاقامة كنحو حديث عمر في الاذان.
(5/258)
وفي هذا [الإسناد] ضعف.
والقول الثاني: انه لايسرع الاجابة فيها، الا في كلمة
الاقامة خاصة، وهو وجه للشافعية.
وقد نقل المروذي عن الامام أحمد، انه كان إذا اخذ المؤذن
في الاقامة رفع يديه ودعا.
وروي عنه، انه كان يدعو، فإذا قال المؤذن: "لا اله الا
الله" قال: لا اله الا الله الحق المبين.
وظاهر هذا: ان الدعاء حينئذ افضل من الاجابة.
وتأوله القاضي على انه انما كان يدعو إذا فرغ من الاقامة.
وهذا مخالف لقوله: ((إذا اخذ المؤذن في الاقامة)) .
ولو سمع المؤذن وهو يصلي، فهل يجيبه، ام لا؟
هذا قد ينبني على اصل، وهو: ان العام في الاشخاص: هل هو
عام في الاحوال، ام لا؟ وفيه اختلاف، قد اشرنا اليه في غير
موضع.
ويدل على عمومه في الاحوال: انكار النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على من دعاه فلم يجبه حتى حتى سلم،
وقوله لم: ((الم يقل الله)) : {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ} )) [الانفال:24] ".
وقد اختلف العلماء في اجابة المؤذن في الصلاة على ثلاثة
اقوال:
احدها: انه لا يستحب اجابته في الصلاة بحال؛ لقول النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ان في الصلاة
لشغلا)) .
وهذا ظاهر مذهب الشافعي.
وهو قول
(5/259)
أصحابنا، قالوا: وقد نص أحمد على ان من دخل
المسجد فأذن المؤذن، فانه لا يصلي تحية المسجد حتى يجيب
المؤذن.
وهذا يدل على انه لا يجيبه في الصلاة.
وهو - أيضا - قول الحنفية وسحنون من المالكية.
الثاني: أنه يستحب انه يجيبه في الفريضة والنافلة، وهو قول
ابن وهب من أصحاب مالك.
والثالث: يستحب ان يجيبه في النفل دون الفرض، وهو المنصوص
عن مالك.
نقله عنه ابن القاسم، وقال: يقع في نفسي انه اريد بالحديث:
وقال: "يقول مثل ما يقول": التكبير والتشهد.
وكذا قال الليث، الا انه قال: ويقول: "لا حول ولا قوة الا
بالله" إذا قال "حي على الصلاة، حي على الفلاح".
وفي "تهذيب المدونة" للبرداعي المالكي: ومن سمع المؤذن
فليقل كقوله، وان كان في نافلة، إلى قوله: "اشهد ان لا اله
الا الله، واشهد ان محمداً رسول الله"، وان اتم الاذان معه
فلا باس.
ولعل اتمامه مختص بغير المصلي، او بما إذا اجابه في
الحيعلة بالحوقلة، كما قال الليث. انه إذا اجابه بذلك لم
تبطل صلاته. فريضة كانت او نافلة عند جمهور العلماء.
وهو قول مالك والشافعي وأصحابنا.
ويخرج من قول أحمد في العاطس في الصلاة: يحمد الله في
(5/260)
نفسه -: نقله عنه جماعة.
ونقل صالح بن أحمد، عن أبيه، قال: إذا رفع صوته به يعيد
الصلاة؛ لانه ليس من شأن الصلاة، الا ان لا يجهر به، وان
قال في نفسه فلا شيء عليه.
وهذا يحتمل انه اراد إذا تلفظ به بطلت صلاته.
وحكى الطحاوي عن أبي يوسف، انه لاتبطل صلاته إذا اجاب
المؤذن في الصلاة بالتكبير والتشهد عنه أبي يوسف، وتبطل
عند أبي حنيفة ومحمد إذا اراد به الاذان، كما لو خاطب
أنسانا في صلاته بلا اله الا الله، فان صلاته عنده تفسد.
وهو احدى الروايتين عن أحمد.
وقد فرق بينهما أصحابنا، بأن هذا قصد خطاب ادمي، بخلاف
المجيب للاذان، فانه انما قصد ذكر الله عز وجل.
وقد نقل مهنا، عن أحمد [فيمن] ذكر في صلاته كيسا ذهب له،
فقال: انا لله وانا اليه راجعون، فقال أحمد: يعيد صلاته.
وهذا يدل على انه إذا اتى في صلاته بذكر غير مشروع فيها
انها تبطل.
وكذلك روي جعفر بن محمد، عن أحمد، في الرجل يقول قبل ان
يتم الصلاة: اللهم انت السلام ومنك السلام؛ فليس هذا من
شأن الصلاة [ ... ] الصلاة.
وروي عنه ابو طالب، انه قال: لا باس بذلك قبل السلام
وبعده.
وان اجاب المؤذن في قوله "حي على الصلاة، حي على الفلاح"،
بمثل
(5/261)
قوله بطلت صلاته عند جمهور العلماء.
وقالت طائفة: لا تبطل صلاته بذلك – أيضا.
وحكاه ابن خويز منداد، عن مالك، وانه يكون بذلك مسيئاً،
وصلاته تامة. وكره ان يقول في الفريضة - مثل ما يقول
المؤذن، فان قال ذلك في الفريضة لم تبطل – أيضا -، ولكن
الكراهة في الفريضة اشد.
وكلام صاحب "تهذيب المدونة" ظاهرة موافقة ذلك، الا انه
قال: لاباس وهذا يدل على انه يكره، الا ان يختص ذلك بغير
المصلي.
وقد ورد حديث يستدل به على ان الاذان والاقامة لا [يبطلان]
الصلاة.
فروي الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، ان سويد بن قيس
اخبره، عن معاوية بن حديج، انه رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى يوماً، فسلم وقد بقيت من الصلاة
ركعة، فأدركه رجل، فقال: نسيت من الصلاة ركعة، فرجع فدخل
المسجد، وامر بلالا فأقام، فصلى للناس ركعة، فأخبرت بذلك
الناس، فقالوا لي: تعرف الرجل؟ فقلت: لا، الا ان اراه. فمر
بي، فقلت: هو هذا.
فقالوا: هذا طلحة بن عبيد الله.
(5/262)
خرجه الامام أحمد وابو داود والنسائي.
وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحهما"، وعندهما: انه سلم في
ركعتين من صلاة المغرب.
والحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
وسويد هذا، وثقة النسائي وابن حبان. ومعاوية بن حديج، اثبت
البخاري وغيره له صحبة، وانكر هـ الامام أحمد في رواية
الاثرم، فيكون حديثه هذا مرسلاً عنده.
فهذا يدل على [أنَّ] اقامة الصلاة لا يبطلها، وفيها
الحيعلتان، ويزيد على الاذان بقوله: "قد قامت الصلاة" –
أيضا -؛ ولهذا بني على ما مضى من صلاته هو ومن صلى معه.
وهذا قد يبنى على اصول مالك وأحمد – في رواية عنه - على
قوليهما: ان كلام العامد في الصلاة لمصلحة الصلاة لا يبطل
الصلاة. ويأتي ذكر هذا في موضع اخر - ان شاء الله.
وإذا قلنا: لا يجيب المؤذن في الصلاة: فهل يتابع إذا فرغ
منها؟
قال طائفة من الشافعية: يجيبه إذا سلم، فان طال الفصل، فهو
كترك سجود السهو.
وكذلك قال طائفة منهم في المتخلي والمجامع إذا سمع الاذان:
انه إذا
(5/263)
فرغ تابعه.
وقال بعضهم: وإذا لم يتابعه حتى فرغ عمداً، فالظاهر انه
يتدارك على القرب، ولا يتدارك بعد طول الفصل.
والافضل ان يتابعه على كل جملة عقب فراغ المؤذن منها من
غير تأخير، كما دل عليه حديث معاوية.
ومن زعم من المتاخرين: انه يجوز الاجابة حتى يفرغ ثم
يجيبه، وزعم انه لا يسمى مؤذناً حتى يفرغ من اذانه -: فقد
ابطل، وقال ما خالف به الاولين والاخرين. وفي تسميته
مؤذناً بعد فراغ اذانه - حقيقة اختلاف – أيضا - فأنه ينقضي
الفعل الذي اشتق منه الاسم، ولو سابق المؤذن في بعض
الكلمات.
ففي "تهذيب المدونة" للمالكية: إذا عجل قبل المؤذن بالقول
فلا بأس والله اعلم.
(5/264)
8 - باب
الدعاء عند النداء
(5/265)
614 - حدثني ابن عياش: ثنا شعيب بي أبي
حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، ان رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من قال
حين يسمع النداء: اللهم، رب هذه الدعوة التامة، والصلاة
القائمة، ات محمد الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقأمامحموداً
الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة)) .
هذا مما وتفرد [به] البخاري دون مسلم.
وخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب من حديث ابن المنكدر، لا
نعلم احد رواه غير شعيب بن أبي حمزة.
وذكر ابن أبي حاتم، عن أبيه، قال: قد طعن في هذا الحديث،
وكان
(5/265)
عرض شعيب بن أبي حمزة على ابن المنكدر
كتاباً، فامر بقراءته عليه، فعرف بعضاً وانكر بعضاً، وقال
لابنه - او لابن اخيه -: اكتب هذه الاحاديث، فدون شعيب ذلك
الكتاب ولم تثبت رواية شعيب تلك الاحاديث على الناس، وعرض
علي بعض تلك الكتب [فرأيتها مشابهة] لحديث إسحاق بن أبي
فروة، وهذا الحديث من تلك الاحاديث. انتهى.
(5/266)
وقد روى الاثرم، عن أحمد، قال: نظرت في كتب
شعيب، اخرجها الي ابنه، فإذا فيها من الصحة والحسن والمشكل
نحو هذا.
وقد روي، عن جابر من وجه اخر بلفظ فيه بعض مخالفة، وهو يدل
على ان لحديث جابر اصلاً.
خرجه الامام أحمد من رواية ابن لهيعة: ثنا ابو الزبير، عن
جابر، عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
قال: "من قال حين ينادي المنادي: اللهم، رب هذه الدعوة
التامة والصلاة النافعة، صل على محمد وارض عنه رضا لا
(5/267)
سخط بعده؛ استجاب الله دعوته".
وقد روي في هذا المعنى وسؤال الوسيلة عند سماع الاذان من
حديث أبي الدرداء، وابن مسعود – مرفوعا -، وفي إسنادهما
ضعف.
ومما يشهد له – أيضا -: حديث خرجه مسلم من طريق كعب بن
علقمة، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن
العاص، انه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي؛
فانه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا
الله لي الوسيلة؛ فانها منزلة في الجنة لا تنبغي الا لعبد
من عباد الله، وارجو ان اكون انا هو، فمن سأل لي الوسيلة
حلت له الشفاعة) .
وعبد الرحمن بن جبير هذا: مولى نافع بن عمرو القرشي
المصري، وظن بعضهم، انه: ابن جبير بن نفير، فوهم، وقد فرق
بينهما البخاري والترمذي وابو حاتم الرازي وابنه.
(5/268)
وقد روي عن الحسن، ان هذا الدعاء يشرع عند
سماع اخر الاقامة.
روي ابن أبي شيبة: ثنا ابو الاحوص، عن أبي حمزة، عن الحسن،
قال: إذا قال المؤذن: (قد قامت الصلاة) ، فقل: اللهم، رب
هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، اعط محمداً سؤله يوم
القيامة. فلا يقولها رجل حين يقيم المؤذن الا ادخله الله
في شفاعة محمد يوم القيامة.
وروي ابن السني في كتاب "عمل اليوم والليلة" من رواية عبد
الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن عطاء بن قرة، عن عبد الله بن
ضمرة، عن أبي هريرة، انه كان يقول إذا سمع المؤذن يقيم:
اللهم، رب هذه الدعوة التامة وهذه الصلاة القائمة، صل على
محمد واته سؤله يوم القيامة.
وهذه الاثار تشهد للمنصوص عند أحمد، انه يدعو عند الاقامة،
كما سبق عنه.
وقوله: (من قال حين يسمع النداء) : ظاهره انه يقول ذلك في
حال سماع النداء، قبل فراغه. ويحتمل انه يريد به حين يفرغ
من سماعه.
وحديث عبد الله بن عمرو صريح في انه يسأل الوسيلة بعد
اجابة المؤذن والصلاة على رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهذا هو الاظهر؛ فانه يشرع قبل جميع
(5/269)
الدعاء تقديم الثناء على الله والصلاة على
رسوله، ثم يدعو بعد ذلك.
وقوله: (اللهم رب هذه الدعوة التامة) .
والمراد بالدعوة التامة: دعوة الاذان؛ فانها دعاء إلى اشرف
العبادات، والقيام في مقام القرب والمناجاة؛ فلذلك كانت
دعوة تامة - أي: كاملة لا نقص فيها، بخلاف ما كانت دعوات
اهل الجاهلية: أمافي استنصار على عدو، او إلى نعي ميت، او
إلى طعام، ونحو ذلك مما هو ظاهره النقص والعيب.
وروى ابو عيسى الاسواري، قال: كان ابن عمر إذا سمع الاذان
قال: اللهم رب هذه الدعوة المستجابة المستجاب لها، دعوة
الحق وكلمة التقوى، فتوفني عليها، واحيني عليها، واجعلني
من صالح اهلها عملاً يوم القيامة.
وقد روي عن ابن عمر - موقوفا - من وجوه اخر.
وروي عنه مرفوعا من وجه ضعيف.
قال الدارقطني: الصحيح: موقوف.
وخرج بقي بن مخلد والحاكم من حديث عفير بن معدان، عن [سليم
بن عامر، عن] أبي امامة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: (إذا نادى المنادي فتحت ابواب السماء واستجيب
الدعاء، فمن نزل به كرب او شدة فليتحين المنادي إذا نادى،
فليقل مثل مقاله، ثم ليقل: اللهم، رب هذه الدعوة التامة
الصادقة الحق المستجابة،
(5/270)
والمستجاب لها، دعوة الحق وكلمة التقوى،
أحينا عليها، وامتنا عليها، وابعثنا عليها، واجعلنا من
خيار اهلها محياُ ومماتاً. ثم يسأل حاجته) .
وعفير، ضعيف جداً.
وقوله: (والصلاة القائمة) – أي: التي ستقوم وتحضر.
وقد خرج البيهقي حديث جابر، ولفظه: (اللهم اني اسالك بحق
هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة) .
وهذا اللفظ لا اشكال فيه؛ فان الله سبحانه جعل لهذه الدعوة
وللصلاة حقا كتبه على نفسه، لا يخلفه لمن قام بهما من
عباده، فرجع الامر إلى السؤال بصفات الله وكلماته.
ولهذا استدل الامام أحمد على ان القران ليس بمخلوق
باستعاذة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بكلمات الله التامة، وقال: انما يستعاذ بالخالق لا
بالمخلوق.
وأمارواية من روي: (اللهم، رب هذه الدعوة التامة والصلاة
القائمة) ، كما هي رواية البخاري والترمذي وغيرهما، فيقال:
كيف جعل هذه الدعوة مربوبة، مع ان فيها كلمة التوحيد، وهي
من القرآن، والقرآن غير مربوب ولا مخلوق؟
وبهذا فرق من فرق من اهل السنة بين افعال الايمان واقواله،
فقال: اقواله غير مخلوقة، وافعاله مخلوقة؛ لان اقواله كلها
ترجع إلى القران؟
(5/271)
واجيب عن هذا بوجوه:
منها: ان المربوب هو الدعوة إلى الصلاة خاصة، وهو قوله:
(حي على الصلاة، حي على الفلاح) ، وليس ذلك في القرآن، ولم
يرد به التكبير والتهليل. وفيه بعد.
ومنها: ان المربوب هو ثوابها. وفيه ضعف.
ومنها: ان هذه الكلمات من التهليل والتكبير هي من القرآن
بوجه، وليست منه بوجهه، كما قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((افضل الكلام من القران اربع، وهن من
القرآن: سبحانه الله، والحمد الله، ولا اله الا الله،
والله اكبر)) .
فهي من القرآن إذا وقعت في اثناء القرآن، وليست منه إذا
وقعت من كلام خارج عنه، فيصح ان تكون الكلمات الواقعة من
ذلك في ضمن ذلك مربوبة.
وقد كره الامام أحمد ان يؤذن الجنب، وعلل بأن في الاذان
كلمات من القرآن.
والظاهر: ان هذا على كراهة التنزيه دون التحريم.
ومن الأصحاب من حملة على التحريم، وفيه نظر؛ فان الجنب لا
يمنع من قول: "سبحان الله، والحمد الله، ولا قوة الا
بالله، والله اكبر" على وجه الذكر، دون التلاوة.
وسئل إسحاق عن الجنب يجيب المؤذن؟ قال: نعم؛ لانه ليس
(5/272)
بقران.
ومنها: ان الرب ما يضاف اليه الشيء، وان لم يكن خلقا لم،
كرب الدار ونحوه، فالكلام يضاف إلى الله؛ لانه هو المتكلم
به، ومنه بدأ، واليه يعود، فهذا بمعنى اضافته إلى [ربوبية]
الله.
وقد صرح بهذا المعنى الاوزاعي، وقال فيمن قال: (برب
القران) : ان لم يرد ما يريد الجهمية فلا بأس.
يعني: إذا لم يرد بربوبيته خلقه كما يريده الجهمية، بل
اراد اضافة الكلام إلى المتكلم به.
وقوله: (ات محمداً الوسيلة) ، قد تقدم حديث عبد الله بن
عمرو، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انه
قال: ((ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فانها منزلة في الجنة لا
تنبغي الا لعبد من عباد الله، وارجو ان اكون انا هو)) .
وخرج الامام أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال ((سلوا الله لي
الوسيلة)) . قالوا: يارسول الله، وما الوسيلة؟ قال: ((اعلى
درجة من الجنة، لاينالها الا رجل واحد ارجو ان اكون انا))
.
ولفظ الامام أحمد: ((إذا صليتم علي فسلوا الله لي
الوسيلة)) - وذكر باقيه.
وخرج الامام أحمد من حديث أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((الوسيلة درجة عند الله
عز وجل ليس فوقها درجة، فسلوا الله ان يؤتيني الوسيلة)) .
(5/273)
وأما ((الفضيلة)) ، فالمراد – والله اعلم
-: اظهار فضيلته على الخلق اجمعين يوم القيامة وبعده،
واشهاد تفضيله عليهم في ذلك الموقف، كما قال: ((انا سيد
ولد ادم يوم القيامة)) ، ثم ذكر حديث الشفاعة.
وقوله: ((وابعثه مقأمامحمودا)) ، هكذا في رواية البخاري
وأبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم.
وعزا بعضهم إلى النسائي، انه رواه بلفظ: ((المقام
المحمود)) بالتعريف، وليس كذلك.
[وكذلك] وقعت هذه اللفظة بالالف واللام في بعض طرق روايات
الاسماعيلي في ((صحيحه)) .
ووجه الرواية المشهورة: ان ذلك متابعة للفظ القرآن، فهو
اولى، وعلى هذا فلا يكون ((الذي وعدته)) صفة؛ لانه النكرة
لا توصف بالمعرفة وان تخصصت، وانما تكون بدلاً، لان البدل
لا يشترط ان يطابق في التعريف والتنكير، او يكون منصوباً
بعفل محذوف تقديره: ((اعني: الذي وعدته)) ، او يكون
مرفوعاً – خبر مبتدأ محذوف - أي ((هو الذي وعدته)) .
(5/274)
و ((المقام المحمود)) :
فسر بالشفاعة.
وقد روي ذلك عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وغيرهم.
وفسر: بأنه يدعى يوم القيامة ليكسى حلة خضراء، فيقوم عن
يمين العرش مقأمالا يقدمه احد، فيغبطه به الاولون
والاخرون.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من
حديث ابن مسعود، ونحوه من حديث كعب بن مالك – أيضا - وكذا
روي عن حذيفة - موقوفاً، ومرفوعاً.
وهذا يكون قبل الشفاعة.
وفسره مجاهد وغيره بغير ذلك.
وقوله: ((حلت له شفاعتي)) .
قيل: معناه نالته وحصلت له ووجبت.
وليس المراد بهذ الشفاعة الشفاعة في فصل القضاء؛ فان تلك
عامة لكل احد. ولا الشفاعة في الخروج من النار، ولا بد؛
فانه قد يقول ذلك من لا يدخل النار.
وانما المراد – ولله اعلم -: انه يصير في عناية رسول الله
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بحيث تتحتم له
شفاعته؛ فان كان ممن يدخل النار بذنوبه شفع له [في] اخراجه
منها، او في منعه من دخولها. وان لم يكن من اهل النار
فيشفع له في دخوله الجنة بغير حساب، او في رفع درجته في
الجنة.
وقد سبقت الاشارة إلى انواع شفاعة النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ((كتاب التيمم)) .
(5/275)
9 - باب
الاستهام في الاذان
ويذكر ان قوما اختلفوا في الاذان، فأقرع بينهم سعد.
قال عبد الله ابن الامام أحمد: ثنا أبي: ثنا هشيم، قال:
ابن شبرمة اخبرنا، قال: تشاح الناس بالقادسية على الاذان،
فارتفعوا إلى سعد، فأقرع بينهم.
وهذا إسناد منقطع.
قال عبد الله ابن الامام أحمد: سألت أبي عن مسجد فيه رجلان
يدعيان انهما احق بالمسجد، هذا يؤذن فيه وهذا يؤذن فيه؟
فقال: إذا استووا في الصلاح والورع اقرع بينهما. وكذلك فعل
سعد، فان كان احدهما اصلح [في دينه] فينبغي لهم الا
يختصموا.
فقلت: وان كان احدهما اسن واقدم في هذا المسجد، ينفق عليه
ويحوطه ويتعاهده؟ قال: هذا احق به.
ومعنى هذا: انه إذا تشاح في الاذان اثنان، فان امتاز
احدهما بمزيد فضل في نفسه فانه يقدم، وهو مراد أحمد بقوله:
((ان كان احدهما اصلح [في دينه] فينبغي لهم الا يختصموا))
- يعني: أن الأصلح أحق
(5/276)
فلا ينازع -، فإن استووا في الفضل في
أنفسهم وامتاز أحدهم بخدمة المسجد وعمارته قدم بذلك وقال
أصحابنا: إنه يقدم أحد المتنازعين باختصاصه بصفات الأذان
المستحبة فيه، مثل أن يكون أحدهما اندى صوتا وأعلم
بالمواقيت ونحو ذلك؛ فإن استووا في الفضائل كلها أقرع
بينهم حينئذ، كما فعل سعد.
والظاهر: أن مراد أحمد: التنازع في [طلب] الأذان ابتداء،
فأمامن ثبت له حق في المسجد، وهو مؤذن راتب فيه، فليس لأحد
منازعته، ويقدم على كل من نازعه.
وقد نقل الشالنجي عن أحمد ما يبين هذا المعنى:
قال اسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد عن القوم إذا
اختلفوا في الأذان فطلبوه جميعاً؟ فقال: القرعة في ذلك
حسن.
وقال: ثنا هشيم، عن ابن شبرمة، أن الناس تشاحوا يوم
القادسية في الأذان، فأقرع بينهم سعد في ذلك.
قال الشالنجي: قال ابو أيوب - يعني: سليمان بن داود
الهاشمي -: إن مات المؤذن وله ولد صالح فهو أحق بالأذان،
وإن لم يطلبه، وإن لم يكن بأهل لذلك، وطلبه صلحاء المسجد
يقرع بينهم في ذلك.
وبه
(5/277)
قال أبو خيثمة - يعني: زهير بن حرب.
وقال ابن أبي شيبة في الأذان: على ما جاء: ((يؤم القوم
اقرؤهم لكتاب الله)) ، وكذلك الأذان.
قال الجوزجاني بعد أن ذكر هذا عن الشالجني - ما معناه -:
إن اختلاف الناس يرد إلى السنة.
ثم روى حديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
((المؤذن مؤتمن)) من طرق.
وروى حديث حسين بن عيسى، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن
ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((ليؤذن لكم خياركم)) .
وقد خرجه ابو داود وابن ماجه.
وتكلم فيه من جهة الحسين، والحكم – أيضا.
وفي مراسيل صفوان بن سليم، أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبني خطمة من الانصار: ((يابني
خطمة، اجعلوا مؤذنكم أفضلكم في انفسكم)) .
ثم قال الجوزجاني: لا بد ان يكون المؤذن خياراً، وبأن يكون
مؤتمناً متبعاً للسنة، فالمبتدع غير مؤتمن. فإن اجتمع هذه
الخلال في عدة من اهل المسجد، فإن أحقهم بالأذان أنداهم
صوتا.
ثم ذكر حديث عبد الله بن زيد، أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ((القه على بلال؛ فإنه أندى
صوتا منك)) . قال: وإنما أظنهما كانا متقاربين في الفضل
والامانة، وفضله بلال
(5/278)
بالصوت، فلذلك رآه أحق.
فإذا اجتمع رجال في المسجد وعلاهم رجل ببعض هذه الخصال كان
أحق بالاذان، وإذا استوت فيها حالاتهم فالقرعة عند ذلك
حسن.
واشار إلى فعل سعد وعضده بقول النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو يعلم الناس ما في النداء، ثم
لم يجدوا الا ان يستهموا عليه لا ستهموا)) .
ثم قال: فأماالاباء والابناء والعصبة في الاذان والامامة،
فانا لا نعلم فيه سنة ماضية. والله اعلم. انتهى ما ذكره
ملخصاً.
وخرج ابو داود من رواية غالب القطان، عن رجل، عن أبيه، عن
جده، ان رجلا منهم اتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فقال: ان أبي شيخ كبير، وهو عريف الماء، وانه
سألك ان تجعل الي العرافة بعده؟ فقال: ((ان العرافة حق،
ولابد للناس من العرفاء، والعرفاء في النار)) .
وهذا إسناد مجهول.
ولم يذكر انه جعل العرافة له بمجرد كون أبيه عريفاً،
والامامة العظمى لا تستحق بالنسب، ولهذا انكر الصحابة على
من بايع لولده.
وقال عبد الرحمن بن أبي بكر. جئتم بها هرقلية، تبايعون
لابنائكم!
وسمع ذلك عائشة والصحابة، ولم ينكروه عليه، فدل على ان
البيعة للابناء سنة الروم وفارس، وأماسنة المسلمين فهي
البيعة لمن هو افضل واصلح للامة.
وما تزعمة الرافضة في ذلك فهو نزعة من نزعات
(5/279)
المشركين في تقديم الاولاد والعصبات.
وسائر الولايات الدينية سبيلها سبيل الامامة العظمى في
ذلك. والله اعلم.
وقد روي ما يستدل به من جعل الاذان للابناء بعد ابائهم.
قال الامام أحمد: ثنا خلف بن الوليد: ثنا الهذيل بن بلال،
عن ابن أبي محذورة، عن أبيه - او جده -، قال: جعل رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الاذان لنا
ولموالينا، والسقاية لبني هاشم، والحجابة لبني عبد الدار.
الهذيل بن بلال، ضعفه ابن معين. وقواه الامام أحمد، وابو
حاتم.
وإسناده مشكوك فيه، ولم يسم ابن أبي محذورة هذا.
وخرج الامام أحمد والترمذي من رواية أبي مريم، عن أبي
هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
قال: ((الملك في قريش، والقضاء في الانصار، والاذان في
الحبشة)) .
وخرجه الترمذي موقوفاً على أبي هريرة، وقال: هو اصح.
وابو مريم هذا، ليس بالمشهور.
والمراد بهذا: ان سيد المؤذنين كان من الحبشة، لا انه
يتوارثونه بعد بلال، فانه لا يعرف بعده من الحبشة مؤذن.
(5/280)
وقد يستدل – أيضا - بان ولد أبي محذورة
كانوا يتوارثون الاذان بمكة مدة طويلة، وكذلك اولاد سعد
القرظ بالمدينة.
وروى الدارقطني بإسناده عن سعد القرظ، ان عمر دعاه، فقال
له: الاذان اليك وإلى عقبك من بعدك.
وفي الإسناد ضعف.
قال الشافعي – رحمه الله - وأصحابه: يستحب ان يكون المؤذن
مولد بعض من جعل بعض الصحابة الاذان فيهم، ثم الاقرب اليهم
فالاقرب.
وقال الشافعي - أيضا -: إذا تنازع جماعة في الاذان، ولم
يكن للمسجد مؤذن راتب اقرع بينهم، وكذا إذا كان له مؤذنون،
وتنازعوا في الابتداء، او كان المسجد صغيراً، وادى اختلاف
اصواتهم إلى تهويش، فيقرع، ويؤذن من خرجت له القرعة،
أماإذا كان هناك راتب، ونازعه غيره، قدم الراتب، وان كان
جماعة مرتبون، وامكن اذان كل واحد في موضع من المسجد؛
ولكبره، اذن كل واحد وحده، وان كان صغيراً، ولم يؤد اختلاف
اصواتهم إلى تهويش اذنوا جملة واحدة.
وهذا كله إذا كان التشاح رغبة في فضله وثوابه، فان كان
رغبة في الرياسة والتقدم فينبغي ان يؤخر من قصد ذلك ولا
يمكن منه، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((انا لا نولي عملنا هذا من طلبه او حرص
عليه)) .
قال سيفان الثوري: إذا رايت الرجل حريصاً على الامامة
فأخره.
(5/281)
وكذلك إذا كان غرضه اخذ العوض الذي يعطاه
اهل الاذان في هذه الازمان، أماممن بيت المال - وقد عدم
ذلك -، او من الوقف.
فان تشاح اثنان: احدهما غرضه ثواب الاذان، والاخر غرضه غرض
الدنيا، فلا شك في ان الاول احق.
وقد قال عثمان بن أبي العاص: ان من اخر ما عهد إلى النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ان اتخذ مؤذناً لا يأخذ
على اذانه اجراً.
اخرجه الامام أحمد وابو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي.
وقال: حسن، والعمل عليه عند اهل العلم، كرهوا ان يأخذوا
على الاذان اجراً، واستحبوا للمؤذن ان يحتسب في اذانه.
وروى ابو نعيم: ثنا عمارة بن زاذان، عن يحيى البكاء، قال:
كنت اطوف مع سعيد بن جبير، فمر ابن عمر، فاستقبله رجل من
مؤذني الكعبة، فقال ابن عمر: والله، اني لابغضك في الله؛
لاخذ الدارهم.
قال: وثنا المسعودي، عن القاسم - هو: ابن عبد الرحمن -،
قال: كان يقال: اربع لا يؤخذ عليهن رزق: قراءة القرآن،
والاذان، والقضاء، والمقاسم.
(5/282)
وروى وكيع في ((كتابه)) عن عمارة بن زاذان،
عن يحيى البكاء، ان ابن عمر قال له رجل في الطواف من مؤذني
الكعبة: اني لاحبك في الله. قال: واني لابغضك في الله؛
لتحسينك صوتك لاجل الدراهم.
قال: معاوية بن قرة: لا يؤذن الا محتسب.
وروى ابن أبي شيبة: ثنا ابن نمير، عن حلام بن صالح، عن
فائد بن بكير، قال: خرجت مع حذيفة إلى المسجد صلاة الفجر،
وابن النباح مؤذن الوليد بن عقبة يؤذن، وهو يقول: الله
اكبر الله اكبر، اشهد ان لا اله الا الله، اشهد ان لا اله
الا الله، يهوي بأذانه يمينا وشمالاً. فقال حذيفة: من يرد
الله ان يجعل رزقه في صوته فعل.
وهذا انما قاله حذيفة على وجه الذم له؛ لانه راه يتمايل في
اذانه، كأنه يعجب بحسن صوته، فجعل حذيفة يناكل ذلك، وهذا
مثل قول ابن عمر.
ونص الشافعي - في الحديث -: ان الامام ليس له أن يرزق
المؤذنين وهو يجد من يؤذن له طوعا ممن له امانة.
وكذلك قال أصحابنا.
(5/283)
وقال الشافعي - في القديم -: قد رزقهم امام
هدى: عثمان بن عفان.
وسئل الضحاك عن مؤذن يؤذن بغي اجر فيعطى: هل يأخذ؟ قال: ان
عطى من غير مسألة، وكان فقيراً، فلا باس ان يأخذ.
وظاهر مذهب الامام أحمد: انه لايأخذ على شيء من الاذان
اجراً، ونص عليه في الاذان بخصوصه.
وروي عنه: ان الامام يرزقهم من الفيء، وهو محمول على انه
لم يجد من يتطوع بذلك.
ونقل عنه ابن منصور في الذي يقوم للناس في رمضان: أيعطى؟
قال: ما يعجبي ان يأخذ على شيء من الخير اجراً.
قال: وقال إسحاق بن راهويه: لايسعه ان يؤم على نية اخذ،
وان ام ولم ينو شيئا من ذلك، فأعطي او اكرم جاز.
ونقل حرب وغيره عن أحمد: انه يقدم عند [النسا] من رضيه اهل
المسجد.
فحكى القاضي وأصحابه هذه الرواية ثانية عن أحمد؛ لان الحق
لهم في ذلك؛ لانهم اعرف بمن يبلغهم صوته، ومن هو اعف عن
النظر عند علوة عليهم للاذان.
وجعل صاحب ((المغني)) رضا الجيران مقدما على القرعة، وانه
انما يقرع بعد ذلك.
(5/284)
والصحيح: طريقة الاكثرين؛ لان ابا داود نقل
عن أحمد: انه لا يعتبر رضا الجيران بالكلية، وانما يعتبر
القرعة، فعلم ان رواية ومن وافقه تخالف ذلك.
ولا يعتبر رضا من بني المسجد واختياره -: نص عليه أحمد؛
معللا بأن المسجد لله، ليس للذي بناه.
يشير إلى انه خرج من ملكه، وصار لله عز وجل.
وهذا يدل على انه لا [تصرف] له على المسجد الذي بناه.
وهو المشهور – أيضا - عن الشافعية: ان باني المسجد ليس احق
بامامته واذانه من غيره.
وقال ابو حنيفة وطائفة من الشافعية – كالروياني -: ان من
بني المسجد فهو احق بأذانه وامامته، كما ان من اعتق عبداً
فله ولاؤه.
وهذا التشبيه لا يصح؛ لان ثبوت الولاء على العبد المعتق لا
يستفيد به الولاية عليه في حياته، والحجر عليه، والانتفاع
بماله، وانما يستفيد به رجوع ماله اليه بعد موته؛ لانه لا
بد من انتقال مال عنه حينئذ، فالمولى المعتق احق به من
غيره من المسلمين؛ لاختصاصه بإنعامه عليه.
وأماالمسجد، فالمقصود من بنائه انتفاع المسلمين به في
صلواتهم واعتكافهم وعباداتهم، والباني له [كبقية] المسلمين
في ذلك من غير زيادة.
فإن شرط باني المسجد عند وقفه له قبل مصيره مسجداً بالفعل
انه وولده احق بإمامته واذانه صح شرطه واتبع، وان كان
غيرهم اقرأ منهم واندى صوتاً، إذا كان فيهم من يصلح لذلك،
وان كان غيره اولى منه -: نص على ذلك: عبيد الله بن الحسن
العنبري.
وهو قياس قول أحمد في صحة الواقف
(5/285)
لنفسه ما شاء من غلة الوقف ومنافعه.
قال البخاري –رحمه الله -:
(5/286)
615 - ثنا عبد الله بن يوسف: ابنا مالك، عن
سمي مولى أبي بكر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ان رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لو يعلم
الناس ما في النداء والصف الاول، ثم لا يجدون الا ان
يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا
اليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لاتوهما ولو حبوا))
.
فقوله: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الاول)) –
يعني: لو يعلمون ما فيهما من الفضل والثواب، ثم لم يجدوا
الوصول اليهما الا بالاستهام عليهما - ومعناه: الاقراع -
لاستهموا عليهما تنافساً فيهما ومشاحة في تحصيل فضلهما
واجرهما.
وهذا مما استدل به من يرى الترجيح عند التنافس في الاذان
بالقرعة، كما سبق.
وقد قيل: ان الضمير في قوله: ((لا ستهموا عليه)) يعود إلى
الصف الاول؛ لانه اقرب المذكورين، ولم يقل: ((عليهما)) .
والاظهر: انه يعود إلى
(5/286)
النداء والصف الاول، كقوله تعالى:
{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}
[التوبة:62] .
وقد دل الحديث على القرعة في التنافس في الصف الاول إذا
استبق اليه اثنان وضاق عنهما وتشاحا فيه، فانه يقرع
بينهما.
وهذا مع تساويهما في الصفات، فإن كان احدهما افضل من الاخر
توجه ان يقدم الافضل بغير قرعة، عملا بقول النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ليليني منكم اولوا الاحلام
والنهي، ثم الذين يلونهم)) .
خرجه مسلم من حديث ابن مسعود، ومن حديث أبي مسعود
الانصاري، كلاهما عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
وقد ذكر أصحابنا: انه لو قدم بميتين إلى مكان مسبل من
مقبرة
(5/287)
مسبلة في ان واحد، فإن كان لاحدهما هناك
ميزة من اهل مدفونين عنده او نحو ذلك قدم، وان استويا اقرع
بينهما، ولو دفن اثنان في قبر، واستويا في الصفات اقرع
بينهما، فقدم إلى القبلة من خرجت له القرعة.
وفعله معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بامرأتين له، دفنهما
في قبر.
وأماان كان ثبت لاحدهما حق التقدم في الصف، فليس لاحد ان
يدفعه عنه، ولو كان افضل منه؛ لقول النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يقيم الرجل [الرجل] من مجلسه
فيجلس فيه، ولكن تفسحوا توسعوا)) .
فأن كان السابق إلى الصف غلأمالم يبلغ الحلم جاز تأخيره.
فعله أبي بن كعب بقيس بن عبادة، وصرح به أصحابنا، وهو ظاهر
كلام الامام أحمد، وقول سفيان.
وكذلك ان قدم رجل عبداً له إلى الصف ثم جاء، فله ان يؤخره
ويجلس مكانه.
وأماان تأخر السابق باختياره، فهل يكره، ام لا؟ فيه قولان،
مبنيان على جواز الايثار بالقرب.
وظاهر كلام الامام أحمد كراهته، حتى في حق الابن مع أبيه،
وحكى عنه جوازه - أيضا.
وعلى القول بالجواز، فلو قام من مكانه ايثاراً لرجل، فسبق
اليه غير المؤثر، فهل يستحقه؟ فيه وجهان:
احدهما: يستحقه؛ لان المؤثر سقط حقه بزواله عنه.
والثاني: لا – وهو اصح -؛ لان من كان احق بمكانه، فله ان
يجلس به بنفسه، ويؤثر به غيره.
وبهذا فسره الامام أحمد، واستحسن ابو عبيد
(5/288)
ذلك منه.
وانما يسقط حقه إذا قام معرضاً عنه؛ ولهذا لو قام لحاجة ثم
عاد فهو احق بمجلسه، فكذا إذا قام لايثار غيره.
وفي قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لو
يعلمون ما في النداء والصف الاول، ولم يجدوا الا ان
يستهموا عليه لاستهموا عليه)) : دليل على ان الاذان لا
يشرع اعادته مرة بعد مرة، الا في اذان الفجر، كما جاءت
السنة به، والا فلو شرعت اعادته لما استهموا، ولاذن واحد
بعد واحد.
وقد صرح بمثل ذلك بعض أصحابنا، وقال: مع التزاحم يؤذن واحد
بعد واحد. وهو مخالف للسنة.
وروي عن عمر، انه اختصم اليه ثلاثة في الاذان، فقضى لاحدهم
بالفجر، للثاني بالظهر والعصر، وللثالث بالمغرب والعشاء.
وقد قيل: ان ابا بكر الخلال خرجه بإسناده، ولم اقف إلى
الان عليه.
ولو قيل: انه يؤذن المتشاحون جملة لم يبعد.
وقد نص أحمد على انه لو اذن على المنارة عدة فلا بأس.
وقال القاضي ابو يعلى وأصحابه – متابعة للشافعي وأصحابه -:
يستحب ان يقتصر على مؤذنين، ولا يستحب ان يزيد على اربعة.
ثم قالوا: ان كان المسجد صغيرا اذن واحد منهم بعد واحد،
وان كان كبيراً اذنوا جملة؛ لانه ابلغ في التبليغ
والاعلام.
وقال أصحاب
(5/289)
الشافعي: إذا ضاق الوقت والمسجد كبير اذنوا
في اقطاره، وان كان صغيرا اذنوا معاً، الا ان تختلف
اصواتهم فيؤذن واحد.
واستدلوا بإذان بلال وابن ام مكتوم، وذاك انما كان في
الفجر خاصة، ولا يعرف في غير الفجر، الا في الجمعة من حين
زاد عثمان النداء الثالث على الزوراء.
وحمل ابن حبيب المالكي الاستهام على الاذان على الوقت
المضيق كالجمعة والمغرب.
يشير إلى انه في الاوقات المتسعة ان يؤذن واحد بعد واحد.
وقال حرب: قلت لأحمد: فالأذان يوم الجمعة؟ [قال] : إذا اذن
على المنارة عدة فلا باس بذلك؛ قد كان يؤذن للنبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلال وابن ام مكتوم، وجاء ابو
محذورة وقد اذن رجل قبله فأذن ابو محذورة - أيضا.
وهذا النص يشعر بأنه يجوز ان يؤذن واحد بعد واحد في غير
الفجر، وهذا محمول على جوازه إذا وقع احيانا، لا انه يستحب
المداومة عليه، وأمااذان بلال وابن [ام] مكتوم فكان في
الفجر، ولم يؤذنا جملة، فلا يدل على الاجتماع على الاذان
بحال.
وقد علل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اذان
بلال، فقال: ((ليرجع قائمكم، ويوقظ نائمكم)) .
وهذا المعنى لا يوجد في غير صلاة الصبح، ولا روي في غير
الصبح انه اذن علي عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مرتين.
(5/290)
وفي ((الصحيحين)) عن ابن عمر: كان للنبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجد واحد مؤذنان:
بلال وابن ام مكتوم.
وهذا يستدل به على انه يستحب نصب مؤذنين للمسجد خشية ان
يغيب احدهما فيؤذن الاخر؛ لئلا يتعطل الاذان مع غيبته.
والذي ذكر الامام أحمد، خرجه ابن أبي شيبة: ثنا حفص، عن
الشيباني، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: رأيت ابا محذورة
جاء وقد اذن أنسان، فأذن هو واقام.
وهذا فعله ابو محذورة مرة؛ لافتئات غيره عليه بأذانه قبله،
ولم يكن مع أبي محذورة مؤذن راتب غيره بمكة.
قال ابن أبي شيبة: ثنا يزيد من هارون، عن حجاج، عن شيخ من
المدينة، عن بعض بني مؤذني النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قال: كان ابن ام مكتوم يؤذن ويقيم بلال،
وربما اذن بلال واقام ابن ام مكتوم.
إسناد ضعيف.
ولو صح لكان دليلاً على انهما لم يكونا يجتمعان في اذان
واحد في غير صلاة الفجر.
(5/291)
وروى وكيع في ((كتابه)) ، عن اسرائيل، عن
جابر، عن عامر: كان لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ثلاثة مؤذنين: بلال وابو محذورة وابن ام
مكتوم، فإذا غاب واحد اذن الاخر. وقال رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لقد هممت ان اجعل المؤذنين
ستة)) . قال: فإذا اقيمت الصلاة اشتدوا في الطرق، فاذنوا
الناس بالصلاة.
هذا مرسل ضعيف؛ فان جابراً هو الجعفي.
وابو محذورة لم يكن يؤذن للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالمدينة.
وقد خرجه البيهقي، عن الحاكم، عن أبي بكر ابن إسحاق، عن
العباس ابن الفضل الاسفاطي، عن أبي بكر بن أبي شيبة: ثنا
يحيى، عن اسرائيل عن أبي إسحاق، عن الاسود، عن عائشة،
قالت: كان للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ثلاثة مؤذنين: بلال، وابو محذورة، وابن ام مكتوم.
وقال: قال ابو بكر - يعني: ابن إسحاق -: هو صحيح.
وليس كما قال ابن إسحاق.
هذا في كتاب ابن أبي شيبة ((المصنف)) .
(5/292)
والصحيح: حديث وكيع، عن اسرائيل، عن جابر
الجعفي، عن الشعبي - مرسلاً.
وروى الامام أحمد: ثنا اسماعيل: ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن
الاسود، عن عائشة، قالت: كان للنبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذنان: بلال وعمرو بن ام مكتوم.
وهذه الرواية اصح.
وخرج الدارقطني من رواية اولاد سعد القرظ، عن ابائهم، عن
جدهم سعد، ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال له: ((يا سعد، إذا لم تر بلالا معي فأذن)) .
وفي إسناده ضعف.
وفي الحديث: دليل على شرف الاذان وفضله، واستحباب المنافسة
فيه لاكابر الناس واعيانهم، وانه لا يوكل إلى اسقاط الناس
وسفلتهم، وقد كان الاكابر ينافسون فيه.
قال: قيس بن أبي حازم: قال عمر: لو كنت اطيق الاذان مع
الخليفى لاذنت.
وقال عبد الله بن الحسن: قال ابن أبي طالب: ما اسى على
شيء، الا اني كنت وددت اني كنت سألت للحسن والحسين الاذان.
وعن سعد بن أبي وقاص، قال: لان اقوى على الاذان احب الي من
(5/293)
ان احج واعتمر واجاهد.
وعن عمر وابن مسعود - معناه.
وعن ابن الزبير، قال: وددت ان رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعطانا النداء.
وقال النخعي: كانوا يستحبون ان يكون مؤذنيهم فقهاؤهم؛
لانهم ولوا امر دينهم.
وقال الحسن: قال عمر: لا يستحي رجل ان يكون مؤذنا.
وقال زاذان: لو يعلم الناس ما في فضل الاذان لاضطربوا عليه
بالسيوف.
وقال شبيل بن عوف، قال عمر: من مؤذنوكم؟ قلنا: عبيدنا
وموالينا. قال: ان ذلك لنقص بكم كبير.
وروى قيس بن أبي حازم، عن عمر - مثله -، قال: وقال: لو
اطقت الاذان مع الخليفى لاذنت.
وقال يحيى ابن أبي كثير: حدثت ان رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لو علم الناس ما في الاذان
لتحاوره)) . قال: وكان يقال: ابتدروا الاذان، ولاتبدروا
الامامة.
(5/294)
وقال حماد بن سلمة: ابنا ابو غالب، قال:
سمعت ابا امامة يقول: المؤذنون امناء للمسلمين، والائمة
ضمناء. قال: والاذان احب الي من الامامة.
خرجه البيهقي.
وممن راى الاذان افضل من الامامة: الشافعي في اصح قوليه،
نص عليه في ((الام)) ، وعلى كراهة الامامة؛ لما فيها من
الضمان.
وهو – أيضا - اصح الروايتين عن أحمد.
وروى ابو حمزة السكري، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي
هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
قال: ((الامام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم ارشد الائمة
واغفر للمؤذنيين)) . قالوا: يا رسول الله، تركتنا نتنافس
في الاذان، فقال: ((ان من بعدكم زمانا سفلتهم مؤذنوهم)) .
خرجه البراز.
وقال: لم يتابع عليه ابو حمزة.
يعني: على الزيادة التي آخره؛ فإن أول الحديث معروف بهذا
الإسناد، خرجه أبو داود والترمذي وغيرهما.
وقال
(5/295)
الدارقطني: هذه الالفاظ ليست محظوظة.
قلت: وقد رويت بإسناد ضعيف، عن يحيى بن عيسى الرملي، عن
الأعمش – أيضا.
ذكره ابن عدي.
وفي إسناد الحديث اختلاف كثير، وقد روي موقوفا على أبي
هريرة.
قال الشافعي في ((الام)) : احب الاذان؛ لقول رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اللهم اغفر
للمؤذنين)) ، واكره الامامة للضمان، وما على الامام فيها.
واستدل من رجح الامامة - وهو احد قولي الشافعي، وحكي رواية
عن أحمد -: بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
والخلفاء بعده كانوا يتولون الامامة دون الاذان.
واجيب عن ذلك بانهم كانوا مشتغلين عن الاذان بمصالح
المسلمين التي لا يقوم غيرها فيها مقامهم، فلم يتفرغوا
للاذان ومراعاة اوقاته؛ ولهذا قال عمر: لو كنت اطيق الاذان
مع الخليفي لاذنت.
والخليفي: الخلافة.
(5/296)
وأماالامامة، فلم يكن لهم بد من صلاة وهم
ائمة الناس في امور دينهم وديناهم، فلذلك تقلدوا الامامة،
ومن قدر على الجمع بين المرتبتين لم يكره له ذلك، بل هو
افضل، وكلام عمر يدل عليه، وكان ابن عمر يفعل ذلك.
وقال مصعب بن سعد: هو من السنة.
وللشافعية وجه بكراهة الجمع.
وفي النهي عن الجمع حديث مرفوع: خرجه البيهقي وغيره، وهو
غير صحيح.
وقال الماوردي منهم: للأنسان في الاذان والامامة اربعة
احوال: حال يمكنه القيام بهما والفراغ لهما، فالاصل ان
يجمع بينهما. وحال يعجز عن الامامة لقلة علمه وضعف قراءته،
ويقدر على الاذان لعلو صوته ومعرفته بالاوقات، فالأنفراد
له بالاذان افضل. وحال يعجز فيه عن الاذان لضعف صوته وقلة
ابلاغه، ويكون قيما بالامامة لمعرفته بأحكام الصلاة وحسن
قراءته، فالإمامة له افضل. وحال يقدر على كل واحد منهما
ويصلح له، ولا يمكنه الجمع بينهما، فأيهما افضل؟ فيه
وجهان.
(5/297)
10 - باب
الكلام في الاذان
وتكلم سليمان بن صرد في اذانه.
وقال الحسن: لا بأس ان يضحك وهو يؤذن ويقيم.
روى وكيع في ((كتابه)) عن محمد بن طلحة، عن جامع بن شداد،
عن موسى بن عبد الله بن يزيد الخطمي، عن سليمان بن صرد -
وكانت له صحبة -، انه كان يؤذن في العسكر، وكان يأمر غلامه
في أذانه بالحاجة.
وعن الربيع بن صبيح، عن الحسن، قال: لا بأس أن يتكلم في
أذانه بالحاجة.
وروى ابن أبي شيبة من طرق [عن] الحسن، أنه لا بأس أن يتكلم
في أذانه
(5/298)
بالحاجة، وإقامته.
وأختلف العلماء في الكلام في الأذان والاقامة على ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنه لا بأس به فيهما، وهو قول الحسن والاوزاعي.
والثاني: يكره فيهما، وهو قول ابن سيرين والشعبي والنخعي
وأبي حنيفة ومالك والثوري والشافعي، ورواية عن أحمد.
وكلهم جعل كراهة الكلام في الاقامة اشد.
وعلى هذا، فلو تكلم لمصلحة، كرد السلام وتشميت العاطس،
فقال الثوري وبعض أصحابنا: لا يكره.
والمنصوص عن أحمد في رواية على بن سعد أنه يكره، وهو قول
مالك وأبي حنيفة.
وقال أصحاب الشافعي: لا يكره، وتركه أولى.
وكذلك الكلام لمصلحة، فإن كان لغير مصلحة كره.
وقال إسحاق: إن كان لمصلحة غير دنيوية كرد السلام والامر
بالمعروف فلا يكره، والا كره، وعليه حمل ما فعله سليمان بن
صرد.
ووافق ابن بطة من أصحابنا قول إسحاق، إن كان لمصلحة.
ورخص في الكلام في الأذان عطاء وعروة.
(5/299)
والقول الثالث: يكره في الاقامة دون
الاذان، وهو المشهور عن أحمد، والذي نقله عنه عامة أصحابه،
واستدل بفعل سليمان بن صرد.
وقال الاوزاعي: يرد السلام في الاذان، ولم يرده في
الاقامة.
وقال الزهري: إذا تكلم في اقامته يعيد.
الفرق بينهما: ان مبنى الاقامة على الحدر والاسراع،
فالكلام ينافي ذلك. ومتى كان الكلام يسيرا بنى عليه ما مضى
من الاذان والاقامة عند جمهور العلماء، الا ماسبق عن
الزهري في الاقامة. وروي عنه مثله في الاذان - أيضا.
ووافقه بعض أصحابنا في الكلام المحرم خاصة، الاذان
والاقامة.
وان طال الكلام بطل ما مضى، ووجب عليه الاستئناف عند
الاكثرين؛ لانه يخل بالمولاة في الاذان، ولا يحصل به
الاعلام؛ لانه يظن متلاعباً.
وللشافعي قولان في ذلك.
وحاصل الامر: ان الكلام في الاذان شبيه بكلام الخاطب في
خطبته.
والمشهور عن الامام أحمد، انه لا يكره الكلام للخاطب،
وانما الكراهة للسامع.
وذهب كثير من العلماء إلى التسوية بينهما.
وأماما حكاه البخاري عن الحسن من الضحك في الاذان
والاقامة، فمراره: ان الضحك في الاذان والاقامة لا
يبطلهما، كما يبطل الصلاة، ولا
(5/300)
باس بالاذان والاقامة وان وقع في اثنائها
ضحك، غلب عليه صاحبه، ولم يرد انه لاباس ان يتعمد المؤذن
الضحك في اذانه واقامته؛ فان ذلك غفلة عظيمة منه عن تدبر
ما هو فيه من ذكر الله، وقد كان حال الحسن على غير ذلك من
شدة تعظيم ذكر الله في الاذان وغيره والخشوع عند سماعه.
وقد روى ابن أبي الدنيا في "كتاب الرقة والبكاء" بإسناده،
عن يحيى البكاء، عن الحسن، قال: إذا اذن المؤذن لم تبق
دابة بر ولا بحر الا اصغت واستعمت. قال: ثم بكى الحسن بكاء
شديداً.
وبإسناده، عن أبي عمران الجوني، انه كان إذا سمع الاذان
تغير لونه، وفاضت عيناه.
وعن أبي بكر النهشلي نحو – أيضا -، وانه سئل عن ذلك، فقال:
اشبهه بالصريخ يوم العرض، ثم غشى عليه.
وحكى مثل ذلك من غيره من الصالحين - أيضا.
وعن الفضيل بن عياض، أنه كان في المسجد، فأذن المؤذن، فبكى
حتى بل الحصى، ثم قال: شبهته بالنداء، ثم بكى.
ولكن إذا غلب الضحك على المؤذن في اذانه بسبب عرض له لم
يلم على ذلك، ولم يبطل اذانه.
وقد روى عن علي، انه كان يوماً على المنبر، فضحك ضحكاً ما
رئي ضحك اكثر منه، حتى بدت نواجذه، ثم قال: ذكرت قول أبي
طالب لما ظهر علينا، وانا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن نصلي
(5/301)
معه ببطن نخلة، فقال: مإذا تصنعان يا بن
اخي؟ فدعاه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إلى الاسلام، فقال: ما بالذي تصنعان بأس، ولكن والله لا
تعلوني استي ابداً، فضحك تعجباً لقول أبيه.
خرجه الامام أحمد بإسناد فيه ضعيف.
قال البخاري – رحمه الله -:
(5/302)
616 - حدثنا مسدد: ثنا حماد، عن ايوب وعبد
الحميد صاحب الزيادي وعاصم الاحول، عن عبد الله بن الحارث،
قال: خطبنا ابن عباس في يوم رزغ، فلما بلغ المؤذن: ((حي
على الصلاة)) فأمره ان ينادي ((الصلاة في الرحال)) ، فنظر
القوم بعضهم إلى بعض، فقال: فعل هذا من هو خير منه، وانها
عزمة.
((الرزغ)) : بالزاي والغين المعجمة، هو: الرحل. يقال:
ارزغت السما إذا بلت الارض. ويقال له – أيضا -: ((الردغ))
بالدال المهملة.
وقيل: ان الرزغ - بالزاي - اشد من الردغ. وقيل: هما سواء.
قال الخطأبي: الرزغة: وحل شديد، وكذلك الردغة. ورزغ الرجل
[إذا ارتكم] في الوحل، فهو رزغ.
وقد خرجه البخاري – أيضا - في ((باب: هي يصلي الامام بمن
(5/302)
حضر، وهل يخطب يوم الجمعة في المطر؟)) عن
عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي، عن حماد، عن عبد الحميد
وعاصم خاصة، وفصل حديث احدهما من حديث الاخر.
وفي حديث عبد الحميد عنده: قال: كأنكم انكرتم هذا، ان هذا
فعله من هو خير مني - يعني: النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
وخرجه - أيضا - في ((كتاب الجمعة)) من طريق ابن علية، عن
عبد الحميد، قال: انا عبد الله بن الحارث ابن عم محمد بن
سيرين: قال ابن عباس كمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت: ((اشهد
ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله)) ، فلا تقل:
((حي على الصلاة)) . قل: ((صلوا في بيوتكم)) ، فكأن الناس
استنكروا، فقال: قد فعله من هو خير مني.
وفي هذه الرواية: زيادة على ما قبلها من وجهين:
احدهما: انه نسب فيها عبد الله بن الحارث هذا: هو الانصاري
البصري نسيب ابن سيرين وختنه على اخته.
وكذا وقع في ((سنن أبي داود)) – أيضا.
وفي ((سنن ابن ماجه)) من رواية عباد المهلبي، عن عاصم
الاحول، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل.
وابن نوفل هذا، هو: الهاشمي، ويلقب ((ببه)) ، وكلاهما ثقة،
مخرج له في ((الصحيحين)) . فالله اعلم.
والثاني: ان في هذه الرواية: ان ابن عباس نهى المؤذن ان
يقول: ((حي على الصلاة)) ، وامره ان يبدلها في قوله:
((صلوا في بيوتكم)) .
وقد خرجهما
(5/303)
مسلم – أيضا - كذلك.
وعلى هذه الرواية، فلا يدخل هذا الحديث في هذا الباب، بل
هو دليل على ان المؤذن يوم المطر مخير بين ان يقول: ((حي
على الصلاة حي على الفلاح)) ، وبين ان يبدل ذلك بقوله:
((صلوا في رحالكم او بيوتكم)) ، ويكون ذلك من جملة كلمات
الاذان الاصلية في وقت المطر.
وهذا غريب جداً، اللهم الا ان يحمل على انه امره بتقديم
هذه الكلمات على الحيعلتين، وهو بعيد مخالف لقوله: لا تقل:
((حي على الصلاة)) ، بل ((صلوا في بيوتكم)) .
والذي فهمه البخاري: ان هذه الكلمة قالها بعد الحيعلتين او
قبلهما، فتكون زيادة كلام في الاذان لمصلحة، وذلك غير
مكروه كما سبق ذكره؛ فإن من كره الكلام في اثناء الاذان
انما كره ما هو اجنبي منه، ولا مصلحة للاذان فيه.
وكذا فهمه الشافعي؛ فإنه قال في كتابه: إذا كانت ليلة
مطيرة، او ذات ريح وظلمة يستحب ان يقول المؤذن إذا فرغ من
اذانه: ((الا صلوا في رحالكم)) فإن قاله في اثناء الاذان
بعد الحيعلة فلا بأس.
وكذ قال عامة أصحابه، سوى أبي المعالي؛ فإنه استبعد ذلك
اثناء الاذان.
وأماابدال الحيعلتين بقوله: ((الا صلوا في الرحال)) ، فانه
اغرب واغرب.
(5/304)
وفي الباب – أيضا - عن نعيم بن النهام.
خرجه الامام أحمد: ثنا عبد الرزاق: أبنا معمر، عن عبيد
الله بن عمر، عن شيخ قد سماه، عن نعيم بن النحام، قال:
سمعت مؤذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
ليلة باردة، وانا في لحافي، فتمنيت ان يقول: ((صلوا في
رحالكم) ، فلما بلغ حي على الفلاح، قال: ((صلوا في
رحالكم)) ، ثم سألت عنها، فإذا النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امره بذلك.
في إسناده مجهول.
وله طريق اخر: خرجه الامام أحمد – أيضا -: ثنا علي بن
عياش: ثنا اسماعيل بن عياش: ثنا يحيى بن سعيد: اخبرني محمد
بن يحيى بن حبان، عن نعيم بن النحام، قال: نودي بالصبح في
يوم بارد، وانا في مرط امراتي، فقلت: ليت المنادي قال:
((ومن قعد فلا حرج عليه)) ، فإذا منادي النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اخر اذانه قال: ((ومن قعد
فلا حرج عليه)) .
وخرجه ابو القاسم البغوي في ((معجم الصحابة)) من رواية
سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن
حبان، عن نعيم، به - بنحوه، ولم يقل: ((في اخر اذانه)) .
وقال: هو مرسل.
(5/305)
يشير إلى ان محمد بن ابراهيم التيمي لم
يسمع من نعيم.
ورواية سليمان بن بلال عن يحيى اصح من رواية اسماعيل بن
عياش؛ فان اسماعيل لا يضبط حديث الحجازيين، فحديثه عنهم
فيه ضعف.
وخرجه البيهقي من رواية عبد الحميد بن أبي العشرين، عن
الاوزاعي عن يحيى بن سعيد، ان محمد بن ابراهيم بن الحارث
التيمي حدثه، عن نعيم ابن النحام - فذكر الحديث بنحوه،
وقال فيه: فلما بلغ: ((الصلاة خير من النوم)) ، قال: ((ومن
قعد فلا حرج)) .
وروى سفيان بن عيينة، [عن عمرو بن دينار] ، عن عمرو بن
أوس: انبأنا رجل من ثقيف، انه سمع منادي رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول – في ليلة مطيرة
في السفر -، يقول: ((حي على الصلاة، حي على الفلاح، صلوا
في رحالكم)) .
خرجه النسائي.
وقد روى عبيد الله والليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر،
انه كان ربما زاد في اذانه: ((حي على خير العمل)) .
(5/306)
11 - باب
اذان الاعمى إذا كان له من يخبره
(5/307)
617 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك،
عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، ان رسول الله
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((ان بلالا يؤذن
بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن ام مكتوم)) ، وكان
رجلاً اعمى، لاينادي حتى يقال له: اصبحت، اصبحت.
كذا روى القعنبي هذا الحديث عن مالك، ووافقه ابن أبي اويس
وابن مهدي وعبد الرزاق وجماعة.
وهو في ((الموطا)) عن ابن شهاب، عن سالم - مرسلاً، وكذا
رواه الشافعي والاكثرون عن مالك.
ورواه سائر أصحاب الزهري، عنه، عن سالم، عن أبيه - مسنداً.
(5/307)
وقد خرجه مسلم من رواية الليث ويونس، عن
ابن شهاب كذلك، ولم يخرجه من طريق مالك.
ورواه معمر وابن إسحاق، عن الزهري، عن ابن المسيب مرسلاً -
أيضا.
وقوله في اخر الحديث: ((وكان رجلا اعمى)) قد ادرجه القعنبي
في روايته عن مالك في حديثه الذي خرجه عنه البخاري، وكذا
رواه ابو مسلم الكجي عن القعنبي.
وكذا رواه عبد العزيز بن [أبي] سلمة بن الماجشون، عن
الزهري، عن سالم، عن أبيه، وادرجه في الحديث.
وخرج الباري حديثه في موضع اخر.
والحديث في ((الموطا)) ، كله، عن ابن شهاب، عن سالم -
مرسلاً، فالذي في اخره يكون من قول سالم حينئذ.
وقد بين جماعة من رواة ((الموطا)) انه من قول ابن شهاب،
منهم: يحيى ابن يحيى الاندلسي.
وقد رواه الجماعةمن القعنبي، عن مالك، فأسندوا الحديث،
وجعلوا قوله: ((وكان رجلا اعمى)) - إلى اخره من قول
الزهري، منهم: عثمان بن سعيد الدارمي والقاضي اسماعيل وابو
خليفة الفضل بن الحباب وإسحاق بن الحسن.
وروى هذا الحديث ابن وهب، عن الليث ويونس، عن ابن شهاب، عن
سالم، عن أبيه - فذكر الحديث، وزاد: قال يونس في
(5/308)
الحديث: وكان ابن ام مكتوم هو الاعمى الذي
انزل الله فيه ... {عبس وتولى} [عبس:1] ، كان يؤذن مع
بلال. قال سالم: وكان رجلاً ضرير البصر، ولم يكن يؤذن حتى
يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر: اذن.
خرجه البيهقي وغيره.
وخرج مسلم في ((صحيحه)) من حديث عبيد الله بن عمر، عن
نافع، عن ابن عمر، قال: كان لرسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذنان: بلال وابن ام مكتوم الاعمى.
وعن عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة – مثله.
ومن طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان ابن
ام مكتوم يؤذن لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وهو اعمى.
كذا خرجه من رواية محمد بن جعفر، عن هشام.
ورواه وكيع وابو اسامة، عن هشام، عن أبيه – مرسلاً.
ومقصود البخاري: الاستدلال بحديث ابن عمر على ان اذان
الاعمى غير مكروه، إذا كان له من يخبره بالوقت، وسواء كان
البصير المخبر له مؤذنا معه، كما كان بلال وابن ام مكتوم،
أو كان موكلا باخباره بالوقت من غير تأذين.
وهذا هو قول اكثر العلماء، منهم:
(5/309)
النخعي والثوري ومالك والشافعي وأحمد
وإسحاق وابو ثور.
وان لم يكن معه بصير يخبره بالوقت كره اذانه، ولو كان
عارفا بالوقت بنفسهِ.
قال القاضي من أصحابنا: لان معرفته بنفسه يعمل بها في حق
نفسه دون غيره.
وقال ابن أبي موسى من أصحابنا: لا يؤذن الاعمى الا في قرية
فيها مؤذنون، فيؤذن بعدهم، وان كان في قرية واحدة لم يؤذن
حتى يتحقق دخول الوقت.
وقالت طائفة: يكره اذان الاعمى، روى عن أبي مسعود وابن
الزبير.
وعن ابن عباس، انه كره اقامته.
وحكى الامام أحمد عن الحسن، انه كره اذان الاعمى.
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
وحكاه القاضي ابو يعلى رواية عن أحمد، وتأولها على انه لم
يكن معه ما يهتدي به.
قال ابن عبد البر: وفي الحديث دليل على جواز شهادة الاعمى
على ما استيقنه من الاصوات، الا تري انه كان إذا قيل له -
يعنى: ابن ام مكتوم -: اصبحت قبل ذلك، وشهد عليه، وعمل به.
انتهى.
(5/310)
وقبول شهادة الاعمى على ما يتقينه من
الاصوات مذهب مالك وأحمد، وروي عن شريح وكثير من السلف.
ومنع منها ابو حنيفة والشافعي.
ومن قال بقولهما، [فرق] بين الاذان والشهادة: بأن الاذان
خبر ديني، يعم حكمه المخبر وغيره، فهو كراوية الاعمى
للحديث الذي يسمعه وهو اعمى، بخلاف الشهادة، فانه حق لادمي
معين فيحتاط لها.
(5/311)
12 - باب
الأذان بعد الفجر
فيه ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
(5/312)
618 - ثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن
نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: أخبرتني حفصة، أن رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا اعتكف
المؤذن للصبح، وبدا الصبح صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام
الصلاة.
كذا في هذه الرواية: ((إذا اعتكف المؤذن للصبح)) ، ولعل
المراد باعتكافه للصبح جلوسه للصبح ينتظر طلوع الفجر،
وحبسه نفسه لذلك.
ويدل على هذا المعنى: ماخرجه أبو داود من طريق ابن إسحاق،
عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن امرأة
من بني النجار، قالت: كان بيتي من أطول بيت حول المسجد،
فكان بلال يؤذن عليه الفجر، فيأتي بسحر، فيجلس على البيت
ينظر إلى الفجر، فإذا رآه تمطى، ثم قال: اللهم، إني أحمدك
واستعينك على قريش ان يقيموا دينك، ثم يؤذن. قالت: ما
علمته كان تركها ليلة واحدة -[تعني] : هذه الكلمات.
(5/312)
والمعروف في حديث حفصة: أن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سكت المؤذن من الأذان
لصلاة الصبح وبدا الصبح ركع ركعتين خفيفتين قبل أن تقام
الصلاة.
كذا خرجه مسلم، عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وكذا هو في
((الموطإ)) .
وليس في هذا الحديث دلالة صريحة على أنه كان لا يؤذن إلا
بعد طلوع الفجر؛ فإنها قالت: ((كان إذا سكت المؤذن وبدا
الفجر صلى)) ، فلم تذكر أنه [كان] يصلي إلا بعد فراغ
الأذان بعد طلوع الفجر، وهذا يشعر بأنه كان الأذان قبل
الفجر، وإلا لم تحتج إلى ذكر طلوع الفجر مع الأذان.
وقد خرج مسلم الحديث من رواية الليث بن سعد وأيوب وعبيد
الله، عن نافع، عن ابن عمر، كما رواه مالك.
وخرجه النسائي من طرق أخرى، عن نافع كذلك.
ورواه عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن نافع، عن ابن
عمر، عن حفصة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- كان إذا أذن المؤذن للفجر صلى ركعتين،
(5/313)
وكان لا يؤذن إلا بعد الفجر.
ذكره أبو بكر الأثرم.
وقال: رواه الناس عن نافع، لم يذكروا ما ذكره عبد الكريم.
وخرجه ابن عبد البر بإسناده، ولفظ حديثه: كان رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سمع أذان الصبح صلى
ركعتين، ثم خرج إلى المسجد، وحرم الطعام، وكان لا يؤذن حتى
يصبح.
قلت: لعل هذه الزيادة مدرجة فيه.
وقد رواها عبيد الله بن عمر، عن نافع - من قوله.
خرجه ابن أبي شيبة.
ولو كان هذا محفوظاً حمل على أذان ابن أم مكتوم، كما في
حديث ابن عمر في الباب الماضي.
الحديث الثاني:
(5/314)
619 - ثنا أبو نعيم: ثنا شيبان، عن يحيى،
عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ركعتين خفيفتين بين
النداء والإقامة من صلاة الصبح.
وخرجه مسلم من طريق هشام، عن يحيى - وهو: ابن أبي كثير -،
[به] .
وليس صريحاً في أن الأذان كان بعد طلوع الفجر؛ فإنه إذا
كان
(5/314)
يؤذن قبل طلوع الفجر، ثم يمهل حتى يطلع
الفجر، ثم يصلي ركعتين، فقد صلى عليه أنه صلى بين النداء
والإقامة.
وقد رواه جماعة عن يحيى بن أبي كثير بهذا اللفظ.
ورواه معاوية بن سلام، عن يحيى، ولفظه: كان رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سمع الصبح قام فركع
ركعتين خفيفتين.
خرجه النسائي.
ورواه عبد الرحمن بن إسحاق، عن سعيد المقبري، عن أبي سلمة،
عن عائشة: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إذا سمع النداء قام فصلى ركعتين حتى يأتيه، فيخرج إلى
الصلاة.
وأصرح من هذا: ما خرجه البخاري في آواخر ((كتاب الصلاة))
من طريق مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالليل
ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين
خفيفتين.
خرجه مسلم من طريق عبدة، عن هشام، ولفظه: كان رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ركعتي الفجر إذا
سمع الأذان ويخففهما.
ورواه - أيضا - ابن نمير ومحمد بن جعفر بن الزبير، عن هشام
كذلك.
(5/315)
وليس صريحاً - أيضا -؛ فقد وردت روايات أخر
عن عائشة تدل على انه كان بعد النداء يؤخر الركعتين تارة
حتى يتبين له الفجر، وتارة حتى يتوضأ.
فخرج مسلم من طريق عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن عروة،
عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كان إذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، وجاءه
المؤذن أقام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن
حتى يأتيه المؤذن للإقامة.
وخرجه - أيضا - من طريق يونس، عن ابن شهاب، غير أنه لم
يذكر: ((وتبين له الفجر وجاءه المؤذن)) ، ولم يذكر:
الإقامة.
وخرج –أيضا - من طريق أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، أن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينام أول
الليل ويحيى آخره، ثم إن كان له حاجة إلى أهله قضى حاجته،
ثم ينام، فإذا كان عند النداء الأول وثب فإفاض عليه الماء،
وإن لم يكن جنبا توضأ وضوء الرجل للصلاة، ثم صلى الركعتين.
وهذا هو الحديث الذي فيه ((أنه ينام ولا يمس ماء)) ، وقد
استنكره الأئمة كما سبق ذكره في ((أبواب: غسل الجنابة)) ،
غير أن مسلماً أسقط منه هذه اللفظة.
وقد خرجه البخاري مختصراً، وعنده: ((وإلا توضأ)) .
وخرج الأثرم: روى الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة،
(5/316)
قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة
الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين.
قلت: هذا خرجه أبو داود هكذا.
ثم قال الأثرم: رواه الناس عن الزهري، فلم يذكروا فيه ما
ذكر الأوزاعي، وسمعت أبا عبد الله – يعني: أحمد - يضعف
رواية الأوزاعي عن الزهري.
قلت: لم يتفرد الأوزاعي بهذا عن الزهري، بل قد تابعه عليه
يونس، وتابعه عمرو بن الحارث، وزاد في حديثه: ((وتبين له
الفجر)) ، كما خرجه مسلم من حديثهما.
ورواية عمرو بن الحارث تدل على أنه كان يؤخر صلاة الركعتين
عن الآذان حتى يتبين له الفجر، ورواية يونس والأوزاعي إن
كانت على ظاهرها فهي محمولة على أنه كان يصلي عقب أذان ابن
أم مكتوم الثاني، وكان لا يؤذن حتى يقال: أصبحت، أصبحت.
ورواه عقيل وابن أبي ذئب - أيضا -، عن الزهري، كما رواه
الأوزاعي.
ورواه ابن الهاد، عن الزهري كذلك، غير أنه زاد فيه: ((بعد
ان يستنير الفجر)) .
ورواه عمر بن عثمان، عن أبيه، عن الزهري، ولفظه: كان النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(5/317)
إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة الفجر
بعدما يتبين الفجر قام فصلى ركعتين من قبل صلاة الصبح.
ورواه شعيب، عن الزهري، ولفظه: كان النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سكت بالأولى من صلاة الفجر قام
فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر، بعد أن يتبين الفجر.
خرجه البخاري. وسيأتي قريباً - إن شاء الله.
ورواه المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سمع
التثويب صلى ركعتين، ثم خرج.
الحديث الثالث:
(5/318)
620 - ثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن
عبد الله بن دينار، عن عبد الله ابن عمر، أن رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إن بلالاً ينادي
بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم)) .
كذا خرج في ((الموطإ)) هذا الحديث. وخرجه الإسماعيلي في
((صحيحه)) من طريق عن مالك.
وخرجه من طريق عبد الله بن يوسف، وزاد فيه: وكان ابن أم
مكتوم رجلاً أعمى، لا ينادي حتى يقال له: أصبحت، أصبحت.
وزعم أن تخريج هذا الحديث في ((باب: أذان الأعمى)) كان
أولى؛ لأنه زعم أن هذه الزيادة فيه من قول ابن عمر ومالك
مدرجة.
(5/318)
وهذا الذي قاله ليس بشيء، وهذه الزيادة في
حديث عبد الله بن دينار ما أراها محفوظة عن مالك بالكلية،
والظاهر ان بعض الرواة اشتبه عليه حديث عبد الله بن دينار
بحديث سالم المتقدم. والله اعلم.
وقد رواه - أيضا شعبة، عن عبد الله بن دينار، بدون هذه
الزيادة - أيضا.
وقد روي عن مالك بهذه الزيادة من وجه آخر: رواه حرملة، عن
ابن وهب والشافعي، كلاهما عن مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن
سعد، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: ((إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن
أم مكتوم)) ، وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى، لا ينادي حتى
يقال: أصبحت، اصبحت.
خرجه الطبراني، وذكر أنه تفرد به حرملة، ولا يرويه عن مالك
غير الشافعي وابن وهب، وعنده: أن هذه الزيادة في آخره من
رواية الشافعي وحده.
وذكر ابن أبي حاتم أن أباه حدثه عن حرملة، عن ابن وهب وحده
بهذه الزيادة، وقال: قال أبي: هذا منكر بهذا الإسناد.
وبكل حال؛ فتحمل صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عقب الأذان على أذان ابن ام
(5/319)
مكتوم الثاني، إلا أن في حديث عائشة ما يدل
على [أنه] الأذان الأول في عدة روايات، فيحمل ذلك على أنه
كان يصلي بين الأذانين إذا تبين له الفجر قبل أذان ابن أم
مكتوم، بدليل رواية من روى أنه كان يصلي إذا سكت المؤذن
وتبين له الفجر.
وقد روى جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن أبي سلمة، عن
عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان
يصلي ركعتين بني النداءين، لم يكن يدعهما ابداً.
خرجه البخاري.
والمراد: بين النداء والإقامة.
وقد رواه يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، وذكر في حديثه:
أنه كان يصلي ركعتين الفجر بين الأذان والإقامة، كما سبق.
فتعين حمل ذلك على الأذان الثاني، ولا بد.
وقد روى بعضهم حديث عراك، وزاد فيه بعد قوله: يصلي ركعتين
بين النداءين: ((جالساً)) .
خرجه ابو داود.
ولفظه: ((جالساً)) غير محفوظة.
وإنما كان يصلي ركعتين جالساً بعد وتره، كذلك رواه يحيى بن
أبي كثير، عن أبي سلمة.
ومما يدل على هذا - أيضا -: حديث ابن عمر المخرج في
((الصحيحين)) من طريق أنس بن سيرين، عنه، أن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الركعتين قبل
صلاة الغداة كأن الأذان بأذنيه.
زاد البخاري: قال حماد بن
(5/320)
زيد: أي: بسرعة.
وروي الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن
أبن عباس، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يصلي [ركعتي] الفجر إذا سمع الأذان ويخففهما.
خرجه النسائي.
وقال: هذا حديث منكر.
قلت: نكارته من قبل إسناده، وروايات الأعمش عن حبيب فيها
منكرات؛ فإن حبيب بن أبي ثابت إنما يروي هذا الحديث عن
محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس، عن أبيه، عن جده.
[وخرج أبو داود] من حديث كريب، عن الفضل بن عباس -، أنه
نام ليلة عند النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لينظر كيف صلاته، [فذكر صلاته] ووتره، ثم قام فنادى
المنادي عند ذلك، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بعد ما سكت المؤذن، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم
جلس حتى صلى الصبح.
فهذه الأحاديث المخرجة في هذا الباب كلها ليس فيها دلالة
صريحة على ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لم يكن يؤذن له إلا بعد طلوع الفجر، وغاية ما يدل بعضها
على أنه كان يؤذن له بعد طلوع الفجر، وذلك لا ينفي أن يكون
قد أذن قبل الفجر اذان أول.
والأحاديث التي فيها أن
(5/321)
بلالاً كان لا يؤذن إلا بعد طلوع الفجر
أسانيدها غير قوية، ويمكن ان تحمل - على تقدير ثبوتها -
على أنه كان يؤذن بعد طلوع الفجر الأول، وقبل طلوع الفجر
الثاني.
ويدل على ذلك: ما روى ابن وهب، قال: حدثني سالم بن غيلان،
أن سليمان بن أبي عثمان التجيبي حدثه، عن حاتم بن عدي
الحمصي، عن أبي ذر، أنه صلى مع النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة - فذكر الحديث - قال: ثم أتاه
بلال للصلاة، فقال: ((أفعلت.)) فقال: نعم. قال: ((إنك يا
بلال مؤذن إذا كان الصبح ساطعاً في السماء، وليس ذلك
الصبح، إنما الصبح هكذا إذا كان معترضاً)) ، ثم دعا بسحوره
فتسحر.
خرجه بقي بن مخلد في ((مسنده)) ويونس بن يعقوب القاضي في
((كتاب الصيام)) .
وخرجه الإمام أحمد – بمعناه من رواية رشدين بن سعد، عن
عمرو بن الحارث، عن سالم بن غيلان. ومن طريق ابن لهيعة، عن
سالم بن غيلان - أيضا.
وقد اختلف في هذا الإسناد:
فقال البخاري في ((تاريخه)) : هو إسناد مجهول.
وقال الدارقطني - فيما نقله عنه البرقاني - في هؤلاء
الثلاثة: سالم وسليمان وحاتم: مصريون متروكون، وذكر أن
رواية
(5/322)
حاتم، عن أبي ذر لا تثبت.
وخالفه في ذلك آخرون:
أماحاتم، فقال العجلي: تابعي حمصي شامي، ثقة.
وأماسليمان بن أبي عثمان التجيبي، فقال أبو حاتم الرازي:
هو مجهول.
وأماسالم بن غيلان، فمشهور، روى عنه جماعة من أهل مصر.
وقال أحمد وأبو داود والنسائي: لا بأس به. وقال ابن خراش:
صدوق، وقال ابن حبان: ثقة.
فلم يبق من هؤلاء من لا يعرف حاله سوى سليمان بن أبي
عثمان.
وقد عضد هذا الحديث: ما خرجه مسلم في ((صحيحه)) من حديث
سمرة ابن جندب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قال: ((لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا
هذا البياض - لعمود الصبح - حتى يستطير)) .
وحديث
(5/323)
ابن مسعود، وقد خرجه البخاري في الباب
الآتي.
وفي النهي عن الأذان قبل الفجر أحاديث أخر، لا تصح:
فروى جعفر بن برقان، عن شداد مولى عياض بن عامر، عن بلال،
ان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
((لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا)) ، ومد يديه عرضاً.
خرجه أبو داود.
وقال: شداد لم يلق بلالاً.
قال أبو بكر الأثرم: هو إسناد مجهول منقطع.
يشير إلى جهالة شداد، وأنه لم يلق بلالاً.
وقد خرجه أبو نعيم في ((كتاب الصلاة)) : ثنا جعفر بن
برقان، عن شداد مولى عياض، قال: بلغني ان بلالاً أتى النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكره.
وروى [أبو داود، عن] حماد بن سلمة، عن ايوب، عن نافع، عن
ابن عمر، أن بلالاً أذن بليل، فأمره النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينادي، ألا إن العبد نام.
(5/324)
وقال: تفرد به حماد.
وذكر أن الدراوردي روى عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر،
قال: كان لعمر مؤذن، يقال له: مسروح - فذكر نحوه.
وقال: هذا أصح من ذلك.
يعني: أنه موقوف على عمر، وأن حماد بن سلمة وهم في رفعه.
وحكى الترمذي عن علي بن المديني، أنه قال: هو غير محفوظ،
وأخطأ فيه حماد بن سلمة.
وكذا قال الترمذي: هو غير محفوظ.
وكذلك انكره الإمام أحمد على حماد.
وقال أبو حاتم الرازي: حديث حماد خطأ. والصحيح: عن نافع،
عن ابن عمر، أن عمر أمر مسروحاً.
(5/325)
قال: ورواه ابن أبي محذورة، عن عبد العزيز
أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً - أيضا -، وابن أبي
محذورة شيخ.
وقال محمد [بن] يحيى الذهلي: هو حديث شاذ، وهو خلاف ما
رواه الناس عن ابن عمر.
يعين: أنهم رووا عنه حديث: ((إن بلالاً يؤذن بليل)) .
وقال الشافعي: رأينا أهل الحديث من أهل العراق لا يثبتون
هذا الحديث، ويزعمون أنها ضعيفة، لا يقوم بمثلها حجة على
الانفراد.
وقال الأثرم: هذا الحديث [خطأ] معروف من خطإ حماد بن سلمة.
(5/326)
وقال الدارقطني: أخطأ فيه حماد بن سلمة.
وتابعه سعيد بن زربي - وكان ضعيفاً -، روياه عن أيوب، عن
نافع، عن ابن عمر. والمحفوظ: عن أيوب، عن ابن سيرين أو
حميد بن هلال، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال لبلال هذا. قال: ولا يقوم بالمرسل حجة.
قلت: روايات حماد بن سلمة عن أيوب غير قوية.
قال أحمد: أسند عن ايوب [احاديث لا يسندها الناس عنه.
وقال مسلم: حماد يخطئ في حديث أيوب كثيراً.
وقد خولف في رواية هذا عن أيوب، فرواه معمر، عن أيوب] –
مرسلاً.
خرجه عبد الرزاق، عنه.
وأماحديث عبد العزيز بن أبي رواد، فقد روي عنه متصلاً كما
تقدم من رواية ابن أبي محذورة عنه.
وتابعه عامر بن مدرك.
(5/327)
قال الدارقطني: هو وهم، والصواب: رواية
شعيب بن حرب، عن عبد العزيز، عن نافع، عن مؤذن لعمر، يقال
له: مسروح، أن عمر أمره بذلك.
وذكر أبو داود ان حماد بن زيد رواه عن عبيد الله، عن نافع
أو غيره، أن مؤذنا لعمر يقال له: مسروح - فذكره.
وذكر الترمذي، ان ابن أبي رواد رواه، عن نافع، ان عمر أمر
بذلك.
قال: هذا لا يصح؛ لأنه منقطع.
وقال البيهقي في حديث ابن أبي رواد المتصل: إنه ضعيف لا
يصح، والصواب: رواية شعيب بن حرب.
وقال ابن عبد البر: الصحيح: أن عمر هو الذي أمر مؤذنه
بذلك.
وقد روي من حديث قتادة، عن أنس - نحو حديث حماد بن سلمة.
والصحيح: أنه عن قتادة مرسل -: قاله الدارقطني.
وروي من حديث الحسن، عن أنس - أيضا - بإسناد لا يصح.
والنهي عن الأذان قبل طلوع الفجر قد روى عن عمر، كما سبق،
(5/328)
وعن علي.
قال أبو نعيم: ثنا إسرائيل، عن فضل بن عمير، قال: كان لعلي
مؤذن، فجعل علي معه مؤذناً آخر؛ لكيلا يؤذن حتى ينفجر
الفجر.
وهذا منقطع.
وروى وكيع: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة،
قالت: ما كانوا يؤذنون حتى يصبحون.
وخرج الإمام أحمد من رواية يونس، عن أبي إسحاق، عن الأسود،
قال: قلت لعائشة: متى توترين؟ قالت: ما أوتر حتى يؤذن، وما
يؤذن حتى يطلع الفجر.
وعن شريك، عن علي بن علي، عن إبراهيم، قال: سمع علقمة
مؤذناً يؤذن بليل، فقال: لقد خالف هذا سنة أصحاب محمد.
وإلى هذا القول ذهب الكوفيون، منهم: أبو الأحوص صاحب ابن
مسعود، وقيس بن أبي حازم، والشعبي، والنخعي، والثوري، وأبو
حنيفة، ومحمد بن الحسن، والحسن بن صالح.
(5/329)
وروى ابن أبي شيبة من طريق حجاج، عن طلحة،
عن سويد - هو: ابن علقمة -، عن بلال، انه كان لا يؤذن حتى
ينشق الفجر.
وعن حجاج، عن عطاء، عن أبي محذورة، انه أذن لرسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأبي بكر وعمر، فكان
لا يؤذن حتى يطلع الفجر.
حجاج، هو: ابن أرطأة:
قال الاثرم: هذا ضعيف الإسناد.
وقال ابن أبي شيبة: ثنا ابن نمير، عن عبيد الله، قال: قلت
لنافع: إنهم كانوا ينادون قبل الفجر؟ قال: ما كان النداء
الا مع الفجر.
(5/330)
13 - باب
الاذان قبل الفجر
فيه حديثان:
الاول:
قال:
(5/331)
621 - ثنا أحمد بن يونس: ثنا زهير: ثنا
سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن عبد الله بن
مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
قال: ((لا يمنعن [أحدكم – أو] أحدا منكم - أذان بلال من
سحوره، فإنه يؤذن بليل - أو ينادي بليل - ليرجع قائمكم،
ولينبه نائمكم، وليس أن يقول الفجر أو الصبح)) - وقال
بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل حتى يقول هكذا.
وقال زهير: بسبابته إحدهما فوق الاخرى، ثم مدها عن يمينه
وشماله.
قال علي بن المديني: إسناده جيد، ولم نجده عن ابن مسعود
إلا من هذا الطريق.
(5/331)
وقوله: ((ليرجع قائمكم)) .
قال الحافظ ابو موسى المديني: لفظ لازم ومتعد، يقال: رجعته
فرجع، وكان المحفوظ ((قائمكم)) بالرفع، ولو روي ((قائمكم))
بالنصب؛ ليلائم ((نائمكم)) لم نخطئ روايه، ويكون ((يرجع))
حينئذ متعديا كلفظ: ((يوقظ)) .
وفسر رجوع القائم: بأن المصلي يترك صلاته، ويشرع في وتره،
ويختم به صلاته، وهذا مما استدل به من يقول: ان وقت النهي
عن الصلاة يدخل بطلوع الفجر كما سبق.
فذكر لأذانه قبل الفجر فائدتين:
احدهما: اعلام القائم المصلي بقرب الفجر.
وهذا يدل على انه كان يؤذن قريبا من الفجر، وقد ذكرنا في
الباب الماضي، انه كان يؤذن إذا طلع الفجر الاول.
والثانية: ان يستيقظ النائم، فيتهيأ للصلاة بالطهارة؛
ليدرك صلاة الفجر مع الجماعة في أول وقتها؛ وليدرك الوتر
ان لم يكن أوتر، أو يدرك بعض التهجد قبل طلوع الفجر، وربما
تسحر المريد للصيام حينئذ، كما قال: ((لا يمنعن احدا منكم
أذان بلال عن سحوره)) .
وفي هذا تنبيه على استحباب إيقاظ النوام في آخر الليل
بالاذان ونحوه من الذكر.
وخرج الترمذي من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، عن
(5/332)
الطفيل بن أبي [بن] كعب، عن أبيه، ان النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ذهب ثلثا
الليل قام، فقال: ((يأيها الناس، اذكروا الله، جاءت
الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما
فيه)) .
وقال: حديث حسن.
وفيه دلالة على ان الذكر والتسبيح جهرا في آخر الليل لا
بأس به؛ لايقاظ النوام.
وقد انكره طائفة من العلماء، وقال: هو بدعة، منهم: ابو
الفرج ابن الجوزي. وفيما ذكرناه دليل على انه ليس ببدعة.
وقد روي عن عمر، أنه قال: عجلوا الاذان بالفجر؛ يدلج
المدلج، وتخرج العاهرة.
ورواه الشافعي، عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن قيس، عن
عمر.
فذكر فيه فائدتين:
احدهما: ان المسافر يدلج في ذلك الوقت، وقد امر النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسافر بالدلجة. وقال:
((ان الارض تطوى بالليل)) . والدلجة: سير آخر الليل.
(5/333)
والثاني: ان من كان معتكفا على فجور، فإنه
يقلع بسماع الاذان عما هو فيه.
وأماتفريق النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين
الفجرين، فإنه فرق بينهما بأن الأول مستطيل، يأخذ في
السماء طولاً؛ ولهذا مد أصابعه ورفعها إلى فرق وطأطأها
أسفل. والثاني مستطير، يأخذ في السماء عرضاً، فينتشر عن
اليمين والشمال.
وهكذا في حديث سمرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض
الأفق المستطيل حتى يستطير هكذا)) - وحكاه حماد بن زيد
بيده - يعني: معترضاً.
خرجه مسلم بمعناه.
وفي حديث طلق بن علي الحنفي، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((كلوا واشربوا، ولا يهيدنكم
الساطع المصعد، وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم)) - يعني:
الاحمر.
خرجه أبو داود والترمذي.
وقال: حديث حسن.
وخرجه الإمام أحمد، ولفظه: ((ليس الفجر المستطيل، ولكنه
المعترض الأحمر)) .
(5/334)
الحديث الثاني:
قال:
(5/335)
622 - حدثني إسحاق: ابنا أبو أسامة، قال:
عبيد الله ثنا، عن القاسم بن محمد، عن عائشة - وعن نافع،
عن ابن عمر -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-.
(5/335)
623 - وحدثني يوسف بن عيسى: ثنا الفضل بن
موسى: ثنا عبيد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة، عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: ((إن
بلالاً يؤذن بليلٍ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم))
.
وقد خرجه البخاري في ((الصيام)) عن عبيد بن إسماعيل، عن
أبي أسامة، بالإسنادين - أيضا -، وفي آخر الحديث: ((فإنه
لا يؤذن حتى يطلع الفجر)) . قال القاسم: ولم يكن بين
أذانهما إلا ان يرقى ذا وينزل ذا.
وقد روي عن عائشة من وجهٍ آخر: من رواية الدراوردي: ثنا
هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن ابن ام مكتوم رجل
أعمى، فإذا أذن المؤذن فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال)) .
قالت عائشة: وكان بلال يبصر الفجر. قال هشام: وكانت عائشة
تقول: غلط ابن عمر.
(5/335)
خرجه الحاكم والبيهقي.
قال البيهقي: حديث عبيد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة
أصح.
وخرجه الإمام أحمد - أيضا – وابن خزيمة وابن حبان في
((صحيحهما)) .
وفي رواية: وكان بلال لا يؤذن حتى يرى الفجر.
وقد روي نحو هذا اللفظ - أيضا - من رواية أبي إسحاق، عن
الأسود، عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
خرجه ابن خزيمة.
وقال: فيه نظر؛ فإني لا أقف على سماع أبي إسحاق لهذا الخبر
من الأسود.
وقد حمل ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما هذا - على تقدير [أن
يكون محفوظاً - على أن الأذان كان نوباً بين بلال وابن ام
مكتوم، فكان يتقدم] بلال تارةً، ويتأخر ابن ام مكتوم،
وتارةً بالعكس.
والأظهر - والله أعلم -: أن هذا اللفظ ليس بمحفوظ، وأنه
مما انقلب على بعض رواته.
ونظير هذا: ما روى شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن عمته
(5/336)
أنيسة بنت خبيب، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا
واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم)) . ولم يكن بين أذانهما
إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا.
كذا روى أبو داود الطيالسي وعمرو بن مرزوق وغيرهما عن
شعبة.
ورواه غيرهما، عن شعبة بالعكس، وقالوا: ((إن ابن أم مكتوم
يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال)) .
ورواه سليمان بن حرب وغيره عن شعبة بالشك في ذلك.
وقد روى الواقدي بإسناد له، عن زيد بن ثابت، أن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إن ابن أم مكتوم
يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال)) .
(5/337)
خرجه البيهقي.
والواقدي، لا يعتمد [عليه] .
والصحيح من ذلك: ما رواه القاسم، عن عائشة. وما رواه سالم
ونافع وعبد الله بن دينار، عن ابن عمر، وما رواه أبو
عثمان، عن ابن مسعود؛ فإن هذه الأحاديث كلها صحيحة، وقد
دلت على أن بلالاً كان يؤذن بليل.
ودل ذلك على جواز الأذان قبل طلوع الفجر، وهو قول مالك،
والأوزاعي، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي
يوسف، وأبي ثور، وداود، وأبي خيثمة، وسليمان بن داود
الهاشمس، وأبي بكر بن أبي شيبة وغيرهم من فقهاء أهل
الحديث.
وعليه عمل أهل الحرمين، ينقلونه خلفاً عن سلف، حتى قال
مالك في ((الموطإ)) : لم يزل الصبح ينادى لها قبل الفجر.
وذكر الشافعي، أنه فعل أهل الحرمين، وأنه من الأمور
الظاهرة عندهم، ولم ينكره منكر.
وقال الإمام أحمد: أهل الحجاز يقولون: هو السنة - يعني:
الأذان بليل.
وكذا قال إسحاق: هو سنة.
وكذا قال أحمد في رواية حنبل.
قال القاضي في ((جامعه الكبير)) والآمدي: وظاهر هذا، أنه
أفضل من الأذان بعد الفجر، وهو قول الجوزجاني وغيره من
فقهاء أهل الحديث؛ لأنه أبلغ في إيقاظ النوام للتاهب لهذه
الصلاة، فيكون التقديم
(5/338)
سنة، كما: أن كان التثويب في هذا الأذان
سنة - أيضا -؛ لهذا المعنى.
وقالت طائفة: هو رخصة، وهو قول ابن أبي شيبة، وأومأ إليه
أحمد في روايات أخر.
فالأفضل عند هؤلاء: الأذان بعد طلوع الفجر، ويجوز تقديمه.
واختلف القائلون: بأن الفجر يؤذن لها بليلٍ في الوقت الذي
يجوز الأذان فيه من الليل:
فالمشهور عند أصحاب الشافعي: أنه يجوز الأذان لها في نصف
الليل الثاني؛ لأنه يخرج به وقت صلاة العشاء المختار.
ومنهم من قال: ينبني على الاختلاف في آخر وقت العشاء
المختار، فإن قلنا: ثلث الليل اذن للفجر بعد الثلث.
ومنهم من قال: يؤذن للفجر في الشتاء لسبع ونصف بقي من
الليل، وفي الصيف لنصف سبع.
وروى الشافعي في القديم بإسناد ضعيف، عن سعد القرظ، قال:
أذنا في زمن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بقباء، وفي زمن عمر بالمدينة، فكان أذاننا في الصبح في
الشتاء لسبع ونصف بقي من الليل، وفي الصيف [لسبع] يبقى
منه.
(5/339)
ومن الشافعية من قال: يؤذن لها قبيل طلوع
في السحر.
وصححه جماعة، وهو ظاهر المنقول عن بلال وابن أم مكتوم.
وأماأصحابنا، فقالوا: يؤذن بعد نصف الليل، ولم يذكروا ذلك
عن أحمد.
ولو قيل: إنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر الأول استدلالاً
بحديث أبي ذر المتقدم لتوجه.
وقد مر بي أن أحمد أومأ إلى ذلك، أو نص عليه، ولم أتحققه
إلى الآن.
وروى الشافعي بإسناده، عن عروة بن الزبير، قال: إن بعد
النداء بالصبح لحزباً حسناً، إن الرجل ليقرأ سورة البقرة.
وهذا - أيضا - يدل على قرب الأذان من طلوع الفجر.
وأماأصحاب مالك، فحكى ابن عبد البر عن ابن وهب، انه قال:
لا يؤذن لها [إلا في السحر. فقيل له: وما السحر؟ قال:
السدس الآخر. قال: وقال ابن حبيب: يؤذن لها] من بعد خروج
وقت العشاء، وذلك نصف الليل.
ومع جواز الأذان لصلاة الصبح قبل طلوع الفجر، فيستحب إعادة
الأذان لها بعد الفجر مرة ثانية.
قال أحمد - في رواية حنبل -: الأذان الذي عليه أهل المدينة
الأذان قبل طلوع الفجر، هو الأذان الأول، والأذان الثاني
بعد طلوع الفجر.
وكره أحمد الأذان للفجر قبل طلوع الفجر في رمضان خاصة؛ لما
فيه منع
(5/340)
الناس من السحور في وقت يباح فيه الأكل.
وقد يستدل له بحديث شداد مولى عياض، عن بلال المتقدم ذكره،
في نهي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلالاً
أن يؤذن حتى يطلع الفجر؛ فإن في تمام الحديث: أنه أتى
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يتسحر.
ومن أصحابنا من حكى رواية أخرى: أنه لا يكره.
قال طائفة من أصحابنا: وكراهته إنما هو إذا اقتصر على هذا
الأذان؛ فإن أذن معه أذان ثان بعد طلوع الفجر لم يكره.
وعليه يدل حديث ابن عمر وعائشة في هذا الباب.
وقالت طائفة من أهل الحديث: لا يؤذن لصلاة الصبح قبل
الفجر، إلا أن يعاد الأذان بعد الفجر في جميع الأوقات، وهو
اختيار ابن خزيمة وغيره، وإليه ميل ابن المنذر، وحكاه
القاضي أبو الحسن من أصحابنا رواية عن أحمد.
ويمكن أن تكون مأخوذة من رواية حنبل التي ذكرنا آنفاً.
واستدل هؤلاء بحديث عائشة وابن عمر وأنيسة، وما في معناه
من أنه كان في زمن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أذانان: احدهما بليلٍ، والأخر بعد الفجر.
ويمكن الجمع بين هذه الأحاديث والأحاديث التي
(5/341)
رواها العراقيون في امر النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلالاً بإعادة الأذان بعد
الفجر، بأن الأذان كان في اول الأمر بعد طلوع الفجر، ثم
لما أذن بلال بليل وأمره النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بإعادة أذانه بعد الفجر رأى النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أذانه قبل الفجر مصلحة،
فأقره على ذلك [واتخذ] مؤذناً آخر يؤذن بعد الفجر؛ ليجمع
بين المصالح كلها: إيقاظ النوام، وكف القوام، والمبادرة
بالسحور للصوام، وبين الإعلام بالوقت بعد دخوله.
وهذا كما روي، ان بلالاً هو الذي زاد في أذانه: ((الصلاة
خير من النوم)) مرتين في آذان الفجر، فأقرها النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأذان لما رأى فيه
من زيادة إيقاظ النائمين في هذا الوقت.
واستدل الأولون بما خرجه أبو داود من رواية عبد الرحمن بن
زياد، عن زياد بن نعيم الحضرمي، عن زياد بن الحارث
الصدائي، قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في سفر، فلما كان أول أذان الصبح أمرني فأذنت،
فجعلت اقول أقيم [يا] رسول الله؟، فجعل ينظر في ناحية
المشرق إلى الفجر، فيقول: ((لا)) ، حتى إذا طلع الفجر نزل
فتبرز ثم انصرف إلي وقد تلاحق أصحابه - يعني: فتوضأ -،
فأراد بلال ان يقيم، فقال له النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن أخا صداء هو أذن، ومن أذن فهو
يقيم)) . قال: فأقمت – وذكر حديثاً فيه طول.
فهذا يدل على انه اذن قبل طلوع الفجر واجتزأ بذلك الأذان،
ولم يعده بعد طلوعه.
(5/342)
ولمن رجح قول من أوجب الإعادة بعد طلوع
الفجر، أنه يقول: هذا الحديث إسناده غير قوي.
وقد خرجه ابن ماجه والترمذي مختصراً.
قال الترمذي: إنما نعرفه من حديث الأفريقي، والأفريقي هو
ضعيف عند أهل الحديث.
وقال سعيد البرذعي: سئل أبو زرعة عن حديث الصدائي في
الأذان.
فقال: الأفريقي، وحرك رأسه.
قلت: وقد اختلف عليه في لفظ الحديث:
فخرجه الإمام أحمد عن محمد بن يزيد الواسطي، عن الإفريقي
بهذا الإسناد، ولفظه: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أذن يا أخا صداء)) قال: فأذنت،
وذلك حين أضاء الفجر - وذكر الحديث مختصراً.
فهذه الرواية فيها التصريح بانه إنما أذن بعد إضاءة الفجر
وطلوعه.
وقد رواه ابن لهيعة، فخالف الأفريقي في إسناده، فرواه عن
بكر
(5/343)
بن سوادة، عن زياد بن نعيم، عن حبان بن بح
الصدائي صاحب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
قال: أتبعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يعني: في مسير له – ليلة إلى الصباح، فأذنت بالصلاة لما
اصبحت، وأعطاني إناء وتوضأت منه، فجعل النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصابعه في الإناء، فانفجر
عيوناً، فقال: ((من أراد منكم أن يتوضأ فليتوضأ)) – فذكر
حديثاً، ولم يذكر فيه: الإقامة.
وفي هذه الرواية إنما لما أصبح - أيضا.
وقصة الوضوء وتفجر الماء مذكورة - أيضا - في حديث
الإفريقي.
(5/344)
14 - باب
كم بين الأذان والإقامة
فيه حديثان:
الأول:
قال:
(5/345)
624 - حدثنا إسحاق الواسطي: ثنا خالد، عن
الجريري، عن [ابن] بريدة، عن عبد الله بن مغفل المزني، أن
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((بين
كل أذانين صلاة)) - ثلاثاً - ((لمن شاء)) .
((إسحاق)) هذا، يروي عنه في غير موضع عن خالد، وهو: ابن
عبد الله الطحان، ولا ينسب إسحاق. وقد قيل: إنه ابن شاهين
الواسطي.
الثاني:
قال:
(5/345)
625 - ثنا محمد بن بشار: ثنا غندر: ثنا
شعبة، قال: سمعت عمرو بن عامر الأنصاري، عن أنس بن مالك،
قال: كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبتدرون السواري، حتى
يخرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم كذلك،
يصلون الركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان
(5/345)
[والإقامة] شيء.
قال عثمان بن جبلة وأبو داود، عن شعبة: ولم يكن بينهما إلا
قليل.
وحديث ابن مغفل يدل على أن بين كل أذان صلاة وإقامتها صلاة
لمن شاء، فدخل في ذلك المغرب وغيرها، فدل على أن بين أذان
المغرب وإقامتها ما يتسع لصلاة ركعتين.
وقد ذكرنا قدر الفصل بين أذان المغرب وإقامتها في ((باب:
وقت المغرب)) .
وقد روى حيان بن عبيد [الله العدوي هذا الحديث عن عبد
الله] بن بريدة، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (( [إن] عند كل أذانين ركعتين
قبل الإقامة، ما خلا أذان المغرب)) .
خرجه الطبراني والبزار والدارقطني.
وقال: حيان بن عبيد الله هذا
(5/346)
ليس بقوي، وخالفه حسين المعلم وسعيد
الجريري وكهمس بن الحسن، وكلهم ثقات.
يعني: انهم رووه عن ابن بريدة، عن [ابن] مغفل، بدون هذه
الزيادة.
وقال الأثرم: ليس هذا بشيء؛ قد رواه عن [ابن] بريدة ثلاثة
ثقات على خلاف ما رواه هذا الشيخ الذي لا يعرف، في الإسناد
والكلام جميعاً.
وكذلك ذكر ابن خزيمة نحوه، واستدل على خطئه في استثنائه
صلاة المغرب بان ابن المبارك روى الحديث عن كهمس، عن [ابن]
بريدة، عن ابن مغفل، وزاد في آخره: فكان ابن بريدة يصلي
قبل المغرب ركعتين.
وحديث أنس يدل على أن بين أذان المغرب وإقامتها ما يتسع
لصلاة ركعتين.
فأماقوله في آخر الحديث: ((ولم يكن بين الأذان والإقامة
شيء)) ، فمراده - والله اعلم - لم يكن شيء كثير؛ بدليل
رواية عثمان بن جبلة وأبي داود الطيالسي التي ذكرها
البخاري تعليقاً: ((ولم يكن بينهما إلا قليل)) .
وقد خرجه النسائي من رواية أبي عامر العقدي، عن شعبة، وفي
حديثه: ((ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء)) - كرواية
غندر.
وقد زعم بعضهم: أن قيام الصحابة للصلاة كان إذا ابتدأ
المؤذن في
(5/347)
الأذان، ولم يكن بين الأذان والإقامة،
واستدل برواية من روى: ((ولم يكن بين الأذان والإقامة
شيء)) .
وفي ((صحيح مسلم)) عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال:
كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا
السواري، فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد
فيحسب أن الصلاة قد صليت، من كثرة من يصليهما.
في ((مسند الإمام أحمد)) من حديث معلى بن جابر، عن موسى بن
أنس، عن أبيه، قال: كان إذا قام المؤذن فأذن لصلاة المغرب
قام من يشاء، فصلى حتى تقام الصلاة، ومن شاء ركع ركعتين،
ثم قعد، وذلك بعيني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
ومعلى بن جابر، مشهور، روى عنه جماعة، وذكره ابن حبان في
((ثقاته)) .
وهذا ظاهر في انهم كانوا يقومون إذا شرع المؤذن في الأذان،
وأن منهم من كان يزيد على ركعتين.
وفيه: رد على إسحاق بن راهوية، قال: لا يزاد على ركعتين
قبل المغرب، وقد سبق ذكره.
(5/348)
وقد خرج الإسماعيلي في ((صحيحه)) من حديث
عثمان بن عمر: ثنا شعبة، عن عمرو بن عامر، قال: سمعت أنس
بن مالك يقول: كان المؤذن إذا أخذ في أذان المغرب قام لباب
أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فابتدروا السواري، فكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يخرج إليهم وهم يصلون، وكان بين الأذان
والإقامة قريب.
وهذه الرواية صريحة في صلاتهم في حال الأذان، واشتغالهم
حين إجابة المؤذن بهذه الصلاة.
وقد كان الإمام أحمد يوم الجمعة إذا أخذ المؤذن في الأذان
الأول للجمعة قام فصلى ركعتين - أو أربعاً - على قدر طول
الأذان وقصره.
ويأتي الكلام على حكم الصلاة قبل المغرب في موضع آخر - إن
شاء الله وإنما المقصود هنا: ذكر قدر الفصل بني الأذان
والإقامة للمغرب وغيرها.
وقد سبق حكم الفصل بين أذان المغرب وإقامتها في ((باب: وقت
المغرب)) .
وذكرنا أحاديث في أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بلالاً ان يفصل بين أذانه وإقامته في ((باب:
الإبراد بالظهر)) .
(5/349)
15 - باب
من انتظر الإقامة
(5/350)
626 - حدثنا ابو اليمان: أبنا شعيب، عن
الزهري: أبنا عروة بن الزبير، أن عائشة قالت: كان رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سكت المؤذن
بالأولى من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة
الفجر بعد أن يستبين الفجر، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى
يأتيه المؤذن للإقامة.
قول عائشة: ((كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- إذا سكت المؤذن)) - أي: فرغ من أذانه.
قولها: ((بالأولى [من] صلاة الفجر)) - تعني: بالمرة
الأولى.
وهذا يحتمل ان تكون ارادت به أنه كان يصلي الركعتين قبل
فراغ المؤذن من أذانه قبل الإقامة، فإن الأذان والإقامة
يسميان أذانين، كما في حديث عبد الله ابن مغفل المتقدم،
ويحتمل أن تكون أرادت أن الأذان نفسه كان يكرر مرتين،
فيؤذن بلال وبعده ابن أم مكتوم، فكانت صلاة النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد بلال قبل أذان ابن أم
مكتوم، إذا تبين الفجر للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صلى ركعتي الفجر، ولم يتوقف على أذان ابن أم
مكتوم، فإن ابن ام مكتوم كان يسفر بأذان الفجر، ولا يؤذن
حتى يقال له: أصبحت.
(5/350)
فإن قيل: فكيف أذن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأكل في الصيام إلى أذان ابن ام
مكتوم، والأكل يحرم بمجرد طلوع الفجر؟ وقد روي في حديث
انيسة، انهم كانوا يامرونه أن يؤخر الأذان حتى يكملوا
السحور.
قيل: هذا مما أشكل فهمه على كثير من الناس، وقد تأول بعضهم
قولهم لابن أم مكتوم: " أصبحت، أصبحت" على أن المراد قاربت
الصباح [بعد تبين طلوع الفجر لا تحرم في وقت طلوعه سواء] .
والأحاديث والآثار المروية عن الصحابة في هذا المعنى كثيرة
جداً.
وليس هذا قول الكوفيين الذين كانوا يستحبون الأكل والشرب
إلى انتشار الضوء على وجه الأرض؛ فإن ذلك قول شاذ منكر عند
جمهور العلماء، وستأتي المسألة في موضعها مبسوطة - إن شاء
الله تعالى.
وسيأتي الكلام على الاضطجاع بعد صلاة ركعتي الفجر في موضع
آخر - إن شاء الله تعالى.
وإنما المقصود هنا: قولها: ((حتى يأتيه المؤذن للإقامة)) ؛
فإن هذا يدل على أنه يجوز انتظار المصلي للإقامة، وأن يؤخر
دخول المسجد خارجاً منه حتى تقام الصلاة، فيدخل حينئذ.
وهذا هو مقصود البخاري في هذا الباب، وأراد بذلك مخالفة من
كره انتظار الإقامة، فإن طائفة من السلف كرهوه وغلظوا.
حتى روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه قال: هو هرب من
دين محمد والإسلام.
(5/351)
وقد كرهه من المتاخرين من أصحابنا، وقالوا:
يكره للقادر على الدخول إلى المسجد قبل الإقامة ان يجلس
خارج المسجد ينتظر الإقامة، ذلك تفوت به فضيلة السبق إلى
المسجد وانتظار الصلاة فيه، ولحقوق الصف الأول.
وقد ندب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى
التهجير إلى الصلاة، وهو القصد إلى المساجد في الهجير،
أماقبل الأذان أو بعده، كما ندب إلى التهجير إلى الجمعة:
انتظار الصلاة بعد الصلاة، وقال للذين انتظروه إلى قريب من
شطر الليل لصلاة العشاء: ((إنكم لن تزالوا في صلاة ما
انتظرتموها)) .
وقد كان كثير من السلف يأتي المسجد قبل الأذان، منهم: سعيد
بن المسيب، وكان الإمام أحمد يفعله في صلاة الفجر.
وقال ابن عيينة: لا تكن مثل أجير السوء، لا يأتي حتى يدعى.
يشير إلى انه يستحب إتيان المسجد قبل أن ينادي المؤذن.
وقال بعض السلف في قول الله تعالى: {السَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10] : إنهم أول الناس خروجاً إلى
المسجد وإلى الجهاد.
وفي قوله: {سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}
[الحديد: 21] قال مكحول: التكبيرة الأولى مع الإمام. وقال
غيره: التكبيرة الأولى والصف الأول.
قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافاً بيني العلماء أن من بكر
وانتظر الصلاة، وإن لم يصل في الصف الأول أفضل ممن تأخر،
وإن صلى في الصف الأول.
(5/352)
وروى المعافى، عن سفيان الثوري، قال: مجيئك
إلى الصلاة قبل الإقامة توقير للصلاة.
فمن كان فارغاً لا شغل له، وجلس إلى الصلاة قبل الإقامة
على باب المسجد، أو قريباً منه ينتظر أن تقام الصلاة فيدخل
المسجد، وخصوصاً إن كان على غير طهارةٍ، وإنما ينتظر في
المسجد إذا دخل المسجد بعد الإقامة، فهو مقصر راغب عن
الفضائل المندوب إليها.
ولكن هذا كله في حق المأموم، وقد تقدم من حديث أبي المثنى،
عن ابن عمر، قال: كان أحدنا إذا سمع الإقامة توضأ وخرج من
وقته.
وفيه دليل على أن الصحابة كانوا ينتظرون الإقامة في عهد
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فأما الإمام، فإنه إذا انتظر إتيان المؤذن له في بيته حتى
يؤذنه بالصلاة
ويخرج معه فيقيم الصلاة حينئذ بالمسجد فيصلي بالناس، فهذا
غير مكروه بالإجماع، وهذه كانت عادة النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي حديث ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صلى ركعتي الفجر، واضطجع حتى يأتيه المؤذن
بالإقامة؛ فإن الإقامة إنما تكون بإذن الإمام، أو عند
خروجه إلى الناس، بخلاف الأذان.
وفي " صحيح مسلم " عن جابر بن سمرة، قال: كان بلال يؤذن
إذا
(5/353)
دحضت الشمس، فلا يقيم حتى يخرج النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا خرج أقام الصلاة
حين يراه.
وقال علي: المؤذن أملك بالأذان، والإمام أملك بالإقامة.
خرجه البيهقي.
وقال: روي من حديث أبي هريرة - مرفوعا، وليس بمحفوظ.
(5/354)
16 - باب بين كل أذانين صلاة لمن شاء
(5/355)
627 - حدثنا عبد الله بن يزيد: ثنا كهمس بن
الحسن، عن عبد الله بن بريدة، عن عبد الله بن مغفل، قال:
قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بين
كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، ثم قال في الثالثة: "
لمن شاء ".
لا اختلاف أن المراد بالأذانين في الحديث: " الأذان
والإقامة، وليس المراد الأذانين المتواليين، وإن كانا
مشروعين كأذان الفجر إذا تكرر مرتين.
وقد توقف بعضهم في دخول الصلاة بين الأذان الأول والثاني
يوم الجمعة في هذا الحديث؛ لأنهما أذانان مشروعان، وعلى ما
قررناه: لا يدخل في الحديث، وكما لا تدخل الصلاة بين
الأذان الأول والثاني للفجر، وإن كانت الصلاة يوم الجمعة
بعد الزوال حسنة مندوبا إليها؛ لأدلة أخرى، تذكر في "
الجمعة " - إن شاء الله.
وحديث ابن مغفل يدخل فيه: الصلاة بين الأذان والإقامة في
جميع الصلوات الخمس، فأما أذان الصبح فيشرع بعده ركعتا
الفجر، ولا يزاد عليهما عند جمهور العلماء.
حتى قال كثير منهم: إن من صلى ركعتي الفجر في بيته، ثم دخل
المسجد.
يعني أن الأظهر عنه أنه لا يصلي في
(5/355)
أوقات النهي شيء من ذوات الأسباب ولا
غيرها.
وعنه رواية أخرى، أنه يصلي ذوات الأسباب، كقول الشافعي،
فيصلي الداخل حينئذ تحية المسجد ثم يجلس.
وقد تقدمت هذه المسألة في الكلام على احاديث النهي
مستوفاة.
وأماالظهر، فأنه يستحب التطوع قبلها بركعتين أو اربع
ركعات، وهي من الرواتب عند الاكثرين.
وقد روي في الصلاة عقب زوال الشمس أحاديث، في أسانيد
أكثرها مقال.
وبكل حال؛ فما بين الاذانين للظهر هو وقت صلاة، فمن شاء
استقل ومن شاء استكثر.
وأمابين الاذانين لصلاة العصر، فهذا الحديث يدل على انه
يشرع بينهما صلاة، وقد ورد في الاربع قبل العصر أحاديث
متعددة، وفي الركعتين - أيضا.
واختلفوا: هل يلتحق بالسنن الرواتب؟ والجمهور على انها لا
تلتحق بها.
(5/356)
وأمابين الاذانين قبل المغرب، فهذا الحديث
يدل على مشروعية الصلاة فيه.
وقد اختلف العلماء في ذلك:
فمنهم من كرهه، وقال: لا يزول وقت النهي حتى يصلي المغرب،
وهو قول الكوفيين وغيرهم.
ومنهم من قال: باسحبابها، وهو رواية عن أحمد، وقول طائفة
من السلف؛ لهذا الحديث؛ ولحديث أنس في الباب الماضي.
ومنهم من قال: هي مباحة، غير مكروهة ولا مستحبة، والامر
بها إطلاق من محظور، فلا يفيد أكثر من الاباحة، وهو رواية
عن أحمد، وسيأتي القول فيها بأبسط من هذا في موضع آخر – إن
شاء الله تعالى.
وأماالصلاة بين الاذانين للعشاء، فهي كالصلاة بين الاذانين
للعصر ودونها؛ فإنا لا نعلم قائلا يقول بأنها تلتحق بالسنن
الرواتب.
(5/357)
17 - باب
من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد
(5/358)
628 - ثنا معلى بن أسد: ثنا وهيب، عن أيوب،
عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث، قال: اتيت النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفر من قومي، فأقمنا
عنده عشرين ليلة، وكان رحيما رقيقا، فلما رأى شوقنا إلى
اهلنا، قال: ((ارجعوا، فكونوا فيهم، وعلموهم، وصلوا، فإذا
حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم)) .
مراده: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر
مالك بن الحويرث وأصحابه بالرجوع إلى اهلهم، وأمرهم إذا
حضرت الصلاة ان يؤذن احدهم، كان دليلاً على ان المسافرين
لا يشرع لهم تكرير الاذان وإعادته مرتين في الفجر ولا في
غيره.
ويعضد هذا: أنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه كان له في السفر مؤذنان، يؤذن أحدهما بعد
الاخر.
وحديث زياد بن الحارث الصدائي المتقدم يدل على ذلك.
ولكن اللفظ الذي ساقه البخاري في هذا الباب انما يدل على
انه امرهم بذلك إذا رجعوا إلى اهليهم، لا انه أمرهم به في
سفرهم قبل وصولهم، وقد نبه على ذلك الاسماعيلي، وترجم عليه
النسائي:
(5/358)
((اجتزاء المرء بأذان غيره في الحضر)) .
وقد خرجه البخاري في الباب الذي يلي هذا بلفظ صريح، بأنه
أمرهم بذلك في حال رجوعهم إلى أهلهم وسفرهم، فكان تخريجه
بذلك اللفظ في هذا الباب أولى من تخرجه بهذا اللفظ الذي
يدل على انه لم يأمرهم بذلك في السفر.
فإن قيل: بل قوله: ((إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم احدكم))
عام في السفر والحضر، ولا يمنع من عمومه تخصيص أول الكلام
بالحضر.
قيل: إن سلم ذلك لم يكن فيه دليل على انه لا تستحب الزيادة
على مؤذن واحد في السفر خاصة، لان الكلام إذا كان شاملا
للحضر والسفر فلا خلاف أنه في الحضر لا يكره اتخاذ مؤذنين،
فكيف خص كراهة ذلك بالسفر وقد شملها عموم واحد؟
وفي حديث عمرو بن سلمة الجرمي، عن أبيه، أنه لما قدم على
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم: ((إذا
حضرت صلاة فليؤذن لكم احدكم)) - وذكر الحديث.
وقد خرجه البخاري في موضع آخر.
وامره هذا لا يختص بحال سفرهم، بل يشمل سفرهم وإقامتهم في
حيهم.
(5/359)
18 - باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة
والاقامة وكذلك بعرفة وجمع وقول المؤذن: ((الصلاة في
الرحال)) ، في الليلة الباردة أو المطيرة الاذان بعرفة
وجمع، لم [يخرج] فيه هاهنا شيئا، إنما خرج أحاديث في
((ابواب: الجمع بين الصلاتين)) ، وفي ((كتاب الحج)) ،
والكلام فيه يأتي في موضوعه - إن شاء الله تعالى.
واشار اليه هاهنا اشارة؛ لان فيه ذكر الاذان في السفر،
وإنما خرج هاهنا أربعة أحاديث مما يدخل في بقية ترجمة
الباب.
الحديث الاول:
(5/360)
629 - ثنا مسلم بن ابراهيم: ثنا شعبة، عن
المهاجر أبي الحسن، عن زيد ين وهب، عن أبي ذر، قال: كنا مع
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر،
فأراد المؤذن أن يؤذن، فقال له: ((أبرد)) . ثم اراد أن
يؤذن، فقال له: ((ابرد)) . ثم
(5/360)
اراد ان يؤذن، فقال له: ((ابرد)) ، حتى
ساوى الظل التلول، فقال النبي: ((إن شدة الحر من فيح
جهنم)) .
هذا الحديث قد خرجه البخاري فيما سبق في ((ابواب: وقت صلاة
الظهر)) .
ومقصوده منه هاهنا: ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يؤذن له في السفر.
وقد تقدم الكلام على الابراد، وهل كان بالاذان أو
بالاقامة.
وقوله في هذه الرواية: ((حتى ساوى الظل التلول)) ظاهره انه
اخر صلاة الظهر يومئذ إلى ان صار ظل كل شيء مثله، وهو آخر
وقتها.
وهذا يحتمل أمرين:
أحدهما: أنه صلاها في آخر وقتها قبل دخول وقت العصر.
والثاني: أنه أخرها إلى دخول وقت العصر وجمع بينهما في وقت
العصر.
فإن كان قد اخرها إلى وقت العصر استدل بالحديث حينئذ على
أن تاخير الصلاة الاولى من المجموعتين إلى وقت الثانية
للجمع في السفر لا يحتاج إلى نية الجمع؛ لانهم كانوا
يؤذنونه بالصلاة في وقتها، وهو يأمر بالتأخبر، وهم لا
يعلمون أنه يريد جمعها مع الثانية في وقتها، ولا اعلمهم
بذلك.
ولكن الاظهر هو الاول، ولا يلزم من مصير ظل التلول مثلها
أن يكون قد خرج وقت الظهر؛ فإن وقت الظهر إنما يخرج إذا
صار ظل الشيء مثله بعد الزوال.
(5/361)
وقد خرجه البخاري فيما تقدم من وجهين عن
شعبة، وفيهما: ((حتى رأينا فيء التلول)) .
ويدل على هذا: انه إنما أمره بالابراد، لا بالجمع.
الحديث الثاني:
(5/362)
630 - ثنا محمد بن يوسف: ثنا سفيان، عن
خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحوبرث، قال: اتى
رجلان إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يريدان السفر، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((إذا انتما خرجتما فأذنان ثم أقيما، ثم
ليؤمكما اكبركما)) .
في هذه الرواية: التصريح بأنه أمرهما بذلك من حين خروجهما
من المدينة مسافرين.
وخرجه النسائي، ولفظه: قال: ((إذا سافرتما، فأذنا واقيما))
.
ولكنه أمرهما معا بالاذان والاقامة، فهذا أماان يحمل على
أذانهما مجتمعين أو منفردين.
وبكل حال؛ فيدل على انه يستحب في السفر الزيادة على مؤذن
واحد. فهذه رواية خالد الحذاء عن أبي قلابة تخالف رواية
ايوب عن أبي قلابة في ألفاظ عديدة من هذا الحديث.
قال الامام أحمد: لا اعلم أحدا جاء به إلا خالد - يعني: في
الاذان والاقامة في السفر -، وقال: هذا شديد على الناس:
انتهى.
وقد روي بلفظ آخر عن خالد الحذاء، وهو: ((إذا حضرت
الصلاة)) - من غير ذكر سفر ولا حضر.
وقد حرجه البخاري في موضع آخر.
(5/362)
الحديث الثالث:
قال:
(5/364)
632 -[ثنا] مسدد: ثنا يحيى، عن عبيد الله
بن عمر، قال: حدثني نافع، قال: أذن ابن عمر في ليلة باردة
بضجنان، ثم قال: صلوا في رحالكم، وأخبرنا أن رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر مؤذنا يؤذن،
ثم يقول على اثره: ((الا صلوا في الرحال في الليلة الباردة
او المطيرة في السفر)) .
((ضجنان)) : بالضاد المعجمة والجيم، كذا محركتان، كذا قيده
صاحب ((معجم البلدان)) ، وقال: هو جبل بتهامة، وقيل: هو
على بريد من مكة وقيل: بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلاً.
والمتداول بين أهل الحديث: انه بسكون الجيم.
وقد روى هذا الحديث، عن نافع: مالك - وقد خرج البخاري
حديثه في موضع - ويحيى الانصاري، وايوب السجستاني.
وفي رواية ابن علية، عنه: أن الذي نادى بضجنان هو منادي
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والظاهر: انه وهم.
ورواه ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: نادى منادي
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(5/364)
بذاك بالمدينة في الليلة المطيرة، والغداة
القرة.
خرجه ابو داود.
فخالف الناس في ((ذكر المدينة)) ، وفي انه انما كان يأمر
المنادي ان يقوله بعد تمام اذانه.
وقد روي معنى حديث ابن عمر من حديث أبي المليح بن اسامة،
عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الامام أحمد وابو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان
في ((صحيحهما)) والحاكم وصححه.
وفي حديث ابن عمر: دليل على ان الاذان في السفر مشروع في
غير صلاة الفجر ليلا [كان ينادي بذلك ليلاً] .
الحديث الرابع:
قال:
(5/364)
633 - ثنا إسحاق: ابنا جعفر بن عون: ثنا
ابو العميس، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: رأيت رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالابطح، فجاءه
بلال فاذنه بالصلاة، ثم خرج بلال بالعنزة حتى ركزها بين
يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بالابطح، واقام الصلاة.
(5/364)
في هذه الرواية: التصريح بالاقامة دون
الاذان، وكان ذلك بالابطح في حجة الوداع.
وقد خرج البخاري فيه ذكر الاذان في الباب الاتي، ولكن
اختصره، وسنذكره بتمامه فيه - إن شاء الله تعالى.
وفي هذا الحديث: أن بلالا آذن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصلاة، وخرج بين يديه بالعنزة،
وأقام الصلاة، وهذا موافق لحديث عائشة المتقدم الذي خرجه
البخاري في ((باب: انتظار الاقامة)) .
وقد دلت هذه الاحاديث على مشروعية الاذان في السفر لجميع
الصلوات، فإن منها ما فيه الاذان في السفر ليلاً كحديث ابن
عمر، ومنها ما فيه الاذان في السفر نهاراً كحديث أبي
جحيفة، فإن فيه الاذان للظهر والعصر بالابطح، وحديث أبي
ذر، فإن فيه الاذان للظهر، وحديث مالك بن الحويرث يعم سائر
الصلوات، وأحاديث الاذان بعرفة تدل على الاذان للجمع بين
الظهر والعصر، واحاديث الاذان بالمزدلفة تدل على الاذان
للجمع بين المغرب والعشاء، وقد اختلفت الروايات في ذلك،
وتذكر في موضعها – إن شاء الله.
وقد تقدم حديث الاذان للصلاة في السفر بعد فوات وقتها. وفي
حديث أبي محذورة، انهم سمعوا الاذان مع النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد قفل من حنين راجعاً
(5/365)
وقد اختلف العلماء في الاذان في السفر:
فذهب كثير منهم إلى انه مشروع للصلوات كلها.
قال ابن سيرين: كانوا يؤمرون ان يؤذنوا ويقيموا ويؤمهم
أقرؤهم.
خرجه الاثرم.
وهو قول أبي حنيفة والشافعي.
ونقل ابن منصور، عن أحمد وإسحاق، انه يؤذن ويقام في السفر
لكل صلاة، واحتجا بحديث مالك بن الحويرث.
ولكن اكثر أصحابنا على ان الاذان والاقامة سنة في السفر،
ليس بفرض كفاية، بل سنة بخلاف الحضر.
ومن متأخريهم من سوى في الوجوب بين السفر والحضر، والواحد
والجماعة، وهو قول داود.
وقال ابن المنذر: هو فرض في حق الجماعة في الحضر والسفر.
وظاهر تبويب البخاري يدل على انه يرى الاذان انما يشرع في
السفر للجماعة، دون المنفرد.
قال مجاهد: إن نسي الاقامة في السفر أعاد.
وهذا يدل على انه رآها شرطاً في حق المسافر وغيره.
وقالت طائفة: لا يؤذن الا للفجر خاصة، بل يقيم لكل صلاة.
روي هذا عن ابن عمر.
وروي عنه مرفوعاً.
(5/366)
خرجه الحاكم.
وفي إسناده ضعف واضطراب.
قال البيهقي: رفعه وهم فاحش، ولا يصح رفعه.
وروي عن ابن سيرين مثل قول ابن عمر.
ونقله حرب، عن إسحاق.
ونقل الميموني، عن أحمد، قال في المسافر في الفجر خاصة
يؤذن ويقيم، وفي غير الفجر يقيم - إن شاء الله.
ونقل ابن منصور، عن إسحاق: لا بد للمسافر أن يقيم بخلاف
الحاضر؛ لآن الحاضر يكتفي بأذان غيره وإقامته.
وأختلفت الرواية عن مالك:
فنقل عنه ابن القاسم: الاذان إنما هو في المصر للجماعة في
المساجد.
وروى أشهب، عن مالك: ان ترك المسافر الاذان عمداً فعليه
إعادة الصلاة.
ذكره ابن جرير، عن يونس بن عبد الاعلى، عنه.
وقال الحسن والقاسم بن محمد: تجزئه إقامة في السفر.
وقالت طائفة: هو بالخيار، إن شاء أذن، وإن شاء أقام في
السفر.
روى عن علي وعروة بن الزبير، وبه قال سفيان.
(5/367)
وكان ابن عمر يقول: إنما الاذان للامام
الذي يجتمع اليه الناس.
رواه مالك عن نافع، عن ابن عمر، انه كان لا يزيد على
الاقامة في السفر في الصلاة الا في الصبح؛ فإنه كان يؤذن
فيها ويقيم، ويقول: إنما الاذان للامام الذي يجتمع اليه
الناس.
وقال ابو الزبير، سألت ابن عمر: اؤذن في السفر؟ قال: لمن
يؤذن للفأر؟!
وأماالذين رأوا الأذان في السفر، فقالوا: الأذان للإعلام
بالوقت، وهذا مشروع في الحضر والسفر.
وأماإن كان المصلي منفرداً وحده في قرية، فقد ورد في فضل
أذانه وإقامته غير حديث:
روى سليمان التميمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان، قال:
لا يكون رجل بأرض [قي] ، فتوضأ إن وجد ماء وإلا تيمم،
فينادي بالصلاة ثم يقيمها إلا ام من جنود الله ما لا يرى
طرفاه - أو قال: طرفه.
ورواه القاسم بن غصن - وفيه ضعف -، عن داود بن أبي هند، عن
أبي عثمان، عن سلمان - مرفوعاً.
ولا يصح، والصحيح موقوف -: قاله البيهقي.
(5/368)
وروى مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن
المسيب، أنه كان يقول: من صلى بأرض فلاة صلى عن يمينه ملك،
وعن شماله ملك، فإن أذن وأقام صلى وراءه من الملائكة أمثال
الجبال.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما
يدل على استحباب الأذان للمنفرد في السفر:
فخرج مسلم من رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال:
كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغير إذا
طلع الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذاناً أمسك، وإلا
أغار، فسمع رجلاً يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الفطرة "،
ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خرجت من النار "، فنظروا
فإذا هو راعي معزى.
وخرج الإمام أحمد من حديث ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمعناه، وفيه: فابتدرناه، فإذا
هو صاحب ماشية، فأدركته الصلاة، فنادى بها.
وخرج - أيضا - بمعناه من حديث معاذ، عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عقبة بن
عامر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال:
" يعجب ربك من راعي غنم، في شظية
(5/369)
بجبل يؤذن للصلاة ويصلي، فيقول عز وجل:
انظروا إلى عبدي هذا، يؤذن ويقيم ويصلي، يخاف مني، قد غفرت
لعبدي وأدخلته الجنة ".
واستدل النسائي للإقامة في حق المنفرد بحديث خرجه من رواية
رفاعة بن رافع، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال للمسي في صلاته: " إذا قمت إلى الصلاة
فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد، ثم كبر " - وذكر له صفة بقية
الصلاة، وقال في آخر ذلك: " فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك،
وإن أنقصت منه شيئا انتقص من صلاتك، ولم تذهب كلها ".
وإن صلى وحده في مصر، فإن شاء أذن وأقام، وإن شاء أجزأه
أذان أهل المصر، واكتفى بالإقامة -: نص عليه أحمد.
وممن قال: يكفيه الإقامة: سعيد، وميمون بن مهران، والزهري،
ومالك، والأوزاعي.
وقد تقدم عن إسحاق: أن الحاضر إن شاء صلى بغير أذان ولا
إقامة،
والمسافر لا بد له أن يقيم.
وأما الشافعي، فنص على أن المنفرد يؤذن ويقيم.
وخرج له أصحابه قولا آخر: أنه لا يؤذن ويكتفي بالإقامة.
ومن أصحابه من قال: إن بلغه أذان غيره لم يؤذن، [وإلا أذن]
.
(5/370)
وحكى ابن المنذر، عن الكوفيين، أن له أن
يصلي في المصر وحده بغير أذان ولا إقامة، منهم: الشعبي
والأسود وأبو مجلز والنخعي.
وحكى مثله عن مجاهد وعكرمة.
وعن أبي حنيفة وأصحابه وأبي ثور: يجزئه أذان أهل المصر.
وعن ابن سيرين والنخعي: تجزئة الإقامة، إلا في الفجر؛ فإنه
يؤذن ويقيم.
وحكى ابن عبد البر، عن أبي حنيفة وأصحابه: أن المسافر يكره
له أن يصلي بغير أذان وإقامة، وأما الحاضر إذا صلى وحده
فيستحب أن يؤذن ويقيم، وإن اكتفى بأذان أهل المصر وإقامتهم
أجزأه.
قلت: وقال سفيان: إن سمع إقامة أهل المصر فاكتفى بها
أجزأه، فلم يكتف بالإقامة حتى يسمعها.
وروي عن علقمة، قال: صلى ابن مسعود بي وبالأسود بغير أذان
ولا إقامة، وربما قال: يجزئنا أذان الحي وأقامتهم.
خرجه البيهقي.
وخرج - أيضا - بإسناد ضعيف جدا، عن ابن عمر، أنه كان يقول:
من صلى في مسجد قد أقيمت فيه الصلاة أجزأته إقامتهم.
ثم قال: وبه قال الحسن والشعبي والنخعي.
قال: وقال الشافعي: لم أعلم مخالفاً أنه إذا جاء المسجد
وقد خرج الإمام من الصلاة كان له أن يصلي بلا أذان ولا
إقامة.
(5/371)
قال البيهقي: وكان عطاء يقول: يقيم لنفسه.
ثم روى بإسناد صحيح، عن أبي عثمان، قال: جاءنا أنس بن مالك
وقد صلينا الفجر، فأذن وأقام، ثم صلى الفجر لأصحابه.
قال ورويناه عن سلمة بن الأكوع في الأذان والإقامة، ثم عن
ابن المسيب والزهري.
وروى من طريق الشافعي: حدثنا إبراهيم بن محمد: أخبرني
عمارة بن غزية، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم،
قال: سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً
يؤذن للمغرب، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مثل ما قال، فأنتهى النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد قال: قد قامت الصلاة، فقال
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((انزلوا
فصلوا المغرب بإقامة هذا العبد الأسود)) .
وهذا ضعيف، إبراهيم، هو: ابن أبي يحيى، تركوا حديثه.
وروى وكيع في ((كتابه)) عن دلهم بن صالح، عن عون بن عبد
الله، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كان في سفر، فسمع إقامة مؤذن، فصلى بأصحابه بإقامته.
وهو مرسل - أيضا.
وقال أكثر أصحابنا: من صلى في مسجد قد صلي فيه بغير أذان
ولا إقامة فلا بأس.
ومن متأخريهم من قال: لا يسقط وجوب الأذان إلا عمن صلى مع
المؤذن، ولا يسقط عمن لم يصل معه وإن سمعه، سواء
(5/372)
كان واحداً أو جماعة في المسجد الذي صلي
فيه بأذان أو غيره.
وهذا شذوذ لا يعول عليه.
وهو خلاف نص أحمد: أن المصلي وحده في مصر يجزئه اذان
المصر.
ونص الإمام أحمد في رواية جعفر بن محمد على أنه لا يترك
الأذان في المسجد.
وظاهره: يدل على أن الأذان واجب في مساجد الجماعات.
وقال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر: الواجب في المصر أذان
واحد، وما زاد عليه في المساجد فهو سنة.
ولم يفرق بين أن يكون أهل المصر يبلغهم ذلك الأذان، أو لا.
وقال المتأخرون من أصحابنا: الواجب من الأذان في المصر ما
حصل به الإعلام في أقطاره ونواحيه غالباً، فلا يجرئ فيه
أذان واحد إذا كان لا يبلغ اقطاره.
وأماما بوب عليه البخاري من قول المؤذن في الأذان في
الليلة المطيرة أو الباردة: ((الصلاة في الرحال)) ، فحديث
ابن عمر يدل على أنه يقول بعد فراغ أذانه.
وقد تقدم في ((باب: الكلام في الأذان)) : حديث ابن عباس في
قولها في الحضر في أثناء الأذان قبل فراغه، وسبق الكلام
عليه.
(5/373)
19 - باب
هل يتتبع المؤذن فاه هاهنا وهاهنا؟ وهل يلتفت في الأذان؟
ويذكر عن بلال، أنه جعل إصبعيه في أذنيه.
وكان ابن عمر لا يجعل إصبعيه في أذنيه.
وقال إبراهيم: لا بأس أن يؤذن على غير وضوء.
وقال عطاء: الوضوء حق وسنة.
وقالت عائشة: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يذكر الله على كل أحيانه.
(5/374)
634 - ثنا محمد بن يوسف: ثنا سفيان، عن عون
بن أبي جحيفة، عن أبيه، أنه رأى بلالاً يؤذن، فجعلت أتتبع
فاه هاهنا وهاهنا بالأذان.
هكذا خرجه البخاري هاهنا عن الفريأبي، عن سفيان الثوري -
مختصراً.
ورواه وكيع عن سفيان بأتم من هذا السياق.
خرجه مسلم من طريقه، ولفظ حديثه: قال: أتيت النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة وهو بالأبطح في قبة له
حمراء من أدم، قال: فخرج بلال بوضوئه، فمن نائل وناضح.
قال: فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
في حلة حمراء، كأني انظر إلى بياض ساقيه. قال: فتوضأ، وأذن
بلال، فجعلت أتتبع فاه هاهنا
(5/374)
وهاهنا - يقول: يميناً وشمالاً -، يقول: حي
على الصلاة، حي على الفلاح. قال: ثم ركزت له عنزة، فتقدم
فصلى الظهر ركعتين، يمر بين يديه الحمار والكلب، لا يمنع،
ثم صلى العصر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى
المدينة.
ورواه عبد الرزاق، عن سفيان، ولفظ حديثه: عن أبي جحيفة،
قال: رأيت بلالاً يؤذن ويدور ويتتبع فاه هاهنا وهاهنا،
وإصبعاه في اذنيه، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في قبة له حمراء - وذكر بقية الحديث.
خرجه الإمام أحمد عن عبد الرزاق.
وخرجه من طريقه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
وخرجه البيهقي، وصححه - أيضا.
وهذا هو الذي علقه البخاري هاهنا بقوله: ((ويذكر عن بلال،
أنه جعل إصبعيه في أذنيه)) .
وقال البيهقي: لفظة الاستدارة في حديث سفيان مدرجة، وسفيان
إنما روى هذه اللفظة، في ((الجامع)) – رواية العدني، عنه -
عن رجل لم يسمه، عن عون.
قال: وروي عن حماد بن سلمة، عن عون بن أبي جحيفة - مرسلاً،
لم يقل: ((عن أبيه)) . والله أعلم.
قلت: وكذا روى وكيع في ((كتابه)) ، عن سفيان، عن عون، عن
أبيه، قال: أتينا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، فقام بلال فأذن، فجعل يقول في أذانه، يحرف رأسه
(5/375)
يميناً وشمالاً.
وروى وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن أبي جحيفة، أن بلالاً كان
يجعل إصبعيه في أذنية.
فرواية وكيع، عن سفيان تعلل بها رواية عبد الرزاق عنه.
ولهذا لم يخرجها البخاري مسندة، ولم يخرجها مسلم - أيضا -،
وعلقها البخاري بصيغة التمريض، وهذا من دقة نظره ومبالغته
في البحث عن العلل والتنقيب عنها - رضي الله عنه.
وقد خرج الحاكم من حديث إبراهيم بن بشار الرمادي، عن ابن
عيينة، عن الثوري ومالك بن مغول، عن عون بن أبي جحيفة، عن
أبيه، قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نزل بالأبطح - فذكر الحديث بنحو رواية عبد
الرزاق، وذكر فيه الاستداره، وإدخال الإصبعين في الأذنين.
وقال: هو صحيح على شرطهما جميعاً.
وليس كما قال؛ وإبراهيم بن بشار لا يقبل ما تفرد به عن ابن
عيينة، وقد ذمه الإمام أحمد ذماً شديداً، وضعفه النسائي
وغيره.
وخرج أبو داود من رواية قيس بن ربيع، عن عون بن أبي جحيفة،
عن أبيه، قال: رأيت بلالاً خرج إلى الأبطح فإذن، فلما بلغ
((حي
(5/376)
على الصلاة، حي على الفلاح)) لوى عنقه
يميناً وشمالاً، ولم يستدر.
وخرج ابن ماجه من رواية حجاج بن ارطاة، عن عون بن أبي
جحيفة، عن أبيه قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأبطح، وهو في قبة حمراء، فخرج
بلال فأذن، فاستدار في أذانه، فجعل إصبعيه في أذنيه.
وحجاج مدلس.
قال ابن خزيمة: لا ندري هل سمعه من عون، أم لا؟
وقال البيهقي: يحتمل ان يكون أراد الحجاج باستدارته
التفاته يمينا وشمالاً، فيكون موافقاً لسائر الرواة. قال:
وحجاج ليس بحجة.
وخرجه من طريق آخر عن حجاج، ولفظ حديثه: رأيت بلالاً يؤذن،
وقد جعل إصبعيه في أذنيه، وهو يلتوي في أذانه يميناً
وشمالاً.
وقد رويت هذه الاستدارة من وجه آخر: من رواية محمد بن خليد
الحنفي - وهو ضعيف جداً -، عن عبد الواحد بن زياد، عنه، عن
مسعر، عن علي بن الأقمر، عن عون، عن أبيه.
ولا يصح - أيضا.
وخرج ابن ماجه من حديث اولاد سعد القرظ، عن آبائهم، عن
سعد، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أمر بلالاً ان يجعل إصبعيه في أذنيه، وقال: ((أنه أرفع
لصوتك)) .
(5/377)
وهو إسناد ضعيف؛ ضعفه ابن معين وغيره.
وروي من وجوه أخر مرسلة.
وقد ذكر البخاري في هذا الباب ثلاث مسائل:
الأولى:
الالتفات في الأذان يميناً وشمالاً.
والسنة عند جمهور العلماء أن يؤذن مستقبل القبلة، ويدير
وجهه في قول: ((حي على الصلاة، حي على الفلاح)) يميناً
وشمالاً.
وأنكر ابن سيرين الالتفات، حكاه ابن المنذر وابن أبي شيبة
بإسناد صحيح عن ابن سيرين، أنه إذا اذن المؤذن استقبل
القبلة، وكان يكره أن يستدير في المنارة.
وروى وكيع، عن الربيع، عن ابن سيرين، قال: المؤذن لا يزيل
قدميه.
وكأن الروايتين لا تصرحان بكراهة لوي العنق.
وكذلك مالك.
وفي ((تهذيب المدونة)) : ولا يدور في أذانه، ولا يلتفت،
وليس هذا من الأذان، إلا أن يريد بالتفاته أن يسمع الناس
فيؤذن كيف تيسر عليه. قال: ورأيت المؤذنين بالمدينة
يتوجهون القبلة في أذانهم ويقيمون عرضاً، وذلك واسع يصنع
كيف شاء. انتهى.
وفي حديث عبد الله بن زيد الذي رأى الأذان في منامه انه
رأى الذي
(5/378)
علمه النداء في نومه قام فاستقبل القبلة
فأذن.
خرجه أبو داود من حديث معاذ.
والذين رأوا الالتفات. قال أكثرهم: يلتفت بوجهه، ولا يلوي
عنقه، ولا يزيل قدميه، وهو قول الثوري، والأوزاعي،
والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، وأبي ثور، وحكاه ابن
المنذر عن أبي حنيفة وأصحابه.
وحكي - أيضا - عن الحسن والنخعي والليث بن سعد.
وروى الحسن بن عمارة، عن طلحة بن مصرف، عن سويد بن غفلة،
عن بلال، قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إذا أذنا او أقمنا أن لا نزيل أقدامنا عن
مواضعها.
خرجه الدارقطني في ((أفراده)) .
والحسن بن عمارة، متروك.
وقالت طائفة: إن كان في منارة ونحوها دار في جوانبها؛ لأنه
أبلغ في الاعلام والاسماع، وهو رواية عن أحمد وإسحاق،
وظاهر فيه مالك إذا أراد
(5/379)
الاعلام.
وروي عن الحسن أنه يدور.
وظاهر كلام أصحابنا اختصاص الالتفات بالاذان.
وللشافعية في الالتفات في الاقامة وجهان.
والفرق بينهما: أن الاذان إعلام للغائبين، فلذلك يلتفت
ليحصل القصد بتبلغيهم، بخلاف الاقامة؛ فإنها اعلام
للحاضرين، فلا حاجة إلى التلفت فيها، ولذلك لم يشرع في
الموعظة في خطب الجمع وغيرها الالتفات؛ لانها خطاب لمن
حضر، فلا معنى للالتفات فيها.
وقال النخعي: يستقبل المؤذن بالاذان والشهادة والاقامة
القبلة.
خرجه ابن أبي شيبة.
وروى بإسناده عن حذيفة، انه مر على ابن النباح وهو يؤذن،
يقول: الله اكبر [الله] أكبر، أشهد أن لا اله الا الله،
يهوي بأذانه يمينا وشمالا، فقال حذيفة: من يرد الله ان
يجعل رزقه في صوته فعل.
وهذا يدل على انه كره التلفت في غير الحيعلة، وجعله
مناكلاً بأذانه.
(5/380)
المسألة الثانية:
جعل الاصبعين في الاذنين.
وقد حكى عن ابن عمر، انه كان لا يفعل ذلك.
وظاهر كلام البخاري: يدل على انه غير مستحب؛ لانه حكى تركه
عن ابن عمر، وأماالحديث المرفوع فيه فعلقه بغير صيغة
الجزم، فكأنه لم يثبت عنده.
وذكر في ((تاريخه الكبير)) من رواية الربيع بن صبيح، عن
ابن سيرين، قال: اول من جعل أصبعيه في أذنيه في الاذان عبد
الرحمن بن الأصم مؤذن الحجاج.
وهذا الكلام من ابن سيرين يقتضي انه عنده بدعة.
وروي عن ابن سيرين بلفظ آخر.
قال وكيع في ((كتابه)) : عن يزيد بن إبراهيم والربيع بين
صبيح، عن ابن سيرين، قال: أول من جعل اصبعا واحدة في أذانه
ابن الأصم مؤذن الحجاج.
وقال ابن أبي شيبة: ثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد،
قال: كان الأذان أن يقول: الله أكبر، الله أكبر، ثم يجعل
اصبعيه، واول من ترك إحدى أصبعيه في أذنيه ابن الاصم.
قال: وثنا أبو أسامة، عن هشام، عن ابن سيرين، انه كان إذا
اذن استقبل القبلة، فأرسل يديه، فإذا بلغ: ((حي على
الصلاة، حي على الفلاح))
(5/381)
أدخل إصبعيه في أذانه.
وهذا يقتضي انه إنما يجعلهما في أذنيه في أثناء الاذان.
وروى وكيع، عن سفيان، عن نسير بن ذعلوق، قال: رأيت ابن عمر
يؤذن على بعير.
قال سفيان: قلت له: رأيته جعل إصبعيه في أذنيه؟ قال: لا.
وهذا هو المروي عن ابن عمر، الذي ذكره البخاري تعليقا.
وأكثر العلماء على ان ذلك مستحب.
قال الترمذي في ((جامعه)) : العمل عند اهل العلم على ذلك،
يستحب ان يدخل المؤذن إصبعيه في أذنيه في الاذان. وقال بعض
اهل العلم: وفي الاقامة – أيضا، وهو قول الاوزاعي. انتهى.
وقال إسحاق كقول الاوزاعي.
ومذهب مالك: ان شاء جعل اصبعيه في اذانه واقامته، وان شاء
ترك - ذكره في ((التهذيب)) .
وظاهر هذا: يقتضي انه ليس بسنة.
(5/382)
وقد سهل أحمد في تركه، وفي جعل الاصبعين في
احدى الاذنين.
وسئل الشعبي: هل يضع أصبعيه على أذنيه إذا أذن؟ قال: يعم
عليهما، واحدهما يجزئك.
خرجه ابو نعيم في ((كتاب الصلاة)) .
واختلفت الرواية عن أحمد في صفة ذلك:
فروي عنه، أنه يجعل أصبعيه في أذنيه، كقول الجمهور.
وروي عنه، أنه يضم أصابعه، ويجعلها على اذنيه في الأذان
والإقامة.
واختلف أصحابنا في تفسير ذلك:
فمنهم من قال: يضم أصابعه، ويقبضهما على راحتيه، ويجعلهما
على أذنيه، وهو قول الخرقي وغيره.
ومنهم من قال: يضم الأصابع، ويبسطها، ويجعلها على اذنه.
قال القاضي: هو ظاهر كلام أحمد.
قال أبو طالب: قلت لأحمد: يدخل إصبعيه في الأذن؟ قال: ليس
هذا في الحديث.
وهذا يدل على ان رواية عبد الرزاق، عن سفيان التي خرجها في
((مسنده)) والترمذي في ((جامهه)) غير محفوظة، مع ان أحمد
استدل بحديث أبي جحيفة في هذا في رواية محمد بن الحكم.
وقال في رواية أبي طالب - أيضا -: أحب إليّ أن يجعل أصابع
يديه على أذنيه،
(5/383)
على حديث أبي محذورة، وضم أصابعه الأربع،
ووضعهما على أذنيه.
قال القاضي أبو يعلى: لم يقع لفظ حديث أبي محذورة.
قال: وروى أبو حفص العكبري بإسناده، عن [أبي] المثنى، قال:
كان ابن عمر إذا بعث مؤذناً يقول له: اضمم أصابعك مع كفيك،
واجعلها مضمومة على أذنيك.
واستحب الشافعية إدخال الإصبعين في الأذنين في الأذان، دون
الإقامة.
المسألة الثالثة:
الأذان على غير وضوء.
حكى البخاري عن عطاء، أنه قال: الوضوء حق وسنة - يعني في
الأذان -، وعن النخعي، انه قال: لا بأس أن يؤذن على غير
وضوء.
ورجح قوله بقول عائشة: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يذكر الله على كل أحيانه.
وقد خرجه مسلم من حديث البهي، [عن عروة] ، عن عائشة.
(5/384)
وممن قال بالكراهة: مجاهد والأوزاعي
والشافعي وإسحاق.
وممن ذهب إلى الرخصة: الحسن والنخعي وقتادة وحماد ومالك
وسفيان وابن المبارك.
ورخص أحمد في الأذان على غير وضوء، دون الإقامة.
وكذا قال الحسن وقتادة ومالك.
وقال الأوزاعي: إن أحدث في أذانه أتمه، وإن أحدث في إقامته
- وكان وحده - قطعها.
واستحب الشافعي لمن أحدث في أذانه أن يتطهر، ويبنى على ما
مضى منه.
قال إسحاق: لم يختلفوا في الإقامة أنها أشد.
وقال الزهري: قال أبو هريرة: لا ينادي بالصلاة إلا متوضئ.
ورواه معاوية بن يحيى، عن الزهري، عن أبي هريرة - مرفوعاً.
خرجه الترمذي من الطريقين، وذكر أن الموقوف أصح.
قال: والزهري لم يسمع من أبي هريرة.
وروى عمير بن عمران الحنفي: ثنا الحارث بن عيينة، عن عبد
الجبار بن وائل، عن أبيه، قال: حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن
إلا وهو طاهر.
(5/385)
خرجه الدارقطني في ((الأفراد)) ، وزاد: ولا
يؤذن إلا وهو قائم.
وقال: عبد الجبار، عن أبيه مرسل.
قلت: والحارث وعمير، غير مشهورين.
وما ذكره البخاري عن عطاء، هو من رواية ابن جريج، عنه،
قال: حق وسنه إلا يؤذن المؤذن إلا متوضئاً. قال: [هو] من
الصلاة، هي فاتحة الصلاة، فلا يؤذن إلا متوضئاً.
وهذا مبني على قوله: إن من نسي الإقامة أعاد الصلاة، وقد
سبق ذلك عنه.
وسبق الكلام في ذكر الله تعالى للمحدث، وان منهم من فرق
بين الذكر الواجب كالأذان والخطبة، وبين ما ليس بواجب.
وأماأذان الجنب، فأشد كراهة من أذان المحدث.
واختلفوا: هل يعتد به، ام لا؟
فقال الأكثرون: يعتد به، منهم: سفيان وأبو حنيفة ومالك
والأوزاعي وابن المبارك والشافعي وأحمد.
وقال: إسحاق والخرقي من أصحابنا: لا يعتد به، ويعيده.
(5/386)
20 - باب
قول الرجل: ((فاتتنا الصلاة))
وكره ابن سيرين أن يقول: فاتتنا الصلاة، وليقل: لم ندرك.
وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اصح.
(5/387)
635 - حدثنا ابو نعيم: حدثنا شيبان، عن
يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: بينما نحن
نصلي مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ
سمع جلبة الرجال، فلما صلى قال: ((ما شأنكم؟)) قالوا:
استعجلنا إلى الصلاة. قال: ((فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة
فعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) .
مقصود البخاري بهذا الباب: أن يرد ما حكاه عن ابن سيرين،
أنه كره أن يقول: ((فاتتنا الصلاة)) ، ويقول: ((م ندركها))
، من ذلك بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((وما فاتكم)) فسمى القدر المسبوق به مع الإمام فائتاً، مع
قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من ادرك ركعة
من الصلاة فقد
(5/387)
ادركها)) ، فكيف بما لم يدرك مع الإمام من
صلاته شيئاً، فإنه أولى أن يسمى فائتاً.
والظاهر: أن ابن سيرين إنما يكره أن يقول: ((فاتتنا
الصلاة)) ؛ فإنها فاتته حقيقة.
وقد يفرق بين أن تفوته بعذر كنوم ونسيان، أو بغير عذر، فإن
كان بعذر لم تفت - أيضا -؛ لإمكان التدارك بالقضاء.
وقد تقدم قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
" الذي تفوته صلاة [العصر] كانما وتر أهله وماله" والكلام
عليه مستوفى، وهل المراد به: من تفوته بعذر او بغير عذر،
وذكرنا هناك من حديث أبي قتادة، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنما تفوت النائم، ولا تفوت
اليقظان)) .
خرجه الإمام أحمد.
وكان ابن سيرين لشدة ورعه يتورع في منطقه، ويتحفظ فيه،
ويكره أن يتكلم بما فيه نوع توسع أو تجوز، وإن كان سائغاً
في لغة العرب.
وقد وجد في بعض نسخ ((صحيح البخاري)) في حديث أبي قتادة
هذا: ((وما فاتكم فاقضوا)) .
وقد خرجه الطبراني من طريق أبي نعيم الذي خرجه عنه
البخاري،
(5/388)
وقال في حديثه: " ليصل أحدكم ما أدرك،
وليقض ما فاته".
وخرجه بقي بن مخلد في ((مسنده)) عن ابن أبي شيبة، عن
معاوية بن هشام، عن شيبان، وقال في حديثه: ((وما سبقتم
فاقضوا)) .
وخرجه الإسماعيلي، ولفظه: ((وما فاتكم فاقضوا)) .
(5/389)
21 - باب
لا يسعى إلى الصلاة، ولياتها بالسكينة والوقار
وقال: ((ما ادركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) -: وقاله أبو
قتادة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
حديث أبي قتادة، تقدم في الباب الماضي.
قال:
(5/390)
636 - حدثنا آدم: حدثنا ابن أبي ذئب: حدثنا
الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن الزهري، عن أبي
سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قال: ((إذاسمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة،
وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا،
وما فاتكم فاتموا)) .
كان الزهري يروي هذا الحديث، عن سعيد بن المسيب، عن أبي
هريرة ويرويه - أيضا -، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وقد رواه جماعه من أصحابه عنه، عن سعيد وحده. ورواه آخرون
منهم، عنه، عن أبي سلمة وحده. وجمع بعضهم بينهما، منهم:
عبيد الله بن عمر.
وروي –أيضا -
(5/390)
كذلك، عن ابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد
ويونس بن يزيد.
قال الدارقطني: هو محفوظ، كان الزهري ربما أفرده عن
أحدهما، وربما جمعه.
قلت: وقد خرجه البخاري في ((كتاب الجمعة)) من ((صحيحه))
هذا، عن آدم، عن ابن أبي ذئب بالجمع بينهما، ومن طريق
شعيب، عن الزهري، عن أبي سلمة وحده.
وخرجه مسلم من رواية إبراهيم بن سعيد، عن الزهري، عنهما.
وخرجه أبو داود من طريق يونس كذلك.
وكلام الترمذي في ((جامعه)) يدل على أن الصحيح رواية من
رواه عن الزهري عن سعيد وحده.
والصحيح: أنه صحيح عن الزهري، عنهما، وتصرف الشيخين في
((صحيحهما)) يشهد لذلك.
قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذاسمعتم
الإقامة فامشوا إلى الصلاة، ولا تسعوا)) أمر بالمشي ونهي
عن الإسراع إلى الصلاة لمن سمع الإقامة، وليس سماع الإقامة
شرطاً للنهي، وإنما خرج مخرج الغالب؛ لأن الغالب أن
الاستعجال إنما يقع عند سماع الإقامة خوف فوت إدراك
التكبيرة أو الركعة، فهو كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ
عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ
(5/391)
مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، والرهن جائز
في السفر وغيره.
وكذلك قوله: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ
أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ
لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ، وقد ذكرنا أن التيمم يجوز
عند عدم الماء في السفر والحضر.
وكذلك قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ
عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الاحزاب:5]
، ويجوز أن يدعوا أخوانا وموالي وإن علم أباؤهم؛ فقد قال
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لزيد: ((انت
اخونا ومولانا)) مع علمه بأبيه.
وقد سبق حديث أبي قتادة ((إذاأتيتم الصلاة فعليكم
بالسكينة)) ، من غير اشتراط سماع الإقامة.
وقد أجمع العلماء على استحباب المشي بالسكينة إلى الصلاة،
وترك الاسراع والهرولة في المشي، ولما في ذلك من كثرة
الخطا إلى المساجد. وسيأتي أحاديث فضل المشي فيما بعد – إن
شاء الله تعالى.
وهذا ما لم يخش فوات التكبيرة الاولى والركعة، فإن خشي
فواتها، ورجا بالاسراع إدراكها، فاختلفوا: هل يسرع حينئذ،
أم لا؟ وفيه قولان.
أحدهما: انه يسعى لإدراكهما.
وروي عن ابن مسعود، أنه سعى لإدراك التكبيرة.
ونحوه عن ابن عمر، والأسود، وعبد الرحمن بن يزيد، وسعيد بن
جبير.
(5/392)
وعن أبي مجلز: الإسراع إذاخاف من فوت
الركعة.
وقال إسحاق: لاباس بالإسراع لإدراك التكبيرة.
ورخص فيه مالك.
وقال أحمد – في رواية مهنأ -: ولا بأس - إذاطمع أن يدرك
التكبيرة الأولى - أن يسرع شيئا، ما لم يكن عجلة تقبح؛ جاء
عن أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم
كانوا يعجلون شيئا إذاتخوفوا فوت التكبيرة الأولى، وطمعوا
في ادراكها.
وبوب النسائي في ((سننه)) على ((الإسراع إلى الصلاة من غير
سعي)) ، وخرج فيه حديث أبي رافع، قال: كان الرسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذاصلى العصر ذهب إلى
بني عبد الأشهل، يتحدث عندهم حتى ينحدر المغرب. قال أبو
رافع: فبينما النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يسرع إلى المغرب مررنا بالبقيع - وذكر الحديث.
وهذا إنما يدل على إسراع الإمامإذاخاف الابطاء على
الجماعة، وقد قرب الوقت.
والقول الثاني: أنه لايسرع بكل حالٍ.
وروي عن أبي ذر، ويزيد بن ثابت، وأنس بن مالك، وأبي هريرة،
وعطاء،
(5/393)
وحكاه ابن عبد البر عن جمهور العلماء، وهو
قول الثوري.
ونقله أن منصور وغيره عن أحمد، وقال: العمل على حديث أبي
هريرة.
وحديث أبي هريرة: دليل ظاهر على أنه لإيسرع لخوف فوت
التكبيرة الأولى، ولا الركعة؛ فانه قال: ((فإذا سمعتم
الإقامة فامشوا إلى الصلاة، ولا تسرعوا)) ، فدل على أنه
ينهى عن الإسراع مع خوف فوات التكبيرة أو الركعة.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) من حديث أبي بكرة، أنه جاء
والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكع، فسمع
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صوت نعلي أبي
بكرة وهو يحفز، يريد أن يدرك الركعة، فلما انصرف قال: ((من
الساعي؟)) قال أبو بكرة: أنا، قال: ((زادك الله حرصا، ولا
تعد)) .
وفي إسناده من يجهل حاله.
وخرجه البخاري في ((كتاب القراءة خلف الامام)) بإسناده آخر
فيه ضعف - أيضا - عن أبي بكرة – بمعناه، وفي حديث: قال: إن
أبا بكرة قال: يا رسول الله، خشيت ان تفوتني ركعة معك،
فأسرعت المشي، فقال له: ((زادك الله حرصاً، ولاتعد، صل ما
ادركت، واقض ما سبقت)) .
ولو سمع الإقامة وهو مشتغل ببعض أسباب الصلاة كالوضوء
والغسل أو غيرهما، فقال عطاء: لا يعجل عن ذلك – يعنى: أنه
يتمه من غير استعجال.
وسيأتي حديث: ((لا تعجل عن عشائك)) في موضعه من الكتاب -
إن شاء الله تعالى.
(5/394)
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: ((عليكم السكينة والوقار)) ، وهو بالرفع على أن الجملة
مبتدأ وخبر، ويروى بالنصب على الإغراء -: ذكره أبو موسى
المديني.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فما أدركتم
فصلوا، وما فاتكم فأتموا)) ، هذه الرواية المشهورة عن
الزهري، التي راوها عنه عامة أصحابه الحفاظ.
ورواه ابن عيينة، عن الزهري، وقال في روايته: ((وما فاتكم
فاقضوا)) .
خرج حديثه الإمام أحمد والنسائي.
وذكر أبو داود أن ابن عيينة تفرد بهذه اللفظة - يعني: عن
الزهري.
وذكر البيهقي بإسناده، عن مسلم، أنه قال: أخطأ ابن عيينة
في هذه اللفظة.
قلت: قد توبع عليها.
وخرجه الإمام أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري،
وقال في حديثه: ((قاضوا)) . قال معمر: ولم يذكر سجوداً.
وكذا رواها بحر السقاء، عن الزهري، وقال في حديثه ((وليقض
ما سبقه)) وبحر، فيه ضعف.
ورواها – أيضا - بنحو رواية بحر: سليمان بن كثير، عن
الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
(5/395)
خرجه البخاري في ((كتاب القراء خلف
الإمام)) .
ورويت لفظة ((القضاء)) من غير رواية الزهري:
وروى شعبة، عن سعد بن ابراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة،
عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال:
((ائتوا [الصلاة] وعليكم السكينة، فصلوا ما ادركتم، واقضوا
ما سبقكم)) .
خرجه أبو داود.
وخرجه الإمام أحمد من رواية عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن
أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بمعناه.
ورويت عن أبي هريرة من وجود أُخر:
فخرج مسلم طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا ثوب
بالصلاة فلا يسعى إليها أحدكم، ولكن ليمش؛ وعليه بالسكينة
والوقار، صل ما أدركت، واقض ما سبقك)) .
قال أبو داود: وكذا قال أبو رافع، عن أبي هريرة.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث حميد، عن أنس، عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا
جاء أحدكم فليمش نحواً مما كان يمشي، فليصل ما أدركه،
وليقض ما سبقه)) .
(5/396)
وخرج البزار من حديث سليمان بن بلال، عن
يحيى بن سعيد، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي
هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
قال: ((من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة كلها، إلا
أنه يقضي ما فاته)) .
وهذا الحديث آخر غير الذي قبله.
وبالجملة، فرواية من روى ((فأتموا)) أكثر.
وقد استدل الإمام أحمد برواية من روى ((فاقضوا)) ، ورحجها.
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله – يعني: أحمد - أرأيت قول
من قال: يجعل من أدرك مع الإمام أول صلاته، وقد قال: يجعله
آخر صلاته، أي شيء الفرق بينهما؟ قال: من أجل القراءة فيما
يقضي. قلت له: فحديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: على أي القولين يدل عندك؟ قال: على أنه يقضي
ما فاته؛ قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((صلوا ما ادركتم واقضوا ما سبقكم)) .
وقال في رواية ابنه صالح: يروى عن أنس وأبي هريرة، أن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((صلَّ ما
أدركت واقض ما سبقك)) . قال: ويروي غيره أنه قال: يقرأ
فيما أدرك. وقال غيره: يقرأ فيما يقضي. قال ابن مسعود: ما
أدركت من الصلاة فهو آخر صلاتك. انتهى.
(5/397)
وروى عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن معمر،
عن قتادة، أن علياً قال: ما أدركت من الإمام فهو أول
صلاتك، واقض فيما سبقك به من القراءة. وأن ابن مسعود قال:
اقرأ فيما فاتك.
وعن مالك، عن نافع، أن ابن عمر كان إذا فاته شيء من الصلاة
مع الإمام التي يعلن فيها بالقراءة، فإذا سلم الإمام قام
عبد الله فقرأ لنفسه.
وروى الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد: حدثنا عبيد الله،
عن نافع، أن ابن عمر كان إذا سبق بالأولتين قرأ في
الآخرتين بفاتحة الكتاب وسورة.
قلت: أماالقراءة فيما يقضي فمتفق عليها؛ لأن حكم متابعة
الإمام قد انقطعت عنه بسلام إمامه قبل فراغ صلاته، فهو
فيما بقي من الصلاة منفرد، يقرأ كما يقرأ المنفرد بصلاته،
لا يقول أحد من العلماء: أنه لا يقرأ فيها لاستمرار حكم
ائتمامه بالإمام.
ولكن من يقول من السلف: أن المصلي يقرأ في ركعتين ويسبح في
ركعتين، كما يقول الكوفيون وغيرهم، يقول: إذا أدرك الإمام
في ركعتين من الرباعية أنه لايقرأ معهم؛ لأنهم لا يرون
قراءة الماموم وراء إمامه بحال، ويقولون: إذا قام يقضي ما
فاته من الركعتين، فإنه يقرأ، ولا يجزئه أن يسبح، فإنه قد
صار منفرداً في بقية
(5/398)
صلاته، فلا بد [له] من القراءة، سواء فاته
ركعة أو ركعتان، فإن فاته ثلاث ركعات قرأ في ركعتين، وله
أن يسبح في الثالثة.
وهذا كله قول سفيان الثوري.
وحكى سفيان وأصحابه وابن عمر، أنه إذا أدرك ركعتين مع
الإمام لم يقرأ فيما أدركه معه، وقرأ في الركعتين إذا
قضاهما.
وعن علي، أن ما أدركه فهو أول صلاته، فيقرأ فيه ما سبقه به
الإمام من القراءة.
ظاهر هذا: أن علياً لم ير القراءة فيما يقضيه، وأنهم
أرادوا أنه لا يقرأ فيه ما زاد على الفاتحة.
وممن قال: يقرأ فيما يقضي: عبيدة السلماني، وابن سيرين،
وأبو قلابة، والنخعي.
وروى عبد الرزاق، عن الثوري، عن جابر، عن الشعبي، ان
جندباً ومسروقاً أدركا ركعة من المغرب، فقرأ جندب ولم يقرأ
مسروق خلف الإمام، فلما سلم الإمام قأمايقضيان، فجلس مسروق
في الثانية والثالثة، وقام جندب إلى الثالثة ولم يجلس،
فلما انصرفا أتيا ابن مسعود، فقال: كل قد أصاب، ونفعل كما
فعل مسروق.
وعن معمر، عن جعفر الجزري، عن الحكم، ان جندباً ومسروقاً
أدركا
(5/399)
ركعة من المغرب، فقرأ أحدهما في الركعتين
الآخرتين ما فاته من القراءة، ولم يقرأ الآخر في ركعة،
فسئل ابن مسعود، فقالا كلاهما محسن، وأنا أصنع كما صنع هذا
الذي قرأ في الركعتين.
وأكثر العلماء على أنه يقرأ في ركعات الصلاة كلها، يقرأ في
الركعتين الأولتين بالحمد وسورة وفي الآخرتين بالحمد
وحدها.
وعلى هذا؛ إذا أدرك المسبوقٌ من الرباعية أو المغرب
ركعتين، يقرأ فيما يقضي من الركعتين وبالحمد وحدها، أو
بالحمد وسورةٍ؟ على قولين، اشهرهما أنه يقضي بالحمد
وسورةٍ.
وهذا هو المنصوص عن مالك، والشافعي، وأحمد.
ونص الشافعي على أن ما أدركه مع الإمام فهو أول صلاته.
وعن مالك في ذلك روايتان منصوصتان: أحدهما: هو أول صلاته.
والثانية: هو آخرها.
وكذلك عن أحمد، ولكن أكثر الروايات عنه، أنه آخر صلاته.
وأمامذهب أبي حنيفة وأصحابه، فهو أن ما أدركه مع الإمام
آخر صلاته، وما يقضيه أولها.
وهو قول الحسن بن حي وسفيان الثوري.
وعلى قول هؤلاء لا إشكال في أنه يقرأ فيما يقضي [بالحمد]
وسورة.
(5/400)
قال ابن المنذر: واختلفوا في الذي يدركه
المأموم من صلاة الإمام.
فقالت طائفة: يجعله أول صلاته، روي هذا القول عن عمر وعلي
وأبي الدرداء، ولا يثبت ذلك عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب
والحسن وعمر بن عبد العزيز ومكحول وعطاء والزهري والأوزاعي
وسعيد بن عبد العزيز وإسحاق والمزني.
وقالت طائفة: يجعل ما أدرك مع الإمام آخر صلاته، كذلك قال
ابن عمر. وبه قال مجاهد وابن سيرين ومالك والثوري والشافعي
وأحمد.
قال ابن المنذر: وبالأول نقول. انتهى.
وأنكر ابن عبد البر نقل ابن المنذر ذلك عن مالك والشافعي
والثوري وأحمد، وقال: إنما أخذه من قولهم في القراءة [في
القضاء] .
قال: وثبت عن ابن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز ومكحول
وعطاء والزهري والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز: ما أدركت
فاجعله أول صلاتك.
قال: والذي يجيء على أصولهم - إن لم يثبت عنهم نص في ذلك -
ما
(5/401)
قاله المزني وإسحاق وداود وعبد العزيز بن
الماجشون.
يعني: أنه يقرأ فيما يقضي بالحمد وحدها؛ لأنه آخر صلاته.
قال: وهذا أطرد في القياس.
قال: فأمامن يقول: ما أدركه فهو أول صلاته، وما يقضيه
آخرها، ثم يقول: يقرأ فيه بالحمد وسورة، فكيف يصح هذا على
قوله؟ !
وروى حرب الكرماني بإسناده عن مكحول، قال: ما أدركت فاجعله
أول صلاتك، تقرأ في أولها بأم القرآن وسورة بينك وبين
نفسك.
قلت: وهذا ظاهر في أنه لا يقرأ فيما يقضي بسورة مع الحمد.
وروى بإسناده - أيضا - عن بقية، عن الزبيدي، قال: يقرأ
فيما يقضي بأم القرآن وسورة بقدر الذي فاته مع الإمام.
قال: وأماالأوزاعي فكان يقول: يقرأ بأم القرآن. قال بقية:
وبه نأخذ.
وروى –أيضا - بإسناده عن ثابت بن عجلان، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس، قال: ما أدركت مع الإمام فهو أول صلاتك،
واقرأ فيه بفاتحة الكتاب وسورة.
وهذا يدل – أيضا - على أنه لا يقرأ فيما يقضي زيادة على
الحمد.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة - مثل قول ابن عباس.
وقد اتفقت النصوص عن أحمد على أنه يقرأ فيما يقضي بالحمد
(5/402)
وسورة.
واختلف قوله في مأخذ ذلك:
فنقل عنه هارون الحمال، أن مأخذ ذلك أن ما أدركه آخر صلاته
وما يقضيه أولها. قال: فقيل له: قد حكي عنك أنك قلت: يقرأ
بفاتحة الكتاب ويجعل ما أدرك أول صلاته. فأنكر ذلك.
وهذا يحتمل أن يكون إنكاره للقول بأنه يقتصر على الحمد
فيما يقضي تفريعاً على ذلك؛ فإن القول بأن ما أدركه أول
صلاته مشهور عنه، قد نقله عنه غير واحد، فإن كان مراده
الأول كان قوله بأن القراءة فيما يقضي بالحمد وسورة لا
يختلف قوله فيه مع قوله: إن ما يقضيه أول صلاته أو آخرها،
وهذا هو المذهب عند أبي موسى وغيره من متقدمي الأصحاب.
وقد نقل عبد الله والأثرم وغيرهما انه يقرأ فيما يقضي
بالحمد وسورة، مع قوله: آخر صلاته.
وإن كان مراده الثاني كان القول: يقرأ الحمد وسورة فيما
يقضيه، مبنيا على الاختلاف فيما يقضيه: هل هو أول صلاته،
أو آخرها.
وهذا هو قول القاضي أبي يعلى ومن بعده من أصحابنا.
(5/403)
وأنكر بعض المتاخرين منهم أن يصح القول
بقراءة الحمد وسورة فيما يقضيه على كلا القولين، إلا على
قول من يرى استحباب القراءة بالحمد وسورة في كل ركعة من
الصلاة كلها، أو على أن من نسي قراءة السورة في الأوليين
قرأها في الأخريين.
وهذا المأخذ الثاني لا يصح؛ فإنه لا نسيان هاهنا.
وللمسألة مأخذان لم يذكرهما هذا القائل:
أحدهما: الاحتياط، ونص عليه أحمد في رواية صالح وعبد الله
وغيرهما، قال: يكون جلوسه على أول صلاته وفي القراءة يحتاط
فيقرأ فيما يقضي.
يعني: أنه إن أدرك ركعة من الرباعية تشهد عقيب قضاء ركعة،
فيجعل ما أدرك أول صلاته في الجلوس للتشهد؛ ويقرأ في
ركعتين فيما يقضي بالحمد وسورة احتياطاً لقراءة السورة؛
فإنها سنة مؤكدة، فيحتاط لها، ويأتي بها في الركعات كلها؛
للاختلاف في أول صلاته وآخرها.
والمأخذ الثاني: أنه إذا أدرك مع الإمام ركعتين من
الرباعية، فإنه لا يتمكن من قراءة السورة مع الحمد معه
غالباً، فإذا صلى معه ركعتين قرأ فيهما بالحمد وحدها، ثم
قضى ركعتين؛ فإنه ينبغي أن يقرأ فيهما سورة مع الفاتحة؛
لئلا تخلوا هذه الصلاة من قراءة سورة مع الفاتحة، مع حصول
(5/404)
الاختلاف في استحباب قراءة السورة فيما
يقضيه، فالاحتياط أن يقرأ فيما يقضي بالحمد وسورة.
أمالو كان قد قرأ فيما أدرك مع الإمام سورة مع الفاتحة؛
فإنه لا يعيد السورة فيما يقضيه، لا سيما عند من يقول: إن
ما أدركه هو أول صلاته.
ولهذا قال قتادة: إذا أمكنك الإمام فاقرأ في الركعتين
اللتين بقيتا سورة، تجعلهما أول صلاتك.
ذكره عبد الرزاق، عن معمر، عنه.
ولم أجد لأحمد ولا لغيره من الأئمة نصاً صريحاً أنه يقرأ
بالحمد وسورة فيما أدركه خلف الإمام، ثم يعيد ذلك فيما
يقضيه، بل نص على أن من أدرك ركعة من الوتر وقضى ما فاته
أنه لا يعيد القنوت.
وعلله أبو حفص البرمكي بأنه قد قنت مع الإمام فلا يعيد كما
لو سجد معه للسهو. قال: ويحتمل أنه لم يعده لأنه أدرك آخر
الصلاة.
ونص الشافعي على أن المسبوق بركعتين من الرباعية يقرأ فيما
يقضي بالفاتحة وسورتين.
فاختلف أصحابه على طريقين:
أحدهما: أن في استحباب السورة له القولان في استحباب قراءة
السورة في الركعتين الأخريين، وأن الشافعي إنما فرع نصه
هذا على قوله باستحباب قراءة السورة في كل الركعات، وهذا
قاله أبو علي
(5/405)
الطبري.
والطريق الثاني: قاله أبو إسحاق، أنه يستحب للمسبوق قراءة
السورة قولاً واحداً، وإن قيل: لا يستحب لغيره قراءة في
الأخريين؛ لأن المسبوق لم يقرأ السورة في الأوليين، ولا
أدرك قراءة الإمام السورة، فاستحب له؛ لئلا تخلو صلاته من
سورتين.
وهذا الطريق هو الصحيح عندهم، وعليه أكثر أصحابهم.
وأماالجهر بالقراءة في العشاء وثالثة المغرب، فأكثرهم على
أنه لا يجهر.
وحكوا في جهره قولين للشافعي.
ومنهم من قال: نص في ((الإملاء)) على أنه يجهر؛ لأن الجهر
فاته فيتدارك، ونص في غيره على أنه لا يجهر؛ لأن سنة آخر
الصلاة الإسرار بالقراءة، فلا تفوته. وبهذا يفرق بينه وبين
السورة.
وصرح بعضهم بأنه لو كان الإمام بطيء القراءة فأمكن المسبوق
أن يقرأ معه السورة فيما أدرك فقرأها، لم يعدها في
الأخريين، إلا على قولهم: يقرأ بالسورة في الركعات كلها،
وهو حسن موافق لما ذكره.
وهاهنا مأخذ ثالث؛ وقد صرح به غير واحد من السلف، وقد روي
عن علي ما يدل عليه، وصرح به الترمذي وغيره، وهو: أن من
أدرك
(5/406)
مع الإمام ركعتين فقد فاته معه ركعتان
بسورتيهما، فيشرع له قضاء ما فاته على وجهه.
لكن؛ هل يقضيه فيما أدرك مع الإمام، أو فيما يقضيه بعد
قراءته.
فالمروي عن علي أنه يقضيه فيما أدركه مع الإمام، وقال: هو
اول صلاته.
وقال ابن مسعود وغيره: فيما يقضي لنفسه وحده منفرداً.
فأماأن يكون مأخذهم انه أول صلاته، وأماأن يكون مأخذهم ان
القضاء إنما يكون بعد مفارقة الإمام ما أدرك، ويقضي ما
سبق، ولا يكون في حال متابعته، وإن كان آخر صلاته.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين وأبي
قلابة، قالا: يصلي مع الإمامما أدرك، ويقضي ما سبق به مع
الإماممن القراءة. مثل قول ابن مسعود.
وقال عمرو بن دينار: ما فاتك فاقضه كما فاتك.
وروى ابن لهيعة، عن عبيد الله بن المغيرة، عن جهم بن
الاسود، عن أبي سعيد الخدري، قال: اقرأ فيما تقضي بما قرأ
به الإمام.
خرجه عبد الله ابن الإمام أحمد.
وروى الأعمش، عن إبراهيم، قال: إنما القراءة في القضاء.
قال: وقال لي سعيد بن جبير: تقرأ فيما تدرك.
(5/407)
والمروي عن أبي سعيد يدل على أنه يستحب أن
يقرأ فيما يقضيه بالسورتين اللتين قرأ بهما الإمام؛ لتكون
قراءته لهما قضاء بما فاته مع الإمام حقيقة.
وأيضا؛ فإن [عامة] الكوفيين لا يرون القراءة خلف الإمام،
وقد اختلفوا في القراءة هاهنا خلفه فيما أدركه؛ لأنه قضاء
للقراءة الثانية، فرأى القراءة علي وسعيد بن جبير، ولم يره
ابن مسعود وعلقمة والنخعي والاكثرون منهم.
وأماإذا أدرك ركعة من الرباعية أو المغرب، فإنه يجلس
للتشهد عقب قضاء ركعة، كما قاله ابن مسعود وعلقمة، وقاله
سعيد بن المسيب. وهو المشهور عن أحمد.
وأخذ أحمد في هذه المسألة بما روي عن ابن مسعود، وفي
الأولى بما روي عن ابن عمر، وقاله ابن مسعود - أيضا.
ومن أصحابنا من بنى هذا على قول أحمد: إن ما يقضيه آخر
صلاته. قال: فإن قلنا: هو أول صلاته، تشهد عقب قضاء
ركعتين.
وقال الاكثرون: بل في المسألة روايتان غير مبنيتين على هذا
الاصل.
وهذا هو الذي يدل عليه كلام الإمام أحمد صريحاً؛ فإنه أخذ
في القراءة بقول ابن عمر، وفي الجلوس بقول ابن مسعود، وجمع
بينهما. وابن مسعود مع قوله بهذا، فإنه قد قال: ما أدركه
فهو آخر صلاته،
(5/408)
كما سبق عنه.
وزعم صاحب ((المغني)) من أصحابنا ان ذلك كله جائز.
ويشكل عليه: أن أحمد نص في رواية مهنا على انه إذا تشهد
عقب ركعتين سجد للسهو.
وكلام ابن مسعود يدل على جواز الأمرين كما سبق عنه.
وقد تبين بهذا: أن اكثر العلماء ليس لهم في هذه المسألة
قول مطرد.
ولا خلاف أن التشهد الأخر في حق المسبوق هو الذي في آخر
صلاته، الذي يسلم عقيبه، فأماالتشهد الأول، فإن وقع عقيب
ركعتين من صلاة المسبوق، فإنه يتشهد فيه معه.
واختلفوا: هل يتم التشهد مع الإمام بالدعاء ام ينتهي إلى
قوله: ((واشهد ان محمداً عبده ورسوله)) ، ثم يردده؟ على
قولين.
والثاني: قول الحسن وأحمد، والأول: ظاهر كلام عطاء.
فإن كان تشهد الإمام في موضع وتر من صلاة المأموم، فإنه
يتابعه في جلوسه بغير خلاف.
وهل يتشهد معه فيه، أم لا؟ على قولين:
أحدهما: يتشهد معه، وهو قول الحسن وابن المسيب وعطاء ونافع
والزهري والثوري.
وأحمد، قال: أحب إلي أن يتشهد.
(5/409)
والثاني: لا يتشهد، وهو قول النخعي ومكحول
وعمرو بن دينار، وحكاه ابن المنذر عن الحسن - أيضا.
وقال النخعي: يسبح - يعني: بدل التشهد.
وقال الأوزاعي: يكتفي بالتسبيح.
وأكثر العلماء على أنه لا سجود عليه للسهو لزيادة هذا
الجلوس متابعة للإمام، وحكي عن ابن عمر أنه كان يسجد كذلك
للسهو. وعن أبي سعيد الخدري وعن عطاء وطاوس ومجاهد، وهو
قول الحسن.
وروي عن عطاء، عن أبي سعيد وابن عمر وأبي هريرة وابن عباس
وابن الزبير، أنهم كانوا يسجدون سجدتي السهو إذا أدرك
الإمام في وتر.
قال الإمام أحمد: لم يسمعه عطاء منهم، بينه وبينهم رجل.
يعني: أن في الإسناد مجهول.
والصحيح: قول الجمهور.
وفي ((صحيح مسلم)) عن المغيرة، أنه غزا مع النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تبوكاً، فتبرز رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتوضأ، وصب عليه
المغيرة، ثم أقبل. قال المغيرة: وأقبلت حتى نجد الناس
قدموا عبد الرحمن بن عوف، فصلى بهم، فأدرك رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى الركعتين فصلى مع
الناس الركعة الآخرة، فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتم صلاته، فلما
قضى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاته
أقبل عليهم، ثم قال: ((أحسنتم)) –
(5/410)
او ((اصبتم)) -، يغبطهم ان صلوا الصلاة
لوقتها.
ولم يذكر المغيرة ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - سجد للسهو.
وخرجه أبو داود من وجه آخر عن المغيرة، وفيه: فلما سلم قام
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى الركعة
التي سبق بها، ولم يزد عليها شيئاً.
وخرجه البخاري في ((القراءة خلف الإمام)) والطبراني
والبيهقي من وجه آخر عن المغيرة، وفيه: فصلينا ما أدركنا،
وقضينا ما سبقنا.
وقد روى معمر: ليصل ما أدرك، وليقض ما سبق. قال معمر: ولم
يذكر سجوداً.
يعني: انه لو كان عليه سجود في بعض الاحوال لما أخر بيانه؛
لأنه وقت حاجة. وكذلك استدل به كثير من الأئمة بعده، منهم
الإمام أحمد والشافعي.
وفي حديث المغيرة: ان المسبوق إنما يقوم إذا سلم الإمام،
ولا يقوم حتى يسلم إمامه التسليمتين معاً، نص عليه سفيان
والشافعي وأحمد؛ لأن التسليمة الثانية مختلف في وجوبها،
[فإذا] لم يأت بها الإمام لم يخرج من صلاته بيقين.
قالت طائفة: ويستحب ان لا يقوم حتى ينحرف الإمام، لعله أن
يذكر
(5/411)
سجود سهو، إلا ان يطول ذلك فيقوم ويدعه،
وهذا قول عطاء والشعبي وأحمد.
وكان ابن عمر إذا سلم الإمام يقضي ما سبق به، وإن لم يقم
الإمام.
وقال أصحاب الشافعي: إن مكث المسبوق بعد سلام إمامه
جالساً، وطال جلوسه، فإن كان موضع تشهده الأول جاز، ولم
تبطل صلاته؛ لأنه محسوب من صلاته، لكنه يكره له تطويله،
وإن لم يكن في موضع تشهده لم يجز أن يجلس بعد تسليم إمامه؛
لأن جلوسه كان للمتابعة وقد زالت، فإن فعل عالما بطلت
صلاته، وان كان ساهياً لم تبطل، ويسجد للسهو.
ولو سبق جماعة ببعض الصلاة، ثم قاموا بعد سلام الإمام، فهل
لهم ان يقلوا جماعة يؤمهم أحدهم؟ فيه قولان:
أحدهما: نعم، وهو قول عطاء وابن سابط.
والثاني: لا، وهو قول الحسن.
وعن أحمد فيه روايتان، وللشافعية وجهان.
ومأخذهما: هل يجوز الانتقال من الائتمام إلى نية الإمام؟
وأمامأخذ الحسن، فالظاهر أنه كراهة إعادة الجماعة في مسجد
مرتين.
قال القاضي من أصحابنا والشافعية: ولو كان ذلك في الجمعة
لم يجز؛ لأن الجمعة لا تقام في مسجد واحد مرتين في يوم.
وقال أبو [علي] الحسن بن البناء: في هذا نظر؛ لأن الجمعة
تقام عندنا في مواضع للحاجة، وان سبق بعضها بعضاً.
(5/412)
22 - باب
متى يقوم للناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة
(5/413)
637 - حدثنا مسلم بن إبراهيم: حدثنا هشام،
قال: كتب إلي يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة،
عن أبيه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني)) .
هذا رواه هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير مكاتبة، وقد
رواه عن يحيى غير واحد: شيبان، وحجاج الصواف، وايوب، وأبان
العطار، ومعمر، وغيرهم.
وخرجه البخاري من رواية شيبان، وخرجه مسلم من رواية حجاج
ومعمر.
وفي رواية له من رواية شيبان ومعمر: ((حتى تروني قد خرجت))
.
وقال أبو داود: لم يذكر: ((قد خرجت)) إلا معمر.
وذكر البيهقي: أنها قد رويت عن حجاج – أيضا.
وخرجها ابن حبان في ((صحيحه)) من رواية معمر، ولفظه: ((حتى
تروني قد خرجت إليكم)) .
(5/413)
وهذه اللفظة: يستدل بها على مراده - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برؤيته: أن يخرج من بيته،
فيراه من كان عند باب المسجد، ليس المراد: يراه كل من كان
في المسجد.
وهذا كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا
تصوموا حتى تروا الهلال)) ، ومعلوم أنه لو رآه واحد أو
اثنان لاكتفي برؤيتهما، وصام الناس كلهم.
ويدل على هذا: ما خرجه مسلم من حديث الزهري، قال: اخبرني
أبو سلمة، سمع ابا هريرة يقول: أقيمت الصلاة، فقمنا فعدلنا
الصفوف قبل ان يخرج إلينا رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتى رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إذا قام في مصلاه قبل ان يكبر
ذكر فانصرف - وذكر تمام الحديث.
ويحمل ذلك على قيامهم قبل ان يطلع على اهل المسجد من
المسجد، لما علموا خروجه من بيته وتحققوه.
وخرج - أيضا - بهذا الإسناد، عن أبي هريرة، قال: إن كانت
الصلاة تقام لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، فيأخذ الناس مصافهم قبل ان يقوم النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقامه.
فهذه الرواية تصرح بأن الصفوف كانت تعدل قبل ان يبلغ النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى مصلاه، ولكن كان
قد خرج من بيته، ورآه من كان بقرب بيته.
وقد ذكر الدارقطني وغير واحد من الحفاظ أن هذا الحديث
اختصره الوليد ابن مسلم من الحديث الذي قبله، فأتي به بهذا
اللفظ.
(5/414)
فإن قيل: فقد خرج مسلم من حديث جابر بن
سمرة، قال: كان بلال يؤذن إذا دحضت، فلا يقيم حتى يخرج
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا خرج اقام
الصلاة حين يراه.
فلو اكتفي برؤية واحد للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لاكتفي برؤية بلال له، واكتفي بإقامة بلال في
قيام الناس، فإنه كان لا يقيم حتى يرى النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد خرج.
قيل: هذا إنما ورد في صلاة الظهر بالمدينة خاصة، وأمافي
غيرها من الصلوات، فقد كان بلال يجيء إلى النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بيته، فيؤذنه بالصلاة،
فكان يفعل ذلك في صلاة الفجر، كما في حديث عائشة وابن
عباس، وكان احياناً يفعله في السفر في غير الفجر، كما روى
أبو جحيفة، أنه رأى بلالا أذن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصلاة الظهر.
فالظاهر: ان بلالاً كان إذا اذن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصلاة رجع، فأقام قبل خروج النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيته، واكتفى بتأهبه
للخروج [بإيذائه] له، فوقع النهي في قيام الناس إلى الصلاة
قبل خروجه في مثل هذه الحالة. والله اعلم.
وقد اختلف العلماء في الوقت الذي يقوم فيه الناس للصلاة.
فقال طائفة: يقومون إذا فرغ المؤذن من الاقامة، سواء خرج
الإمام او لم يخرج.
وحكى ذلك بعض الشافعية عن أبي حنيفة والشافعي.
ورجع بعض
(5/415)
متأخري الشافعية أنهم لا يقومون حتى يروه؛
لحديث أبي قتادة.
وحكى ابن المنذر، عن أبي حنيفة، انه إذالم يكن الإماممعهم
كره ان يقوموا في الصف والإمام غائب عنهم.
وممن روي عنه، انهم لا يقومون حتى يروا الامام: عمر بن
الخطاب، وعلي بن أبي طالب.
خرجه وكيع، عنهما.
واختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة:
فروى عن جماعة من أصحابه، أنهم لا يقومون حتى يروه؛ لحديث
أبي قتادة، ولو علموا به، مثل ان يكون الإمام هو المؤذن،
وقد اقام الصلاة في المنارة وهو نازل.
وروى عنه الاثرم وغيره: انهم يقومون قبل ان يروه إذا اقيمت
الصلاة؛ لحديث أبي هريرة الذي خرجه مسلم.
وروى عنه المروذي وغيره: انه وسع العمل بالحديثين جميعاً،
فإن شاءوا قاموا قبل ان يروه، وأن شاءوا لم يقوموا حتى
يروه.
ورجح بعض أصحابنا الرواية الأولى؛ لحديث أبي قتادة، وادعى
انه ناسخ لحديث أبي هريرة؛ فإنه يدل على ان فعلهم لذلك كان
سابقا، ثم نهي عنه.
وكذا ذكر البيهقي، لكن قال: إنما نهي عنه تخفيفاً عليهم،
ورفقاً
(5/416)
بهم، وهذا لا يمنع العمل به كالصائم في
السفر ونحوه.
وروي عن أبي خالد الوالبي، قال: خرج الينا علي بن أبي طالب
ونحن قيام، فقال: مالي أراكم سامدين – يعني: قياماً.
وسئل النخعي: أينتظرون الإمام قيأماأو قعوداً؟ قال:
قعوداً.
وقال ابن بريدة في انتظارهم قياماً: هو السمود.
وكذا روي عن النخعي، انه كرهه، وقال: هو السمود.
وحكي مثله عن أبي حنيفة وإسحاق.
قال بعض أصحابنا: وروي عن أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي،
وداود، انه ان كان الإمام خارجاً من المسجد فلا تقوموا حتى
تروه، وإن كان في المسجد فهو كالمشاهد؛ حملا للرؤية في
الحديث على العمل، وكذا قال ابن بطة من أصحابنا.
وإن كان الإمام في المسجد، فهو مرئي للمصلين أو بعضهم، لكن
هل يكتفي برؤيته قاعداً، أو لا بد من رؤيته قائماً متهيأ
للصلاة؟ هذا محل نظر.
(5/417)
والمنصوص عن أحمد، انه إذا كان في المسجد
فإن المأمومين يقومون إذا قال المؤذن: ((قد قامت الصلاة))
، وإن لم يقم الإمام.
والقيام للصلاة عند الإقامة متفق على استحبابه للإمام، إذا
كان حاضراً في المسجد، وللمأمومين معه.
واختلفوا في موضع القيام من الاقامة على اقوال:
أحدها: انهم يقومون في ابتداء الاقامة، روي عن كثير من
التابعين، منهم: عمر بن عبد العزيز، وحكاه ابن المنذر عن
أحمد وإسحاق، وهو غريب عن أحمد.
والثاني: إذا قال: ((قد قامت الصلاة)) ، روي عن أنس بن
مالك، والحسن بن علي، وعطاء، والحسن، وابن سيرين، والنخعي،
وهو قول ابن المبارك، وزفر، وأحمد، وإسحاق.
والثالث: إذا قال: ((حي على الفلاح)) ، وحكي عن أبي حنيفة،
ومحمد.
والرابع: إذافرغت الاقامة، وحكي عن مالك، والشافعي.
وحكى ابن المنذر عن مالك، انه لم يوقت في ذلك شيئاً.
وقال الماوردي - من الشافعية -: إن كان شيخاً بطيء النهضة
قام عند قوله: ((قد قامت الصلاة)) ، وإن كان سريع النهضة
قام بعد الفراغ؛ ليستووا قيأمافي وقت واحد.
فإن تأخر قيام الإمام عن فراغ الإقامة لعذر كما
(5/418)
كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - احيانا يناجي بعض أصحابه طويلا، فهل يتأخر
قيام المأمومين إلى حين؟ الاظهر: نعم.
ويدل عليه ما خرجه البخاري - وسيأتي قريباً عن شاء الله -،
عن أنس، قال: اقيمت الصلاة والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يناجي رجلا في جانب المسجد، فما قام إلى
الصلاة حتى نام القوم.
ونومهم يدل على انهم كانوا جلوسا؛ إذ لو كانوا
قيأماينتظرون الصلاة كان ابعد لنومهم.
وروى حجاج بن فروخ، عن العوام بن حوشب، عن ابن أبي أوفى،
قال: كان بلال إذا قال: قد قامت الصلاة، نهض النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
حجاج، واسطي، قال أحمد يحيى: لا نعرفه. وقال يحيى - أيضا
-: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: مجهول وضعفَهٌ النسائي، وقال
الدارقطني: متروك.
وذكر هذا الحديث لأحمد فأنكره، وقال: العوام لم يلق ابن
أبي اوفى. هذا في القيام المبتدأ للصلاة ممن كان جالساً،
فأمامن دخل المسجد امأماكان او مأموماً، والمؤذن يقيم
الصلاة، فهل يجلس ليبتدئ القيام أمابعد الفراغ أو عند
قوله: ((قد قامت الصلاة)) ، أم
(5/419)
يستمر قائماً؟ فيه قولان:
أحدهما: انه يجلس ليقوم إلى الصلاة في موضع القيام
المشروع، وكذلك كان الإمامأحمد يفعل -: نقله عنه ابن
منصور، وقاله طائفة من الشافعية، منهم: أبو عاصم العبادي.
وفيه حديث مرسل، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء وبلال في الإقامة،
فقعد
خرجه الخلال.
والقول الثاني: انه يستمر قائما ولا يجلس -: قاله طائفة من
الشافعية، منهم: البغوي وغيره؛ لئلا يدخل في النهي عن
القيام للصلاة قبل رؤية الإمام؛ لان النهي إنما يتناول
القيام المبتدأ، وهذا لم يبتدئ القيام، بل استمر عليه.
ويتخرج لأحمد مثل هذا؛ انه فرق بين القيام المبتدأ
والمستمر في القيام للجنازة، فحمل النهي عن القيام المبتدأ
لمن كان جالساً، فأمامن تبعها فإنه يستمر قائماً، ولا يجلس
حتى توضع بالارض، ولم ير هذا القيام المستمر داخلاً في
القيام للجنازة المنهي عنه، وجمع بذلك بين الحديثين.
وقد يفرق بينهما: بأن في الجنازة حديثين مختلفين، فجمع
بينهما بالتفريق بين القيام المبتدأ والمستمر، وأمافي
النهي عن القيام قبل رؤية الإمام فليس فيه حديث
(5/420)
يعارضه، بل مرسل ابن أبي ليلى يوافقه،
فلذلك سوى فيه بين القيام المبتدأ والمستمر. والله أعلم.
وأماإن خرج الإمام إلى المسجد، ورآه المأمومون قبل إقامة
الصلاة، فلا خلاف انهم لا يقومون للصلاة برؤيته.
وخرج البيهقي من رواية عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي
رواد، عن ابن جريج: اخبرني موسى بن عقبة، عن سالم أبي
النضر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان
يخرج بعد النداء إلى المسجد، فإذا رأى أهل المجلس قليلا
جلس حتى يرى منهم جماعة، ثم يصلي، وكان إذا خرج فرأى جماعة
أقام الصلاة.
وقال: وحدثني موسى بن عقبة - أيضا -، عن نافع بن جبير، عن
مسعود بن الحكم الزرقي، عن علي بن أبي طالب، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –مثل هذا الحديث.
وخرجه أبو داود من رواية أبي عاصم، عن ابن جريج بالإسنادين
- أيضا -، لكن لفظه: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين تقام الصلاة في المسجد إذا رآهم
قليلاً جلس، ثم صلى، وإذارآهم جماعة صلى.
وخرجه الإسماعيلي في ((مسند علي)) من طريق أبي عاصم، عن
ابن جريج بالإسنادين – أيضا -، ولفظ حديثه: أن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل المسجد
فرأى جماعة أقام الصلاة، وإن رآهم قليلاً جلس.
وخرجه من طريق عبد المجيد - أيضا - بنحو رواية البيهقي،
وفي
(5/421)
آخره: يعني: أمر المؤذن، فأقام.
وأشار إلى أنه إنما يعرف بهذا الإسناد عن علي القيام
للجنازة ثم الجلوس قال: ولعل هذا أن يكون [خبراً] آخر.
والله أعلم.
(5/422)
23 - باب
لا يسعى إلى الصلاة، ولا يقوم إليها مستعجلاً
وليقم بالسكينة والوقار
(5/423)
638 - حدثنا أبو نعيم: ثنا شيبان، عن يحيى،
عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا أقيمت الصلاة
فلا تقوموا حتى تروني، وعليكم السكينة)) .
تابعه: علي بن المبارك.
قد سبق هذا الحديث بدون هذه الزيادة، وهي: ((وعليكم
السكينة)) ، وقد ذكر أنه تابع شيبان عليها علي بن المبارك.
وقد خرجه في كتاب ((الجمعة)) عن أبي قتيبة - وهو: سلم بن
قتيبة -، عن ابن المبارك، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي
قتادة - قال أبو عبد الله: لا أعلم إلا عن أبيه -، عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا
تقوموا حتى تروني، وعليكم السكينة)) ، فشك في وصله.
وقال أبو داود: رواه معاوية بن سلام، وعلي بن المبارك،
وقالا فيه: ((حتى تروني، وعليكم السكينة)) .
(5/423)
وخرجه الإسماعيلي في ((صحيحه)) من رواية
معاوية، كما ذكر أبو داود.
وقد سبق القول في النهي عن السعي إلى الصلاة، والأمر
بالمشي إليها بالسكينة والوقار.
وإنما المراد بهذا الباب: النهي عن القيام إلى الصلاة عند
رؤية الإمام باستعجال في القيام، والأمر بالقيام برفق
وتؤدة، وعليكم السكينة والوقار.
(5/424)
24 - باب
هل يخرج من المسجد لعلةٍ؟
(5/425)
639 - حدثنا عبد العزيز بن عبد الله: ثنا
إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن أبي
سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - خرج وقد أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف، حتى
إذاقام في مصلاه انتظرنا أن يكبر، انصرف. قال: ((على
مكانكم)) ، فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا ينطف رأسه
ماء، وقد اغتسل.
مقصود البخاري بهذا الباب: أنه يجوز لمن كان في المسجد بعد
الأذان أو بعد الإقامة أن يخرج منه لعذر.
والعذر نوعان:
أحدهما: ما يحتاج إلى الخروج معه من المسجد، ثم يعود
لإدراك الصلاة فيه، مثل أن يذكر أنه على غير طهارة، أو
ينتقض وضوؤه حينئذ، أو يدافعه الأخبثان، فيخرج للطهارة، ثم
يعود فيلحق الصلاة في المسجد.
وعلى هذا: دل حديث أبي هريرة المخرج في هذا الباب.
والثاني: أن يكون العذر مانعاً من الصلاة في المسجد كبدعة
إمامه ونحوه، فيجوز الخروج منه – أيضا - للصلاة في غيره،
كما فعل ابن عمر - رضي الله عنه.
(5/425)
روى أبو داود من حديث أبي يحيى القتات، عن
مجاهد، قال: كنت مع ابن عمر، فثوب رجل في الظهر او العصر،
فقال: اخرج بنا؛ فإن هذه بدعة.
وأبو يحيى هذا، مختلف فيه.
وقد استدل طائفة من أصحابنا بهذا الحديث، وأخذوا به.
وأماالخروج بعد الأذان لغير عذر، فمنهي عنه عند أكثر
العلماء.
قال سعد بن أبي وقاص وسعيد بن المسيب: إذا أذن المؤذن وأنت
في المسجد، فلا تخرج حتى تصلي.
قال ابن المسيب: يقال: لا يفعله إلا منافق.
قال: وبلغنا ان من خرج بين الأذان والإقامة لغير الوضوء
أنه سيصاب.
ذكره مالك في ((الموطإ)) عنه.
قال أصحابنا: لا يجوز ذلك.
وقال أصحاب الشافعي: هو مكروه.
قال الترمذي في ((جامعه)) : العمل عند أهل العلم من أصحاب
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(5/426)
ومن بعدهم أن لا يخرج أحد من المسجد بعد
الأذان، إلا من عذرٍ: أن يكون على غير وضوء، أو أمر لا بد
منه.
ويروى عن إبراهيم النخعي، أنه قال: يخرج ما لم يأخذ المؤذن
في الإقامة.
قال أبو عيسى الترمذي: وهذا عندنا لمن له عذر في الخروج
منه.
والمروي عن إبراهيم في هذا: ما رواه مغيرة، عن إبراهيم،
قال: إذا سمعت الإقامة وأنت في المسجد فلا تخرج.
فمفهومه: جواز الخروج قبل الإقامة.
وقد حمله الترمذي على العذر، ويشهد لذلك: ما رواه وكيع، عن
عقبة أبي المغيرة، قال: دخلنا مسجد إبراهيم وقد صلينا
العصر، وأذن المؤذن، فأردنا أن نخرج، فقال أبراهيم: صلوا.
وقد دل على النهي عن ذلك ما روى أبو الشعثاء سليم بن
الأسود، قال: كنا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة، فأذن
المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فأتبعه أبو هريرة بصره،
حتى خرج من المسجد، فقال
(5/427)
أبو هريرة: أماهذا فقد عصى أبا القاسم -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه الإمام أحمد، وزاد: ثم قال: أمرنا رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((إذا كنتم في المسجد،
فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي)) .
وهذا كله إذا أذن المؤذن في وقت الصلاة، فإذا أذن قبل
الوقت، فإن كان لغير الفجر فلا عبرة بهذا الأذان؛ لأنه غير
مشروع، وإن كان للفجر فيجوز الخروج من المسجد بعد الأذان
قبل طلوع الفجر للمؤذن -: نص عليه الإمام أحمد.
وغير المؤذن في معناه؛ فإن حكم المؤذن في الخروج بعد
الأذان من المسجد كحكم غيره في النهي عند أكثر العلماء،
ونص عليه أحمد، وإسحاق، وقال: لا نعلم أحداً من السلف فعل
خلاف ذلك.
ورخص فقهاء اهل الكوفة، منهم: سفيان وغيره في أن يخرج
المؤذن من المسجد بعد أذانه للأكل في بيته.
(5/428)
25 - باب إذا قال الإمام: ((مكانكم حتى
أرجع)) انتظروه
(5/429)
640 - حدثنا إسحاق: ثنا محمد بن يوسف: ثنا
الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي
هريرة، قال: أقيمت الصلاة، فسوى الناس صفوفهم، فخرج رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتقدم وهو جنب،
فقال: ((على مكانكم)) ، فرجع فاغتسل، ثم خرج ورأسه يقطر
ماء، فصلى بهم.
قد تقدم الكلام في القيام قبل خروج الإمام، وانتظار
المأمومين له قيأماقبل خروجه، فأماإذا ذكر حاجة فانصرف من
المسجد وقال لهم: ((مكانكم حتى أرجع)) ، فإنهم ينتظرونه
قيأماحتى يرجع إليهم، كما فعل النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الحديث.
وفي الرواية المذكورة في الباب الماضي، قال: ((فمكثنا على
هيئتنا حتى خرج الينا)) ، وهذا يدل على انهم انتظروه
قياماً.
ورواه بعضهم: ((على هينتنا)) من الهينة، وهي الرفق، وكأنها
تصحيف. والله اعلم.
وفي رواية لمسلم في هذا الحديث: ((فلم نزل قيأماننتظره حتى
خرج الينا، وقد اغتسل)) .
(5/429)
وفي رواية لمسلم - أيضا - في هذا الحديث:
((فأومأ إليهم بيده أن مكانكم)) .
وفيه: دليل على أن إيماء القادر على النطق يكتفى به في
العلم، والأمر، والنهي، وقد سبق ذلك مستوفى في ((كتاب
العلم)) .
وفي رواية لمسلم –أيضا - في هذا الحديث: ((فإتى رسول الله
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إذاقام في مصلاه
قبل ان يكبر، ذكر فانصرف وقال لنا: ((مكانكم)) .
وهذه الرواية صريحة في أنه انصرف قبل التكبير، وهو – أيضا
- ظاهر رواية البخاري.
قال الحسن بن ثواب: قيل لأبي عبد الله – يعين: أحمد بن
حنبل - وأنا أسمع: النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حين أومأ إليهم ان امكثوا، فدخل فتوضأ ثم خرج،
أكان كبر؟ فقال: يروى أنه كبر، وحديث أبي سلمة لما أخذ
القوم أماكنهم من الصف، قال لهم: ((امكثوا)) ، ثم خرج
فكبر.
فبين أحمد ان حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة يدل على انه لم
يكن كبر، وأماقوله: ((يروى أنه كبر)) ، فيدل على أن ذلك قد
روي، وأنه مخالف لحديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، وأن حديث
أبي سلمة
(5/430)
أصح، وعليه العمل.
وقد خرج أبو داود من حديث زياد الأعلم، عن الحسن، عن أبي
بكرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
دخل في صلاة الفجر، فأومأ بيده أن مكانكم، ثم جاء ورأسه
يقطر، فصلى.
وفي رواية له - أيضا -: ((فكبر)) وقال فيه: فلما قضى
الصلاة قال: ((إنما أنا بشر، وإني كنت جنباً)) .
وخرجه الإمام أحمد بمعناه - أيضا.
قال أبو داود: ورواه أيوب وهشام وابن عون، عن محمد، عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً، قال:
فكبر، ثم اومأ إلى القوم أن اجلسوا، فذهب واغتسل، وكذلك
رواه مالك، عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عطاء بن يسار: أن
وسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر في
صلاة.
قال أبو داود: وكذلك حدثنا مسلم بن إبراهيم: ثنا أبان، عن
يحيى يعني: ابن أبي كثير -، عن الربيع بن محمد، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كبر. انتهى.
وهذه كلها مرسلات.
(5/431)
وحديث الحسن، عن أبي بكرة في معنى المرسل؛
لأن الحسن لم يسمع من أبي بكرة عند الإمام أحمد والأكثرين
من المتقدمين.
وقد روي حديث ابن سيرين مسنداً، رواه الحسن بن عبد الرحمن
الحارثي، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة -
مسنداً.
قال البيهقي: والمرسل أصح.
وقد روي موصولاً من وجه آخر:
خرجه الإمام أحمد، وابن ماجه من رواية اسامة بن زيد، عن
عبد الله ابن يزيد مولى الاسود بن سفيان، عن محمد بن عبد
الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الصلاة، وكبر، ثم
أشار اليهم فمكثوا، ثم انطلق فاغتسل، وكان رأسه يقطر ماءً،
فصلى بهم، فلما انصرف قال: ((إني خرجت إليكم جنباً، وإني
أنسيت حتى قمت في الصلاة)) .
واسامة بن زيد، هو الليثي، وليس بذلك الحافظ.
وروى معاذ بن معاذ: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن
أنس، قال: دخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
في صلاته، فكبر فكبرنا معه، ثم اشار إلى الناس أن كما
أنتم، فلم نزل قيأماحتى أتانا رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قد اغتسل ورأسه يقطر.
(5/432)
قال البيهقي: خالفه عبد الوهاب بن عطاء،
فرواه عن سعيد، عن قتادة، عن بكر المزني.
وقد بنى الشافعي على رواية من روى: أنه - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان كبر ثم ذكر، ووافقه الإمام أحمد
في رواية الأثرم وغيره.
وهؤلاء استدلوا بهذا الحديث على أن من صلى خلف محدث ناسٍ
لحدثه ان صلاته مجزئه عنه، ويعيد الإمام وحده إذا ذكر بعد
تمام صلاته، كما روي عن عمر وعثمان.
وقيل: إنه لا مخالف لهما من الصحابة، بل قد روي مثله عن
علي، وابن عمر - أيضا -، وهو قول جمهور العلماء، منهم:
النخعي، وسفيان، ومالك، والشافعي، وأحمد.
قال ابن مهدي: قلت لسفيان الثوري: تعلم ان أحداً قال: يعيد
ويعيدون عن حماد؟ قال: لا.
وهذا إذا استمر نسيان الإمام حتى فرغ من صلاته، فأماإن ذكر
في اثناء صلاته فخرج، فتطهر ثم عاد، فإن الإمام لا يبني
على ما مضى من صلاته بغير طهارة بغير خلاف، فإن من صلى
بغير طهارة ناسياً فإن عليه الإعادة بالإجماع؛ لقول النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يقبل الله صلاة
أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) ، وقوله: ((لا يقبل الله صلاة
بغير طهور)) .
(5/433)
وحكى ابن عبد البر عن قوم أنهم جوزوا
البناء على ما مضى من صلاته محدثا ناسياً، وأشار إلى انه
قول مخالف للإجماع، فلا يعتد به.
وليس في الحديث ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بنى على ما مضى من تكبيرة الإحرام وهو ناس
لجنابته، فإن قدر أن ذلك وقع فهو منسوخ؛ لإجماع الأمة على
خلافه، كما ذكره ابن عبد البر وغيره، فلم يبق إلا أحد
وجهين:
أحدهما: أن يكون - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما
رجع كبر للإحرام، وكبر الناس معه.
وعلى هذا التقدير، فلا يبقى في الحديث دلالة على صحة
الصلاة خلف إمام صلى بالناس محدثاً ناسياً لحدثه.
والثاني: أن يكون النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- استأنف تكبيرة الإحرام، وبنى الناس خلفه على تكبيرهم
الماضي.
وهذا هو الذي اشار اليه الشافعي، وجعله عمدة على صحة صلاة
المتطهر خلف إمام صلى محدثاً ناسياً لحدثه.
قال ابن عبد البر: وقد وافق الشافعي على ذلك بعض أصحاب
مالك. قال: ولا يصح عندي ذلك على أصول مالك؛ لأن مالكاً لا
يجيز للمأموم ان يكبر قبل إمامه، وإنما يجيزه الشافعي.
يشير إلى أنه على هذا التقدير يصير المأموم قد كبر
منفرداً، ثم انتقل إلى ائتمامه بالإمام، وهذا يجيزه
الشافعي دون مالك.
وفيما قاله ابن عبد البر نظر؛ فإن المأموم إنما كبر
مقتدياً بإمام يصح
(5/434)
الاقتداء به، ثم بطلت صلاته بذكره، فاستأنف
صلاته، فلم يخرج المأموم عن كونه مقتدياً بإمام يصح
الاقتداء به، فهو كمن صلى خلف إمام، ثم سبقه الحدث في
اثناء صلاته في المعنى.
وعن الإمام أحمد في ابتداء المأمومين وإتمامهم الصلاة إذا
اقتدوا بمن نسي حدثه، ثم علم به في اثناء صلاته - روايتان.
وروي عن الحسن، أنهم يتمون صلاتهم.
ومذهب الشافعي: لا فرق بين ان يكون الإمام ناسياً لحدثه أو
ذاكراً له، إذالم يعلم الماموم، أنه لا إعادة على المأموم.
وهو قول ابن نافع من المالكية، وحكاه ابن عبد البر عن
جمهور فقهاء الأمصار وأهل الحديث.
وعن مالك وأحمد: على الماموم الإعادة.
وقال حماد وأبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري - في اشهر
الروايتين عنه -: يعيد المأموم، وإن كان الإمام ناسياً ولم
يذكر حتى فرغ من صلاته.
وهو رواية ضعيفة عن أحمد.
وحكي عنه رواية ثالثة: أن قرأ المأموم لنفسه فلا إعادة
عليه، وإلا فعليه الإعادة.
وهذا قد يرجع إلى القول بأنه تصير صلاة المأموم في هذه
الحال منفرداً.
والجمهور على ان صلاته في جماعة، وهو اصح الوجهين
للشافعية، بل قد قيل: إنه نص الشافعي.
وروي عن علي: أن الإمام والمأمومين يعيدون، ولا يصح عنه؛
فإنه
(5/435)
من رواية عمرو بن خالد الواسطي، وهو كذاب.
وفيه حديث مرسل: رواه أبو جابر البياضي - وهو متروك - عن
ابن المسيب - مرسلاً.
(5/436)
26 - باب
قول الرجل: ((ما صلينا))
(5/437)
641 - حدثنا أبو نعيم: حدثنا شيبان، عن
يحيى، قال: سمعت أبا سلمة، قال: أنا جابر بن عبد الله، أن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاءه عمر بن
الخطاب يوم الخندق، فقال: يا رسول الله، ماكدت اصلي حتى
كادت الشمس تغرب، وذلك بعد ما أفطر الصائم. فقال النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (( [والله] ، ما
صليتها)) ، فنزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- إلى بطحان وأنا معه، فتوضأ ثم صلى العصر بعد ما غربت
الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.
قد تقدم هذا الحديث في أواخر ((كتاب المواقيت)) .
ومقصود البخاري بتخريجه هاهنا: أن من لم يصل الصلاة حتى
ذهب وقتها وهو ناسٍ لها، أو مشتغل عنها بعذر يبيح تأخيرها،
إذا سئل: ((هل صلى؟)) فله أن يقول: ((ما صليتها)) ، وله أن
يحلف على ذلك، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((والله، ما صليتها)) .
وكذلك إذاسئل من أخر الصلاة الحاضرة إلى أثناء وقتها: هل
صلاها؟ فله أن يقول: ((ما صليتها بعد)) ، ولا حرج في ذلك؛
لأنه صدق، وتأخر الصلاة في هذه الصورة كلها مباح، فلا يضر
الإخبار فيها بأنه
(5/437)
لم يصل.
وقد نص على جواز ذلك أحمد، وإسحاق -: نقله عنهما ابن
منصور.
ويوجد من الناس من يتحرج من قوله: ((لم أصل)) ، ويقول:
((نصلي إن شاء الله)) ، والسنة وردت بخلاف ذلك.
وأماإن عرض عليه أن يصلي في وقتها، وهو يريد تأخيرها، فإنه
لا يقول: ((لا أصلي)) ، ولكن يخبر بما قصده من التأخير
المباح، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لأسامة بن زيد ليلة المزدلفة: لما قال له: الصلاة يا
رسول الله. فقال له - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((الصلاة امامك)) .
ولما خطب ابن عباس بالبصرة، وأخر المغرب، فقيل له: الصلاة،
وألح عليه القائل، قال له: أتعلمنا بالسنة؟ ثم أخبره بجمع
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الصلاتين.
خرجه مسلم.
ولما أخر ابن عمر المغرب في السفر، وكان قد استصرخ على
زوجته صفية، قال له ابنه سالم: الصلاة. فقال [له] : سر، ثم
قال له: الصلاة. فقال له: سر، حتى سار ميلين أو ثلاثة، ثم
نزل فصلى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إذا أعجله السير.
خرجه البخاري، وسيأتي في موضعه - إن شاء الله سبحانه
وتعالى.
(5/438)
37 - باب
الإمام تعرض له الحاجة بعد الإقامة
(5/439)
642 - حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو:
حدثنا عبد الوارث: حدثنا
عبد العزيز بن صهيب، عن أنس، قال: أقيمت الصلاة والنبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يناجي رجلاً في جانب
المسجد، فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم.
هذا الحديث: فيه دليل على أن الإمام له أن يؤخر الدخول في
الصلاة بعد
إقامة الصلاة، إذا كانت له حاجة، وقد كان ابن عمر إذا
أقيمت الصلاة وقام مقامه
لا يكبر حتى يأتيه الرجل الذي كان وكله بإقامة الصفوف،
فيخبره بإقامتها، وأما
إذا لم يكن له حاجة فالأولى المسارعة إلى الدخول في الصلاة
عقب الإقامة.
وفي ((تهذيب المدونة)) للبرادعي المالكي: وينتظر الإمام
بعد الإقامة قليلاً قدر ما تستوي الصفوف، وليس في سرعة
القيام للصلاة بعد الإقامة وقت، وذلك على قدر طاقة الناس.
ومتى طال الفصل بين الإقامة والصلاة، فقال بعض أصحابنا،
وأصحاب الشافعي: يعتد بتلك الإقامة، ويكون كمن صلى بغير
إقامة.
(5/439)
وسيأتي من حديث ثابت، عن أنس ما يدل على
خلاف ذلك.
وظاهر حديث أنس يدل على ان الإقامة لم تعد كذلك.
وقد خرج مسلم حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس هذا، ولفظه:
أقيمت الصلاة والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يناجي رجلاً، فلم يزل يناجيه حتى نام أصحابه، ثم جاء فصلى
بهم.
وظاهر هذه الرواية يدل على انه صلى بالإقامة السابقة،
واكتفى بها.
فإن زعم زاعم ان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فعل ذلك ليبين للناس جواز الصلاة بدون اقامة.
قيل: ليس في هذا بيان لذلك؛ فإنه إنما يتبادر إلى الأفهام
انه اكتفى بالإقامة المتقدمة، فلو كان حكمها قد بطل لأمر
بإقامة ثانية، أو بين بقوله ان تلك الاقامة لم تبق معتبرة،
وإنما يصلي بغير إقامة بالكلية لئلا يظن انه صلى بتلك
الإقامة الماضية، فإن هذا هو المتبادر إلى الأفهام. والله
اعلم.
وقد روي عن طائفة من السلف ما يدل على أن الإقامة وإن
تقدمت على الصلاة بزمن طويل فإنها كافية.
فروي عن الحسن، والشعبي، والنخعي، ومجاهد، وعكرمة، وعروة،
ومحمد بن علي بن حسين، وغيرهم: أن من دخل مسجداً قد صلي
فيه فإنه لا يؤذن، ولا يقيم.
وحكي مثله عن أبي حنيفة وأصحابه، وإسحاق، وحكاه ابن المنذر
قولاً للشافعي.
(5/440)
ومنهم من علل بأنه يجزئه إقامة أهل المسجد
التي صلوا بها، روي ذلك صريحاً عن عروة.
وسئل أحمد عن ذلك، فقال: ان شاءوا أقاموا، والأمر عنده
واسع -: نقله عنه حرب.
وهذا يشعر بأن لهم الاكتفاء بالإقامة الأولى.
ونقل حرب عن إسحاق فيمن فاتته الصلاة يوم الجمعة مع الإمام
- صلاة الجمعة -، قال: لا بد أن يقيم الصلاة للظهر؛ لأن
الأذان والإقامة يومئذ لم تكن للظهر، إنما كانت للجمعة.
وهذا يدل على أنه يكتفي بالإقامة الأولى لمن صلى تلك
الصلاة التي اقيمت لأجلها.
وقد ذكرنا هذه المسائل مستوفاة في ((أبواب الأذان)) ،
وإنما المقصود: ان الإقامة وإن طال الفصل بينها وبين
الدخول في الصلاة يكتفي بها عند كثير من العلماء.
وروى وكيع في ((كتابه)) حدثنا عمران بن حدير، عن أبي مجلز،
قال: أقيمت الصلاة، وصفت الصفوف، فانتدب رجل لعمر فكلمه،
فأطال القيام حتى القيا إلى الارض، والقوم صفوف.
(5/441)
28 - باب
الكلام إذا أقيمت الصلاة
(5/442)
643 - حدثنا عياش بن الوليد: حدثنا عبد
الأعلى: حدثنا حميد، قال: سألت ثابتاً البناني عن الرجل
يتكلم بعدما تقام الصلاة، فحدثني عن أنس بن مالك، قال:
أقيمت الصلاة، فعرض للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رجل، فحبسه بعدما أقيمت الصلاة.
خرجه مسلم في ((صحيحه)) من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن
أنس، قال: أقيمت صلاة العشاء، فقال رجل: لي حاجة، فقام
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يناجيه حتى نام
القوم - أو بعض القوم -، ثم صلوا.
وخرجه الترمذي من حديث معمر، عن ثابت، عن أنس، قال: لقد
رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدما
تقام الصلاة يكلمه الرجل، يقوم بينه وبين القبلة، فما يزال
يكلمه، ولقد رايت بعضهم ينعس من طول قيام النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فهذا الحديث: دليل على جواز ابتداء الكلام للإمام وغيره
بعد إقامة
(5/442)
الصلاة، بخلاف حديث عبد العزيز بن صهيب
المخرج في الباب الماضي؛ فإنه إنما يدل على جواز استدامة
الكلام إذا شرع فيه قبل الإقامة.
ورواية معمر، عن ثابت، عن أنس صريحة بأن مدة الكلام طالت،
ورواية حماد بن سلمة تشعر بذلك؛ لقوله: ((حتى نام القوم أو
بعض القوم)) ، وليس فيه ذكر إعادة إقامة الصلاة.
وظاهر الحال: يدل على أنه لم يعد الإقامة، ولو وقع ذلك
لنقل، ولم يهمل؛ فإنه مما يهتم به.
وقد روى حديث ثابت جرير بن حازم، فخالف أصحاب ثابت في
لفظه، رواه عن ثابت، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتكلم بالحاجة إذا نزل عن
المنبر.
خرجه من طريقه كذلك الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن
ماجه والترمذي.
وقال: لا نعرفه إلا من حديث جرير بن حازم، وسمعت محمداً
–يعني: البخاري - يقول: وهم جرير بن حازم في هذا الحديث،
والصحيح ما روي عن ثابت، عن أنس، قال: أقيمت الصلاة فأخذ
رجل بيد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فما
زال يكلمه حتى نعس بعض القوم. قال محمد: والحديث هو هذا،
وجرير بن حازم ربما يهم في بعض الشيء، وهو صدوق.
(5/443)
وقال ابن أبي خيثمة في ((تاريخه)) : سئل
يحيى بن معين عن حديث جرير بن حازم هذا، فقال: خطأ.
وروى وكيع، عن جرير بن حازم، عن ثابت، عن أنس، قال: كان
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينزل من
المنبر يوم الجمعة، فيكلمه الرجل في الحاجة فيكلمه، ثم
يتقدم إلى المصلى فيصلي.
وروى وكيع عن سفيان، عن معمر، عن الزهري، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحو حديث جرير، عن ثابت
- مرسلاً.
وقد اختلف في كراهية الكلام بين الخطبة والصلاة، فكرهه
طاوس - في رواية – والحكم وأبو حنيفة، ورخص فيه الأكثرون.
قال ابن المنذر: كان طاوس وعطاء والزهري وبكر بن عبد الله
والنخعي وحماد ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور ويعقوب
ومحمد يرخصون فيه، وروينا ذلك عن ابن عمر، وحكي كراهته عن
الحكم.
وأماالكلام بين إقامة الصلاة والصلاة في غير الجمعة فلا
أعلم أحداً كرهه، وإنما كره من كره ذلك يوم الجمعة تبعاً
لكراهة الكلام في وقت الخطبة، فاستصحبوا الكراهة إلى
انقضاء الصلاة، وهذا المعنى غير موجود في سائر الصلوات.
(5/444)
وحكى ابن عبد البر عن العراقيين كراهته بني
الإقامة والصلاة مطالقاً.
فإن كان الكلام بينهما لمصلحة كتسوية الصفوف ونحوها كان
مستحباً، وقد دلت الأحاديث الكثيرة على ذلك، ووردت احاديث
وآثار في الدعاء قبل الدخول في الصلاة.
* * *
(5/445)
29 - بَابُ
وُجُوبِ صَلاَةِ الجَمَاعَةِ
وَقَالَ الحَسَنُ: إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنِ العِشَاءِ
فِي جَمَاعَةٍ شَفَقَةً لَمْ يُطِعْهَا.
مقصود البخاري بهذا الباب: أن الجماعة واجبةٌ للصلاة، ومن
تركها لغير عذرٍ، وصلى منفرداً فَقَدْ ترك واجباً، وهذا
قَوْلِ كثير من السلف، منهم: الْحَسَن، وما حكاه البخاري
عَنْهُ يدل عَلَى ذَلِكَ.
وقد روي عَن الْحَسَن التصريح بتعليل ذَلِكَ بأن الجماعة
فريضةٌ، فروى إِبْرَاهِيْم الحربي فِي ((كِتَاب البر)) :
نا عُبَيْدِ الله بْن عُمَر - هُوَ: القواريري -: نا
معتمر: نا هِشَام، قَالَ: سئل الْحَسَن عَن الرَّجُلُ
تأمره أمه أن يفطر تطوعاً؟ قَالَ: يفطر، ولا قضاء عَلِيهِ.
قُلتُ: تنهاهُ أن يصلي العشاء فِي جماعة؟ قَالَ: لَيْسَ
لها ذَلِكَ؛ هَذِهِ فريضة.
وروى بإسناده عَن عَطَاء فِي الرَّجُلُ تحسبه أمه فِي
الليلة المطيرة المظلمة عَن الصلاة فِي جماعة، قَالَ:
أطعها.
وهذا لا يخالف فِيهِ الْحَسَن؛ فإن الْحَسَن أفتى بعدم
طاعة الأم فِي ترك الجماعة فِي غير حال العذر، وعطاء أفتى
بطاعتها فِي ترك الجماعة فِي حال العذر المبيح لترك
الجماعة، وعطاء موافق للحسن فِي القول بوجوب الجماعة.
قَالَ ابن المنذر: وممن كَانَ يرى أن حضور الجماعات فرض:
عَطَاء
(5/446)
بْن أَبِي رباح، وأحمد بْن حَنْبل، وأبو
ثور.
قَالَ: وَقَالَ الشَّافِعِيّ: لا أرخص لمن قدر عَلَى صلاة
الجماعة فِي ترك إتيانها، إلا من عذرٍ.
وَقَالَ ابن مَسْعُود: لَقَدْ رأيتنا وما يتخلف عَنْهَا
إلا منافقٌ معلومٌ نفاقه.
وروينا عَن غير واحد من أصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنهم قالوا: من سَمِعَ النداء
ثُمَّ لَمْ يجب فلا صلاة لَهُ، منهم: ابن مَسْعُود، وأبو
موسى. وقد روي عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -. انتهى.
وَقَالَ إِسْحَاق بْن راهويه: صلاة الجماعة فريضة.
وَقَالَ الإمام أحمد فِي صلاة الجماعة: هِيَ فريضة.
وَقَالَ فِي رِوَايَة عَنْهُ: أخشى أن تكون فريضة، ولو ذهب
النَّاس يجلسون عَنْهَا لتعطلت المساجد: يروى عَن عَلِيّ،
وابن عَبَّاس، وابن مَسْعُود: من سَمِعَ النداء فَلَمْ يجب
فلا صلاة لَهُ.
وَقَالَ - أيضاً -: أشد مَا فيها قَوْلِ ابن مَسْعُود:
لَوْ تركتم سَنَة نبيكم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لكفرتم.
وقول ابن مَسْعُود قَدْ خرجه مُسْلِم فِي ((صحيحه)) من
رِوَايَة أَبِي الأحوص، عَن عَبْد الله بْن مَسْعُود،
قَالَ: لقد رأيتنا وما يتخلف عَن الصلاة إلا منافق قَدْ
علم
نفاقه، أو مريض، إن كَانَ المريض ليمشي بَيْن الرجلين
حَتَّى يأتي الصلاة، وَقَالَ: إن رَسُول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمنا سنن الهدى، وإن من سنن
الهدى الصلاة فِي المسجد الَّذِي يؤذن
فِيهِ.
(5/447)
وفي رِوَايَة لمسلم - أيضا - عَن ابن
مَسْعُود، قَالَ: من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ
عَلَى هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن، فإن الله شرع لنبيكم
سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم فِي بيوتكم
كما يصلي هَذَا المتخلف فِي بيته لتركتم سَنَة نبيكم، ولو
تركتم سنة نبيكم لضللتم.
وخرجه أبو داود بنحوه، وعنده: ((ولو تركتم سنة نبيكم
لكفرتم)) .
وخرج الترمذي من حَدِيْث مُجَاهِد، عَن ابن عَبَّاس، أنه
سئل عَن رَجُل يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يشهد جمعة
ولا جماعة؟ قَالَ: هُوَ فِي النار.
وروي عَن أَبِي سنان، عَن سَعِيد بْن جبير، عَن ابن
(5/448)
عَبَّاس فِي قوله تعالى:
{وقدكَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ
سَالِمُونَ} [القلم: 43] قَالَ: نَزَلَتْ فِي صلاة
الرَّجُلُ يسمع الأذان فلا يجيب.
وروي عَن سَعِيد بْن جبير من قوله.
وروى أبو حيان التيمي، عَن أبيه، عَن عَلِيّ، قَالَ: لا
صلاة لجار المسجد إلا فِي المسجد. قيل: يَا أمير
المُؤْمِنيِن، ومن جار المسجد؟ قَالَ: من سَمِعَ الأذان.
وروى شعبة عَن عدي بْن ثابت، عَن سَعِيد بْن جبير، عَن ابن
عَبَّاس، قَالَ: من سَمِعَ النداء فَلَمْ يجب فلا صلاة
لَهُ إلا من عذرٍ.
وقد رفعه طائفة من أصْحَاب شعبة بهذا الإسناد، وبعضهم
قَالَ: عَن شعبة، عَن حبيب بْن أَبِي ثابت، عَن سَعِيد،
عَن ابن عَبَّاس مرفوعاً.
وقد خرجه بالإسناد الأول مرفوعاً ابن ماجه وابن حبان فِي
((صحيحه)) والحاكم وصححه.
ولكن وقفه هُوَ الصحيح عِنْدَ الإمام أحمد وغيره.
وخرجه أبو داود مرفوعاً - أيضاً - من رِوَايَة أَبِي جناب
الكلبي، عَن مغراء، عَن عدي بْن ثابت، بِهِ.
وأبو جناب، ليس بالقوي، وقد اختلف عَلِيهِ - أيضاً - فِي
رفعه ووقفه.
وروي أبو بَكْر بْن عياش، عَن أَبِي حصين، عَن أَبِي بردة،
عَن أَبِي موسى، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((من سَمِعَ النداء فارغاً صحيحاً
فَلَمْ يجب فلا صلاة لَهُ)) .
خرجه الحَاكِم، وصححه.
وقد اختلف عَلَى أبي بَكْر بْن عياش فِي رفعه ووقفه.
ورواه قيس بْن الربيع، عَن أَبِي حصين - مرفوعاً.
(5/449)
ورواه مِسْعَر وغيره عَن أَبِي حصين
موقوفاً.
والموقوف أصح -: قَالَه البيهقي وغيره.
وممن ذهب الى أن الجماعة للصلاة مَعَ عدم العذر واجبة:
الأوزاعي والثوري والفضيل بن عياض وإسحاق وداود، وعامة
فقهاء الحَدِيْث، منهم: ابن خزيمة وابن المنذر.
وأكثرهم عَلَى أَنَّهُ لَوْ ترك الجماعة لغير عذرٍ وصلى
منفرداً أَنَّهُ لا يجب عَلِيهِ الإعادة، ونص عَلِيهِ
الإمام أحمد.
وحكي عَن داود أَنَّهُ يجب عليهِ الإعادة، ووافقه طائفة من
أصحابنا، منهم: أبو الْحَسَن التميمي، وابن عقيل وغيرهما.
وَقَالَ حرب الكرماني سئل إِسْحَاق عَن قوله: لا صلاة لجار
المسجد إلا فِي المسجد؟ فَقَالَ: الصحيح أَنَّهُ لا فضل
ولا أجر ولا أمن عَلِيهِ.
يعني: أَنَّهُ لا صلاة لَهُ.
وقد ذكرنا حَدِيْث ابن أم مكتوم فِي استئذانه النَّبِيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقول النَّبِيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا أجدُ لَكَ
رخصةً)) فيما سبق.
وهذا مِمَّا يستدل بِهِ عَلَى وجوب حضور الجماعة.
وقد روي عَن حذيفة وزيد بْن ثابت مَا يدل عَلَى الرخصة فِي
الصلاة منفرداً مَعَ القدرة عَلَى الجماعة.
وحكي عَن أَبِي حنيفة ومالك ان حضور الجماعة سَنَة مؤكدة،
لا
(5/450)
يأثم بتركها.
ولأصحاب الشَّافِعِيّ وجهان، أحدهما كذلك، ومنهم من حكى
عَنْهُ رِوَايَة كقول مَالِك وأبي حنيفة، وفي صحتها عَنْهُ
نظر. والله أعلم.
ولهذا أنكر بعض محققي أصحابنا أن يكون عَن أحمد رِوَايَة
بأن حضور المساجد للجماعة سَنَة، وأنه يجوز لكل أحد أن
يتخلف عَن المسجد ويصلي فِي بيته؛ لما فِي ذَلِكَ من تعطيل
المساجد عَن الجماعات، وهي من أعظم شعائر الإسلام.
ويلزم من هَذَا؛ أن لا يصح عَن أحمد رِوَايَة بأن الجماعة
للصلاة من أصلها سَنَة غير واجبة بطريق الأولى، فإنه يلزم
من القول بوجوب حضور المسجد لإقامة الجماعة القول بوجوب
أصل الجماعة، من غير عكسٍ. والله أعلم.
وحكى ابن عَبْد البر الإجماع عَلَى أنه لا يجوز أن يجتمع
عَلَى تعطيل المساجد كلها من الجماعات، وبذلك رجح قَوْلِ
من قَالَ: إن الجماعة فرض كفايةٍ.
قَالَ البخاري:
(5/451)
644 - حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف: أنا
مَالِك، عَن أَبِي الزناد، عَن الأعرج، عَن أَبِي
هُرَيْرَةَ، أن رَسُول الله - رضي الله عنه - قَالَ:
((والذي نفسي بيده، لَقَدْ هممت بحطب
[يجمع] ليحتطب، ثُمَّ آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثُمَّ آمر
(5/451)
رجلاً فيؤم النَّاس، ثُمَّ أخالف إلى رجال
فأحرق عليهم بيوتهم، فوالذي نفسي بيده، لَوْ يعلم أحدهم
أَنَّهُ يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء))
.
قَالَ ابن عَبْد البر: قوله: ((لَقَدْ هممت أن آمر بخطب
ليحطب)) أي: يجمع.
والعرق، المراد بِهِ: بضعة اللحم السمين عَلَى عظمة.
والمرماتان، قيل: هما السهمان. وقيل: هما حديدتان من حدائد
كانوا يلعبون بهما، وهي ملس كالأسنة، كانوا يثبتونها فِي
الأكوام والأغراض، ويقال لها - فيها زعم بعضهم -: المداحي.
قَالَ أبو عُبَيْدِ: يقال: إن المرماتين ظلفا الشاة.
قَالَ: وهذا حرف لا أدري مَا وجهه، إلا أن هَذَا تفسيره.
ويروى المرماتين - بكسر الميم وفتحها -: ذكره الأخفش.
وذكر العرق والمرماتين عَلَى وجه ضرب المثال بالأشياء
التافهة الحقيرة من الدنيا، وَهُوَ توبيخ لمن رغب عَن فضل
شهود الجماعة للصلاة، مَعَ أَنَّهُ لَوْ طمع فِي إدراك
يسير من عرض الدنيا لبادر إليه، ولو نودي إلى ذَلِكَ لأسرع
الإجابة إليه، وَهُوَ يسمع منادي الله فلا يجيبه.
قَالَ الخطابي: وقوله: ((حسنتين)) لا أدري عَلَى أي شيء
يتأول معنى الْحَسَن فيهما، إلا عَلَى تأويل من فسر
المرماة بظلف الشاة.
ثُمَّ ذكر عَن
(5/452)
المبرد، أَنَّهُ قَالَ: الْحَسَن والحسن
العظيم الَّذِي فِي المرفق مِمَّا يلي البطن. والقبح
والقبيح العظم الَّذِي فِي المرفق مِمَّا يلي المرفق.
قَالَ: فلعله شبه أحد العظمين بالآخر - أعني المرماة -
والعظم الَّذِي فِي المرفق مِمَّا يلي البطن.
قَالَ: وَهُوَ شيء لا أحق ولا اثق بِهِ. انتهى.
قُلتُ: وقد قَالَ بعضهم: ان الرواية ((خشبتين)) بالخاء
والشين المعجمتين والباء الموحدة، وَهُوَ غلط وتصحيف.
والذي يظهر - والله أعلم - ان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرج هَذَا الكلام مخرج تعظيم شهور
العشاء فِي جماعة، والتنويه بفضله وشرفه ونفاسته، والنفوس
مجبولة عَلَى محبة الأشياء الحسنة الشريفة النفيسة، والميل
إليها، فوبخ من لَوْ طمع فِي وجود قطعة من لحم سمينة أو
مرماتين حسنتين، وهما من ادنى الأشياء الدنيوية لبادر الى
الخروج إليها، وشهد العشاء لذلك، وَهُوَ يتخلف عَن شهود
العشاء فِي الجماعة مَعَ فضل الجماعة عِنْدَ الله، وعظم
فضل الجماعة مَا يدخره لمن شهدها عنده من جميل الجزاء
وجزيل العطاء، فيكون مَا يعجل لَهُ وإن كَانَ يسيراً من
أمور الدنيا المستحسنة عنده مِمَّا يأكله أو يلهو بِهِ أهم
عنده من ثواب الله الموعود بِهِ.
ويشبه هَذَا: قَوْلِ الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا
تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ
قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ
وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}
[الجمعة:11] ، فإنه توبيخ لمن ترك الجمعة أو اشتغل عَنْهَا
بالتجارة أو باللهو.
وهذا الحَدِيْث: ظاهر فِي وجوب شهود الجماعة فِي المساجد،
وإجابة
(5/453)
المنادي بالصلاة؛ فإن النَّبِيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر أَنَّهُ هم بتحريق بيوت
المتخلفين عَن الجماعة، ومثل هذه العقوبة الشديدة لا تكون
إلا عَلَى ترك واجبٍ.
وقد اعترض المخالفون فِي وجوب الجماعة عَلَى هَذَا
الاستدلال، وأجابوا عَنْهُ بوجوهٍ.
مِنْهَا: حمل هَذَا الوعيد عَلَى الجمعة خاصة.
واستدلوا عَلِيهِ بما فِي ((صحيح مُسْلِم)) عَن ابن
مَسْعُود، ان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قَالَ لقوم يتخلفون عَن الجمعة: ((لَقَدْ هممت أن آمر
رجلاً يصلي بالناس، ثُمَّ أحرق عَلَى رجال يتخلفون عَن
الجمعة)) .
ومنها: أَنَّهُ أراد تحريق بيوت المنافقين لنفاقهم؛ ولهذا
قَالَ ابن مَسْعُود: ولقد رأيتنا وما يتخلف عَنْهَا إلا
منافق معلوم نفاقه، وقد سبق ذكره.
والمنافق إذا تخلف عَن الصلاة مَعَ المُسْلِمِين لا يصلي
فِي بيته بالكلية، كما أخبر الله عنهم، أنهم {يُرَاؤُونَ
النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً}
[النِّسَاء: 142] .
وهذا التأويل عَن الشَّافِعِيّ وغيره.
ومنها: أَنَّهُ لَمْ يفعل التحريق، وإنما توعد بِهِ.
وقد ذهب قوم من العلماء الى جواز أن يهدد الحَاكِم رعيته
بما لا يفعله بهم، واستدل بعضهم لذلك بما أخبر بِهِ
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن
سُلَيْمَان، أَنَّهُ قَالَ حِينَ اختصمت إليه المراتان في
الولد: ((ايتوني بالسكين حَتَّى أشقه)) ، ولم يرد فعل
ذَلِكَ، إنما قصد بِهِ التوصل الى معرفة أمه منهما بظهور
شفقتها ورقتها عَلَى ولدها.
والجواب: أَنَّهُ لا يصح حمل الحَدِيْث عَلَى شيء من
ذَلِكَ.
(5/454)
أما حمله عَلَى الجمعة وحدها فغير صحيح.
وفي ذكر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
شهود العشاء فِي تمام الحَدِيْث مَا يدل عَلَى ان صلاة
العشاء الموبخ عَلَى ترك شهودها هِيَ المراد.
وقد روي ذَلِكَ عَن سَعِيد بْن المُسَيِّب، وأنها داخلة
فِي عموم الصلاة؛ فإن الاسم المفرد المحلي بالألف واللام
يعم، كما فِي قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، وهذا قَوْلِ جماعة من العلماء.
وقد جَاءَ التصريح بالتحريق عَلَى من تخلف عَن صلاة
العشاء.
فروى الحميدي عَن سُفْيَان: ثنا أبو الزناد، عَن الأعرج،
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((لَقَدْ هممت أن أقيم
الصلاة صلاة العشاء، ثُمَّ آمر فتياني فيخالفوا الى بيوت
أقوام يتخلفون عَن صلاة العشاء، فيحرقون عليهم بحزم
الحطب)) - وذكر بقية الحَدِيْث.
وروى ابن أَبِي ذئب، عَن عجلان مَوْلَى المشمعل، عَن أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((لينتهين رجال ممن حول المسجد، لا
يشهدون العشاء الآخرة فِي الجمع، أو لأحرقن حول بيوتهم
بحزم الحطب)) .
خرجه الإمام أحمد.
وخرج - أيضاً - من حَدِيْث أَبِي معشر، عَن سَعِيد
المقبري، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((لولا مَا فِي البيوت
من النِّسَاء والذرية أقمت صلاة العشاء، وأمرت فتياني
يحرقون مَا فِي البيوت بالنار)) .
(5/455)
وروى عاصم، عَن أَبِي صالح، عَن أَبِي
هُرَيْرَةَ، قَالَ: أخر رَسُول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العشاء حَتَّى تهور الليل وذهب
ثلثه أو قريباً مِنْهُ، ثُمَّ خرج الى المسجد، فإذا
النَّاس عزون، وإذا هم قليل، فغضب غضباً مَا أعلم اني
رأيته غضب غضباً قط أشد مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: ((لَوْ ان
رجلاً نادى النَّاس الى عرق أو مرماتين أتوه لذلك [ولم
يتخلفوا] ، وهم يتخلفون عَن هذه الصلاة، لَقَدْ هممت أن
آمر رجلاً يصلي بالناس، ثُمَّ اتتبع هذه الدور الَّتِيْ
تخلف أهلوها عَن هذه الصلاة، فأحرقها عليهم بالنيران)) .
وورد التصريح بأن العقوبة عَلَى ترك الجماعة دون الجمعة.
خرجه الطبراني فِي ((أوسطه)) : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْم -
هُوَ ابن هاشم البغوي -: ثنا حوثرة بْن أشرس: ثنا حماد بْن
سَلَمَة، عَن ثابت، عَن أنس، ان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ((لَوْ ان رجلاً دعا النَّاس
الى عرق أو مرماتين لأجابوه، وهم يدعون الى هذه الصلاة فِي
جماعة فلا يأتونها، لَقَدْ هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس
فِي جماعة، ثُمَّ أنصرف إلى قوم سمعوا النداء، فَلَمْ
يجيبوا فأضرمها عليهم ناراً؛ فإنه لا يتخلف عَنْهَا إلا
منافق)) .
حوثرة، ضَعِيف -: قَالَ ابن نقطة فِي ((تكملة الإكمال)) .
وأما ذكر الجمعة فِي حَدِيْث ابن مَسْعُود، فلا يدل عَلَى
اختصاها بذاك؛ فإنه كما هم أن يحرق عَلَى المتخلف عَن
الجمعة فَقَدْ هم أن يحرق عَلَى المتخلف عَن العشاء.
(5/456)
وقد قيل إنه عبر بالجمعة عَن الجماعة
للاجتماع لها.
قَالَ البيهقي: هَذَا هُوَ الَّذِي عَلِيهِ سائر الرواة.
واستدل بما خرجه من ((سنن أَبِي داود)) عَن يزيد بْن يزيد،
عَن يزيد بْن الأصم، قَالَ: [سَمِعْت أبا هُرَيْرَةَ
يَقُول] : سَمِعْت رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَقُول: ((لَقَدْ هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا
حزماً من حطبٍ، ثُمَّ آتي قوماً يصلون فِي بيوتهم، ليس بهم
علة فأحرقها عليهم)) .
قيل ليزيد بْن الأصم: الجمعة عنى أو غيرها؟ فَقَالَ: صمتا
أذناي إن لَمْ أكن سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يأثره عَن
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مَا ذكر
جمعة ولا غيرها.
وخرجه - أيضاً - من طريق معمر، عَن جَعْفَر بْن برقان، عَن
يزيد بْن الأصم مختصراً، وفي حديثه: ((لا يشهدون الجمعة))
.
وهذه الرواية، أو أَنَّهُ اراد بالجمعة الجماعة، كما قَالَ
البيهقي؛ فإن مسلماً خرجه من طريق وكيع، عَن جَعْفَر بْن
برقان، وَقَالَ فِي حديثه: ((لا يشهدو الصلاة)) .
ورواية أَبِي داود صريحة فِي أن التحريق عقوبة عَلَى
المتخلف عَن الجماعة.
وإن صلى المتخلف فِي بيته.
وأما دعوى أن التحريق كَانَ للنفاق فهو غير صحيح؛ فإن
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(5/457)
صرح بالتعليل بالتخلف عَن الجماعة، ولكنه
جعل ذَلِكَ من خصال النفاق، وكل مَا كَانَ علماً عَلَى
النفاق فهو محرم.
وفي حَدِيْث أَبِي زرارة الأنصاري، عَن النَّبِيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من سَمِعَ النداء ثلاثاً
فَلَمْ يجب كتب من المنافقين)) . وإسناده صحيح؛ لكن أبو
زرارة، قَالَ أبو الْقَاسِم البغوي: لا أدري أله صحبة أم
لا؟
وخرج الإمام أحمد من رِوَايَة ابن لهيعة، عَن زبان بْن
فائد، عَن سَهْل بْن معاذ بْن أنس، عَن أبيه، عَن
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ:
((الجفاء كل الجفاء، والكفر والنفاق من سَمِعَ منادي الله
ينادي بالصلاة ويدعو بالفلاح فلا يجيبه)) .
ورواه رشدين بْن سعد، عَن زبان.
قَالَ الحافظ أبو موسى: رواه جماعة عَن زبان، وتابعه
عَلِيهِ يزيد بْن أَبِي حبيب.
وَقَالَ النخعي: كفى علماً عَلَى النفاق أن يكون الرَّجُلُ
جار المسجد، لا يرى فِيهِ.
وقد كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يعلم نفاق خلق من المنافقين ولا يعاقبهم عَلَى نفاقهم، بل
يكل سرائرهم إلى الله، ويعاملهم معاملة المُسْلِمِين فِي
(5/458)
الظاهر، ولا يعاقبهم إلا عَلَى ذنوب تظهر
منهم، فَلَمْ تكن العقوبة بالتحريق إلا عَلَى الذنب
الظاهر، وَهُوَ التخلف عَن شهود الصلاة فِي المسجد، لا
عَلَى النفاق الباطن.
وأما دعوى أن ذَلِكَ كَانَ تخويفاً وإرهابا مِمَّا لا يجوز
فعله، فَقَدْ اختلف فِي جواز ذَلِكَ.
فروي جوازه عَن طائفة من السلف، منهم: عَبْد الحميد بْن
عَبْد الرحمن عامل عُمَر بْن عَبْد العزيز عَلَى الكوفة،
وميمون بْن مهران، وروي - أيضاً - عن عُمَر بْن الخَطَّاب
من وجه منقطع ضَعِيف، وعن عَلِيّ بْن أَبِي طالب.
وأنكر ذَلِكَ عُمَر بْن عَبْد العزيز وتغيظ عَلَى عَبْد
الحميد لما فعله، وَقَالَ: إن خصلتين خيرهما الكذب لخصلتا
سوءٍ.
وقد ذكر هذه الآثار عُمَر بْن شبة البصري فِي ((كِتَاب أدب
السلطان)) .
وبكل حال؛ فليس مَا ذكره النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من التحريق من هَذَا فِي شيء؛ لأنه -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بأنه هم، وأنما
يهم بما يجوز لَهُ فعله، والتخويف يكون عِنْدَ من أجازه
بما لا يجوز فعله ولا الهم بفعله، فتبين أَنَّهُ ليس من
التخويف فِي شيء، وإنما امتنع من التحريق لما فِي البيوت
من النِّسَاء والذرية وهم الأطفال، كما فِي الرواية
الَّتِيْ خرجها الإمام أحمد، وهم لا يلزمون شهود الجماعة؛
فإنها لا تجب عَلَى امرأة ولا طفل، والعقوبة إذا خشي أن
تتعدى إلى من لا ذنب لَهُ امتنعت، كما يؤخر
(5/459)
الحد عَن الحامل إذا وجب عَلَيْهَا حَتَّى
تضع حملها.
فإن زعم زاعم أن التحريق منسوخ؛ لأنه من العقوبات المالية،
وقد نسخت، وربما عضل ذَلِكَ بنهي النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن التحريق بالنار.
قيل لَهُ: دعوى نسخ العقوبات المالية بإتلاف الأموال لا
تصح، والشريعة طافحة بجواز ذَلِكَ، كأمره - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتحريق الثوب المعصفر بالنار، وأمره
بتحريق متاع الغال، وأمره بكسر القدور الَّتِيْ طبخ فيها
لحوم الحمر الأهلية، وحرق عُمَر بيت خمار.
ونص عَلَى جواز تحريق بيت الخمار أحمد وإسحاق -: نقله
عنهما ابن منصور فِي ((مسائله)) ، وَهُوَ قَوْلِ يَحْيَى
بْن يَحْيَى الأندلسي، وذكر أن بعض أصحابه نقله عَن
مَالِك، واختاره ابن بطة من أصحابنا.
وروي عَن عَلِيّ - أيضاً - وروي عَنْهُ أَنَّهُ أنهب ماله.
وعن عُمَر، قَالَ فِي الَّذِي يبيع الخمر: كسورا كل آنية
لَهُ، وسيروا كل ماشية
لَهُ.
خرجه وكيع فِي ((كتابه)) .
وأما نهيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن
التحريق بالنار، فإنما أراد بِهِ تحريق النفوس وذوات
الأرواح.
فإن قيل: فتحريق بيت العاصي يؤدي إلى تحريق نفسه، وَهُوَ
ممنوع.
قيل: إنما يقصد بالتحريق دارهُ ومتاعهُ، فإن أتى عَلَى
نفسه لَمْ يكن بالقصد، بل تبعاً، كما يجوز تبييتُ المشركين
وقتلهم ليلاً، وقد أتى القتل
(5/460)
عَلَى ذراريهم ونسائهم.
وقد سئل النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عَن ذَلِكَ، فَقَالَ: ((هم منهم)) .
وهذا مِمَّا يحسن الاستدلال بِهِ عَلَى قتل تارك الصلاة؛
فإنه إذا جازت عقوبة تارك الجماعة فِي ماله وإن تعدت إلى
نفسه بالهلاك، فقتل من ترك الصلاة بالكلية أولى بالجواز،
فلا جرم كَانَ قتله واجباً عِنْدَ جمهور العلماء.
وفي الحَدِيْث: دليل عَلَى أَنَّهُ إنما يعاقب تارك الصلاة
أو بعض واجباتها فِي حال إخلاله بِهَا، لا بعد ذَلِكَ؛ فإن
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أراد
عقوبتهم فِي حال التخلف، وقد كَانَ يمكنه أن يؤخر العقوبة
حَتَّى يصلي وتنقضي صلاته.
وهذا يعضد قَوْلِ من قَالَ من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم:
إن تارك الصلاة لا يقتل حَتَّى يدعى إلى الصلاة، ويصر
عَلَى تركها حَتَّى يضيق وقت الأخرى، ليكون قتله عَلَى
الترك المتلبس بِهِ فِي الحال.
وفي الحَدِيْث - أيضاً - أن الإمام لَهُ أن يؤخر الصلاة
عَن أول الوقت لمصلحة دينية، ولكنه يستخلف من يصلي بالناس
فِي أول الوقت؛ لئلا تفوتهم فضيلة أول الوقت.
وفيه - أيضاً -: أن إنكار المنكر فرض كفاية، وأنه إذا قام
اكتفى بذلك، ولا يلزم جميع النَّاس الاجتماع عَلِيهِ؛ فإنه
لَوْ كَانَ كذلك لأخذ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مَعَهُ جميع النَّاس.
(5/461)
30 - بَابُ
فَضْلِ صَلاةِ الجَمَاعَةِ
وكان الأسود إذا فاتته الجماعة ذهب إلى مسجد آخر.
وجاء أنس إلى مسجد قَدْ صلي فِيهِ، فأذن وأقام، وصلى
جماعة.
هاهنا مسألتان:
إحداهما:
أن من فاتته الجماعة فِي مسجد لَمْ يجد فِيهِ جماعةً، فإنه
يذهب إلى مسجد آخر لتحصيل الجماعة، كما فعله الأسود.
وَقَالَ حماد بْن زيد: كَانَ ليث بْن أبي سليم إذا فاتته
الصلاة فِي مسجد حيه اكترى حماراً، فطاف عَلِيهِ المساجد
حَتَّى يدرك جماعةً.
ونص الإمام أحمد عَلَى أن من فاتته الجماعة فِي مسجد حيه
أَنَّهُ يذهب إلى مسجد آخر ليدرك الجماعة. قَالَ: وإن
فاتته تكبيرة الإحرام مَعَ الإمام فِي مسجد حية صلى معهم،
ولم يذهب إلى مسجد آخر لإدراك تكبيرة الإحرام مَعَ إمامه.
وحكى عَن هشيم، أَنَّهُ كَانَ يذهب إلى مسجد آخر لإدراك
تكبيرة الإحرام مَعَ الإمام.
ومذهب مَالِك: أن من وجد مسجداً قَدْ جمع أهله، فإن طمع
بإدراك جماعة فِي مسجد غيره خرج إليها، وإن كانوا جماعةً
فلا بأس أن
(6/5)
يخرجوا فيجمعوا كراهة إعادة الجماعة عندهم
فِي المسجد، كما سيأتي.
واستثنوا من ذَلِكَ المسجد الحرام ومسجد النَّبِيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومسجد بيت المقدس،
فقالوا: يصلوا فيها أفذاذاً، هُوَ أعظم لأجورهم من الجماعة
خارج المسجد -: ذكره فِي ((تهذيب المدونة)) .
المسألة الثانية:
أن من دَخَلَ مسجداً قَدْ صلي فِيهِ جماعة، فإنه يصلى
فِيهِ جماعة مرة ثانية، صح ذَلِكَ عَن أنس بْن مَالِك، كما
علقه عَنْهُ البخاري، واحتج بِهِ الإمام أحمد.
وَهُوَ من رِوَايَة الجعد أَبِي عُثْمَان، أَنَّهُ رأى
أَنَس بْن مَالِك دَخَلَ مسجداً قَدْ صلي فِيهِ، فأذن
وأقام وصلى بأصحابه.
وقد رواه غير واحد من الثقات، عَن الجعد، وخرجه عَبْد
الرزاق والأثرام وابن أَبِي شيبة والبيهقي وغيرهم فِي
((تصانيفهم)) من طرق متعددة عَن الجعد.
وقد روي عَن أَنَس من وجه آخر؛ وأنه رَوَى فِي ذَلِكَ
حديثاً مرفوعاً.
خرجه ابن عدي من طريق عباد بْن منصور، قَالَ: رأيت أَنَس
بْن مَالِك دَخَلَ مسجداً بعد العصر، وقد صلى القوم، ومعه
نفر من أصحابه، فأمهم، فلما انفتل قيل لَهُ: أليس يكره
هَذَا؟ فَقَالَ: دَخَلَ رَجُل المسجد، وقد صلى رَسُول الله
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفجر، فقام قائماً
ينظر، فَقَالَ: ((مَالِك؟)) قَالَ: أريد أن أصلي، فَقَالَ:
((أما رَجُل يصلي مَعَ هَذَا؟)) فدخل رَجُل، فأمرهم
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلو
جميعاً.
(6/6)
وعباد بْن منصور، تكلموا فِيهِ.
وقد اختلف النَّاس فِي هَذَا المسألة فِي موضعين:
أحدهما: أن من دَخَلَ مسجداً قَدْ صلي فِيهِ فصلى وحده أو
جماعة: هَلْ يؤذن ويقيم، أم يكفيه أذان الجماعة الأولى
وإقامتهم؟ فِيهِ قولان مشهوران للعلماء، قَدْ سبق ذكرهما
فِي مواضع من الكتاب.
ومذهب أَبِي حنيفة وأصحابه وسفيان وإسحاق؛ أَنَّهُ يجزئهم
الأذن والإقامة الأولى، وَهُوَ نَصَّ أحمد، وقد جعله صاحب
((المغني)) المذهب، وَهُوَ كما قَالَ؛ لكن أحمد لا يكره
إعادة الأذان والإقامة.
وروي عَن طائفة من السلف كراهة إعادتهما، منهم: عَبْد
الرحمن بْن أَبِي ليلي وغيره، وحكي - أيضاً - عن أَبِي
يوسف ومحمد.
وعن الشَّعْبِيّ، قَالَ: إذا صلى فِي المسجد جماعة فإن
إقامتهم تجزىء عمن صلى صلاة إلى الصلاة الأخرى.
وَقَالَ الزُّهْرِيّ: يقيم، ولم يذكر الأذان.
وعن قتادة، قَالَ: إن لَمْ يسمع الإقامة أقام، ثُمَّ صلى.
والموضع الثاني: إعادة الجماعة فِي مسجد قَدْ صلى فِيهِ
إمامه الراتب.
واختلف العلماء فِي ذَلِكَ:
فمنهم: من كرهه، وَقَالَ يصلون فِيهِ وحداناً، روي ذَلِكَ
عَن سَالِم وأبي قلابة، وحكاه بعض العلماء عَن سَعِيد بْن
المُسَيِّب والحسن والنخعي والضحاك والقاسم بْن مُحَمَّد
والزهري وغيرهم، وَهُوَ قَوْلِ الليث والأوزاعي والثوري
وأبي حنيفة ومالك، وحكاه الترمذي فِي ((كتابه)) عَن ابن
المبارك والشافعي،
(6/7)
وقد رواه الربيع عَن الشَّافِعِيّ، وأنه
لَمْ يفعله السلف، بل قَدْ عابه بعضهم.
وكان هَذَا القول هُوَ المعمول بِهِ فِي زمن بني أمية؛
حذراً من أن يظن بمن صلى جماعة بعد جماعة المسجد الأولى
أَنَّهُ مخالف للسلطان مفتئت عَلِيهِ، لا يرى الصلاة
مَعَهُ، ولا مَعَ من أقامه فِي إمامه المساجد.
وقد استدل بعضهم لهذا بما رَوَى معاوية بْن يَحْيَى، عَن
خَالِد الحذاء، عَن عَبْد الرحمن بْن أَبِي بكرة، عَن
أَبِيه، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة، فوجد النَّاس قَدْ
صلوا، فمال إلى منزله، فجمع أهله، فصلى بهم.
خرجه الطبراني.
ومعاوية بْن يَحْيَى، لا يحتج بِهِ.
وذهب أكثر العلماء إلى جواز إعادة الجماعة فِي المساجد فِي
الجملة كما فعله أَنَس بْن مَالِك، منهم: عَطَاء وقتادة
ومكحول، وَهُوَ قَوْلِ إِسْحَاق وأبي يوسف ومحمد وداود.
واختلف فِيهِ عَن الْحَسَن والنخعي، فروي عنهما كالقولين.
والمشهور: أَنَّهُ يكره ذَلِكَ فِي مسجدي مكة والمدينة
خاصة، ويجوز فيما سواهما.
ومن تأخري أصحابه من ألحق بمسجدي مكة والمدينة المسجد
الأقصى فِي الكراهة.
وعن أحمد رِوَايَة أخرى: لا يكره بحال.
ومن أصحابنا من كرهه فِي المساجد العظام الَّتِيْ يتولى
السلطان عادة ترتيب أئمتها كالجوامع ونحوها؛ لئلا يتطرق
بذلك إلى الافتئات عَلِيهِ، ولم يكرهه فِي المساجد
الَّتِيْ يرتب
(6/8)
أئمتها جيرانها.
وحكي عَن الشَّافِعِيّ، أَنَّهُ يكره إعادة الجماعة فِي
مساجد الدروب ونحوها دون مساجد الأسواق الَّتِيْ يكثر فيها
تكرار الجماعات، لكثرة استطراق النَّاس إليها؛ دفعاً
للحاجة.
ومتى لَمْ يكن للمسجد إمام راتب لَمْ يكره إعادة الجماعة
فِيهِ عِنْدَ أحد من العلماء، مَا خلا الليث بْن سعد، فإنه
كره الإعادة فِيهِ - أيضاً.
واستدل من لَمْ يكره الإعادة بحديث أَبِي سَعِيد
الْخُدرِيَّ، قَالَ: جَاءَ رجلٌ وقد صلى رَسُول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: ((أيكم يتجر
عَلَى هَذَا؟)) فقام رَجُل، فصلى مَعَهُ.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي - وهذا لفظه،
وَقَالَ: هَذَا حَدِيْث حسن - وابن خزيمة وابن حبان فِي
((صحيحهما)) والحاكم، وَقَالَ: صحيح الإسناد.
وقد قواه الإمام أحمد وأخذ بِهِ، وَهُوَ مشكل عَلَى أصله؛
فإنه يكره إعادة الجماعة فِي مسجد المدينة.
وقد اعتذر الإمام أحمد عَنْهُ من وجهين:
أحدهما: أن رغبة الصَّحَابَة فِي الصلاة مَعَ النَّبِيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ متوفرة، وإنما
كَانَ يتخلف من لَهُ عذر، وأما بعده فليس كذلك، فكره تفريق
الجماعات فِي المسجدين الفاضلين توقيراً للجماعة فيهما.
والثاني: أن هَذَا يغتفر فِي الجماعة القليلة دون الكثيرة،
ولهذا لَمْ
(6/9)
يأمر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أكثر من واحد بالصلاة مَعَهُ.
وكذلك قَالَ أحمد فِي الجماعة تفوتهم الجمعة: إنهم إن
كانوا ثَلاَثَة صلوا جماعةً، فإن كثروا فتوقف فِي صلاتهم
جماعةً، وَقَالَ: لا أعرفه.
ومأخذه فِي ذَلِكَ: أن فِي إظهار صلاة الظهر يوم الجمعة
فِي المساجد افتئاتاً عَلَى الأئمة، ويتستر بِهِ أهل البدع
إلى ترك الجمعة، وصلاة الظهر فِي المساجد كسائر الأيام.
وقد كره طائفة من السلف لمن فاتته الجمعة أن يصلوا جماعة،
منهم: الْحَسَن وأبو قلابة، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة.
ورويت الرخصة فِيهِ عَن ابن مَسْعُود وإياس بْن معاوية،
وَهُوَ قَوْلِ الشَّافِعِيّ وأحمد وإسحاق.
وعن أحمد رِوَايَة: أَنَّهُ يكره صلاة الظهر جماعة إذ
كثروا، ولا يكره إذا قلوا. وقد ذكرناها آنفاً.
ومن أصحابنا من كره الجماعة فِي مكان الجمعة خاصة.
واختلف فِيهِ عَن الثوري ومالك.
وروي عَن حذيفة وزيد بْن ثابت، أن من فاتته الجمعة لا يصلي
الظهر فِي المسجد بالكلية حياء من النَّاس.
قَالَ حذيفة: لا خير فيمن لا حياء فِيهِ.
وَقَالَ زيد: من لا يستحي من النَّاس لا يستحي من الله.
(6/10)
وقد روي فِي حَدِيْث أَنَس الموقوف الَّذِي
علقه البخاري زيادة: أَنَّهُ أمر بعض أصحابه فأذن وصلى
ركعتين، ثُمَّ أمره فأقام ثُمَّ تقدم أَنَس فصلى بهم.
خرجه عَبْد الرزاق عَن جَعْفَر بْن سُلَيْمَان، عَن الجعد،
عَن أَنَس.
وخرجه الجوزجاني من رِوَايَة ابن علية، عَن الجعد، قَالَ:
كنا فِي مسجد بني رِفَاعَة، فجاء أَنَس بْن مَالِك ومعه
نفر، وقد صلينا صلاة الصبح، فَقَالَ: أصليتم؟ قَالَ:
نَعَمْ، فإذن رَجُل من القوم، ثُمَّ صلوا ركعتين، ثُمَّ
أقام، ثُمَّ تقدم أَنَس فصلى بهم.
وهذا يدل عَلَى أن من دَخَلَ مسجداً قَدْ صلي فِيهِ والوقت
باقٍ، فإنه يجوز لَهُ أن يتطوع قَبْلَ صلاة المكتوبة،
ويصلي السنن الرواتب قَبْلَ الفرائض، وَهُوَ قَوْلِ
الأكثرين، منهم: [.. .. ..] وأبو حنيفة ومالك والشافعي.
وقالت طائفة: يبدأ بالمكتوبة، منهم: ابن عُمَر -: رواه
مَالِك وأيوب وابن جُرَيْج، عَن نافعٍ، عَنْهُ.
وكذا روي عَن عَبْد الرحمن بْن أَبِي ليلى والشعبي والنخعي
وعطاء، وَهُوَ قَوْلِ الثوري والحسن بْن حي والليث بْن
سعد.
وعن الْحَسَن، قَالَ: ابدأ بالمكتوبة إلا ركعتي
(6/11)
الفجر.
وكذا قَوْلِ الثوري.
واختلفت الرواية عَن أحمد فِي ذَلِكَ:
فنقل عَنْهُ ابن منصور وصالح وحنبل: يبدأ بالمكتوبة،
واستدل فِي رِوَايَة ابن منصور وصالح بما روي عَن ابن
عُمَر.
ونقل عَنْهُ أبو الْقَاسِم البغوي، فِي الرَّجُلُ يخرج إلى
المسجد فيجدهم قَدْ صلوا، ووجد رجلاً يتطوع: أيتطوع حَتَّى
يجيء الرَّجُلُ؟ قَالَ: إن شاء تطوع.
ومن كره ذَلِكَ جعل الدخول إلى المسجد لإرادة الصلاة
المكتوبة كإقامة الصلاة، فلا يبدأ قبلها بشيء وإنما يشرع
التطوع لمن ينتظر الإمام؛ لأنه إذا لَمْ يخرج إلى النَّاس
لَمْ يمنعوا من التطوع.
ولو كَانَتْ الصلاة فِي غير مسجد فله أن يتطوع قَبْلَ
المكتوبة -: قاله عَطَاء وغيره.
وقياس هَذَا: أن الإمام إذا حضر المسجد، فإنه يكره لَهُ أن
يتطوع قَبْلَ المكتوبة - أيضاً.
وقد ذكرنا فيها تقدم فِي ((بَاب: متى يقوم النَّاس إذا
رأوا الإمام)) الحَدِيْث الَّذِي خرجه أبو داود، أن
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ
حِينَ تقام الصلاة فِي المسجد إذا رآهم قليلاً جلس ثُمَّ
صلى، وإذا رآهم جماعة صلى.
وخرجه البيهقي، ولفظه: كَانَ النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج بعد النداء إلى المسجد، فإذا
رأى أهل المسجد قليلاً جلس حَتَّى يرى منهم جماعة ثُمَّ
(6/12)
يصلي.
وقد تقدم فِي ((بَاب: القيام للصلاة)) الحَدِيْث المرسل،
أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ
وبلال فِي الإقامة فجلس.
خرج البخاري - رحمه الله - في هَذَا الباب ثَلاَثَة
أحاديث:
الحَدِيْث الأول:
(6/13)
645 - حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف: أنا
مَالِك، عَن نافعٍ، عَن عَبْد الله بْن عُمَر، أن رَسُول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((صلاةُ
الجماعة تفضل عَلَى صلاة الفذ بسبعٍ وعشرين
درجةً)) .
الحَدِيْث الثاني:
قَالَ:
(6/13)
646 - حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف:
حَدَّثَنِي الليث: حَدَّثَنِي ابن الهاد، عَن
عَبْد الله بْن خباب، عَن أَبِي سَعِيد الْخُدرِيَّ،
أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَقُول: ((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمسٍ
وعشرين درجةً)) .
الحَدِيْث الثالث:
(6/13)
647 - حَدَّثَنَا موسى بْن إسماعيل: نا
عَبْد الواحد، قَالَ: ثنا الأعمش، قَالَ: سَمِعْت أبا صالح
يَقُول: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُول: قَالَ رَسُول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلاة
الرَّجُلُ فِي الجماعة تضعيف عَلَى صلاته فِي بيته وفي
سوقه خمسة وعشرين ضعفاً، وذلك أَنَّهُ إذا توضأ فأحسن
الوضوء، ثُمَّ خرج إلى
(6/13)
المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لَمْ يخط خطوة
إلا رفعت لَهُ بِهَا درجة وحط عَنْهُ بِهَا خطيئة، فإذا
صلى لَمْ تزل الملائكة تصلي عَلِيهِ مَا دام فِي مصلاة:
اللهم صل عَلِيهِ، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم فِي صلاةٍ
مَا انتظر الصلاة)) .
فِي حَدِيْث ابن عُمَر: أن صلاة الجماعة تفضل عَلَى صلاة
الفذ بسبعٍ وعشرين درجةً، وفي حَدِيْث أَبِي سَعِيد: أنها
عَلَيْهَا بخمس وعشرين.
وقد جمع بعض النَّاس بينهما، فَقَالَ: أريد فِي حَدِيْث
ابن عُمَر ذكر صلاة الفذ وصلاة الجماعة، وما بَيْنَهُمَا
من الفضل، وَهُوَ خمس وعشرون، فصار ذَلِكَ سبعاً وعشرين،
وفي حَدِيْث أَبِي سَعِيد ذكر قدر الفضل بَيْنَهُمَا
فَقَطْ، وَهُوَ خمس وعشرون.
وهذا بعيد، فإن حَدِيْث ابن عُمَر ذكر فِيهِ قدر التفاضل
بَيْن الصلاتين - أيضاً -، كما ذكر فِي حَدِيْث أَبِي
سَعِيد.
وقد خرجه مُسْلِم من رِوَايَة عُبَيْدِ الله بْن عُمَر،
عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((صلاة الرَّجُلُ فِي
الجماعة تزيد عَلَى صلاته وحده سبعاً وعشرين درجة)) .
(6/14)
وأما حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ ففيه تضعّف
صلاة الجماعة عَلَى الصلاة فِي البيت والسوق خمسة وعشرين
ضعفاً، والمراد بِهِ - أيضاً -: قدر التفاضل بَيْنَهُمَا.
وسيأتي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ بلفظ آخر، خرجه البخاري
فِي الباب الَّذِي يأتي بعد هَذَا، وَهُوَ: ((تفضل صلاة
الجميع صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءاً)) .
والمراد بهذه الأجزاء والأضعاف والدرج معنى واحد - واللهُ
أعلم -، وَهُوَ: أن صلاة الفذ لها ثواب مقدر معلوم عِنْدَ
الله، تزيد صلاة الجماعة عَلَى ثواب صلاة الفذ خمسة وعشرين
أو سبعة وعشرين.
وقد جَاءَ التصريح بهذا فِي حَدِيْث خرجه مُسْلِم من
رِوَايَة سلمان الأغر، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلاة
الجماعة تعدل خمساً وعشرين من صلاة الفذ)) .
وخرج - أيضاً - من وجه آخر، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ:
((صلاة مَعَ الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده))
.
وفي ((المسند)) عَن ابن عُمَر - موفوعاً -: ((كلها مثل
صلاته)) .
وقد اختلف النَّاس فِي الجمع بَيْن حَدِيْث ابن عُمَر فِي
ذكر السبع وعشرين وبين حَدِيْث أَبِي سَعِيد وأبي
هُرَيْرَةَ فِي ذكر خمس وعشرين.
فَقَالَتْ طائفةٌ: ذكر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي كل وقت مَا أعلمه الله وأوحاه إليه
(6/15)
من الفضل، فبلغه كما أوحي إليه، وكان قَدْ
أوحى إِلَيْهِ أن صلاة الجماعة تفضل عَلَى صلاة الفذ بخمس
وعشرين، والعدد لا مفهوم لَهُ عِنْدَ كثير من العلماء،
ثُمَّ أوحى إِلَيْهِ زيادة عَلَى ذَلِكَ، كما أخبر: ((أن
من مات لَهُ ثَلاَثَة من الولد لَمْ تمسه النار)) . ثُمَّ
سئل عَن الاثنين، فَقَالَ: ((واثنان)) ثُمَّ سئل عَن
الواحد، فَقَالَ: ((والواحد)) ، وكما أخبر ((أن صيام
ثَلاَثَة أيام من كل شهر يعدل صيام الدهر)) ، ثُمَّ أخبر
عَبْد الله ابن عَمْرِو بْن العاص أَنَّهُ إن صام يوماً من
الشهر أو يومين مِنْهُ فله أجر مَا بقي مِنْهُ، ونطق
الكتاب بأن الحسنة بعشر أمثالها، ثُمَّ جاءت السنة بأن
الحسنة تضاعف إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ودل
القرآن عَلِيهِ - أيضاً.
وقالت طائفة: صلاة الجماعة يتفاوت ثوابها في نفسها، ثم
اختلفوا: فمنهم من قالَ: يتفاوت ثوابها بإكمال الصلاة فِي
نفسها، وإقامة حقوقها وخشوعها، ورجحه أبو موسى المديني.
ولكن صلاة الفذ يتفاوت ثوابها - أيضاً - على حسب ذَلِكَ.
ومنهم من قَالَ: يتفاوت ثوابها بذلك، وربما يقترن بصلاة
الجماعة من المشي إلى المسجد وبعده وكثرة الجماعة فِيهِ،
وكونه عتيقاً، وكون المشي عَلَى طهارةٍ، والتبكير إلى
المساجد، والمسابقة إلى الصف الأول عَن يمين الإمام أو
وراءه، وإدراك تكبيرة الإحرام مَعَ الإمام، والتأمين
مَعَهُ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وغير ذَلِكَ.
وهذا قَوْلِ أَبِي بَكْر الأثرم
(6/16)
وغيره، وَهُوَ الأظهر.
ويدل عَلِيهِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- ذكر فِي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ تعليل المضاعفة،
فَقَالَ:
((وذلك أَنَّهُ إذ توضأ فأحسن الوضوء، ثُمَّ خرج إلى
المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لَمْ يخط خطوةً إلا رفعت
لَهُ بِهَا درجة، وحط عَنْهُ بِهَا خطيئة، فإذا صلى لَمْ
تزَلَ الملائكة تصلي عَلِيهِ مَا دام فِي مصلاة: اللهم صل
عَلِيهِ، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم فِي صلاة مَا انتظر
الصلاة)) .
وعلى هَذَا؛ فَقَدْ تضاعف الصلاة فِي جماعة أكثر من
ذَلِكَ.
إما بحسب شرف الزمان، كشهر رمضان وعشر ذي الحجة ويوم
الجمعة.
وقد قَالَ ابن عُمَر: افضل الصلوات عِنْدَ الله صلاة الصبح
يوم الجمعة.
وروي عَنْهُ مرفوعاً، والموقوف هُوَ الصحيح -: قاله
الدارقطني.
وخرجه البزار بإسناد ضَعِيف، عَن أَبِي عبيدة بْن الجراح
مرفوعاً، وزاد فِيهِ:
((ولا أحسب من شهدها منكم إلا مغفوراً لَهُ)) .
أو شرف المكان، كالمسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد
الأقصى، كما صح عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: ((صلاة فِي مسجدي هَذَا خير من
ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام)) .
(6/17)
وخرج ابن ماجه من رِوَايَة أَبِي الخَطَّاب
الدمشقي، عَن رزيق الألهاني، عَن أَنَس، عَن النَّبِيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((صلاة
الرَّجُلُ فِي بيته بصلاة، وصلاته فِي مسجد القبائل بخمس
وعشرين صلاة، وصلاته فِي المسجد الَّذِي يجمع فِيهِ
بخمسمائة صلاة، وصلاته فِي المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة،
وصلاته فِي مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته فِي المسجد
الحرام بمائة ألف صلاة)) .
وقد سبق الكلام عَلَى إسناده فِي ((بَاب: الصلاة فِي مسجد
السوق)) . والله أعلم.
وقد روي عَن ابن عَبَّاس من طريقين فيهما ضعف، أن مضاعفة
الخمس وعشرين درجة لأقل الجماعة - وهي اثنان، وفي رِوَايَة
عَنْهُ: ثَلاَثَة -، وما زاد عَلَى ذَلِكَ إلى عشرة آلاف
كَانَ لكل واحد من الدرجات بعدد من صلى معهم.
وروي بإسناد فِيهِ نظر، عَن كعب، أَنَّهُ قَالَ لعمر بْن
الخَطَّاب: إنه إذا صلى اثنان كَانَتْ صلاتهما بخمس
وعشرين، وإذا كانوا ثلاثة فصلاتهم بخمسة وسبعين، وكانت
ثلاثمائة، فإذا كانوا خمسة خمسة الثلاثمئة، فكانت ألفاً
وخمسمائة، فإذا كانوا ستة سدست ألفاً وخمسمائة، فكانت تسعة
آلاف، فإذا كانوا مائة فلو اجتمع الكتاب والحساب مَا أحصوا
ماله من التضعيف.
(6/18)
ثُمَّ قَالَ لعمر: لَوْ لَمْ يكن مِمَّا
أنزل الله عَلَى مُحَمَّد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ
شَهْرٍ} [القدر: 3] ثَلاَثَة وثمانين سَنَة لكنت مصدقاً.
فَقَالَ عُمَر: صدقت.
خرجه أبو موسى المديني فِي ((كِتَاب الوظائف)) بإسناده.
وخرج فِيهِ أحاديث أخر مرفوعة وموقوفة فِي هَذَا المعنى.
وروى - أيضاً - بإسناد جيد، عَن كعب، قَالَ: أجد فِي
التوراة أن صلاة الجماعة تضاعف بعدد الرجال درجة، إن كانوا
مائة فمائة، وإن كانوا ألفاً فألف درجة.
وخرج الطبراني وغيره من رِوَايَة عَبْد الرحمن بْن زياد،
عَن قباث بْن أشيم، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى
عِنْدَ الله من صلاة أربعة تترى، وصلاة أربعة يؤمهم أحدهم
أزكى عِنْدَ الله من صلاة ثمانية تترى، وصلاة ثمانية يؤم
أحدهم أزكى عِنْدَ الله من صلاة مائة تترى)) .
وخرجه البزار - أيضاً - بمعناه.
وفي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي خرجه البخاري:
((صلاة الرَّجُلِ فِي الجماعة تضعيف)) ، وَهُوَ يدل عَلَى
أن صلاة المرأة لا تضعف فِي الجماعة؛ فإن صلاتها فِي بيتها
خير لها وأفضل.
(6/19)
وروى بقية، عَن أَبِي عَبْد السلام، عَن
نَافِع، عَن ابن عُمَر - مرفوعاً -:
((صلاة المرأة وحدها تفضل عَلَى صلاتها فِي الجمع خمساً
وعشرين درجة)) .
خرجه أبو نعيم فِي ((تاريخ أصبهان)) .
وَهُوَ غريب جداً، وروايات بقية عَن مشايخه المجهولين لا
يعبأ بِهَا.
وقد احتج كثير من الفقهاء بأن صلاة الجماعة غير واجبة بهذه
الأحاديث الَّتِيْ فيها ذكر تفضيل صلاة الجماعة عَلَى صلاة
الفذ، وقالوا: هِيَ تدل عَلَى أن صلاة الفذ صحيحة مثاب
عَلَيْهَا. قالوا: وليس المراد بذلك صلاة الفذ إذا كَانَ
لَهُ عذر فِي ترك الجماعة؛ لأن المعذور يكتب لَهُ ثواب
عمله كله، فعلم أن المراد بِهِ غير المعذور.
وهذا استدلال لا يصح، وإنما استطالوا بِهِ عَلَى داود
وأصحابه القائلين بأن صلاة الفذ لغير عذر باطلة، فأما من
قَالَ: إنها صحيحه، وأنه آثم بترك حضور الجماعة، فإنه لا
يبطل قوله بهذا، بل هُوَ قائل بالأحاديث كلها، جامع بينها،
غير راد لشيء مِنْهَا.
ثُمَّ قولهم: الحَدِيْث محمول عَلَى غير المعذور، قَدْ
يمنع.
وقولهم: إن المعذور يكتب لَهُ مَا كَانَ يعمل.
جوابه: أن كتابة مَا كَانَ يعمل لسبب آخر، وَهُوَ عمله
المتقدم الَّذِي قطعه عَنْهُ عذره، فأما صلاة الفذ فِي
نفسها فلا يزيد تضعيفها عَلَى ضعف واحد من صلاة الجماعة،
سواء كَانَ معذوراً أو غير معذور، ولهذا لَوْ كَانَ المصلي
فذاً لَهُ عذر، ولم يكن لَهُ عادة بالصلاة فِي حال عدم
العذر
(6/20)
جماعة، لَمْ يكتب لَهُ سوى صلاةٍ واحدةٍ.
فإن قيل: يلزم من القول بوجوب الجماعة أن تكون شرطاً
للصلاة، وأنْ لا تصح بدونها، كما قلتم فِي واجبات الصلاة
كالتسبيح فِي الركوع والسجود، وأنه تبطل بتركه عمداً؛
لكونه واجباً، ولأن القاعدة: أن ارتكاب النهي فِي العبادة
إذا كَانَ لمعنى مختص بِهَا أَنَّهُ يبطلها، مثل الإخلال
بالطهارة والاستقبال، فكذلك الجماعة.
قيل: قَدْ اعترف طائفة من أصحابنا بأن القياس يقتضي كون
الجماعة شرطاً، لما ذكر، لكن الإمام أحمد أخذ بالنصوص
كلها، وهي دالة عَلَى وجوب الجمع، وعلى أنها ليست شرطاً،
فعلم بذلك أَنَّهُ لا يرى أن كل ارتكاب نهي فِي العبادة
يكون مبطلاً لها، وسواء كَانَ لمعنى مختص بِهَا كالجماعة،
أو لمعنى غير مختص.
ولهذا؛ تبطل الصلاة بكشف العورة، وَهُوَ لمعنى غير مختص
بالصلاة، وفي بطلانها فِي المكان المغضوب والثوب المغضوب
والحرير عَنْهُ روايتان، وقد يجب فِي العبادات مَا لا تبطل
بتركه، كواجبات الحج.
وما دلت عَلِيهِ الأحاديث من القول بوجوب الجماعة فِي
الصلوات المكتوبات، وأنها تصحّ بدونها دليل واضح عَلَى
بطلان قَوْلِ عَن قَالَ: إن النهي يقتضي الفساد بكل حال،
أو أن ذَلِكَ يختص بالعبادات، أو أَنَّهُ يختص بما إذا
كَانَ النهي لمعنى يختص
بالعبادة؛ فإن هَذَا كله غير مطرد. والله سبحانه وتعالى
أعلم.
(6/21)
31 - بَابُ
فَضْلِ صَلاةِ الفَجْرِ فِي جَمَاعَةِ
فِيهِ ثَلاَثَة أحاديث:
الأول:
(6/22)
648 - حَدَّثَنَا أبو ايمان: أنا شعيب، عَن
الزُّهْرِيّ، قَالَ: أخبرني سَعِيد بْن المُسَيِّب وأبو
سَلَمَة بْن عَبْد الرحمان، أن أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ:
سَمِعْت رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَقُول:
((تفضل صلاة الجميع صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءاً،
وتجمتع ملائكة النهار فِي صلاة الفجر)) . ثُمَّ يَقُول أبو
هُرَيْرَةَ: فاقرءوا إن شئتم: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ
كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78] .
(6/22)
649 - قَالَ شعيب: وحدثني نَافِع عَن عَبْد
الله بْن عُمَر، قَالَ: تفضلها بسبعٍ وعشرين درجةً.
قَدْ سبق فِي الباب الماضي أول حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ
هَذَا، بلفظ آخر، وبقية الحَدِيْث قَدْ ذكرناه فيما تقدم
فِي ((بَاب: فضل صلاة العصر)) ، وذكرنا قول من قَالَ: إن
هَذَا الفضل - وَهُوَ اجتماع الملائكة فِي صلاة الفجر، وفي
الحَدِيْث الآخر: وفي صلاة العصر - يختص
(6/22)
بالجماعات، كما أشار إِلَيْهِ البخاري
هاهنا، وَهُوَ الَّذِي رجحه ابن عَبْد البر وغيره.
ويشهد لَهُ: مَا رواه أبو نعيم فِي ((كِتَاب الصلاة))
لَهُ: حَدَّثَنَا هِشَام بْن سعد: ثنا صالح بْن جبير
الأزدي، عَن رَجُل من أهل الشام، قَالَ: صليت وراء معاذ
ابن جبل الصبح، فلما انصرف قَالَ: إن هذه الصلاة مقبولة
مشهودةٌ، يحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار، ويطلع الله
فيها عَلَى عباده فيغفر لهم، فارغبوا فيها، واشهدوها،
واحضروها.
وحديث ابن عُمَر تقدم فِي الباب الماضي، عَنْهُ مرفوعاً،
مَعَ الكلام عَلِيهِ.
الحَدِيْث الثاني:
قَالَ:
(6/23)
650 - حَدَّثَنَا عُمَر بْن حفص: ثنا
أَبِي، قَالَ: ثنا الأعمش، قَالَ: سَمِعْت سالماً، قَالَ:
سَمِعْت أم الدرداء تَقُول: دَخَلَ عَلِيّ أبو الدرداء
وَهُوَ مغضب، فَقُلْت: مَا أغضبك؟ فَقَالَ: والله مَا أعرف
من أمر مُحَمَّد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
شيئاً، إلا أنهم يصلون جميعاً.
وليس فِي هَذَا الحَدِيْث ذكر للجماعة فِي صلاة الفجر
بخصوصها، وإنما فِيهِ أن الصلاة فِي الجماعة من أمر
مُحَمَّد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودينه
وسرعه، فهو كقول ابن مسعودٍ: إن الله شرع لنبيه سنن الهدى،
وإنهن من سنن الهدى. وقد تقدم ذكره.
وفي رِوَايَة للأمام أحمد فِي هَذَا الحَدِيْث: ((إلا
الصلاة)) .
(6/23)
وهذا بخلاف قَوْلِ أَنَس: مَا أعرف شيئاً
مِمَّا كَانَ عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قيل الصلاة؟ قَالَ: أليس قَدْ صنعتم ما صنعتم فيها؟
وقد خرجه البخاري فِي موضع آخر.
وخرجه - أيضاً - بلفظ آخر، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ - وَهُوَ
يبكي -: لا أعرف شيئاً مِمَّا أدركت إلا هذه الصلاة وهذه
الصلاة قَدْ ضيعت.
وأشار أَنَس إلى مَا أحدثه بنو أمية من تضييع مواقيت
الصلاة، وكان أبو الدرداء قَدْ توفى قَبْلَ ذَلِكَ فِي زمن
معاوية.
يبين هَذَا: مَا خرجه الإمام أحمد من رِوَايَة ثابت، عَن
أَنَس، قَالَ: مَا أعرف فيكم اليوم شيئاً كُنْتُ أعهده
عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، ليس قولكم: لا إله إلا الله. قُلتُ: يَا أَبَا حَمْزَة
الصلاة؟ قَالَ: قَدْ صليتم حِينَ تغرب الشمس، أفكانت تلك
صلاة رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
وفي رِوَايَة للأمام أحمد من حَدِيْث عُثْمَان بْن سعد،
عَن أَنَس، قَالَ: أو ليس قَدْ علمت مَا قَدْ صنع الحجاج
فِي الصلاة؟!
وكان هَذَا الإنكار عَلَى الأمراء، كما رَوَى أبو
إِسْحَاق، عَن معاوية بْن قرة، قَالَ: دخلت أنا ونفر معي
عَلَى أنس بْن مَالِك، فَقَالَ: مَا أمراؤكم هؤلاء عَلَى
شيء مِمَّا كَانَ عَلِيهِ مُحَمَّد وأصحابه، إلا أنهم
يزعمون أنهم يصلون ويصومون رمضان.
(6/24)
الحَدِيْث الثالث:
(6/25)
651 - ثنا مُحَمَّد بْن العلاء: ثنا أبو
أسامة، عَن بريد بْن عَبْد الله، عَن أَبِي بردة، عَن
أَبِي موسى، قَالَ: قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أعظم النَّاس أجراً فِي الصلاة
أبعدهم فأبعدهم ممشى، والذي ينتظر الصلاة حَتَّى يصليها
مَعَ الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي ثُمَّ ينام)) .
وهذا الحَدِيْث - أيضاً - إنما يدل عَلَى فضل المشي إلى
المسجد من المكان البعيد، وأن الأجر يكثر ويعظم بحسب بعد
المكان عَن المسجد، وعلى فضل السبق إلى المسجد فِي أول
الوقت، وانتظار الصلاة فِيهِ مَعَ الإمام.
وقد ذكرنا فيما سبق: أن هَذَا كله مِمَّا تضاعف بِهِ
الصلاة فِي الجماعة، وتزداد بِهِ عَلَى صلاة الفذ فضلاً
وأجراً عِنْدَ الله - عز وجل -، وليس يختص ذَلِكَ بصلاة
الفجر دون غيرها من الصلوات.
(6/25)
32 - بَابُ
فَضْلِ التَّهْجِيرِ إلى الظُّهْرِ
(6/26)
652 - حَدَّثَنِي قتيبة، عَن مالك، عَن سمي
مَوْلَى أَبِي بَكْر، عَن أَبِي صالح السمان، عَن أَبِي
هُرَيْرَةَ، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: ((بينما رَجُل يمشي بطريق وجد غصن شوكٍ
عَلَى الطريق فأخره، فشكر الله لَهُ، فغفر لَهُ)) .
(6/26)
653 - ثُمَّ قَالَ: ((الشهداء خمس:
المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم والشهيد فِي سبيل
الله)) . وقَالَ: ((لَوْ يعلم النَّاس مَا فِي النداء
والصف الأول، ثُمَّ لَمْ يجدوا إلأا أن يستهموا عَلِيهِ
لاستهموا عَلِيهِ)) .
(6/26)
654 - ((ولو يعلمون مَا فِي التهجير
لاستبقوا إليه، ولو يعلمون مَا فِي العتمة والصبح لأتوهما
ولو حبواً)) .
إنما ساق الحَدِيْث بتمامه؛ لأنه أولى من اختصاره وتقطيعه،
وإن كَانَ ذَلِكَ جائزاً كما سبق ذكره، واقتدى بمالك -
رحمه الله -؛ فإنه ساقه بتمامه فِي ((كِتَاب الصلاة)) من
((الموطأ)) هكذا.
والكلام عَلَى إزاله الشوك من الطريق، وعلى عدد الشهداء
يأتي فِي
(6/26)
موضعهما - إن شاء الله تعالى.
وأما مَا يتعلق بالصلاة من الحَدِيْث، فثلاثة أشياء:
أحدها: ذكر الاستهام عَلَى النداء والصف الأول، وقد سبق
الكلام عَلَى ذَلِكَ فِي ((الأذان)) .
الثاني: الاستباق إلى التهجير.
والتهجير: التكبير إلى المساجد لصلاة الظهر، والهجير
والهاجرة: نصف النهار.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حَدِيْث زيد بْن ثابت،
قَالَ: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- يصلى الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلى صلاة أشد عَلَى
أصْحَاب النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مِنْهَا. قَالَ: فَنَزَلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ
وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} البقرة: 238] .
وخرجه الإمام أحمد - أيضاً - والنسائي من حَدِيْث أسامة
بْن زيد، قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الظهر بالهجير، ولا يكون وراءه
إلا الصف والصفان، والناس فِي قائلتهم وفي تجارتهم، فأنزل
الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطَى} .
وفيه: دليل عَلَى تعجيل الظهر.
والثالث: المبادرة إلى شهود العتمة والصبح، وسيأتي القول
فِيهِ فيما بعد - إن شاء الله تعالى.
وفيه: دليل عَلَى جواز تسمية العشاء العتمة، وقد تقدم
ذكره.
(6/27)
33 - بَابُ
احْتِسَابِ الآثَارِ
(6/28)
655 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الله
بْن حوشب: ثنا عَبْد الوهاب، قَالَ: حَدَّثَنِي حميد، عَن
أَنَس، قَالَ: قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((يَا بني سَلَمَة، ألا تحتسبون آثاركم؟)) .
(6/28)
656 - وَقَالَ ابن أَبِي مريم: أنا يَحْيَى
بْن أيوب: حَدَّثَنِي حميد: حَدَّثَنِي أَنَس، أن نبي
سَلَمَة أرادوا أن يتحولوا عَن منازلهم فينزلوا قريباً من
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ:
فكره النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن
يعروا منازلهم، فَقَالَ: ((ألا تحتسبون آثاركم؟)) .
قَالَ مُجَاهِد: خطاهم: آثار المشي فِي الأرض بأرجلهم.
ساقه أولا من حَدِيْث عَبْد الوهاب الثَّقَفِيّ، عَن حميد
مختصراً ثُمَّ ذكر من رِوَايَة يَحْيَى بْن أيوب المصري -
وَهُوَ ثقة، لكنه كثير الوهم - مطولاً، وزاد فِيهِ تصريح
حميد بالسماع لَهُ من أَنَس، فإن حميداً قَدْ قيل: إنه
لَمْ يسمع من أَنَس إلا قليلاً، وأكثر رواياته عَنْهُ
مرسلة، وقد سبق ذكر ذَلِكَ، وما قاله الإسماعيلي فِي تسامح
المصريين والشامين فِي لفظه ((حَدَّثَنَا)) وأنهم لا
يضبطون ذَلِكَ.
وقد خرجه فِي ((كِتَاب الحج)) من طريق الفزاري، عَن حميد،
عَن أَنَس،
(6/28)
قَالَ: أراد بنو سَلَمَة أن يتحولوا إلى
قرب المسجد، فكره رَسُول الله - رضي الله عنه - أن تعرى
المدينة، فَقَالَ: ((يَا بني، ألا تحتسبون آثاركم؟)) .
وبنو سَلَمَة: قوم من الأنصار، كَانَتْ دورهم بعيدة من
المسجد، فأرادوا أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فأمرهم
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بملازمة
دورهم، وأخبرهم أن خطاهم يكتب لهم أجرها فِي المشي إلى
المسجد.
وخرج مُسْلِم فِي ((صحيحه)) من حَدِيْث أَبِي الزُّبَيْر،
عَن جابر، قَالَ: كَانَتْ دارنا نائيةً من المسجد، فأردنا
أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد، فنهانا رَسُول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: ((إن لكم بكل
خطوةٍ درجة)) .
ومن حَدِيْث أَبِي نضرة، عَن جابر، قَالَ: أراد بنو
سَلَمَة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، والبقاع خالية. قَالَ:
فبلغ ذَلِكَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: ((يَا بني سَلَمَة، دياركم تكتب
آثاركم)) . فقالوا: مَا يسرنا أنا كنا تحولنا.
وقوله: ((دياركم)) بفتح الراء عَلَى الإغراء، أي: الزموا
دياركم.
وخرجه الترمذي من حَدِيْث أَبِي سُفْيَان السعدي، عَن
أَبِي نضرة، عَن أَبِي سَعِيد، قَالَ: كَانَتْ بنو سَلَمَة
فِي ناحية المدينة، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد،
فَنَزَلت هذه الآية: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى
وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] ، فقام
رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن
آثاركم تكتب)) ، فَلَمْ ينتقلوا.
وأبو سُفْيَان، فِيهِ ضعف.
والصحيح: رِوَايَة مسلمٍ، عَن أَبِي نضرة، عَن جابر، وكذا
قاله
(6/29)
الدارقطني وغيره.
وخرج ابن ماجه من رِوَايَة سماك، عَن عَكْرِمَة، عَن ابن
عَبَّاس، قَالَ: كَانَتْ الأنصار بعيدةً منازلهم من
المسجد، فأرادوا أن يقربوا، فَنَزَلت: {نَكْتُبُ مَا
قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} . قَالَ: فثبتوا.
وقد ذكر البخاري عَن مُجَاهِد، أَنَّهُ فسر الآثار - يعني:
فِي هذه الآية - بالخُطا، وزاد - أيضاً - بقوله: آثار
المشي فِي الأرض بأرجلهم.
وفي حَدِيْث أَنَس: فكره رَسُول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعروا المدينة أو منازلهم.
يعني: يخلوها فتصير عراةً من الأرض.
والعراء: الفضاء الخالي من الأرض، ومنه: قوله تعالى:
{فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ}
[الصافات: 145] .
وروى يَحْيَى بْن سَعِيد الأنصاري هَذَا الحَدِيْث، عَن
حميد، عَن أَنَس، وَقَالَ: فكره أن يعروا المسجد.
قَالَ الإمام أحمد وهم فِيهِ. إنما هُوَ: كره أن يعروا
المدينة.
وقد دلت هذه الأحاديث عَلَى أن المشي إلى المساجد يكتب
لصاحبه أجرهُ، وهذا مِمَّا تواترت السنن بِهِ.
وقد سبق حَدِيْث أَبِي موسى:
(6/30)
((أعظم النَّاس أجراً فِي الصلاة أبعدهم
فأبعدهم ممشى)) .
وفي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،: ((وكل خطوة يمشيها إلى
الصلاة صدقة)) .
وقد خرجه البخاري فِي موضع آخر.
وسبق - أيضاً - حَدِيْث أَبِي صالح، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ.
وفي ((المسند)) و ((سنن أَبِي داود)) وابن ماجه، عَن عَبْد
الرحمن بْن سعد، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((الأبعد
فالأبعد من المسجد أعظم أجراً)) .
وفي ((صحيح مُسْلِم)) عَن أَبِي بْن كعب، قَالَ: كَانَ
رَجُل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد مِنْهُ، وكان لا تخطئه
صلاة. قَالَ: فَقِيلَ لَهُ - أو قُلتُ لَهُ -: لَوْ اشتريت
حماراً تركبه فِي الظلماء أو الرمضاء؟ قَالَ: مَا يسرني أن
منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لِي ممشاي إلى
المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي. فَقَالَ رَسُول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((قَدْ جمع الله لَكَ
ذَلِكَ كله)) .
وفي رِوَايَة لَهُ - أيضاً -: فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن لَكَ مَا
احتسبت)) .
وهذا يدل عَلَى أَنَّهُ ثياب عَلَى المشي فِي رجوعه من
المسجد إلى منزله.
وفي ((المسند)) و ((صحيح ابن حبان)) عَن عَبْد الله بْن
عَمْرِو، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، قَالَ: ((من راح إلى المسجد جماعة فخطوتاه: خطوة تمحو
سيئة،
(6/31)
وخطوة تكتب حسنة، ذاهباً وراجعاً)) .
وهذا المطلق قَدْ ورد مقيداً فِي حَدِيْث أَبِي صالح، عَن
أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي خرجه البخري فيما مضى.
وسيأتي بقيدين:
أحدهما: أن يخرج من بيته عَلَى طهرٍ قَدْ أحسنه وأكمله.
والثاني: أن لا يخرج إلا إلى الصلاة فِي المسجد، فلو خرج
لحاجة لَهُ وكان المسجد فِي طريقه فدخل المسجد فصلى ولم
يكن خروجه لذلك لَمْ يحصل لَهُ هَذَا الأجر الخاص.
وكذلك لَوْ خرج من بيته غير متطهر، لكنه يكتب لَهُ بذلك
أجر، غير أن هَذَا الأجر الخاص - وهو رفع الدرجات وتكفير
السيئات - لا يحصل بذلك.
وأعلم أن الدار القريبة من المسجد أفضل من الدار البعيدة،
لكن المشي من الدار البعيدة أفضل.
وفي ((المسند)) بإسناد منقطع، عَن حذيفة، عَن النَّبِيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((فضل الدار
القريبة من المسجد عَلَى الدار الشاسعة كفضل الغازي على
القاعد)) .
(6/32)
34 - بَابُ
فَضْلِ صلاةِ العشاءِ فِي الجَماعةِ
(6/33)
657 - حَدَّثَنَا عُمَر بْن حفص، قَالَ:
ثنا أَبِي، ثنا الأعمش: حَدَّثَنِي أبو
صالح، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ليس صلاة أثقل عَلَى
المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون مَا فيهما لأتوهما
ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم، ثُمَّ آمر
رجلاً يؤم النَّاس، ثُمَّ آخذ شعلاً من نارٍ فأحرق عَلَى
من لا يخرج إلى الصلاة وَهُوَ يقدر)) .
قَدْ صرح الأعمش بسماع هَذَا الحَدِيْث من أَبِي صالح، وفي
الغالب إنما يخرج البخاري من حَدِيْث الأعمش عَن أَبِي
صالح ما صرح فِيهِ بالسماع، كهذا الحَدِيْث، والحديث
الَّذِي خرجه قبله فِي فضل الجماعة.
والمراد بثقل هاتين الصلاتين عَلَى المنافقين: ثقل شهودهما
فِي المساجد، وباقي الحَدِيْث يدل عَلَى ذَلِكَ.
ويدل عَلِيهِ - أيضا -: حَدِيْث أَبِي بْن كعب، قَالَ: صلى
بنا رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يوماً الصبح، فَقَالَ: ((أشاهد فلان؟)) قالوا: لا. قَالَ:
((أشاهد فلان؟)) قالوا: لا. قَالَ: ((إن هاتين الصلاتين
أثقل الصلوات عَلَى المنافقين، ولو تعلمون مَا فيهما
لأتيتهموهما ولو حبواً عَلَى الركب)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان
(6/33)
فِي
((صحيحهما)) والحاكم.
وروى أبو داود الطيالسي: ثنا مُحَمَّد بْن أَبِي حميد، عَن
أَبِي عَبْد الله القراظ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ:
((لا يحافظ المنافق أربعين ليلةً عَلَى صلاة العشاء الآخرة
فِي جماعة)) .
مُحَمَّد بْن أَبِي حميد، فِيهِ ضَعِيف.
وفي ((المسند)) عَن أَبِي بشر، عَن أَبِي عمير بْن أنس،
عَن عمومة لَهُ من أصْحَاب النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((لا يشهدهما منافق)) -
يعني: صلاة الصبح والعشاء.
قَالَ أبو بشر: يعني لا يواظب عَلَيْهِمَا.
وروى مَالِك من ((الموطإ)) عَن عَبْد الرحمان بْن حرملة،
عَن سَعِيد بْن
المُسَيِّب، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: ((بيننا وبين المنافقين شهود صلاة
العشاء والصبح، لا يستطيعونهما)) - أو نحو هَذَا.
وخرج ابن خزيمة والحاكم بإسناد صحيح، عَن ابن عُمَر،
قَالَ: كنا إذا فقدنا الإنسان فِي صلاة العشاء الآخرة
والصبح أسأنا بِهِ الظن.
وإنما ثقلت هاتان الصلاتان فِي المساجد عَلَى المنافقين
أكثر من غيرهما من الصلوات لأن المنافين كما وصفهم الله
فِي القرآن {إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا
كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
إِلاَّ قَلِيلاً} [النِّسَاء: 142]
(6/34)
والمرائي إنما ينشط للعمل إذا رآه النَّاس،
فإذا لَمْ يشاهدوه ثقل عَلِيهِ العمل.
وقد كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يصلي هاتين الصلاتين فِي الظلام، فإنه كَانَ يغلس بالفجر
غالباً ويؤخر العشاء الآخرة، ولم يكن فِي مسجده حينئذ
مصباح، فَلَمْ يكن يحضر مَعَهُ هاتين الصلاتين إلا مؤمن
يحتسب الأجر فِي شهودهما، فكان المنافقون يتخلفون عنهما
ويظنون أن ذَلِكَ يخفى عَلَى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأيضاً؛ فالمشي إلى المساجد فِي هذين الوقتين أشق؛ لما
فِيهِ من المشي فِي الظلم؛ ولهذا ورد التبشير عَلَى
ذَلِكَ، بالنور التام يوم القيامة من وجوه متعددة.
من أجودها: مَا خرجه أبو داود والترمذي من حَدِيْث بريدة،
عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
قَالَ: ((بشر المشائين فِي الظلم إلى المساجد بالنور التام
يوم القيامة)) .
وَقَالَ إبراهيم النخعي: كانوا يرون أن المشي إلى الصلاة
فِي الليلة الظلماء موجبة - يعني: توجب لصاحبها الجنة.
وفي ((صحيح مُسْلِم)) عَن عُثْمَان، عَن النَّبِيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((من صلى
العشاء فِي جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح فِي
جماعة فكأنما صلى الليل كله)) .
وخرجه أبو داود والترمذي، وعندهما: ((ومن صلى العشاء
والفجر
(6/35)
فِي جماعة، كَانَ لَهُ كقيام ليلة)) .
وهذا يبين أن الرواية الَّتِيْ قبلها إنما أريد بِهَا صلاة
الصبح مَعَ العشاء فِي الجماعة.
قَالَ الإمام أحمد فِي رِوَايَة المروذي: الأخبار فِي
الفجر والعشاء - يعني فِي الجماعة - أوكد وأشد.
وروى وكيع فِي ((كتابه)) بإسناده، عَن عُمَر، قَالَ: لأن
أشهد الفجر والعشاء فِي جماعة أحب إلي من أن أحيي مَا
بَيْنَهُمَا.
وعن أَبِي الدرداء، قَالَ: اسمعوا وبلغوا من خلفكم، حافظوا
عَلَى العشاء والفجر، ولو تعلون مَا فيهما لأتيتموهما ولو
حبواً.
وخرجه أبو نعيم الفضل بْن دكين - أيضاً.
وخرج بإسناده، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَوْ يعلم
القاعدون مَا للمشائين إلى هاتين الصلاتين: صلاة العشاء
الفجر لأتوهما ولو حبواً.
وروى مَالِك فِي ((الموطإ)) بإسناده، عَن عُمَر، قَالَ:
لأن أشهد صلاة الصبح - يعني: فِي جماعة - أحب إلي من أن
أقوم ليلة.
وروى الحافظ أبو موسى بإسناده عَن عقبة بْن عَبْد الغافر،
قَالَ: صلاة العشاء فِي جماعة تعدل حجة، وصلاة الفجر فِي
جماعة تعدل عمرة.
ويروى بإسناده منقطع، عَن شداد بْن أوس، قَالَ: من أحب أن
يجعله الله من الذين يدفع الله بهم العذاب عَن أهل الأرض
فليحافظ عَلَى هاتين الصلاتين فِي جماعة: العشاء الآخرة
والصبح.
(6/36)
35 - بَابُ
اثْنَانِ فَما فوقهما جماعة
(6/37)
658 - حدثنا مسدد: ثنا يزيد بْن زريع: ثنا
خَالِد، عَن أَبِي قلابة، عَن مَالِك ابن الحويرث، عَن
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ:
((إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما)) .
وقد تقدم هَذَا الحَدِيْث فِي ((أبواب الأذان)) ، خرجه
البخاري هناك من حَدِيْث الثوري، عَن خَالِد الحذاء، ولفظ
حديثه: أتى رجلان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يريدان السفر، فَقَالَ النَّبِيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا أنتما خرجتما فأذنا
وأقيما، وليؤمكما أكبركما)) .
وخرجه هناك - أيضاً - من حَدِيْث أيوب، عَن أَبِي قلابة،
عَن مَالِك بْن الحويرث، قَالَ: أتيت النَّبِيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نفر من قومي، فأقمنا عنده
- فذكر الحَدِيْث -، وفي أخره: ((فإذا حضرت الصلاة فليؤذن
أحدكم، وليؤمكم أكبركم)) .
فرواية أيوب تدل عَلَى أنهم كانوا جماعة، فلا يحتج بِهَا
عَلَى أن الاثنين جماعة، وإنما يحتج لذلك برواية خَالِد
الحذاء؛ فإنه ذكر فِي روايته أنهما كانا اثنين، وأن
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهما أن
يؤمهما أكبرهما، فدل عَلَى أن الجماعة تنعقد باثنين.
(6/37)
وفي هَذَا المعنى أحاديث أخر:
مِنْهَا: حَدِيْث أَبِي بْن كعب، عَن النَّبِيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((صلاة الرَّجُلُ مَعَ
الرَّجُلُ أزكى من صلاته وحده، وصلاته مَعَ الرجلين أزكى
من صلاته مَعَ الرَّجُلُ، وما كثر فهو أحب إلى الله)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان
فِي ((صحيحهما)) والحاكم.
ومنها: حَدِيْث أَبِي سَعِيد، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبصر رجلاً يصلي وحده، فَقَالَ:
((ألا رَجُل يتصدق عَلَى هَذَا فيصلي مَعَهُ؟)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود، وهذا لفظه، وخرجه الترمذي
بمعناه وحسنه، وقد سبق ذكره.
وخرج أبو داود فِي كِتَاب ((المراسيل)) معناه من حَدِيْث
مكحول والقاسم ابن عَبْد الرحمن - مرسلاً -، وفي حديثهما
زيادة: فَقَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((وهذه من صلاة الجماعة)) .
وخرجه الإمام أحمد من رِوَايَة الْقَاسِم، عَن أَبِي
أمامة، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، ولفظه: ((هذان جماعة)) .
وفي إسناده ضعف، والمرسل أشبه.
وخرج ابن ماجه بإسناد ضَعِيف، عَن أَبِي موسى، عَن
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
(6/38)
قَالَ:
((الاثنان فما فوقهما جماعة)) .
وخرج البيهقي معناه من حَدِيْث أنس بإسناد ضَعِيف - أيضاً.
ولا نعلم خلافاً أن الجماعة تنعقد باثنين إذا كانا من أهل
التكليف، ولو كَانَ المأموم امرأةً.
فإن كَانَ المأموم صبياً، فهل تنعقد بِهِ الجماعة؟
فِيهِ روايتان عَن أحمد فِي الصلاة المكتوبة، فأما النافلة
فتنعقد كما صلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالليل بابن عَبَّاس وحده.
وأكثر العلماء عَلَى أنه لا فرق بَيْن الفرض والنفل فِي
ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة والشافعي.
(6/39)
36 - بَابُ
من جلس فِي المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد
قَدْ تقدم فِي فضل انتظار الصلاة فِي المسجد من حَدِيْث
أَبِي صالح، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، ومن حَدِيْث أَبِي
بردة، عَن أَبِي موسى.
وخرج فِي هَذَا الباب ثَلاَثَة أحاديث:
الحَدِيْث الأول:
(6/40)
659 - حدثنا عَبْد الله بْن مسلمة، عَن
مَالِك، عَن أَبِي الزناد، عَن الأعرج، عَن أَبِي
هُرَيْرَةَ، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: ((الملائكة تصلي عَلَى أحدكم مَا دام
فِي مصلاه، مَا لَمْ يحدث: اللهم اغفر لَهُ، اللهم ارحمه،
ولا يزال أحدكم فِي صلاة مادامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن
ينقلب إلى أهله إلا الصلاة)) .
دل هَذَا الحَدِيْث عَلَى فضل أمرين:
أحدهما: الجلوس فِي المصلى، وَهُوَ موضع الصلاة الَّتِيْ
صلاها: والمراد بِهِ فِي المجلس دون البيت، وآخر الحَدِيْث
يدل عَلِيهِ.
قَالَ ابن عَبْد البر: ولو صلت المرأة فِي مسجد بيتها
وجلست فِيهِ
(6/40)
تنتظر الصلاة فَهِيَّ داخلة فِي هَذَا
المعنى إذا كَانَ يحبسها عَن قيامها لأشغالها انتظار
الصلاة.
((وإن الملائكة تصلي عَلِيهِ مَا لَمْ يحدث)) وقد فسر صلاة
الملائكة عَلِيهِ بالدعاء لَهُ بالمغفرة والرحمة، والصلاة
قَدْ فسرت بالدعاء، وفسرت بالثناء والتنويه بالذكر، ودعاء
الملائكة بينهم لعبد هُوَ تنويه منهم بذكره وثناء عَلِيهِ
بحسن عمله.
وقد قيل: صلاتهم عَلِيهِ مقبولة مَا لَمْ يحدث.
وقد اختلف فِي تفسير الحدث: هَلْ هُوَ الحدث الناقض
للوضوء، أو الحدث باللسان من الكلام الفاحش ونحوه، ومثله
الحدث بالأفعال الَّتِيْ لا تجوز؟ وقد أشرنا إلى هَذَا
الاختلاف فِي ((كِتَاب الطهارة)) .
وذهب مَالِك وغيره إلى أَنَّهُ الحدث الناقض للوضوء، ورجحه
ابن عَبْد البر؛ لأن المحدث وإن جلس فِي المسجد فهو غير
منتظر للصلاة؛ لأنه غير قادر عَلَيْهَا.
والثاني: أن منتظر الصلاة لا يزال فِي صلاة مَا دامت
الصلاة تحبسه.
وقد فسر ذَلِكَ بأنه ((لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا
الصلاة)) ، وهذا يشمل من دَخَلَ المسجد للصلاة فِيهِ جماعة
قَبْلَ إقامة الصلاة فجلس ينتظر الصلاة، ومن صلى مَعَ
الإمام ثُمَّ جلس ينتظر الصلاة الثانية.
وهذا من نوع الرباط فِي سبيل الله، كما قَالَ النَّبِيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ألا أدلكم عَلَى مَا
يمحو الله بِهِ الخطايا ويرفع بِهِ الدرجات؟)) قالوا: بلى
يَا رَسُول الله. قَالَ: ((إسباغ الوضوء عَلَى المكاره،
وثرة الخطأ إلى المساجد، وانتظار الصلاة
(6/41)
بعد الصلاة؛ فذالكم الرباط، فذالكم
الرباط)) .
خرجه مُسْلِم من حَدِيْث العلاء بْن عَبْد الرحمن، عَن
أبيه، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ.
وقد ورد تقييد ذَلِكَ - أيضاً - بما لَمْ يحدث.
خرجه البخاري فِي ((أبواب نواقض الوضوء)) من رِوَايَة ابن
أَبِي ذئب، عَن المقبري، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ:
((لا يزال العبد فِي صلاة مَا كَانَ فِي المسجد ينتظر
الصلاة، مَا لَمْ يحدث)) . فَقَالَ رَجُل أعجمي: مَا الحدث
يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: الصوت - يعني: الضرطة.
وقد سبق الكلام عَلِيهِ فِي موضعه، وذكرنا اخْتِلاَف
النَّاس فِي تفسير الحدث والمراد بِهِ.
وقد فسره أبو سَعِيد الْخُدرِيَّ كما فسره أبو هُرَيْرَةَ
- أيضاً.
خرجه الإمام أحمد.
ومعنى كونه فِي الصلاة - والله أعلم -: أن لَهُ أجر المصلي
وثوابه بحبس نفسه فِي المسجد للصلاة.
وليس فِي هَذَا الحَدِيْث، ولا فِي غيره من أحاديث الباب
الاشتراط للجالس فِي مصلاه أن يكون مشتغلاً بالذكر، ولكنه
أفضل وأكمل، ولهذا ورد فِي فضل من جلس فِي مصلاه بعد الصبح
حَتَّى تطلع الشمس، وبعد العصر حَتَّى تغرب أحاديث متعددة.
(6/42)
وهل المراد بمصلاه نفس الموضع الَّذِي صلى
فِيهِ أو المسجد الَّذِي صلى فِيهِ كله مصلى لَهُ؟ هَذَا
فِيهِ تردد.
وفي ((صحيح مُسْلِم)) عَن جابر بر سمرة، أن النَّبِيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذا صلى الفجر
جلس فِي مصلاه حَتَّى تطلع الشمس حسناء.
وفي رِوَايَة لَهُ: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقوم من مصلاه الَّذِي يصلي فِيهِ
الصبح أو الغداة حَتَّى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام.
ومعلوم؛ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ
يكن جلوسه فِي الموضع الَّذِي صلى فِيهِ؛ لأنه كَانَ ينفتل
إلى أصحابه عقب الصلاة ويقبل عليهم بوجهه.
وخرجه الطبراني، وعنده: كَانَ إذا صلى الصبح جلس يذكر الله
حَتَّى تطلع الشمس.
ولفظة: ((الذكر)) غريبة.
وفي تمام حَدِيْث جابر بْن سمرة الَّذِي خرجه مُسْلِم
وكانوا يتحدثون فيأخذون فِي أمر الجَاهِلِيَّة، فيضحكون
ويتبسم.
وهذا يدل عَلَى أَنَّهُ لَمْ ينكر عَلَى من تحدث وضحك فِي
ذَلِكَ الوقت، فهذا الحَدِيْث يدل عَلَى أن المراد بمصلاه
الَّذِي يجلس فِيهِ المسجد كله.
وإلى هَذَا ذهب طائفة من العلماء، منهم: ابن بطة من
أصحابنا وغيره.
وقد روي عَن أَبِي هُرَيْرَةَ مَا يخالف هَذَا.
رَوَى مَالِك فِي ((الموطإ)) عَن نعيم المجمر، أَنَّهُ
سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُول: إذا صلى أحدكم ثُمَّ جلس
فِي مصلاه لَمْ تزل الملائكة تصلى عَلِيهِ، تَقُول: اللهم
اغفر لَهُ، اللهم ارحمه، فإن قام من مصلاه فجلس فِي المسجد
ينتظر الصلاة لَمْ تزل الملائكة تصلي عَلِيهِ فِي مصلاه
حَتَّى يصلي.
فهذا يدل عَلَى أَنَّهُ إذا تحول من موضع صلاته من المسجد
إلى غيره من المسجد انقطع حكم جلوسه فِي مصلاه، فإن جلس
ينتظر الصلاة كَانَ حكمه حكم من ينتظرها، وصلت عَلِيهِ
الملائكة - أيضاً -، فإن لَمْ يجلس منتظراً للصلاة فلا شيء
لَهُ؛ لأنه لَمْ يجلس فِي مصلاه ولا هُوَ منتظر للصلاة.
قَالَ ابن عَبْد البر: إلا أنه لا يقال: إنه تصلي عَلِيهِ
الملائكة.
يعني: عَلَى المتحول من مكانه وَهُوَ ينتظر الصلاة كما
تصلي عَلَى الَّذِي فِي مصلاه ينتظر الصلاة.
يشير إلى أن الحَدِيْث المرفوع إنما فِيهِ صلاة الملائكة
عَلَى من يجلس فِي مصلاه لا عَلَى المنتظر للصلاة.
ولكن قَدْ روي فِي حَدِيْث مرفوع، فروى عَطَاء بْن السائب،
عَن أَبِي عَبْد الرحمان السلمي، عَن عَلِيّ، قَالَ:
سَمِعْت رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَقُول: ((من صلى الفجر ثُمَّ جلس فِي
(6/43)
مصلاه صلت عَلِيهِ الملائكة، وصلاتهم
عَلِيهِ: اللهم اغفر لَهُ، اللهم ارحمه، ومن ينتظر الصلاة
صلت عَلِيهِ الملائكة، وصلاتهم عَلِيهِ: اللهم اغفر لَهُ،
اللهم ارحمه)) .
خرجه الإمام أحمد.
وَقَالَ عَلِيّ بْن المديني: هُوَ حَدِيْث كوفي، وإسناده
حسن.
(6/44)
وذكر ابن عَبْد البر - أيضاً - أنه يحتمل
أن يكون بقاؤه فِي مصلاه شرطاً فِي انتظار الصلاة - أيضاً
-، كما كَانَ شرطاً فِي الجلوس فِي مصلاه.
وهذا الَّذِي قاله بعيد، وإنما يمكن أن يقال فيمن صلى صلاة
ثُمَّ جلس ينتظر صلاة أخرى، فأما من دَخَلَ المسجد ليصلي
صلاة واحدة وجلس ينتظرها قَبْلَ أن تقام فأي مصلى لَهُ
حَتَّى يشترط أن لا يفارقه؟
قَالَ: وقيامه من مجلسه، المراد بِهِ: قيامه لعرض الدنيا،
فأما إذا قام إلى مَا يعينه عَلَى مَا كَانَ يصنعه فِي
مجلسه من الذكر.
يعني: أَنَّهُ غير مراد، ولا قاطع للصلاة عَلِيهِ. والله
سبحانه وتعالى أعلم.
الحَدِيْث الثاني:
(6/45)
660 - حدثنا مُحَمَّد بْن بشار: ثنا
يَحْيَى، عَن عُبَيْدِ الله، قَالَ: حَدَّثَنِي خبيب ابن
عَبْد الرحمان، عَن حفص بْن عاصم، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
قَالَ: ((سبعة يظلهم الله فِي ظله يوم لا ظل إلا ظله:
الإمام العادل، وشاب نشأ فِي عُبَادَة ربه عز وجل، ورجل
قلبه متعلق فِي المساجد، ورجلان تحابا فِي الله اجتمعا
عَلَى ذَلِكَ وتفرقا عَلِيهِ، ورجل طلبته امرأة ذات منصب
وجمال، فَقَالَ: إني أخاف الله، ورجل تصدق، أخفى حَتَّى لا
تعلم شماله مَا تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت
عيناه)) .
(6/45)
هذه السبعة اختلفت أعمالهم فِي الصورة،
وجمعها معنى واحد، وَهُوَ مجاهدتهم لأنفسهم، ومخالفتهم
لأهوائها، وذلك يحتاج أولاً إلى رياضة شديدة وصبر عَلَى
الامتناع مِمَّا يدعو إليه داعي الشهوة أو الغضب أو الطمع،
وفي تجشم ذَلِكَ مشقة شديدة عَلَى النفس، ويحصل لها بِهِ
تألم عظيم، فإن القلب يكاد يحترق من حر نار الشهوة أو
الغضب عِنْدَ هيجانها إذا لَمْ يطفء ببلوغ الغرض من
ذَلِكَ، فلا جرم كَانَ ثواب الصبر عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ
إذا اشتد الحر فِي الموقف، ولم يكن للناس ظل يظلهم ويقيهم
حر الشمس يومئذ، وكان هؤلاء السبعة فِي ظل الله - عز وجل
-، فَلَمْ يجدوا لحر الموقف ألماً جزاءً لصبرهم عَلَى حر
نار الشهوة أو الغضب فِي الدنيا.
وأول هذه السبعة: الإمام العادل.
وَهُوَ أقرب النَّاس من الله يوم القيامة، وَهُوَ عَلَى
منبر من نور عَلَى يمين الرحمن - عز وجل -، وذلك جزاء
لمخالفته الهوى، وصبره عَن تنفيذ مَا تدعوه إليه شهواته
وطمعه وغضبه، مَعَ قدرته عَلَى بلوغ غرضه من ذَلِكَ؛ فإن
الإمام العادل دعته الدنيا كلها إلى نفسها، فقالَ: إني
أخاف الله رب العالمين. وهذا أنفع الخلق لعباد الله، فإنه
إذا صلح صلحت الرعية كلها.
وقد روي أَنَّهُ ظل الله فِي الأرض؛ لأن الخلق كلهم
يستظلون بظله، فإذا عدل فيهم أظله الله فِي ظله.
والثاني: الشاب الَّذِي نشأ فِي عُبَادَة الله - عز وجل -.
فإن الشباب شعبة
(6/46)
من الجنون، وَهُوَ داع للنفس إلى استيفاء
الغرض من شهوات الدنيا ولذاتها المحظورة، فمن سلم مِنْهُ
فَقَدْ سلم.
وفي الحَدِيْث: ((عجب ربك من شاب ليست لَهُ صبوة)) .
وفي بعض الآثار: يَقُول الله: ((أيها الشاب التارك شهوته،
المتبذل شبابه من أجلي، أنت عندي كبعض ملائكتي)) .
والثالث: الرَّجُلُ المعلق قلبه بالمساجد.
وفي رِوَايَة: ((إذا خرج مِنْهُ حَتَّى يعود إِلَيْهِ)) ،
فهو يحب المسجد ويألفه لعبادة الله فِيهِ، فإذا خرج مِنْهُ
تعلق قلبه بِهِ حَتَّى يرجع إِلَيْهِ، وهذا إنما يحصل لمن
ملك نفسه وقادها إلى طاعة الله فانقادت لَهُ؛ فإن الهوى
إنما يدعو إلى محبة مواضع الهوى واللعب، إما المباح أو
المحظور، ومواضع التجارة واكتساب الأموال، فلا يقصر نفسه
عَلَى محبة بقاع العبادة إلا من خالف هواه، وقدم عَلِيهِ
محبة مولاه.
وقد مدح عمار المساجد فِي قوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ - رِجَالٌ
لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ
وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ
يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ -
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا
وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ
يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 36 - 38] .
وفي ((المسند)) و ((سنن ابن ماجه)) من حَدِيْث أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((لا توطن رَجُل المساجد للصلاة
والذكر إلا تبشبش الله بِهِ كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم
إذا قدم)) .
(6/47)
وروى ابن لهيعة، عَن دراج، عَن أَبِي
الهيثم، عَن أَبِي سَعِيد، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((من ألف المسجد ألفه الله))
.
ويروى عَن سَعِيد بْن المُسَيِّب، قَالَ: من جلس فِي
المسجد فإنما يجالس ربه - عز وجل -.
الرابع: المتحابان فِي الله - عز وجل -.
فإن الهوى داع إلى التحاب فِي غير الله؛ لما فِي ذَلِكَ من
طوع النفس أغراضها من الدنيا، فالمتحابان فِي الله جاهدا
أنفسهما فِي مخالفة الهوى حَتَّى صار تحابهما وتوادهما فِي
الله من غير غرض دنيوي يشوبه، وهذا عزيز جداً.
ولن يتحابا فِي الله حَتَّى يجتمعا فِي الدنيا فِي ظل الله
المعنوي، وَهُوَ تأليف قلوبهما عَلَى طاعة الله، وإيثار
مرضاته وطلب مَا عنده، فلهذا اجتمعا يوم القيامة فِي ظل
الله الحسي.
وقوله: ((اجتمعا عَلَى ذَلِكَ وتفرقا عَلِيهِ)) يحتمل
أَنَّهُ يريد: أنهما اجتمعا عَلَى التحاب فِي الله حَتَّى
فرق بَيْنَهُمَا الموت فِي الدنيا أو غيبة أحدههما عَن
الآخر، ويحتمل أَنَّهُ أراد أنهما اجتمعا عَلَى التحاب فِي
الله، فإن تغير أحدهما عما كَانَ عَلِيهِ مِمَّا توجب
محبته فِي الله فارقه الآخر بسبب ذَلِكَ، فيدور تحاببهما
عَلَى طاعة الله وجوداً وعدماً.
قَالَ بعض السلف: إذا كَانَ لَكَ أخ تحبه فِي الله، فأحدث
حدثاً فَلَمْ تبغضه فِي الله لَمْ تكن محبتك لله - أو
هَذَا المعنى.
الخامس: رَجُل دعته أمرأة ذات منصب وجمال.
ويعني بالمنصب:
(6/48)
النسب والشرف والرفعة فِي الدنيا، فإذا
اجتمع ذَلِكَ مَعَ الجمال فَقَدْ كمل الأمر وقويت الرغبة،
فإن كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ هِيَ الطالبة الداعية إلي نفسها،
كَانَ أعظم وأعظم، فإن الامتناع بعد ذَلِكَ كله دليل عَلَى
تقديم خوف الله عَلَى هوى النفس، وصاحبه داخل فِي قوله
تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى
النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] ، وهذا كما جرى
ليوسف عَلِيهِ السلام.
قَالَ عُبَيْدِ بْن عمير: من صدق الإيمان وبره إسباغ
الوضوء فِي المكاره، ومن صدق الإيمان وبره أن يخلو
الرَّجُلُ بالمرأة الجميلة فيدعها، لا يدعها إلا لله عز
وجل.
ومثل هَذَا؛ إذا قَالَ: ((إني أخاف الله)) فهو صادق فِي
قوله؛ لأن علمه مصدق لقوله، وقوله لها: ((إني أخاف الله))
موعظة لها، فربما تنْزجر عَن طلبها، وترجع عَن غيها.
وقد وقع ذَلِكَ لغير واحدٍ، وفيه حكايات مذكروة فِي كِتَاب
((ذم الهوى)) وغيره.
السادس: رَجُل تصدق بصدقة فاجتهد فِي إخفائها غاية
الاجتهاد حَتَّى لَمْ يعلم بِهِ إلا الله.
وضرب المثال لذلك عَلَى طريق المبالغة: ((حَتَّى لا تعلم
شماله مَا تنفق يمينه)) .
وهذا دليل عَلَى قوة الإيمان والاكتفاء باطلاع الله عَلَى
العبد وعلمه بِهِ، وفيه مخالفة للهوى ومجاهدة للنفس؛ فإنها
تحب إظهار الصدقة، والتمدح بِهَا عِنْدَ الخلق، فيحتاج فِي
إخفاء الصدقة إلى قوة شديدةٍ تخالف هوى النفس.
(6/49)
وخرج الإمام أحمد والترمذي من حَدِيْث
أَنَس، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، قَالَ: ((لما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال
فألقاها عَلَيْهَا فاستقرت، فعجبت الملائكة من خلق الجبال،
فقالوا: يَا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قَالَ:
نَعَمْ، الحديد. قالوا: يَا رب، فهل شيء من خلقك أشد من
الحديد؟ قَالَ: نَعَمْ، النار، قالوا: يارب، فهل من خلقك
شيء أشد من النار؟ قَالَ: نَعَمْ، الماء. قالوا: يارب، فهل
من خلقك شيء أشد من الماء؟ قَالَ: نَعَمْ، الريح. قالوا:
يارب، فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قَالَ: نَعَمْ، ابن
آدم؛ يتصدق بيمينه يخفيها من شماله)) .
السابع: رَجُل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.
فهذا رَجُل يخشى الله فِي سره، ويراقبه فِي خلوته، وافضلُ
الأعمال خشية الله فِي السر والعلانية، وخشية الله فِي
السر إنما تصدر عَن قوة إيمان ومجاهدةٍ للنفس والهوى، فإن
الهوى يدعو فِي الخلوة إلى المعاصي، ولهذا قيل: إن من أعز
الأشياء الورع فِي الخلوة.
وذكر الله يشمل ذكر عظمته وبطشه وانتقامه وعقابه؛ والبكاء
الناشيء عَن هَذَا هُوَ بكاء الخوف، ويشمل ذكر جماله
وكماله وبره ولطفه وكرامته لأوليائه بأنواع البر والألطاف،
لا سيما برؤيته فِي الجنة، والبكاء الناشيء عَن هَذَا هُوَ
بكاء الشوق.
ويدخل فِي - أيضاً -: رَجُل ذكر أن الله مَعَهُ حيثما
كَانَ، فتذكر معيته وقربه واطلاعه عَلِيهِ حيث كَانَ يبكي
حياء مِنْهُ، وَهُوَ من نوع الخوف - أيضاً.
(6/50)
وخرج الطبراني بإسناد فِيهِ ضعف، عَن أَبِي
أمامة مرفوعاً: ((ثَلاَثَة فِي ظل الله يوم لا ظل إلا ظله:
رَجُل حيث توجه علم أن الله مَعَهُ)) .
وهذا الحَدِيْث يدل عَلَى أن هؤلاء السبعة يظلهم الله فِي
ظله، ولا يدل عَلَى الحصر، ولا عَلَى أن غيرهم لا يحصل
لَهُ ذَلِكَ؛ فإنه صح عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أن من أنظر معسراً أو وضع عَنْهُ
أظله الله فِي ظله يوم لا ظل إلا ظله)) .
خرجه مُسْلِم من من حَدِيْث أَبِي اليسر الأنصاري، عَن
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه - من حَدِيْث أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((من نفس عَن غريمه، أو محا عَنْهُ
كَانَ فِي ظل العرش يوم القيامة)) .
وهذا يدل عَلَى أن المراد بظل الله: ظل عرشه.
الحَدِيْث الثالث:
(6/51)
661 - حدثنا قتيبة: ثنا إسماعيل بْن
جَعْفَر، عَن حميد، قَالَ: سئل أَنَس: هَلْ اتخذ رَسُول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتماً؟
فَقَالَ: نَعَمْ، أخر ليلة صلاة العشاء إلى شطر الليل،
ثمَّ أقبل علينا بوجهه بعدما صلى، فَقَالَ: ((صلى النَّاس
ورقدوا، ولم تزالوا فِي صلاة مَا انتظرتموها)) . قَالَ:
فكأني أنظر إلى وبيص
(6/51)
خاتمه.
قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث فِي مواضع من ((الكتاب)) ،
وَهُوَ بمعنى حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ المخرج فِي أول
الباب.
(6/52)
37 - باب
فَضْلِ مَنْ غَدَا إلى المَسْجِدِ أَوْ رَاحَ
(6/53)
662 - حدثنا عَلِيّ بْن عَبْد الله: ثنا
يزيد بْن هارون: أنا مُحَمَّد بْن مطرف، عَن زيد بْن أسلم،
عَن عَطَاء بْن يسار، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((من غدا إلى
المسجد أو راح أعد الله لَهُ نزلاً من الجنة كُلَّمَا غدا
أو راح)) .
الغدو: يكون من أول النهار، والرواح: يكون من آخره بعد
الزوال، وقد يعبر بأحدهما عَن الخروج والمشي، سواء كَانَ
قَبْلَ الزوال أو بعده، كما فِي قوله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الجمعة: ((من راح فِي الساعة
الأولى فكأنما قرب بدنة)) عَلَى مَا حمله عَلِيهِ جمهور
العلماء.
ومعنى الحَدِيْث: أن من خرج إلى المسجد للصلاة فإنه زائر
الله تعالى، والله يعد لَهُ نزلاً من المسجد، كُلَّمَا
انطلق إلى المسجد، سواء كَانَ فِي أول النهار أو فِي آخره.
والنزل: هُوَ مَا يعد للضيف عِنْدَ نزوله من الكرامة
والتحفة.
قَالَ الحافظ أبو موسى المديني: وزيد فِيهِ فِي غيره هذه
الرواية: ((كما لَوْ أن أحدكم زاره من يحب زيارته لاجتهد
فِي إكرامه)) .
وخرج من طريق الطبراني بإسناده، عَن سَعِيد بْن زربي، عَن
ثابت،
(6/53)
عَن أَبِي عُثْمَان، عَن سلمان، عَن
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ:
((من توضأ فأحسن الوضوء ثُمَّ أتى المسجد فهو زائر الله،
وحق عَلَى المزور أن يكرم الزائر)) .
قَالَ أبو موسى: ورواه سُلَيْمَان التيمي وداود بْن أَبِي
هند وعوف، عَن أَبِي عُثْمَان، عَن سلمان - موقوفاً، لا
مرفوعاً.
وسعيد بن زربي، فِيهِ ضعف.
وخرج - أيضاً - من طريق الطبراني بإسناده، عَن يَحْيَى بْن
الحارث، عَن الْقَاسِم، عَن أَبِي أمامة، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الغدو
والرواح إلى المساجد من الجهاد فِي سبيل الله)) .
وذكر مَالِك فِي ((الموطأ)) عَن سمي مَوْلَى أَبِي بَكْر،
أن أبا بَكْر بْن عَبْد الرحمن كَانَ يَقُول: من غدا أو
راح إلى المسجد لا يديد غيره؛ ليعلم خيراً أو يتعلمه،
ثُمَّ رجع إلى بيته؛ كَانَ كالمجاهد فِي سبيل الله.
ومما يستدل بِهِ عَلَى أن قصد المساجد للصلاة فيها زيارة
لله - عز وجل -: مَا خرجه ابن ماجه بإسناده فِيهِ ضعف، من
حَدِيْث أَبِي الدرداء، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((إن أحسن مَا زرتم بِهِ
الله فِي قبوركم ومساجدكم البياض)) .
(6/54)
38 - باب
إذا أُقيمَتِ الصَّلاةُ فَلاَ صَلاةَ إِلاَّ المَكْتُوبَةُ
بوب عَلَى هذه الترجمة، ولم يخرج الحَدِيْث الَّذِي
بلفظها، وقد خرجه مُسْلِم من حَدِيْث عَمْرِو بْن دينار،
عَن عَطَاء بْن يسار، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((إذا أقيمت
الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)) .
وخرجه أبو داود موقوفاً.
وقد اختلف فِي رفعه ووقفه، واختلف الأئمة فِي الترجيح،
فرجح الترمذي رفعه، وكذلك خرجه مُسْلِم فِي ((صحيحه)) ،
وإليه ميل الإمام أحمد، ورجح أبو زُرْعَة وقفه، وتوقف
فِيهِ يَحْيَى بْن معين، وإنما لَمْ يخرجه البخاري لتوقفه،
أو لترجيحه وقفه. والله أعلم.
(6/55)
وقد خرجه الطبراني من رِوَايَة زياد بْن
عَبْد الله، عَن مُحَمَّد بْن جحادة، عَن عَمْرِو، عَن
عَطَاء، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((إذا أخذ المؤذن فِي
الإقامة فلا صلاة إلا المكتوبة)) .
وهذا لفظ غريبٌ.
وقد روي من وجوه أخر عَن أَبِي هُرَيْرَةَ.
وخرجه الإمام أحمد من رِوَايَة ابن لهيعة: ثنا عياش بْن
عباسٍ، عَن أَبِي تميم الزُّهْرِيّ، عن أبي هريرة، عَن
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ:
((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا الَّتِيْ أقيمت)) .
وخرجه الطبراني بهذا اللفظ - أيضا - من رِوَايَة أَبِي
صالح: ثنا الليث، عن
عَبْد الله بْن عياش بْن عَبَّاس القتباني، عَن أبيه، عَن
أَبِي تميم، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ البخاري:
(6/56)
663 - حدثنا عَبْد العزيز بْن عَبْد الله:
ثنا إِبْرَاهِيْم بْن سعد، عَن أبيه، عَن حفص بْن عاصم،
عَن عَبْد الله بْن مَالِك ابن بحينة، قَالَ: مر النَّبِيّ
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل.
وحدثني عَبْد الرحمان - هو: ابن بشر -: ثنا بهز بْن أسد:
ثنا شعبة: أخبرني سعد بْن إِبْرَاهِيْم، قَالَ: سَمِعْت
[حفص بْن عاصم، قَالَ: سَمِعْت] رجلاً من الأزد، يقال
لَهُ: مَالِك ابن بحينة، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى
(6/56)
رجلاً وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما
انصرف رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لاث بِهِ النَّاس، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((آلصبح أربعاً، آلصبح
أربعاً؟)) .
تابعه: غندر ومعاذ، عَن شعبة، عَن مَالِك.
وَقَالَ ابن إِسْحَاق: عَن سعد، عَن حفصٍ، عَن عَبْد الله
ابن بحينة.
وَقَالَ حماد: أنا سعد، عَن حفص، عَن مَالِك.
((لاث بِهِ النَّاس)) - اي: أحدقوا بِهِ، وأحاطوا حوله.
وقوله: ((آالصبح أربعاً)) - مرتين -: إنكار لصلاته وقد
أقيمت صلاة الفجر، فكأنه صلى الصبح بعد الإقامة أربعاً.
وخرجه مُسْلِم، ولفظه: مر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل يصلي وقد أقيمت الصلاة، فكلمه
بشيء، لا ندري مَا هُوَ، فلما انصرفنا أحطنا بِهِ، نقول:
ماذا قَالَ لَكَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: قَالَ لِي: ((يوشك أن يصلي احدكم
الصبح أربعاً)) .
وفي رِوَايَة لَهُ - أيضاً -: أقيمت صلاة الصبح، فرأى
رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا
يصلي والمؤذن يقيم، فَقَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أتصلي الصبح أربعاً؟)) .
فعلى هذه الرواية ورواية البخاري: الحَدِيْث من رِوَايَة
ابن بحينة، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، سمعه مِنْهُ، وعلى الرواية الأول لمسلم:
الحَدِيْث من رِوَايَة ابن
(6/57)
بحينة، عَن رَجُل غير مسمى من الصَّحَابَة،
عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
لكن؛ قَدْ روي أن الرَّجُلُ المصلي هُوَ ابن القشب، وَهُوَ
ابن بحينة راوي الحَدِيْث.
كذلك رواه جَعْفَر بْن مُحَمَّد، عَن أبيه - مرسلاً.
وروي، عَن جَعْفَر، عَن أَبِيه، عَن عَبْد الله بْن مَالِك
بْن بحينة.
والصحيح: المرسل -: قاله أبو حاتم الرَّازِي.
وقد أشار البخاري إلى الاختلاف فِي اسم ((ابن بحينة)) ،
فخرجه من طريق إبراهيم بْن سعد، عَن أبيه، وسمى الصحابي:
((عَبْد الله بْن مَالِك ابن بحينة)) ، وذكر أن ابن إسحاق
قالَ: عن سعد ((عن عبد الله بن بحينة)) ، وخرجه من طريق
شعبة، وسماه: ((مَالِك ابن بحينة)) ، وذكر أن حماداً رواه
عَن سعد كذلك، وحماد هُوَ: ابن سَلَمَة.
وكذا رواه أبو عوانة، عَن سعد - أيضاً.
وقيل عَنْهُ: ((عَن ابن بحينة)) غير مسمى.
والصحيح من ذَلِكَ: عَبْد الله بْن مَالِك ابن بحينة -:
قاله أبو زُرْعَة والنسائي والترمذي والبيهقي وغيرهم.
وَهُوَ عَبْد الله بْن مَالِك
(6/58)
ابن القشب من أزد شنوءة، حليف لبني عَبْد
المطلب، وبحينة أمه، وهي بحينة بِنْت الحارث بْن عَبْد
المطلب -: قاله ابن المديني وابن سعد والترمذي والبيهقي
وغيرهم.
وقد رَوَى هَذَا الحَدِيْث القعنبي، عَن إِبْرَاهِيْم بْن
سعد، فَقَالَ فِيهِ: عَن عَبْد الله بْن مَالِك ابن بحينة،
عَن أَبِيه، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
وقوله: ((عَن أَبِيه)) وهم -: قاله الإمام أحمد وابن معين
وسليمان بْن داود الهاشمي ومسلم - ذكره فِي ((صحيحه)) -
وغيرهم.
وقد روي مثل هَذَا الحَدِيْث عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوهٍ متعددةٍ.
وخرجه مُسْلِم فِي ((صحيحه)) من حَدِيْث عاصم الأحوال، عَن
عَبْد الله بْن سرجس، قَالَ: دَخَلَ رَجُل المسجد ورسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صلاة
الغداة، فصلى ركعتين فِي جانب المسجد، ثُمَّ دَخَلَ مَعَ
رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما
سلم رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ: ((يَا فلان، بأي الصلاتين اعتددت، أبصلاتك وحدك، أم
بصلاتك مَعَنَا؟)) .
ولا نعلم خلافاً أن إقامة الصلاة تقطع التطوع فيما عدا
ركعتي الفجر، واختلفوا فِي ركعتي الفجر: هَلْ تقطعهما
الإقامة.
فَقَالَتْ طائفة: تقطعهما الإقامة، لهذه الأحاديث الصحيحة،
(6/59)
روي عَن ابن عُمَر وأبي هُرَيْرَةَ.
وروي عَن عُمَر، أنه كَانَ يضرب عَلَى الصلاة بعد الإقامة.
وممن كره ذَلِكَ ونهى عَنْهُ: سَعِيد بْن جبير وميمون بْن
مهران وعروة والنخعي.
وَقَالَ ابن سيرين: كانوا يكرهون أن يصلوهما إذا أقيمت
الصلاة. وَقَالَ مَا يفوته من المكتوبة أحب إلي منهما.
وروى أبو حَمْزَة، قَالَ: قُلتُ لإبراهيم: لأي شيءٍ كرهت
الصلاة عِنْدَ الإقامة؟ قَالَ: مخافة التكبيرة الأولى.
قَالَ وكيع: وتدرك فضيلة التكبيرة الأولى بإدراك التأمين
مَعَ الإمام، واستدل بحديث بلال، أَنَّهُ قَالَ للنبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تسبقني بقول آمين.
وروي نحوه عَن أَبِي هُرَيْرَةَ.
ونص أحمد فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيْم بْن الحارث عَلَى
أَنَّهُ إذا لَمْ يدرك التكبيرة مَعَ الإمام لَمْ يدرك
التكبيرة الأولى.
وممن كره الصلاة بعد الإقامة: الشَّافِعِيّ وابن المبارك
وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو خيثمة وسليمان بْن داود
الهاشمي.
ولو خالف وصلى بعد الإقامة صلاةً، فهل تنعقد، أم تقع
باطلة؟ فِيهِ لأصحابنا وجهان.
واختلفوا: هَلْ يصليهما وَهُوَ فِي البيت إذا سَمِعَ
الإقامة؟
فَقَالَتْ طائفة: يصليهما فِي البيت.
وروى عَن ابن عُمَر، أنَّهُ دَخَلَ
(6/60)
المسجد والناس يصلون، فدخل بيت حَفْصَةَ
فصلى ركعتين، ثُمَّ خرج إلى المسجد.
وروي عَنْهُ مرفوعاً، خرجه ابن عدي.
ورفعه لا يصح.
وروى أبو إِسْحَاق، عَن الحارث، عَن عَلِيّ، ان النَّبِيّ
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يصلي الركعتين
عِنْدَ الإقامة.
خرجه الإمام أحمد وابن ماجه.
والحارث، فِيهِ ضعف. وأبو إِسْحَاق، لَمْ يسمعه مِنْهُ.
وخرجه يعقوب بْن شيبة، ولفظه: ((مَعَ الإقامة)) .
ورواه الْحَسَن بْن عمارة - وهو متروك -، عَن أَبِي
إِسْحَاق، وزاد فِيهِ: أَنَّهُ صلى فِي ناحية المسجد
والمؤذن يقيم.
ولم يتابع عَلَى ذَلِكَ.
ورخص مَالِك فِي الصلاة بعد الإقامة خارج المسجد إذا لَمْ
يخش أن تفوته الركعة الأولى.
ونقل ابن منصور، عَن أحمد وإسحاق، أنهما رخصا فيهما فِي
البيت.
قَالَ أحمد: وقد كرهه قوم، وتركه أحب إلي.
ونقل الشالنجي عَن أحمد: لا يصليهما فِي المسجد، ولا فِي
البيت.
وَهُوَ قَوْلِ الشَّافِعِيّ، [.. ..] الهاشمي.
وقالت طائفة: يصليهما فِي المسجد - أيضاً -، وروي ذَلِكَ
عَن ابن مَسْعُود، وأنه فعله بمحضرٍ من حذيفة
(6/61)
وأبي موسى الأشعري.
وعن أَبِي الدرداء، قَالَ: إني لأوتر وراء عمودٍ والإمام
فِي الصلاة.
وعن الْحَسَن ومسروق ومجاهد ومكحول، وَهُوَ قَوْلِ حمادٍ
والحسن بْن حي والأوزاعي وسعيد بْن عَبْد العزيز والثوري
وأبي حنيفة وأصحابه.
لكن الأوزاعي وسعيد وأبو حنيفة قالوا: إنما يصليهما إذا
رجا إدراك الركعة الأخيرة مَعَ الإمام، وإلا فلا يصليهما.
وروى وكيع، عَن سُفْيَان، أَنَّهُ يعتبر أن يرجو إدراك
الركعة الأولى.
وروي ذَلِكَ عَن المقدام بْن معدي كرب الصحابي.
خرجه حرب، عَنْهُ بإسناده.
ونقل حرب، عَن إِسْحَاق، قَالَ: إذا دَخَلَ المسجد وقد أخذ
المؤذن فِي الإقامة، فإن كَانَ الإمام افتتح الصلاة دخل
معه وأن لم يكن افتتح الصلاة فلا بأس.
هَذَا كله حكم ابتداء التطوع بعد إقامة الصلاة، فإن كَانَ
قَدْ ابتدأ بالتطوع قَبْلَ الإقامة، ثُمَّ أقيمت الصلاة،
ففيه قولان:
أحدهما: أَنَّهُ يتم، وَهُوَ قَوْلِ الأكثرين، منهم:
النخعي والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، حملاً للنهي عَلَى
الابتداء دون الاستدامة.
والثاني: يقطعها، وَهُوَ قَوْلِ سَعِيد بْن جبير.
وحكي رِوَايَة عَن أحمد، حكاها أبو حفص، وهي غريبة، وحكاها
غيره مقيدةً بما إذا خشي فوات الجماعة بإتمام صلاته، وحكي
عَن أحمد
(6/62)
فِي إتمامها وقطعها روايتان.
وحكي عَن النخعي وأبي حنيفة وإسحاق الإتمام، وعن
الشَّافِعِيّ القطع.
وَقَالَ مَالِك: إن أقيمت وَهُوَ راكع [.. ..] ولم يركع
لكنه ممن يخف الركعتين قَبْلَ أن يركع الإمام صلاهما، وإلا
قطع وصلى مَعَ لإمام؛ لأنه تحصل لَهُ الجماعة فِي جميع
الركعات، ولا يبطل عَلِيهِ من التطوع كبير عملٍ.
وَقَالَ الثوري: إذا كَانَ يتطوع فِي المسجد، ثُمَّ أقيمت
الصلاة فليسرع الصلاة حَتَّى يلحق الإمام. قَالَ: وإن
دَخَلَ المسجد والمؤذن يقيم، فظن أَنَّهُ يؤذن، فافتتح
تطوعاً، فإن تهيأ لَهُ أن يركع ركعتين خفيفتين فعل، وإلا
قطع ودخل فِي الصلاة؛ فإن هذه صلاة ابتدأها بعد الإقامة.
هَذَا كله فِي صلاة التطوع حال إقامة الصلاة.
فأما إن كَانَ يصلي فرضاً وحده، ثُمَّ أقيمت تلك الصلاة،
ففيه أربعة أقوال:
أحدها: أَنَّهُ يجوز لَهُ أن يتمه نفلاً، ثُمَّ يصلي مَعَ
الجماعة، وهذا ظاهر مذهب أحمد، وأحد قولي الشَّافِعِيّ،
ليحصل فضيلة الجماعة.
وعن أحمد رِوَايَة: أَنَّهُ يقطع صلاته ويصلي مَعَ
الجماعة.
والثاني: يتمه فرضاً، وَهُوَ قَوْلِ الْحَسَن، والقول
الثاني للشافعي، وَهُوَ رِوَايَة عَن أحمد، نقلها عَنْهُ
أبو الحارث، وَقَالَ: إذا أتمها فهو مخير، إن شاء صلى مَعَ
القوم، وإن شاء لَمْ يدخل معهم.
(6/63)
قَالَ أبو حفص: وعنه رِوَايَة أخرى:
أَنَّهُ يجب أن يصلي معهم إذا حضر فِي مسجد أهله يصلون.
قَالَ: وَهُوَ الأكثر فِي مذهبه. قَالَ: وبه وردت السنة.
قُلتُ: يشير إلى الإعادة مَعَ الجماعة.
وفي وجوب الإعادة واستحبابها عَنْهُ روايتان، وأكثر
الأصحاب عَلَى أن الإعادة مستحبة غير واجبة. قالوا: وسواء
كَانَ صلى منفرداً أو فِي جماعة.
قالوا: وإنما تجب الصلاة فِي جماعة لمن لَمْ يصل، فأما من
صلى منفرداً فَقَدْ سقط عَنْهُ الفرض، فلا يجب عَلِيهِ
إعادته؛ ولهذا إذا أعاده فِي جماعة كَانَتْ المعادةُ
نفلاً، وفرضه الأولى -: نَصَّ عَلِيهِ أحمد.
والثالث: إن كَانَ صلى أكثر الفرض أتمه فرضاً، وإلا أتمه
نفلاً، ثُمَّ صلى مَعَ الجماعة فرضه، تنزيلاً للأكثر منزلة
الكل، وَهُوَ قَوْلِ النخعي ومالك وأبي حنيفة
والثوري.
وقالوا: إنَّه يصلي بعد ذَلِكَ مَعَ الجماعة مَا يلحق معهم
تطوعاً.
والرابع: أَنَّهُ يحتسب بما صلى فريضة، ثُمَّ يتم باقي
صلاته مَعَ الجماعة، ويفارقهم إذا تمت صلاته، وَهُوَ
قَوْلِ طائفة من السلف، حكاه عنهم الثوري، ونقله حرب عَن
إِسْحَاق، وحكاه إِسْحَاق عَن النخعي.
وهذا مبني عَلَى القول بجواز الانتقال من الإفراد إلى
الائتمام، فأما إن أقيمت الصلاة وعليه فائتة، فمن قَالَ:
لا يجب الترتيب بَيْن الفائته والحاضرة، فإنه يرى أن يصلي
مَعَ الإمام فريضة الوقت الَّتِيْ يصليها الإمام، ثُمَّ
يقضي الفائتة بعدها.
(6/64)
وأما من أوجب الترتيب، فاختلفوا:
فمنهم من أسقط الترتيب فِي هَذَا الحال لخشية فوات
الجماعة؛ فإنها واجبة عندنا، والنصوص بإيجاب الجماعة آكد
من النصوص فِي الترتيب، وحكي هَذَا رِوَايَة عَن أحمد،
ورجحها بعض المتأخرين من أصحابنا.
والمنصوص عَن أحمد: أَنَّهُ يصلي مَعَ الإمام الحاضرة،
ثُمَّ يقضي الفائتة، ثُمَّ يعيد الحاضرة؛ فإنه يحصل لَهُ
بعد ذَلِكَ الترتيب، ولا يكون مصلياً بعد إقامة الصلاة غير
الصلاة الَّتِيْ أقيمت.
ومن النَّاس من قَالَ: يفعل كذلك إذا خشي أن تفوته الجماعة
بالكلية، فإن رجا أن يدرك مَعَ الإمام شيئاً من الصلاة
فالأولى أن يشتغل بقضاء الفائتة، ثُمَّ يصلي الحاضرة مَعَ
الإمام، ويقضي مَا سبقه بِهِ.
وهذا ضَعِيف؛ فإن الَّتِيْ صلاها فِي جماعة لَمْ يعتد
بِهَا، بل قضاها، فَهِيَّ فِي معنى النافلة.
ومن أصحابنا من قَالَ: الأولى أن يشتغل بالقضاء وحده،
ثُمَّ إن أدرك مَعَ الإمام الحاضرة، وإلا صلاها وحده.
وفي هَذَا مخالفة لقوله: ((فإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا
الَّتِيْ أقيمت)) .
ومن أجاز أن يقتدي من يصلي فرضاً خلف من يصلي فرضاً آخر،
أجاز أن يقتدي بالإمام فِي الفائتة، ثُمَّ يصلي الحاضرة
بعدها، وأمر بذلك عَطَاء بْن أَبِي رباح.
وخرج البيهقي من رِوَايَة يَحْيَى بْن حَمْزَة: ثنا الوضين
بْن عَطَاء، عَن محفوظ بْن علقمة، عَن ابن عائذ، قَالَ:
دَخَلَ ثَلاَثَة من أصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس فِي صلاة العصر، قَدْ فرغوا
من صلاة الظهر، فصلوا مَعَ النَّاس، فلما فرغوا قَالَ
بعضهم لبعض: كَيْفَ صنعتم؟ قَالَ أحدهم: جعلتها الظهر،
ثُمَّ صليت العصر. وَقَالَ الآخر: جعلتها العصر، ثُمَّ
صليت الظهر. وَقَالَ الآخر: جعلتها للمسجد، ثُمَّ جعلتها
للظهر والعصر، فَلَمْ يعب بعضهم عَلَى بعضٍ.
وخرجه الجوزجاني: حَدَّثَنَا نعيم بْن حماد: ثنا بقية، عَن
الوضين بْن عَطَاء، عَن يزيد بْن مرثد، قَالَ: دَخَلَ مسجد
حمص ثَلاَثَة نفر من أصْحَاب
(6/65)
رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: شداد بْن أوس وعبادة بْن الصَّامِت وواثلة
بْن الأسقع، والإمام فِي صلاة العصر، وهم يرون أنها الظهر،
فَقَالَ أحدهم: هِيَ العصر، وأصلي الظهر. وَقَالَ الآخر:
هذه لِي الظهر، وأصلي العصر. وَقَالَ الثالث: أصلي الظهر،
ثُمَّ العصر، فَلَمْ يعب واحد منهم عَلَى صاحبيه.
(6/66)
39 - بَاب
حَدِّ المَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الجَمَاعَةَ
قوله: ((حد المريض)) ضبطه جماعة بالجيم المكسورة، والمعنى:
اجتهاد المريض أن يشهد الجماعة، ومنهم من ضبطه بالحاء
المهملة المفتوحة، وفسره بالعزم والحرص.
ابتدأ البخاري - رحمه الله - فِي ذكر الأعذار الَّتِيْ
يباح معها التخلف عَن شهود الجماعة، فمنها: المرض، وَهُوَ
عذر مبيح لترك الجماعة، ولهذا أمر النَّبِيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بَكْر أن يصلي بالناس،
وإنما خرج إلى الصلاة لما وجد من نفسه خفة.
وخروج المريض إلى المسجد ومحاملته أفضل، كما خرج النَّبِيّ
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهادى بَيْن رجلين.
وقد قَالَ ابن مَسْعُود: ولقد كَانَ الرَّجُلُ يهادي بَيْن
رجلين حَتَّى يقام فِي الصف.
ومتى كَانَ المريض لا يقدر عَلَى المشي إلى المسجد، وإنما
يقدر أن يخرج محمولاً لَمْ يلزمه الخروج إلى الجماعة.
ولو وجد الزمن من يتطوع بحمله لَمْ تلزمه الجماعة، وفي
لزوم الجمعة لَهُ بذلك وجهان لأصحابنا.
قَالَ ابن المنذر: ولا أعلم اختلافاً بَيْن أهل العلم أن
للمريض أن يتخلف عَن الجماعات من أجل المرض.
(6/67)
خرج البخاري فِي هَذَا الباب حَدِيْث
عَائِشَة فِي مرض النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - من طريقين:
الأول:
قَالَ:
(6/68)
664 – حَدَّثَنَا عُمَر بْن حفص بْن غياث:
ثنا أَبِي: ثنا الأعمش، عَن إِبْرَاهِيْم، عَن الأسود،
قَالَ: كنا عِنْدَ عَائِشَة، فذكرنا المواظبة عَلَى
الصلاة، والتعظيم لها. قَالَتْ: لما مرض النَّبِيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرضه الَّذِي مات
فِيهِ، فحضرت الصلاة، فأوذن، فَقَالَ: ((مروا أبا بَكْر
فليصل بالناس)) . فَقِيلَ لَهُ: إن أبا بَكْر رَجُل أسيف،
إذا قام مقامك لَمْ يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد، فأعادوا
لَهُ، فأعاد الثالثة، فَقَالَ: ((إنكن صواحب يوسف، مروا
أبا بَكْر فليصل بالناس)) . فخرج أبو بَكْر فصلى، فوجد
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نفسه
خفة، فخرج يهادى بَيْن رجلين، حَتَّى كأني أنظر إلى رجليه
تخطان الأرض من الوجع، فأراد أبو بَكْر أن يتأخر، فأوما
إليه النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن
مكانك.
ثُمَّ أتي بِهِ حَتَّى جلس إلى جنبه.
فَقِيلَ للأعمش: وكان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يصلي وأبو بَكْر يصلي بصلاته، والناس يصلون
بصلاة أَبِي بَكْر؟ فَقَالَ برأسه: نَعَمْ.
روى أبو داود، عَن شعبة، عَن الأعمش بعضه.
(6/68)
وزاد أبو معاوية: جلس عَن يسار أَبِي
بَكْر، فكان أبو بَكْر يصلي قائماً.
قَالَ الخطابي: الأسيف: الرقيق القلب، الَّذِي يسرع إليه
الأسف والحزن.
قَالَ: ويهادى: يحمل، يعتمد عَلَى هَذَا مرة وعلى هَذَا
مرة.
قَالَ: وقوله: ((صواحبات يوسف)) يريد النسوة اللاتي فتنه
وتعنتنه.
انتهى.
وكانت عَائِشَة هِيَ الَّتِيْ أشارت بصرف الإمامة عَن
أَبِي بَكْر؛ لمخافتها أن يتشاءم النَّاس بأول من خلف
رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي
الإمامة، فكان إظهارها لرقة أَبِي بَكْر خشية أن لا يسمع
النَّاس توصلاً إلى مَا تريده من صرف التشاؤم عَن أبيها.
ففيه نوع مشابهة لما أظهره النسوة مَعَ يوسف عَلِيهِ
السلام مِمَّا لا حقيقة لَهُ توصلاً إلى مرادهن.
وكان قصد النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
تقديم أَبِي بَكْر عَلَى النَّاس فِي أهم أمور الدين
حَتَّى تكون الدنيا تبعاً للدين فِي ذَلِكَ.
وفي الحَدِيْث: دليل عَلَى أن تخلف النَّبِيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن الخروج اولاً لشدة الوجع
عَلِيهِ، فأنه لَمْ يمكنه الخروج بالكلية، فلما وجد من
نفسه خفة فِي الألم خرج محمولاً بَيْن
رجلين، يعتمد عَلَيْهِمَا ويتوكأ، ورجلاه تخطان الأرض،
فَلَمْ يستطع أن يمشي برجليه عَلَى الأرض لقوة وجعه، بل
كَانَ يحمل حملاً.
ولما رأى أبو بَكْر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَدْ خرج أراد أن يتأخر تأدباً مَعَ النَّبِيّ
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأومأ إليه
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن مكانك،
أي: اثبت مكانك،
(6/69)
ثُمَّ أتي بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حَتَّى أجلس إلى جانب أَبِي بَكْر.
وليس فِي هذه الرواية تعيين الجانب الَّذِي أجلس النَّبِيّ
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ من أَبِي بكرٍ:
هَلْ هُوَ جانبه الأيمن أو الأيسر؟ وقد ذكر البخري أن أبا
معاوية زاد فِي حديثه عَن الأعمش: ((فجلس عَن يسار أَبِي
بَكْر)) .
وقد خرج البخاري فيما بعد عَن قتيبة، عَن أَبِي معاوية
كذلك.
وخرجه – أَيْضاً – من رِوَايَة عَبْد الله بْن داود
الخريبي، عَن الأعمش، ولفظه: فتأخر أبو بَكْر، وقعد
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى جنبه،
وأبو بَكْر يسمع النَّاس التكبير.
[وذكر] أن محاضر بْن المورع رواه الأعمش كذلك.
وخرجه مُسْلِم من رِوَايَة زكيع وأبي معاوية، كلاهما عَن
الأعمش، وفي حَدِيْث أَبِي معاوية عنده: فجاء رَسُول الله
حَتَّى جلس عَن يسار أَبِي بَكْر.
وخرجه – أَيْضاً – من طريق عَلِيّ بْن مسهر وعيسى بْن
يونس، كلاهما عَن الأعمش، وفي حديثهما: فأتي برسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أجلس إلى جنبه.
وخرج إِسْحَاق بْن راهويه فِي ((مسنده)) ، عَن وكيع، عَن
الأعمش
(6/70)
هَذَا الحَدِيْث، وَقَالَ فِيهِ: فجاء
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى جلس
عَن يمين أَبِي بَكْر، يقتدي بِهِ، والناس يقتدون بأبي
بَكْر.
وهذه زيادة غريبةُ.
وقد خرج الحَدِيْث الإمام أحمد فِي ((مسنده)) ، عَن وكيع،
ولم يذكر فِيهِ ذَلِكَ، بل قَالَ فِي حديثه: فجاء
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى جلس
إلى جنب أَبِي بَكْر، فكان أبو بَكْر يأتم بالنبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والناس يأتمون بأبي بَكْر.
وأما ذكر جلوسه عَن يسار أَبِي بَكْر، فتفرد بذلك أبو
معاوية عَن الأعمش، وأبو معاوية وإن كَانَ حافظاً لحديث
الأعمش خصوصاً، إلا أن ترك أصْحَاب الأعمش لهذه اللفظة
عَنْهُ توقع الريبة فيها، حَتَّى قَالَ الحافظ أبو بَكْر
بْن مفوز المعافري: إنها غير محفوظة، وحكاه عَن غيره من
العلماء.
وأما رِوَايَة أَبِي داود الطيالسي، عَن شعبة، عَن الأعمش
لبعض هَذَا الحَدِيْث، كما أشار إليه البخاري فإنه رَوَى
بهذا الإسناد عَن عَائِشَة، قَالَتْ: من النَّاس من
يَقُول: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي الصف، ومنهم من يَقُول: كَانَ النَّبِيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المقدم.
قَالَ البيهقي: هكذا رواه الطيالسي، عَن شعبة، عَن الأعمش،
وراية الجماعة عَن الأعمش كما تقدم [عَلَى الإثبات والصحة]
.
(6/71)
قُلتُ: قَدْ رَوَى غير واحد عَن شعبة، عَن
الأعمش، عَن إِبْرَاهِيْم، عَن الأسود، عَن عَائِشَة، أن
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى خلف
أَبِي بَكْر قاعداً.
وأما مَا ذكره حفص بْن غياث فِي روايته عَن الأعمش،
أَنَّهُ قيل للأعمش: فكان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وأبو بَكْر يصلي بصلاته والناس
يصلون بصلاة أَبِي بَكْر، فأشار برأسه: نَعَمْ، فإنه يشعر
بأن هذه الكلمات ليست من الحَدِيْث الَّذِي أسنده الأعمش،
عَن إِبْرَاهِيْم، عَن الأسود، عَن عَائِشَة، بل هِيَ
مدرجة، وقد أدرجها أبو معاوية ووكيع فِي حديثهما عَن
الأعمش.
ورواه [عَن همام] ، عَن الأعمش، فَلَمْ يذكر فِيهِ هَذَا
الكلمات بالكلية، وهذا – أَيْضاً – يشعر بإدراجها.
وقد رَوَى عُرْوَةَ، عَن عَائِشَة، أن النَّبِيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أَبَا بَكْر أن يصلي
بالناس فِي مرضه، فكان يصلي بهم. قَالَ عُرْوَةَ: فوجد
رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نفسه
خفة فخرج – فذكر معنى ذَلِكَ – أَيْضاً.
وهذا مدرج مصرح بإدراجه، وقد خرجه البخاري فيما بعد كذلك.
وروى الإمام أحمد: حَدَّثَنَا شبابة: ثنا شعبة، عَن سعد
بْن إِبْرَاهِيْم، عَن عُرْوَةَ، عَن عَائِشَة، قَالَتْ:
قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فِي مرضه: ((مروا أَبَا بَكْر أن يصلي بالناس)) – وذكر
الحَدِيْث، وفي آخره: فصلى أبو بَكْر، وصلى رَسُول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلفه قاعداً.
(6/72)
ولو كَانَتْ هذه الكلمات الَّتِيْ ذكرها
الأعمش فِي حديثه فِي هَذَا الحَدِيْث عَن عَائِشَة، فكيف
كَانَتْ تَقُول: من النَّاس من يَقُول: كَانَ أبو بَكْر
المقدم بَيْن يدي رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي الصف، ومنهم من يَقُول: كَانَ النَّبِيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المقدم.
وكذلك قَالَ ابن أخيها الْقَاسِم بْن مُحَمَّد فقيه
المدينة.
قَالَ عُمَر بْن شبة فِي ((كِتَاب أخبار المدينة)) :
حَدَّثَنَا زيد بْن يَحْيَى أبو الحسين: ثنا صخر بْن
جويرية، عَن عَبْد الرحمان بْن الْقَاسِم، أن رَسُول الله
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الصبح فِي
اليوم الَّذِي مات فِيهِ فِي المسجد، جَاءَ رَسُول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بَكْر يصلي فجلس
عِنْدَ رجليه، فمن النَّاس من يَقُول: كَانَ النَّبِيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ المتقدم، وعظم
الناس يقولون كَانَ أبو بَكْر هُوَ المتقدم.
قَالَ عُمَر بْن شبة: اختلف النَّاس فِي هَذَا، فَقَالَ
بعضهم: صلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
خلف أَبِي بَكْر. وَقَالَ أخرون: بل كَانَ أبو بَكْر يأتم
بتكبير النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
ويأتم النَّاس بتكبير أَبِي بَكْر.
وَقَالَ أبو بَكْر بْن المنذر: اختلفت الأخبار فِي صلاة
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مرضه
الَّذِي مات فِيهِ خلف أبي بَكْر، ففي بعض الأخبار: أن
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى
بالناس.
وفي بعضها: أن أَبَا بَكْر كَانَ المقدم. وقالت عَائِشَة:
صلى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلف
أبي بَكْر فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ. انتهى.
وهذا المروي عَن عَائِشَة، ان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى خلف أَبِي بَكْر فِي مرضه مِمَّا
يدل عَلَى أن هذه الألفاظ فِي آخر حَدِيْث الأعمش مدرجة،
ليست من حَدِيْث عَائِشَة.
وقد رَوَى شبابة، عَن شعبة، عَن نعيم بْن أَبِي هند، عَن
أَبِي وائل،
(6/73)
عَن مسروق، عَن عائشة، قَالَتْ: صلى
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلف أَبِي
بَكْر فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ.
خرجه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان فِي ((صحيحه)) .
وَقَالَ الترمذي: حسن صحيح.
وخرجه الإمام أحمد والنسائي من رِوَايَة بَكْر بْن عيسى،
عَن شعبة بهذا الإسناد، عَن عَائِشَة، أن أَبَا بَكْر صلى
بالناس والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي
الصف.
وقد رجح الإمام أحمد رِوَايَة بَكْر بْن عيسى عَلَى
رِوَايَة شبابة، وذكر أنها مخالفة لها.
وقد يقال: ليست مخالفة لها؛ فإن المراد بالصف صف
المأمومين، فهما إذن بمعنى واحد.
وروى هَذَا الحَدِيْث معتمر بْن سُلَيْمَان، عَن أبيه، عَن
نعيم بْن أَبِي هند، عَن أَبِي وائل، أحسبه عَن مسروق، عَن
عَائِشَة – فذكرت حَدِيْث مرض النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وصلاة أَبِي بَكْر. قَالَتْ: ثُمَّ
أفاق رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فجاءت نوبة وبريرة فاحتملاه، فلما أحس أبو بَكْر بمجيئه
أراد أن يتأخر، فأومأَ إليه أن اثبت. قَالَ: وجيء بنبي
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضع بحذاء
أَبِي بَكْر فِي الصف.
خرجه ابن حبان فِي ((صحيحه)) .
ومنعه من التأخر يدل عَلَى أَنَّهُ أراد أن يستمر عَلَى
إمامته.
(6/74)
وخرجه ابن حبان – أَيْضاً – من طريق عاصم،
عَن أَبِي وائل، عَن مسروق، عَن عَائِشَة، وزاد فِيهِ:
فكان رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يصلي وَهُوَ جالس، وأبو بَكْر قائم يصلي بصلاة رَسُول الله
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والناس يصلون بصلاة
أَبِي بَكْر.
ولكن عاصم، هُوَ ابن أَبِي النجود، ليس بذاك الحافظ.
وروى شعبة، عَن موسى بْن أَبِي عَائِشَة، عَن عُبَيْدِ
الله بْن عَبْد الله بْن عُتْبَة، عَن عَائِشَة، أن أَبَا
بَكْر صلى بالناس، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي الصف خلفه.
خرجه ابن حبان فِي ((صحيحه)) من طريق بدل بْن المحبر، عَن
شعبة.
وبدل، وثقة غير واحد، وخرج لَهُ البخاري فِي ((صحيحه)) ،
وإن تكلم فِيهِ الدراقطني.
خالفه فِيهِ أبو داود الطيالسي:
خرجه الإمام أحمد: حَدَّثَنَا أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة
بهذا الإسناد، عَن عَائِشَة، أن رَسُول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أَبَا بَكْر أن يصلي
بالناس فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ، فكان رَسُول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْن يدي أَبِي بَكْر
يصلي بالناس قاعداً، وأبو بَكْر يصلي بالناس، والناس خلفه.
وكذا رواه زائدة، عَن موسى بْن أَبِي عَائِشَة.
وقد خرج حديثه البخاري فيما بعد بسياق مطول، وفيه: أن
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(6/75)
خرج بَيْن رجلين – أحدهما العباس – لصلاة
الظهر – وذكر بقية الحَدِيْث بمعنى مَا رواه أبو معاوية
ووكيع وغيرهما عَن الأعمش.
وقد ذكر ابن أَبِي حاتم فِي كِتَاب ((الجرح والتعديل))
لَهُ عَن أَبِيه، قَالَ: يريبني حَدِيْث موسى بْن أَبِي
عَائِشَة فِي صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي مرضه. قُلتُ: كَيْفَ هُوَ؟ قَالَ: صالح
الحَدِيْث. قُلتُ: يحتج بِهِ؟ قَالَ: يكتب حديثه.
قُلتُ: وقد اختلف عَلِيهِ فِي لفظه، فرواه شعبة، عَنْهُ،
كما تقدم، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صلى فِي الصف خلف أَبِي بَكْر.
ورواه زائدة، واختلف عَنْهُ: فَقَالَ الأكثرون، عَنْهُ: إن
أَبَا بَكْر كَانَ يصلي وَهُوَ قائم بصلاة النَّبِيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قاعد، والناس
يأتمون بصلاة أَبِي بَكْر.
ورواه عَبْد الرحمان بْن مهدي، عَن زائدة، وَقَالَ فِي
حديثه: فصلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- خلف أَبِي بَكْر قاعداً، وأبو بَكْر يصلي بالناس وَهُوَ
قائم يصلي.
وقد رجح الإمام أحمد رِوَايَة الأكثرين عَن زائدة عَلَى
رِوَايَة ابن مهدي.
وليس ائتمام أَبِي بَكْر بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - صريحاً فِي أنه كَانَ مأموماً، بل يحتمل
أَنَّهُ كَانَ يراعي فِي تلك الصلاة حال النَّبِيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضعفه، وما هُوَ أهون
عَلِيهِ، كما قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لعثمان بْن أَبِي العاص لما جعل إمام
(6/76)
قومه: ((اقتد بأضعفهم)) .
أي: راع حال الأضعف، وصل صلاةً لا تشق عليهم.
وقد اختلف العلماء: هَلْ كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إماماً لأبي بَكْر فِي هذه الصلاة،
أو كَانَ مؤتماً بِهِ؟
وقد تقدم عَن عَائِشَة والقاسم بْن مُحَمَّد، أنهما ذكرا
هَذَا الاختلاف، وأن الْقَاسِم قَالَ: عظم النَّاس يَقُول:
أبو بَكْر كَانَ هُوَ المقدم – يعني: فِي الإمامة -،
وعلماء أهل المدينة عَلَى هَذَا القول، وهم أعلم النَّاس
بهذه القصة.
وذكر ابن عَبْد البر فِي ((استذكاره)) أن ابن الْقَاسِم
رَوَى عَن مَالِك، عَن رَبِيعَة بْن أَبِي عَبْد الرحمان،
أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج
وَهُوَ مريض، وأبو بَكْر يصلي بالناس، فجلس إلى أَبِي
بَكْر، فكان أبو بَكْر هُوَ الإمام، وكان رَسُول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بصلاة أَبِي
بَكْر، وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((مَا مات نبي حتى يؤمه رَجُل من أمته)) .
قَالَ ابن الْقَاسِم: قَالَ مَالِك: العمل عندنا عَلَى
حَدِيْث رَبِيعَة هَذَا، وَهُوَ أحب إلي.
قَالَ سحنون: بهذا الحَدِيْث يأخذ ابن الْقَاسِم.
أما مذهب الشَّافِعِيّ وأحمد، فهو أن هذه الصلاة الَّتِيْ
حكتها عَائِشَة كَانَ
رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ
الإمام فيها لأبي بَكْر، ثُمَّ اختلفا:
فَقَالَ أحمد: كَانَ أبو بَكْر إماماً للناس – أَيْضاً -،
فكانت تلك الصلاة بإمامين.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ: بل كَانَ مأموماً، وَهُوَ الَّذِي
ذهب إليه البخاري والنسائي.
(6/77)
وفرع عَلَى هَذَا الاختلاف مسألة الصلاة
بإمامين، ومسألة الصلاة قاعداً أو قائماً خلف الإمام
القاعد، وسيأتي ذَلِكَ مبسوطاً فِي مواضعه – إن شاء الله
تعالى.
ولم ينف الشَّافِعِيّ ولا أكثر أصْحَاب الإمام أحمد أن
يكون النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ائتم
بأبي بَكْر فِي غير هذه الصلاة، بل قَالَ الشَّافِعِيّ:
لَوْ صلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
خلف أَبِي بَكْر مرة لَمْ يمنع ذَلِكَ أن يكون صلى خلفه
مرة أخرى.
وكذلك ذكر أبو بَكْر عَبْد العزيز بْن جَعْفَر من أصحابنا
فِي كتابه ((الشَّافي)) ، وكذلك ذكره ابن حبان ومحمد بْن
يَحْيَى الهمداني فِي ((صحيحيهما)) ، والبيهقي وغيرهم.
وكذلك صنف أبو عبي البرداني وعبد العزيز بْن زهير الحربي
من أصحابنا فِي إثبات صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلف أَبِي بَكْر.
ورد ذَلِكَ أبو الفرج ابن الجوزي، وصنف فِيهِ مصنفاً،
وَهُوَ يشتمل عَلَى أوهام كثيرة.
وقد ذكر كثير من أهل المغازي والسير أن رَسُول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى خلف أَبِي بَكْر
فِي مرضه، منهم: موسى بْن عقبة، وَهُوَ أجل أهل المغازي،
وذكر أن صلاته خلفه كَانَتْ صلاة الصبح يوم الإثنين،
وَهُوَ آخر صلاة
(6/78)
صلاها، وذكره عَن ابن شِهَاب الزُّهْرِيّ.
وروى ابن لهيعة، عَن أَبِي الأسود، عَن عُرْوَةَ - مثله.
وقد تقدم عَن الْقَاسِم بْن مُحَمَّد نحوه.
وروي عَن الْحَسَن – أَيْضاً.
ولذلك رجحه ابن حبان والبيهقي وغيرهما.
وجمع البيهقي فِي ((كِتَاب المعرفة)) بَيْن هَذَا وبين
حَدِيْث الزُّهْرِيّ عَن أنس:
أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كشف
الستر فِي أول الصلاة، ثُمَّ وجد خفة فِي الركعة الثانية
فخرج فصلاها خلف أَبِي بَكْر، وقضى الركعة الَّتِيْ فاتته.
وخرج ابن سعد فِي ((طبقاته)) هَذَا المعنى من تمام حَدِيْث
عَائِشَة وأم سَلَمَة وأبي سَعِيد بأسانيد فيها مقال.
والله أعلم.
وبإسناد صحيح، عَن عُبَيْدِ بْن عمير – مرسلاً.
وروى ابن إِسْحَاق: حَدَّثَنِي يعقوب بْن عُتْبَة، عَن
الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَةَ، عَن عَائِشَة، قَالَتْ: رجع
رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي
ذَلِكَ اليوم حِينَ دَخَلَ المسجد، غاضطجع فِي حجري –
ثُمَّ ذكرت قصة السواك الأخضر -، وقبض رَسُول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ.
خرجه الإمام أحمد.
وَهُوَ دليل عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَانَ قَدْ خرج إلى المسجد ذَلِكَ اليوم.
(6/79)
وفي ((مسند الإمام أحمد)) أن المغيرة بْن
شعبة سئل: هَلْ أم النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - رَجُل من هذه الأمة غير أَبِي بَكْر الصديق؟
فَقَالَ: نَعَمْ، كنا فِي سفر – ثُمَّ ذكر قصة صلاة
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وراء عَبْد
الرحمان بْن عوف.
وذكر ابن سعد فِي ((طبقاته)) عَن الواقدي، أَنَّهُ قَالَ:
هَذَا الَّذِي ثبت عندنا: أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى خلف أَبِي بَكْر.
وفي صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
خلف أَبِي بَكْر أحاديث كثيرة يطول ذكرها هاهنا.
وقد خرج الترمذي من حَدِيْث حميد، عَن ثابت، عَن أنس،
قَالَ: صلى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فِي مرضه خلف أَبِي بَكْر قاعداً، فِي ثوب متوشحاً بِهِ.
وَقَالَ: حسن صحيح.
وخرجه –أَيْضاً– ابن حبان فِي ((صحيحه)) ، وصححه العقيلي
وغير واحد.
وقد رواه جماعة عَن حميد، عَن أنس – من غير واسطة.
واختلف الحفاظ فِي الترجيح؛ فرجحت طائفة قَوْلِ من أدخل
بَيْنَهُمَا ((ثابتاً)) ، منهم: الترمذي وأبو حاتم
الرَّازِي. ومنهم من رجح إسقاطه، ومنهم: أبو زُرْعَة
الرَّازِي. والله تعالى أعلم.
(6/80)
الطريق الثاني:
قَالَ:
(6/81)
665 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْم بم موسى:
ثنا هِشَام بْن يوسف، عَن معمر، عَن
الزُّهْرِيّ، قَالَ: أخبرني عُبَيْدِ الله بْن عَبْد الله،
قَالَ: قَالَتْ عَائِشَة: لما ثقل رَسُول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واشتد وجعه استأذن أزواجه أن
يمرض فِي بيتي، فأذن لَهُ، فخرج بَيْن رجلين، تخط رجلاه
الأرض، وكان بَيْن عَبَّاس ورجل آخر.
قَالَ عُبَيْدِ الله: فذكرت ذَلِكَ لابن عَبَّاس مَا
قَالَتْ عَائِشَة، فَقَالَ لِي: وهل تدري من الرَّجُلُ
الَّذِي لَمْ تسم عَائِشَة؟ قُلتُ: لا. قَالَ: هُوَ عَلِيّ
بْن أَبِي طالب.
وقد رواه عَبْد الرزاق، عَن معمر، وذكر فِي حديثه: الفضل
بْن عَبَّاس.
خرجه مُسْلِم من طريقه كذلك.
وخرجه من طريق عقيل، عَن الزُّهْرِيّ، وذكر فِي حديثه:
العباس، كما قَالَ هِشَام، عَن معمر.
وخرجه البخاري فِي ((وفاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) من حَدِيْث عقيل مطولاً.
وقد فهم البخاري من خروجه بَيْن عَبَّاس وغيره خروجه إلي
المسجد للصلاة.
وكذلك خرجه مُسْلِم فِي ((كِتَاب الصلاة)) – أَيْضاً.
(6/81)
وفي هَذَا نظر؛ وظاهر السياق يقتضي أنها
أرادت خروجه إلى بيت عَائِشَة ليمرض فِيهِ.
يدل عَلِيهِ: أن فِي رِوَايَة عَبْد الرزاق، عن معمر
الَّتِيْ خرجها مُسْلِم: أول مَا اشتكى رَسُول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيت ميمونة، فاستأذن
أزواجه أن يمرض فِي بيتها، فأذن لَهُ. قَالَتْ: فخرج ويد
لَهُ عَلَى الفضل - الحَدِيْث.
رواه ابن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ بلفظ صريح بذلك: أن
عَائِشَة قَالَتْ: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدور عَلَى نسائه، فلما ثقل استأذنهن
أن يقيم فِي بيتي، ويدرن عَلِيهِ.
قَالَتْ: فذهب ينوء فَلَمْ يستطع، فدخل عَلِيّ رَسُول الله
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْن رجلين، ورجلاه
تخطان فِي الأرض؛ أحدهما العباس.
ورواه عَبْد الرحمان بْن إِسْحَاق، عَن الزُّهْرِيّ، عَن
عُرْوَةَ والقاسم وأبي بَكْر ابن عَبْد الرحمان وعبيد الله
بْن عَبْد االله، كلهم يحدثونه عَن عَائِشَة، عَن
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: جاءه مرضه
الَّذِي مات فِيهِ في بيت ميمونة، فخرج عاصباً رأسه، فدخل
عَلِيّ بَيْن رجلين، تخط رجلاه الأرض، وعن يمينه العباس -
وذكر الحَدِيْث.
وكذا رواه صالح بْن كيسان، عَن ابن شِهَاب - مرسلاً:
أَنَّهُ خرج بَيْن الرجلين تخط رجلاه الأرض، حَتَّى دَخَلَ
بيت عَائِشَة.
وحينئذ؛ فلا ينبغي تخريج هَذَا الحَدِيْث فِي هَذَا الباب،
ولا هُوَ داخل فِي معناه بالكلية. والله سبحانه وتعالى
أعلم.
(6/82)
40 - بَاب
الرُّخْصَةِ فِي المَطَرِ وَالعِلَّةِ أنْ يُصَلِّي فِي
رَحْلِهِ
فِيهِ حديثان:
الأول:
(6/83)
666 – حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف: أنا
مَالِك، عَن نَافِع، أن ابن عُمَر أذن بالصلاة فِي ليلة
ذات برد وريح، ثُمَّ قَالَ: ألا صلوا فِي الرحال، ثُمَّ
قَالَ: إن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- كَانَ يأمر المؤذن إذا كَانَتْ ليلة برد ومطر يَقُول:
((ألا صلوا فِي الرحال)) .
قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث فِي ((بَاب: الأذان للمسافرين
إذا كانوا جماعة)) ، خرجه البخاري هناك من رِوَايَة
عُبَيْدِ الله بْن عُمَر، عَن نَافِع، قَالَ: أذن ابن
عُمَر فِي ليلة باردةٍ بضجنان، ثُمَّ قَالَ صلوا فِي
رحالكم، وأخبرنا أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَانَ يأمر مؤذناً يؤذن، ثُمَّ يَقُول عَلَى
أثره: ((ألا صلوا فِي الرحال فِي الليلة الباردة أو
المطيرة فِي السفر)) .
ففي هذه الرواية: أن ذَلِكَ كَانَ فِي السفر، وأنه كَانَ
فِي الليلة الباردة أو المطيرة.
وليس ذكر السفر فِي رِوَايَة مَالِك، وفي روايته: إذا
كَانَتْ ليلة ذات برد ومطر.
وظاهرة: الجمع بَيْن البرد والمطر فِي ليلة
(6/83)
واحدة.
وروى ابن إسحاق هَذَا الحَدِيْث، عَن نَافِع، عَن ابن
عُمَر، قَالَ: نادى منادي رَسُول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذاك فِي المدينة فِي الليلة
المطيرة، أو الغداة القرة.
خرجه أبو داود.
ولا نعلم ذكر المدينة فِي حَدِيْث ابن عُمَر فِي هذه
الرواية، ورواية عُبَيْدِ الله أصح.
وأكثر أهل العلم عَلَى أن المطر والطين عذر يباح مَعَهُ
التخلف عَن حضور الجمعة والجماعات، ليلاً ونهاراً.
قَالَ الترمذي: قَدْ رخص أهل العلم فِي القعود عَن الجماعة
والجمعة فِي المطر والطين. وسمى منهم: أحمد وإسحاق.
وحكاه بعض أصحابنا عَن جمهور العلماء.
وحكي عَن مَالِك: أن المطر ليس بعذر فِي ترك الجمعة خاصة.
وروي نحوه عَن نَافِع مَوْلَى ابن عُمَر.
وَقَالَ سُفْيَان الثوري: لا يرخص لأحد فِي ترك الجمعة إذا
كَانَ فِي مصر يجمع فِي، إلا لمرض مضن، أو خوف مقطع.
وحكي عَن أحمد رِوَايَة أخرى: أن المطر والوحل ليس بعذر
فِي الحضر، إنما هُوَ عذر فِي السفر؛ لأن الأحاديث الصحيحة
إنما جاءت بذلك فِي السفر، كحديث ابن عُمَر، وفي ((صحيح
مُسْلِم)) من حَدِيْث جابر – نحوه،
(6/84)
وليس فِي الحضر إلا حَدِيْث ابن إِسْحَاق
المتقدم، وحديث يروى عَن نعيم النحام، وقد ذكرناه فِي
((أبواب: الأذان)) ، وفي إسناده مقال.
ومقتضى هَذَا القول: أن الجمعة لا يباح تركها بذلك؛ لأنها
لا تكون إلافي الحضر، ولكن قَدْ روي عَن جماعة من
الصَّحَابَة أَنَّهُ يعذر فِي ترك الجمعة بالمطر والطين.
منهم: ابن عَبَّاس وعبد الرحمان بْن سمرة وأسامة بن عمير
والد أَبِي المليح، ولا يعرف عَن صحابي خلافهم، وقولهم أحق
أن يتبع.
وروى هِشَام، عَن قتدة، قَالَ: قَالَ مُحَمَّد بْن سيرين:
مَا كَانَ يختلف إذا كَانَ يوم الجمعة فِي يوم مطر فِي
الرخصة للرجل أن يجلس عَن الجمعة فِي بيته.
خرجه الفريابي فِي ((كِتَاب الصلاة)) .
وذكر ابن المنذر: أن المطر عذر فِي الليلة المطيرة.
وهذا يفهم مِنْهُ أَنَّهُ لا يكون عذراً فِي النهار؟ لأن
حَدِيْث ابن عُمَر إنما فِيهِ ذكر الليل.
ولكن رَوَى قتادة، عَن أَبِي المليح بْن أسامة، عَن
أَبِيه، أن يوم حنين كَانَ يوم مطر، فأمر رَسُول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مناديه: أن الصلاة فِي
الرحال.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان
(6/85)
فِي
((صحيحيهما)) ، والحاكم.
وخرجه أبو داود – أَيْضاً – من طريق أَبِي قلابة، عَن
أَبِي المليح، عَن أَبِيه، أَنَّهُ شهد مَعَ رَسُول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زمان الحديبية فِي يوم
جمعة، وأصابهم مطر لَمْ يبل أسفل نعالهم، فأمرهم أن يصلوا
فِي رحالهم.
وخرجه الإمام أحمد من حَدِيْث شعبة، عَن عَمْرِو بْن أوس،
عَن رَجُل، حدثه مؤذن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، قَالَ: نادى منادي رَسُول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يوم مطر: صلوا فِي الرحال.
وروي من حَدِيْث نعيم النحام، أن ذَلِكَ كَانَ فِي أذان
الصبح، وقد سبق ذكره.
ولأن الصَّحَابَة جعلوا المطر والطين عذراً فِي ترك
الجمعة، والجمعة إنما تقام نهاراً، فعلم أن ذَلِكَ عندهم
عذر فِي الليل والنهار.
وقد روي فِي حَدِيْث مرسل، خرجه وكيع عَن المغيرة بْن
زياد، عَن عَطَاء، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَانَ فِي سفر، فأصابهم مطر، فصلى بالناس فِي
(6/86)
رحالهم، وبلال يسمع النَّاس التكبير.
وَهُوَ مرسل.
وَهُوَ يدل عَلَى أنهم صلوا جماعة، لكن كل إنسان صلى فِي
رحله، وهذا غريب جداً.
وأما الريح الشديدة الباردة، فَقَالَ أصحابنا: هِيَ عذر
فِي ترك الجماعة فِي الليلة المظلمة خاصة.
الحَدِيْث الثاني:
(6/87)
667 – حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل، قَالَ:
حَدَّثَنِي مَالِك، عَن أَيْنَ شِهَاب، عَن محمود بْن
الربيع الأنصاري، أن عتبان بْن مَالِك كَانَ يؤم قومه
أعمى، وأنه قَالَ لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: يَا رَسُول الله، إنها تكون الظلمة السيل،
وأنا رَجُل ضرير البصر، فصل يَا رَسُول الله فِي بيتي
مكاناً أتخذه مصلى. فجاءه رَسُول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: ((أين تحب أن أصلي؟))
فأشار إلى مكان من البيت، فصلى فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث فِي ((بَاب: المساجد فِي
البيوت)) ، من ((أبواب: المساجد)) .
وخرجه البخاري هناك بسياق مطول، من حَدِيْث عقيل، عَن
الزُّهْرِيّ، وتكلمنا هناك عَلَى فوائد الحَدِيْث بما
فِيهِ كفاية – إن شاء الله – وذكر الكلام عَلَى التخلف عَن
حضور المسجد للعمى وللسيول والظلمة.
ولا ريب أن من كَانَ بصره ضعيفاً، وفي طريقه سيول، فإنه
معذور فِي
(6/87)
الخروج إلى المسجد ليلاً؛ فإنه ربما خشي
عَلَى نفسه التلف، والجماعة يسقط حضورها بدون ذَلِكَ.
وذكرنا هناك حَدِيْث ابن أم مكتوم، وأن النَّبِيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يرخص لَهُ فِي التخلف عَن
المسجد، مَعَ كونه ضريراً ولا يجد قائداً يلائمه، ويخشى
فِي طريقه الهوام، ووجه الجمع بَيْن الحديثين بما فِيهِ
كفاية.
(6/88)
|