فتح الباري لابن رجب

41 - بَاب
هَلْ يُصَلِّي الإمَامُ بمَنْ حَضَرَ
وهَلْ يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ فِي المَطَرِ؟
يعني بهذا الباب: أن المطر والطين، وإن كَانَ عذراً فِي التخلف عَن الجماعة فِي المسجد، إلا أَنَّهُ عذر لآحاد النَّاس، وأما الإمام فلا يترك الصلاة لذلك فِي المسجد، ويصلي جماعة فِي المسجد بمن حضر، وكذلك يوم الجمعة لا يترك الخطبة وصلاة الجمعة فِي المسجد بمن حضر فِيهِ، إذا كانوا عدداً تنعقد بهم الجمعة، وإنما يباح لآحاد النَّاس التخلف عَن الجمعة والجماعات فِي المطر ونحوه، إذا أقيم شعارهما فِي المساجد.
وعلى هَذَا، فلا يبعد أن يكون إقامة الجماعات والجمع فِي المساجد فِي حال الأعذار كالمطر فرض كفاية لا فرض عين، وأن الإمام لا يدعهما.
وَهُوَ قريب من قَوْلِ الإمام أحمد فِي الجمعة إذا كَانَتْ يوم عيد، أَنَّهُ يسقط حضور الجمعة عمن حضر العيد، إلا الإمام ومن تنعقد بِهِ الجمعة؛ فتكون الجمعة حينئذ فرض كفاية. والله أعلم.
ولا شك أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لا يترك إقامة الجمع فِي المطر، ويدل عَلِيهِ: أَنَّهُ لما استسقى للناس عَلَى المنبر يوم الجمعة، ومطروا من ذَلِكَ الوقت إلى الجمعة الأخرى، أقام الجمعة الثانية فِي ذَلِكَ المطر حَتَّى شكي إليه كثرة المطر فِي خطبته يومئذ، فدعا الله بإمساك المطر عَن المدينة، وسيأتي الحَدِيْث

(6/89)


فِي ((الجمعة)) و ((الاستسقاء)) – إن شاء الله - سبحانه وتعالى -.
خرج فِي هَذَا الباب ثَلاَثَة أحاديث:
الحَدِيْث الأول:
قَالَ:

(6/90)


668 – حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن عَبْد الوهاب: ثنا حماد بْن زيد: ثنا عَبْد الحميد - صاحب الزيادي -، قَالَ: سَمِعْت عَبْد الله بْن الحارث، قَالَ: خطبنا ابن عَبَّاس فِي يوم ذي رذع، فأمر المؤذن لما بلغ ((حي عَلَى الصلاة)) ، قَالَ: قل: ((الصلاة فِي
الرحال)) . فنظر بعضهم إلى بعض، كأنهم أنكروا. فَقَالَ: كأنكم أنكرتم هَذَا، إن هَذَا فعله من هُوَ خير مني – - يعني: رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انها عزمة، وإني كرهت أن أحرجكم.
وعن حماد، عَن عاصم، عَن عَبْد الله بْن الحارث، عَن ابن عَبَّاس – نحوه، غير أَنَّهُ قَالَ: كرهت أن أؤثمكم فتجيئون تدوسون الطين إلى ركبكم.
قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث فِي ((بَاب: الكلام فِي الأذان)) ، وفسرنا هنالك معنى
((الروغ)) .
وقوله: ((إنها عزمة)) – يعني: الجمعة – والمراد: أَنَّهُ إذا دعا النَّاس إليها بقول المؤذن: ((حي عَلَى الصلاة)) ، فَقَدْ عزم عَلَى النَّاس كلهم أن يأتوه، فليزمهم ذَلِكَ؛ فلذلك أبدله بقوله: ((صلوا فِي رحالكم)) .

(6/90)


وقوله: ((كرهت أن أحرجكم)) : أي أشدد عليكم، وأضيق بإخراجكم إلى المساجد فِي الطين. والحرج: الشدة والضيق.
وفي الرواية الأخرى: ((كرهت أن أؤثمكم)) ، كأنه يريد إذا دعاهم إلى هذه الصلاة فِي هَذَا اليوم خشي عليهم الإثم إذا تخلفوا عَن الصلاة مَعَ دعائهم إليها، فإذا خرجوا حرجوا بخوضهم فِي الطين إلى ركبهم، وإن قعدوا أثموا.
وظاهر هَذَا: يدل عَلَى أن ابن عَبَّاس يرى أن الإمام إذا دعا النَّاس إلى الجمعة فِي الطين والمطر لزمتهم الإجابة، وإنما يباح لأحدهم التخلف إذا نادى: ((الصلاة فِي الرحال)) . والله أعلم.
وقد نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الإمام أحمد، فيما رواه البيهقي فِي ((مناقب أحمد)) بإسناده، عَن مُحَمَّد بْن رافع، قَالَ: سَمِعْت أحمد بْن حنبل يَقُول: إن قَالَ المؤذن فِي أذانه: (الصلاة فِي الرحال)) ، فلك أن تتخلف، وإن لَمْ يقل فَقَدْ وجب عَلَيْك، إذا قَالَ: ((حي عَلَى الصلاة، حي عَلَى الفلاح)) .
الحَدِيْث الثاني:
قَالَ:

(6/91)


669 – حَدَّثَنَا مُسْلِم، قَالَ: ثنا هِشَام، عَن يَحْيَى، عَن أَبِي سَلَمَة، قَالَ: سألأت أَبَا سَعِيد الْخُدرِيَّ، قَالَ: جاءت سحابة بمطر حَتَّى سَأَلَ السقف، وكان من جريد النخل، فأقيمت الصلاة، فرأيت رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد فِي الماء والطين، حَتَّى رأيت أثر الطين فِي جبهته.
هَذَا الحَدِيْث قطعة مختصرة من حَدِيْث سؤال أَبِي سَلَمَة لأبي سَعِيد

(6/91)


عَن ليلة القدر، وقد خرجه بتمامه فِي ((الصيام)) و ((الاعتكاف)) .
والمقصود مِنْهُ هاهنا: أن النَّاس مطروا من الليل فِي رمضان، فسال السقف، وكان من جريد النخل، حَتَّى صار الطين فِي أرض المسجد، ومع هَذَا فَقَدْ أقيمت الصلاة، وصلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالناس فِيهِ، ولما انصرف من صلاة الصبح رئي أثر الطين فِي جبهته، ولم يتخلف عَن الصلاة فِي المسجد ولا عَن الأذان والإقامة فِيهِ، فدل عَلَى أن المطر يعذر فِي التخلف عَن الجماعة فِيهِ آحاد النَّاس، أو من منزلة بعيد عَن المسجد بحيث يشق عَلِيهِ قصد المسجد، فأما الإمام ومن قرب المسجد فلا يخلون بإقامة الجماعة فِيهِ. والله أعلم.
الحَدِيْث الثالث:

(6/92)


670 – حَدَّثَنَا آدم، قَالَ: ثنا شعبة: ثنا أنس بْن سيرين، قَالَ: سَمِعْت أنساً يَقُول: قَالَ رَجُل من الأنصار: إني لا أستطيع الصلاة معك، وكان رجلاً ضخماً، فصنع للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طعاماً، فدعاه إلى منزله، فبسط لَهُ حصيراً ونضح طرف الحصير، فصلى عَلِيهِ ركعتين.
فَقَالَ رَجُل من آل الجارود لأنس: أكان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الضحى؟ قَالَ: مَا رأيته صلاها إلا يومئذ.
فِي هَذَا الحَدِيْث: أن من كَانَ ثقيل البدن يشق عَلِيهِ المشي إلى المسجد، فإنه يعذر لترك الجماعة لذلك.
وليس فِي الحَدِيْث ذكر عذر لترك الجماعة سوى كونه ضخماً، وأنه لا يستطيع الصلاة مَعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مسجده، ولعل منزله كَانَ بعيداً من المسجد.

(6/92)


والظاهر: أن هَذَا الرَّجُلُ غير عتبان بْن مَالِك؛ فإن ذاك كَانَ عذره العمى، مَعَ بعد المنزل، وحيلولة السيول بينه وبين المسجد.

(6/93)


42 - بَاب
إذا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ
وكان ابن عُمَر يبدأ بالعشاء.
وَقَالَ أبو الدرداء: من فقه الرَّجُلُ إقباله عَلَى حاجته حَتَّى يقبل عَلَى صلاته وقلبه فارغ.
أما المروي عَن ابن عُمَر، فَقَدْ أسنده البخاري فِي هَذَا الباب، وسيأتي - إن شاء الله.
وأما المروي عَن أَبِي الدرداء [..................................] .
وقد روي نحوه عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: لا نقوم إلى الصلاة وفي أنفسنا شيء.
ذكره الترمذي فِي ((جامعه)) تعليقاً، وخرجه وكيع فِي ((كتابه)) عَن شريك، عَن عُثْمَان الثَّقَفِيّ، عَن زياد مَوْلَى ابن عياش، أن ابن عَبَّاس كَانَ ينتظر الطعام.
فحضرت الصلاة، فَقَالَ: انتظروا، لا يعرض لنا فِي صلاتنا.

(6/94)


وهذا يدل عَلَى أَنَّهُ كَانَ يؤخر الصلاة إذا كَانَ في انتظار الطعام وإن لَمْ يكن حاضراً، وعلله بخشية أن يعرض لَهُ فِي صلاته – يعني: ذكره، وتحديث النفس بِهِ.
وروى وكيع – أَيْضاً – عَن شريك، عَن أَبِي إِسْحَاق، قَالَ: قَالَ الْحَسَن: أذهب للنفس اللوامة أن يبدأ بالطعام.
خرج البخاري من هَذَا الباب ثَلاَثَة أحاديث.
الحَدِيْث الأول:

(6/95)


671 – حَدَّثَنَا مسدد: ثنا يَحْيَى، عَن هِشَام: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: سَمِعْت عَائِشَة، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: ((إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء)) .
الحَدِيْث الثاني:

(6/95)


672 – حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن بكير، ثنا الليث، عَن عقيل، عَن ابن شِهَاب، عَن أنس ابن مَالِك، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((إذا قدم العشاء فابدءوا بِهِ قَبْلَ أن تصلوا المغرب، ولا تعجلوا عَن عشائكم)) .
الحَدِيْث الثالث:

(6/95)


673 – حَدَّثَنَا عُبَيْدِ بْن إِسْمَاعِيل، عَن أَبِي أسامة، عَن عُبَيْدِ الله، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا وضع عشاء أحدكم

(6/95)


وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء، ولا يعجل حَتَّى يفرغ مِنْهُ)) .
وكان ابن عُمَر يوضع لَهُ الطعام، وتقام الصلاة، فلا يأتيها حَتَّى يفرغ، وإنه يسمع قراءة الإمام.

(6/96)


674 – وَقَالَ زهير ووهب بْن عُثْمَان، عَن موسى بْن عقبة، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا كَانَ أحدكم عَلَى الطعام فلا يعجل حَتَّى يقضي حاجته مِنْهُ، وإن أقيمت الصلاة)) .
قَالَ أبو عَبْد الله: رواه إِبْرَاهِيْم بْن المنذر، عَن وهب بْن عُثْمَان.
ووهب مديني.
حَدِيْث عَائِشَة، قَدْ خرجه – أَيْضاً – فِي ((الأطعمة)) من رِوَايَة وهيب.
وسفيان الثوري، عَن هِشَام بْن عُرْوَةَ، بِهِ.
وحديث أنس، قَدْ خرجه فِي ((الأطعمة)) من طريق أيوب، عَن أَبِي قلابة، عَن أنس، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَالَ: عَن أيوب، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه.
وعن أيوب، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، أَنَّهُ تعشى وَهُوَ يسمع قراءة الإمام.

(6/96)


وحديث موسى بْن عقبة الَّذِي علقه البخاري، قَدْ خرجه مُسْلِم من رِوَايَة أَبِي ضمرة، عَن موسى، ولم يذكر لفظه، لكنه قَالَ: بنحو رِوَايَة عُبَيْدِ الله بْن عُمَر.
وخرجه البيهقي من طريق سويد بْن سَعِيد، عَن حفص بْن ميسرة، عَن موسى بْن عقبة، ولفظه: إن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((إذا كَانَ أحدكم عَلَى الطعام فلا يعجلن حَتَّى يقضي حاجته مِنْهُ، وإن أقيمت الصلاة)) .
ثُمَّ قَالَ: وبهذا اللفظ رواه زهير بْن معاوية ووهب بْن عُثْمَان، عَن موسى ابن عقبة، وأشار البخاري إلى روايتهما.
قُلتُ: وإنما أشار البخاري إليه؛ لأن لفظه صريح فِي أن من شرع فِي عشائه ثُمَّ أقيمت الصلاة فلا يقم إلى الصلاة حَتَّى يقضي حاجته مِنْهُ، بخلاف سائر ألفاظ الحَدِيْث الَّتِيْ خرجها؛ لأنه يحتمل أن يكون الخَطَّاب بِهَا لمن لَمْ يتناول من عشائه شيئاً.
ووهب بْن عُثْمَان، ذكر البخاري أَنَّهُ مديني، وأن هَذَا الحَدِيْث رواه عَنْهُ إِبْرَاهِيْم بْن المنذر الحزامي، ولم يذكره فِي غير هَذَا الموضع من ((كتابه)) ، ولا خرج لَهُ فِي بقية ((الكتب الستة)) ، وذكره ابن حبان فِي ((ثقاته)) .
وقد خرج ابن حبان فِي ((صحيحه)) من طريق ابن جُرَيْج: أخبرني نَافِع، قَالَ: كَانَ ابن عُمَر إذا غربت الشمس وتبين لَهُ الليل، فكان أحياناً يقدم عشاءه وَهُوَ صائم، والمؤذن يؤذن، ثُمَّ يقيم [وَهُوَ يسمع] فلا يترك عشاءه ولا يجعل

(6/97)


حَتَّى يقضي عشاءه، ثُمَّ يخرج فيصلي، يَقُول: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا تعجلوا عَن عشائكم إذا قدم إليكم)) .
وقد روي ذكر الصيام مرفوعاً.
خرجه ابن حبان – أَيْضاً – من طريق موسى بْن أعين، عَن عَمْرِو بْن الحارث، عَن ابن شِهَاب، عَن أنس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا أقيمت الصلاة وأحدكم صائم فليبدأ بالعشاء قَبْلَ صلاة المغرب، ولا تعجلوا عَن عشائكم)) .
وخرجه الدارقطني فِي كِتَاب ((الإلزامات)) وصححه.
وخرجه الطبراني، وَقَالَ: لَمْ يقل فِي هَذَا الحَدِيْث: ((وأحدكم صائم فليبدأ بالعشاء قَبْلَ صلاة المغرب)) إلا عَمْرِو بْن الحارث، تفرد بِهِ موسى بْن أعين.
قُلتُ: وإنما تفرد موسى بذكر: ((وأحدكم صائم)) ، وأما قوله: ((فليبدأ بالعشاء قَبْلَ صلاة المغرب)) فَقَدْ خرجه مُسْلِم من طريق ابن وهب، عَن عَمْرِو ابن الحارث بهذا الإسناد، ولفظ حديثه: ((إذا قرب العشاء وحضرت الصلاة فابدءوا بِهِ قَبْلَ أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عَن عشائكم)) .
فهذه الأحاديث كلها تدل عَلَى أَنَّهُ إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فإنه يبدأ بالعشاء، سواء كَانَ قَدْ أكل مِنْهُ شيئاً أو لا، وأنه لا يقوم حَتَّى يقضي حاجته من عشائه، ويفرغ مِنْهُ.

(6/98)


وممن روي عَنْهُ تقديم العشاء عَلَى الصلاة: أبو بَكْر وعمر وابن عُمَر وابن عَبَّاس وأنس وغيرهم.
وروى معمر، عَن ثابت، عَن أنس، قَالَ: إني لمع أَبِي بْن كعب وأبي طلحة وغيرهما من أصْحَاب النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى طعام، إذ نودي بالصلاة، فذهبت أقوم فأقعدوني، وأعابوا عَلِيّ حِينَ أردت أن أقوم وأدع الطعام.
خرجه عَبْد الله ابن الإمام أحمد فِي ((مسائله)) .
وإلى هَذَا القوم ذهب الثوري وأحمد – فِي المشهور عَنْهُ – وإسحاق وابن المنذر.
وَقَالَ أحمد: لا يقوم حَتَّى يفرغ من جميع عشائه، وإن خاف أن تفوته الصلاة مَا دام فِي وقت. قَالَ: لأنه إذا تناول مِنْهُ شيئاً ثُمَّ تركه كَانَ فِي نفسه شغل من تركه الطعام إذا لَمْ ينل مِنْهُ حاجته.
وحاصل الأمر؛ أَنَّهُ إذا حضر الطعام كَانَ عذراً فِي ترك صلاة الجماعة، فيقدم تناول الطعام، وإن خشي فوات الجماعة، ولكن لا بد أن يكون لَهُ ميل إلى الطعام، ولو كَانَ ميلاً يسيراً، صرح بذلك أصحابنا وغيرهم.
وعلى ذَلِكَ دل تعليل ابن عَبَّاس والحسن وغيرهما، وكذلك مَا ذكره البخاري عَن أَبِي الدرداء.
فأما إذا لَمْ يكن لَهُ ميل بالكلية إلى الطعام، فلا معنى لتقديم الأكل عَلَى الصلاة.
وقالت طائفة أخرى: يبدأ بالصلاة قَبْلَ الأكل، إلا أن يكون نفسه شديدة التوقان إلى الطعام، وهذا مذهب الشَّافِعِيّ: وقول ابن حبيب المالكي.
واستدل لَهُ ابن حبان بالحديث الَّذِي فِيهِ التقييد بالصائم، وألحق بِهِ

(6/99)


كل من كَانَ شديد التوقان إلى الطعام فِي الصلاة، يمنع من كمال الخشوع، بخلاف الميل اليسير.
وقالت طائفة أخرى: يبدأ بالصلاة إلا أن يكون الطعام خفيفاً -: حكاه ابن المنذر، عَن مَالِك.
وهذا يحتمل أَنَّهُ أراد أن الخفيف من الطعام يطمع مَعَهُ فِي إدراك الجماعة، بخلاف الطعام الكثير فيختص هَذَا بالعشاء.
وهذا بناء عَلَى أن وقت المغرب وقت واحد، كما هُوَ قَوْلِ مَالِك والشافعي فِي أحد قوليه.
ونقل حرب، عَن إِسْحَاق، أَنَّهُ يبدأ بالصلاة، إلا فِي حالين: أحدهما: أن يكون الطعام خفيفاً. والثاني: أن يكون أكله مَعَ الجماعة، فيشق عليهم قيامه إلى الصلاة.
وهؤلاء قالوا: إن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بتقديم العشاء عَلَى الصلاة حيث كَانَ عشاؤهم خفيفاً، كما كَانَتْ عادة الصَّحَابَة فِي عهد النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ يتناول أمره غير مَا هُوَ معهود فِي زمنه.
وروى أبو داود بإسناده، عَن عَبْد الله بْن عُبَيْدِ بْن عمير، قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي فِي زمان ابن الزُّبَيْر إلى جنب عَبْد الله بْن عُمَر، فَقَالَ عباد بْن عَبْد الله بْن الزُّبَيْر: إنا سمعنا أَنَّهُ يبدأ بالعشاء قَبْلَ الصلاة، فَقَالَ عَبْد الله بْن عُمَر: ويحك، مَا كَانَ عشاؤهم، أتراه كَانَ مثل عشاء أبيك؟!
وخرج البيهقي من حَدِيْث حميد، قَالَ: كنا عِنْدَ أنس بْن مَالِك، فأذن

(6/100)


المؤذن بالمغرب وقد حضر العشاء، فَقَالَ أنس: ابدءوا بالعشاء، فتعشينا مَعَهُ، ثُمَّ صلينا، فكان عشاؤه خفيفاً.
وقالت طائفة: يبدأ بالصلاة، إلا أن يكون الطعام يخاف فساده لما فِي تأخيره من إفساد الطعام، وهذا قَوْلِ وكيع، رواه الترمذي فِي ((جامعة)) عَنْهُ.
وفي هَذَا القول بعد، وَهُوَ مخالف ظاهر الأحاديث الكثيرة.
وللأمام أحمد فِي المسألة ثَلاَثَة أقوال:
أحدها: أَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَة أَبِي الحارث، وسئل عَن العشاء إذا وضع وأقيمت الصلاة، فَقَالَ: قد جاءت أحاديث، وكان القوم فِي مجاعة، فأما اليوم فلو قام
رجوت.
وهذه الرواية تدل عَلَى أن تقديم الأكل عَلَى الصلاة مختص بحال مجاعة النَّاس عموماً، وشدة توقانهم بأجمعهم إلى الطعام، وفي هَذَا نظر.
وقد يستدل لَهُ بما رَوَى مُحَمَّد بْن ميمون الزعفراني، عَن جَعْفَر بْن مُحَمَّد، عَن أبيه، عَن جابر، قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يؤخر الصلاة لطعام ولا غيره.
وخرجه الطبراني، ولفظه: لَمْ يكن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤخر صلاة المغرب لعشاء ولا غيره.

(6/101)


وهذا حَدِيْث ضَعِيف لا يثبت.
ومحمد بْن ميمون هَذَا، وثقة ابن معين وغيره. وَقَالَ البخاري والنسائي: منكر الحَدِيْث.
وروى سلام بْن سُلَيْمَان المدائنى: ثنا ورقاء بْن عُمَر، عَن ليث بْن أَبِي سليم، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا حضر العشاء والصلاة فابدءوا بالصلاة)) .
خرجه تمام الرَّازِي فِي ((فوائده)) ، وَقَالَ: هكذا وقع فِي كتابي، وَهُوَ خط.
وليث بْن أَبِي سليم ليس بالحافظ، فلا تقبل مخالفته لثقات أصْحَاب نَافِع؛ فإنهم رووا: ((فابدءوا بالعشاء)) كما تقدم. وسلام المدائني ضَعِيف جداً.
والقول الثاني: نقل حَنْبل، عَن أحمد، قَالَ: إن كَانَ أخذ من طعامه لقمةً أو نحو ذَلِكَ فلا يقوم إلى الصلاة فليصلي، ثُمَّ يرجع إلى العشاء؛ لأن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يحتز من كتف الشاة، فألقى السكين وقام.
وكذا نقل عَنْهُ ابنه عَبْد الله والأثرم.
وحاصل هَذَا القول: إن كَانَ أكل شيئاً من الطعام، ثُمَّ أقيمت الصلاة قام إليها، وترك الأكل، وإن لَمْ يكن أكل شيئاً أكل مَا تسكن بِهِ نفسه ثُمَّ قام إلى الصلاة، ثُمَّ عاد إلى تتمة طعامه.
وصرح بذلك الأثرم فِي ((كِتَاب الناسخ والمنسوخ)) ، واستدل بحديث عَمْرِو ابن أمية الضمري، وقد خرجه البخاري فِي الباب الذي يلي هَذَا.

(6/102)


وروي نحوه من حَدِيْث المغيرة بْن شعبة وجابر بْن عَبْد الله.
وفي هذه الأحاديث: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يحتز من كتف شاة، فأتاه بلال يؤذنه بالصلاة، فألقى السكين ثُمَّ قام إلى الصلاة.
وقد ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أَنَّهُ إذا سَمِعَ الإقامة م يشبع من طعامه، بل يأكل مَا يكسر بِهِ سورة جوعه.
وحديث ابن عُمَر صريح فِي رد ذَلِكَ، وأنه لا يعجل حَتَّى يفرغ من عشائه.
والقول الثالث: عكس الثاني، نقله حرب عَن أحمد، قَالَ: إن كَانَ قَدْ أكل بعض طعامه، فأقيمت الصلاة، فإنه يتم أكله، وإن كَانَ لَمْ يأكل شيئاً فأجب أن يصلي.
وقد يعلل هَذَا بأنه إذا تناول شيئاً من طعامه فإن نفسه تتوق إلى تمامه، بخلاف من لَمْ يذق مِنْهُ شيئاً؛ فإن توقان نفسه إليه أيسر.
وفي المسألة قَوْلِ آخر، وَهُوَ الجمع بَيْن أحاديث هَذَا الباب، وبين حَدِيْث عَمْرِو بْن أمية، وما فِي معناه من طرح النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السكين من يده، وقيامة إلى الصلاة بالفرق بَيْن الإمام والمأمومين، فإذا دعي الإمام إلى الصلاة قام وترك بقية طعامه؛ لأنه ينتظر، ويشق عَلَى النَّاس عِنْدَ اجتماعهم تأخره عنهم، بخلاف آحاد المأمومين، وهذا مسلك البخاري، كما سيأتي ذَلِكَ فِي الباب الَّذِي يلي هَذَا.
وبكل حال؛ فلا يرخص مَعَ حضور الطعام فِي غير ترك الجماعة، فأما الوقت فلا يرخص بذلك فِي تفويته عِنْدَ جمهور العلماء، ونص عَلِيهِ

(6/103)


أحمد وغيره.
وشذت طائفة، فرخصت فِي تأخير الصلاة عَن الوقت بحضور الطعام – أَيْضاً -، وَهُوَ قَوْلِ بعض الظاهرية، ووجه ضَعِيف للشافعية، حكاه المتولى وغيره.
وقد رَوَى المروزي أن أحمد احتجم بالعسكر، فما فرغ إلا والنجوم قَدْ بدت، فبدأ بالعشاء قَبْلَ الصلاة، فما فرغ دخل حَتَّى وقت العشاء، فتوضأ وصلى المغرب والعشاء.
قَالَ القاضي فِي ((خِلافَه)) : يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مسافراً؛ لأن المراد بالعسكر سامراء، وكان قَدْ طلبه المتوكل إليها.
والثاني: أَنَّهُ خاف عَلَى نفسه من تأخير العشاء المرض؛ لضعفه بالحجامة.
وَقَالَ ابن عقيل: يحتمل أَنَّهُ كَانَ مريضاً أو ناسباً. قَالَ: ومع هذه الاحتمالات لا يؤخذ من ذَلِكَ مذهب يخالف مذهب النَّاس.
ومتى خالف، وصلى بحضرة طعام تتوق نفسه إليه فصلاته مجزئه عند جميع العلماء المعتبرين، وقد حكى الإجماع عَلَى ذَلِكَ ابن عَبْد البر وغيره،

(6/104)


وإنما خالف فِيهِ شذوذ من متأخري الظاهرية، لا يعبأ بخلافهم الإجماع القديم.
وفي أحاديث هَذَا الباب: دليل عَلَى أن وقت المغرب متسع، وأنه لا يفوت بتأخير الصلاة فِيهِ عَن أول الوقت، ولولا ذَلِكَ لَمْ يأمر بتقديم العشاء عَلَى صلاة المغرب من غير بيان لحد التأخير؛ فإن هَذَا وقت حاجة إلى البيان، فلا يجوز تأخيره عَنْهُ. والله أعلم.

(6/105)


43 - بَاب
إذا دُعيَ الإمَامُ إلى الصَّلاةِ وبَيَدِهِ مَا يَأكُلُ

(6/106)


675 – حَدَّثَنَا عَبْد العزيز بْن عَبْد الله: ثنا إِبْرَاهِيْم، عَن صالح، عن ابن
شِهَاب، قَالَ: أخبرني جَعْفَر بْن عَمْرِو بْن أمية الضمري، أن أباه قَالَ: رأيت رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأكل ذراعاً يحتز مِنْهَا، فدعى إلى الصلاة، فَقَام فطرح السكين فصلى ولم يتوضأ.
وقد سبق فِي ((كِتَاب الوضوء)) من حَدِيْث عقيل، عَن ابن شِهَاب - بمعناه.
وقد حمل البخاري هَذَا عَلَى أن الإمام خاصة إذا دعي إلى الصلاة وَهُوَ يأكل فإنه يقوم إلى الصلاة ولا يتم أكله؛ لما فِي تأخيره من المشقة عَلَى المأمومين بابانتظاره، فيكون دعاء الإمام إلى الصلاة بمنزلة إقامة الصلاة فِي حق المأمومين.
وقد حمله غيره – كما تقدم – عَلَى أَنَّهُ إذا أقيمت الصلاة وقد أكل بعض طعامه أَنَّهُ يقوم ولا يتمه.
والبخاري قَدْ بَيْن فِي الباب السابق أن بعض ألفاظ حَدِيْث ابن عمر صريح فِي خلاف هذا، فلذلك حمله عَلَى الإمام خاصة، ولو أَنَّهُ حمل عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَدْ أتم أكله لكان محتملاً مَعَ بعده؛ فإن ظاهر اللفظ

(6/106)


يقتضي أَنَّهُ لَمْ يكن أتم أكله.
وقد حمله بعضهم عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ أخذ من طعامه مَا يحتاج إليه بحيث لا تتوق نفسه بعده إلى شيء مِنْهُ، فاكتفي بذلك.
وخرج أبو داود من حَدِيْث المغيرة بْن شعبة، قَالَ: ضفت النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة، فأمر بجنب فشوى، وأخذ الشفرة فجعل يحتز لِي بِهَا مِنْهُ. قَالَ: فجاء بلال فآذنه بالصلاة قالَ: فألقى الشفرة، وقَالَ: ((ماله؟ تربت يداه)) ، وقام.
ويروى من حَدِيْث جابر، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعي إلى الصلاة وَهُوَ يأكل، فقام ثُمَّ رجع، فأتى ببقية الطعام.
ذكره الأثرم تعليقاً.
وخرجه [....................................................] .

(6/107)


44 - بَاب
مَن كَانَ فِي حَاجَةِ أَهْلِهِ فَأُقِيمتِ الصَّلاةُ فَخَرَجَ

(6/108)


676 – حَدَّثَنَا آدم: ثنا شعبة: ثنا الحكم، عَن إِبْرَاهِيْم، عَن الأسود، قَالَ: سألت عَائِشَة: مَا كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع فِي بيته؟ قَالَتْ: كَانَ يكون فِي مهنة أهله – تعني: خدمة أهله -، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
((المهنة)) – بكسر الميم وفتحها – الخدمة.
ومنهم من أنكر الكسر، قَالَ الأصمعي: هُوَ خطأ.
قَالَ الزمخشري: هُوَ عِنْدَ الأثبات خطأ. قَالَ: وكان القياس لَوْ قيل مثل جلسة وخدمة.
وقد فسرت عَائِشَة هذه الخدمة فِي رِوَايَة عَنْهَا، فروى المقدام بْن شريح، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، أَنَّهُ سألها: كَيْفَ كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع إذا كَانَ فِي بيته؟ قَالَتْ: مثل أحدكم فِي مهنة أهله، يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويضع الشيء.
وروى معاوية بْن صالح، عَن يَحْيَى بْن سَعِيد، عَن عمرة، قَالَتْ: سئلت عَائِشَة: مَا كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع فِي بيته؟ قَالَتْ: بشر من البشر، يخدم نفسه، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله.
وروى هِشَام بْن عُرْوَةَ، عَن أَبِيه، قَالَ: قيل لعائشة: مَا كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع فِي بيته؟ قَالَتْ: يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل مَا يعمله

(6/108)


الرجال فِي بيوتهم.
خرجه ابن حبان فِي ((صحيحه)) .
ومقصود البخاري بهذا الباب: أن الصلاة إذا قيمت والإنسان فِي شغل بعمل شيء من مصالح دنياه، فإنه يدعه ويقوم إلى الصلاة، إماماً كَانَ أو مأموماً.
وقد روي حَدِيْث الأسود، عَن عَائِشَة، الَّذِي خرجه البخاري بزيادة فِي آخره.
خرجه الحافظ أبو الحسين ابن المظفر فِي ((غرائب شعبة)) من طريق الْحَسَن ابن مدرك: ثنا يَحْيَى بْن حماد: ثنا شعبة، عَن الحكم، عَن إِبْرَاهِيْم، عَن الأسود، عَن عَائِشَة، قَالَتْ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كَانَ عندي كَانَ فِي مهنة أهله، فإذا نودي بالصلاة كأنه لَمْ يعرفنا.
وقد روي من وجه آخر معنى هذه الزيادة.
رَوَى أبو زُرْعَة الدمشقي فِي ((تاريخه)) : حَدَّثَنَا محمد بْن أَبِي أسامة: ثنا مبشر بْن إِسْمَاعِيل: ثنا عَبْد الله بْن الزبرقان: حَدَّثَنِي أسامة بْن أَبِي عَطَاء، أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ النُّعْمَان بْن بشير، فَقَالَ لَهُ سويد بْن غفلة: ألم يبلغني أنك صليت مَعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: ومرة، لا بل مراراً، كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سَمِعَ النداء كأنه لا يعرف أحداً من النَّاس.

(6/109)


45 - بَاب
مَنْ صَلَّى بالنَّاسِ وََهُوَ لاَ يُريدُ إلاَّ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ
صَلاَةَ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسُنَّتَهُ

(6/110)


677 – حَدَّثَنَا موسى بْن إِسْمَاعِيل: أنا وهيب، [نا أيوب] ، عَن أَبِي قلابة، قَالَ: جاءنا مَالِك بْن الحويرث فِي مسجدنا هَذَا، فَقَالَ: إني لأصلي بكم، وما أريد الصلاة، أصلي كَيْفَ رأيت رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي. فَقِيلَ لأبي قلابة: كَيْفَ كَانَ
يصلي؟ قَالَ: مثل شيخنا هَذَا. وكان الشَّيْخ يجلس إذا رفع رأسه من السجود قَبْلَ أن ينهض فِي الركعة الأولى.
وقد خرجه البخاري فيما بعد عَن معلى بْن أسد، عَن وهيب، ولفظ حديثه: جاءنا مَالِك بْن الحويرث فصلى بنا فِي مسجدنا هَذَا، فَقَالَ: إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة. لكني أريد أن أريكم كَيْفَ رأيت رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي – وذكر بقية الحَدِيْث.
قول مَالِك بْن الحويرث: ((إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة)) يحتمل أَنَّهُ أراد: أني لا أريد الصلاة إماماًُ وأنه لا غرض لِي فِي إمامتكم سوى تعليمكم صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والإمام إذا نوى الصلاة بالناس وتعليمهم

(6/110)


الصلاة صحت صلاته، كما حج النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ لهم: ((خذوا عني مناسككم)) . وَقَالَ – أَيْضاً – فِي الصلاة: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) .
وإن حمل عَلَى أن مراد ابن الحويرث: أني لا أريد أن أصلي هذه الصلاة لأني قَدْ صليتها، وإنما أعيدها لتعليمكم الصلاة دل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يرى جواز اقتداء المفترضين بالمتنفل، إن كَانَ أمهم فِي وقت صلاة مفروضة، فإن كَانَ أمهم فِي تطوعٍ فلا دلالة فِيهِ عَلَى ذَلِكَ.
وقد ورد ذَلِكَ مصرحاً بِهِ رِوَايَة خرجها البخاري فِي ((بَاب: الطمأنينة)) من رِوَايَة حماد بْن زيد، عَن أيوب، عَن أَبِي قلابة، قَالَ: قام مَالِك بْن الحويرث يرينا كَيْفَ كَانَ صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك فِي غير وقت الصلاة – وذكر صفة صلاته.
فعلم بهذا أنهم كانوا متنفلين بهذه الصلاة كلهم.
ولا يصح حمل كلامه عَلَى ظاهره، وأنه لَمْ ينو الصلاة بالكلية، بل كَانَ يقوم ويقعد ويركع ويسجد، وَهُوَ لا يريد الصلاة، فإن هَذَا لا يجوز، وإنما يجوز مثل ذَلِكَ فِي الحج، يجوز أن يكون الَّذِي يقف بالماس ويدفع بهم غير محرم، ولا مريداً للحج بالكلية، لكنه يكره.
قَالَ أصحابنا وغيرهم من الفقهاء فِي الأحكام السلطانية: لأن الوقوف والدفع يجوز للمحرم وغيره، بخلاف القيام والركوع والسجود، فإنه لا يجوز إلا فِي الصلاة بشروطها.
وبقية فوائد الحَدِيْث يأتي الكلامم عَلِيهِ فِي مواضعه – إن شاء الله –؛ فإن البخاري خرجه فِي مواضع متعددة.

(6/111)


46 - بَاب
أَهْلِ العِلْمِ والفَضْلِ أَحَقُّ بِالإِمَامَةِ
فِيهِ خمسة أحاديث:
الحَدِيْث الأول:

(6/112)


678 – حَدَّثَنَا إِسْحَاق بْن نصر: حَدَّثَنَا حسين، عَن زائدة، عَن عَبْد الملك ابن عمير، قَالَ: حَدَّثَنِي أبو بردة، عَن أَبِي موسى، قَالَ: مرض النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاشتد مرضه، فَقَالَ: ((مروا أَبَا بَكْر فليصل بالناس)) . قَالَتْ عَائِشَة: إنه رَجُل رقيق، إذا قام مقامك لَمْ يستطع أن يصلي بالناس. قَالَ: ((مري أَبَا بَكْر فليصل بالناس)) ، فعادت، فَقَالَ: ((مري أَبَا بَكْر فليصل بالناس؛ فإنكن صواحب يوسف)) ، فأتاه الرسول، فصلى بالناس فِي حَيَاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
استدل البخاري بهذا الحَدِيْث عَلَى أن أهل الفضل والعلم أحق بالإمامة من غيرهم؛ فإن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أَبَا بَكْر من بين الصَّحَابَة كلهم بالصلاة بالناس، وروجع فِي ذَلِكَ مراراً وَهُوَ يأبى إلا تقديمه فِي الصلاة عَلَى غيره من الصَّحَابَة، وإنما قدمه لعلمه وفضله؛ فأما فضله عَلَى سائر الصَّحَابَة فهو مِمَّا اجتمع عَلِيهِ أهل السنة والجماعة، وأما علمه فكذلك.
وقد حكى أبو بَكْر ابن السمعاني وغيره إجماع أهل السنة عَلِيهِ – أَيْضاً.

(6/112)


وهذا مِمَّا يستدل بِهِ من قَالَ: إن الأفقه والأعلم مقدم عَلَى مقدم عَلَى الأقرإ؛ فإن أَبِي بْن كعب كَانَ أقرأ الصَّحَابَة، كما قَالَ عُمَر: ((أَبِي أقرؤنا)) .
وروي عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه، أَنَّهُ قَالَ: ((أقرأ أمتي لكتاب الله أَبِي بْن كعب)) .
خرجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه – وصححه الترمذي – من حَدِيْث أَبِي قلابة، عَن أنس.
وقد روي عَن أَبِي قلابة مرسلاً من غير ذكر ((أَنَس)) ، وَهُوَ أصح عِنْدَ كثير من الحفاظ.
فلما قدم النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْر عَلَى أَبِي بْن كعب فِي الصلاة بالناس دل عَلَى أن الأعلم والأفقه والأفضل مقدم عَلَى الأقرإ.
وقد اختلف العلماء: هَلْ يقدم الأقرأ عَلَى الأفقه، أم الأفقه عَلَى الأقرإ؟
فَقَالَتْ طائفة: يقدم الأفقه، وَهُوَ قَوْلِ عَطَاء والثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأبي ثور.
وَقَالَ الليث: يؤمهم أفضلهم وخيرهم، ثُمَّ أقرؤهم، ثُمَّ أسنهم.
وقالت طائفة: يقدم الأقرأ عَلَى الأفقه، وحكي عَن الأشعث بْن قيس وابن سيرين والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، حكاه عنهم ابن المنذر واختاره.
وما حكيناه عَن الثوري، حكاه أصحابه

(6/113)


عَنْهُ فِي كتبهم المصنفة عَلَى مذهبه.
ونص أحمد عَلَى أَنَّهُ يقدم الأقرأ إذا كَانَ يعرف مَا يحتاج إليه الصلاة من الفقه، وكذلك قَالَ كثير من المحققين من أصحابه، وحكموا مذهبه عَلَى هَذَا الوجه.
واستدل من قدم الأقرأ بما خرجه مُسْلِم فِي ((صحيحه)) من حَدِيْث أوس بْن ضمعج، عَن أَبِي مَسْعُود الأنصاري، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا فِي القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا فِي السنة سواء فأقدمهم هجرة)) .
وفي رِوَايَة لمسلم: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة)) .
وخرجه الحَاكِم، وعنده ((يؤم القوم أكثرهم قرآناً)) – وذكر الحَدِيْث.
وخرج مُسْلِم – أَيْضاً – من حَدِيْث أَبِي نضرة، عَن أَبِي سَعِيد الْخُدرِيَّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا كانوا ثَلاَثَة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم)) .
وخرج البخاري فِي ((كتابه)) هَذَا من حَدِيْث عَمْرِو بْن سَلَمَة الجرمي، عَن أَبِيه، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً)) .
وخرج – أَيْضاً – فِيهِ من حَدِيْث ابن عُمَر، قَالَ: لما قدم المهاجرون الأولون قَبْلَ مقدم النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يؤمهم سَالِم مَوْلَى أَبِي حذيفة، وكان أكثرهم قرآناً.

(6/114)


وخرج الإمام أحمد من حَدِيْث أَبِي موسى الأشعري، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((يؤمكم أقرؤكم)) .
وخرجه أبو داود وابن ماجه من حَدِيْث ابن عَبَّاس، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((ليؤمكم قراؤكم)) .
وفي الباب أحاديث أخر.
وقد تأول الشَّافِعِيّ وغيره هذه الأحاديث عَلَى أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما خاطب أصحابه، وكان أكثرهم قرآناً أكثرهم فقهاً؛ فإن قراءتهم كَانَتْ علماً وعملاً بخلاف من بعدهم.
وأجيب عَن هَذَا بوجهين:
أحدهما: أن هَذَا خطاب عام للأمة كلهم، فلا يختص بالصحابة.
والثاني: أَنَّهُ فرق بَيْن الأقرإ والأعلم بالسنة، وقدم الأقرإ عَلِيهِ.
وأجاب الإمام أحمد عَن تقديم النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْر عَلَى أَبِي بْن كعب وغيره، بأنه أراد بذلك التنبيه عَلَى خلافته، فلهذا المعنى قدمه فِي الصلاة عَلَى النَّاس كلهم.
وقد منع بعضهم أن يكون أَبِي بْن كعب أقرأ من أَبِي بَكْر، لأن المراد بالأقرإ فِي الإمامة الأكثر قرآناً. وَقَالَ: كَانَ أبو بَكْر يقرأ القران كله، فلا مزية لأبي بْن كعب عَلِيهِ فِي ذَلِكَ، وامتاز أبو بَكْر بالعلم والفضل.
وهذه المسألة لأصحابنا فيها وجهان: إذا اجتمع قارئان، أحدهما أكثر

(6/115)


قرآناً، والآخر أجود قراءةً، فهل يقدم الأكثر قرآناً عَلَى الأجود قراءة، أم بالعكس؟
وأكثر الأحاديث تدل ى اعتبار كثرة القرآن.
وإن اجتمع فقيهان قارئان، أحدهما أفقه، والآخر أجود قراءة، ففي أيهما يقدم وجهان – أَيْضاً.
وقيل: إن المنصوص عَن أحمد، أَنَّهُ يقدم الأقرأ.
الحَدِيْث الثاني:

(6/116)


679 – حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف، أنا مَالِك، عَن هِشَام بْن عُرْوَةَ، [عَن أَبِيه] ، عَن عَائِشَة، أنها قَالَتْ: إن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي مرضه: ((مروا أَبَا بَكْر فليصل بالناس)) . قَالَتْ عَائِشَة: قُلتُ: إن أَبَا بَكْر إذا قام فِي مقامك لَمْ يسمع النَّاس من البكاء، فمر عُمَر فليصل بالناس، قَالَتْ عَائِشَة: فَقُلْت لحفصة: قولي: إن أَبَا بَكْر إذا قام مقامك لَمْ يسمع النَّاس من البكاء، فمر عُمَر فليصل بالناس، ففعلت حَفْصَةَ، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((مه، إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أَبَا بَكْر فليصل بالناس)) . فَقَالَتْ حفصة لعائشة: مَا كُنْتُ لأصيب منك خيراً.
والمراد من هَذَا الحَدِيْث فِي هَذَا الباب: امر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْر بالصلاة بالناس فِي مرضه، وأنه روجع فِي ذَلِكَ فزجر من راجعه، وكرر الأمر بذلك.

(6/116)


الحَدِيْث الثالث:

(6/117)


680 – حَدَّثَنَا أبو اليمان، أنا شعيب، عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: أخبرني أنس بْن مَالِك الأنصاري – وكان تبع النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخدمه وصحبه -، أن أَبَا بَكْر كَانَ يصلي بهم فِي وجع النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي توفى فِيهِ، حَتَّى إذا كَانَ يوم الأثنين وهم صفوف فِي الصلاة، فكشف النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ستر الحجرة، ينظر إلينا وَهُوَ قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثُمَّ تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنكص أبو بَكْر عَلَى عقبيه ليصل الصف، وظن أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن ((أتموا صلاتكم)) ، وأرخى الستر، فتوفي من يومه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فِي هَذَا الحَدِيْث أن أَبَا بَكْر استمر عَلَى إقامته فِي الصلاة إلى أن توفي رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كشف الستر، ونظر إليه وَهُوَ يؤم النَّاس فِي صلاة الصبح يوم الأثنين، وهي آخر صلاة أدركها النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حياته، فظن أبو بَكْر أَنَّهُ خارج إلى الصلاة، فأخذ فِي التأخر إلى صف المأمومين؛ ليتقدم النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيؤم النَّاس، فأشار إليهم النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن أتموا صلاتكم، وأرخى الستر.
وهذا فِيهِ أمر لأبي بَكْر بأن يستمر عَلَى إمامته فِي آخر صلاة أدركها وَهُوَ حي.
وظاهر هَذَا الحَدِيْث، يدل عَلَى أَنَّهُ لَمْ يخرج إلى المسجد ولم يصل مَعَ الجماعة تلك الصلاة، لا إماماً ولا مأموماً.
وقد قَالَ كثير من السلف، إنه خرج وصلى خلف أَبِي بَكْر فِي الصف

(6/117)


تلك الصلاة.
وقد سبق حَدِيْث أَنَس، أن آخر صلاة صلاها رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثوب متوشحاً خلف أَبِي بَكْر.
وقد جمع البيهقي وغيره بَيْن تلك وبين حَدِيْث أَنَس هَذَا، بأنه أرخى الستر ودخل، ثُمَّ وجد خفة فخرج فصلى خلف أَبِي بَكْر الركعة الثانية، وقضى الركعة الَّتِيْ فاتته.
وقد صح هَذَا المعنى عَن عُبَيْدِ بْن عمير – أَيْضاً.
وروي صريحاً – أَيْضاً – من حَدِيْث عَائِشَة وأم سَلَمَة وأبي سَعِيد.
خرجه ابن سعد فِي ((طبقاته)) عَن الواقدي.
الحَدِيْث الرابع:

(6/118)


681: حَدَّثَنَا أبو معمر، قَالَ: ثنا عَبْد الوارث: ثنا عَبْد العزيز، عَن أَنَس، قَالَ: لَمْ يخرج النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثاً، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بَكْر فتقدم، فَقَالَ نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحجاب، فرفعه، فلما وضح وجه النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا رأينا منظراً كَانَ أعجب إلينا من وجه النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ وضح لنا، فأوما النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيده إلى أَبِي بَكْر أن يتقدم، وأرخى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحجاب، فَلَمْ يقدر عَلِيهِ حَتَّى مات.
وهذا الحَدِيْث قريب من حَدِيْث الزُّهْرِيّ عَن أَنَس الَّذِي قبله، وفيه: التصريح بإيماء النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أَبِي بَكْر أن يتقدم ويؤم النَّاس، ولكنه يوهم أن أَبَا بَكْر لَمْ يكن قَدْ دَخَلَ فِي الصلاة، وحديث الزُّهْرِيّ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ دَخَلَ فِي الصلاة.

(6/118)


الحَدِيْث الخامس:

(6/119)


682 – حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن سُلَيْمَان، قَالَ: حَدَّثَنِي ابن وهب: حَدَّثَنِي يونس، عَن ابن شِهَاب، عَن حَمْزَة بْن عَبْد الله، أَنَّهُ أخبره عَن أَبِيه، قَالَ: لما اشتد برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجعه قيل لَهُ فِي الصلاة. قَالَ: ((مروا أَبَا بَكْر فليصل بالناس)) . قَالَتْ عَائِشَة: أن أَبَا بَكْر رَجُل رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء. قَالَ: ((مروه فليصل)) ، فعاودته، فَقَالَ: ((مروه فليصل، فإنكن صواحب يوسف)) .
تابعه: الزبيدي وابن أخي الزُّهْرِيّ وإسحاق بْن يَحْيَى الكلبي، عَن الزُّهْرِيّ.
وقال عقيل ومعمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حَمْزَة، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً.
قَدْ ذكر البخاري الاختلاف عَلَى الزُّهْرِيّ فِي إسناده، وأنه روي عَنْهُ متصلاً ومرسلاً.
فخرجه من طريق ابن وهب، عَن يونس، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حَمْزَة بْن عَبْد الله بْن عُمَر، عَنْهُ أَبِيه – متصلاً -، وذكر أَنَّهُ تابعه عَلَى وصله الزبيدي وابن أخي الزُّهْرِيّ وإسحاق الكلبي، وأرسله عَن الزُّهْرِيّ، عَن حَمْزَة – من غير ذكر ابن عُمَر -: عقيل ومعمر.

(6/119)


وقد اختلف عَن معمر:
وخرجه مُسْلِم من حَدِيْث معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حَمْزَة، عَن عَائِشَة.
واختلف فِيهِ عَلَى عقيل – أَيْضاً -:
فروي عَنْهُ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حَمْزَة – مرسلاً.
وروي عَنْهُ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حَمْزَة، عَن عَائِشَة.
وكذا قَالَ يونس بْن أَبِي إِسْحَاق، عَن الزُّهْرِيّ.
وكلاهما محفوظ عَنْهُ -: ذكر ذَلِكَ الدارقطني فِي موضع من ((علله)) .
وذكر فِي موضع آخر مِنْهَا: أَنَّهُ رواه عقيل، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حَمْزَة، عَن أَبِيه.
قَالَ: وَهُوَ الصواب.
قُلتُ: ورواه ابن المبارك، عَن يونس ومعمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن حَمْزَة – مرسلاً.

(6/120)


47 - بَاب
مَنْ قَامَ إلى جَنْبِ الإمَامِ لِعِلَّةٍ

(6/121)


683 – حَدَّثَنَا زكريا بْن يَحْيَى: ثنا ابن نمير: ثنا هِشَام بْن عُرْوَةَ، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، قَالَتْ: أمر رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْر أن يصلي بالناس فِي مرضه، فكان يصلي بهم.
قَالَ عُرْوَةَ: فوجد رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نفسه خفة، فخرج، فإذا أبو بَكْر يؤم النَّاس، فلما رآه أبو بَكْر استأخر، فأشار إليه أن كما أنت، فجلس رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حذاء أَبِي بَكْر إلى جنبه، فكان أبو بَكْر يصلي بصلاة رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والناس يصلون بصلاة أَبِي بَكْر.
المُتَّصِل من هَذَا الحَدِيْث: هُوَ أمر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْر أن يصلي بالناس فِي مرضه، فكان يصلي بهم، وما بعده مدرج من قَوْلِ عُرْوَةَ، كما خرجه البخاري هاهنا.
وكذا خرجه مُسْلِم عَن جماعة، كلهم عَن ابن نمير، بِهِ.
وكذا رَوَى هَذَا الكلام الآخر مَالِك فِي ((موطئه)) عَن هِشَام، عَن أَبِيه – مرسلاً.
وقد وصله بعض الرواة بحديث عَائِشَة، فمن وصله بحديث عَائِشَة فَقَدْ أدرجه.

(6/121)


ولكن قَدْ روي هَذَا المعنى متصلاً من وجوه أخر، كلها لا تخلو عَن علة، وقد سبق ذكرها والإشارة تعليلها.
ومراد البخاري بهذا الباب: أن أَبَا بَكْر صلى مؤتما بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ قائم إلى جانبه بإشارة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليه فِي ذَلِكَ، ولم يتركه يتأخر إلى الصف، وكان ذَلِكَ لعلة، وهي أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يصلي بالناس جالساً، والناس قيام وراءه، فكان قيام أَبِي بَكْر إلى جانبه، لإسماع النَّاس تكبير النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورؤية النَّاس لَهُ؛ ليتمكنوا من كمال الاقتداء بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث لَمْ يمكنه القيام، ولولا هذه العلة لكانت السنة لأبي بَكْر أن يقوم فِي الصف وراء النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد ذكر هَذَا المعنى طائفة من الشافعية.
ونقله الوليد بْن مُسْلِم عَن مَالِك، أَنَّهُ أجاز للمريض أن يصلي بالناس جالساً وهم قيام. قَالَ: وأحب إلي أن يقوم إلى جنبه من يعلم النَّاس بصلاته.
وهي رِوَايَة غريبة عَن مَالِك، ومذهبه عِنْدَ أصحابه: أَنَّهُ لا يجوز ائتمام القائم بالجالس.
وهذا كله عَلَى قَوْلِ من قَالَ: إن أَبَا بَكْر كَانَ مأموماً، فأما من قَالَ هُوَ الإمام فلا إشكال عنده فِي قيام أَبِي بَكْر إلى جانب النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما أشكل عنده جلوس النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى جنب أَبِي بَكْر، وقد يجاب عَنْهُ بأنه يحتمل أن يكون ذَلِكَ لضيق الصف. والله أعلم.

(6/122)


48 - بَاب
مَنْ دَخَلَ ليَؤُمَّ النَّاسَ فَجَاءَ الإمَامُ الأَوَّلُ فَتَأَخَّرَ الآخَرُ
أَوْ لَمْ يَتَأَخَّرْ جَازَتْ صَلاَتُهُ
فِيهِ: عَائِشَة، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
حَدِيْث عَائِشَة، سبقت الإشارة إليه فيما مضى، وقد خرجه البخاري بتمامه فيما بعد من حَدِيْث عُبَيْدِ الله بْن عَبْد الله، عَن عَائِشَة.

(6/123)


684 – حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف: أنا مَالِك، عَن أَبِي حَازِم بْن دينار، عَن سَهْل بْن سعد الساعدي، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذهب إلى بني عَمْرِو بْن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أَبِي بَكْر، فَقَالَ: أتصلي للناس فأقيم. قَالَ: نَعَمْ، فصلى أبو بَكْر، فجاء النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس فِي الصلاة، فتخلص حَتَّى وقف فِي الصف، فصفق النَّاس، وكان أبو بَكْر لا يلتفت فِي صلاته، فلما أكثر النَّاس التصفيق التفت، فرأى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأشار إليه رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن امكث مكانك، فرفع أبو بَكْر يديه، فحمد الله عَلَى مَا أمره بِهِ رَسُول الله من ذَلِكَ، ثُمَّ استأخر أبو بَكْر حَتَّى استوى فِي الصف، وتقدم رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى، فلما انصرف قَالَ: ((يَا أَبَا بَكْر، مَا منعك أن تثبت إذ أمرتك؟)) فَقَالَ أبو بَكْر: مَا كَانَ لابن أَبِي قحافة أن يصلي بَيْن يدي رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

(6/123)


((مَا لِي أراكم أكثرتم التصفيق؟ من نابه شيء فِي صلاته فليسبح؛ فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء)) .
فِي هَذَا الحَدِيْث فوائد كثيرة:
مِنْهَا: أن الإمام يستحب لَهُ الإصلاح بَيْن طائفتين من المُسْلِمِين إذا وقع بينهم تشاجر، وله أن يذهب إليهم إلى منازلهم لذلك.
ومنها: أن الإمام الراتب للمسجد إذا تأخر وعلم أَنَّهُ غائب عَن منزله فِي مكان فِيهِ بعد، ولم يغلب عَلَى الظن حضوره، أو غلب ولكنه لا ينكر ذَلِكَ ولا يكرهه، فلأهل المسجد أن يصلوا قَبْلَ حضوره فِي أول الوقت، وكذا إذا ضاق الوقت.
وأما إن كَانَ حاضراً أو قريباً، وكان الوقت متسعاً، فإنه ينتظر، كما انتظروا النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أخر صلاة العشاء حَتَّى نام النِّسَاء والصبيان، وقد سبق ذكره.
ومنها: أَنَّهُ إنما يؤم النَّاس مَعَ غيبة الإمام أفضل من يوجد من الحاضرين، ولذلك دعي أبو بَكْر إلى الصلاة دون غيره من الصَّحَابَة.
وهذا مِمَّا يستدل بِهِ عَلَى أن الصَّحَابَة كلهم كانوا معترفين بفضل أَبِي بَكْر وتقدمه عليهم، وعلمهم أَنَّهُ لا يقوم مقام النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ غيبته غيره.
وقد روي أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنر فِي هَذَا اليوم أَبَا بَكْر أن يؤم النَّاس إذا لَمْ يحضر.
فخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي هَذَا الحَدِيْث من طريق

(6/124)


حماد بْن زيد، عَن أَبِي حَازِم، عَن سَهْل بْن سعد، وفيه: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((يَا بلال، إن حضرت الصلاة ولم آت فمر أَبَا بَكْر يصلي بالناس)) .
وخرجه الحَاكِم من طريق عُمَر المقدمي، عَن أَبِي حَازِم، وفي حديثه: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((يَا أَبَا بَكْر، إن أقيمت الصلاة فتقدم فصل بالناس)) . قَالَ: نَعَمْ.
وعلى هذه الرواية، فإنما تقدم أبو بَكْر بإذن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ فِي ذَلِكَ.
وفيه: دليل عَلَى أن أَبَا بَكْر كَانَ أحق النَّاس بالإمامة فِي حَيَاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ تخلفه عَن الصلاة بالناس فِي صحته ومرضه.
وهذا يشكل عَلَى قَوْلِ الإمام أحمد: إنه إنما أمره فِي مرضه بالصلاة؛ لأنه أراد استخلافه عَلَى الأمة، فإن أمره بالصلاة فِي غيبته يدل عَلَى أَنَّهُ أحق النَّاس بالإمامة، وأنه أقرأ الصَّحَابَة؛ فإنه يقرأ مَا يقرءون، ويزيد عليهم باختصاصه بمزيد الفهم والفضل، وما اختص بِهِ من الخشوع فِي الصلاة وعدم الالتفات فيها، وكثرة البكاء عِنْدَ قراءة القرآن.
ومنها: أن شق الداخل فِي الصلاةالداخل فِي الصلاة الصفوف طولاً حَتَّى يقوم فِي الصف الأول ليس بمكروه، ولعله كَانَ فِي الصف الأول فرجة، وقد سبق ذكر هذه المسألأة فِي ((أبواب: المرور بَيْن يدي المصلي)) .
وقد قيل: إنَّ ذَلِكَ يختص جوازه بمن تليق به الصلاة بالصف الأول

(6/125)


لفضله وعلمه، وَهُوَ الَّذِي ذكره ابن عَبْد البر.
والمنصوص عَن أحمد: كراهته.
قَالَ ألأثرم: قُلتُ لأبي عَبْد الله: يشق الصفوف إذا قاموا إلى الصلاة عَلَى نحو حَدِيْث المسور بْن مخرمة؟ كأنه لَمْ يعجبه، ثُمَّ قَالَ: اللهم إلا أن يضيق الموضع بالناس، وتؤذيهم الشمس، فإذا أقيمت شق الصفوف ودخل، ليس بِهِ التخطي، إنما بِهِ مَا أذاه الشمس.
ومنها: أن الالتفات فِي الصلاة لحاجة عرضت غير مكروه، وإنما يكره لغير حاجةٍ.
ومنها: أن الالتفات وكثرة التصفيق لحاجة غير مبطل للصلاة، وكذلك التأخر والمشي من صف إلى صف.
ومنها: أن رفع اليدين فِي الصلاة، وحمد الله تعالى عِنْدَ نعمه تجددت غير مبطل للصلاة.
وقد اختلف فِي ذَلِكَ:
فَقَالَ عُبَيْدِ الله بْن الْحَسَن العنبري: هُوَ حسن.
وَقَالَ الأوزاعي: يمضي فِي صلاته.
وَقَالَ عَطَاء: مَا جرى عَلَى لسان الرَّجُلُ فِي الصلاة مَا لَهُ أصل فِي القرآن فليس بكلام.
وَقَالَ إِسْحَاق: إن تعمده فهو كلام، يعيد الصلاة، وإن سبق مِنْهُ من غير تعمد فليس عَلِيهِ إعادة.
وَقَالَ – مرة -: إن تعمد فأحب إلى أن يعيد، فلا يتبين لِي -: نقله عَنْهُ حرب.
وعن أحمد، أَنَّهُ يعيد الصلاة بذلك. وروي عَنْهُ مَا يدل عَلَى أَنَّهُ لا تعاد الصلاة مِنْهُ، وقد

(6/126)


سبق ذَلِكَ مستوفى فِي ((بَاب: مَا يَقُول إذا سَمِعَ المؤذن)) .
ومنها: أن أمر الإكرام لاتكون مخالفته معصية، ولهذا قَالَ أبو بَكْر: ((مَا كَانَ لابن أَبِي قحافة أن يصلي بَيْن يدي رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) ، ولم يكن ذَلِكَ عَلِيهِ.
وهذا مِمَّا استدل بِهِ من قَالَ: إن أَبَا بَكْر لَمْ يؤم النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قط، لا فِي صحته ولا فِي مرضه.
ومنها – وَهُوَ الَّذِي قصده البخاري بتبويبه هاهنا -: أن من أحرم بالصلاة إماماً فِي مسجد لَهُ إمام راتب، ثُمَّ حضر إمامه الراتب، فهل لَهُ أن يؤخر الَّذِي أحرم بالناس إماماً ويصير مأموماً، ويصير الإمام الإمام الراتب، أم لا بل ذَلِكَ من خصائص النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه إمام النَّاس عَلَى كل حال، وقد نهى الله عَن التقدم بَيْن يديه، ولهذا قَالَ أبو بَكْر: ((مَا كَانَ لابن أَبِي قحافة أن يصلي بَيْن يدي رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) ؟ فِي ذَلِكَ قولان:
أحدهما: أَنَّهُ لا يجوز ذَلِكَ، بل هُوَ من خصائص النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وحكاه ابن عَبْد البر إجماعاً من العلماء، وحكاه بعض أصحابنا عَن أكثر العلماء.
والثاني: أَنَّهُ يجوز ذَلِكَ، وتبويب البخاري يدل عَلِيهِ، وَهُوَ قَوْلِ الشَّافِعِيّ، وأحد الوجهين لأصحابنا، وقول ابن الْقَاسِم من المالكية.
واستدل بهذا الحَدِيْث عَلَى أن الإمام إذا سبقه الحدث جاز لَهُ أن يستخلف بعض المأمومين؛ لأنه إذا جازت الصلاة بإمامين مَعَ إمكان إتمامها بالإمام الأول فمع عدم إمكان ذَلِكَ لبطلان صلاة

(6/127)


الأول أولى.
وفي الحَدِيْث – أَيْضاً -: أن الرَّجُلُ إذا نابه شيء فِي صلاته، فإنه يسبح، ولو صفق لَمْ تبطل صلاته، ولكنه يكون مكروهاً.
وأما قوله: ((إنما التصفيح للنساء)) ، فاختلفوا فِي معناه:
فحمله مَالِك وأصحابه عَلَى أن المراد: أن التصفيح من أفعال النِّسَاء، فيكون إخباراً عَن عيبه وذمة، وأنه لا ينبغي أن يفعله أحد فِي الصلاة، رجلاً كَانَ أو أمرأةً.
وحملوا قوله: ((من نابه شيء فِي صلاته فليسبح)) عَلَى أَنَّهُ عام، يدخل فِي عمومه الرجال والنساء، إخبار مِنْهُ بمشروعيته للنساء فِي الصلاة.
وقد رَوَى هَذَا الحَدِيْث حماد بْن زيد، عَن أَبِي حَازِم، عَن سَهْل، وَقَالَ فِي حديثه: ((إذا نابكم شيء فِي الصلاة فليسبح الرجال، وليصفح النِّسَاء)) .
خرجه النسائي وغيره.
وهذا صريح فِي ذَلِكَ، سيأتي الكلام عَلَى ذَلِكَ مستوفى فِي موضعه من الكتاب – إن شاء الله تعالى –؛ فإن البخاري خرج التسبيح للرجال والتصفيق للنساء من حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ وسهل بْن سعد، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد روي معنى حَدِيْث سَهْل من حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ بسياق غريب.

(6/128)


خرجه الترمذي فِي كِتَاب ((العلل)) : حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن الصباح: ثنا شبابة، عَن المغيرة بْن مُسْلِم، عَن مُحَمَّد بْن عَمْرِو، عَن أَبِي سَلَمَة، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: ذهب رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حاجة، فأقام بلال الصلاة، فتقدم أبو بَكْر، فجاء النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بَكْر فِي الصلاة، فأرادوا أن يردوا وصفقوا، فمنعهم رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وصلى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلفه، فلما انفتل قَالَ: ((التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء)) .
وَقَالَ: سألت عَنْهُ مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل - يعني: البخاري – فَلَمْ يعرفه، وجعل يستحسنه، وَقَالَ: المشهور: عَن أَبِي حَازِم، عَن سَهْل. انتهى.
وهذا يخالف مَا فِي حَدِيْث سَهْل، من أن أَبَا بَكْر تأخر وتقدم النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلى بالناس، والصحيح: حَدِيْث سَهْل. والله - سبحانه وتعالى - أعلم.

(6/129)


49 - بَاب
إذا اسْتَوَوْا فِي الْقراَءةِ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ

(6/130)


685 – حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن حرب: ثنا حماد بْن زيد، عَن أيوب، عَن أبي قلابة، عَن مَالِك بْن الحويرث، قَالَ: قدمنا عَلَى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن شببة، فلبثنا عنده نحواً من عشرين ليلة، وكان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رحيماً، فَقَالَ: ((لَوْ رجعتم إلى بلادكم، فعلمتموهم، مروهم فليصلوا صلاة كذا فِي حِينَ كذا، وصلاة كذا فِي حِينَ كذا، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم)) .
هَذَا الحديث خرجه مُسْلِم – بمعناه – من حَدِيْث خَالِد الحذاء، عَن أَبِي قلابة، وزاد فِيهِ: قَالَ الحذاء: وكانا متقاربين فِي القراءة.
وخرجه أبو داود، وزاد فِيهِ: وكنا يومئذ متقاربين فِي العلم.
ورواه حماد بْن سَلَمَة، عَن أيوب، عَن أَبِي قلابة، عَن مَالِك بْن الحويرث، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((يؤم القوم أكبرهم سناً)) .
ذكره أبو بَكْر الأثرم، وَقَالَ: غلط حماد فِي لفظة، وإنما رواه بالمعنى.
وفي ((صحيح مُسْلِم)) من حَدِيْث أوس بْن ضمعج، عَن أَبِي مَسْعُود،

(6/130)


عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله، وأقدمهم قراءةً، فإن كَانَتْ قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة، فإن كانوا فِي الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سناً)) .
وفي ألفاظ هَذَا الحَدِيْث اخْتِلاَف، وقد توقف فِيهِ أبو حاتم الرَّازِي، وحكى عَن شعبة، أَنَّهُ كَانَ يهابه؛ لتفرد إِسْمَاعِيل بْن رجاء بِهِ عَن أوس، فَقَالَ: إنما رواه الْحَسَن بْن يزيد الأصم، عَن السدي، وَهُوَ شيخ، وأخاف أن لا يكون محفوظاً – يعني: حَدِيْث السدي.
وهذه الأحاديث كلها تدل عَلَى التقديم بالسن عِنْدَ التساوي فِي القرءاة وغيرهم من الفضائل، وقد أخذ بذلك أكثر العلماء.
قَالَ عَطَاء والثوري وأبو حنيفة: إذا استووا فِي القراءة والفقة فأسنهم.
وَقَالَ مَالِك: للسن حق.
ولكن اختلفوا: هَلْ تقدم الهجرة والنسب عَلَى السن، أم لا؟
وفيه اخْتِلاَف بَيْن أصحابنا وغيرهم من الفقهاء.
وقول إِسْحَاق: إنه يقدم بالهجرة، وبعدها بالسن. وقيل: إنه ظاهر كلام أحمد – أَيْضاً.
ومما يفرع عَلَى التقديم بالسن، أَنَّهُ: هَلْ يكره أن يؤم الرَّجُلُ أباه إذا كَانَ أقرأ مِنْهُ وأفقه؟
فمن العلماء من كرهه، منهم: عَطَاء، وحكي عَن أَبِي حنيفة، ورواية عَن
أحمد، والمشهور الَّذِي نقله عَنْهُ أكثر أصحابه: أَنَّهُ لا يكره إذا

(6/131)


كَانَ أقرأ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلِ الثوري.
وروي عَن أَبِي أسيد الأنصاري – وَهُوَ من الصَّحَابَة -، أَنَّهُ كَانَ يأتم بابنه، وكذلك عَمْرِو بْن سَلَمَة الجرمي كَانَ يؤم الحي وفيهم أبوه، وقد قدم أبو بَكْر الصديق مكة فِي خلافته فأمهم وفيهم أبو قحافة.

(6/132)


50 - بَاب
إذا زَارَ [الإمَامُ] قَوْماً فَأَمَّهُمْ

(6/133)


686 – حَدَّثَنَا معاذ بن أسد: ثنا عَبْد الله: أنا معمر، عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: أخبرني محمود بْن الربيع، قَالَ: سَمِعْت عتبان بْن مَالِك الأنصاري قَالَ: استأذن عَلِيّ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأذنت لَهُ، فَقَالَ: ((أين تحب أن أصلي من بيتك؟)) فأشرت لَهُ إلى المكان الَّذِي أحب، فقام وصففنا خلفه، ثُمَّ سلم فسلمنا.
قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث مطولاً ومختصراً فِي ((أبواب المساجد)) .
وإنما مقصوده مِنْهُ هاهنا: أَنَّهُ يجوز للزائر أن يؤم فِي منزل من زاره بإذنه.
وقد اختلف فِي كراهة ذَلِكَ:
فكرهه طائفة: منهم: إِسْحَاق، واستدل بما رَوَى بديل بْن ميسرة، عَن أَبِي عطية مَوْلَى لهم، عَن مَالِك بْن الحويرث، قَالَ: سَمِعْت رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم: ((من زار قوماً فلا يؤمهم، وليؤمهم رَجُل منهم)) .
خرجه أبو داود والترمذي. وخرجه النسائي بمعناه، وحسنه الترمذي.
وقد عمل بهذا الحَدِيْث مَالِك بْن الحويرث، ولم يتقدم فِي منزل غيره مَعَ أمرهم لَهُ بالتقدم، واستدل بما رواه.

(6/133)


وأبو عطية هَذَا، قَالَ ابن المديني: لا نعرفه.
رَوَى إِسْحَاق بْن يَحْيَى بْن طلحة، عَن المُسَيِّب بْن رافع ومعبد بْن خَالِد، عَن عَبْد الله بْن يزيد الخطمي – وكان أميراً عَلَى الكوفة -، فَقَالَ: أتينا قيس بْن سعد بْن عُبَادَة فِي ببيته، فأذن بالصلاة، فقلنا لقيس: قم فصل لنا، فَقَالَ: لَمْ أكن لأصلي بقوم لست عليهم بأمير، فَقَالَ رَجُل ليس بدونه – يقال لَهُ: عَبْد الله ابن حنظلة الغسيل -: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الرَّجُلُ أحق أن يؤم فِي رحله)) .
خرجه الجوزجاني.
وخرجه الطبراني والبزار، وعنده: ((فِي بيته)) ، وزاد: ((فأمر مَوْلَى لَهُ فتقدم فصلى)) .
وخرجه البيهقي – أَيْضاً – بمعناه.
وإسحاق هَذَا، ضَعِيف جداً.
وقد روي هَذَا المعنى من وجوه متعددة فيها ضعف.
وروى أبو نضرة، عَن أَبِي سَعِيد مَوْلَى أَبِي أسيد، قَالَ: بنيت عَلَى أهلي وأنا مملوك، فدعوت أناساً من أصْحَاب رَسُول الله عود وأبو ذر وحذيفة، فحضرت الصلاة، فَقُلْت: بتقدم بعضكم. فقالوا: لا، تقدم أنت أحق فقدموني.
خرجه وكيع وابن أَبِي شيبة وغيرهما.
واستدل بِهِ بِهِ أحمد وغيره

(6/134)


عَلَى إمامة العبد.
وروى أبو إِسْحَاق، عَن علقمة – قَالَ: ولم أسمعه مِنْهُ – أن ابن مَسْعُود أتى أَبَا موسى فِي منزله، فحضرت الصلاة، فَقَالَ أبو موسى تقدم يَا أَبَا عَبْد الرحمن؛ فإنك أقدمنا سنا وأعلم. قَالَ: بل تقدم أنت؛ فإنما أتيناك فِي منزلك ومسجدك، فأنت أحق فتقدم أبو موسى.
وَقَالَ أشعث، عَن الْحَسَن: صاحب البيت أحق بالإمامة.
ورخص آخرون فِي إقامة الزائر بإذن رب البيت، وَهُوَ قَوْلِ مَالِك وأحمد.
وهذا القول هُوَ الَّذِي بوب عَلِيهِ البخاري هاهنا، ولكنه لَمْ يشترط الإذن.
وقد وافقه ابن عقيل من أصحابنا، وَقَالَ: إنما يكون رب البيت وإمام المسجد أولى ممن سواه لا ممن هُوَ أقرأ مِنْهُ أو أفقه.
وظاهر هَذَا: أَنَّهُ يقدم الأقرأ والأفقه مطلقاً، عَلَى إمام المسجد ورب البيت، بإذنه وغيره.
وقد روي عَن حميد بْن عَبْد الرحمن مَا يدل عَلَى ذَلِكَ – أَيْضاً -، وسيأتي فيما بعد – إن شاء الله تعالى.
وأكثر العلماء عَلَى أَنَّهُ إنما يقدم عَلَى رب البيت وإمام المسجد بإذنه، وإنما يعتبرر الإذن فِي حق غير النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد ذكر أبو بَكْر الأثرم فِي كتابه ((الناسخ والمنسوخ)) أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يصلي بالقوم إذا زارهم من غير استئذان؛ لأنه كَانَ إمام النَّاس كلهم

(6/135)


حيث مَا كَانَ، وليس هَذَا لغيره. قَالَ: والنهي عَن إمامة الزائر يحمل فِي حق أمته عَلَى إمامتهم بغير إذنهم.
وفي ((صحيح مُسْلِم)) عَن أَبِي مَسْعُود، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((لا يؤمن الرَّجُلُ الرَّجُلُ فِي سلطانه، ولا بقعد فِي بيته عَلَى تكرمته إلا بإذنه)) .
قَالَ الإمام أحمد: أرجو أن يكون الاستثناء عَلَى كله، وأما التكرمة فلا بأس بِهِ إذا أذن.
يعني: أن الاستثناء يعود إلى الجلوس عَلَى التكرمة قطعاً من غير شك، ويرجى عوده إلى الإمامة فِي سلطانه – أَيْضاً -، فيكون مرخصاً فيها بإذنه.
وفسر سُفْيَان وأحمد السلطان فِي هَذَا الحَدِيْث بداره.
ونقل حرب عَن أحمد، قَالَ: إذا كَانَ الرَّجُلُ فِي قريته وداره فهو فِي سلطانه، لا ينبغي لأحد أن يتقدمه إلا بإذنه.
وفي رِوَايَة لمسلم فِي حَدِيْث أَبِي مَسْعُود، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ولا يؤمن الرَّجُلُ فِي أهله ولا فِي سلطانه)) .
وعلى هذه الرواية، فالمراد بأهله: بيته، وبسلطانه: مَا يتصرف فِيهِ بأمره ونهيه، كأمير البلد.
وخرجه أبو داود، ولفظه: ((ولا يؤمن الرَّجُلُ فِي بيته، ولا فِي سلطانه)) .
ولو اجتمع السلطان العام والسلطان الخاص، مثل أن يجتمع فِي بيت رَجُل رب البيت وسلطان المصر، أو فِي مسجد إمام المسجد والسلطان، فهل يقدم السلطان عَلَيْهِمَا، أم يقدمان عَلِيهِ، أم يقدم عَلَى إمام

(6/136)


المسجد دون صاحب البيت؛ لأن إمام المسجد إنما يقدم بتقديم السلطان لَهُ غالباً؟ فِيهِ ثَلاَثَة أوجه لأصحابنا.
وظاهر مَا تقدم عَن قيس بْن سعد يقتضي أن رب البيت أولى من السلطان وإمام المسجد، كرب البيت فيما ذكرنا.
وروى الشَّافِعِيّ: أنا عَبْد المجيد، عَن ابن جُرَيْج، قَالَ: أخبرني نَافِع، قَالَ: أقيمت الصلاة فِي مسجد بطائفة المدينة، ولابن عُمَر قريب من ذَلِكَ المسجد أرض يعملها، وإمام ذَلِكَ المسجد مولى لَهُ، ومسكن ذَلِكَ المَوْلَى وأصحابه ثُمَّ، فلما سمعهم عَبْد الله جَاءَ ليشهد معهم الصلاة، فَقَالَ لَهُ المولى صاحب المسجد: تقدم فصل. فَقَالَ عَبْد الله: أنت أحق أن تصلي فِي مسجدك مني، فصلى المولى.
قُلتُ: لعل هَذَا المولى كَانَ عتيقاً لابن عُمَر، وأما لَوْ كَانَ رقيقاً لَهُ ففي كونه أولى بالإمامة نظر.
وقد قَالَ أصحابنا: السيد فِي منْزل عبده أولى مِنْهُ بالإمامة؛ لأنه يملكه ويملك منْزله.
وهذا قَدْ يبنى عَلَى أن العبد: هَلْ يملك ماله، أم هُوَ ملك للسيد؟ وفيه خلاف مشهور. والله أعلم.
وروى أبو قيس، عَن هزيل بْن شرحبيل، قَالَ: جَاءَ ابن مَسْعُود إلى مسجدنا، فأقيمت الصلاة، فقلنا لَهُ: تقدم. فَقَالَ: يتقدم إمامكم. فقلنا: إن إمامه ليس هاهنا. قَالَ: يتقدم رَجُل منكم.
خرجه البيهقي.

(6/137)


وهذا مِمَّا يشهد لَهُ مَا تقدم عَن أحمد، أن الرَّجُلُ إذا كَانَ فِي قريته فهو فِي سلطانه، فلا يتقدم عَلِيهِ.
وروى حرب بإسناده، عَن الْحَسَن، أَنَّهُ دَخَلَ مسجداً، فَقَالَ لَهُ إمامه: تقدم يَا أَبَا سَعِيد، قَالَ: الإمام أحق بالإمامة.
وروي عَن حميد بْن عَبْد الرحمن، أَنَّهُ تقدم فِي بعض البوادي عَلَى إمامهم بغير إذن، وكره إمامه الأعرابي، وسيأتي فيما بعد – إن شاء الله تعالى.

(6/138)


51 - بَابُ
إنَّماَ جُعلَ الإمَامُ ليُوْتَمَّ بِهِ
وصلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مرضه الَّذِي توفى فِيه بالناس وَهُوَ جالس.
وَقَالَ ابن مَسْعُود: إذا رفع قَبْلَ الإمام يعود فيمكث بقدر مَا رفع، ثُمَّ يتبع الإمام.
وَقَالَ الْحَسَن - فيمن يركع مَعَ الإمام ركعتين ولا يقدر عَلَى السجود -: يسجد للركعة الأخيرة سجدتين، ثُمَّ يقضي الركعة الأولى بسجودها. وفيمن نسي سجدة حَتَّى قام: يسجد.
المقصود بهذا الباب: أن الإمام يتبع فِي جميع أفعاله، وإن فات من متابعته شيء، فإنه يقضيه المأموم ثُمَّ يتبعه، وإنما يتم هَذَا بأن يصلوا وراءه جلوساً إذا صلى جالساً.
وهذا المعنى هُوَ الَّذِي قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأجله: ((إنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ)) ، والبخاري يدعي نسخه، كما ذكره فِي آخر الباب، فعلى قوله يفوت كمال المتابعة والائتمام بِهِ.
وما علقه من صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالساً فِي مرضه قَدْ خرجه فِي الباب بإسناده.
وأما مَا حكاه عَن ابن مَسْعُود، فمضمونه: أن من رفع رأسه قَبْلَ الإمام فإنه يعود إلى الركوع والسجود الَّذِي رفع مِنْهُ، فيمكث بقدر مَا رفع قبله ليتم متابعته، ويكون ركوعه وسجوده بقدر ركوع الإمام وسجوده.

(6/139)


وهكذا قَالَ عُمَر بْن الخَطَّاب، قَالَ: إذا رفع أحدكم رأسه من ركعته أو سجدته قَبْلَ الإمام، فليعد حَتَّى يرى قَدْ أدرك مَا فاته.
خرجه حرب الكرماني والإسماعيلي فِي ((مسند عُمَر)) من طريق أَيْنَ إِسْحَاق، عَن يعقوب بْن عَبْد الله بْن الأشج، عَن بسر بْن سَعِيد، عَن الحارث بْن مخلد، عَن أَبِيه مخلد، قَالَ: سَمِعْت عُمَر – فذكره.
وخرجه الحافظ أبو موسى المديني من طريق حماد بْن مسعدة، عَن ابن أَبِي ذئب، عَن يعقوب بْن الأشج، بِهِ، إلا أَنَّهُ رفعه إلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ورفعه فِيهِ نكارة.
وقد اعتبر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا القدر من المتابعة للأمام، كما خرجه مُسْلِم من حَدِيْث أَبِي موسى الأشعري، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، وليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}
[الفاتجة: 7] فقولوا: آمين، يجبكم الله، فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم)) . فَقَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فتلك بتلك، وإذا قَالَ: سَمِعَ الله لمن حمده، فقالوا: اللهم ربنا لَكَ الحمد، يسمع الله لكم؛ فإن الله تعالى قَالَ عَلَى لسان نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَمِعَ الله لمن حمده، فإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا؛ فإن الإمام يسجد قبلكم ويرفع)) ؛ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فتلك بتلك)) – وذكر بقية الحَدِيْث.
ومعنى قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فتلك بتلك)) : أن مَا سبقكم من ركوعه قبلكم

(6/140)


وسجوده قبلكم تدركونه بتأخركم بالرفع بعده من الركوع والسجود، فتساوونه فِي قدر ركوعه وسجوده بذلك.
وروى أبو داود وابن ماجه من حَدِيْث ابن مَسْعُود، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((لا تبادروني بالركوع ولا بالسجود، فمهما أسبقكم بِهِ إذا ركعت تدركوني إذا رفعت، ومهما أسبقكم بِهِ إذا سجدت تدركوني بِهِ إذا رفعت؛ إني قَدْ بدنت)) .
وخرج الإمام أحمد من حَدِيْث ابن مسعدة صاحب الجيوش، قَالَ: سَمِعْت رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُول: ((إني قَدْ بدنت، فمن فاته ركوعي أدركه فِي بطء قيامي)) .
فلهذا المعنى قَالَ ابن مَسْعُود: فمن رفع قَبْلَ الإمام يعود فيمكث بقدر مَا رفع ثُمَّ يتبع الإمام.
وفيه معنى آخر، وَهُوَ: أَنَّهُ إذا فعل ذَلِكَ فَقَدْ تخلص من محذور رفعه قَبْلَ الإمام، وَهُوَ منهي عَنْهُ.
وقد روي مثل قَوْلِ ابن مَسْعُود عَن عُمَر وابنه، وعن كثير من التابعين ومن بعدهم من العلماء، وَهُوَ قَوْلِ الفقهاء المشهورين كأبي حنيفة ومالك والثوري والشافعي وأحمد.
وأوجب أصحابنا عَلَى السابق أن يرفع ليتبع الإمام، مَا دام الإمام لَمْ يرفع بعد.
فإن رفع الإمام، فقالوا: يسحب لَهُ أن يعوض عَن ذَلِكَ

(6/141)


بالتطويل فِي السجدة الثانية، وحملوا عَلِيهِ مَا روي عَن ابن عُمَر، قَالَ: من رفع رأسه فِي السجدة الأولى قَبْلَ الإمام فليطول فِي الثانية.
وعن ابن مَسْعُود، قَالَ: ليصنع فِي الثانية بعد الإمام بقدر مَا كَانَ رفع فِي الأولى.
خرجهما سَعِيد بْن منصور فِي ((سننه)) .
ولم يفرق أكثرهم بَيْن أن يرفع قبله عمداً أو سهواً، وهذا عَلَى أصل الحنفية ظاهر؛ لأنهم يرون أن لا تبطل الصلاة بزيادة ركوع أو سجود عمداً، وأما أصْحَاب الشَّافِعِيّ وأحمد فعندهم تبطل الصلاة بذلك عمداً.
وَقَالَ بعض متأخريهم: إنه إن رفع قَبْلَ الإمام عمداً لَمْ يعد إلى متابعته فيما رفع عَنْهُ من ركوع أو سجود؛ لأنه يكون قَدْ تعمد زيادة ركن عمداً فتبطل صلاته بذلك.
والصحيح: مَا أطلقه الأئمة وأكثر أصحابهم؛ فإن عوده إلى المتابعة قطع لما فعله من القيام والقعود الَّذِي سبق بِهِ الإمام، وعود إلى متابعة الإمام، وليس عوده إتماماً للركوع ولا للسجود الَّذِي سبق بِهِ، بل هُوَ إبطال لَهُ، فلا يصير بذلك متعمداً لزيادة ركن تام.
وبكل حال؛ فإذا تعمد المأموم سبق إمامه ففي بطلان صلاته بذلك وجهان لأصحابنا.
وقيل: إن البطلان ظاهر كلام أحمد، وروي عَن ابن عُمَر، وأكثر العلماء عَلَى أنها لا تبطل، ويعتد لَهُ بِهَا إذا اجتمع مَعَ إمامه فيما بعد.
ولو كَانَ سبق الإمام سهواً حَتَّى أدركه

(6/142)


إمامه اعتد لَهُ بذلك عِنْدَ أصحابنا وغيرهم، خلافاً لزفر.
وقد بسطت القول عَلَى ذَلِكَ فِي ((كِتَاب القواعد فِي الفقه)) . والله أعلم.
وأما مَا حكاه البخاري عَن الْحَسَن، فإنه يتضمن مسألتين:
إحداهما:
إذا صلى مَعَ الإمام ركعتين، وقدر عَلَى الركوع فيهما مَعَهُ دون السجود فإنه عجز عَنْهُ، فإنه إذا قعد الإمام للتشهد سجد سجدتين، فكملت لَهُ الركعة الثانية، وأعاد الركعة الأولى الَّتِيْ عجز عَن سجدتيها.
وهذا يدل عَلَى أن المأموم إذا تخلف عَن متابعة الإمام فِي سجدتين من ركعة، فَقَدْ فات المأموم تلك الركعة؛ فلهذا لَمْ يعتد بالركعة الأولى، وإنما يعتد بالثانية؛ لأنه قدر عَلَى قضاء السجدتين، وإدراك الإمام قَبْلَ سلامه، فهو كما لَوْ أدركهما مَعَهُ.
وفي هَذَا نظر؛ فإنه كَانَ ينبغي أن يأتي بالسجدتين فِي قيام الإمام إلى الثانية، ثُمَّ يلحقه كما يأتي بهما فِي حال تشهده فِي الثانية، ولا فرق بَيْنَهُمَا.
وقد يحمل عَلَى أَنَّهُ لَمْ يتمكن من السجدتين إلا فِي التشهد، ولم يتمكن فِي حال قيام الإمام فِي الثانية.
وعن أحمد فيما إذا تخلف عَن الإمام حَتَّى فاته مَعَهُ سجدتان – روايتان:
إحداهما: أَنَّهُ تلغى ركعته، كما قَالَ الْحَسَن، ولكن لا فرق عنده بَيْن الركعة الأولى والثانية.
والرواية الثانية: إن خاف فوات الركعة الثانية بتشاغله بقضاء

(6/143)


السجدتين فكذلك، وإن لَمْ يخف قضى السجدتين إذا قام الإمام فِي الثانية ثُمَّ لحقه فيها.
واختلف الأصحاب فِي ذَلِكَ: فمنهم من قَالَ: هاتان الروايتان جاريتان فِي جميع صور التخلف عَن متابعة الإمام بركنين، سواء كَانَ لسهو أو نوم أو زحام.
ومنهم من قَالَ: إنما نَصَّ أحمد فِي الساهي والنائم عَلَى أن ركعته تلغى، ونص فِي المزحوم عَلَى أَنَّهُ يقضي ثُمَّ يلحق الإمام، فيقر النصان عَلَى مَا نَصَّ عَلِيهِ من غير نقل ولا تخريج، ويفرق بَيْن المزحوم وغيره، بأن غير المزحوم مفرط ومقصر فتلغى ركعته، بخلاف المزحوم فإنه معذور فيأتي بما فاته ويلحق إمامه.
وروى حرب بإسناده، عن الأوزاعي فِي رَجُل صلى مَعَ الإمام ركعة، فلما كَانَ فِي الثانية ركع الإمام وسجد سجدتيه، ثُمَّ قام فِي الثالثة والرجل قائم؟ قَالَ: إن أدركه فِي سجدتيه ركع وسجد معهم، وإن كَانَ قَدْ نهض فِي الثالثة اتبعه فيما بقي من صلاته، ثُمَّ يقضي تلك الركعة الَّتِيْ نام عَنْهَا أو غفل.
وعن الزُّهْرِيّ، فِي الرَّجُلُ يصلي مَعَ الإمام، فينام حَتَّى يفرغ الإمام من الركعة والسجدتين؟ قَالَ: يصلي مَا تركه بهد أن يسلم، ويسجد سجدتي السهو.
وبإسناده، عَن هِشَام، عَن الْحَسَن، فِي رَجُل كَانَ مَعَ القوم، فنام أو

(6/144)


سها، فركعوا أو سجدوا؟ قَالَ: يتبعهم بالركوع والسجود، وليس عَلِيهِ غيره.
وهذا يدل عَلَى أن كلام الْحَسَن الَّذِي حكاه البخاري إنما أراد بِهِ أَنَّهُ عجز عَن قضاء السجدتين قَبْلَ تشهد الإمام. والله أعلم.
ويدل عَلِيهِ - أَيْضاً -: مَا خرجه عَبْد الرزاق فِي ((كتابه)) ، عَن معمر، عَن رَجُل، عَن الْحَسَن، فِي رَجُل دَخَلَ مَعَ قوم فِي صلاتهم، فنعس حَتَّى ركع الإمام وسجد؟ قَالَ: يتبع الإمام.
وعن ابن جُرَيْج، عَن عَطَاء، قَالَ: قُلتُ لَهُ: لَوْ كبرت مَعَ الإمام لاستفتاح الصلاة، ثُمَّ ركع فسهوت، فَلَمْ أركع حَتَّى رفع؟ قَالَ: قَدْ أدركتها فاعتد بِهَا.
قُلتُ لعطاء: فنعست، فَلَمْ أزل قائماً حَتَّى رفع النَّاس وسجدوا، فجبذني إنسان، فجلست كما أنا؟ قَالَ: فأوف تلك الركعة – يعني: تقضيها.
وَقَالَ عَبْد الرزاق: عَن الثوري، فِي رَجُل كبر مَعَ الإمام فِي أول الصلاة، ثُمَّ نعس حتة صلى الإمام ركعة أو ركعتين؟ قَالَ: إذا استيقظ ركع وسجد مَا سبقه، ثُمَّ يتبع الإمام بما بقي، فهو يركع ويسجد بغير قراءة.
وهذا قَوْلِ غريب.
وقد تقدم عَن الأوزاعي، أَنَّهُ يتبعه، ويأتي بما فاته مَا لَمْ ينهض الإمام إلى الركعة الَّتِيْ بعدها.
وَقَالَ مَالِك: إن أدركهم فِي أول سجودهم سجد معهم واعتد بِهَا،

(6/145)


وإن علم أَنَّهُ لا يقدر عَلَى الركوع وأن يدركهم فِي السجود حَتَّى يقوموا فِي الثانية تبعهم فيما بقي، وقضى الركعة بعد السلام، وسجد للسهو.
ومذهب الشَّافِعِيّ: أَنَّهُ يسجد ويتبعه مَا لَمْ يركع الإمام الركعة الثانية؛ فإن ركع لغت ركعته، ثُمَّ قضاها بعد سلام الإمام.
ومذهب الإمام أحمد: إذا فاته مَعَ الإمام أكثر من ركنين لغت ركعته، ويقضيها بعد سلام الإمام كالمسبوق.
وعن الإمام أحمد رِوَايَة: أَنَّهُ إذا نام حَتَّى فاته ركعتان بطلت صلاته.
وهذا محمول عَلَى أَنَّهُ كَانَ نوماً طويلاً، فانتقضت طهارته، فيعيد الوضوء والصلاة.
وحكي عَنْهُ رِوَايَة أخرى: إذا نام حَتَّى رفع الإمام من الركوع تبطل صلاته.
وهي محمولة – أَيْضاً – عَلَى أَنَّهُ نام مدة قيام الأول وركوعه ورفعه، فهو نوم طويل ناقض للطهارة. والله أعلم.
المسألة الثانية:
أن من نسي سجدة حَتَّى قام الإمام سجد، ثُمَّ تابعه.
وهذا قَوْلِ جمهور العلماء.
ومن أصحابنا من قَالَ: لا نعلم فِيهِ خلافاً؛ لأنه تخلف يسير لعذر، وتعم بِهِ البلوى كثيراً فِي حق من صلى خلف من لا يطيل المكث فِي ركوعه وسجوده.
وهذا مطرد فِي كل من فاته مَعَ الإمام ركن واحد لعذر من زحام أو نوم أو نسيان.
ولا فرق بَيْن ركن وركن فِي ذَلِكَ عِنْدَ كثير من العلماء من أصحابنا وغيرهم.
ومن أصحابنا من فرق بَيْن الركوع وغيره، فَقَالَ: إن فاته الركوع وحده حَتَّى رفع الإمام فحكمه حكم التخلف عَن الإمام بركنين، كما

(6/146)


سبق، فإما أن تفوته الركعة ويقضيها، أو أن يركع ثُمَّ يتابع إمامه، عَلَى مَا سبق.
وحكي رِوَايَة عَن أحمد، أَنَّهُ تبطل صلاته، قَدْ سبق ذكرها وتأويلها.
وفرق هؤلاء بَيْن الركوع وغيره بأن الركوع عماد الركعة، وبه تلحق تفوت بفوته، فألحق بالركنين فِي التخلف بِهِ عَن الإمام، وهذه طريقة ابن أَبِي موسى وغيره.
ومن سوى بَيْن الركوع وغيره فرق بَيْن هَذَا وبين المسبوق، بأن المسبوق قَدْ فاته مَعَ الإمام معظم الركعة، وَهُوَ القيام والقراءة والركوع، وليس هَذَا كذلك.
وقد سبق عَن عَطَاء مَا يدل عَلَى أَنَّهُ يركع بعد إمامه ويعتد لَهُ بتلك الركعة.
والله - سبحانه وتعالى - أعلم.
خرج البخاري فِي هَذَا الباب ثَلاَثَة أحاديث:
الحَدِيْث الأول:

(6/147)


687 – حَدَّثَنَا أحمد بْن يونس: ثنا زائدة، عَن موسى بْن أَبِي عَائِشَة، عَن
عُبَيْدِ الله بْن عَبْد الله، قَالَ: دخلت عَلَى عَائِشَة، فَقُلْت: ألا تحدثني عَن مرض
رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَتْ: بلى؛ ثقل النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: ((أصلى النَّاس؟)) . فقلنا: لا، يَا رَسُول الله، وهم ينتظرونك، فَقَالَ: ((ضعوا لِي ماء فِي المخضب)) . قَالَتْ: ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عَلِيهِ ثُمَّ أفاق،

(6/147)


فَقَالَ: ((أصلى النَّاس؟)) قلنا: لا، وهم ينتظرونك يَا رَسُول الله عكوف فِي المسجد ينتظرون رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصلاة لعشاء الآخرة، فأرسل النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أَبِي بَكْر بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول، فَقَالَ: إن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرك أن تصلي بالناس فَقَالَ أبو بَكْر – وكان رجلاً رقيقاً – يَا عُمَر، صل بالناس. فقالَ لهُ عُمَر: أنت أحق بذلك، فصلى أبو بَكْر تلك الأيام، ثُمَّ إن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجد من نفسه خفة، فخرج بَيْن رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس فلما رأه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأوما إليه النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن لا يتأخر. قَالَ: ((أجلساني إلى جنبه)) ، فاجلساه إلى جنب أَبِي بَكْر. قَالَ: فجعل أبو بَكْر يصلي وَهُوَ يأتم بصلاة رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس يصلون بصلاة أَبِي بَكْر والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاعد.

(6/148)


قَالَ عُبَيْدِ الله: فدخلت عَلَى عَبْد الله بْن عَبَّاس، فَقُلْت: ألا أعرض عَلَيْك مَا حَدَّثَتني عَائِشَة عَن مرض رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: هات، فعرضت عَلِيهِ حديثها، فما أنكر مِنْهُ شيئاً، غير أَنَّهُ قَالَ: أسمت لَكَ الرَّجُلُ الآخر الَّذِي كَانَ مَعَ العباس؟ قُلتُ: لا، قَالَ: هُوَ عَلِيّ.
هَذَا السياق من أتم مَا روي عَن عَائِشَة فِي هَذَا الباب، وقد تفرد بِهِ موسى ابن أَبِي عَائِشَة عَن عُبَيْدِ الله، وقد سبق مَا قاله أبو حاتم الرَّازِي فِي حديثه هَذَا، وانه مِمَّا يرتاب بِهِ، ولعل فِيهِ ألفاظاً مدرجة.
والظاهر: أن مَا ذكره فِي آخره: ((فجعل أبو بَكْر يصلي)) مدرج من قَوْلِ بعض الرواة، فلهذا قَالَ فِيهِ:: ((قَالَ)) ، ولم يقل: ((قَالَتْ)) ، فالظاهر أن عَائِشَة لَمْ تقل ذَلِكَ، إنما قاله عُبَيْدِ الله أو غيره كما تقدم ذَلِكَ من قَوْلِ عُرْوَةَ، زاده فِي حديثه عَن عائشة.
وقوله: ((ذهب لينوء)) – أي: ينهض بثقل، من قولهم: نؤت بالحمل أنوء بِهِ إذا نهضت بِهِ.
وفي هَذَا الحَدِيْث من العلم مسائل كثيرة:
مِنْهَا: أن الإمام إذا كَانَ قريباً من المسجد وعرف عذره المانع لَهُ من الخروج إلى الصلاة، فإنه ينتظر خروجه.
ومنها: أن المغمى عَلِيهِ إذا أفاق فإنه يستحب لَهُ أن يغتسل، وقد سبقت المسألة فِي ((الطهارة)) .

(6/149)


ومنها: أن المأمور بالصلاة بالناس لَهُ أن يأذن لغيره فِي الصلاة بهم؛ فإن أبا بَكْر أذن لعمر.
ويؤخذ من هَذَا: أن الوكيل لَهُ أن يوكل فيما وكل فِيهِ من غير إذن لَهُ فِي التوكيل، كما هُوَ أحد قولي العلماء، وإحدى الروايتين عَن أحمد.
ومنها: جواز وقوف المأموم إلى جانب الإمام، وإن كَانَ وراءه صفوف، وقد سبق الكلام عَلَى ذَلِكَ.
ومنها – وَهُوَ مقصود البخاري هاهنا -: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ هُوَ الإمام فِي هذه الصلاة، وكان أبو بَكْر مؤتماً بِهِ، وكان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالساً فِي هذه الصلاة، وكان أبو بَكْر إلى جانبه قائماً، والناس وراءه قياماً، ولم يأمره بالجلوس، وهذه الصلاة كَانَتْ فِي آخر حَيَاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدل ذَلِكَ عَلَى نسخ أمره بالجلوس وراء الإمام إذا صلى جالساً؛ لأن ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ هَذَا بغير شك.
وقد ذكره البخاري فِي آخر الباب عَن أَبِي بَكْر الحميدي، والحميدي أخذه عَن الشَّافِعِيّ، وسيأتي الكلام عَلَى ذَلِكَ بعد ذكر باقي أحاديث الباب – إن شاء الله تعالى.
الحَدِيْث الثاني:

(6/150)


688 – حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف: أنا مَالِك، عَن هِشَام بْن عُرْوَةَ، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة أم المُؤْمِنيِن، أنها قَالَتْ: صلى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بيته وَهُوَ شاك، فصلى جالساً وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن جلسوا، فلما انصرف قَالَ: ((إنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً)) .

(6/150)


الحَدِيْث الثالث:

(6/151)


689 – حَدَّثَنَا عَبْد الله بْن يوسف: أنا مَالِك، عَن ابن شِهَاب، عَن أنس بْن مَالِك، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركب فرساً فصرع عَنْهُ، فجحش شقة الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات وَهُوَ قاعد، فصلينا وراءه قعوداً، فلما انصرف قَالَ: ((إنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ، فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذاي ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قَالَ: سَمِعَ الله لمنحمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون)) .
قَالَ الحميدي: هَذَا منسوخ، قوله: ((إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً)) ، هَذَا هُوَ فِي مرضه القديم، ثُمَّ صلى بعد ذَلِكَ جالساً والناس خلفه قياماً.
قَالَ أبو عَبْد الله: ولم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ جالساً والناس خلفه قيام.

(6/151)


وقد خرج البخاري فيما تقدم من حَدِيْث أَبِي الزناد، عَن الأعرج، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((إنما الإمام ليؤتم بِهِ، فإذا كبر فكبروا)) – فذكر مثل حَدِيْث أنس إلى قوله: ((أجمعون)) .
وخرجه فيما بعد من حَدِيْث همام بْن منبه، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد اختلف العلماء فِي صلاة القادر عَلَى القيام خلف الجالس:
فَقَالَتْ طائفة: لا يجوز ذَلِكَ بالكلية، هَذَا قَوْلِ مُحَمَّد بن الْحَسَن والحسن ابن حي ومالك – فِي ظاهر مذهبه – والثوري – فِي رواية عَنْهُ.
وتعلق بعضهم بحديث مرسل، رواه جابر الجعفي، عَن الشَّعْبِيّ، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((لا يؤمن أحد بعدي جالساً)) .
وجابر، لا يحتج بما يسنده، فكيف بما يرسله؟! وقد طعن فِي حدثيه هَذَا الشَّافِعِيّ وابن أَبِي شيبة والجوزجاني وابن حبان وغيرهم.
وروى سيف بن عُمَر الضبي: ثنا سَعِيد بن عَبْد الله الجمحي، عَن أَبِيه، عَن مُحَمَّد بن مسَلَمَة، قَالَ: دخلت عَلَى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شكوى اشتكاه، وحضرت الصلاة، فصلى بنا جالساً ونحن قيام، فلما انصرف قَالَ: ((إذا صلى إمامكم جالساً فصلوا جلوساً)) ، وكنا نفعل ذَلِكَ حَتَّى حج حجته، فنهى فيها أن يؤم أحد قوماً وَهُوَ جالس.
خرجه القاضي مُحَمَّد بن بدر فِي ((كِتَاب المناهي)) .
وَهُوَ حَدِيْث

(6/152)


باطل، وسيف هَذَا مشهور بالكذب.
وقالت طائفة: يجوز أن يصلي القادر عَلَى القيام خلف الإمام الجالس العاجز عَن القيام بكل حال، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة وأبي يوسف وزفر وابن المبارك والثوري ومالك
– وفي رِوَايَة عنهما – والأوزاعي والشافعي وغيرهما.
واختلف الرواية عَن الإمام أحمد فِي ذَلِكَ، فالمشهور عَنْهُ: أَنَّهُ لا يجوز أن يأتم القادر عَلَى القيام بالعاجز عَنْهُ، إلا أن يكون العاجز إمام الحي، ويكون جلوسه لمرض يرجى برؤه، ويأتمون بِهِ جلوساً، كما سيأتي – إن شاء الله.
ونقل عَنْهُ الميموني، أَنَّهُ لا يجوز ذَلِكَ إلا خلف الإمام الأعظم خاصة، إذا كَانَ مرضه يرجى برؤه.
وروي عَنْهُ مَا يدل عَلَى جواز الائتمام بالجالس مطلقاً، لكن إن كَانَ إمام الحي ورجي زوال علته صلّوا وراءه جلوساً، وإن كَانَ غير ذَلِكَ صلوا وراءه قياماً.
واختلف القائلون بجواز اقتداء القادر عَلَى القيام بالجالس: هَلْ يصلي وراءه جالساً، أو قائماً؟
فَقَالَتْ طائفة: يصلي وراءه قائماً، هَذَا قَوْلِ المغيرة وحماد وأبي حنيفة والثوري وابن المبارك ومالك والشافعي وأبي ثور.
واعتمدوا عَلَى أقيسة أو عمومات، مثل قوله: ((صل قائماً، فإن لَمْ تستطع فقاعداً)) .
وتبعهم عَلَى ذَلِكَ طائفة من المحديثن كالحميدي والبخاري، وادعوا نسخ أحاديث الأمر بالجلوس لصلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مرض موته قاعداً والناس خلفه قياماً، ولم يأمرهم بالجلوس كما قرره

(6/153)


البخاري، وحكاه عَن الحميدي.
وَقَالَ آخرون: بل يصلي القادر عَلَى القيام خلف الإمام الجالس جالساً، هَذَا هُوَ المروي عَن الصَّحَابَة، ولا يعرف عنهم اختلاف فِي ذَلِكَ.
وممن روي عَنْهُ ذَلِكَ من الصَّحَابَة: أسيد بن حضير وقيس بن فهد وجابر بن
عَبْد الله وأبو هُرَيْرَةَ ومحمود بن لبيد.
ولا يعرف عَن صحابي خلاف ذَلِكَ، بل كانوا يفعلون ذَلِكَ فِي مساجدهم ظاهراً، ولم ينكر عليهم عملهم صحابي ولا تابعي.
رَوَى سُلَيْمَان بن بلال، عَن يَحْيَى بن سَعِيد، عَن بشير بن يسار، أن أسيد ابن الحضير كَانَ يؤم قومه بني عَبْد الأشهل فِي مسجدهم، ثُمَّ اشتكى، فخرج إليهم بعد شكوه، فأمروه أن يتقدم فيصلي بهم، فَقَالَ: إني لا استطيع أن أقوم. قالوا: لا يصلي لنا أحد غيرك مَا كُنْتُ فينا. فَقَالَ: إني لا أستطيع أن أصلي قائماً فاقعدوا، فصلى قاعداً وصلوا وراءه قعوداً.
خرجه الأثرم وغيره.
وهذا إسناد صحيح.
وروى هِشَام بن عُرْوَةَ، عَن كثير بن السائب، عَن محمود بن لبيد، قَالَ: كَانَ أسيد بن حضير قَدْ اشتكى عرق النسا، وكان لنا إماماً، فكان يخرج إلينا فيشير إلينا بيده أن اجلسوا، فنجلس فيصلي بنا جالساً ونحن جلوس.
خرجه الدارقطني.

(6/154)


وروى قيس بن أَبِي حَازِم، عَن قيس بن فهد، أن إماماً لهم اشتكى أياماً.
قَالَ: فصلينا بصلاته جلوساً.
خرجه أبو الْقَاسِم البغوي وذكره البخاري فِي ((تاريخه)) .
وروى يَحْيَى بن سَعِيد، عَن أَبِي الزُّبَيْر، عَن جابر، أَنَّهُ فعل ذَلِكَ مَعَ أصحابه.
وروى وكيع، عَن إِسْمَاعِيل بن أَبِي خَالِد، عَن قيس بن أَبِي حَازِم، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: الإمام أمير، فإن صلى قائماً فصلوا قياماً، وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً.
قَالَ الإمام أحمد: فعله أربعة من الصَّحَابَة: أسيد بن حضير وقيس بن قهد، وجابر، وأبو هُرَيْرَةَ. قَالَ: ويروى عَن خمسة، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً)) ، ولا أعلم شيئاً يدفعه.
وهذا من علمه وورعه - رضي الله عنه -، فإنه إنما دفع ذَلِكَ بالنسخ وهي دعوى مردودة، كما سيأتي بيانه – إن شاء الله تعالى.
وكان الإمام أحمد يتورع عَن إطلاق النسخ؛ لأن إبطال الأحكام الثابتة بمجرد الاحتمالات مَعَ إمكان الجمع بينها وبين مَا يدعى معرضها غير جائز، وإذا أمكن الجمع بينها والعمل بِهَا كلها وجب ذَلِكَ، ولم يجز دعوى النسخ مَعَهُ،

(6/155)


وهذه قاعدة مطردة.
وهي: أنا إذا وجدنا حديثاً صحيحاً صريحاً فِي حكم من الأحكام، فإنه لا يرد باستنباط من نَصَّ آخر لَمْ يسق لذلك المعنى بالكلية، فلا ترد أحاديث تحريم صيد المدينة بما يستنبط من حَدِيْث النغير، ولا أحاديث توقيت صلاة العصر الصريحة بحديث:
((مثلكم فيما خلا قبلكم من الأمم كمثل رَجُل استأجر أجراء)) – الحَدِيْث، ولا أحاديث: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)) بقوله: ((فيما سقت السماء العشر)) .
وقد ذكر الشَّافِعِيّ أن هَذَا لَمْ يسق لبيان قدر مَا يجب مِنْهُ الزَّكَاةِ، بل لبيان قدر الزَّكَاةِ، وما أشبه هَذَا.
وممن ذهب إلى أن المأموم يصلي جالساً خلف الإمام الجالس بكل حال من العلماء: الأوزاعي وحماد بن زيد وأحمد وأسحاق وأبو خيثمة زهير بن حرب وسليمان بن داود الهاشمي وأبو بَكْر بن أَبِي شيبة وأبو إسحاق الجوزجاني وابن المنذر وابن خزيمة وابن حبان، ونقله إجماعاً قديماً من السلف، حَتَّى قَالَ فِي ((صحيحه)) : أول من أبطل فِي هذه الأمة صلاة المأموم قاعداً إذا صلى إمامه جالساً: المغيرة بن مقسم، وعنه أخذ أبو حنيفة.
وأما دعوى النسخ فِي هَذَا فَقَدْ بينا أَنَّهُ لا يجوز دعوى بطلان الحكم مَعَ إمكان العمل بِهِ ولو بوجه، وسنبين وجه العمل بِهِ، والجمع بَيْن مَا أدعى عَلِيهِ التعارض – إن شاء الله تعالى.
ويدل عَلَى أن الأمر بالقعود خلف الإمام القاعد غير منسوخ: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علله بعلل لَمْ تنسخ ولم تبطل منذ شرعت.

(6/156)


ومنها: أَنَّهُ علله بأن الإمام إنما جعل إماماً ليؤتم بِهِ ويقتدى بِهِ فِي أفعاله، وَقَالَ: ((إذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قَالَ: سَمِعَ الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون)) ,
وما قَبْلَ الصلاة جلوساً لَمْ ينسخ مِنْهُ شيء، فكذلك القعود؛ لأن الجميع مرتب عَلَى أن الإمام يؤتم بِهِ ويقتدى بِهِ.
وفي ((صحيح مُسْلِم)) عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((إنما الإمام جنة، فإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً، وإذا قَالَ: سَمِعَ الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لَكَ الحمد، فإذا وافق قول أهل الأرض [قَوْلِ] أهل السماء غفر لَهُ مَا تقدم من ذنبه)) .
ومعنى كونه جنة: أَنَّهُ يتقى بِهِ ويستتر، ولهذا إذا سلمت سترته لَمْ يضر مَا مر بَيْن يديه، كما سبق تقريره.
ومنها: أَنَّهُ جعل القعود خلفه من طاعة الأمراء، وطاعة الأمراء من طاعة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وطاعته من طاعة الله، ومعلوم: أَنَّهُ لَمْ ينسخ من هذه شيء، بل كلها باقية محكمة إلى يوم القيامة.
فخرج الإمام أحمد وابن حبان فِي ((صحيحه)) من حَدِيْث ابن عُمَر، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي نفر من أصحابه، فَقَالَ: ((ألستم تعلمون أني رَسُول الله إليكم؟)) . قالوا: بلى، نشهد أنه رَسُول الله، قَالَ: ((ألستم تعلمون أَنَّهُ من أطاعني أطاع الله، ومن طاعة الله طاعتي؟)) . قالوا: بلى، نشهد أَنَّهُ من أطاعك فَقَدْ أطاع الله، ومن طاعة الله طاعتك، قَالَ: ((فإن من طاعة الله

(6/157)


أن تطيعوني، ومن طاعتي أن تطيعوا أمراءكم، وإن صلوا قعوداً فصلوا قعوداً)) .
وفي رِوَايَة لهما – أَيْضاً – ((ومن طاعتي أن تطيعوا أئمتكم)) .
وهذا يصلح أن يكون متمسكاً للأمام أحمد فِي تخصيصه ذَلِكَ بإمام الحي؛ فإن أئمة الحي إنما ينصبهم الأئمة غالباً، وخصة – فِي رِوَايَة عَنْهُ - بالأمام الأعظم الَّذِي تجب طاعته.
ومنها: أَنَّهُ جعل القيام خلف الإمام الجالس من جنس فعل فارس والروم بعظمائها، حيث يقومون وملوكهم جلوس، وشريعتنا جاءت بخلاف ذَلِكَ، كما قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من احب أن يتمثل لَهُ الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)) .
وَقَالَ عُمَر بن عَبْد العزيز للناس: أيها النَّاس، إن تقوموا نقم، وإن تجلسوا نجلس، فإنما يقوم النَّاس لرب العالمين.
وهذا حكم مستقر فِي الشريعة، لَمْ ينسخ ولم يبدل.
وقد دل عَلَى مَا ذكرناه: مَا خرجه مُسْلِم من حَدِيْث أَبِي الزُّبَيْر، عَن جابر، قَالَ: اشتكى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلينا وراءه وَهُوَ قاعد، وأبو بَكْر يسمع النَّاس تكبيره، فالتفت إلينا، فرآنا قياماً، فأشار إلينا، فقعدنا فصلينا بصلاته قعوداً، فلما سلم قَالَ: ((إن كدتم – آنفاً – تفعلون فعل فارس والروم، يقومون عَلَى ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلوا

(6/158)


قياماً فصلوا قياماً، وإن صلوا قعوداً فصلوا قعوداً)) .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان فِي ((صحيحه)) من حَدِيْث الأعمش، عَن أَبِي سُفْيَان، عَن جابر – فِي هذه القصة – أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لهم: ((إنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ، فإن صلى قائماً فصلوا قياماً، وإن صلى جالساً فصلوا جلوساً، ولا تقوموا وَهُوَ جالس كما يفعل أهل فارس بعظامها)) .
وأما الكلام عَلَى دعوى النسخ، عَلَى قَوْلِ من قَالَ: إن أَبَا بَكْر كَانَ مأموماً، فأما عَلَى قَوْلِ من قَالَ: إنه كَانَ إماماً، وكان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأتم بِهِ، كما تقدم عَن مَالِك وغيره، فلا دلالة فِي الحَدِيْث حينئذ عَلَى أن الائتمام بالقاعد بالكلية.
وأما من قَالَ: إن الإمام كَانَ هُوَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قاله الشَّافِعِيّ والإمام أحمد والبخاري والأكثرون، فالجمع بَيْن هَذَا الحَدِيْث وبين الأحاديث المتقدمة الَّتِيْ فيها الأمر بالجلوس فِي الصلاة من وجهين:
أحدهما – وَهُوَ الَّذِي ذكره الإمام أحمد -: أن المؤتمين بأبي بَكْر ائتموا بإمام ابتدأ بهم الصلاة وَهُوَ قائم، ثُمَّ لما انتقلت مِنْهُ الإمامة إلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتقلوا إلى الائتمام بقاعد، فاتموا خلفه قياماً لابتدائهم الصلاة خلف إمام قائم.
فعلى هَذَا التقرير نقول: إن ابتدأ بهم الإمام الصلاة جالساً صلوا وراءه جلوساً، وإن ابتدأ بهم قائماً ثُمَّ اعتل فجلس أتموا خلفه قياماً.

(6/159)


هكذا قرره الإمام أحمد وأصحابه.
ومنهم من قَالَ: إنه تصح هنا صلاة المأمومين خلفه قياماً إذا جلس فِي أثناء صلاته لعلة، وسواء كَانَ إمام حي أو لَمْ يكن، بخلاف ابتداء صلاة القائم خلف الجالس، فإنها عِنْدَ الإمام أحمد إلا إذا كَانَ إمام الحي، وجلس لمرض يرجى برؤه خاصة، فإنه يغتفر فِي الاستدامة مَا لا يغتفر فِي الابتداء.
وممن قَالَ ذَلِكَ من أصحابنا: أبو الفتح الحلواني.
والثاني: أن تحمل أحاديث الأمر بالقعود عَلَى الاستحباب، وحديث صلاته فِي مرضه من غير أمر لهم بالجلوس عَلَى جواز أن يأتموا بالقاعد قياماً، فيكون المأمومون مخيرين بَيْن الأمرين، وإن كَانَ الجلوس أفضل.
وهذا يتخرج عَلَى قَوْلِ من قَالَ: إنهم إذا ائتموا بالجلوس قياماً صحت صلاتهم، وقد اختلف أصحابنا فِي ذَلِكَ عَلَى وجهين.
وظهر لِي وجه ثالث فِي الجمع بَيْن هذه الأحاديث، وَهُوَ متجه عَلَى قَوْلِ الإمام أحمد: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إماماً لأبي بَكْر، وكان أبو بَكْر إماماً للناس، فكانت تلك الصلاة بإمامين.
وحينئذ فيقال: لما اجتمع فِي هذه الصلاة إمامان، أحدهما جالس والآخر قائم صلى المأمومون خلفهما قياماً اتباعاً لإمامهم القائم؛ فإن الأصل القيام، وقد اجتمع موجب للقيام عليهم، وموجب للقعود أو مبيح لَهُ، فغلب جانب القيام؛ لأنه الأصل، كما إذا اجتمع فِي حل الصيد أو الأكل مبيح وحاظر، فإنه يغلب الحظر.

(6/160)


وأما أبو بَكْر فإنه إنما صلى قائماً؛ لأنه وإن ائتم بقاعد إلا أَنَّهُ أم قادرين عَلَى القيام، وَهُوَ قادر عَلِيهِ، فاجتمع فِي حقه – أَيْضاً – سببان: موجب للقيام، ومسقط لَهُ، فغلب إيجاب القيام. والله - سبحانه وتعالى - أعلم.

(6/161)


52 - بَاب
مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الإمَامِ؟
وَقَالَ أَنَس، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وإذا سجد فاسجدوا)) .
حَدِيْث أَنَس هَذَا، قَدْ خرجه البخاري فيما بعد من رِوَايَة الزُّهْرِيّ، عَنْهُ، ويأتي فِي موضعه - إن شاء الله.
وفيه: دليل عَلَى أن سجود المأموم يكون عقيب سجود الإمام، ولا يكون مَعَهُ ولا قبله.

(6/162)


690 – حَدَّثَنَا مسدد، ثنا يَحْيَى بن سَعِيد، عَن سُفْيَان، قَالَ: حَدَّثَنِي أبو إِسْحَاق، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْد الله بن يزيد، قَالَ: حَدَّثَنِي البراء – وَهُوَ غير كذوب -، قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قَالَ: ((سَمِعَ الله لمن حمده)) لَمْ يحن أحد منا ظهره حَتَّى يقع النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساجداً، ثُمَّ نقع سجوداً بعده.
قَالَ أبو عَبْد الله: أخبرنا أبو نعيم، عَن سُفْيَان بهذا، وإنما أدخلت حَدِيْث مسدد لحال الإخبار.
هكذا وقع فِي بعض النسخ دون بعض.
ومعناه: أن هَذَا الحَدِيْث سمعه البخاري من أَبِي نعيم، عَن سُفْيَان – هُوَ: الثوري – بهذا الإسناد، ولكن معنعناً، وإنما خرجه عَن مسدد، عَن يَحْيَى بن سَعِيد، عَن سُفْيَان

(6/162)


نازلاً؛ لأنه ذكر فِي حديثه سماع سُفْيَان لَهُ من أَبِي إِسْحَاق، وسماع أَبِي إِسْحَاق من عَبْد الله بن يزيد، وسماعه من البراء.
وقوله: ((حَدَّثَنِي البراء وَهُوَ غير كذوب)) ظاهر السياق يقتضي أَنَّهُ من قَوْلِ عَبْد الله بن يزيد في حق البراء، ورجح ذَلِكَ الخطابي وغيره.
وَقَالَ ابن معين وغيره: إنما هُوَ من قَوْلِ أَبِي إِسْحَاق فِي حق عَبْد الله بن يزيد، وقالوا: إن الصَّحَابَة أجل من أن يوصفوا بنفي الكذب.
وهذا ليس بشيء، ونفي الكذب صفة مدح لا ذم، وكذلك نفي سائر النقائص؟ وقد كَانَ عَلِيّ بن أَبِي طالب يَقُول: والله مَا كذبت ولا كذبت، فنفى الكذب عَن نفسه، وأشار إلى نفيه عمن أخبره، وَهُوَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقالت عَائِشَة فِي حق عُمَر وابن عُمَر: إنكم لتحدثون عَن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطيء.
وأبلغ من هَذَا، أن الله تعالى نفى عَن نفسه النقائص والعيوب، كالظلم وإرادته، والغفلة والنسيان، وكذلك نفيه للشريك والصاحبة والولد، وليس فِي شيء من ذَلِكَ نقص بوجه مَا.
وأيضاً؛ فعبد الله بن يزيد هُوَ الخطمي، وَهُوَ معدود من الصَّحَابَة، وله رِوَايَة عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكيف حسن نفي الكذب عَنْهُ دون البراء، وكلاهما صحابي؟ وإن كَانَ البراء أشهر مِنْهُ، وأكثر رِوَايَة. والله أعلم.
وفي الحَدِيْث: دليل عَلَى أن المأموم يتابع الإمام، وتكون أفعاله بعد أفعال الإمام؛ فإن البراء أخبر أنهم كانوا إذا رفعوا من الركوع لَمْ يحن أحد منهم ظهره حَتَّى يقع النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساجداً، ثُمَّ يسجدون بعده.

(6/163)


وفي رِوَايَة لمسلم فِي هَذَا الحَدِيْث: أنهم كانوا يصلون مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا رفع رأسه من الركوع لَمْ نر أحداً يحني ظهره حَتَّى يضع رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جبهته عَلَى الأرض، ثُمَّ نخر من ورائه سجداً.
وهذه صريحة فِي أنهم كانوا لا يشرعون فِي السجود حَتَّى ينهيه النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقول النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا)) يدل عَلَى أن تكبير المأمومين من ركوعهم وسجودهم يكون عقيب تكبير الإمام وركوعه وسجوده، ولا مَعَهُ ولا قبله.
وفي حَدِيْث أَبِي موسى، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم، فتلك بتلك)) .
خرجه مُسْلِم، وقد سبق ذكره.
وأكثر العلماء عَلَى أن الأفضل للمأموم أن يتابع الإمام، فيركع ويرفع ويسجد ويجلس بعد الإمام فِي ذَلِكَ، وكذلك كَانَ يفعل أبو قلابة وغيره من السلف.
وروى وكيع بإسناده، عَن ابن مَسْعُود، قَالَ: لا تبادروا أئمتكم، فإنما جعل الإمام ليؤتم بِهِ، فيكون أول من يركع وأول من يسجد وأول من يرفع.
وَهُوَ مذهب الشَّافِعِيّ وأحمد، ورواية عَن مَالِك.
وإن وافقه فِي فعله مَعَهُ كره، وصحت صلاته عِنْدَ أكثر أصحابنا والشافعية، ومن أصحابنا من أبطل الصلاة بذلك.
ويستثنى من ذَلِكَ صورتان:

(6/164)


إحداهما: تكبيرة الإحرام فِي ابتداء الصلاة، فإذا كبر مَعَهُ لَمْ تنعقد صلاة المأموم عِنْدَ ابن المبارك والشافعي وأحمد، وَهُوَ قَوْلِ مَالِك وأبي يوسف.
وَقَالَ أبو حنيفة والثوري والعنبري ومحمد بن الْحَسَن وزفر: تنعقد صلاته بذلك.
وزاد الثوري عليهم، فَقَالَ: لَوْ كبر مَعَ إمامه وفرغ من تكبيره قَبْلَ فراغ إمامه جاز.
ومن الحنفية من جعل تكبيرة الإحرام شرطاً للصلاة كالطهارة والستارة، ولم يجعلها مِنْهَا.
والصورة الثانية: إذا سلم مَعَ إمامه، فإنه يجوز مَعَ الكراهة عِنْدَ أكثر أصحابنا والشافعية.
ولهم وجه أخر: أَنَّهُ لا يجوز، وحكي عَن مَالِك.
قَالَ بعض أصحابنا: وهذا قَوْلِ قوي عَلَى قَوْلِ من يعتبر النية للخروج.
وعن مَالِك فِي أصل متابعة المأموم لإمامة ثَلاَثَة روايات:
إحداهن: أنه يستحب أن يكون عمله بعد عمل إمامه، معاقباً لَهُ، كقول الشَّافِعِيّ وأحمد.
والثانية: أن عمل المأموم كله مَعَ عمل الإمام: ركوعه وسجوده وخفضه ورفعه، مَا خلا الإحرام والتسليم، فإنه لا يأتي المأموم بهما إلا بعد تكبير الإمام وسلامه.
وقيل: إنها أصح الروايات عَنْهُ.
والثالثة: أَنَّهُ يكون عمله مَعَ الإمام؛ مَا خلا ثَلاَثَة أشياء: التحريم والتسليم والقيام من اثنتين، فإنه يكون بعده.

(6/165)


53 - بَاب
إِثْم مَنْ رَفَعَ رَأَسَهَ قَبْلَ الإمَامِ

(6/166)


691 - حَدَّثَنَا حجاج بن منهال: ثنا شعبة، عَن مُحَمَّد بن زياد، قَالَ: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((أما يخشى أحدكم)) – أو ((ألا يخشى أحدكم – إذا رفع رأسه قَبْلَ الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار)) – أو ((يجعل صورته صورة حمار؟)) .
قَالَ الحافظ أبو موسى المديني: اتفق الأئمة عَلَى ثبوت هَذَا الحَدِيْث من هَذَا الطريق؛ رواه عَن مُحَمَّد بن زياد قريب من خمسين نفساً، وبعضهم يَقُول: ((صورته)) ، وبعضهم يَقُول: ((وجهه)) ، ومنهم من قَالَ: ((رأس كلب أو خنزير)) ، وتابع مُحَمَّد بن زياد جماعة، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ. انتهى.
وفيه: دليل صريح عَلَى تحريم تعمد رفع المأموم رأسه قَبْلَ الإمام فِي ركوعه وسجوده؛ فإنه توعد عَلِيهِ بالمسخ، وَهُوَ من أشد العقوبات.
وإنما اختص الحمار بالذكر دون سائر الحيوانات عَلَى الرواية الصحيحة المشهورة – والله أعلم -؛ لإن الحمار من أبلد الحيوانات وأجهلها، وبه يضرب المثل فِي الجهل؛ ولهذا مثل الله بِهِ عالم السوء الذي يحمل العلم ولا ينتفع بِهِ فِي قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] .
فكذلك المتعبد بالجهل يشبه الحمار، فإن الحمار يحرك رأسه ويرفعه ويخفضه لغير معنى، فشبه من يرفع رأسه

(6/166)


قَبْلَ إمامه بالحمار، وكذلك شبه من يتكلم وإمامه يخطب بالحمار يحمل أسفاراً؛ لأنه لَمْ ينتفع بسماع الذكر، فصار كالحمار فِي المعنى. والله أعلم.
وقد اختلف العلماء فيمن تعمد رفع رأسه قَبْلَ إمامه فِي ركوعه أو سجوده: هَلْ تبطل بذلك صلاته، أم لا؟
وفيه وجهان لأصحابنا، وأكثرهم عَلَى البطلان، وروي عَن ابن عُمَر.
وَقَالَ القاضي أبو يعلى: لا تبطل بذلك، وَهُوَ قَوْلِ أكثر الفقهاء.
فعلى هَذَا، فهل يؤمر أن يعود إلى ركوعه وسجوده ليرفع بعد إمامه، أم لا؟
قَالَ بعض المتأخرين [من] أصحابنا وبعض أصْحَاب الشَّافِعِيّ: لا يؤمر بذلك، ومتى عاد بطلت صلاته لأنه يصير قَدْ زاد فِي صلاته ركناً عمداً.
وقد رَوَى مَالِك فِي ((الموطإ)) أن السنة فِي الساهي إذا رفع رأسه قَبْلَ إمامه أن يعود، ولا يقف ينتظره، فذلك خطأ ممن فعله.
ومفهومه: أن العامد ليس كذلك.
وأكثر العلماء من أصحابنا وغيرهم يقتضي أَنَّهُ يلزمه أن يعود لرفع بعد إمامه.
وقد بسطنا القول عَلَى هَذَا فِي الباب الماضي، فلا حاجة إلى إعادته.

(6/167)


54 - بَاب
إمَامَةِ العَبْدِ والمَوْلَى
وكانت عَائِشَة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف.
وَوَلدَ البَغيِّ والأعرابي والغلام الَّذِي لَمْ يحتلم
لقول النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله)) .
ولا يمنع العبد من الجماعة بغير علةٍ
أشار البخاري - رحمه الله - بهذا التبويب إلى مسائل:
إحداها:
إمامه العبد والمولى.
ومراده بالعبد: الرقيق القن. وبالمولى: العتيق، الَّذِي عَلِيهِ ولاء لمعتقه.
وما ذكره من إمامه ذكوان لعائشة:
فروى وكيع، عَن هِشَام بن عُرْوَةَ، عَن أَبِي بَكْر بن أَبِي مليكة، أن عَائِشَة أعتقت غلاماً لها عَن دبرٍ، فكان يؤمها فِي المصحف فِي رمضان.
ففي هذه الرواية: أَنَّهُ كَانَ مدبراً.
وقد روي من غير وجه، عَن عَائِشَة، أنها صلت خلف مملوك.
وروى أيوب، عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد، عَن عَائِشَة، أَنَّهُ كَانَ يؤمها عَبْد لها فِي المصحف.
خرجه الأثرم.

(6/168)


ورواه عَبْد الرحمن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه – أَيْضاً.
وذكر الإمام أحمد، أَنَّهُ أصح من حَدِيْث ابن أَبِي مليكة؛ لأن هِشَام بن عُرْوَةَ لَمْ يسمعه من ابن أَبِي مليكة، إنما بلغه عَنْهُ.
قَالَ أحمد: أبو معاوية، عَن هِشَام، قَالَ: نبئت عَن ابن أَبِي مليكة – فذكره.
قُلتُ: رواه شعيب بن أَبِي حَمْزَة، عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة – لَمْ يذكر ابن أَبِي مليكة.
خرجه البيهقي.
وكذا رواه مَالِك فِي ((الموطإ)) عَن هِشَام، عَن أَبِيه.
وروى أبو نعيم فِي ((كِتَاب الصلاة)) : حَدَّثَنَا حماد بن سَلَمَة، عَن ابن أَبِي مليكة، أن عَائِشَة كَانَ يدخل عَلَيْهَا أشراف قريش، فيؤمهم غلامها ذكوان.
والظاهر: أن حماد بن سلمة إنما رواه عَن هِشَام، عَن ابن أَبِي مليكة.
ورواه الشَّافِعِيّ عَن عَبْد المجيد بن أَبِي رواد، عَن ابن جُرَيْج: أخبرني ابن أَبِي مليكة، أنهم كانوا يأتون عَائِشَة، أم المُؤْمِنيِن بأعلى الوادي – هُوَ وعبيد بن عمير والمسور بن مخرمة وناس كثير -، فيؤمهم أبو عَمْرِو مَوْلَى عَائِشَة – وأبو عَمْرِو غلامها حينئذ لَمْ يعتق، وكان إمام بني مُحَمَّد بن أَبِي بَكْر وعروة.
قَالَ أبو نعيم: وحدثنا زهير، عَن داود بن أَبِي هند: حَدَّثَنِي أبو نضرة،

(6/169)


عَن أَبِي سَعِيد مَوْلَى أَبِي أسيد الأنصاري، قَالَ: أتاني نفر من أصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيهم: أبو ذر وحذيفة وابن مَسْعُود، فحضرت الصلاة، فقدموني وأنا مملوك، فصليت بهم.
قَالَ: وحدثنا حسن الحسنائي: ثنا زياد النميري، قَالَ: سألت أَنَس بن مَالِك، فَقُلْت: العبد ليس بدينه بأس، يؤم القوم؟ قَالَ: وما بأس بذلك.
وفي ((صحيح مُسْلِم)) أن عُمَر بن الخَطَّاب قَالَ لنافع بن عَبْد الحارث – وكان عُمَر استخلفه عَلَى مكة -: من استخلفت عَلَى أهل الوادي؟ قَالَ: ابن ابزى مَوْلَى لنا. فَقَالَ عُمَر: استخلفت عليهم مَوْلَى؟ قَالَ: يَا أمير المُؤْمِنيِن، إنه قارىء لكتاب الله، عالم بالفرائض. فَقَالَ عُمَر: أما إن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع بِهِ آخرين)) .
وممن رخص فِي إمامه العبد: الشعبي والنخعي والحسن والحكم والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق.
وكره إمامه العبد جماعة، منهم: أبو مجلز.
وَقَالَ الضحاك: لا يؤم العبد القوم وفيهم حر.
وَقَالَ مَالِك: لا يؤمهم، إلا أن يكون العبد قارئاً ومن خلفه أعراب لا يقرءون.
وفي ((تهذيب المدونة)) : لا يؤم العبد فِي الحضر فِي مساجد القبائل، وجائز أن يؤم فِي قيام رمضان وفي الفرائض فِي السفر، إن كَانَ أقرأهم، من غير أن يتخذ إماماً راتباً.
وَقَالَ أصحابنا: لا تكره إمامه العبد، والحر أولى مِنْهُ.

(6/170)


المسألة الثانية:
إمامه ولد البغي – وَهُوَ ولد الزنا.
وقد اختلف فِي إمامته:
فرخص فيها طائفة، منهم: عَطَاء والحسن والشعبي والنخعي والزهري وسليمان بن موسى وعمرو بن دينار والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق.
ومنهم من شرط سلامة دينه، وَهُوَ قَوْلِ أحمد.
وكره ذَلِكَ آخرون، منهم: مُجَاهِد.
وروي عَن عُمَر بن عَبْد العزيز، أَنَّهُ نهى رجلاً كَانَ يؤم بالعقيق لا يعرف لَهُ أب.
وَقَالَ مَالِك: أكره أن يتخذ إماماً راتباً.
وَقَالَ أبو حنيفة: غيره أحب إلينا مِنْهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ: أكره أن ينصب إماماً من لا يعرف أبوه، ومن صلى خلفه أجزأه.
وهؤلاء جعلوا النسب معتبراً فِي إمامه الصلاة، فيكره أن يرتب للأمامة من لا نسب لَهُ، كما يعتبر فِي الإمامة العظمى، فلا يصح أن ينصب إماماً من لا نسب لَهُ.
وفي هَذَا انظر؛ فإن أكثرهم رخصوا فِي إمامه العبد والمولى، مَعَ أَنَّهُ لا نسب لهما فِي العرب.
المسأله الثالثة:
إمامه الأعرابي وَهُوَ من لَمْ يهاجر إلى الأمصار من أهل البوادي.
وقد اختلف فِي إمامه الأعرابي:
فَقَالَتْ طائفة: لا بأس بِهَا إذا أقام الصلاة.
وعنه، قَالَ: العبد إذا

(6/171)


فقه أحب إلي مِنْهُ.
ورخص فِيهِ الثوري والشافعي وأحمد – فِي المشهور عَنْهُ – وإسحاق.
وروى وكيع فِي ((كتابه)) عَن شريك، عَن أَبِي إِسْحَاق، عَن رَجُل من طيىء، أن ابن مَسْعُود [حج، فصلى خلف] أعرابي.
وكره الائتمام بالأعرابي طائفة، منهم: أبو مجلز والشعبي والحسن وعطاء ومالك، وَهُوَ رِوَايَة عَن أحمد.
وروى وكيع، عَن الربيع بن صبيح، عَن ابن سيرين، قَالَ: خرجنا مَعَ عُبَيْدِ الله بن معمر، ومعنا حميد بن عَبْد الرحمن وأناس من وجوه الفقهاء، فمررنا بماء فحضرت الصلاة، فأذن أعرابي وأقام. قَالَ: فتقدم حميد بن عَبْد الرحمن. قَالَ: من كَانَ من أهل البلد فليتم الصلاة، وكره أن يؤم الأعرابي.
وهذا يدل عَلَى أنهم رأوا أن من كَانَ أولى بالإمامة فإنه يقدم عَلَى الإمام الراتب بغير إذنه، وقد سبق الكلام عَلِيهِ.
وَقَالَ مَالِك: الأعرابي لا يؤمهم وإن كَانَ أقرأهم.
وَقَالَ أحمد: لا يؤم الحضري، ولا فِي المصر، إلا أن يكون قَدْ علم وعرفه.
وَقَالَ – أَيْضاً -: إذا كَانَ قَدْ تعلم القرآن ودخل القرآن، ولم يكن جافياً.
وروى أشعث، عَن الْحَسَن فِي مهاجري صلى خلف أعرابي؟ قَالَ: إذا صلى أعاد تلك الصلاة.
وقد خرج ابن ماجه من حَدِيْث جابر مرفوعاً: ((لا يؤم أعرابي

(6/172)


مهاجراً)) – فِي حَدِيْث طويل، وسيأتي فيما بعد – إن شاء الله سبحانه وتعالى.
المسألة الرابعة:
إمامه الغلام الَّذِي لَمْ يحتلم.
وفيها أقوال:
أحدها: أنها جائزة فِي الفرض وغيره، وَهُوَ قَوْلِ الشَّافِعِيّ وإسحاق وأبي ثور.
وخرجه طائفة من أصحابنا رِوَايَة عَن الإمام أحمد من صحة اقتداء المفترض بالمتنفل، عَلَى رِوَايَة عَنْهُ، وفيه نظر؛ فإن المتنفل أهل للأمامة فِي الجملة بخلاف الصبي.
وحكاه ابن المنذر عَن الْحَسَن.
وروى حرب بإسناده، عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: لَمْ يزل الغلمان يصلون بالناس إذا عقلوا الصلاة وقرءوا فِي رمضان، وإن لَمْ يحتلموا.
وروى أبو نعيم فِي ((كِتَاب الصلاة)) : حَدَّثَنَا سُفْيَان عَن ابن جريج، عَن عَطَاء، قَالَ: لا بأس أن يؤم الغلام قَبْلَ أن يحتلم.
وروى وكيع بإسناده، عَن الأشعث بن قيس، أَنَّهُ قدم غلاماً، فَقِيلَ لَهُ.
فَقَالَ: إني لَمْ أقدمه، إنما قدمت القرآن.
ولعل الغلام هاهنا أريد بِهِ العبد، لا الصبي.
والقول الثاني: أَنَّهُ لا يؤم الصبي حَتَّى يحتلم، روي ذَلِكَ عَن ابن عَبَّاس، خرجه عَنْهُ بإسناد فِيهِ مقال.
وخرجه الأثرم – أَيْضاً – بإسناد منقطع عَن ابن مَسْعُود، قَالَ: لا

(6/173)


يصلي خلف الغلام حَتَّى تجب عَلِيهِ الحدود.
وَقَالَ النخعي: كانوا يكرهون أن يؤم الغلام قَبْلَ أن يحتلم.
قَالَ ابن المنذر: كره إمامة من لَمْ يبلغ: عَطَاء والشعبي ومجاهد ومالك والثوري وأصحاب الرأي.
وقد روينا عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: لا يؤم الغلام حَتَّى يحتلم.
وكرهه – أَيْضاً - الضحاك.
والقول الثالث: يؤمهم فِي النفل دون الفرض، روي ذَلِكَ عَن الْحَسَن، ذكره وكيع، عَن الربيع بن صبيح، عَنْهُ، قَالَ: لا بأس أن يؤمهم فِي رمضان إذا أحسن الصلاة قَبْلَ أن يحتلم، وَهُوَ رِوَايَة عَن أحمد.
والقول الرابع: حكاه ابن المنذر عَن الأوزاعي، قَالَ: لا يؤم الغلام فِي الصلاة المكتوبة حَتَّى يحتلم، إلا أن يكون ليس معهم من القرآن شيء، فإنه يؤمهم المراهق.
وعن الزُّهْرِيّ، قَالَ: إن اضطروا إليه أمهم.
وقد أوما أحمد إلى هَذَا القول؛ فإنه قَالَ - فِي رِوَايَة أَبِي طالب -: لا يصلي بهم حَتَّى يحتلم، لا فِي المكتوبة ولا فِي التطوع. قيل لَهُ: فحديث عَمْرِو بن سَلَمَة، أليس أم بهم وَهُوَ غلام؟ فَقَالَ: لعله لَمْ يكن يحسن يقرأ غيره.
ونقل عَنْهُ جَعْفَر بن مُحَمَّد فِي حَدِيْث عَمْرِو بن سَلَمَة، قَالَ: كَانَ هَذَا فِي أول الإسلام من ضرورة، فأما اليوم فلا.
وكذلك نقل عَنْهُ أبو داود، قَالَ: لعله كَانَ فِي بدء الإسلام.
وهذا يشير إلى نسخ حكمه بالكلية.
ومن أصحابنا من أجاز إمامته فِي قيام رمضان، إذا لَمْ

(6/174)


يوجد قارىء غيره؛ فإن أحمد أجاز إمامة المرأة فِي ذَلِكَ، والغلام أولى، وفيه نظر - أَيْضاً -؛ فإن المرأة من أهل التكليف ووجوب الصلاة، بخلاف الصبي.
ولهذا اختلف أصحابنا فِي إمامة الغلام إذا بلغ عَشَرَ سنين، وقلنا: تجب الصلاة عَلِيهِ، كما هُوَ رِوَايَة عَن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه، منهم: أبو بَكْر عَبْد العزيز وأبو الحسن التميمي وأبو الْحَسَن الجزري وأبو حفص البرمكي، وحكي عَن ابن حامد - أَيْضاً.
فاختلفوا: هَلْ يصح أن يؤم فِي الصلاة المفروضة حينئذٍ، أم لا؟ عَلَى وجهين:
أحدهما: أَنَّهُ لا يؤم فيها - أَيْضاً -، قاله أبو حفص البرمكي والقاضي أبو يعلى والأكثرون. والثاني: يصح، قاله أبو الخَطَّاب.
قَالَ القاضي وأصحابه: إذا قلنا: لا يصح أن يؤم فِي فرض فلا فرق بَيْن فروض الأعيان وفروض الكفايات كالجنائز.
وقد استدل البخاري لصحة إمامة العبد والمولى وولد الزنا والأعرابي والصبي بعموم قَوْلِ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله)) .
وقد خرجه فِي موضع آخر مسنداً من حَدِيْث عَمْرِو بن سَلَمَة، عَن أَبِيه، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه مُسْلِم من حَدِيْث أَبِي مَسْعُود الأنصاري، وقد سبق.
وقد

(6/175)


استدل بِهِ بنو جرم فِي عهد النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى إمامه الصبي، حَتَّى قدموا عَمْرِو بن سَلَمَة أخذاً بعمومه.
وقد أجاب بعضهم بأنه لَمْ ينقل أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلغه ذَلِكَ وأقر عَلِيهِ.
وهذا يرجع إلى أن مَا عمل فِي زمن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم ينقل أَنَّهُ بلغة، فهل يكون حجة، أم لا؟ وفيه اخْتِلاَف مشهور.
والمخالف فِي ذَلِكَ يَقُول: عموم هَذَا الحَدِيْث لا بد من تخصيصه؛ فإن المرأة لَوْ كَانَتْ أقرأ القوم لَمْ تؤمهم مَعَ وجود قارىء غيرها إجماعاً، وعند عدمه - أَيْضاً - عِنْدَ الأكثرين، فلذلك نخص مِنْهُ الصبي؛ لأنه ليس من أهل التكليف، والكلام إنما توجه إلى من يدخل تَحْت التكليف، فيتوجه إليه الخَطَّاب. والله سبحانه وتعالى أعلم.
المسألة الخامسة:
قَالَ: لا يمنع العبد من الجماعة بغير علة.
هَذَا يدل عَلَى أن البخاري يرى وجوب الصلاة فِي الجماعة عَلَى المملوك، وأن سيده لا يجوز لَهُ منعه مِنْهَا.
وَهُوَ - أَيْضاً - ظاهر كلام أحمد.
قَالَ إِسْحَاق بن هانىء: سألت أَبَا عَبْد الله عَن العبد يرسله مولاه فِي حاجته، فتحضر الصلاة: فيصلي، ثُمَّ يقضي حاجة مولاه، أو يقضي حاجة مولاه ثُمَّ يصلي؟ ولعله إن قضى حاجة مولاه لا يجد مسجداً يصلي فِيهِ؟ فَقَالَ أبو عَبْد الله: إذا علم أَنَّهُ انقضى حاجة مولاه أصاب مسجداً يصلي فِيهِ قضى حاجة مولاه، وإن علم أَنَّهُ لا يجد مسجداً

(6/176)


يصلي فِيهِ صلى، ثُمَّ قضى حاجة مولاه.
وَقَالَ صالح بن الإمام أحمد: سألت أَبِي عَن العبد يأمره مواليه بالحاجة، وتحضر الصلاة؟ قَالَ: إن وجد مسجداً يصلي فِيهِ قضى حاجة مواليه، وإن صلى فلا بأس.
ومن المتأخرين من أصحابنا من قَالَ: يتخرج وجوب الجماعة عَلَى العبد عَلَى وجوب الجمعة عَلِيهِ، وفيه روايتان عَن أحمد، فلذلك يخرج فِي وجوب الجماعة.
ومنهم من قَالَ: لا تجب الجماعة عَلَى العبد بحال، لتكررها كل يوم وليلة بخلاف الجمعة.
وممن قَالَ: لا تجب الجماعة عَلَى العبد من أصحابنا: القاضي أبو يعلى فِي ((خلافه)) وأبو الفتح الحلواني.
وروي عَن الْحَسَن مَا يدل عَلَى مثله، فروى أبو بَكْر الخلال بإسناده، عَن مهدي بن ميمون، قَالَ: سألت الْحَسَن عَن عَبْد مملوك تحضره الصلاة، فيحب أن يصليها فيرسله مولاه فِي بعض الحاجة، فبأي ذَلِكَ يبدأ؟ قَالَ: يبدأ بحاجة مولاه.
خرج البخاري فِي هَذَا الباب حديثين:
الحَدِيْث الأول:

(6/177)


692 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْم بن المنذر: ثنا أَنَس بن عياض، عَن عُبَيْدِ الله، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، قَالَ: لما قدم المهاجرون الأولون العصبة - موضع بقباء - قَبْلَ مقدم رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يؤمهم سَالِم مَوْلَى أَبِي حذيفة، وكان

(6/177)


أكثرهم قرآنا.
وخرجه أبو داود من طريق ابن نمير، عَن عُبَيْدِ الله، وزاد: فيهم عُمَر ابن الخَطَّاب وأبو سَلَمَة بن عَبْد الأسد.
وخرجه البخاري فِي ((الأحكام)) من ((صحيحه)) هَذَا من طريق ابن جُرَيْج، عَن نَافِع، أخبره أن ابن عُمَر أخبره، قَالَ: كَانَ سَالِم مَوْلَى أَبِي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مسجد قباء، فيهم: أبو بَكْر وعمر وأبو سَلَمَة وزيد وعامر بن رَبِيعَة.
والمراد بهذا: أَنَّهُ كَانَ يؤمهم بعد مقدم النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ولذلك قَالَ: ((فِي مسجد قباء)) ، ومسجد قباء إنما أسسه النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد قدومه المدينة، فلذلك ذكر منهم: أَبَا بَكْر، وأبو بَكْر إنما هاجر مَعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس فِي هذه الرواية: ((قَبْلَ مقدم النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) كما فِي الرواية الَّتِيْ خرجها البخاري هاهنا فِي هَذَا الباب، فليس فِي هَذَا الحَدِيْث إشكال كما توهمه بعضهم.
وإمامة سَالِم للمهاجرين بعد مقدم النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مسجد فِي حكم المرفوع؛ لأن مثل هَذَا لا يخفى بل يشتهر ويبلغ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والظاهر: أن سالماً لَمْ يعتق إلا بقدومه المدينة؛ فإنه عتيق لامرأة من الأنصار، أعتقته سائبة وأذنت لَهُ أن يوالي من شاء، فوالى أَبَا حذيفة وتبناه.
والعصبة: قَالَ صاحب ((معجم البلدان)) : هُوَ بتحريك الصاد عَلَى

(6/178)


وزن همزة، وَهُوَ حصن، قَالَ: ويروى المعصب.
الحَدِيْث الثاني:
قَالَ:

(6/179)


693 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن بشار: ثنا يَحْيَى: ثنا شعبة: حَدَّثَنِي أبو التياح، عَن أَنَس بن مَالِك، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل حبشي، كأن رأسه زبيبة)) .
الأمر بطاعة الحبشي يدخل فِيهِ الصلاة خلفه إذا استعمل عَلَى النَّاس، وقد استدل بذلك الإمام أحمد - أَيْضاً.
وقد قيل: إن هَذَا بَاب ضرب المثل لطاعة الأمراء عَلَى كل حال، كقوله: ((من بنى مسجداً، ولو كمفحص قطاة)) ، مَعَ أَنَّهُ لا يكون المسجد كذلك، فكذلك العبد الحبشي لا يكون إماماً؛ فإن الأئمة من قريش.
وقيل: بل المراد أن الأئمة من قريش إذا ولت عبداً حبشياًً أطيع، وقد روي ذَلِكَ من حَدِيْث عَلِيّ مرفوعاً وموقوفاً: ((إن أمرت عليكم قريش عبداً حبشياً فاسمعوا لَهُ وأطيعوا)) .
وهذا أشبه:
وقد استدل أبو ذر بهذا الحَدِيْث عَلَى الصلاة خلف العبيد إذا استعملهم الأئمة، فروى عَبْد الله بن الصَّامِت، عَن أَبِي ذر، أَنَّهُ انتهى إلى الربذة وقد أقيمت الصلاة، فإذا عَبْد يؤمهم. قَالَ: فَقِيلَ: هَذَا أبو ذر،

(6/179)


فذهب يتأخر فَقَالَ أبو ذر: أوصاني خليلي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أسمع وأطيع، ولو كَانَ عبداً حبشياً مجدع الأطراف.
وفي رِوَايَة: فإذا عَبْد يصلي بهم، فقالوا لأبي ذر: تقدم، فأبى، فتقدم العبد فصلى بهم - ثُمَّ ذكر الحَدِيْث.
وقد خرج مُسْلِم مِنْهُ المرفوع.

(6/180)


55 - بَاب
إذا لَمْ يُتمَّ الإمَامُ وََأَتَمَّ مَنْ خَلْفََهُ

(6/181)


694 - حَدَّثَنَا الفضل بن سَهْل: ثنا الْحَسَن بن موسى الأشيب: ثنا عَبْد الرحمن بن عَبْد الله بن دينار، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطَاء بن يسار، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم)) .
تفرد البخاري بتخريج هَذَا الحَدِيْث عَن مُسْلِم، وبتخريج حَدِيْث عَبْد الرحمن ابن عَبْد الله بن دينار، مَعَ أَنَّهُ قَدْ ضعفه ابن معين وغيره. وَقَالَ عَلِيّ بن المديني: فِي بعض مَا يرويه منكرات لا يتابع عَلَيْهَا، ويكتب حديثه فِي جملة الضعفاء.
وقد خرجه ابن حبان فِي ((صحيحه)) من وجه آخر عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، من رِوَايَة أَبِي أيوب الأفريقي، عَن صفوان بن سليم، عَن ابن المُسَيِّب، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((سيأتي - أو يكون - أقوام يصلون الصلاة، فإن أتموا فلكم ولهم، وإن نقصوا فعليهم ولكم)) .

(6/181)


وقد روي –أَيْضاً - من رِوَايَة أَبِي صالح السمان والحسن، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، ولكن إسنادهما لا يصح.
وخرج ابن ماجه والحاكم فِي ((المستدرك)) من حَدِيْث عَبْد الحميد بن سُلَيْمَان: ثنا أبو حازم، قَالَ: كَانَ سَهْل بن سعد الساعدي يقدم قتيان قومه يصلون بهم، فَقِيلَ لَهُ: تفعل هَذَا ولك من القدم مَالِك؟ فَقَالَ: إني سَمِعْت رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُول: ((الإمام ضامن، فإن أحسن فله ولهم، وإن أساء يعني: فعليه ولا عليهم)) .
وقد ذكر هَذَا الحديث الإمام أحمد، فَقَالَ: مَا سَمِعْت بهذا قط.
وهذا يشعر باستنكاره لَهُ.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حَدِيْث عقبة بن عامر، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((من أم النَّاس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم، ومن انتقض من ذَلِكَ شيئاً فعليه ولا عليهم)) .
وفي إسناده اخْتِلاَف، وقد روي مرسلاً.
وفي المعنى أحاديث أخر متعددة فِي أسانيدها مقال.
وقد استدل البخاري بهذا الحَدِيْث عَلَى أن من صلى خلف من لا يتم صلاته فأتم صلاته، فإن صلاته صحيحة، ودخل فِي هَذَا: من صلى خلف محدث، يعلم حدث نفسه أو لا يعمله.

(6/182)


وقد سبق الكلام عَلَى ذَلِكَ. ومن صلى خلف إمام يؤخر الصلاة عَن مواقيتها، وقد سبق الكلام عَلِيهِ - أَيْضاً - ومن صلى خلف من ترك ركناً أو شرطاً فِي صلاته متأولاً، والمأموم يخالف تأويله.
وفي صحة صلاته وراءه قولان، هما روايتان عَن أحمد، كمن صلى خلف من مس ذكره أو احتجم ولم يتوضأ، ومن صلى خلف من لا يتم ركوعه وسجوده، وأتمه المأموم أجزأته صلاته، كذا قَالَ علقمة، والأوزاعي.
وسئل أحمد عمن قام إمامه قَبْلَ أن يتم تشهده الأول، فذكر قَوْلِ علقمة - يعني: أَنَّهُ يتمه ثُمَّ يقوم.
وسئل سُفْيَان الثوري عمن صلى خلف من يسرع الركوع والسجود؟ قَالَ: تمم أنت والحق بِهِ.
وَقَالَ يَحْيَى بن آدم: صليت خلف رَجُل فأعدت صلاتي من سوء صلاته.
وَقَالَ أحمد فِي إمام لا يتم ركوعه ولا سجوده: لا صلاة لَهُ، ولا لمن خلفه -: نقله عَنْهُ أبو طالب.
ونقل عَنْهُ ابن الْقَاسِم مَا يدل عَلَى أن من خلفه إذا أتم فلا إعادة عَلِيهِ.
وهذا يرجع إلى مَا ذكرنا؛ فإن من صور هَذَا الاختلاف: من ترك الطمأنينة متأولاً، وصلى خلفه من يرى وجوب ذَلِكَ واطمأن.
وأكثر كلام أحمد يدل عَلَى أَنَّهُ يفرق بَيْن التأويلات الضعيفة المخالفة للسنن الصحيحة فلا يمنع من الصلاة خلف متأولها، كما نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لا يصلى خلف من يَقُول: الماء من الماء، ولا من ترك قراءة الفاتحة فِي بعض الركعات عَلَى التأويل، وأنه يصلى خلف من لا

(6/183)


يتوضأ من خروج الدم، ولا من أكل لحم الإبل، ولا من مس الذكر، أو يصلي فِي جلود الثعالب عَلَى التأويل.
وسوى أبو بَكْر عَبْد العزيز بن جَعْفَر وأكثر أصحابنا بَيْن الجميع، والصحيح التفرقة.
ولهذا نَصَّ الشَّافِعِيّ وأحمد عَلَى أَنَّهُ لا يحد الناكح بلا ولي، ويحد من شرب النبيد متأولاً، ونص أحمد عَلَى أن الفرق هُوَ: ضعف التأويل فِي شرب النبيد خاصة.
وَقَالَ سُفْيَان الثوري: لا يصلى خلف من مسح عَلَى رجليه، ومن صلى خلفه أعاد الصلاة.
وَقَالَ شريك: لا يصلى خلفه، ولا تعاد الصلاة.
وقد استدل بالأحاديث المذكورة فِي هَذَا الباب من كره الإمامة، وقد كره أن يؤم النَّاس جماعة من الصَّحَابَة، منهم: حذيفة وعقبة بن عامر.
وَقَالَ حذيفة: لتبتغن إماماً غيري، أو لنصلين وحداناً.
وسئل أحمد عَن الرَّجُلُ يؤم النَّاس: هَلْ لَهُ فِي ذَلِكَ ثواب؟ قَالَ: إن كَانَ فِي قرية هُوَ أقرأ القوم، أو فِي موضع هُوَ أقرؤهم فليتقدمهم. وسئل عَن الرَّجُلُ يكون أقرأ القوم، فَقَالَ لَهُ: تقدم فيأبى؟ قَالَ: ينبغي لَهُ أن يتقدم، يؤم القوم أقرؤهم. قيل لَهُ: يجب عَلِيهِ؟ فَقَالَ: ينبغي لَهُ أن يتقدم يؤم القوم، ولم يقل: يجب عَلِيهِ.
وسئل عَن معنى قَوْلِ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الإمام ضامن)) ؟ فَقَالَ: هَذَا عَلَى التأكيد عَلَى الإمام.
وهذا الحَدِيْث، خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(6/184)


وفي إسناده اخْتِلاَف كثير أشار الترمذي إلى بعضه، وقد بسطت القول فِيهِ فِي
((شرح الترمذي)) بحمد الله ومنه.
رَوَى وكيع فِي ((كتابه)) عَن عَلِيّ بن المبارك، عَن يَحْيَى بن أَبِي كثير، قَالَ: حَدَّثَنِي من لا أتهم، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تبادروا الأذان، ولا تبادروا الإمامة)) .
وعن ابن عون، قَالَ: ذكر عِنْدَ الشَّعْبِيّ أن الإمام ضامن لصلاة القوم، فَقَالَ: والله إني لأرجو إن أحسن أن يتقبل الله مِنْهُ، وإن أساء أن يغفر لَهُ.

(6/185)


56 - بَاب
إمَامَةِ المَفْتُونِ والمبُتْدَعِ
وَقَالَ الْحَسَن: تصلي وعليه بدعته.

(6/186)


695 - وَقَالَ لنا مُحَمَّد بن يوسف: حَدَّثَنَا الأوزاعي: ثنا الزُّهْرِيّ، عَن حميد ابن عَبْد الرحمن، عَن عُبَيْدِ الله بن عدي بن خيار، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَان بن عَفَّانَ، وَهُوَ محصور، فَقَالَ: إنك إمام عامة، ونزل بك مَا ترى، ويصلي لنا إمام فتنة، ونتحرج؟ فَقَالَ: الصلاة أحسن مَا يعمل النَّاس، فإذا أحسن النَّاس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.
وَقَالَ الزبيدي: قَالَ الزُّهْرِيّ: لا نرى أن يصلى خلف المخنث إلا من ضرورة لا بد مِنْهَا.

(6/186)


696 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن أبان: ثنا غندر، قَالَ: ثنا شعبة، عَن أَبِي التياح، سَمِعَ أَنَس بن مَالِك يَقُول: قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: ((اسمع وأطع، ولو لحبشي، كأن رأسه زبيبة)) .
مَا ذكره عَن الْحَسَن: رواه سَعِيد بن منصور، ثنا ابن المبارك، عَن

(6/186)


هِشَام ابن حسان، عَن الْحَسَن، أَنَّهُ سئل عَن صاحب البدعة: الصلاة خلفه؟ قَالَ: صل خلفه، وعليه بدعته.
وخرجه حرب، عَن سَعِيد بن منصور، بِهِ.
وخرج - أَيْضاً - بإسناده، عَن جَعْفَر بن برقان ن قَالَ: سألت ميمون بن مهران عَن الصلاة خلف من يذكر أَنَّهُ من الخوارج؟ فَقَالَ: إنك لا تصلي لَهُ، إنما تصلي لله، قَدْ كنا نصلي خلف الحجاج وَهُوَ حروري أزرقي. فنظرت إليه، فَقَالَ: أتدري مَا الحروري الأزرقي، هُوَ الَّذِي إذا خالفت آيةً سماك كافراً، واستحل دمك، وكان الحجاج كذلك.
وروى أبو نعيم فِي ((كِتَاب الصلاة)) : ثنا سُفْيَان، عَن هِشَام، عَن ابن سيرين، قَالَ: كَانَ يكون أمراء عَلَى المدينة، فسئل ابن عُمَر عَن الصلاة معهم، فَقَالَ: الصلاة لا أبالي من شاركني فيها.
وروى أبو شِهَاب: ثنا يونس بن عُبَيْدِ، عَن نَافِع، قَالَ: كَانَ ابن عُمَر يسلم عَلَى الخشبية والخوارج وهم يقتتلون. فَقَالَ: من قَالَ: ((حي عَلَى الصلاة)) أجبته، من قَالَ: ((حي عَلَى الفلاح)) أجبته، ومن قَالَ: ((حي عَلَى قتل أخيك الْمُسْلِم وأخذ ماله)) ، قُلتُ: لا.
خرجه البيهقي.
وروى عَن ابن عُمَر من وجوه، أَنَّهُ كَانَ يصلي خلف الحجاج.

(6/187)


وذكر البخاري فِي ((تاريخه)) : قَالَ لنا عَبْد الله، عَن معاوية بن صالح، عَن عَبْد الكريم البكاء، قَالَ: أدركت عشرة من أصْحَاب النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[كلهم] يصلي خلف أئمة الجور.
وخرج أبو داود من حَدِيْث مكحول، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((الجهاد واجب عليكم مَعَ كل أمير، براً كَانَ أو فاجراً. والصلاة واجبة عليكم خلف كل مُسْلِم، براً كَانَ أو فاجراً)) .
وهذا منقطع؛ مكحول لَمْ يسمع من أَبِي هُرَيْرَةَ.
وقد أنكر أحمد هَذَا، ولم يره صحيحاً.
قَالَ مهِنأ: سألت أحمد عَن الصلاة خلف كل بر وفاجر؟ قَالَ: مَا أدري مَا هَذَا، ولا أعرف هَذَا، مَا ينبغي لنا أن نصلي خلف فاجر، وأنكر هَذَا الكلام.
وَقَالَ يعقوب بن بختان: سئل أحمد عَن الصلاة خلف كل بر وفاجر؟ قَالَ: مَا سمعنا بهذا.
وأما الأثر الَّذِي ذكره البخاري عَن عُثْمَان: فرواه عَبْد الرزاق، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عروة، عَن عُبَيْدِ الله بن عدي بن الخيار، عَن عُثْمَان، فخالف معمر الأوزاعي فِي إسناده.
وذكر الدارقطني أن الزبيدي والنعمان بن راشد وأبا أيوب الإفريقي،

(6/188)


رووه، عن الزهري كما رواه عنه الأوزاعي.
وخالفهم شعيب بن أَبِي حَمْزَة وأسحاق بن راشد وعبيد الله بن أَبِي زياد، فرووه عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَةَ، عَن عُبَيْدِ الله بن عدي.
وكذلك عبد الو احد بن زياد وغندر، عَن معمر.
وَقَالَ مُحَمَّد بن ثور: عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُبَيْدِ الله بن عدي، لَمْ يذكر بَيْنَهُمَا أحداً.
وأرسله حماد بن زيد عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ. وتابعه جَعْفَر بن برقان، عَن الزُّهْرِيّ.
قَالَ: وحديث حميد بن عَبْد الرحمن هُوَ المحفوظ. قَالَ: ولا يدفع حَدِيْث عُرْوَةَ، أن يكون الزُّهْرِيّ حفظ عنهما جميعاً.
ورواه سعد بن إِبْرَاهِيْم بن عَبْد الرحمن بن عوف، عَن أَبِيه، عَن عُبَيْدِ الله ابن عدي، حدث بِهِ مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَنْهُ. انتهى.
وأما مَا ذكره عَن الزبيدي، عَن الزُّهْرِيّ، أَنَّهُ لا يصلى خلف المخنث إلا أن لا يجد مِنْهُ بداً.
فالمخنث: هُوَ الَّذِي يتشبه بالنساء فِي هيئته وكلامه.
وكلام الزُّهْرِيّ هَذَا يدل عَلَى أَنَّهُ إذا اضطر إلى الصلاة خلف من يكره صلى وراءه.
وَقَالَ مسرور بن مُحَمَّد: قَالَ الأوزاعي: لا تصل خلف قدري؛ إلا

(6/189)


أن تضطر.
وَقَالَ بقية بن الوليد: سألت الزبيدي: هَلْ يصلى خلف صاحب بدعة أو مكذب بالقدر؟ فَقَالَ: إن كَانَ والياً فليس من الأمر فِي شيء، وأنت فِي عذر، وإن لَمْ يكن والياً فلا تصل خلفه.
وكره آخرون الصلاة خلف أهل الأهواء والفجور:
رَوَى بقية بن الوليد: ثنا حبيب بن عُمَر الأنصاري، عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعْت واثلة بن الأسقع يَقُول: لَوْ صليت خلف قدري لأعدت صلاتي.
خرجه حرب الكرماني.
وخرج - أَيْضاً - من طريق نوح بن جعونة: ثنا عَبْد الكريم، قَالَ: قَالَ ابن عَبَّاس: لأن أصلي خلف جيفة حمار أحب إلي من أن أصلي خلف قدري.
وفي كلا الإسنادين ضعف.
وروى عَن أَبِي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَلِيّ، أَنَّهُ أمر بإعادة الصلاة خلف القدري.
وكذلك سُفْيَان.
وفرقت طائفة بَيْن البدع المغلظة وغيرها:
فَقَالَ أبو عُبَيْدِ فيمن صلى خلف الجهمي أو الرافضي: يعيد. ومن صلى خلف قدري أو مرجىء أو خارجي: لا آمره بالإعادة.

(6/190)


وكذلك الإمام أحمد، قَالَ فِي الصلاة خلف الجهمية: إنها تعاد.
والجهمي عنده من يَقُول: القرآن مخلوق؛ فإنه كافر. أو يقف ولا يَقُول مخلوق ولا غير مخلوق، ونص أَنَّهُ تعاد الصلاة خلفه - أَيْضاً -، وقال: لا يصلي خلف من قَالَ: لفظي بالقرآن مخلوق، وَهُوَ جهمي.
وقال: لا يصلي خلف القدري إذا قَالَ: لا يعلم الشيء حَتَّى يكون، فهذا كافر، فإن صلى يعيد.
وَقَالَ - أَيْضاً - فِي القدري: إذا كَانَ داعياً مخاصماً تعاد الصلاة خلفه.
وهذا محمول عَلَى من لا ينكر منهم العلم القديم.
وَقَالَ فِي الخوارج: إذا تغلبوا عَلَى بلد: صلي خلفهم.
وَقَالَ - مرة -: يصلى خلفهم الجمعة؛ صلى ابن عُمَر خلف نجدة الحروري.
وَقَالَ فِي الرافضي الَّذِي يتناول الصَّحَابَة: لا يصلى خلفه.
وَقَالَ فيمن يقدم علياً عَلَى أَبِي بَكْر وعمر: إن كَانَ جاهلاً لا علم لَهُ فصلى خلفه فأرجو أن لا يكون بِهِ بأس، وإن كَانَ يتخذه ديناً فلا تصل خلفه.
وَقَالَ فِي المرجىء - وَهُوَ: من لا يدخل الأعمال فِي الإيمان -: إن كَانَ داعياً فلا يصلى خلفه. وَقَالَ فِي الصلاة خلف أهل الأهواء: إذا كَانَ داعيةً ويخاصم فِي بدعته فلا يصلى خلفه، وإلا فلا بأس.
وهذا محمول عَلَى البدع الَّتِيْ لا يكفر صاحبها، فأما مَا يكفر صاحبه فتعاد الصلاة خلفه، كما تقدم عَنْهُ.

(6/191)


قَالَ حرب: قُلتُ لأحمد: فتكره الصلاة خلف أهل البدع كلهم؟ فَقَالَ: إنهم لا يستوون.
وأما الصلاة خلف الفساق، فَقَالَ أحمد - فيمن يسكر -: لا يصلى خلفه، وفيمن ترك شيئاً من فرائض الإسلام أو تعامل بالربا: لا يصلي خلفه، ولا خلف من كل بيعه عينة - يعني: نسأة، ولا خلف من يكثر كذبه.
وسئل عَن الصلاة خلف من يغتاب النَّاس؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ كل من عصى الله لا يصلى خلفه، متى كَانَ يقوم النَّاس عَلَى هَذَا؟
وفرق - مرة - بَيْن المستتر والمعلن.
قَالَ أحمد بن الْقَاسِم: سئل أحمد عَن الصلاة خلف من لا يرضى؟ قَالَ: قَدْ اختلف فِيهِ؛ فإن كَانَ لا يظهر أمره فِي منكر أو فاحشة بينة أو مَا أشبه ذَلِكَ فليصل.
وفرق - مرة - بَيْن الصلاة خلف الأمراء وغيرهم.
قَالَ الميموني: سَمِعْت أحمد قَالَ: إذا كَانَ الإمام من أئمة الأحياء يسكر فلا أحب أن أصلي خلفه البتة؛ لأن لِي اختيار الأئمة، وليس هُوَ والي المُسْلِمِين؛ لأن ابن عُمَر سئل عَن الصلاة خلف الأمراء؟ فَقَالَ: إنما هِيَ حسنة، لا أبالي من شركني فيها.
ولهذا المعنى لَمْ يختلف فِي حضور الجمعة والعيدين خلف كل بر وفاجر.
والمشهور عَنْهُ: إعادتها خلف الفاجر، فإن كَانَ يكفر ببدعته ففي حضورها مَعَهُ روايتان، ومع حضورها يعيدها ظهراً.
وحكي عَنْهُ: لا يعيد.
واختلف أصحابنا فِي حكاية المذهب فِي الإعادة خلف الفاسق:

(6/192)


فمنهم من قَالَ: فِي الإعادة روايتان مطلقاً.
ومنهم من قالَ: إن لم يعلم فسقه فلا إعادة، وإن علم ففي الإعادة روايتان.
ومنهم من قَالَ: إن كَانَ مستتراً لَمْ يعد، وإن كَانَ متظاهراً ففي الإعادة روايتان.
فأما من يكفر ببدعته فحكمه حكم الكفار.
ولذلك فرق إِسْحَاق بن راهوية بَيْن القدري والمرجىء، فَقَالَ فِي القدري: لا يصلى خلفه. وَقَالَ فِي المرجىء: إن كَانَ داعية لَمْ يصل خلفه.
وَقَالَ حرب: ثنا ابن أَبِي حزم القطعي: ثنا معاذ بن معاذ: ثنا أشعث، عَن الْحَسَن، فِي السكران يؤم القوم؟ قَالَ: إذا أتم الركوع والسجود فَقَدْ أجزأ عنهم.
وَقَالَ مُحَمَّد بن سيرين: يعيدون جميعاً، والإمام.
وحكى ابن المنذر، عَن مَالِك، أَنَّهُ قَالَ: لا يصلى خلف أهل البدع من القدرية وغيرهم، ويصلى خلف أئمة الجور.
وعن الشَّافِعِيّ: أَنَّهُ يجيز الصلاة خلف من أقام الصلاة، وإن كَانَ غير محمود فِي دينه.
اختار ابن المنذر هَذَا القول، مَا لَمْ تخرجه بدعته إلى الكفر.
وفي ((تهذيب المدونة)) : تجزىء الجمعة وغيرها خلف من ليس بمبتدع من الولاة، وإذا كَانَ الإمام من أهل الأهواء فلا يصلى خلفه ولا الجمعة، إلا أن يتقيه، فليصلها مَعَهُ، وليعد ظهراً. ووقف مَالِك فِي إعادة من صلى

(6/193)


خلف مبتدع. وَقَالَ ابن الْقَاسِم: يعيد فِي الوقت. انتهى.
وفي مصنف عَلَى مذهب سُفْيَان الثوري: تكره إمامة أهل البدع والأهواء الداعية إلى ذَلِكَ؛ سئل سُفْيَان عَن الصلاة خلف الأمراء الذين يقولون: طاعتنا لله طاعة، ومعصيتنا لله معصية؟ قَالَ: كَانَ الحجاج يَقُول ذَلِكَ، وهم يصلون خلف رافضي أو قدري فليعد الصلاة، ولا يصلى خلف من يَقُول: الإيمان قَوْلِ بلا عمل.
وحديث أَنَس الَّذِي خرجه البخاري فِي هَذَا الباب يستدل بِهِ عَلَى الصلاة خلف أئمة الجور وأعوانهم؛ وقد جعله البخاري دليلاً عَلَى إمامة المبتدع - أَيْضاً - كما يطاع فِي غير معصية، إذا كَانَ لَهُ ولاية عَلَى النَّاس، فإنه أمر بطاعتهم مطلقاً، مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بأنه يكون من بعده ولاة يغيرون ويبدلون، ونهى عَن قتالهم مَا أقاموا الصلاة، ولم ينه عَن الصلاة وراءهم، وإنما أمر بالصلاة فِي الوقت إذا أخر الأمراء الصلاة عَن الوقت، وأمر بالصلاة معهم نافلة، وقد سبق هَذَا الحَدِيْث فِي ((المواقيت)) .
ويستدل بِهِ عَلَى صحة الصلاة النافلة خلف الفاجر.
ومن أصحابنا من قَالَ: تصح النافلة خلفهم بغير خلاف فِي المذهب.
وقد روي عَن أحمد رِوَايَة أخرى أَنَّهُ لا يصلى التروايح خلف من يسكر.
وقد روي حَدِيْث مرفوع فِي كراهة الصلاة خلف الفاجر فِي غير الجمعة.
خرجه ابن ماجه من رِوَايَة عَبْد الله بن مُحَمَّد العدوي، عَن عَلِيّ

(6/194)


بن زيد، عَن سَعِيد بن المُسَيِّب، عَن جابر، قَالَ: خطبنا رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ((إن الله قَدْ افترض عليكم الجمعة فِي مقامي هَذَا إلى يوم القيامة، فمن تركها فِي حياتي أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافاً بِهَا، وجحوداً لها؛ فلا جمع الله لَهُ شمله، ولا بارك لَهُ فِي أمره، ألا ولا صلاة لَهُ، ولا زكاة لَهُ، ولا حج لَهُ، ولا بركة حَتَّى يتوب، ألا لا تؤمن امرأة رجلاً، ولا يؤم أعرابي مهاجراً، ألا ولا يؤم فاجر مؤمناً إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه وشرطه)) .
والعدوي هَذَا، قَالَ البخاري وأبو حاتم: منكر الحَدِيْث. وَقَالَ أبو حاتم: مجهول. وَقَالَ الدارقطني: متروك.
قَالَ العقيلي: وقد روي هَذَا من وجه آخر يشبه هَذَا فِي الضعف.
وذكر الدارقطني فِي ((العلل)) أَنَّهُ رواه أبو فَاطِمَة مسكين بن عَبْد الله الطفاوي وحمزة بن حسان، عَن عَلِيّ بن زيد - أَيْضاً -، ورواه الثوري عَن عَلِيّ بن زيد أَيْضاً.
ثُمَّ خرجه من طريق مهنأ بن يَحْيَى الشامي - صاحب الإمام أحمد -: حَدَّثَنَا زيد بن أَبِي الزرقاء، عَن سُفْيَان، عَن عَلِيّ بن زيد - فذكره مختصراً.
وهذا إسناد قوي؛ إلا أن الحَدِيْث منكر -: قاله أبو حاتم الرَّازِي.

(6/195)


وَقَالَ الدارقطني: هُوَ غير ثابت.
وَقَالَ ابن عَبْد البر: أسانيده واهية.
قُلتُ: وقد روي أوله من طرق متعددة، كلها واهية.

(6/196)


57 - بَاب
يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الإمَامِ بحذائهِ سواءً إذا كَاناَ اثْنَيْنِ
مراده بهذا التبويب: أَنَّهُ إذا اجتمع فِي الصلاة إمام ومأموم فإن المأموم يقوم عَن يمين الإمام بحذائه سواء - أي: مساوياً لَهُ فِي الموقف، من غير تقدم ولا تأخر.

(6/197)


697 – حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بن حرب: ثنا شعبة، عَن الحكم، قَالَ ك سَمِعْت سَعِيد ابن جبير، عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: بت فِي بيت خالتي ميمونة، فصلى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء، ثُمَّ جَاءَ فصلى أربع ركعات، ثُمَّ نام، ثُمَّ قام، فجئت فقمت عَن يساره، فجعلني عَن يمينه، فصلى خمس ركعات، ثُمَّ صلى ركعتين، ثُمَّ نام حَتَّى سَمِعْت غطيطه – أو قَالَ: خطيطه – ثُمَّ خرج إلى الصلاة.
((الغطيط)) : صوت تردد النفس، ومنه: غطيط البكر. و ((الخطيط)) : نحوه: والغين والخاء متقاربا المخرج.
والمقصود من هَذَا الحَدِيْث فِي هَذَا الباب: أن الإمام إذا لَمْ يأتم بِهِ غير واحد، فإنه يقيمه عَن يمينه بحذائه، ولو كَانَ صبياً لَمْ يبلغ الحلم.
وهذا كالإجماع من أهل العلم.
وقد حكاه الترمذي فِي ((جامعه)) عَن

(6/197)


أهل العلم من أصْحَاب النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمن بعدهم، قالوا: إذا كَانَ الرَّجُلُ مَعَ الرَّجُلُ يقوم عَن يمين الإمام.
وحكاه ابن المنذر عَن أكثر أهل العلم، وسمى منهم: عُمَر بن الخَطَّاب وابن عُمَر وجابر بن زيد وعروة ومالك وسفيان والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي. قَالَ: وبه نقول.
قُلتُ: وَهُوَ – أَيْضاً – قَوْلِ الشَّعْبِيّ وأحمد وأسحاق.
قَالَ ابن المنذر: وفيه قولان آخران:
أحدهما عَن سَعِيد بن المُسَيِّب، أَنَّهُ قَالَ: يقيمه عَن يساره.
قُلتُ: وروي – أَيْضاً – عَن النخعي، أَنَّهُ يقوم من خلفه مَا بينه وبين أن يركع، فإن جَاءَ أحد وإلا قام عَن يمينه. انتهى.
وروى أبو نعيم: ثنا سُفْيَان، عَن الْحَسَن بن عُبَيْدِ الله، عَن إِبْرَاهِيْم، قَالَ: كُنْتُ أقوم خلف علقمة حَتَّى ينزل المؤذن قائماً، كَانَ يقوم خلفه إذا

(6/198)


علم أَنَّهُ يلحق غيره قريباً.
وروى وكيع فِي ((كتابه)) عَن الْحَسَن، قَالَ: إذا صلى الرَّجُلُ ومعه رَجُل واحد ونساء؛ أقام الرَّجُلُ خلفه وأقام النِّسَاء خلف الرَّجُلُ.
وقد روي فِي حَدِيْث ابن عَبَّاس، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقامه عَن يساره، وروي أَنَّهُ قام خلفه، وكلاهما لا يصح.
أما الأول: فمن رِوَايَة كثير بن زيد، عَن يزيد بن أَبِي زياد، عَن كريب، عَن ابن عَبَّاس – فذكر الحَدِيْث، وفيه: قَالَ: فقمت عَن يمينه، فأخذني فجعلني عَن يساره.
قَالَ مُسْلِم فِي كِتَاب ((التمييز)) : هَذَا غلط غير محفوظ؛ لتتابع الأخبار الصحاح برواية الثقات عَلَى خلاف ذَلِكَ، أن ابن عَبَّاس إنما قام عَلَى يسار النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحوله حَتَّى أقامه عَن يمينه.
ثُمَّ خرجه من طرق متعددة، عَن كريب، عَن ابن عَبَّاس كذلك. ومن طريق سَعِيد بن جبير وعطاء وأبي نضرة والشعبي وطاوس وعكرمة، كلهم عَن ابن عَبَّاس كذلك.
وأما الثاني: فخرجه أبو نعيم فِي ((الحلية)) من رِوَايَة أَبِي يزيد الخراز: ثنا النضر بن شميل: ثنا يونس، عَن أَبِي إِسْحَاق: حَدَّثَنِي عَبْد المؤمن

(6/199)


الأنصاري، قَالَ: قَالَ ابن عَبَّاس، كُنْتُ عِنْدَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقام إلى سقاء فتوضأ وشرب قائماً، فقمت فتوضأت وشربت قائماً، ثُمَّ صففت خلفه، فأشار إلي لأوازي بِهِ أقوم عَن يمينه، فأبيت، فلما قضى صلاته قَالَ: ((مَا منعك [أن لا تكون] وازيت بي؟)) قُلتُ: يَا رَسُول الله، أنت أجل فِي عيني وأعز من أن أوازي بك. فَقَالَ: ((اللهم، آته الحكمة)) .
إسنادمجهول؛ فلا تعارض بِهِ الروايات الصحيحة الثابتة.
وقد روي من وجه أصح ممن هَذَا، أَنَّهُ وقف خلفه فقدمه إلى يمينه.
خرجه أبو نعيم فِي ((كِتَاب الصلاة)) : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن شريك: ثنا عَكْرِمَة بن خَالِد، قَالَ: قَالَ ابن عَبَّاس: بت عِنْدَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بيت ميمونة – وهي خالته -، فلما قام النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الليل يصلي قمت خلفه، فأهوى بيده فأخذ برأسي، فأقامني عَن يمينه إلى جنبه.
مُحَمَّد بن شريك هَذَا، مكي، وثقه الإمام أحمد.
وقد دل حَدِيْث ابن عَبَّاس هَذَا عَلَى انعقاد الجماعة بالصبي فِي النفل، وهذا متنف عَلِيهِ، فأما فِي الفرض ففيه روايتان عَن أحمد، والأكثرون عَلَى انعقاده بالصبي – أَيْضاً -، وَهُوَ قَوْلِ أبي حنيفة والشافعي؛ لأن

(6/200)


الصبي يصح نفله، والجماعة تنعقد بالمتنفل، وإن كَانَ الإمام مفترضأ؛ بدليل قَوْلِ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من يتصدق عَلَى هَذَا فيصلي مَعَهُ؟)) .

(6/201)


58 - بَاب
إذا قَامَ عَنْ يَسَار الإمَامِ فَحوَّلهُ الإمَامُ إلى يَمِيِنهِ
لَمْ تَفْسُدْ صَلاَتُهُ

(6/202)


698 – حَدَّثَنَا أحمد: ثنا ابن وهب: ثنا عَمْرِو، عَن عَبْد ربه بن سَعِيد، عَن مخرمه بن سُلَيْمَان، عَن كريب، عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: نمت عِنْدَ ميمونة والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عندها تلك الليلة، فتوضأ، ثُمَّ قام يصلي، فقمت عَن يساره، فأخذني فجعلني عَن يمينه، فصلى ثلاث عشرة ركعة، ثُمَّ نام حَتَّى نفخ – وكان إذا نام نفخ – حَتَّى أتاه المؤذن، فخرج فصلى ولم يتوضأ.
قَالَ عَمْرِو: فحدثت بِهِ بكيراً، فَقَالَ: حَدَّثَنِي كريب بذلك.
((أحمد)) هَذَا غير منسوب، قَدْ رَوَى عَنْهُ البخاري فِي مواضع عَن عَبْد الله بن وهب، وقد اختلف فِيهِ:
فَقِيلَ: هُوَ أحمد بن عَبْد الرحمن بن وهب ابن أخي عَبْد الله بن وهب -: قاله أبو أحمد الحَاكِم وغيره.
وأنكر آخرون أن

(6/202)


يكون البخاري رَوَى عَن ابن أخي ابن وهب فِي
((صحيحه)) ؛ لما اشتهر من الطعن عَلِيهِ، لا سيما فِي آخر عمره.
وقالوا: إنه أحمد بن صالح، أو أحمد بن عيسى التستري؛ فإنهما يرويان عَن ابن وهب، وقد رَوَى البخاري عنهما فِي ((كتابه)) من غير شك.
ومن قَالَ: إن أحمد هَذَا، هُوَ: ابن حَنْبل، فَقَدْ أخطأ؛ فإن الإمام أحمد لا يروي عَن ابن وهب، بل عَن أصحابه.
والأظهر: أَنَّهُ أحمد بن صالح؛ وبذلك جزم أبو عَبْد الله بن منده، قَالَ: لَمْ يخرج البخاري عَن أحمد بن عَبْد الرحمن فِي ((صحيحه)) شيئاً، وكلما قَالَ فِي ((الصحيح)) : ((حَدَّثَنَا أحمد: ثنا ابن وهب)) فهو ابن صالح المصري، وإذا رَوَى عَن أحمد بن عيسى نسبه. والله أعلم.
وقد استدل البخاري بهذا الحَدِيْث عَلَى أن من قام عَن يسار الإمام، فحوله إلى يمينه لَمْ تفسد صلاته – وفي بعض النسخ: صلاتهما -، أما صلاة الإمام فلا تفسد بمده لَهُ بيده وتحويله من جانب إلى جانب.
وقد خرج البخاري هَذَا الحَدِيْث فيما بعد، وفيه: أَنَّهُ أخذ برأسه من ورائه، فجعله عَلَى يمينه.
وإنما حوله النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وراء ظهره لئلا يكون ماراً فِي قبلته.
وقد خرجه مُسْلِم من حَدِيْث عَطَاء، عَن ابن عَبَّاس، وفي حديثه: قَالَ: فقمت إلى شقه الأيسر، فأخذني من وراء ظهره، فعدلني كذلك

(6/203)


من وراء ظهره إلى الشق الأيمن.
وفي رِوَايَة لَهُ – أَيْضاً – فتناولني من خلف ظهره، فجعلني عَلَى يمينه.
وقيل فِيهِ معنى آخر، وَهُوَ: أَنَّهُ لَوْ أداره من بَيْن يديه لتقدم المأموم عَلَى إمامه فِي الموقف، وأما صلاة المأموم فلا تفسد بمشية من أحد جانبي الإمام إلى جانبه الآخر؛ لأن هَذَا عمل يسير فِي الصلاة فلا تفسد بِهِ الصلاة.
وقد اختلف النَّاس فِي حد العمل اليسير الَّذِي يعفى عَنْهُ فِي الصلاة فلا يبطلها.
فالصحيح عِنْدَ أصحابنا أَنَّهُ يرجع فِيهِ إلى عرف النَّاس من غير تقدير لَهُ بمرة أو مرتين.
ومنهم من قدره بالمرة والمرتين، وجعل الثلاث فِي حد الكثرة، وكلام أحمد مخالف لهذا مَعَ مخالفته للسنن والآثار الكثيرة.
وللشافعية فِي الخطوتين والضربتين وجهان.
ومن الحنفية من قَالَ: الكثير، مَا لَمْ يمكن إقامته إلا باليدين كالإرضاع، واليسير: مَا يمكن بإحداهما.
ومنهم من قَالَ: الكثير: مَا لَوْ رآه الناظر لا ستيقن أَنَّهُ ليس فِي صلاة.
واليسير: بخلافه.
ومنهم من قدر المشي المبطل بما جاوز محل السجود.
والرجوع فِيهِ إلى العرف أظهر؛ لأنه ليس لَهُ حد فِي الشرع.
وقد وردت السنة بالعفو عما لا يعد كثثيراً عرفاً، كتأخيره وتأخير الصفوف خلفه

(6/204)


فِي صلاة الكسوف. ومشيه حَتَّى فتح الباب لعائشة. وقد تأخر أبو بَكْر بحضوته من مقام الإمام حَتَّى قام فِي صف المأمومين، ورفع يديه وحمد الله.
وأذن فِي قتل الحية والعقوب فِي الصلاة، وكل هذه الأفعال تزيد عَلَى المرتين والثلاث.
وقد سبق القول فِي حمله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمامه فِي الصلاة، وأنه كَانَ يحملها إذا قام ويضعها إذا ركع.
واستدل بحديث ابن عَبَّاس المخرج فِي هَذَا الباب الشَّافِعِيّ ومن وافقه عَلَى أن من أساء الموقف وصلى عَن يسار الإمام، فإن صلاته صحيحة مَعَ الكراهة، وألحقوا بِهِ من صلى خلف الصف وحده.
ووجه استدلالهم بِهِ: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يبطل تحريمته وأقره عَلَى البناء عَلَيْهَا.
وأما الإمام أحمد، فعنده لا تصح صلاة من وقف عَلَى يسار الإمام إذا لَمْ يكن عَن يمينه أحد.
وإنما يبطل عنده إذا استمر فِي موقفه حَتَّى ركع الإمام ورفع، فأما إن كبر عَلَى يسار الإمام، ثُمَّ تحول إلى يمينه، أو وقف عَن يمين الإمام آخر قَبْلَ الركوع، فإن الصلاة عنده صحيحة.
وكذا لَوْ جَاءَ آخر إلى خلف الإمام، فتأخر القائم عَن يساره إلى القائم خلفه، فاصطفا جميعاً قَبْلَ الركوع.
وحكى القاضي فِي ((شرح المذهب)) عَن ابن حامد، أَنَّهُ حكى رِوَايَة عَن
أحمد، أَنَّهُ يصح الوقوف عَن يسار الإمام فِي النافلة خاصة، كما كبر ابن عَبَّاس عَن يسار النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النافلة.
والصحيح عَن أحمد: الأول.

(6/205)


فإن قيلَ: فَقَدْ صلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجابر عَن يمينه، ثُمَّ جَاءَ آخر فقام عَن يساره، فأخرهما النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه مُسْلِم فِي ((صحيحه)) .
ولم يدل ذَلِكَ عَلَى أن صلاة الاثنين عَن جانبي الإمام لا تصح.
قيل: إنما صح قيام الاثنين عَن جانبي الإمام؛ لأن ابن مَسْعُود فعله، ورواه عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس فِي القيام عَن يسار الإمام نَصَّ يدل عَلَى صحة صلاة من أتم صلاته عَن يساره. والله أعلم.
وأيضاً؛ فالوقوف عَن جانبي الإمام مشروع فِي حق العراة وحق النِّسَاء، وأما القيام عَن يساره خاصة، فليس بمشروع بحال.

* * *

(6/206)


59 - بَاب
إذا لَمْ ينوِ الإمامُ أنْ يؤمٌ، ثُمَّ جَاءَ قوْمٌ فَأَمَّهُمْ

(6/207)


699 – حَدَّثَنَا مسدد، قَالَ: ثنا إسماعيل بن إِبْرَاهِيْم، عَن أيوب، عَن عَبْد الله ابن سَعِيد بن جبير، عَن أَبِيه، عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: بت عِنْدَ خالتي ميمونة، فقام النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل، فقمت أصلي مَعَهُ، فقمت عَن يساره، فأخذ برأسي وأقامني عَن يمينه.
استدل البخاري بهذا عَلَى أن من أحرم بالصلاة منفرداً، ثُمَّ حضر فِي أثناء الصلاة من ائتم بِهِ، فإنه ينوي الإمامة، وتصح صلاته وصلاة من ائتم بِهِ عَلَى هذه الحال.
فتضمن ذَلِكَ مسألتين مختلفاً فيهما:
إحداهما:
أن من لَمْ ينو الإمامة فِي ابتداء صلاته: هَلْ يصح أن يأتم بِهِ غيره، أم لا؟ وفي المسألة أقوال:
أحدها: يجوز ذَلِكَ، فلا يشترط أن ينوي الإمام الإمامة، بل لَوْ نوى المأموم الاقتداء بمنفرد جاز، هَذَا قَوْلِ مَالِك والشافعي والثوري – فِي رِوَايَة – وزفر، وحكي رِوَايَة عَن أحمد.
والقول الثاني: لا يجوز بحال، وَهُوَ ظاهر مذهب أحمد، وقول الثوري – فِي رِوَايَة إِسْحَاق.
واستدل لهم بأن الجماعة قربة وعبادة، فلا

(6/207)


تنعقد إلا بإمام ومأموم، وفضلها مشترك بَيْنَهُمَا، فلا يحصل لهما ذَلِكَ بدون النية، عملاً بظاهر قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لأمرىء مَا نوى)) .
وأجاب بعض أصحابنا عَن حَدِيْث ابن عَبَّاس، بأن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إمام الخلق عَلَى كل حال، فلا يحتاج إلى نيةة الإمامة، فلا يلحق بِهِ غيره.
والقول الثالث: يصح ذَلِكَ فِي الفرض دون النفل، وَهُوَ رِوَايَة منصوصة عَن أحمد، استدلالاً بحديث ابن عَبَّاس هَذَا.
والقول الرابع: إن أم رَجُل رجلاً لَمْ يحتج أن ينوي الإمامة، وإن أم امرأة احتاج إلى نية الإمامة، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة وصاحبيه.
المسألة الثانية:
إذا أحرم منفرداً، ثُمَّ نوى الإمامة، وفي – أَيْضاً – أقوال:
أحدها: أَنَّهُ لا يجوز ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلِ أكثر أصحابنا، وبناء عَلَى أصلهم فِي أن الإمام يشترط أن ينوي الإمامة عَلَى مَا سبق، فيصير ذَلِكَ من ابتداء صلاته.
والثاني: يجوز ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة ومالك والشافعي، بناء عَلَى أصولهم فِي أن نية الإمام للأمامة ليس شرطاً، عَلَى مَا سبق.
ووافقهم بعض أصحابنا لمعنى آخر، وَهُوَ: أن طرفي الصلاة يجوز أن يكون فِي أولها إماماً وفي الآخر منفرداً، وَهُوَ المسبوق إذا استخلفه الإمام،

(6/208)


فكذا بالعكس.
والثالث: أَنَّهُ يجوز فِي الفرض دون النفل، وَهُوَ المنصوص عَن أحمد؛ لحديث ابن عَبَّاس هَذَا.
والظاهر: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نوى إمامته حينئذ؛ لأنه أداره إلى يمينه، وأوقفه موقف المأموم.
وفي معناه: حَدِيْث: صلاة المنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالليل فِي رمضان فِي حجرته، واقتداء النَّاس بِهِ فِي المسجد، وسيذكره البخاري فيما بعد.

(6/209)


60 - بَاب
إذا طَوَّلَ الإمامُ وَكَانَ للرَّجُلِ حَاجَةٌ فَخَرجَ وَلمْ يُصَلِّ

(6/210)


700 - حَدَّثَنَا مُسْلِم بن إِبْرَاهِيْم، قَالَ: ثنا شعبة، عَن عَمْرِو، عَن جابر بن عَبْد الله، أن معاذ بن جبل كَانَ يصلي مَعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ يرجع فيؤم قومه.

(6/210)


701 – حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن بشار: ثنا غندر: ثنا شعبة، عَن عَمْرِو: سَمِعْت جابر بن عَبْد الله قَالَ: كَانَ معاذ بن جبل يصلي مَعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ يرجع فيؤم قومه، فيصلي العشاء، فقرأ بالبقرة فانصرف رَجُل، فكأن معاذاً تناول مِنْهُ، فبلغ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: ((فتان)) – ثلاث مرار -، أو قَالَ: ((فاتن)) – ثلاث مرار -، وأمره بسورتين من أوسط المفضل.
قَالَ عَمْرِو: لا أحفظهما.
خرجه عالياً مختصراً، ثُمَّ خرجه بتمامه نازلاً، وفي سياقه موضع الاستدلال بِهِ عَلَى مَا بوب عَلِيهِ، وَهُوَ: انصراف الرَّجُلُ لما قرأ معاذ بسورة البقرة.

(6/210)


وفيه: دليل عَلَى أن الصَّحَابَة لَمْ يكن من عادتهم قراءة بعض سورة فِي الفرض؛ فإن معاذاً لما افتتح سورة البقرة علم الرَّجُلُ أَنَّهُ يكملها فِي صلاته، فلذلك انصرف.
وقد خرجه مُسْلِم من حَدِيْث سُفْيَان – هُوَ: ابن عُيَيْنَة -، عَن عَمْرِو، عَن جابر، وَقَالَ فِي حديثه: فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رَجُل فسلم، ثُمَّ صلى وحده وانصرف، فقالوا لَهُ: أنافقت يَا فلان؟ قَالَ: لا، والله، ولآتين رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلأخبرنه، فأتى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إنا أصْحَاب نواضح، نعمل بالنهار، وإن معاذاً صلى معك العشاء، ثُمَّ أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى معاذ، فَقَالَ: ((يَا معاذ، أفتان أنت؟)) – وذكر الحَدِيْث.
ففي هذه الرواية: أَنَّهُ انصرف بمجرد افتتاح معاذ للبقرة.
وفيها: أَنَّهُ سلم ثُمَّ صلى وحده وانصرف، ولم ينكر عَلِيهِ النببي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ.
وذكر البيهقي فِي ((كِتَاب المعرفة)) : أن هذه الزيادة – يعني: سلام الرَّجُلُ – تفرد بِهَا مُحَمَّد بن عباد، عَن سُفْيَان. قَالَ: لا أدري هَلْ حفظها عَن سُفْيَان، أم لا؛ لكثرة من رواه عَن سُفْيَان بدونها؟
وقد خرجه النسائي من طريق سُفْيَان – أَيْضاً -، وزاد فِيهِ بعد قوله: ((فاستفتح بسورة البقرة)) : ((فلما سَمِعْت ذَلِكَ تأخرت فصليت)) .
وخرجه – أَيْضاً – من طريق الأعمش، عَن محارب بن دثار وأبي

(6/211)


صالح، عَن جابر، وفي حديثه: أن معاذاً أمر الرَّجُلُ للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأرسل إليه النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: ((مَا حملك عَلَى الَّذِي صنعت؟)) فَقَالَ: يَا رَسُول الله، علمت عَلَى ناضح من النهار، فجئت وقد أقيمت الصلاة، فدخلت المسجد فدخلت مَعَهُ فِي الصلاة، وقرأ سورة كذا وكذا وطول، فانصرفت فصليت فِي ناحية المسجد. فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أفتان يَا معاذ؟)) .
فيستدل بهذا: عَلَى أن الإمام إذا طول عَلَى المأموم وشق عَلِيهِ إتمام الصلاة مَعَهُ؛ لتعبه أو غلبه النعاس عَلِيهِ أن لَهُ أن يقطع صلاته مَعَهُ، ويكون ذَلِكَ عذراً فِي قطع الصلاة المفروضة، وفي سقوط الجماعة فِي هذه الحال، وأنه يجوز أن يصلي لنفسه منفرداً فِي المسجد ثُمَّ يذهب، وإن كان الإمام يصلي فِيهِ بالناس.
قَالَ سُفْيَان: إذا خشي عَلَى غنمه الذئب، أو عَلَى دابته أن تؤخذ، أو عَلَى صبيه أن يأكله الذئب، فلا بأس أن يقطع صلاته ويذهب إليه.
وَقَالَ الْحَسَن وقتادة، فِي رَجُل كَانَ يصلي فأشفق أن تذهب دابته، أو أغار عَلَيْهَا السبع؟ قَالا: ينصرف. قيلَ لقتادة: يرى سارقاً يريد أن يأخذ نعليه؟ قَالَ: ينصرف.
ولو طول الإمام تطويلاً فاحشاً، أو حدث للمأموم عذر، مثل حدوث مرض، أو سماع حريق وقع فِي داره، أو خاف فساد طعام لَهُ عَلَى النار، أو ذهاب دابة لَهُ عَلَى بَاب المسجد ونحو ذَلِكَ، فنوى مفارقة إمامه، وأتم صلاته منفرداً، وانصرف جاز ذَلِكَ عِنْدَ أصحابنا – أَيْضاً – وحكوه عَن

(6/212)


الشَّافِعِيّ وأبي يوسف ومحمد.
وعن مَالِك وأبي حنيفة: تبطل صلاته بذلك.
واستدل أصحابنا بما رَوَى الإمام أحمد فِي ((مسنده)) : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل - هُوَ: ابن علية -: ثنا عَبْد العزيز بن صهيب، عَن أَنَس، قَالَ: كَانَ معاذ بن جبل يؤم قومه، فدخل حرام وَهُوَ يريد أن يسقي نخله، فدخل المسجد مَعَ القوم، فلما رأى معاذاً طول تجوز فِي صلاته ولحق بنخلة يسقيه، فلما قضى معاذ الصلاة قيلَ لَهُ: إن حراماً دَخَلَ المسجد، فلما رآك طويت تجوز فِي صلاته ولحق نخلة يسقيه. قَالَ: إنه لمنافق، أيعجل عَن الصلاة من أجل سقي نخلة؟! قَالَ: فجاء حرام إلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعاذ عنده، فَقَالَ: يَا بني الله؛ إني أردت أن أسقي نخلاً لِي، فدخلت المسجد لأصلي مَعَ القوم، فلما طول تجوزت فِي صلاتي ولحقت بنخلي أسقيه، فزعم أنى منافق، فأقبل النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى معاذ، فَقَالَ: ((أفتان أنت؟ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! لا تطول بهم؛ أقرأ ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] ونحوهما)) .
وخرج – أَيْضاً – من طريق حسين بن واقد، عَن عَبْد الله بن بريدة، عَن أَبِيه، أن معاذ بن جبل صلى بأصحابه العشاء، فقرأ فيها {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] فقام رَجُل من قَبْلَ أن يفرغ، فصلى وذهب، فَقَالَ لَهُ معاذ قولاً شديداً، فأتى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واعتذر إليه، وَقَالَ: إني كُنْتُ أعمل فِي نخل، وخفت عَلَى الماء، فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني لمعاذ -: ((صل بالشمس وضحاها ونحوها من السور)) .

(6/213)


وروى مُحَمَّد بن عجلان، عَن عُبَيْدِ الله بن مقسم، عَن جابر هذه القصة بطولها، وفيها: فصلى خلفه فتى من قومه، فلما طال عَلَى الفتى صلى وخرج. وفي هَذَا الحَدِيْث: أن معاذاً أخبر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما صنع الفتى، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، يطيل المكث عندك، ثُمَّ يرجع فيطول علينا. فَقَالَ: ((أفتان أنت يَا معاذ؟)) – وذكر الحَدِيْث.
خرجه أبو داود، مختصراً لَمْ يتمه.
وَقَالَ أصحابنا: هذه قصة أخرى غير قصة الَّذِي سلم من صلاته وصلى لنفسه وانصرف.
وقد روي أن الرَّجُلُ صلى قَبْلَ أن يجيء معاذ، وانصرف لما أبطأ معاذ، وأن اسمه: سليم.
وهذا يدل عَلَى أن هذه قصة أخرى غير قصة حرام.
فروى أسامة بن زيد: سَمِعْت معاذ بن عَبْد الله بن خبيب، قَالَ: سَمِعْت جابر بن عَبْد الله، قَالَ: كَانَ معاذ يتخلف عِنْدَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان إذا جَاءَ أم بقومه، وكان رَجُل من بني سَلَمَة – يقال لَهُ: سليم – يصلي مَعَ معاذ، فاحتبس معاذ عنهم ليلة، فصلى سليم ثُمَّ انصرف – وذكر الحَدِيْث، وفيه: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل سليماً: كَيْفَ صلى؟ فَقَالَ: قرأت بفاتحة الكتاب سورة، ثُمَّ قعدت وتشهدت، وسألت الجن وتعوذت من النار، وصليت عَلَى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

(6/214)


ثُمَّ انصرفت، وليس أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ. فضحك النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ قَالَ: ((هَلْ أدندن أنا أو معاذ إلا لندخل الجنة ونعاذ من النار؟)) ثُمَّ أرسل إلى معاذ: ((لا تكن فتاناً تفتن النَّاس، ارجع إليهم فصل بهم قَبْلَ أن يناموا)) .
خرجه البزار.
وقد روي أن اسم الرَّجُلُ حزم بن [أَبِي] كعب.
وقد خرج أبو داود حديثه مختصراً.
وهذا يستدل بِهِ عَلَى أنها وقائع متعددة.
ولم نقف فِي شيء من الروايات عَلَى أن الرجل قطع صلاته وخرج من المسجد ولم يصل، كما بوب عَلِيهِ البخاري. وفي بعض النسخ: ((فخرج فصلى)) ، وَهُوَ أصح.
ولو فارق المأموم لغير عذر، لَمْ يجز فِي أصح الروايتين عَن أحمد، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي حنيفة ومالك. والثانية: يجوز، وَهُوَ قَوْلِ أَبِي يوسف ومحمد.
وللشافعي قولان.

(6/215)


واستدلوا عَلَى أَنَّهُ لا يجوز، وأن الصلاة تبطل بِهِ بقول النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنما الإمام ليؤتم بِهِ، فلا تختلفوا عَلِيهِ)) ، ومفارقته من غير عذر من الاختلاف عَلِيهِ.
وأيضاً؛ فَقَدْ سبق الاستدلال عَلَى وجوب الجماعة، والواجب إذا مَا شرع فِيهِ لَمْ يجز إبطاله وقطعه لغير عذر، كأصل الصلاة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(6/216)


61 - بَاب
تَخْفيفِ الإمامِ فِي القيَامِ وإتْمامِ الرُّكُوعََ والسُّجُوِد

(6/217)


702 – حَدَّثَنَا أحمد بن يونس: ثنا زهير: ثنا إِسْمَاعِيل: سَمِعْت قيساً قَالَ: أخبرني أبو مَسْعُود، أن رجلاً قَالَ: والله يَا رَسُول الله، إني لأتأخر عَن صلاة الغداة من أجل فلان مِمَّا يطيل بنا. فما رأيت رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي موعظة أشد غضباً مِنْهُ يومئذ، ثُمَّ قَالَ: ((إن منكم منفرين، فأيكم مَا صلى بالناس فليتجوز؛ فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة)) .
فِي هَذَا الحَدِيْث: أن الإمام مأمور بالتخفيف خشية الإطالة عَلَى من خلفه؛ فإنه لا يخلو بعضهم من عذر كالضعيف والكبير وذي الحاجة.
وهذا يدل عَلَى أن الأمر بالتخفيف إنما يتوجه إلى إمام يصلي فِي مسجد يغشاه النَّاس.
قَالَ حَنْبل بن إِسْحَاق: قالو أبو عَبْد الله – يعني: أحمد -: إذا كَانَ المسجد عَلَى قارعة الطريق أو طريق يسلك فالتخفيف أعجب إلي، فإن كَانَ مسجداً يعتزل أهله ويرضون بذلك فلابأس، وأرجو – إن شاء الله.
وقالت طائفة: عَلَى الإمام أن يخفف بكل حال.
ورجحه ابن عَبْد البر، قَالَ: لأنه وإن علم قوة من خلفه، فإنه لا يدري مَا يحدث بهم

(6/217)


من آفات بني آدم. وذكر أن تطويل الإمام غير جائز، وأنه يلزمه النخفيف.
وَقَالَ عَبْد الله بن أحمد: سألت أَبِي عَن الحَدِيْث الَّذِي جَاءَ عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صلاته، قَالَ: ((وكان قيامه وركوعه وسجوده وقعوده بَيْن السجدتين قريباً من السواء)) : مَا تفسير ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أحب إلي أن يخفف، ولا يشق عَلَى من خلفه، وقد روي عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التخفيف أحاديث.
قَالَ أبو بَكْر عَبْد العزيز بن جَعْفَر من أصحابنا: قَدْ يجوز أن يكون رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل ذَلِكَ فِي نفسه إذا كَانَ مصلياً، وقد أمر أئمته بالتخفيف، فيتوجه الحديثان عَلَى معنيين.
كذا قَالَ: وفيه نظر؛ فإن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يخفف ويوجز ويتم الصلاة، فَلَمْ يكن يفعل خلاف مَا أمر بِهِ الأئمة.
وليس فِي حَدِيْث أَبِي مَسْعُود الَّذِي خرجه هاهنا مَا يدل عَلَى مَا بوب عَلِيهِ من تخفيف القيام وإتمام الركوع والسجود، وقد خرج فيما بعد حَدِيْث أَنَس، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يوجز ويتم.
وقد رويت أحاديث فِي التخفيف مَعَ إتمام الركوع والسجود، وهي مطابقة لترجمة هَذَا الباب، لكن ليست عَلَى شرط هَذَا ((الكتاب)) .
فخرج الإمام أحمد من حَدِيْث مَالِك بن عَبْد الله الخثعمي، قَالَ: غزوت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمْ أصل خلف إمام كَانَ أوجز مِنْهُ صلاة فِي تمام الركوع والسجود.

(6/218)


ومن حَدِيْث عدي بن حاتم، قَالَ: من أمنا فليتم الركوع والسجود؛ فإن
فينا الضعيف والكبير والمريض والعابر السبيل وذا الحاجة، هكذا كنا نصلي مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه الطبراني، ولفظه: أن عدي بن حاتم خرج إلى مجلسهم، فأقيمت الصلاة فتقدم إمامهم، فأطال الصلاة والجلوس , فلما انصرف قَالَ: من أَمنا منكم فليتم الركوع والسجود؛ فإن خلفه الصغير والكبير والمريض وابن السبيل وذا الحاجة , فلما حضرت الصلاة تقدم عدي فأتم الركوع والسجود، وتجوز فِي الصلاة، فلما انصرف قَالَ: هكذا كنا نصلي خلف النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرج الطبراني وغيره من حَدِيْث نَافِع بن خَالِد الخزاعي: حَدَّثَنِي أَبِي – وكان من أصْحَاب الشجرة – أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذا صلى والناس ينظرون صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود.
فَقَدْ ثبت أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذا صلى بالناس فإنه يخفف عنهم، وإذا صلى لنفسه يطول.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) عَن أَبِي واقد الليثي، قَالَ: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخف النَّاس صلاة بالناس، وأطول النَّاس صلاة لنفسه.
فالصلاة الَّتِيْ كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها بالناس هِيَ النخفيف الَّذِي أمر بِهِ غيره، وإنما أنكر عَلَى من طول تطويلاً زائداً عَلَى ذَلِكَ، فإن معاذ بن جبل كَانَ يصلي مَعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة صلاة العشاء، وكان النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(6/219)


يؤخرها كثيراً، كما سبق ذكره فِي (المواقيت)) ، ثُمَّ ينطلق إلى قومه فِي بني سَلَمَة فيصلي بهم، وقد استفتح حينئذ بسورة البقرة، فهذا هُوَ الَّذِي أنكره عَلَى معاذ.
ويشهد لهذا: حَدِيْث ابن عُمَر، قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليأمرنا بالتخفيف، وإن كَانَ ليؤمنا بالصافات.
خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن خزيمة فِي ((صحيحه)) .
والمراد: أن التخفيف المأمور بِهِ هُوَ مَا كَانَ يفعله، ومن كَانَ يفهم أَنَّهُ كَانَ يفعل خلاف مَا أمر بِهِ – كما أشعر بِهِ تبويب النسائي – فَقَدْ وهم.
وفي ((صحيح مُسْلِم)) عَن سماك، قَالَ: سألت جابر بن سمرة عَن صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: كَانَ يخفف الصلاة ولا يصلي صلاة هؤلاء. قَالَ: وأنبأني أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يقرأ فِي الفجر بـ ((قاف والقرآن المجيد)) ، ونحوها من السور.
وخرجه الحَاكِم، ولفظه: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي نحواً من صلاتكم، ولكنه يخفف الصلاة، كَانَ يقرأ فِي الفجر بالواقعة ونحوها من السور.
فصرح بأن تخفيفه هُوَ قرءاته بهذه السورة.
وروى عَبْد الجبار بن العباس، عَن عمار الدهني، عَن الأعمش، عَن إبراهيم التيمي، قَالَ: كَانَ أَبِي ترك الصلاة مَعَنَا، قَالَ: إنكم تخففون.

(6/220)


قُلتُ: فأين قَوْلِ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن فيكم الكبير والضعيف وذا الحاجة؟)) فَقَالَ: قَدْ سَمِعْت عَبْد الله بن مَسْعُود يَقُول ذَلِكَ، ثُمَّ صلى ثَلاَثَة اضعاف مَا تصلون.
خرجه ابن خزيمة فِي ((صحيحه)) والطبراني.
وروى مَالِك بن مغول، عَن الحكم، عَن إِبْرَاهِيْم التيمي، عَن أَبِيه، أَنَّهُ كَانَ يتخلف عَن الصلاة، فَقِيلَ لَهُ. فَقَالَ: إنكم تخففون. فَقِيلَ: أليس قَدْ كَانَ يؤمر بذلك؟ قَالَ: إن الَّذِي كَانَ عليهم خفيفاً عليكم ثقيل.
واعلم؛ أن التخفيف أمر نسبي، فَقَدْ تكون الصلاة خفيفة بالنسبة إلى مَا هُوَ أخف مِنْهَا، فالتخفيف المأمور بِهِ الأئمة هُوَ الَّذِي كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله إذا أم، فالنقص مِنْهُ ليس بتخفيف مشروع، والزيادة عَلِيهِ إن كَانَ مِمَّا فعله الخُلَفَاء الراشدون كتطويل القرءة فِي صلاة الصبح، عَلَى مَا كَانَ يفعله – أحيانا – أبو بَكْر وعمر فليس بمكروه، نَصَّ عَلِيهِ الإمام أحمد غيره. وسيأتي ذَلِكَ فِي موضعه – إن شاء الله تعالى.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي ((الأم)) : أحب أن يبدأ الراكع فيقول: سبحان ربي العظيم – ثلاثاً -، ويقول كل مَا حكيت عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يقوله – يعني: حَدِيْث عَلِيّ – قَالَ: وكل مَا قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ركوع أو سجود أحببت

(6/221)


أن لا يقصر عَنْهُ، إماماً كَانَ أو منفرداً، وَهُوَ تخفيف لا تثقيل. انتهى كلامه.
فَقَدْ كَانَ حدث بعد النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تخفيف الصلاة من الأئمة تخفيفاً، وقد حكي ذَلِكَ عَن أهل الكوفة، وحدث من يطيل الصلاة عَلَى صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إطالة زائدة، وكان ذَلِكَ فِي أهل الشام وأهل المدينة – أَيْضاً -، وكان السلف ينكرون عَلَى الطائفتين، وقد ذكرنا إنكار يزيد التيمي – وكان من أعيان التابعين – عَلَى من خفف الصلاة من أئمة الكوفة، وكان ابن عُمَر وغيره ينكرون عَلَى من أطال الصلاة إطالة زائدةً عَلَى صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ففي ((مسنده الإمام أحمد)) عَن عطية، عَن ابن عُمَر، قَالَ: سجدة من سجود هؤلاء مثل ثلاث سجدات من سجود النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وعن حيان البارقي، قَالَ: قيل لابن عُمَر: إن إماما يطيل الصلاة.
فَقَالَ: ركعتين من صلاة رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخف – أو مثل ركعة – من صلاة هَذَا.

(6/222)


وروى ابن أَبِي عاصم فِي ((كِتَاب السنة)) من رِوَايَة سَالِم بن حذلم؛ قَالَ: رآني ابن عمر أصلي، فلما انصرفت قَالَ لِي: ممن أنت؟ قُلتُ: من أهل الشام. قَالَ: إنكم أهل الشام تصلون الصلاة وتكثرون من الدعاء، وإني لَمْ أصل خلف أحد أخف صلاة فِي تمام من رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي ((المسند)) عَن إِسْمَاعِيل بن أَبِي خَالِد، عَن أَبِيه، قَالَ: رأيت أَبَا هُرَيْرَةَ صلى صلاة تجوز فيها، فَقُلْت لَهُ: هكذا كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي؟ قَالَ: نَعَمْ، وأوجز.
وفي رِوَايَة: ((أو أوجز)) .
وفي رِوَايَة – أَيْضاً -: قَالَ: وكان قيامه قدر مَا ينزل المؤذن من المنارة ويصل إلى الصف.
وفي بعض الروايات لهذا الحَدِيْث: أن أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يؤم النَّاس بالمدينة فيخفف.
وفي ((المسند)) – أَيْضاً -: عَن أَنَس بن مَالِك، قَالَ: لَقَدْ كنا نصلي مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة، لَوْ صلاها أحدكم اليوم لعبتموها عَلِيهِ. فَقَالَ لَهُ رَجُل: ألا تذكر ذَلِكَ لأميرنا – والأمير عُمَر بن عَبْد العزيز –؟ فَقَالَ: قَدْ فعلت.
وفي رِوَايَة فِي غير ((المسند)) بعد قوله: ((لعبتموها عَلِيهِ)) : ((يعني: فِي

(6/223)


التخفيف)) .
وروي عَن عُمَر بن الخَطَّاب، قَالَ: أيها النَّاس، لا تبغضوا الله إلى عباده. فَقَالَ قائل منهم: وكيف ذَلِكَ؟ قَالَ: يكون الرَّجُلُ إماماً للناس، يصلي بهم، فلا يزال يطول عليهم حَتَّى يبغض إليهم مَا هم فِيهِ.
خرجه ابن عَبْد البر.

(6/224)


62 - بَاب
إذا صَلَّى لنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ

(6/225)


703 – حَدَّثَنَا عَبْد الله بن يوسف: أنا مَالِك، عَن أَبِي الزناد، عَن الأعرج، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((إذا صلى أحدكم للناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول مَا شاء)) .
معنى قوله: ((إذا صلى أحدكم لنفسه)) – أي: منفرداً، بحيث لا يأتم بِهِ أحد.
وقد خرجه مُسْلِم من رِوَايَة المغيرة الحزامي، عَن أَبِي الزناد، وَقَالَ فِيهِ: ((وإذا صلى وحده فليصل كَيْفَ شاء)) .
وخرجه – أَيْضاً – من رِوَايَة همام بن منبه، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((إذا مَا قام أحدكم للناس فليخفف فِي الصلاة؛ فإن فيهم الكبير والضعيف، وإذا قام وحده فليطل صلاته مَا شاء)) .
وخرج – أَيْضاً – من حَدِيْث عُثْمَان بن أَبِي العاص، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أم قومك، فمن أم قوماً فليخفف؛ فإن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض، وإن فيهم الضعيف، وإن فيهم ذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم وحده فليصل كَيْفَ شاء)) .

(6/225)


ويدخل فِي ذَلِكَ: صلاة الفرائض والنوافل – إذا صلاها وحده – فإنه لا يكره لَهُ إطالتها.
وقد اختلف النَّاس فِي النفل: هَلْ الأفضل إطالة القيام، أم كثرة الركوع والسجود، أم يفرق بَيْن صلاة الليل والنهار؟ وربما يأتي ذَلِكَ فِي موضع آخر – إن شاء الله تعالى.
قَالَ بعض أصحابنا: هَذَا فيما لَمْ ينقل عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إطالته أو تخفيفه، فأما مَا نقل عَنْهُ إطالته أو تخفيفه فاتباعه فِيهِ أفضل، فالأفضل فِي ركعتي الفجر والركعتين المفتتح بهما صلاة الليل تخفيفهما، وكذلك الركعتان للداخل – والإمام يخطب – يوم الجمعة.
وقد سبق ذكر الاختلاف فيمن فاته قراءة حزبه من الليل: هَلْ يقرأ بِهِ فِي ركعتي الفجر، أم لا؟
وروى وكيع فِي ((كتابه)) عَن موسى بن عبيدة، عَن نَافِع، قَالَ: كَانَ ابن عُمَر إذا صلى لنفسه طول فِي أربعتين – يعني: فِي الركعات الأربع فِي الفريضة.
وموسى بن عبيدة، ضَعِيف جداً من قَبْلَ حفظه، وكان شيخاً صالحاً – رحمه الله.
وكان من الصَّحَابَة من يخفف الصلاة، ويعلل بخشية وسوسة الشيطان.
قَالَ وكيع: ثنا ابن أَبِي عروبة، عَن أَبِي رجاء العطاردي، قَالَ: قُلتُ للزبير بن العَوَّامِ: مَا لكم أصْحَاب مُحَمَّد من أخف النَّاس صلاة؟ قَالَ:

(6/226)


إنما نبادر الوسواس.
حَدَّثَنَا سُفْيَان، عَن نسير بن ذعلوق، عَن خليد الثوري، قَالَ: سَمِعْت عمار بن ياسر يَقُول: احذفوا هذه الصلاة قَبْلَ وسوسة الشيطان.

(6/227)


63 - بَاب
مَنْ شَكَا إمَامَهُ إذا طَوَّلَ
وَقَالَ أبو أسيد: طولت بنا يَا بني!
قَالَ أبو نعيم الفضل بن دكين فِي ((كِتَاب الصلاة)) : حَدَّثَنَا ابن الغسيل، عَن حَمْزَة بن أَبِي أسيد: كَانَ يؤمنا، فإذا طول عليهم قَالَ لَهُ أبو أسيد - وَهُوَ خلفه -: يرحمك الله، طولت علينا.
وحدثنا ابن الغسيل، عَن الزُّبَيْر بن المنذر بن أَبِي أسيد، عَن أَبِي أسيد - مثله.
خرج فِي هَذَا الباب ثَلاَثَة أحاديث:
الأول:

(6/228)


704 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن يوسف: ثنا سُفْيَان، عَن إِسْمَاعِيل بن أَبِي خَالِد، عَن قيس بن أبي حازم، عن أَبِي مَسْعُود، قَالَ: قَالَ رَجُل: يَا رَسُول الله، إني لأتأخر عَن الصلاة فِي الفجر مِمَّا يطيل بنا فلان فيها. فغضب رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مَا رأيته فِي موعظة كَانَ أشد غضباً مِنْهُ يومئذ. ثُمَّ قَالَ: ((يأيها النَّاس، إن منكم منفرين، فمن أم النَّاس فليخفف؟ فإن

(6/228)


خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة)) .
قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث - قريباً - من رِوَايَة زهير، عَن إِسْمَاعِيل بن أَبِي خَالِد.
ومقصوده بتخريجه هاهنا: جواز شكوى من يطيل الصلاة إطالة زائدةً عَلَى الحد المشروع؛ فإن هَذَا الإمام لولا أَنَّهُ زاد عَلَى صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زيادة كثيرة لما شكي، ولا تخلف من تخلف عَن الصلاة خلفه، فلما شكي ذَلِكَ إلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غضب غضباً شديداً، ووعظ النَّاس موعظة عامة، وأمر الأئمة بالتخفيف، وحذر من تنفير النَّاس عَن شهود صلاة الجماعات بالتطويل.
وروى وكيع: ثنا هِشَام الدستوائي، عَن قتادة، عَن عَبَّاس الجشمي، قَالَ: قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن من الأئمة طرادين)) .
وهذا مرسل.
الحَدِيْث الثاني:

(6/229)


705 - حَدَّثَنَا آدم: ثنا شعبة: ثنا محارب بن دثار، قَالَ: سَمِعْت جابر بن عَبْد الله الأنصاري قَالَ: أقبل رَجُل بناضحين، وقد جنح الليل، فوافق معاذاً يصلي، فترك ناضحيه وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة - أو النِّسَاء -، فانطلق الرَّجُلُ - وبلغه أن معاذاً نال مِنْهُ - فأتى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشكا إليه معاذاً، فَقَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((يَا معاذ، أفتان أنت)) - أو ((فاتن؟)) ثلاث مرات -))

(6/229)


فلولا صليت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] ؛ فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة؟)) - أحسب هَذَا فِي الحَدِيْث.
وتابعه: سَعِيد بن مسروق ومسعر والشيباني.
قَالَ عَمْرِو وعبيد الله بن مقسم وأبو الزُّبَيْر، عَن جابر بن عَبْد الله: قرأ معاذ فِي العشاء بالبقرة.
وتابعه: الأعمش، عَن محارب.
قَالَ الخطابي: جنح الليل: أقبل بظلمته، وقد جنح جنوحاً، ومنه جنح الليل: إقبال ظلمته.
والناضح: البعير يسقى عَلِيهِ.
والفتنة عَلَى وجوه، ومعناها هاهنا: صرف النَّاس عَن الدين، وحملهم عَلَى الضلال. قَالَ تعالى {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:162] أي: مضلين.
وقوله: ((فلولا صليت بسبح)) يريد: هلا قرأت، كقوله: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:86] ، {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ} [هود: 116] معناه: فهلاً.
وفيه: أَنَّهُ جعل الحاجة عذراً فِي تخفيفها. انتهى.

(6/230)


وتفسيره الفتنة - هاهنا - بالإضلال بعيد، والأظهر: أن المراد بالفتنة هاهنا: الشغل عَن الصلاة؛ فإن من طول عَلَى من شق عَلِيهِ التطويل فِي صلاته، فإنه يشغله عَن الخشوع فِي صلاته، ويلهيه عَنْهَا، كما أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نظر إلى أعلام الخميصة الَّتِيْ كَانَتْ عَلِيهِ فِي الصلاة نزعها، وَقَالَ: ((كادت تفتنني)) وأمر عَائِشَة أن تميط قرامها الَّذِي فِيهِ تصاوير، وَقَالَ: ((لا يزال تصاويره تعرض لِي فِي صلاتي)) .
ومنه: تخفيفه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة لما سَمِعَ بكاء الصبي مخافة أن تفتتن أمه.
ومنه: قَوْلِ أَبِي طلحة، لما نظر إلى الطائر فِي صلاته وَهُوَ يصلي فِي حائطه حَتَّى اشتغل بِهِ عَن صلاته: لَقَدْ أصابني فِي مالي هَذَا فتنة.
وقد سبق ذكر ذَلِكَ كله، سوى حَدِيْث بكاء الصبي؛ فإنه سيأتي قريباً - إن شاء الله تعالى.
وسبق حَدِيْث آخر فِي الصلاة عَلَى الخمرة فِي هَذَا المعنى.
والفتنة فِي هذه المواضع كلها، هُوَ: الاشتغال عَن الصلاة، والالتهاء عَنْهَا.
ويجوز أن يكون مِنْهُ قَوْلِ الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] ، وأن يكون المراد: أنها تشغل عَن عُبَادَة الله وذكره.
ويدل عَلِيهِ: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كَانَ يخطب ورأى الْحَسَن والحسين قَدْ أقبلا، نَزَلَ فحملهما، ثُمَّ قَالَ: ((صدق الله {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] ، إني رأيت هذين الغلامين يمشيان ويعثران، فَلَمْ أصبر)) .

(6/231)


وأما مَا ذكره البخاري من المتابعات والرواية المعلقة، فمضمونة: أن جماعة رووا هَذَا الحَدِيْث عَن محارب بن دثار كما رواه عَنْهُ شعبة، وقالوا فِي قراءة معاذ: ((البقرة أو النِّسَاء)) بالشك، منهم: سَعِيد بن مسروق الثوري - والد سُفْيَان -، ومنهم: مِسْعَر وأبو إِسْحَاق الشيباني.
والشك فِي هَذَا من محارب، كذا فِي رِوَايَة غندر عَن شعبة.
خرجه الإسماعيلي.
وفيه - أَيْضاً -: قَالَ: أحسب محارباً الَّذِي شك فِي ((الضعيف)) - يعني: شك: هَلْ قَالَ: ((الضعيف)) أو ((ذا الحاجة)) ؟
وفي حَدِيْث معاذ بن معاذ، عَن شعبة: أن معاذاً كَانَ يصلي بالناس المغرب.
ورواه عَلِيّ بن الجعد، عَن شعبة، وَقَالَ فِيهِ: قُلتُ لمحارب: أي صلاة كَانَتْ؟ قَالَ: المغرب.
فهذه الرواية تبين أن ذكر المغرب إنما هُوَ ظن من محارب.
وخرج أبو داود الحَدِيْث بذكر المغرب من وجه آخر فِيهِ انقطاع.
وذكر البخاري: أَنَّهُ رواه الأعمش، عَن محارب، فَقَالَ فِيهِ: ((قرأ بالبقرة)) من غير شك.
وكذا رواه عَمْرِو بن دينار وعبيد الله بن مقسم وأبو الزُّبَيْر، عَن جابر، وقالوا فِي حديثهم: ((قرأ البقرة)) من غير شك.

(6/232)


وقد خرج البخاري حَدِيْث عَمْرِو بن دينار فيما تقدم بهذا اللفظ.
وقد تقدم أن النسائي خرجه من حَدِيْث الأعمش، عَن محارب، ولم يسم السورة، بل قَالَ: ((سورة كذا وكذا)) .
الحَدِيْث الثالث:

(6/233)


706 - حَدَّثَنَا أبو معمر: ثنا عَبْد الوارث: ثنا عَبْد العزيز، عَن أَنَس بن مَالِك، قَالَ: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوجز الصلاة ويكملها.
الإيجاز: هُوَ التخفيف والاختصار.
والإكمال: هُوَ إتمام أركانها من الركوع والسجود والانتصاب بَيْنَهُمَا.
وإدخال هَذَا الحَدِيْث فِي هَذَا الباب، فائدته: أَنَّهُ بَيْن بِهِ قدر التخفيف المأمور بِهِ، وأنه إنما يشكى الإمام إذا زاد عَلِيهِ زيادة فاحشة، فأما إكمال الصلاة وإتمام أركانها، فليس بتطويل منهي عَنْهُ.

(6/233)


65 - بَاب
مَنْ أَخَفَّ الصَّلاَةَ عندَ بُكاءِ الصَّبيِّ
فِيهِ ثَلاَثَة أحاديث:
الحَدِيْث الأول:

(6/234)


707 – حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْم بن موسى – هُوَ الفراء -: ثنا الوليد: ثنا الأوزعي، عَن يَحْيَى بن أَبِي كثير، عَن عَبْد الله بن أَبِي قتادة، عَن أَبِيه، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((إني لأقوم فِي الصلاة أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز فِي صلاتي، كراهية أن أشق عَلَى أمة)) .
تابعه: بشر بن بَكْر وبقية وابن المبارك، عَن الأوزاعي.
قَدْ خرجه البخاري فيما بعد من طريق بشر.
وخرجه أبو داود وابن ماجه من رِوَايَة بشر بن بَكْر وعمر بن عَبْد الواحد.
وخرجه النسائي من رِوَايَة ابن المبارك، كلهم عَن الأوزاعي، بِهِ.
وخرجه الإسماعيلي فِي ((صحيحه)) من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن عَبْد الله

(6/234)


بن سماعة، عَن الأوزاعي.
وكذا رواه عَن الأوزاعي: عقبة بن علقمة وأيوب بن سويد.
ورواه أبو المغيرة، عَن الأوزاعي، عَن يَحْيَى، عَن عَبْد الله بن أَبِي قتادة مرسلاً.
خرجه ابن جوصا فِي ((مسند الأوزاعي من جمعه)) من هذه الطرق.
وإنما ذكر البخاري متابعة الوليد بن مُسْلِم عَلَى وصله، ليبين أن الصحيح وصله؛ لكثرة من وصله عَن الأوزاعي، ولا يضر إرسال من أرسله.
ولعل مسلماً ترك تخريجه للاختلاف فِي وصله وإرساله. والله أعلم.
وفي الحَدِيْث: دليل عَلَى أن من دَخَلَ الصلاة بنية إطالتها فله تخفيفها لمصلحة، وأنه لا تلزم الإطالة بمجرد النية.
واستدل بِهِ بعضهم عَلَى أن من دَخَلَ فِي تطوع ينوي أن يصلي أربعاً، فله أن يقتصر عَلَى ركعتين، قَالَ ذَلِكَ سُفْيَان الثوري، مَعَ قوله بلزوم النوافل بالشروع، فلا إشكال عنده فِي جواز ذَلِكَ.
وكذلك لأصحاب مَالِك قولان فيمن افتتح الصلاة النافلة قائماً، فهل يجلس فِي أثنائها، أم لا؟
فاستدل بعض من قَالَ: لَهُ أن يجلس بهذا الحَدِيْث.

(6/235)


وقد يستدل بِهِ عَلَى أن من نذر أن يصلي صلاة، ونوى فِي نفسه أكثر من ركعتين، فهل يلزمه مَا نوى، أم لا؟
وقد نَصَّ أحمد عَلَى أَنَّهُ يلزمه مَا نوى، ورجحه طائفة من أصحابنا، وبناء عَلَى أن من أصل أحمد الرجوع فِي الأيمان والنذور إلى المقاصد والنيات.
وقد نَصَّ أحمد فيمن نذر الصدقة بمال، ونوى فِي نفسه ألفاً، أَنَّهُ يخرج مَا شاء مِمَّا يسمى مالاً، ولا يلزمه الألف -: نقله عَنْهُ أبو داود.
وهذا يخالف نصه فِي الصوم والصلاة، أَنَّهُ يلزمه مَا نواه.
فتخرج المسألتان عَلَى روايتين.
ووجه شبه هذه المسائل بنية الإطالة للصلاة المكتوبة عِنْدَ الدخول فيها: أن الصلاة المكتوبة إنما يلزم فيها قدرالإجزاء، والزائد عَلَى ذَلِكَ إذا فعل، فهل يوصف بالوجوب، أو بالنفل؟ فِيهِ قولان معروفان لأصحابنا وغيرهم من الفقهاء.
وقد تبين بهذا الحَدِيْث: أن ذَلِكَ لا يلزم بمجرد النية، سواء وصف بالوجوب، أو لا.
وأما قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((أريد أن أطول فيها)) ، فالمعنى: أَنَّهُ يريد إتمامها وإكمالها عَلَى الوجه المعتاد، وليس المراد: الإطالة الَّتِيْ نهى عَنْهَا الأئمة.
واستدل الخطابي وغيره بهذا الحَدِيْث عَلَى جواز انتظار الإمام للداخل فِي الركوع قدراً لا يشق عَلَى بقية المأمومين؛ لأنه مراعاة لحال أحد المأمومين.
وفيه نظر؛ فإن الداخل لَمْ يدخل بعد فِي الائتمام بالإمام، وفي الانتظار تطويل عَلَى المأمومين لمراعاة من ليس بمؤتم، فهذا لا يشبه

(6/236)


تخفيف الصلاة لأجل أم الصبي، بل هُوَ عكسه فِي المعنى.
الحَدِيْث الثاني:

(6/237)


708 – حَدَّثَنَا خَالِد بن مخلد: ثنا سُلَيْمَان بن بلال: ثنا شريك بن عَبْد الله، قَالَ: سَمِعْت أَنَس بن مَالِك يَقُول: مَا صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن كَانَ ليسمع بكاء الصبي فيخفف، مخافة أن تفتن أمه.
((شريك)) هَذَا، هُوَ: ابن أَبِي نمر المدني.
وقد رَوَى هَذَا الحَدِيْث عَنْهُ أبو ضمره أَنَس بن عياض – أَيْضاً.
ورواه جماعة عَنْهُ، ولم يذكروا آخره.
وكذلك خرجه مُسْلِم بدون آخره من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، عَن شريك.
وقد ذكرنا 0 فيما تقدم – معنى الافتتان هاهنا.
الحَدِيْث الثالث:

(6/237)


709 – حَدَّثَنَا عَلِيّ بن عَبْد الله: ثنا يزيد بن زريع: ثنا سَعِيد، قَالَ: ثنا قتادة، أن أَنَس بن مَالِك حدث، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((إني لأدخل فِي الصلاة، وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز فِي صلاتي، مِمَّا أعلم من شدة وجد أمه من بكائه)) .

(6/237)


710 – حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن بشار: ثنا ابن أَبِي عدي، عَن سَعِيد، عَن قتادة، عَن أَنَس بن مَالِك، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((إني لأدخل فِي الصلاة، فأريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز لما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه)) .
وَقَالَ موسى: ثنا أبان: ثنا قتادة: ثنا أَنَس، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهذا بمعنى حَدِيْث أَبِي قتادة المتقدم.
وقد ساقه عَن سَعِيد بن أَبِي عروبة، عَن قتادة، عَن أَنَس من طريقين، ليس فيهما تصريح قتادة بالسماع لَهُ من أَنَس، وكان قتادة مدلساً، فلذلك ذكر أن موسى – وَهُوَ: ابن إِسْمَاعِيل – رواه عَن أبان - وَهُوَ: العطار -، عَن قتادة، فصرح بسماعة من أَنَس.
وخرجه الإسماعيلي فِي ((صحيحه)) من طرق، عَن سَعِيد، عَن

(6/237)


قتادة، وفي سياق حدثيه: أن أَنَس بن مَالِك حدثه، ولم يبين لفظ من هُوَ من الرواة، ويبعد أن يكون لفظ جميعهم.
والتخفيف الَّذِي كَانَ يفعله، تارة كَانَ يأتي بِهِ فِي الصلاة كلها، وتارة فِي بعض ركعاتها، بحسب مَا يسمع بكاء الصبي.
فالأول، دل عَلِيهِ مَا خرجه أبو بَكْر بن أَبِي داود فِي ((كِتَاب الصلاة)) : حَدَّثَنَا أحمد بن يَحْيَى بن مَالِك: ثنا عَبْد الوهاب، عَن شعبة، عَن عدي بن ثابت، عَن البراء بن عازب، قَالَ: صلى بنا رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الصبح، فقرأ بأقصر سورتين فِي القرآن، فلما فرغ أقبل علينا بوجهه، وَقَالَ: ((إنما عجلت لتفرغ أم الصبي إلى صبيها)) .

(6/238)


وهذا إسناد غريب جداً.
وقد روي معناه من حَدِيْث أنس وأبي سَعِيد بأسانيد ضعيفة.
وأما الثاني، فروى أبو نعيم فِي ((كِتَاب الصلاة)) ، عَن سُفْيَان، عَن أَبِي السوداء النهدي، عَن ابن سابط، قَالَ: قرأ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الفجر فِي أول ركعة بستين
آية، فلما قام فِي الثانية سَمِعَ صوت صبي، فقرأ ثلاث آيات.
وهذا مرسل.

(6/239)


66 – بَاب
إذا صَلَّى ثُمَّ أَمَّ قَوْماً

(6/240)


711 – حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بن حرب وأبو النُّعْمَان، قالا: حَدَّثَنَا حماد بن زيد،
عَن أيوب، عَن عَمْرِو بن دينار، عَن جابر بن عَبْد الله، قَالَ: كَانَ معاذ يصلي مَعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ يأتي قومه فيصلي بهم.
مراده بهذا: أن اقتداء المفترض بالمتنفل صحيح، استدلالا بهذا الحَدِيْث.
وقد ذهب إلى هَذَا طائفة من العلماء، منهم: طاووس وعطاء، وَقَالَ: لَمْ نَزَلَ نسمع بذلك.
وَهُوَ قَوْلِ الأوزاعي والشافعي وأحمد – فِي رِوَايَة – وإسحاق وأبي خثيمة وأبي بَكْر بن أَبِي شيبة وسليمان بن حرب وسليمان بن داود الهاشمي وأبي ثور وداود والجوزجاني وابن المنذر.
وقد روي عَن أَبِي الدرداء والحكم بن عَمْرِو الغفاري وغيرهما ممن الصَّحَابَة مَا يشهد لَهُ.
وذكر الشَّافِعِيّ أَنَّهُ روي عَن عُمَر ورجل من الأنصار وابن عَبَّاس قريب مِنْهُ، وعن أَبِي رجاء العطاردي والحسن ووهب بن منبه.

(6/240)


كذا قَالَ: والمعروف عنهما خلاف ذَلِكَ، كما سنذكر ذَلِكَ.
وحكاه – أَيْضاً – عَن مُسْلِم بن خَالِد وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سَعِيد القطان.
وَقَالَ إِسْحَاق: هُوَ سَنَة مسنونة، وَهُوَ عَلَى مَا سن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاة الخوف.
ونقل إِسْمَاعِيل بن سَعِيد، عَن أحمد، قَالَ: لا بأس بِهِ.
قَالَ: ومما يقوي حَدِيْث معاذ: حَدِيْث النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ صلى صلاة الخوف بطائفتين، بكا طائفة ركعتين، ولا أعلم شيئاً يدفع هَذَا.
وحديث صلاة الخوف قَدْ خرجه البخاري من حَدِيْث جابر، وسيأتي فِي موضعه – إن شاء الله تعالى.
وذهب آخرون إلى المنع من ذَلِكَ، وأن المفترض إذا اقتدى بمتنفل لَمْ تصح صلاته، حكاه ابن المنذر عَن الزُّهْرِيّ وربيعة ويحيى الأنصاري ومالك وأبي حنيفة.
قَالَ: وروي معناه عَن الْحَسَن وأبي قلابة.
قُلتُ: وقد روي – أَيْضاً – معناه عَن سَعِيد بن المُسَيِّب ووهب بن منبه وابن سرين والنخعي -: ذكره عَبْد الرزاق فِي ((كتابه)) عنهم.
وَهُوَ قَوْلِ الثوري والحسن بن حي ولليث بن سعد.
وَهُوَ المشهور عَن أحمد، ونقل عَنْهُ أَنَّهُ رجع عَن القول بخلافة، وعلى هَذَا أبو بَكْر عَبْد العزيز وغيره من أصحابنا، وأن أحمد رجع عَن القول بجواز ذَلِكَ.

(6/241)


قَالَ – فِي رِوَايَة المروذي -: كُنْتُ أذهب إليه – يعني: حَدِيْث معاذ -، ثُمَّ ضعف عندي.
واعتل الإمام أحمد عَلَى حَدِيْث معاذ بأشياء:
أحدها: أن حَدِيْث معاذ رواه جماعة لَمْ يذكروا فِيهِ أن معاذاً كَانَ يصلي خلف النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل ذكروا أَنَّهُ كَانَ يصلي بقومه ويطيل بهم، منهم: عَبْد العزيز ابن صهيب، عَن أَنَس. وأبو الزُّبَيْر، عَن جابر. ومنهم: محارب بن دثار وأبو صالح، عَن جابر.
الثاني: أن الذين ذكروا: أَنَّهُ كَانَ يصلي خلف النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يرجع فيؤم قومه، لَمْ يذكر احد منهم: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم بذلك، إلا ابن عُيَيْنَة، عَن عَمْرِو بن دينار، عَن جابر.
فَقَالَ أحمد: مَا أرى ذَلِكَ محفوظاً. وَقَالَ – مرة -: ليس عندي ثبتاً؛ رواه منصور بن زاذان وشعبة وأيوب، عَن عَمْرِو بن دينار، ولم يقولوا مَا قَالَ ابن عُيَيْنَة.
كذا قَالَ، وقد رواه – أَيْضاً – ابن عجلان، عَن عُبَيْدِ الله بن مقسم، عَن جابر، مثل رِوَايَة ابن عُيَيْنَة عَن عَمْرِو.
وهذا أقوى الوجوه، وَهُوَ: أن من رَوَى صلاة معاذ خلف النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجوعه إلى قومه لَمْ يذكر أحد

(6/242)


منهم قصة التطويل والشكوى إلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير ابن عُيَيْنَة، وقد تابعه ابن عجلان عَن ابن مقسم، وليس ابن عجلان بذاك القوي.
ومن ذكر شكوى معاذ إلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الثقات الحفاظ لَمْ يذكروا فِيهِ أن معاذاً كَانَ يصلي مَعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يرجع إلى قومه فيومهم.
ولم يفهم كثير من أصحابنا هَذَا الَّذِي أراده الإمام أحمد عَلَى وجهه.
الثالث: قَالَ فِي رِوَايَة حَنْبل: هَذَا عَلِيّ جهة التعليم من معاذ لقومه.
يعني: لَمْ يكن يصلي بهم إلا ليعلمهم صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما علم مَالِك بن الحويرث قومه صلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يرد الصلاة، وقد سبق حديثه.
ولكن الفرق بينه وبين حَدِيْث معاذ: أن مَالِك بن الحويرث علم قومه الصلاة فِي غير وقت صلاة، فكانوا كلهم متنفلين بالصلاة، ومعاذ كَانَ يصلي المكتوبة، ثُمَّ يرجع إلى قومه، وهم ينتظرونه حَتَّى يؤمهم فيها، فكانوا مفترضين.
الرابع: قَالَ فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيْم الحربي: إن صح، فله معنى دقيق لا يجوز مثله اليوم.
وقد قيل: إن هَذَا المعنى الَّذِي أشار إليه الإمام أحمد، هُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي أول الإسلام، وكان من يقرأ القرآن قليلاً، فكان يرخص لهم فِي ذَلِكَ

(6/243)


توسعة عليهم، فلما كثر القراء انتسخ ذَلِكَ. وقد سبق نحو ذَلِكَ فِي إمامة الصبي – أَيْضاً.
وكذا رَوَى عَبَّاس الدوري، عَن يَحْيَى بن معين، أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيْث معاذ، أَنَّهُ كَانَ يصلي بأصحابه، وقد صلى قَبْلَ ذَلِكَ مَعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ يَحْيَى: لا أرى هَذَا.
قَالَ عَبَّاس: معنى هَذَا – عندنا -: أن يَحْيَى كَانَ يَقُول: هَذَا فِي بدو الإسلام، ومن يقرأ القران قليل، فلا أرى هَذَا. هَذَا قَوْلِ يَحْيَى عندنا.
وقد ذكر ابن شاهين، عَن أَبِي بَكْر النجاد، أَنَّهُ سَمِعَ إِبْرَاهِيْم الحربي وسئل عمن صلى فريضة خلف متطوع؟ فَقَالَ: لا يجوز. فَقِيلَ لَهُ: فحديث معاذ؟ قَالَ: حَدِيْث معاذ أعيا القرون الأولى.
وأجابت طائفة عَن حَدِيْث معاذ بجواب آخر، وَهُوَ: أَنَّهُ يجوز أن يكون معاذ يصلي خلف النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تطوعاً، ثُمَّ يصلي الفريضة بقومه.
ورد ذَلِكَ الشَّافِعِيّ وأحمد.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ: لَمْ يكن معاذ يفوت نفسه فضل الصلاة خلف النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مسجده.
وخرج الدارقطني والبيهقي من رِوَايَة أَبِي عاصم، عَن ابن جُرَيْج، عَن عَمْرِو بن دينار، عَن جابر، أن معاذاً كَانَ يصلي مَعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

(6/244)


ثُمَّ ينصرف إلى قومه فيصلي بهم، هِيَ لَهُ تطوع ولهم فريضة.
ومن طريق عَبْد الرزاق، عَن ابن جُرَيْج نحوه، إلا امنه قَالَ: فيصلي بهم تلك الصلاة، هِيَ نافلة ولهم فريضة.
ولعل هَذَا مدرج من قَوْلِ ابن جُرَيْج. والله أعلم.
وقد ظن بعض فقهاء أصحابنا هذه الزيادة هِيَ الَّتِيْ أنكرنا أحمد عَلَى سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وهذا وهم فاحش، فإن هذه الزيادة تفرد بِهَا ابن جُرَيْج لا ابن عُيَيْنَة.
وأجاب الإمام أحمد عَن حَدِيْث جابر فِي صلاة الخوف بأن هَذَا جائز فِي صلاة الخوف دون غيرها، لأنه يغتفر فِي صلاة الخوف مَا لا يغتفر فِي غيرها من الأعمال، وكذلك النيات.
واستدلوا عَلَى منع ذَلِكَ بقول النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنما الإمام ليؤتم بِهِ، فلا تختلفوا عَلِيهِ)) . وقالوا: مخالفته فِي النية اخْتِلاَف عَلِيهِ.
لكن جمهورهم يجيزون اقتداء المتنفل بالمفترض، ولم يجعلوه اختلافاً عَلِيهِ.
وأعلم؛ أن جمهور العلماء فِي هذه المسألة عَلَى المنع، منهم: مَالِك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والليث وأهل مصر، وَهُوَ قَوْلِ جمهور التابعين من أهل المدينة والعراق.
ولكن؛ قَدْ قَالَ بالجواز خلق كثير من العلماء.

(6/245)


وحديث معاذ، قَدْ صح أالنَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عم بِهِ وأقر عَلِيهِ، وقد توبع سُفْيَان ابن عُيَيْنَة عَلَى ذَلِكَ، كما أشرنا إليه، ولم يظهر عَنْهُ جواب قوي.
فالأقوى: جواز المفترض بالمتنفل، وقد رجح ذَلِكَ صاحب ((المغني)) وغيره من أصحابنا. والله أعلم.
وقد عارض بعضهم حديث معاذ بما روى معاذ بن رفاعة الأنصاري، عن سليم الأنصاري –من بني سلمة -، أنه أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: يا رسول الله، إن معاذ بن جبل يأتينا بعدما ننام، ونكون في أعمالنا في النهار، فينادى بالصلاة، فنخرج إليه فيطول علينا. فقالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يا معاذ، لا تكن فتانا، إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك)) .
خرجه الإمام أحمد.
وهو مرسل؛ فإن سليما هذا قتل في يوم أحد، وقد ذكر ذَلِكَ في تمام هذا الحديث.
وقال ابن عبد البر: هوَ منكر لا يصح.
قلت: لو صح فيحتمل أن يكون المراد: إما أن تقتصر على صلاتك معي فتقيم لقومك من يصلي بهم غيرك، وإما أن تذهب إليهم فتصلي بهم، وإن صليت معي، لكن تخفف عليهم ولا تطيل بهم. والله - سبحانه وتعالى - أعلم.

(6/246)


67 - بَابُ
مَنْ أسْمَعَ النَّاسَ تَكْبِيرَ الإِمامِ

(6/247)


712 – حدثنا مسدد: ثنا عبد الله بن داود: ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: لما مرض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرضه الذي مات فيهِ أتاه بلال يؤذنه بالصلاة، قالَ: ((مروا أبا بكر فليصل بالناس)) . قلت: إن أبا بكر رجل أسيف، إن يقم مقامك يبك، فلا يقدر على القراءة. فقالَ: ((مروا أبا بكر فليصل)) . فقلت مثله. فقالَ في الثالثة – أو الرابعة -: ((إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل)) ، فصلى. وخرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهادي بين رجلين، كأني أنظر إليه يخط برجليه الأرض، فلما رآه أبو بكر ذهب يتأخر، فأشار إليه أن صل، فتأخر أبو بكر وقعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى جنبه، وأبو بكر يسمع الناس التكبير.
تابعه: محاضر، عن الأعمش.
قد سبق ذكر حديث عائشة بألفاظه وطرقه.
وما ذكر فيهِ في هذه الرواية من تأخر أبي بكر فمنكر مخالف لسائر الرويات.
وإنما المقصود منه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يصلي بالناس جالسا وأبو بكر قائم يسمع الناس تكبير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(6/247)


وهذا يدل على شيئين:
أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صحته لم يكن من عادته أن يبلغ أحد وراءه التكبير، بل كانَ هوَ يسمع أهل المسجد تكبيره، فلا يحتاج إلى من يبلغ عنه.
وقد خرج البخاري – فيما بعد – حديث سعيد بن الحارث، قالَ: صلى لنا أبو سعيد فجهر بالتكبير حين رفع قامته من السجود، وحين سجد، وحين قام من الركعتين، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه الإمام أحمد، ولفظه: فجهر بالتكبير حين افتتح الصلاة، وحين ركع، وحين قالَ: سمع الله لمن حمده، وحين رفع رأسه من السجود، وحين سجد، وحين قام من الركعتين حتى قضى صلاته على ذَلِكَ، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي.
وخرجه البيهقي، وعنده: وبعد أن قالَ: سمع الله لمن حمده.
وهذا إشارة إلى تكبير السجود، بدليل: أنه قالَ بعده: وحين رفع رأسه من السجود، وحين سجد.
وزاد البيهقي في روايته: وحين رفع.
والثاني: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مرض ضعف صوته عن إسماع أهل المسجد، وكان أبو بكر حينئذ يسمع الناس تكبيره، ويبلغ عنه.
وقد روي عنه، أنه فعل ذَلِكَ – أيضا – في مرض آخر عرض لهُ في حياته:
ففي ((صحيح مسلم)) من حديث أبي الزبير، عن جابر، قالَ: اشتكى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره –

(6/248)


وذكر في الحديث: أنه أشار إليهم أن اجلسوا. وقد سبق بتمامه.
وفي رواية لمسلم - أيضا -: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر وأبو بكر خلفه، فإذا كبر كبر أبو بكر يسمعنا.
فمتى كانَ الإمام صوته ضعيفا لمرض أو غيره، ولم يبلغ المأمومين صوته، وكان المسجد كبيرا لا يبلغه صوت الإمام، شرع لبعض المأمومين أن يبلغ الباقين التكبير جهرا، ويكون الجهر على قدر الحاجة إليه، من غير زيادة على ذَلِكَ.
وروى وكيع: ثنا المغيرة بن زياد، قالَ: رأيت عطاء بن أبي رباح صلى في السقيفة التي في المسجد لحرام في نفر، وهم متفرقون عن الصفوف، فقلت لهُ: فقالَ: إني شيخ كبير ومكة دونه كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فأصابهم مطر، فصلى بالناس في رحالهم، وبلال يسمع الناس التكبير.
وروى بكر بن محمد، عن الحكم، عن أبيه، أنه سأل أحمد عن الرجل يكبر يوم الجمعة يسمع الناس؟ قالَ: صلاته تامة، هذا منفعة للناس؛ قد كانَ عمر يسمع صوته بالبلاط. قيل لهُ: فيأخذ على هذا أجرا في تكبيره يسمع الناس؟ قالَ: لا أدري.
قالَ أبو بكر عبد العزيز بن جعفر، قوله: ((لا أدري)) كأنه – والله أعلم – يكرهه.
قالَ: وإن أخذ من بيت المال جاز؛ لأن حقه فيهِ – يعني: أن حق

(6/249)


المؤذنين في بيت المال -، وإن أخذ من غيره فهوَ مكروه. انتهى.
والأخذ من الوقف كالأخذ من بيت المال في هذا.
ومنى بلغ المأموم زيادة على قدر الحاجة، أو بلغ من غير حاجة إليه كانَ مكروها.
وظاهر الحديث: يدل على أن المأموم إذا اقتدى بالإمام بسماع التكبير من غيره صح اقتداؤه به، وعلى هذا أكثر الفقهاء.
واختلف فيهِ أصحاب مالك، فمنهم من أجازه. ومنهم من منعه، وعلل بأنه اقتدى بغير الإمام. ومنهم من قالَ: إن كانَ الإمام إذن للمبلغ في التبليغ صح الاقتداء به.
واختلفوا – أيضا – فيمن سمع التكبير، ولم ير الإمام، ولا من خلفه: هل يصح اقتداؤه بالإمام في هذه الحالة، أم لا يصح؟
يفرق بين أن يكون في المسجد فيصح، وبين أن يكون خارج المسجد فلا يصح.
وقد حكي في ذَلِكَ روايات متعددة عن الإمام أحمد، وربما نذكر المسألة في موضع آخر – إن شاء الله تعالى.
وقال أحمد – في رواية منهأ – فيمن صلى الجمعة، فلم يسمع تكبير الإمام، ولا غير الإمام: ليس عليهِ إعادة. وقال: كل الناس يسمعون التكبير؟ إنما ينظر بعضهم إلى بعض.
وقال سفيان الثوري في القوم لا يرون الإمام عندَ الركوع والسجود: أجزأهم أن يتبعوا من قدامهم من الصفوف؛ الناس أئمة بعضهم لبعض.

(6/250)


68 - بَابُ
الرَّجُلِ يَأتَمُّ بِالإِمَامِ، وَيأتَمُّ النَّاسُ بالْمَأمُومِ
ويذكر عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قالَ: ((ائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم)) .
هذا الحديث، خرجه مسلم من حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قالَ: رأى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أصحابه تأخرا، فقالَ: ((تقدموا، فائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله)) .
والبخاري لا يخرج لأبي نضرة، فذلك علق حديثه هذا على هذا الوجه.
قالَ البخاري:

(6/251)


713 – حدثنا قتيبة بن سعيد: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: لما ثقل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقالَ: ((مروا أبا بكر يصلي بالناس)) . فقلت: يا رسول الله، أبو بكر رجل أسيف، وأنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر؟ فقالَ: ((مروا أبا بكر يصلي
بالناس)) . فقلت

(6/251)


لحفصة: قولي لهُ: إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر. قالَ: ((إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر أن يصلي بالناس)) . فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين، ورجلاه تخطان في الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب أبو بكر يتأخر، فأومأ إليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى جلس عن يسار أبو بكر، فكان أبو بكر يصلي قائما، وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي قاعدا، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والناس يقتدون بصلاة أبي بكر.
قد تقدم ذكر هذا الحديث والإشارة إلى ما قيل في هذه اللفظة، وهي: ((عن يسار أبي بكر)) ؛ فأن أبا معاوية تفرد بها، وما قيل فيما بعدها، وأنه مدرج، واختلاف الناس: هل كانَ أبو بكر إماما أو مأموما.
فإن قوله: ((يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) قد قيل أن المراد به:
أنه كانَ يراعي في صلاته التخفيف على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويفعل ما كانَ أسهل عليهِ وأخف وأيسر، فكان ذَلِكَ اقتداؤه به، من غير أن يكن مؤتما به، كما قالَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعثمان بن أبي العاص لما استعمله على الطائف، وأمره بتخفيف الصلاة بالناس، وقال لهُ: ((اقتد بأضعفهم)) – أي: راع حال الضعفاء ممن يصلي وراءك، فص صلاة لا تشق عليهم.
والأكثرون فسروا اقتداء أبي بكر بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بأنه كانَ مؤتما بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(6/252)


وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إماما لأبي بكر.
وأما قوله: ((والناس يقتدون بصلاة أبي بكر)) فاختلف الناس في تأوياه – أيضا.
فقالت طائفة: المعنى أن أبا بكر كانَ يسمعهم التكبير لضعف صوت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينئذ، فكان اقتداؤهم بصوت أبي بكر، وكان مبلغا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لم يكن إماما
للناس، فاقتداء أبي بكر والناس كلهم إنما كانَ بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما كانَ أبو بكر يبلغ عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التكبير؛ ليتمكنوا من الاقتداء.
ومما يتفرع على ذَلِكَ: أن الشعبي قالَ: إذا انتهيت إلى الصف الآخر، ولم يرفعوا رؤسهم، وقد رفع الإمام، فاركع؛ فإن بعضكم أئمة بعض.
وهذا قول غريب، والجمهور على خلافه، وأن الاعتبار بالإمام وحده في إدراك الركعة بإدراك ركوعه.
وهذا هوَ المعنى الذي بوب عليهِ البخاري هاهنا، وكذلك عليهِ النسائي وغيره.
وهو قول أصحاب الشافعي، على قولهم: إن أبا بكر كانَ مؤتما بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإنهم اختلفوا: هل كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إماما لأبي بكر، أو مأموما به؟ على وجهين.
وقال الإمام أحمد: بل كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إماما لأبي بكر، وكان أبو بكر إماما للناس الذين وراءه، فكانت تلك الصلاة بإمامين.
واختلفت الرواية عن الإمام أحمد في الصلاة بإمامين: هل هي من خصائص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو هوَ حكم عام يستوي فيهِ جميع الأمة؟ على ثلاث روايات عنه.

(6/253)


وأختار أبو بكر ابن جعفر وغيره من أصحابنا رواية اختصاص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك.
وروى حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ وجعا، فأمر أبا بكر أن يصلي بالناس، ووجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خفة، فقعد إلى جنب أبي بكر، فأم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر وهو قاعد وأم الناس أبو بكر وهو قائم.
خرجه الدارقطني وغيره.
والصحيح: أن قوله: ((فوجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خفة)) إلى آخر الحديث مدرج من قول عروة، كما رواه مالك وابن نمير وغيرهما، عن هشام بغير هذا اللفظ، وقد سبق ذَلِكَ.

(6/254)


69 - بَابُ
هَلْ يَأخُذُ الإِمَامُ - إذا شَكَّ - بِقوْلِ النَّاسِ؟

(6/255)


714 – حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من اثنتين، فقالَ لهُ ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى اثنتين آخريين، ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول.

(6/255)


715 – حدثنا أبو الوليد، قالَ: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قالَ: صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر ركعتين، فقيل لهُ: صليت ركعتين، فصلى ركعتين، ثم سلم، ثم سجد سجدتين.
إنما سلم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من اثنتين في هذه الصلاة؛ لأنه كانَ يعتقد أن صلاته قد تمت، وكان جازما بذلك، لم يدخله فيهِ شك، ومثل هذا الاعتقاد يسمى يقينا، ووقع ذَلِكَ في كلام مالك وأحمد وغيرهما من الأئمة، فلما قالَ لهُ ذو اليدين ما قالَ حصل لهُ شك حينئذ، ولما لم يوافق

(6/255)


أحد من المصلين ذا اليدين على مقالته مع كثرتهم حصل في قوله ريبة بانفراده بما أخبر به، فلما وافقه الباقون على قوله رجع حينئذ إلى قولهم، وعمل به، وصلى ما تركه، وسجد للسهو.
يؤخذ من ذَلِكَ: أن المنفرد في مجلس بخبر تتوافر الهمم على نقله يوجب التوقف فيهِ حتى يوافق عليهِ.
وليس هذا كالمنفرد بشهادة الهلال؛ لأن الأبصار تختلف في الحدة، بخلاف الخبر الذي يستوي أهل المجلس في علمه.
ويؤخذ منه – أيضا -: أن المفرد بزيادة على الثقات يتوقف في قبول زيادته حتى يتابع عليها، لا سيما إن كانَ مجلس سماعهم واحدا.
وقد اختلف العلماء فيما إذا أخبر المأمومون الإمام، فهل يرجع إلى قولهم أم لا؟
وهذا على قسمين:
أحدهما: أن يتيقن صواب نفسه، فلا يرجع إلى قول من خالفه ولو كثروا.
وحكي لأصحابنا وجه آخر بالرجوع. وقيل: إنه لا يصح.
والثاني: أن يشك، ثم يخبره المأمومون بسهوه بقول أو إشارة أو تسبيح أو غير ذَلِكَ، ففيه أقوال:
أحدهما: أنه يلزمه الرجوع إلى قول واحد فما زاد؛ لأنه خبر ديني فيقبل فيهِ خبر واحد ثقة، كوقت الصلاة وطهارة الماء ونجاسته، وهو قول أبي حنيفة.
ولأصحابنا وجه مثله في الزيادة.
والثاني: إن أخبره اثنان فصاعدا لزمه الرجوع إلى قولهما، وإن

(6/256)


أخبره واحد لم يرجع إليه، وهذا رواية عن مالك، والمشهور عن أحمد.
وأحتج: بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكتف بخبر ذي اليدين حتى وافقه غيره.
والثالث: أنه يستحب لهُ الرجوع إلى قول الأثنين، ولا يجب، بل لهُ أن يبني على يقين نفسه، أو يتحرى، وله أن يرجع إلى قولهما، وهو أفضل، وهو رواية عن أحمد.
والرابع: أنا إن قلنا: أن الشاك يبني على اليقين، فلا يرجع إلى قول واحد. وإن قلنا: يتحرى ويعمل بما يغلب على ظنه رجع إلى قول المأمومين، هذا قول ابن عقيل من أصحابنا.
وجمهورهم قالوا: يرجع على كلا القولين؛ لأن الرجوع إلى خبر الاثنين رجوع إلى شهادة شرعية، فيعمل بها على كل حال، بخلاف التحري والرجوع إلى الأمارات المحضة.
ويشهد لهُ: أن أحمد نص على أنه يرجع إلى تسبيح الاثنين، وإن غلب على ظنه خطؤهما.
والخامس: أنه لا يرجع إلى قول أحد، بل يبني على يقين نفسه، كالمفرد، وهو قول الثوري والشافعي ومالك – في رواية.
وقال أهل هذا القول: إنما رجع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ذكره، لا إلى قول المأمومين، كما قالَ: ((إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني.
فدل على أنه إنما يرجع إلى ذكره، لا إلى قولهم، فإنه لم يقل: فإذا نسيت فردوني.
والسادس: أنه لا يرجع إلى قول الواحد والاثنين، ويرجع إليهم إذا كثروا؛ لأنه يبعد اتفاقهم على الخطأ مع كثرتهم، وهو قول طائفة من المالكية والشافعية.

(6/257)


وإن كانَ المخبر للمصلي، ليس معه في صلاته، فهل يرجع إليه كما يرجع إلى قول المأمومين؟ فيهِ وجهان لأصحابنا.
أصحهما: أنه يرجع إليهم، وهو قول أشهب المالكي، وظاهر كلام أحمد؛ فإنه نص على أن الطائفين بالبيت يرجع بعضهم إلى قول بعض إذا أخبره اثنان عن عدد
طوافه، مع أن كل واحد منهم غير مشارك للآخر في طوافه، فكذلك هاهنا.
وأما المأموم إذا شك في عدد الركعات، ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يرجع إلى فعل الإمام والمأمومين، ويصنع ما صنعوا، وهو مذهب أصحابنا.
والثاني: أنه يبني على اليقين كالمنفرد، وهو قول طائفة من المالكية والشافعية.
والثالث: إن كثروا رجع إلى متابعتهم، وإلا فلا، هوَ وجه لأصحاب مالك والشافعي.
ولو كانَ مع الإمام مأموم واحد، فشك المأموم، فهل يرجع إلى قول إمامه؟
قالَ بعض أصحابنا: قياس المذهب: لا يرجع إليه، كما لا يرجع الإمام إلى قول مأموم واحد.
وفيه نظر؛ فإن الإمام ضامن، وقد ورد الأمر بأن يصنع المأموم ما صنع إمامه.
خرجه الدارقطني من حديث جابر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((الإمام ضامن، فما صنع فاصنعوا)) .

(6/258)


وفي إسناده مقال.
وبقية فوائد حديث أبي هريرة تذكر في مواضعه من ((أبواب: سجود السهو)) – أن شاء الله تعالى.

(6/259)


70 - بَابُ
إذا بَكَى الإِمَامُ في الصَّلاَةِ
وقال عبد الله بن شداد: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف، يقرأ:
{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} [يوسف: من الآية86] .
روى سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن محمد بن سعد: سمع عبد الله بن شداد بن الهاد يقول: سمعت عمر يقرأ في الصلاة الصبح سورة يوسف، فسمعت نشيجه، وإني لفي آخر الصفوف، وهو يقرأ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه} [يوسف: من الآية86] .
وروي من وجوه أخر:
روى ابن جريج: أخبرني ابن مليكة، قالَ: أخبرني علقمة بن وقاص، قالَ: كانَ عمر يقرأ في العشاء الآخرة بسورة يوسف، وأنا في مؤخر الصف، حتى إذا ذكر يوسف سمعت نشيجه.
وروى جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أبي رافع، قالَ: إني يوما مع عمر في صلاة الصبح، وهو يقرأ السورة التي فيها يوسف، وأنا في آخر الصفوف الرجال مما يلي النساء، وكان جهير القراءة، فلما مر بهذه الآية: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} [يوسف: من الآية86] فبكى حتى انقطعت قراءته، وسمعت نشيجه.

(6/260)


وروى عبد الرحمن بن إسحاق، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، قالَ: صليت خلف عمر، فستمعت خنينه من وراء ثلاثة صفوف.
وفي رواية: قالَ: غلب: عمر البكاء وهو يصلي بالناس الصبح، فسمعت خنينه من وراء ثلاثة صفوف.
والنشيج: هوَ رفع الصوت بالبكاء -: قاله أبو عبيد وغيره.
والخنين – بالخاء المعجمة -: نحوه.
قالَ: البخاري

(6/261)


716 – حدثنا إسماعيل، قالَ حدثني مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مرضه قالَ: ((مروا أبا بكر فليصل بالناس)) . قالت عائشة: قلت: أن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل. فقالَ: ((مروا أبا بكر فليصل للناس)) . قالت عائشة:
فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من
البكاء، فمر عمر فليصل للناس. ففعلت حفصة. فقالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس)) . فقالت حفصة: ما كنت لأصيب منك خيرا.

(6/261)


مقصود من إيراد هذا الحديث في هذا الباب: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا بكر أن يصلي بالناس مع تكرار القول لهُ أنه إذا قام مقامه لا يسمع الناس من البكاء، فدل على أن البكاء من خشية الله في الصلاة لا يضر الصلاة، بل يزينها؛ فإن الخشوع زينة الصلاة.
وقد خرج البخاري في ((كتابه)) هذا حديث عائشة في ذكر الهجرة بطوله،
وفيه: ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، فكان يصلي فيهِ ويقرأ القرآن فيتقصف عليهِ نساء المشركين وأبناؤهم، يتعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن.
وروى حماد بن سلمة، عن ثابت، عن مطرف بن عبد الله، عن أبيه، قالَ: انتهيت إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل.
خرجه الإمام أحمد، والنسائي، وزاد: يعني: يبكي.
وفي رواية للإمام أحمد: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
وخرجه أبو داود كذلك.
وهذا الإسناد على شرط مسلم.

(6/262)


وقد دل القرآن على مدح الباكين من خشية الله في سجودهم، فقالَ تعالى:
{وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُون} [الإسراء: من الآية109] . وقال: {ِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: من الآية58] .
وقد اختلف العلماء في البكاء في الصلاة على الثلاثة أقوال:
أحدها: إنه إن كانَ لخوف الله تعالى لم يبطل الصلاة، وإن كانَ لحزن الدنيا ونحوه فهوَ كالكلام، وهو قول أبي حنيفة وأحمد.
ولأصحابنا وجه ضعيف: أنه إن كانَ عن غير غلبة أبطل.
والمنصوص عن أحمد: إن كانَ عن غلبة لا بأس به.
قالَ القاضي أبو يعلى: إن كانَ عن غلبة لم يكره، وإن استدعاه كره. قالَ: وإن كانَ معه نحيب أبطل.
وهذا ليس في كلام الإمام أحمد، ولو قيده بما إذا استدعاه لكان أجود.
وقد قالَ ابن بطة من أصحابنا: إن التأوه في الصلاة من خشية الله لا يبطل.
فالنحيب أولى.
والقول الثاني: إنه لا يبطل بكل حال، وليس هوَ كالكلام؛ لأنه لا يسمى به متكلما، وهو قول أبي يوسف.
وكذا قالَ مالك في الأنين: لا يقطع صلاة المريض، وأكرهه للصحيح.
وقال أبو الثور: لا بأس بالأنين، إلا أن يكون كلام مفهوم.
وتوقف الإمام أحمد في رواية المروذي

(6/263)


والتباكي من مصيبة، ولم يجزم بالبطلان.
وقال في رواية أبي الحارث في الصلاة: إن كانَ غالبا عليهِ أكرهه.
ومعنى قوله: ((غالبا)) – أي: كانَ مختارا لهُ، قادر على رده، بحيث لم يغلبه الأنين، ولم يقهره. وظاهر كلامه أنه لا يبطل صلاته.
وقال القاضي أبو يعلى: إنما أراد إذا كانَ أنينه ((عاليا)) من العلو أو رفع الصوت؛ لما يخشى من الرياء به، أو إظهار الضجر بالمرض ونحوه.
وهذا الذي فسره تصحيف منه. والله أعلم.
والثالث: إنه كلام بكل حال، حكي عن الشعبي والنخعي ومغيرة والثوري.
وإنما المنقول عنهم في الأنين، ونقل عن الشعبي في التأوه.
وهذا محمول على لم يكن من خشية الله، فقد كانَ الثوري إذا قرأ في صلاته لم تفهم قراءته من شدة بكائه.
وهو مذهب الشافعي، وعنده: إن أبان به حرفان أبطل الصلاة، وإلا كره ولم تبطل.
وكذا قالَ أصحابنا في البكاء لحزنه ونحوه: إذا لم يغلب عليهِ، فأن غلب عليهِ صاحبه ففي البطلان به وجهان.
ولا يعرف الإمام أحمد اعتبار حرفين في ذَلِكَ -: قاله القاضي أبو يعلى ومن اتبعه.
وما تقدم عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنه - يدل على أن البكاء في الصلاة من خشية الله حسن جميل، ويقبح أن يقال: لا يبطلها؛ فإن ما كانَ زينة الصلاة وزهرتها وجمالها كيف يقنع بأن يقال فيهِ: غير مبطل؟ ولم يزل السلف الصالح

(6/264)


الخاشعون لله على ذَلِكَ.
روى الإمام أحمد في ((كتاب الزهد)) بإسناده، عن نافع، قالَ: كانَ ابن عمر يقرأ في صلاته، فيمر بالآية فيها ذكر الجنة، فيقف عندها فيدعوا ويسأل الله الجنة.
قالَ: ويدعوا ويبكي. قالَ: ويمر بالآية فيها ذكر النار، فيدعوا ويستجير بالله منها.
وبإسناده، عن أبن أبي ملكية، قالَ صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة. قالَ: وكان إذا نزل قام ينتظر الليل، فسأله أيوب: كيف كانت قراءته؟
قالَ: قرأ {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]
فجعل يرتل، ويكثر في ذَلِكَ النشيج.
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن القاسم بن محمد، قالَ: كنت غدوت يوما فإذا عائشة قائمة تسبح – يعني: تصلي - وتبكي، وتقرأ {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] . وتدعوا وتبكي، وترددها. فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي، تصلي وتبكي.
والروايات في هذا عن التابعين ومن بعدهم كثيرة جدا، وإنما ينكر ذَلِكَ من غلبت عليهِ الشقوة، أو سبقت لهُ الشقوة.

(6/265)


71 - بَابُ
تَسْوِيَةِ الصفُّوفِ عِنْدَ الإِقَامَةِ وَبَعَدْهَاَ

(6/266)


717 – حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك: ثنا شعبة، قالَ: أخبرني عمرو ابن مرة، قالَ: سمعت سالم بن أبي الجعد، قالَ: سمعت النعمان بن بشير، قالَ: قالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) .

(6/266)


718 – حدثنا أبو معمر: ثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس بن مالك، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ ((أتموا الصفوف؛ فأني أراكم خلف ظهري)) .
حديث النعمان، خرجه مسلم من رواية سماك بن حرب، عنه بزيادة، وهي في أوله، وهي: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي القداح، حتى رأى أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوما فقام حتى كاد يكبر، فرأى رجلا باديا صدره من الصف، فقالَ: ((عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) .
ومعناه: أنه كانَ يقوم الصفوف ويعدلها قبل الصلاة كما يقوم السهم.

(6/266)


وقد توعد على ترك تسوية الصفوف بالمخالفة بين الوجوه، وظاهره:
يقتضي مسخ الوجوه وتحويلها إلى صدور الحيوانات أو غيرها، كما قالَ: ((أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه [رأس] حمار – أو صورته صورة حمار)) .
وظاهر هذا الوعيد: يدل على تحريم ما توعد عليهِ.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) بإسناد فيهِ ضعف، عن أبي أمامة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((لتسون الصفوف، أو لتطمسن وجوهكم، ولتغضن أبصاركم، أو لتخطفن
أبصاركم)) .
وقد خرج البيهقي حديث سماك، عن النعمان الذي خرجه مسلم بزيادة في
آخره، وهي: ((أو ليخالفن الله بين وجوهكم يوم القيامة)) .
وهذه الزيادة تدل على الوعيد على ذَلِكَ في الآخرة، لا في الدنيا.
وقد روي الوعيد على ذلك بإختلاف القلوب، والمراد: تنافرها وتبيانها.
فخرج مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري، قالَ: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: ((استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) .
وسيأتي من حديث النعمان بن بشير –أيضا _ نحوه.
وخرج أبو داود والنسائي نحوه من حديث البراء بن عازب.

(6/267)


وأما أمره في حديث أنس بإقامة الصفوف، فالمراد به: تقويمها.
وقوله: ((فإني أراكم من وراء ظهري)) إعلام لهم بأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يخفى عليهِ حالهم في الصلاة؛ فإنه يرى من وراء ظهره كما يرى من بين يديه، ففي هذا حث لهم على إقامة الصفوف إذا صلوا خلفه.
وقد سبق القول في رؤيته وراء ظهره، وأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن كانَ الله قد توفاه ونقله من هنه الدار، فإن المصلي يناجي ربه وهو قائم بين يدي من لا يخفى عليهِ سره وعلانيته، فليحسن وقوفه وصلاته؛ فإنه بمرء من الله ومسمع.
وقد روي أن تسوية الصفوف وإقامتها توجب تآلف القلوب:
فروى الطبراني من طريق سريج بن يونس، عن أبي خالد الأحمر، عن مجالد، عن الشعبي، عن الحارث، عن علي، قالَ: قالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((استووا تستوي قلوبكم ولا تختلفوا، وتماسوا تراحموا)) .
قالَ: سريج: ((تماسوا)) – يعني: ازدحموا في الصلاة.
وقال غيره: ((تماسوا)) : تواصلوا.
وأعلم؛ أن الصفوف في الصلاة مما خص الله به هذه الأمة وشرفها به؛ فإنهم أشبهوا بذلك صفوف الملائكة في السماء، كما أخبر الله عنهم أنهم قالوا:
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:165] ، وأقسم بالصافات صفا، وهم الملائكة.

(6/268)


وفي ((صحيح مسلم)) عن حذيفة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة)) – الحديث.
وفيه – أيضا – عن جابر بن سمرة، قالَ: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالَ: ((ألا تصفون كما تصف الملائكة عندَ ربها؟)) فقلنا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قالَ: ((يتمون الصفوف الأولى، ويتراصون في الصف)) .
وروى ابن أبي حاتم من رواية أبي نضرة، قالَ: كانَ ابن عمر إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه، ثم قالَ: أقيموا صفوفكم، استووا قياما، يريد الله بكم هدي الملائكة. ثم يقول: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:165] ، تأخر فلان، تقدم فلان، ثم يتقدم فيكبر.
وروى ابن جريح، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث، قالَ: كانوا لا يصفون في الصلاة، حتى نزلت: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:165] .
وقد روي أن من صفة هذه الأمة في الكتب السالفة: صفهم في الصلاة، كصفهم في القتال.

(6/269)


72 - باب
إِقْبالِ الأمَام عَلَى النَّاسِ عِنْدَ تَسْوِيَةِ الصٌّفٌوفِ

(6/270)


719 - حدثنا أحمد بن أبي رجاء: ثنا معاوية بن عمرو: ثنا زائدة بن قدامة: ثنا حميد الطويل: ثنا أنس بن مالك، قالَ: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوجهه، فقالَ: ((أقيموا صفوفكم، وتراصوا؛ فإني أراكم من وراء ظهري)) .
التراص: هوَ التضام والتداني والتلاصق. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] .
وفي هذا: دليل على أن الإمام يستحب لهُ أن يقبل على المأمومين بعد إقامة الصلاة، ويأمرهم بتسوية صفوفهم.
وقد تقدم حديث النعمان بن بشير في هذا.
وخرج النسائي من حديث ثابت، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يقول:
((استووا، استووا، استووا؛ فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من خلفي كما أراكم بين يدي)) .
وبوب عليهِ: ((كم مرة يقول: استووا)) .
يشير إلى أنه يكررها ثلاثا؛ فأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا.
وخرج أبو داود وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث محمد بن مسلم - صاحب المقصورة -، قالَ: صليت إلى جنب أنس يوماً، فقالَ:

(6/270)


هل تدري لم صنع هذا العود؟ قلت: لا والله. قالَ: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا قام إلى الصلاة أخذه بيمينه، ثم التفت، فقالَ: ((اعتدلوا، سووا صفوفكم)) .
وخرج الدارقطني والحاكم من حديث حميد، عن انس، قالَ: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام في الصلاة قالَ هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله، ثم يقول: ((استووا وتعادلوا)) . وروى مالك في ((الموطأ)) عن نافع، أن عمر كانَ يأمر بتسوية الصفوف، فإذا أخبروه أن قد استوت كبر.
وعن عمه أبي سهيل، عن أبيه، عن عثمان بن عفان - أيضاً.
وروى عمرو بن ميمون، قالَ: كانَ عمر إذا أقيمت الصلاة أقام الصف، حتى إذا لم ير فيهِ خللاً كبّر.
وروى وكيع بإسناده، عن كعب بن مرة، قالَ: إن كنت لأدع الصف المقدم من شدة قول عمر: استووا.
وبإسناده، عن ابن عمر، أن عمر كانَ يبعث رجالاً يقيمون الصفوف في الصلاة.
وروى أبو نعيمٍ بإسناده، عن الحارث، عن علي، قالَ: كانَ يسوي صفوفنا، ويقول: سووا تراحموا، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم.

(6/271)


73 - باب
الصَّف الأَولِ

(6/272)


720 - حدثنا أبو عاصم، عن مالك، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الشهداء: الغرق، والمطعون، والمبطون، والهدم)) .

(6/272)


721 - وقال: ((لو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً، ولو يعلمون ما في الصف المقدم لاستهموا)) .
قد سبق هذا الحديث في ((باب: الاستهام في الأذان)) وفي ((باب: فضل التهجير إلى الظهر)) ، وذكرنا معنى الاستهام على الصف.
وقد روي للصف الأول فضائل عديدة:
فمنها: أنه على مثل صف الملائكة.
خرج الأمام أحمد وأبوا داود والنسائي من حديث أبي بن كعب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ - في حديث ذكره -: ((والصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه)) .

(6/272)


ومنها: أنه خير صفوف الرجال.
ففي ((صحيح مسلم)) عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها , وشرها أولها)) .
ومنها: أن الله وملائكته يصلون عليهِ.
فخرج الأمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث البراء بن عازب، عن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول)) .
وخرجه ابن ماجه، وعنده: ((على الصف الأول)) .
وخرجه - أيضاً - بهذا اللفظ من حديث عبد الرحمن بن عوف، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والصواب: إرسال إسناده -: قاله أبو حاتم والدارقطني.
وخرجه الأمام أحمد بهذا اللفظ من حديث النعمان بن بشير، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن حديث أبي أمامة، وفي حديثه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالها ثلاثاً. فقيل لهُ:
يارسول الله، والثاني؟ فقالَ - في الثالثة -: ((وعلى الثاني)) .

(6/273)


ومنها: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استغفر لهُ ثلاثاً دون ما بعده.
فخرج ابن ماجه من حديث العرباض بن سارية، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يستغفر للصف المقدم ثلاثاً، وللثاني مرة.
وخرجه النسائي، وعنده: ((يصلي)) مكان: ((يستغفر)) .
ومنها: أنه أحصن الصفوف من الشيطان.
فروى قتادة، عن أبي قلابة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ لأصحابه: ((أي شجرة أبعد من الخارف والخاذف؟)) قالوا: فرعها. قالَ: ((فكذلك الصف المقدم، هوَ أحصنها من الشيطان)) .
ورواه جماعة، فقالوا: عن قتادة، عن أنس.
والصواب: عن أبي قلابة -: قاله الدارقطني وغيره. وأنكر أبو زرعة وصله.
وروي نحوه من حديث أبي هريرة مرفوعاً بإسناد ضعيف.
ومنها: أن الصلاة فيهِ تقتضي التقدم إلى الله، فإن التأخر عنه يقتضي التأخر.
ففي ((صحيح مسلم)) عن أبي سعيد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه رأى في أصحابه
تأخرا، فقالَ: ((تقدموا، فائتموا بي، وليأتم من بعدكم، لايزال

(6/274)


قوم يتأخرون حتى يأخرهم الله - عز وجل -)) .
وخرج أبو داود وابن خزيمة في ((صحيحه)) من حديث عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((لا يزال أقوام يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار)) .
واختلف الناس في الصف الأول: هل هوَ الذي يلي الأمام بكل حال، أم الذي لا يقطعه شيء؟ وفيه قولان للعلماء.
والمنصوص عن أحمد: أن الصف الأول هوَ الذي يلي المقصورة، وأن ما تقطعه المقصورة فليس هوَ الأول -: نقله عنه المروذي وأبو طالب وأحمد بن القاسم وغيرهم.
وقال أبو طالب: سئل أحمد عن الصلاة في المقصورة؟ قالَ: لا يصلي فيها، هوَ الذي يلي المقصورة، فيخرج من المقصورة فيصلي في الصف الأول.
وروى وكيع عن عيسى الحناط، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ إذا حضرت الصلاة وهو في المقصورة خرج إلى المسجد.
وعن شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، قالَ: كانَ أصحاب عبد الله
- يعني: ابن مسعود - يقولون: الصف الأول الذي يلي المقصورة.
وروي ذَلِكَ عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود.
وقال الشعبي: المقصورة ليست من المسجد.

(6/275)


ذكر ذلك كله وكيع في ((كتابه)) .
فأما الصف الذي يقطعه المنبر، فهل هوَ الصف الأول، أم لا؟
قالَ أحمد - في رواية أبي طالب والمروذي وغيرهما -: إن المنبر لا يقطع الصف، فيكون الصف الأول الذي يلي الإمام وإن قطعه المنبر، بخلاف المقصورة.
وتوقف في ذَلِكَ في رواية الأثرم وغيره.
وقالت طائفة: الصف الأول هوَ الذي يلي الإمام بكل حال، ورجحه كثير من أصحابنا، ولم أقف على نص لأحمد به.
وقال آخرون: الصف الأول المراد به أول من يدخل المسجد للصلاة فيهِ.
قالَ ابن عبد البر: لا أعلم خلافا بين العلماء أن من بكر وانتظر الصلاة، وإن لم يصل في الصف الأول، أفضل ممن تأخر ثم تخطى الصفوف إلى الصف الأول.
قالَ: وفي هذا ما يوضح أن معنى فضل الصف الأول: أنه ورد من اجل البكور إليه، والتقدم. والله - سبحانه وتعالى - أعلم. انتهى.
وحمل أحاديث فضل الصف الأول على البكور إلى المسجد خاصة لا يصح، ومن تأمل الأحاديث علم أن المراد بالصف الأول الصف المقدم في المسجد، لا تحتمل غير ذَلِكَ.
وخرج الأمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة في

(6/276)


((صحيحه)) من حديث أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: ((أتموا الصف المقدم، ثم الذي يليه، فما كانَ من نقص فليكن في الصف المؤخر)) .

(6/277)


74 - بَابُ
إقَامَةِ الصَّف مِن تَمَامِ الصَّلاةِ

(6/278)


722 - حدثنا عبد الله بن محمد: ثنا عبد الرزاق: أنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليهِ، فإذا ركع فأركعوا، وإذا قالَ: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون، وأقيموا الصف في الصلاة؛ فإن إقامة الصف من حسن الصلاة)) .

(6/278)


723 - حدثنا أبو الوليد: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((سووا صفوفكم؛ فأن تسوية الصف من إقامة الصلاة)) .
في حديث أبي هريرة: أن إقامة الصف من حسن الصلاة، والمراد: أن الصف إذا أقيم في الصلاة كانَ ذَلِكَ من حسنها، فإذا لم يقم نقص من حسنها بحسب ما نقص من إقامة الصف.
وفي حديث أنس: أن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة، والمراد بإقامتها: الإتيان بها على وجه الكمال.
ولم يذكر في القرأن سوى إقامة الصلاة، والمراد: الإتيان بها قائمة على وجهها الكامل.

(6/278)


وقد صرح في هذا الحديث بأن تسوية الصفوف من جملة إقامتها، فإذا لم تسو الصفوف في الصلاة نقص من إقامتها بحسب ذَلِكَ - أيضا - والله أعلم.

(6/279)


75 - بَابُ
إثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصَّفَّ

(6/280)


724 - حدثنا معاذ بن أسد: ثنا الفضل بن موسى: أنا سعيد بن عبيد الطائي، عن بشير بن يسار الأنصاري، عن أنس بن مالك، أنه قدم المدينة، فقيل لهُ: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالَ: ما أنكرت شيئاً، إلا أنكم لا تقيمون الصفوف.
وقال عقبة بن عبيد، عن بشير بن يسار: قدم علينا أنس المدينة - بهذا.
عقبة بن عبيد الطائي، هوَ: أخو سعيد بن عبيد الذي روى هذا الحديث عن
أنس، ويكنى أبى الرحال.
لم يخرج لهُ في الكتب الستة سوى هذا الحديث الذي علقه البخاري هاهنا.
وقد خرج حديثه الإمام أحمد، عن أبي معاوية، عن عقبة بن عبيد، عن بشير بن يسار، قالَ: قلت لأنس بن مالك: ما أنكرت من حالنا في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالَ: أنكرت أنكم لا تقيمون الصفوف.
وفي هذا الحديث: دليل على أن تسوية الصفوف كانَ معروفا في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن الناس غيروا ذَلِكَ بعده.
والظاهر: أن أنس بن مالك إنما قالَ هذا في أوائل الأمر، قبل أن يؤخر بنو أمية الصلوات عن مواقيتها، فلما غير بنو أمية مواقيت الصلاة قالَ

(6/280)


أنس: ما أعرف شيئا مما كانَ على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قيل لهُ: ولا الصلاة؟ قالَ: أو ليس قد صنعتم فيها ما صنعتم. وقد سبق هذا الحديث في أوائل ((المواقيت)) .
وأما استدلال البخاري به على إثم من لم يتم الصف ففيه نظر؛ فإن هذا إنما يدل على أن هذا مما ينكر، وقد ينكر المحرم والمكروه.
وكان الاستدلال بحديث: ((لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) على الإثم أظهر، كما سبق التنبيه عليهِ.

(6/281)


76 - بَابُ
إلْزَاقِ الْمَنْكِبِ بالْمَنْكِبِ وَالْقَدَمِ بالْقَدَمِ في الصَّفَّ
وقال النعمان بن بشير: رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه.

(6/282)


725 - حدثنا عمرو بن خالد: ثنا زهير، عن حميد، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((أقيموا صفوفكم؛ فإني أراكم من وراء ظهري)) . وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه.
حديث أنس هذا: يدل على أن تسوية الصفوف: محاذاة المناكب والأقدام.
وحديث النعمان للذي علقه البخاري، خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن خزيمة في ((صحيحه)) من رواية أبي القاسم الجدلي، قالَ: سمعت النعمان ابن بشير يقول: أقبل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الناس بوجهه، فقالَ: ((أقيموا صفوفكم)) - ثلاثا - ((والله لتقيمن صفوفكم، أو ليخالفن الله بين قلوبكم)) . قالَ: فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه.
أبو القاسم الجدلي، أسمه: الحسين بن الحارث الكوفي. قالَ ابن المديني. معروف. ووثقه ابن حبان.
وفي هذا الحديث: دلالة على أن الكعب هوَ العظم الناتيء في أسفل

(6/282)


الساق، ليس هوَ في ظهر القدم، كما قاله قوم.
وقد تقدم من حديث النعمان بن بشير، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما رأى رجلاً ناتئاُ صدره في الصف غضب، وأمرهم بتسوية الصفوف.
وفيه: دليل على أن استواء صدور القائمين في الصف - أيضا.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في
((صحيحيهما)) من حديث أبان، عن قتادة، عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ:
((رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق)) .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي الزاهرية، عن كثير بن مرة، عن إبن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم)) .
وخرجه أبو داود - أيضا - من وجه آخر، عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مرة - مرسلاً.
وقيل: عن كثير بن مرة، عن عمر بن الخطاب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولا يصح.
وخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((سووا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم، ولينوا في أيدي إخوانكم،

(6/283)


وسدوا الخلل)) .
وخرج الأمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث البراء بن عازب، قالَ: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتخلل الصفوف من ناحية إلى ناحية، يمسح مناكبنا وصدورنا، يقول: ((لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) .
وروى أبو نعيم في ((كتاب الصلاة)) بإسناده، عن عمر، أنه كانَ يسوي الصفوف في الصلاة، يقول: سووا مناكبكم في الصلاة.
وعن عثمان، أنه قام خطيبا في الناس، فقالَ: سووا صفوفكم والأقدام، وحاذوا بالمناكب.

(6/284)


77 - بَابُ
إذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِ الإِمَامِ وَحَوَّلَهُ
الإِمَامُ خَلْفَهِ إِلَى يَمِيِنِهِ تَمَّتْ صَلاَتُهُ

(6/285)


762 - حدثنا قتيبة بن سعيد: ثنا داود، عن عمرو بن دينار، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قالَ: صليت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة، فقمت عن يساره، فأخذ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برأسي من ورائي، فجعلني عن يمينه فصلى ورقد، فجاءه المؤذن، فقام يصلي، ولم يتوضأ.
مقصود البخاري بهذا الحديث في هذا الباب: أن ابن عباس كانَ قد صف مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن يساره، لكنه لما كان موقفه مكروها حوله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منه، فأداره من ورائه إلى يمينه، فدل على أن إزالة بعض من في الصف عن مقامه وتحويله من الصف في الصلاة لمصلحة جائز، وصلاته تامة، وإن كانَ قد خرج من الصف وتأخر عنه.
ولا يدخل هذا في ترك تسوية الصفوف المنهي عنه، وإن كانَ فيهِ تأخر عن الصف، إلا أن المقصود منه: أن يعود إلى الصف على وجه أكمل من مقامه، فهوَ شبيه بإبطال الصلاة المكتوبة إذا دخل فيها منفردا، ثم أقيمت الصلاة ليؤديها في جماعة.
وقريب منه: تخريب بناء المسجد لأعادته على وجه أكمل منه.

(6/285)


وفي الحديث - أيضا -: دليل على أن مصير المأموم فذا خلف الإمام - أو خلف الصف - وقتا يسيرا لا تبطل به الصلاة، إذا زالت فذوذيته قبل الركوع؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرج ابن عباس من جهة يساره إلى ورائه، فصار فذا في تلك الحالة، ثم أعاده إلى يمينه في الحال، فزالت فذوذيته سريعا، ووقف في موقف هوَ أكمل من مقامه الأول قبل الركوع.
وسيأتي القول في ذَلِكَ في ((باب: الركوع دون الصف)) - إن شاء الله تعالى.

(6/286)


78 - باب
المَرأَةِ تكونُ وَحْدَهَا صَفاً

(6/287)


727 - حدثنا عبد الله بنِ محمد: ثنا سفيان، عَن إسحاق، عَن أنس بنِ مالك، قالَ: صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمي خلفنا: أم سليمٍ.
دل هَذا الحديث على أن المرأة إذا صلت معَ الرجال، ولم تجد امرأةً تقف معها قامت وحدها صفاً خلف الرجالِ.
وهذا لا اختلاف فيهِ بين العلماء؛ فإنها منهيةٌ أن تصف معَ الرجال، وقد كانت صفوفُ النساء خلف الرجال في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه الراشدين، ولهذا قالَ ابن مسعود: أخروهنَّ مِن حيث أخرهنَّ الله.
خرجه وكيعٌ وغيرهُ.
ولا يعلم في هَذا خلاف بين العلماء، إلا أنَّهُ روي عَن أبي الدرداء، أن الجارية التي لَم تحضِ تقف معَ الرجال في الصف.
فأما إن وجدت امرأةً تقفُ معها، ثُمَّ وقفت وحدها، فهل تصح صلاتها
حينئذٍ؟ فيهِ لأصحابنا وجهان.
أحدهما: لا تصحُّ، وَهوَ ظاهر كلام أبي بكرٍ الأثرم، وقول القاضي

(6/287)


أبي يعلى في ((تعليقه)) وصاحب ((المحرر)) ، إلحاقاً للمرأة بالرجل، معَ القدرة على المصافّةِ.
والثاني: تصحُّ، وَهوَ قول صاحب ((الكافي)) أبي محمد المقدسي، وَهوَ ظاهر تبويب البخاري؛ لأن المرأةَ تكون وحدها صفاً، ولا تحتاج إلى مِن يصافّها، وكذا قالَ الإمام أحمد في رواية حربٍ: المرأة وحدها صفٌ.
وقد استدل طائفة مِن العلماء بصلاة المرأة وحدها على صحة صلاة الرجل
النفل، وهذا جمعُ بين ما فرقت السنة بينهُ؛ فإن السنة دلت على صحة صلاة المرأة وحدها خلف الصفوف، ونهت الرجل عَن ذَلِكَ، فأمرتهُ بالإعادة، على ما يأتي ذكرهُ في موضعه - إن شاء الله تعالى.
وأقرب مِن هَذا: قولُ مِن قالَ: إن صلاةَ الرجلِ خلف الصفوف وحده إذا تعذَرَ عليهِ مِن يصافه تصحُّ إلحاقاً لها بصلاة المرأة وحدها، إذا لَم تجد مِن يصافها، كَما قالَه بعض المتأخرين مِن أصحابنا، ولكن المذهب خلافهُ.
واستدل - أيضاً - بحديث أنسٍ هَذا على أن الإمام إذا كانَ خلفهُ رجلانِ أو صبيان قاما خلفه، وهذا قول جمهور العلماء.
وكان ابن مسعود يرى ان الاثنين يقومان معَ الإمام عَن يمينه وشماله.
خرجه مسلم بإسناده عَنهُ.

(6/288)


وخرجه أبو داود والنسائي، عنه - مرفوعاً.
وقال ابن عبد البر: لا يصح رفعهُ.
فَمِن العلماء مِن قالَ: نُسخ ذَلِكَ؛ لأن ابن مسعودٍ قرنه بالتطبيق في حديث واحد، والتطبيق منسوخٌ، فكذلك القيام.
ومنهم مِن تأوَّله على أنَّهُ فعله لضيقِ المكان، رويَ ذَلِكَ عَن ابن سيرين.
وفيه نظرٌ.
ومنهم من تأوَّلهُ على ابن مسعودٍ فعل ذَلِكَ بعلقمة والأسود حيث فاتتهم الجمعةُ، وقصد إخفاء الجماعة للظهر يومَ الجمعةِ، وعلى ذَلِكَ حملهُ الإمام أحمد في رواية إسحاق بنِ هانئ، وفعله - أيضاً - معَ صاحبين لَهُ في مسجدٍ مِن المساجد.
ومنهم مِن تأوله على أن علقمة كانَ غلاماً، فلم يرَ ابن مسعودٍ للأسود أن يصافه في الفريضة، وعلى ذَلِكَ حمله الإمام أحمد في رواية أخرى عَنهُ، نقلها عَنهُ ابنه
عبد الله والميموني وغيرهما.
وحمل أحمد حديث أنسٍ هَذا في مصافته لليتيم على أن الصلاةَ كانت نفلاً، والرجلُ يجوز لَهُ أن يصافف الصبيَّ في النفل خاصة.

(6/289)


وقد خرج هَذا الحديث أبو داود مِن حديث ثابتٍ، عَن أنسٍ، وفيه: فصلى بنا ركعتين تطوعاً.
وقد سبق الكلامُ عليهِ مستوفىً في ((باب: الصلاة على الحصير)) .
وقال الإمام أحمد - مرة أخرى -: قلبي لا يجسر على حديث إسحاق، عَن أنسٍ؛ لأن حديث موسى خلافهُ، ليسَ فيهِ ذكر اليتيمِ.
قالَ أبو حفصٍ البرمكيُّ مِن أصحابنا: حديث إسحاق الذِي فيهِ ذكر اليتيمِ.
وحديث موسى خرجه مسلمٌ مِن طريق شعبةَ، عَن عبد الله بنِ المختار: سمع موسى بنِ أنس يحدث، عَن أنس بنِ مالكٍ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى به وبأمه - أو خالته - قالَ: فأقامني عن يمينه، وأقام المرأةَ خلفَنا.
وخرج مسلم - أيضاً - مِن طريق سليمانِ بنِ المغيرةِ، عَن ثابت، عَن أنسٍ، قالَ: دخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علينا، وما هوَ إلا أنا وأمِّي وأُمُّ حَرامٍ خالتي، فقالَ: ((قوموا فلأُصلِّي بكم)) في غير وقت صلاةٍ، فصلى بنا، فقالَ رجل لثابت: أين جعل أنساً
منهُ؟ قالَ: جعله عَن يمينه.
وخرجه أبو داود مِن طريق حماد بنِ سلمة، عَن ثابتٍ، وقال فيهِ: فأقامني عَن يمينه وأمَّ حرامٍ خلفنا.
وفي رواية لَهُ: قالَ ثابت: لا أعلمه إلا قالَ: أقامني عَن يمينه.

(6/290)


وقد رجَّح الدارقطنيُّ وغيرهُ وقفَ الحديثِ على أنسٍ، وأنه هوَ الذِي أقام ثابتاً عَن يمينه.
وفي الجملة؛ فللعلماء في هَذهِ الأحاديث، عَن أنسٍ مسلكان:
أحدهم: تعارُضُهُما، وترجيح رواية موسى بنِ أنسٍ عَنهُ؛ لموافقتِهِ لحديث ابن عباسٍ وغيرهِ.
والثاني: أنهما قضيَّتان متغايرتانِ، وَهوَ مسلكُ ابن حبان وغيره.
وأجاز أحمد مصافة الرجل للصبيِّ في النفل دونَ الفرض، كَما قال ذَلِكَ في إمامته بالرجال في إحدى الروايتين عَنهُ.
ومن أصحابنا مِن قالَ: يصحّ مصافته في الفرض والنفلِ.
ومنهم مِن قالَ: لا يصحُّ فيهما وحمل كلام أحمد على أن النفل يصحُّ فيهِ صلاةُ الفذِّ خلف الصفوفِ. وهذا بعيدٌ.
واستدل بعضُ مِن يرى صحةَ صلاةِ الفذِّ بمصافةِ أنسٍ لليتيم، ذكره الترمذي في ((جامعه)) ، ثُمَّ ردَّهُ. بأنهُ لو كانَ الصبيُّ لا صلاةَ لَهُ لأقام أنساً عَن يمينه.
ويحتمل - أيضاً - أن يكون أنسٌ حينئذٍ كانَ صبياً لم يبلغِ الحلمَ، أو أن الذِي صلى معه كانَ بالغاً، وسمى يتيماً تعريفاً لَهُ بما كانَ عليهِ، كَما يُقال: أبو الأسودِ يتيمٌ عروةَ.
وأكثر العلماء على أن الرجل يصحُّ أن يصافَّ

(6/291)


الصبيَّ، وَهوَ قولُ الثوريِّ.
وقالَ الأوزاعي: إن كانَ الصبِّيان ممن نَبتَ صفَ الرجلُ والصبيان خلف الإمام، وإن كانَ ممن لا نبت قامَ الرجلُ عَن يمين إمامهِ.
وقال حرب: سألت إسحاق عَن رجلٍ صلَّى وحضره رجلٌ وغلامٌ ابنُ ستِّ سنينَ، كيف يقيمهما؟ قالَ: يقيمهما خلفه: قلت يُقيمهما جميعاً عَن يمينه؟ فلم يرخص فيهِ، وذكر حديث أنسٍ: صليت أنا ويتيمٌ لنا خلفَ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد تقدم عَن الحسن، أن مِن صلَّى معه رجلٌ وامرأةٌ قام الرجل خلفه والمرأةُ خلفهما.
وَهوَ مخالفٌ لرواية موسى بنِ أنسٍ وثابتٍ، عَن أنسٍ.
وجمهورُ أهلِ العلم على أنَّ الرجل يقوم عَن يمين الإمام، والمرأة خلفه، فعلى قول الحسن إذا كانَ معَ الرجل صبيٌّ، فلا إشكال عنده في مصافة الرجل.
واستدل - أيضاً - بحديث أنسٍ هَذا على أنَّ الصبي يقوم في صفِّ الرجال مِن غير كراهةٍ، قَد رُويت كراهته عن عمر بنِ الخطاب وأُبي بنِ كعبٍ، وكانا يُخرجان الصبيان مِن صفوف الرجال، وَهوَ قولُ الثوري وأحمد.
وأجاب أحمد عَن حديث أنسٍ هَذا في إقامةِ اليتيم معَ أنسٍ، بأنَّهُ كانَ في التطوع.

(6/292)


ويُجاب عَنهُ - أيضاً - بأنَّ الكراهة إنما هي حيث كانَ هناك رجالٌ يملئون
الصفَّ، فيمنع الصبيُّ، ويخرج منهُ ليقوم مقامه رجلٌ، فَهوَ أولى بالصفِّ منهُ، فأما في حديث أنسٍ، فإنما هوَ ويتيمٌ واحدٌ في بيت، فلم يكن مقام اليتيم مانعاً للرجالِ مِن الصلاةِ في الصفِّ مكانه.
وعلى تقدير أن يكون أنسٌ صبياً إذ ذاكَ لَم يبلغِ الحلمَ، فَقد كانا جميعاُ صبيين. والله - سبحانه وتعالى - أعلم.

(6/293)


79 - باب
مَيْمَنَةَ المَسْجِدِ واَلإِمامِ

(6/294)


728 - حدثنا موسى: ثنا ثابتُ بنِ يزيدَ: ثنا عَاصِمٌ، عَن الشعبي، عَن ابن عبَّاسٍ، قالَ قُمتُ ليلةً أُصلِّي عَن يَسارِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخذَِ بيدي - أو بعضُدي - حَتَّى أقامَني عَن يمينهِ، وقَالَ بيدهِ مِن ورائِي.
مرادُ البخاري بهذا الحديث في هَذا الباب: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حوَّل ابن عباس مِن عَن يساره إلى يمينه دلَّ على أن موقف المأمومِ عَن يمين الإمام، وأن جهةَ اليمين أشرفُ وأفضل فلذلك يكون موقفُ المأمومِ الواحدِ منها، فيُستدلُ بذلك على أن جهةَ يمين الإمام للمأمومين الذين يقومون خلف الإمام أشرف وأفضلُ مِن جهة يساره.
وقد ورد في هَذا أحاديثٌ مصرحةٌ بذلك:
فخرج ابن ماجه مِن رواية أسامةَ بنِ زيدٍ، عَن عثمان بنِ عروةَ، عَن عروةَ، عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((إنَّ الله وملائكتَه يصلُّون على ميامنِ الصفُوفِ)) .
خرجه مِن رواية معاوية بنِ هشام، عَن سفيان، عَن اسامة، بهِ.
وذكر البيهقي: أنه تفرد به معاوية، عن سفيان. قالَ: ولا أراه محفوظاً، وإنما المحفوظ بهذا الإسناد: ((إن الله وملائكته يصلُّون على

(6/294)


الذين يصلون الصفوف)) .
وخرج النسائيُّ وابن ماجه مِن حديث ثابت بنِ عبيدٍ، عَن ابن البراء بنِ عازب، عَن البراء، قالَ: كنَّا إذا صلينا خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مما نحب - أو أحبُّ - أن نقوم عَن
يمينه.
وخرج ابن ماجه مِن رواية ليث بنِ أبي سُليمٍ، عَن نافعٍ، عَن ابن عمرَ قالَ: قيل للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن ميسرةَ المسجد تعطلت. فقالت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مِن عمَّر ميسرة المسجد كتب لَهُ كفلان مِن الأجر)) .
وخرج البيهقي بإسناد فيهِ جهالةٌ، عَن أبي برزة، قالَ لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن استطعت أن تكون خلف الإمام، وإلا فعن يمينه)) . وقال: هكذا كانَ أبو بكر وعمرُ خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه الطبراني - أيضاً - وخرج الطبراني والعقيلي وابن عدي مِن حديث ابن عباس مرفوعاً في فضل الوقوف بإزاء الإمام.
وخرجه أبو بكر بن أبي داود - أيضاً - من حديث أنس مرفوعاً.
وكلا الإسسنادين لا يصح.

(6/295)


وروي مرسلاً؛ رواه هشيمٌ، عَن داود بنِ أبي هندٍ أرسله إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروى وكيع في ((كتابه)) عَن إسرائيل، عَن الحجاج بنِ دينار، يرفعه إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((فضل أهل ميمنة المسجد على أهل المسجد بضعٌ وعشرون درجةً)) .
وعن سفيان، عَن ابن جريجٍ، عَن عطاء، عَن عبد الله بنِ عمرو، قالَ: أفضلُ المسجد ناحية المقام، ثُمَّ ميامنُه.
وعن الربيع، عَن الحسن، قالَ: أفضل الصفوف الصف المقدمُ، وأفضلهُ مما يلي الإمام.
وكأنه يريد: مقامَ الإمام. والله أعلم وأكثر العلماء على تفضيل ميمنة الصفوف وخلف الإمام.
وأنكره مالكٌ.
ففي ((تهذيب المدونَّةِ)) : ومن دخل المسجد وقد قامت الصفوفُ قامَ حيث شاءَ، إن شاء خلف الإمام، وإن شاء عَن يمينه أو عَن يساره. وتعجب مالك ممن قالَ: يمشي حتى يقف حذوَ الإمام.

(6/296)


80 - باب
إذا كانَ بينَ الإِمَامِ وَبَيْنَ القَوْمِ حَائِطٌ اَوْ سُتْرَةٌ
وقال الحسنُ: لا بأس أن تصلِّي وبينكَ وبينهُ نهر.
وقال أبو مجلزٍ: يأتمُّ بالإمامِ - وإنْ كانَ بينهما طَريقٌ أو جدارٌ - إذا سمعَ تكبيرَ الإمامِ.
مرادُ البخاري بهذا الباب: أنَّهُ يجوز اقتداء المأمومِ بالإمام، وإن كانَ بينهما طريق أو نهر، أو كانَ بينهما جدار يمنع المأموم مِن رؤية إمامه إذا سمع تكبيره.
فهاهنا مسألتان:
إحداهما:
إذا كانَ بين الإمام والمأموم طريق أو نهر، وقد حكى جوازه في صورة النهر عَن الحسن، وفي صورة الطريق عَن أبي مجلز.
وقال الأوزاعي في السفينتين، يأتم مِن في أحداهما بإمام الأخرى: الصلاة
جائزةٌ، وإن كانَ بينهما فرجةٌ، إذا كانَ أمام الأخرى - وبه قالَ الثوري: نقله ابن المنذر.
وروى الأثرم بإسناده، عَن هشام بن عروة، قالَ: رأيت أبي وحميد بنِ
عبد الرحمن يصليان الجمعة بصلاة الإمام في دار حميدٍ، وبينهما وبين المسجد جدارٌ.
وكره آخرون ذَلِكَ:
روى ليثُ بنُ أبي سليمٍ، عَن نعيم بنِ أبي هندٍ، قالَ: قالَ عمر بنِ الخطاب: مِن صلى وبينه وبين الإمام نهرٌ أو جدار أو

(6/297)


طريق لَم يصل معَ الإمام.
خرجه أبو بكر عبد العزيز بنِ جعفر في كِتابِ ((الشافي)) .
وكره أبو حنيفة وأحمد أن يصلي المأموم وبينه وبين إمامه طريقٌ لا تتصل فيهِ الصفوف، فإن فعل، فقالَ أبو حنيفة: لا تجرئه صلاته. وفيه عَن أحمد روايتان.
والنهر بصلاة الذِي تجري فيهِ السفن كالطريق عند أحمد. وعن أحمد جوازه.
واحتج بصلاة أنسٍ في غرفة يوم الجمعة.
فَمِن أصحابه مِن خصه بالجمعة عند الزحام. والأكثرون لَم يخصُّوه بالجمعة.
وكذلك مذهب إسحاق:
قالَ حربٌ: قلت لإسحاق: الرجل يصلي في داره، وبينه وبين المسجد طريقٌ يمرُّ فيهِ الناس؟ قالَ: لا يعجبني، ولم يرخِّص فيهِ. قلت: صلاتهُ جائزةٌ؟ قالَ: لو كانت جائزةً كنت لا أقول: لا يعجبني. قالَ: إلا أن يكون طريق يقوم فيهِ الناس، ويصفون فيهِ للصلاة. قلت: فإنَّا حين صلينا لَم يمرَّ فيهِ أحدٌ، فذهب إلى أن الصلاة جائزةٌ.
قلت لإسحاق: فرجل صلى وبين يديه نهرٌ يجري فيهِ الماء؟ قالَ: إن كانَ نهراً تجري فيهِ السفن فلا يصلِّ، وإن لَم يكن تجري فيهِ السفن فَهوَ أسهل.
وكره آخرون الصلاة خلف الإمام خارجَ المسجد:
روي عَن أبي هريرة وقيس بنِ عبادةَ، قالا: لا جمعة لمن لَم يصلِّ في المسجد.

(6/298)


ورخصت طائفةٌ في الصلاة في الرحاب المتصلة بالمسجد، منهم: النخعيُّ والشافعيُّ.
وكذلك قالَ مالك، وزاد: أنَّهُ يصلي فيما اتصل بالمسجد مِن غيره.
ذكر في ((الموطأِ)) عَن الثقة عنده، أن الناس كانوا يدخلون حُجَرَ أزواجِ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد وفاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يصلُّون فيها الجمعة. قالَ: وكان المسجد يضيقُ على أهله.
وحجر أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليست مِن المسجد، ولكن أبوابها شارعةٌ في المسجد.
قالَ مالك: فَمِن صلى في شيء مِن المسجد أو في رحابه التي تليه، فإن ذَلِكَ مجزئٌ عَنهُ، ولم يزلْ ذَلِكَ مِن أمر الناس، لَم يعبه أحدٌ مِن أهل الفقه.
قالَ مالك: فأما دارٌ مغلقةٌ لا تدخل إلا بإذن، فإنه لا ينبغي لأحد أن يصلي فيها بصلاةِ الإمام يوم الجمعة، وإن قربُت، فإنها ليست مِن المسجد.
وفي ((تهذب المدونة)) . أن ضابطَ ذَلِكَ: أن ما يُستطرَقُ بغير إذن مِن الدور والحوانيت تجوز الصلاة فيهِ، وما لا يدخل إليهِ إلا بإذن لا يجوز، وأن سائر الصلوات في ذَلِكَ كالجمعة.
وروى الأثرمُ بإسناده، عَن محمد بن عمرو بنِ عطاءٍ، قالَ: صليت معَ ابن عباسٍ في حجرة ميمونةَ زوجِ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصلاة الإمام يوم الجمعة.
وبإسناده، عَن عطاء بنِ أبي ميمونة، قالَ كنت معَ أنسِ بنِ مالك يوم جمعة، فلم يستطع أن يزاحم على أبواب المسجد، فقالَ: اذهب إلى عبد ربِّه ابن مخارقٍ، فقل لَهُ: إن أبا حمزة يقول لك: أتأذن لنا أن نصلي

(6/299)


في دارك؟ فقالَ: نعم. فدخل فصلَّى بصلاة الإمام، والدار عَن يمين الإمام.
فهذا أنسٌ قَد صلى في دار لا تُدخل بغير إذن، وحجر أزواجِ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل هدمها وإدخالها في المسجد لَم تكن تُدخل بغير إذنٍ - أيضاً.
وقد استدل أحمد بالمروي عَن أنس في هَذا في رواية حرب، ورخص في الصلاة في الدار خارج المسجد، وإن كانَ بينها وبين المسجد طريقٌ، ولم يشترط الإمام أحمد لذلك رؤية الإمام، ولا مِن خلفه، والظاهر: أنه اكتفى بسماعِ التكبير.
واشترط طائفة مِن أصحابه الرؤية. واشترط كثيرٌ مِن متقدميهم اتصال الصفوف في الطريق.
وشرطه الشَافِعي - أيضاً - قالَ في رواية الربيع فيمن كانَ في دار قرب المسجد، أو بعيداً منهُ: لَم يجز لَهُ أن يصلي فيها، إلا أن تتصل الصفوف بهِ، وَهوَ في أسفل
الدار، لا حائل بينه وبين الصفوف.
واستدلَّ بقول عائشة - مِن غير إسناد -، وتوقف في صحته عنها.
وذكره بإسناده في رواية الزعفراني، فقالَ: حدثنا إبراهيم بنِ محمد، عَن ليثٍ، عَن عطاء، عَن عائشة، أن نسوةً صلْين في حجرتها، فقالت: لا تصلِّين بصلاة الإمام؛ فإنكنَّ في حجابٍ.
وهذا إسناد ضعيفٌ، ولذلك توقف الشَافِعي في صحته.
المسألة الثانية:
إذا كانَ بين المأموم والإمام حائلٌ يمنع الرؤية، فَقد حكى البخاري عَن أبي مجلَزٍ أنه يجوز الاقتداء بهِ إذا سمع تكبير الإمام.

(6/300)


وأجازه أبو حنيفة وإسحاق. قالَ إسحاق: إذا سمع قراءته واقتدى بهِ.
وقد تقدم كلام الشافعي في منعه، واستدلاله بحديث عائشة. قالَ الشَافِعي: هَذا مخالف للمقصورة، المقصورة شيء مِن المسجد، فَهوَ وإن كانَ حائلاً بينه وبين ما وراءَها، فإنما هو كحول الأصطوانِ أو أقلَّ، وكحول صندوق المصاحف وما أشبهَهَ.
وحاصلُه: إن صلَّى في المسجد وراء الإمام لَم يشترط أن يرى فيهِ الإمام بخلاف مِن صلَّى خارج المسجد.
وحكى أصحابنا روايتين عَن أحمد فيمن صلَّى في المسجد بسماعِ التكبير، ولم يرَ الإمام ولا مَنْ خلفهُ: هل يصح اقتداؤهُ بهِ، أو لا؟
وحكوا روايةً ثالثةً: أنَّهُ يصحُّ اقتداؤه بهِ، سواء صلى معه في المسجد، أو صلى خارجاً مِن المسجد.
قالَ أحمد في رواية حنبلٍ: إذا صلَّى الرجلُ وَهوَ يسمع قراءة الإمام في دار أو في سطح بيته كانَ ذَلِكَ مجزئاً عَنهُ، وفي الرحبة.
قالَ أبو بكر عبد العزيز بنِ جعفر في كِتابِ ((الشافي)) : ذَلِكَ جائزٌ إذا اتصلت الصفوف، وعلم التكبير والركوع والسجود، وأن لا يكون الدار والسطح مقدم القبلة، ولا فوق الإمام؛ فإنهم لا يمكنهم الاقتداء بهِ ولا اتباعه، ولا يعرفون ركوعه ولا
سجوده، وكذلك في الرحاب والطرق تجوز الصلاة في ذَلِكَ إذا اتصلت الصفوف، ورأى بعضهم بعضاً، ولو أغلقت دونهم الأبواب، وارتفعت الشبابيك بينهم، أو كانَ عليها أبواب تُغلقُ، فلا يلحظون الصفوف، ولا يرى بعضُهم بعضاً - يعني: أنَّهُ لا يصح اقتداؤهم بالإمام - قالَ: وَهوَ مذهب أبي عبد الله. انتهى ما ذكره.
وَهوَ مبني على اشتراط الرؤية خارجَ المسجد، وفيه خلافٌ سبق

(6/301)


ذكره.
وحُكي عن أحمد رواية: أن الحائل المانع للرؤية، والطريق الذِي لا تتصل فيهِ الصفوف يمنع الاقتداء في الفرض دونَ النفل.
وحُكي عَنهُ: أنه لا يمنع في الجمعة في حال الحاجة إليهِ خاصةً.
وحُكي عَنهُ: إن كانَ الحائل حائِطَ المسجد لَم يمنع، وإلا منع.
وإن كانَ الحائل يمنع الاستطراق دونَ الرؤية لَم يمنع.
وفيه وجهٌ: يمنع، وحكاه بعضهم روايةً.
خرج البخاري في هَذا الباب ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:

(6/302)


729 - حدثنا محمد: ثنا عبدةُ، عَن يحيى بنِ سعيد الأنصاريِّ، عَن عَمرةَ، عَن عائشة، قالت: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصلي مِن الليل في حجرته، وجدار الحجرة قَصير، فرأى الناس شَخْص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقام أُناسٌ يُصلونَ بصلاته، فأصبحوا فتحدثوا بذلك، فقام ليلته الثَّانية، فقام معه أُناسٌ يصلون بصلاته، صنعوا ذَلِكَ ليلتين - أو ثلاثاً -، حتى إذا كانَ بعد ذَلِكَ جلس رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يخرج، فلما أصبح ذكر ذَلِكَ الناس، فقالَ:
((إنِّي خَشيت أن تكتبُ عليكم صلاةُ الليلِ)) .

(6/302)


ليسَ في هَذهِ الرواية: دليل على جواز الائتمام مِن وراء جدارٍ يحول بين المأموم وبين رؤية إمامه؛ فإنَّ في هَذا التصريح بأن جدار الحجرة كانَ قصيراً، وأنهم كانوا يرونَ منهُ شخص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومثلُ هَذا الجدار لا يمنع الاقتداء.
لكن؛ روى هَذا الحديث هُشيمٌ، عَن يحيى بنِ سعيد، فاختصر الحديث، وقال فيهِ: صلَّى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجرته، والناس يأتمون به مِن وراء الحجرة.
وهذا مختصر.
وقد أتم الحديث عبدة بنِ سليمان وعيسى بن يونس وغيرهما، عَن يحيى بنِ
سعيد، وذكروا فيهِ: أن جدار الحجرة قصير، وأن الناس كانوا يرون شخص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الحديث الثاني:

(6/303)


730 - حدثنا إبراهيم بنِ المنذر: ثنا ابن أبي فديك: ثنا ابن أبي ذئبٍ، عَن المقبري، عَن أبي سلمة بنِ عبد الرحمن، عَن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ لَهُ حصيرٌ يبسطهُ بالنهار، ويحتجرهُ بالليلِ، فثاب إليهِ ناسٌ فصفوا وراءهُ.
معنى ((يحتجره)) - أي: يتخذه كالحجرة، فيقيمه ويصلي وراءه.
وهذا هوَ المراد بالحجرة المذكورة في الحديث الذي قبله، ليسَ المراد حجرة عائشة التي كانَ يسكن فيها هوَ وأهلهُ؛ فإنَّ حجر أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت لها

(6/303)


جدرات تحجب مِن كانَ خارجاً منها أن يرى مِن في داخلها.
وقولها: ((فثاب عليهِ ناسٌ)) - أي: رجعوا، فكأنهم كانوا قد صلوا العشاء وانصرفوا من المسجد، فرجعوا إليه للصلاة خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ورُوي: ((فآب)) وبذلك فسَّرهُ الخطابي، قالَ: معناه: جاءوا من كل أَوب، آب أوباً وإياباً. ومنه: آب المسافر، وهو: الرجوع.
الحديث الثالث:
قالَ:

(6/304)


731 - حدثنا عبد الأعلى بن حماد: ثنا وهيبٌ، قالَ: ثنا موسى بن عقبة، عن سالم أبي

(6/304)


النضر، عن بسر بن سعيد، عن زيد بن ثابت، أنّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذ حجرة - قالَ: حسبت أنه قالَ: من حصير - في رمضان، فصلى فيها ليالي، فصلى بصلاته ناس من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد، فخرج إليهم، فقالَ: ((قد عرفت الذي رأيتُ من صنيعكم، فصلوا أيها الناس في بيوتكم؛ فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة)) .
وخرَّجهُ - أيضاً - في ((الاعتصام)) من كتابه هذا من طريق عفان، عن وهيبٍ، به، وقال فيهِ: اتخذ حجرةً في المسجد من حصير - ولم يذكر فيهِ شكاً.
وخرجه - أيضاً - من رواية عبد الله بن سعيدٍ، عن سالم مولى ابي النضر، ولفظُ حديثه: احتجر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجيرة مخصفة - أو حصيراً -، فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي فيها - وذكر الحديث.
وهذه الحجرة هي المذكورة في حديث عائشة المتقدم، وقد تبين أنها لم تكنْ تمنع رؤية النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن صلى وراءها خلفه.
وقد روى ابن لهيعة حديث زيد بن ثابت هذا، عن موسى بن عقبة، بهذا الإسناد، وذكر: أن موسى كتب به إليه، واختصر الحديث وصحفهُ، فقالَ: ((احتجم
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد)) . فقيل لابن لهيعة: مسجد بيتهِ؟ قالَ: لا، مسجد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد خرج حديثه هذا الإمام احمد.
وقوله: ((احتجم)) غلطٌ فاحش؛ وإنما هوَ: ((احتجر)) - أي: اتخذ حجرةً.
وهذا آخرُ ((أبواب: الإمامةِ)) ، وبعدها ((أبواب: صفة الصلاة)) .

(6/305)


82 - باب
إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة
فيهِ ثلاثةُ أحاديث:

(6/306)


732 - حدثنا أبو اليمان: أنا شعيب، عن الزهري، قالَ: أخبرني أنس بن
مالك، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركب فرساً فجحشَ شقهُ الأيمن. قالَ أنس: فصلى لنا يومئذ صلاةً من الصلوات وهو قاعدٌ، فصلينا وراءه قعوداً، ثم قالَ لما سلمَ: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفعَ فارفعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا قالَ: سمع الله لمن حمدهُ، فقولوا: ربنا ولك الحمدُ)) .

(6/306)


733 – حدثنا قُتيبةُ: ثنا الليث، عن ابن شهابٍ، عن أنس بن مالك، قالَ: خرَّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن فرس فجحشَ، فصلى لنا قاعداً، فصلينا معه قعوداً، ثم انصرف، فقالَ: ((إنما الإمام)) – أو ((إنما جعلَ الإمام – ليؤتم به، فإذا كبَّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قالَ: سمع الله لمن حمدهْ، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا)) .

(6/306)


734 – حدثنا أبو اليمان: أنا شعيب: حدثني أبو الزناد، عن الأعرج،

(6/306)


عن أبي هريرة، قالَ: قالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنما الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قالَ: سمع الله لمن حمدهْ، فقولوا: ربنا ولك الحمدُ، وإذا سجد
فاسجدوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعونَ)) .
حديث أنسٍ، ساقه من طريقين:
من طريق شعيب، عن الزهري، وفيه: التصريح بسماع الزهري لهُ من أنسٍ.
ومن طريق الليث، عن الزهري، وليس فيهِ ذَلِكَ.
وقد تقدم من حديث مالكٍ، عن الزهري كذلك.
وليس في حديث مالك ولا شعيب ذكر التكبير، وهو في حديث الليث وحده.
وقد خرجه مسلم بهذه الزيادة من طريق ابن عيينة وغيرهِ، عن الزهري.
وخرجه البخاري بها – أيضاً – فيما تقدم من طريق حميدٍ، عن أنس.
وخرجه هاهنا من حديث أبي هريرة - أيضاً.
وهذه اللفظة، هي مقصودهُ من هذه الأحاديث في هذا الباب؛ فإن

(6/307)


النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر من يصلي خلف الإمام أن يكبر إذا كبر الإمام، فدل على أن التكبير واجب على المأموم، فدخل في ذَلِكَ تكبيرة الإحرام وغيرها – أيضاً – من التكبير.
ويأتي الكلام في التكبير غير تكبيره الإحرام في غير هذا الموضع – إن شاء الله
تعالى -، وإنما المقصود هنا: تكبيرة الإحرام.
وقوله: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)) قد فسرهُ بمتابعة الإمام في أقواله وأفعاله.
وقد أدخل طائفةٌ من العلماء متابعته في نيته، وقد سبق القول في ذَلِكَ.
وأدخل بعضهم – أيضاً – متابعته في ترك بعض أفعال الصلاة المسنونة، كرفع اليدين، فقالَ: لا يرفع المأموم يديه إلا إذا رفع الإمام، وهو قول أبي بكر بن أبي شيبة.
والجمهور على خلاف ذَلِكَ، وأن المأموم يتابع إمامه فيما يفعلهُ، ويفعل ما تركه من السنن عمداً أو سهواً، كرفع اليدين والاستفتاح والتعوذ والتسمية وغير ذلك، فيما لا يفعله بعض الأئمة معتقداً لهُ، فكل هذا يفعله المأموم، ولا يقتدي بإمامه في تركه.
ومما يدخل في ائتمام المأموم بإمامه: أنه لا يتخلف عنه تخلفاً كثيراً، بل تكون أفعال المأموم عقب أفعال إمامه، حتى السلام.
وقد نص أحمد على أن الإمام إذا سلم وقد بقي على المأموم شيء من الدعاء، فإنه يسلم معه، إلا أن يكون بقي عليه شيء يسير، فيأتي به ويسلم واستدل بقولِهِ: ((إنما الإمام ليؤتم به)) .
وقوله: ((فإذا كبر فكبروا)) يدل على أن المأموم لا يكبر إلا بعد تكبير

(6/308)


الإمام عقيبه، وقد سبق الكلام على هذه المسألة مستوفىً.
وكان ذكرَ حديث أبي هريرة في تعليم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسيء في صلاته – وقوله: ((إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة وكبر)) . وذكر الحديث – وقد خرجه البخاري في موضع آخر – أولى من ذكر: ((إذا كبر فكبروا)) ؛ فإن هذا الحديث إنما فيهِ أمر المأموم بالتكبير، وأما تكبير الإمام فليس فيهِ الأمر به، بل فيهِ ما يشعر بأنه لا بد من فعله كركرعه وسجوده.
وحينئذٍ؛ فيستدل بحديث أنس على أنه لا بدَّ للإمام من التسميع، وأن المأموم مأمور بالتحميد عقيب تسميعه.
وأما حديث تعليم المسيء، ففيه تصريح بالأمر لكل قائم إلى الصلاة أن يكبر، وسواء كانَ إماماً أو مأموماً أو منفرداً.
وأما حديث: ((مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)) فليس هوَ من شرط البخاري، مع تعدد طرقه.
وكذلك حديث عائشة: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفتتح الصلاة بالتكبير.
خرجه مسلم من طريق حسين المعلم، عن بديل بن ميسرة، عن أبي الجوزاء، عن عائشة.

(6/309)


وخالفه حماد بن زيد، فرواه عن بديل، عن عبد الله بم شقيق، عن عائشة.
ومقصود البخاري: أن الصلاة لا تفتتح إلا بالتكبير، ولا تنعقد بدونه.
وقد روي عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ والشعبي، قالوا: تحريم الصلاة التكبير.
وروي عن ابن المسيب وبكير بن الأشج والنخعي فيمن نسي تكبيرة الاستفتاح: يستأنف الصلاة.
وهو قول الثوري وابن المبارك ومالك والشافعي واحمد وإسحاق وغيرهم.

(6/310)


وقال الحكم وأبو حنيفة وعامةُ أصحابه: تنعقد الصلاة بكل لفظ من ألفاظ الذكر، كالتهليل والتسبيح.
وعن النخعي، قالَ: يجزئه، ويسجد للسهو.
وعن الشعبي، قالَ: بأي أسماء الله تعالى افتتحت الصلاة أجزأكَ.
وفي الإسناد إليه مجهولٌ.
خرجه ابن أبي شيبة في ((كتابه)) .
وهو رواية عن الثوري، رواها عنه النعمان بن عبد السلام.
وحكى ابن المنذر، عن الزهري، أن الصلاة تنعقد بمجرد النية، ولا تحتاج إلى لفظ بالكلية.
قلت: وروي نحوه – أيضاً – عن عطاء:
قالَ عبد الرزاق: عن ابن جريجٍ، قلت لعطاء: أقيمت الصلاة وأنا مع الناس، فكبر الإمام ورفع من الركعة، ولم أكبر في ذَلِكَ؟ قالَ: إن كنت قد اعتدلت في الصف فاعتدَّ بها، وإن كنت لم تزل تتحدث حتى ركعَ ورفع رأسه من الركعة فكبر ثم اركعْ واعتدَّ بها وإن كنت لم تعتدل في الصف فلا.
وعن ابن جريج، عن عطاء، في رجل دخل المسجد والإمام ساجد، أو حين رفع رأسه من الركعة أو السجدة، أو جالساً يتشهد: يكبر تكبيرة استفتاح الصلاة؟ قالَ: إن شاء فليكبر، وإن شاء فلا يكبر، ولكن إذا قام وقد قام الإمام فليكبر ويستفتح.

(6/311)


وروى – أيضاً – عن معمر، عن قتادة، في رجل انتهى إلى قوم وهم جلوس في آخر صلاتهم؟ قالَ: يجلس معهم، ولا يكبر.
ولعله أراد: أنه يكتفي بتكبيره إذا قام إلى القضاء، فلا يكونُ قبل ذَلِكَ قد دخل في الصلاة
وقريبٌ من هذا: أنه قد روي عن طائفة من السلف، أن من نسى تكبيرة الافتتاح في الصلاة، فإنه تجزئه تكبيرة الركوع، روي هذا عن سعيد بن المسيب والحسن والزهري وقتادة والحكم والأوزاعي، وهو رواية عن حماد بن أبي سليمان، حكاه ابن المنذر وغيره.
وروي عن الزهري، أنه قالَ: يسجد للسهو إذا سها.
وهذا يحتاج إلى تحقيق ونظر في مأخذ ذَلِكَ.
وظاهر ما حكاه ابن المنذر عن هؤلاء: أنهم رأوا تكبيرة الركوع تقوم مقام تكبيرة الافتتاح في انعقاد الصلاة بها، وهو ظاهر كلامهم – أيضاً -، حيث قالوا تجزئة تكبيرة الركوع، وتنعقد بها الصلاة. وقال بكر المزني: يكبر إذا ذكر.
وظاهر كلامهم: أنه عامٌ في حق الإمام والمأموم والمنفرد، وقد روي عن الحكم صريحاً في الإمام، فأما في حق الإمام والمنفرد، فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون الصلاة انعقدت بمجرد النية، كما روي عن

(6/312)


الزهري.
والثاني: أن تكون الصلاة إنما انعقدت بتكبيرة الركوع، وتكون القراءةُ ساقطةً عنهما في هذه الركعة، بناء على أن القراءة لا تجب في جميع الركعات وهذا هوَ الذي يتبادر فهمهُ من كلامهم.
وهو قول سفيان الثوري، ذكره أصحابه في كتبهم، لكنه يشترط: أن ينوي بتكبيرته عندَ الركوع تكبيرة الإحرام، كما سيأتي قوله في ذَلِكَ.
وأما قول بكر المزني: ((يكبر إذا ذكر)) ، فإن أراد ما يركع، فهوَ يرجع إلى ما ذكرنا، وإن كانَ مراده أعمَّ من ذَلِكَ، فلا يرجع إلا إلى أنَّ الصلاة يدخل فيهِا بمجرد النيةِ – أيضاً – إلا أن يكون أراد أنه يكبر متى ذكر، ويستأنف الصلاة من حينئذ.
وأما في حق المأموم، فقد وافق من تقدم ذكرهُ على قولهم يجزئه تكبيرة الركوع، مالك وأحمد – في رواية عنهما.
فذكر مالك في ((الموطأ)) في الإمام والمنفرد أنهما إذا نسيا تكبيرة الإحرام يبتدئان الصلاة. وفي المأموم نسي تكبيرة الإحرام وكبر للركوع: رأيت ذَلِكَ مجزئاً عنه.
قالَ ابن عبد البر: قالَ الزهري والأوزاعي وطائفةٌ: تكبيرة الإحرام يبتدئان الصلاة. وفي المأموم إذا نسي تكبيرة الإحرام وكبر للركوع: رأيت ذَلِكَ مجزئاً عنه.
قالَ ابن عبد البر: قالَ الزهري والأوزاعي وطائفة: تكبيرة الإحرام ليست بواجبة.
وقد روي عن مالك في المأموم ما يدل على هذا القول، ولم يختلف قوله في الإمام والمنفرد: أن تكبيرة الإحرام واجبة على كل واحدٍ منهما.

(6/313)


والصحيح من مذهبه: إيجاب تكبيرة الإحرام، وأنها فرضٌ ركنٌ من أركان الصلاة.
قلت: يمكن أن يحمل ما نقل عن السلف، أو عن بعضهم في المأموم خاصةً، وكذلك حكاه عنهم ابن عبد البر في المأموم خاصةً، وهذا أشبه وأظهر.
ويدل عليهِ: ما خرجه حربٌ بإسناده، عن خليد، عن الحسن وقتادة قالا: إن نسيت تكبيرة الاستفتاح وكبرت للركوع وأنت مع الإمام فقد مضت صلاتك.
وبإسناده، عن الوليد بن مسلم: قالَ أبو عمرو – يعني: الأوزاعي – فيمن نسي تكبيرة الاستفتاح: إن كانَ وحده استأنف الصلاة، وأن كانَ مع الإمام أجزأته تكبيرة الركوع، وكان كمن أدرك ركعة الإمام فكبر تكبيرة، وأمكن كفيه من ركبتيه، ورفع الإمام رأسه فقد أجزأتهُ تلك الركعة.
قالَ الوليد: فقلت لأبي عمرو: فإن نسي تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع؟ فأخبرني، أن ابن شهاب قالَ: يضيف إلى صلاته ركعةً، ولا يعتدُّ بتلك الركعة التي لم يكبِّر لها.
وقال أبو عمرٍو: وإذا كانَ وحده، فنسي الأولى والآخرة أعاد الصلاة وإذا كانَ مع الإمام أضاف إلى صلاته ركعةً أخرى.
فقد فرق الأوزاعي بين المنفرد والمأموم، وأما الزهري فلم يفرق.
والتفريق بينهما لهُ مأخذان:

(6/314)


أحدهما: أن الإمام يتحمل عن المأموم التكبير، كما يتحمل عنه القراءة، وقد صرح بهذا المأخذ الإمام أحمد.
قالَ حنبل: سألت أبا عبد الله عن قول: إذا سها المأموم عن تكبيرة الافتتاح وكبر للركوع رأيت ذَلِكَ مجزئاً عنه؟ فقالَ أبو عبد الله: يجزئه إن كانَ ساهياً؛ لأن صلاة الإمام لهُ صلاةٌ.
فصرح بالمأخذ، وهو تحملُ الإمام عنه تكبيرة الإحرام في حال السهو.
ذكر هذه الرواية أبو بكر عبد العزيز في ((كتاب الشافي)) ، وهذه رواية غريبة عن أحمد، لم يذكرها الأصحاب.
والمذهب عندهم: أنه لا يجزئه، كما لا يجزئ الإمام والمنفرد، وقد نقله غير واحد عن أحمد.
ونقل إسماعيل بن سعيد، عن أحمد فيمن ترك تكبيرة الافتتاح في الصلاة؟ قالَ: إن تركها عمداً لم تجزئه صلاته.
ومفهومه: أنه إن تركها سهواً أجزأته صلاته.
وينبغي حمل ذَلِكَ على المأموم خاصةً، كما نقله حنبل.
وهذا المأخذ هوَ مأخذ من فرق بين الإمام والمأموم والمنفرد، كالأوزاعي؛ ولهذا طرد قوله في المأموم ينسى تكبيرة الافتتاح مع تكبيرة الركوع، وقال: إن صلاته جائزة، ويقضي ركعةً.
ولو كانَ مأخذه: أن

(6/315)


صلاته انعقدت بالتكبيرة في الركعة الثانية، لم يكن بين الإمام والمأموم فرقٌ.
وهو – أيضاً – مأخذ مالك وأصحابه:
وفي ((تهذيب المدونة)) : وإن ذكر مأموم أنه نسي تكبيرة الإحرام، فإن كانَ كبر للركوع ونوى بها تكبيرة الإحرام أجزأه، فإن كبرها ولم ينو بها ذَلِكَ تمادى مع الإمام، وأعاد صلاته احتياطاً؛ لأنه لا يجزئه عندَ ربيعة، ويجزئه عندَ ابن المسيب، وإن لَم يكبر للركوع ولا للافتتاح حتى ركع الإمام ركعةً ركعها معه، وابتدأ التكبير، وكان الآن داخلاً في الصلاة، ويقضي ركعةً بعد سلام الإمام، ولو كانَ وحده ابتدأ متى ذكر، قبل ركعةً أو بعد ركعةٍ، نوى بتكبيره الركوع الإحرام أم لا، وكذلك الإمام لا يجزئه إن نوى بتكبيرة الإحرام الركوع، فأن فعل أعاد هوَ ومن خلفه. انتهى.
وهذا التفريق، إنما هوَ لتحمل الإمام القراءة.
وما ذكر مِن أن المسبوق إن لَم ينو بتكبيرته عند الركوع الإحرام يتمادى معَ
الإمام، ويعيد صلاته احتياطاً، مخالف لما نص عليهِ مالك في ((الموطأ)) : أنَّهُ تجزئه صلاته إذا سها عَن تكبيرة الافتتاح.
ولكن في بعض رواية ((الموطأ)) عَن مالك، أنه اشترط في هَذا الموضع: نية الافتتاح - أيضاً.
وذكر ابن عبد البر: أن أصحاب مالك اضطربوا في هَذهِ المسألة اضطراباً عظيماً، ونقضوا أصلهم في وجوب تكبيرة الإحرام في حق المأموم؛ لأجل الاختلاف فيهِ.
وقد قالَ مالك في ((الموطأ)) : إن المأموم إذا نسي تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع وكبرَّ في الثانية، أنَّهُ يبتدئ صلاته أحبُّ إليَّ.

(6/316)


فظاهر هَذا: أنه لَم يوجب عليهِ الإعادة للاختلاف في تحمل الإمام عَنهُ التكبير، وهذا يدل على أنه رأى الاختلاف في حق المأموم خاصةً؛ فإنه قالَ في المنفرد: يعيد صلاته جزماً.
والمأخذ الثاني: وقد بنى ما روى عَن السلف عليهِ طائفة مِن العلماء، مِنهُم: عباس العنبري، وَهوَ: أن المأموم إذا أدرك الإمام في الركوع فكبر تكبيرة واحدةً، فإنه تجزئهُ وتنعقد صلاته عند جمهور العلماء، وفيه خلاف عَن ابن سيرين وحماد بنِ أبي سليمان.
وحكاه بعض أصحابنا روايةً عَن أحمد أنه لا يصح حتى يكبر تكبيرتين، ولا يصح هَذا عَن أحمد.
فعلى قول الجمهور: إذا كبر تكبيرةً واحدةً، فله أربعةُ أحوال:
إحداها: أن ينوي بها تكبيرة الافتتاح، فتجزئه صلاته بغير توقف.
الحالة الثانية: أن ينوي تكبيرة الركوع خاصةً، فلا تجزئه عند الأكثرين -: قاله الثوري ومالك.
ونص عليهِ أحمد في رواية أبي الحارث، واحتج بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: ((تحريمها
التكبير)) . وهذا لَم يحرم بالصلاة.
فإن كانَ ساهياً عَن تكبيرة الإحرام، فقالَ مالك في ((الموطأ)) : تجزئه.
وَهوَ رواية حنبل عَن أحمد.
ولا تجزئه عند الثوري، وَهوَ المشهور عَن أحمد ومذهب الأكثرين.

(6/317)


الحالة الثالثة: أن ينويهما معاً، ففيه قولان:
أحدهما: تجزئه، حكي عَن أبي حنيفة ومالك وأبي ثور، وحكي رواية عَن أحمد، اختارها ابن شاقلا.
والثاني: لا تجزئه، وَهوَ المشهور عند أصحابنا، وقول الشَافِعي وإسحاق.
الحالة الرابعة: أن لا ينوي شيئاً، بل يطلق النية، فهل تجزئه، أم لا؟ في قولان.
أحدهما: لا تجزئه حتى ينوي بها الافتتاح؛ فإنه قَد اجتمع في هَذا المحل تكبيرتان؛ إحداهما فرض، فاحتاج الفرض إلى تمييزه بالنية، بخلاف تكبير الإمام أو المنفرد أو المأموم إذا أدرك الإمام قبل الركوع، فإنه لَم يجتمع في حقه تكبيرتان في وقت واحدٍ.
وهذا القول حكي عَن أبي حنيفة، وَهوَ قول الثوري ومالك وإسحاق، ونقله ابن منصور وغير واحدٍ عَن أحمد.
وقاله أبو بكر عبد العزيز بنِ جعفر مِن أصحابنا في ((كتب الشافي)) والقاضي أبو يعلى في ((جامعه الكبير)) ، وجعله المذهب روايةً واحدةً، وتأول ما خالف ذَلِكَ عَن أحمد.
والثاني: تجزئه وإن أطلق النية -: نقله ابن منصور - أيضاً - عَن أحمد، ونقله
- أيضاً - صالح ومهنا وأبو طالب عَن أحمد.
وقال: ما علمنا أحداً قالَ: ينوي بها الافتتاح.
يشير إلى الصحابة والتابعين.
وعلل: بأنَّهُ خرج مِن بيته وَهوَ يريد الصلاة.
يشير إلى أن نية الصلاة موجودة معه؛ بخروجه إلى الصلاة، فلا يكبر للصلاة إلا بتلك النية، ولا يكبر للركوع إلا مِن دخل في الصلاة ن فأما مِن لَم يكن دخل فيها فإنما يكبر لدخوله في

(6/318)


الصلاة أولاً، ولا يضره عدم استحضاره لهذه النية عند التكبيرة؛ لأن تقديم النية على التكبير بالزمن اليسير جائزٌ عنده.
وللشافعي قولان في هَذهِ المسألة.
وقد يجاب عَن قول مِن قالَ: إنه قَد اجتمع في حقه تكبيرتان بأنهما لَم تجتمعا عليهِ؛ فإن تكبيرة الافتتاح محلها القيام، وتكبيرة الركوع محلها الانحناء للركوع، فلم تجتمعا في محل واحد.
وهذا بناءً على أنه لا تنعقد صلاة مدرك الركوع، إلا بالتكبير قائماً، وَهوَ قول الشَافِعي وإسحاق وأصحابنا.
وحكى صاحب ((شرحِ المهذب)) أنه رواية عَن مالك. قالَ: والمشهور عَنهُ: أنه تنعقد صلاته إذا كبر وَهوَ مسبوق في حال الركوع. قالَ: وَهوَ نصه في ((المدونة)) و ((الموطأ)) .
قلت: هَذا مقتضى الرواية عَن مالك في المأموم إذا نسي تكبيرة الافتتاح وكبر للركوع: أنه تجزئه، كذا رواه القعنبي وغيره عَن مالك.
ورواه يحيى بنِ يحيى، عَن مالك بشرط أن ينوي بها الافتتاح.
فينبغي على هَذا: أن لا يأتي بها إلا قائماً.
أو مقتضى قول مِن قالَ: تجزئه تكبيرة الركوع عَن تكبيرة الإحرام: أنه تنعقد الصلا بالتكبير في حال الركوع؛ لأن تكبيرة الركوع إنما تكون في حال الانحناء
للركوع.
وقد روى عبد الرزاق في ((كتابه)) عَن ابن جريج، قالَ: أخبرت عَن ابن مسعود، أنه كانَ يقول: إذا وجدت الإمام والناس جلوساً في آخر الصلاة فكبر قائماً، ثم اجلس وكبر حين تجلس، فتلك تكبيرتان: الأولى وأنت قائم

(6/319)


لاستفتاح الصلاة، الأخرى حين تجلس؛ كأنها للسجدة.
وهذا منقطع.
وهذا التفسير كأنه مِن قول ابن جريج.
وروى وكيع، عَن إبراهيم بن إسماعيل بنِ مجمع، عَن الزهري، عن عروة وزيد بنِ ثابت، أنهما كانا يجيئان والامام راكع، فيكبران تكبيرة الافتتاح، لافتتاح الصلاة وللركعة.
إبراهيم هَذا، فيهِ مقال.
وقد رواه معمر وإبراهيم بنِ سعد وابن أبي ذئب، عَن الزهري، عَن ابن عمر وزيد بنِ ثابت، قالا: تجزئه تكبيرة واحدةٌ.
وروي عَن معمر، عَز الزهري، سالم، عَن ابن عمر وزيد.
فيصير إسناده متصلاً.
وليس في رواية أحدٍ مِنهُم يكبر للافتتاح،، وهذا أصح - إن شاء الله تعالى.

(6/320)