فتح الباري لابن رجب

باب
استواء الظهر في الركوع
وقال أبو حميد – في أصحابه – ركع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم هصر ظهره. وحد إتمام الركوع والاعتدال فيه، والاطمأنينة. حديث أبي حميد واصحابه قد خرجه. البخاري بتمامه، ويأتي فيما بعد –إن شاء الله – ولفظ حديثه: ((وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره)) .
ومعنى: ((هصر ظهره)) : ثناه وأماله. ويقال: الهصر عطف الشيء الرطب كالغصن إذا ثناه ولم يكسره، فشبه إمالة الظهر وإنحناءه في

(7/163)


الركوع بذلك ويظهر من تبويب البخاري تفسير الهصر بالاستواء والاعتدال، وكذا قال الخطابي قال: هصر ظهره: أي ثناه ثنياً شديداً في استواءٍ من رقبته ومتن ظهره لايقوسه، ولا يتحادب فيه والطمأنينة: مصدر. والاطمأنينة: المرة الواحدة منه.
وقيل: أن الاطمأنينة غلطٌ قال – رحمه الله -:
792 –

(7/164)


نا بدل بن المحبر: نا شعبة: أخبرني الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن البراء، قال: كان ركوع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع رأسه من الركوع – ماخلا القيام والقعود – قريباً من السواء.
معنى هذا: أن صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت متقاربةً في مقدارها، فكان ركوعه ورفعه من ركوعه وسجوده ورفعه من سجوده قريباً من الاستواء في مقداره، وأنما كان يطيل القيام للقراءة والقعود للتشهد.

(7/164)


ومقصوده بهذا الحديث في هذا الباب: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمكث في ركوعه زمناً، فيحصل بذلك طمأنينته فيه واعتداله.
وقد تقدم في تفسير ((هصر ظهره)) أنه استواؤه.
وقد روي هذا المعنى صريحاً من حديث البراء، من رواية سنان بن هارون، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا ركع فلو أن إنسانا وضع على ظهره قدحا من الماء ما اهراق.
وسنان، ضعيف.
وذكر عبد الله بن الإمام أحمد، أنه وجده في كتاب أبيه، قال: اخبرت عن سنان بن هارون: ثنا بيان، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي بن أبي طالب – فذكره.

(7/165)


وخَّرجه أبو داود في ((مراسيله)) من طريق شعبة، عن أبي فروة، عن ابن أبي ليلى – مرسلاً -.
وهو أصح.
وقد خّرج ابن ماجه معناه من حديث وابصة بن معبد.
وإسناده ضعيف جداً.
وخرَّج الطبراني معناه - أيضاً – من حديث أنسٍ.
وخَّرجه البزار من رواية وائل بن حجرٍ.

(7/166)


وإسناده ضعيفٌ – أيضاً.

(7/167)


122 - باب
أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي لا يتم ركوعه بالإعادة

(7/168)


793 - حدثنا مسدد: نا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله: حدثني سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرد عليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) ، فصلى ثم جاء، فسلم على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((ارجع فصل فأنك لم تصل)) – ثلاثاً -، فقال: والذي يعثك بالحق ما أحسن غيره، فعلمني. قال: ((إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم أقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن

(7/168)


ساجداً، ثم ارفع حتى تطئمن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) .
استدل بعضهم بهذا الحديث على أن من دخل المسجد وفيه قوم جلوس، فإنه يبدأ فيصلي تحية المسجد، ثم يسلم على من فيه، فيبدأ بتحية المسجد قبل تحية الناس.

(7/169)


وفي هذا نظر، وهذه واقعة عين، فيحتمل أنه لما دخل المسجد صلى في مؤخره قريباً من الباب، وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صدر المسجد، فلم يكن قد مر عليهم قبل صلاته، أو أنه لما دخل المسجد مشى إلى قريبٍ من قبلة المسجد، بالبعد من الجالسين في المسجد، فصلى فيه، ثم أنصرف إلى الناس.
يدل على ذلك: أنه روي في هذا الحديث: أن رجلاً دخل المسجد، فصلى، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ناحية المسجد، فجاء فسلم – وذكر الحديث -.
خرَّجه ابن ماجه.
فأما من دخل المسجد فمر على قوم فيه، فإنه يسلم عليهم ثم يصلى.
وفيه: دليل على أن من قام عن قوم لحاجته، ثم عاد إليهم، فأنه يسلم عليهم وإن لم يكن قد غاب عنهم.
وفيه: دليل على أن من أساء في الصلاة فإنه يؤمر بإحسان صلاته مجملاً، حتى يتبين أنه جاهلٌ، فيعلم ما جهله.
وفيه: دليل على أن من أساء في صلاة تطوعٍ فأنه يؤمرُ باعادتها.
وهذا مما يتعلق به من يقول بلزوم النوافل بالشروع، ووجوب إعادتها

(7/170)


إذا
أفسدها.
ومن خالف في ذلك حمل الامر بالاعادة على الاستحباب، وأن الأمر بالإعادة كان تغليظاً على هذا المسيء في صلاته؛ لأن ذلك أزجرُ له عن الإساءة، وأقرب إلى عدم عوده إليها.
وقد ذكرنا –فيما تقدم – الاستدلال بهذا الحديث على وجوب التكبير والقراءة.
والمقصود منه في هذا الباب: وجوب إتمام الركوع والطمأنينة فيه؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يركع حتى يطمئن راكعاً.
وقد أشار البخاري إلى أنه أنما أمر بالإعادة؛ لأنه لم يتم الركوع، وليس في سياق هذا الحديث مايدل على ذلك.
ولكن؛ روي في حديث رفاعة بن رافع: أن الداخل إلى المسجد صلى وأخفُ صلاته.
خرَّجه الترمذي وغيره.
وخَّرجه النسائي، وعنده: فجعل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرمق صلاته، ولا يدري ما يعيب منها.
وقد قيل: أن المذكور في حديث رفاعة غير المذكور في أبي هريرة؛ لأن في حديث رفاعة تعليم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعض مستحبات الصلاة؛ كالاستفتاح وغيره، بخلاف حديث أبي هريرة؛ فإنه ليس فيه غير تعليم فرائض الصلاة.

(7/171)


وأكثر أهل العلم على أن إتمام الركوع بالطمأنينة فرض، لا تصح الصلاة بدون ذلك.
قال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن
بعدهم؛ يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود.
وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة؛ لحديث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود)) .
وهذا الحديث الذي أشار إليه، خرَّجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث أبي مسعود الأنصاري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
ولفظ أبي داود: ((لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع
والسجود)) .
وإقامة الظهر في الركوع والسجود: هو سكونه من حركته.

(7/172)


وقدر الطمأنينة المفروضه: أدنى سكونٍ بين حركتي الخفض والرفع عند أصحاب الشافعي، وأحد الوجهين لأصحابنا.
والثاني لأصحابنا: أنها مقدرة بقدر تسبيحة واحدة.
وذهب أبو حنيفة إلى أن الطمانينة ليست فرضاً في ركوع ولا غيره، لظاهر قوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77] .
وللجمهور: أن الأمر بالركوع والسجود مطلقٌ، وقد فسره النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبيَنه بفعله وأمره، فرجع إلى بيانه في ذلك كما رجع إلى بيانه في عدد السجود وعدد الركعات، ونحو ذلك.
***

123 -

(7/173)


باب
الدعاء في الركوع

(7/174)


794 - حدثنا حفص بن عمر: ثنا شعبة، عن المنصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في ركوعه وسجوده: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم أغفر لي)) .
في هذا حديث: دليل على الجمع بين التسبيح والتحميد والإستغفار في الركوع والسجود.
وخرَّج الإمام أحمد من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال: لمَّا نزلت على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] كان يكثر إذا قرأها وركع أن يقول: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم أغفر لي، إنك أنت التواب الرحيم)) –ثلاثا -.
وأبو عبيدة، لم يسمع من أبيه، لكن رواياته عنه صحيحة.
وخرَّج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث عون بن عبد الله، عن ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا

(7/174)


ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم، وذلك ادناه، وإذا سجد فليقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً، وذلك
أدناه)) .
وهو مرسل، يعني: أن عون بن عبد الله لم يسمع من ابن مسعود -: قاله الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم.
وقد روي بهذا الإسناد موقوفاً.
وقد روي من وجوه أخر عن ابن مسعودٍ مرفوعاً –أيضاً -، ولا تخلو من مقالٍ.
وفي ((صحيح مسلم)) من حديث حذيفة، قال: صليت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات
ليلة، فافتتح البقرة – وذكر الحديث، إلى أن قال: ثم ركع فجعل يقول: ((سبحان ربي العظيم)) ، وكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: ((سمع الله لمن حمده)) ، ثم قام قياماً طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: ((سبحان ربي الأعلى)) ، فكان سجوده قريبا من قيامه.

(7/175)


وخرَّج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم من حديث موسى بن أيوب الغافقي: حدثني عمي إياس بن عامر، قال: سمعت عقبة بن عامر الجهني، قال: لما نزلت {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} . قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((اجعلوها في ركوعكم)) ، فلما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اجعلوها في سجودكم)) .
موسى، وثقة ابن معين وأبو داود وغيرهما، لكن ضَّعف ابن معين رواياته عن عمه المرفوعة خاصة.
وفي ((صحيح مسلم)) عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في ركوعه وسجوده: ((سبوح قدوس، رب الملائكة والروح)) .
وفيه – أيضاً -: عن علي، أنه وصف صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: وإذا ركع قال: ((اللهم لك ركعت، وبك أمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي)) –وذكر بقية الحديث -.
وخَّرجه الترمذي بمعناه، وعنده: أن ذلك كان يقوله في المكتوبة.

(7/176)


وفي إسناد الترمذي لين.
ولكن خَّرج البيهقي هذه اللفظة بإسنادٍ جيدٍ.
وخرَّج النسائي نحو حديث علي من حديث جابرٍ ومحمد بن مسلمة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي حديث محمد بن مسلمة: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك في صلاة التطوع.
وخرَّج – أيضاً – هو وأبو داود من حديث عوف بن مالك، قال:

(7/177)


قمت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة، فلما ركع مكث قدر سورة البقرة، يقول في ركوعه: ((سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)) .
وفي الباب أحاديث أخر متعددة يطول ذكرها.
والكلام هاهنا في حكم التسبيح في الركوع، وفي الدعاء فيه.
فاما التسبيح في الركوع:
فمشروع عند جمهور العلماء.
قال جابر: كنا نسبح ركوعاً وسجوداً، وندعو قياماً وقعوداً.
خرَّجه البيهقي.
وقال أصحاب مالك: لا باس به -: هكذا في ((تهذيب المدونة)) ، قال: ولا حد له.
وأما الجمهور، فأدنى الكمال عندهم ثلاث تسبيحات، وتجزئ واحدة.
وروي عن الحسن وإبراهيم أن المجزئ ثلاث.
وقد يتأول على أنهما أرادا المجزئ من الكمال، كما تأول الشافعي وغيره حديث ابن

(7/178)


مسعود المرفوع الذي فيه: ((وذلك أدناه)) على أدنى الكمال.
وروي عن عمر، أنه كان يقول في ركوعه وسجوده قدر خمس تسبيحات.
وعن الحسن، قال: التام من ذلك قدر سبع تسبيحات.
وعنه، قال: سبع أفضل من ثلاث، وخمس وسط بين ذلك.
وكذا قال إسحاق: يسبح من ثلاث إلى سبع.
وقالت طائفة، يستحب للإمام أن يسبح خمساً ليدرك من خلفه ثلاثاً، هكذا قال ابن المبارك وسفيان الثوري وإسحاق وبعض أصحابنا.
ومنهم من قال: يسبح من خمس إلى عشر.
وقال بعض أصحابنا: يكره للإمام أن ينقص عن أدنى الكمال في الركوع والسجود، ولا يكره للمنفرد؛ ليتمكن المأموم من سنة المتابعة.
ولأصحابنا وجه: أنه لا يزيد على

(7/179)


ثلاث.
وذكر القاضي أبو يعلى في ((الأحكام السلطانية)) : أن الإمام المولى إقامة الحج بالناس ليس له أن ينفر في النفر الأول، بل عليه أن يلبث بمنى، وينفر في اليوم الثالث؛ ليستكمل الناس مناسكهم.
وقال أصحاب الشافعي: لا يزيد الإمام على ثلاث تسبيحات –ومنهم من قال: خمس -، إلا أن يرضى المأمون بالتطويل، ويكونون محصورين لا يزيدون.
وهذا خلاف نص الشافعي في الإمام، فإنه نص على أنه يسبح ثلاثاً، ويقول مع ذلك ما قاله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث علي الذي سبق ذكره. قال: وكل ما قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ركوعٍ أو سجودٍ أحببت أن لا يقصر عنه، إماماً كان أو منفرداً، وهو تخفيف لا تثقيل.
واختلف أصحابنا في [ ... ] الكمال في التسبيح: هل هو عشر تسبيحات، أو سبع؟
ولهم وجهان آخران في حق المنفرد:

(7/180)


أحدهما: يسبح بقدر قيامه.
والثاني: ما لم يخف سهواً.
وخرَّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أنس، قال: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشبه صلاة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من هذا الفتى – يعني: عمر بن عبد العزيز –قال: فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات.
ولو لم يسبح في ركوعه ولا سجوده، فقال أكثر الفقهاء: تجزئ صلاته، وهو قول مالك وأبي حنيفة والثوري والشافعي وغيرهم.
وقال أحمد – في ظاهر مذهبه – وإسحاق: إن تركه عمداً بطلت صلاته، وإن تركه سهواً وجب عليه أن يجبره بسجدتي السهو.
وقالت طائفة: هو فرض لا يسقط في عمدٍ ولا سهوٍ، وحكى رواية عن أحمد، وهو قول داود، ورجحه الخطابي، وقد روى الحسن والنخعي ما يدل عليه، وهو قول يحيى بن يحيى، علي بن دينارٍ من

(7/181)


أئمة المالكية.
قال القرطبي: وقد تأوله المتأخرون بتأويلات بعيدة.
ويستدل له بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة: ((إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة
القرآن)) .
وكذلك سمى الله الصلاة تسبيحاً، كما سماها قرآناً، فدل على أن الصلاة لا تخلو عن القرآن والتسبيح.
وعلى القول بالوجوب، فقال أصحابنا: الواجب في لركوع: ((سبحان ربي العظيم)) ، وفي السجود: ((سبحان ربي الأعلى)) ، لا يجزئ غير ذلك، لحديث ابن مسعود وعقبة، وقد سبقا.
وقال إسحاق: يجزئ كل ما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تسبيح وذكر ودعاء وثناء.

(7/182)


وهو قياس مذهبنا في جواز جميع أنواع الاستفتاحات والتشهدات الواردة في الصلاة.
وفي ((المسند)) وغيره، عن أبي ذر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام ذات ليلة بآية يرددها، بها يقوم، وبها يركع، وبها يسجد. والاية {إن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ?وإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (المائدة:118) .
قال أصحاب الشافعي: يستحب أن يأتي بالتسبيح، ثم يقول بعده: ((اللهم، لك ركعت)) –إلى آخره. كما رواه علي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قالوا: فإن أراد الإقتصار على أحدهما، فالتسبيح أفضل.
قال بعضهم: والجمع بين التسبيح ثلاثاً، وهذا الذكر أفضل من الاقتصار على التسبيح، وزيادته على الثلاث.
وأما الدعاء في لركوع، فقد دل حديث عائشة الذي خرَّجه البخاري هاهنا على استحبابه، وعلى ذلك بوب البخاري هاهنا، وهو قول أكثر العلماء.
وروي عن ابن مسعود.
وقال مالك: يكره الدعاء في الركوع دون السجود، واستدل

(7/183)


بحديث علي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((أما الركوع، فعظموا فيه الرب، وأما السجود، فاجتهدوا فيه في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)) .
خرَّجه مسلم.
وروي، عن أحمد رواية، أنه قال: لا يعجبني الدعاء في الركوع والسجود في الفريضة.
قال بعض أصحابنا: وهي محمولة على الإمام إذا طول بدعائه على المأمومين أو نقص بدعائه ألتسبيح عن أدنى الكمال، فأما في غير هاتين الحالتين فلا كراهة فيه.
وفي ((صحيح مسلم)) ، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)) .
وفيه – أيضاً -، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في سجوده:
((اللهم أغفر ذنبي كله، دقه وجله، أوله وآخره، وعلانيته وسره)) .
وخرَّج النسائي من حديث ابن عباس، أنه صلى مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات

(7/184)


ليلة، فجعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في سجوده: ((اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً)) –وذكر الحديث بطوله.
وخَّرجه مسلم، وعنده: أنه قال: في صلاته، أو في سجوده –بالشك.
وفي ((المسند)) عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذات ليلة في سجوده: ((رب أغفر لي ما أسررت وما أعلنت)) .
وفيه: عنها –أيضاً -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذات ليلة في سجوده: ((رب أعط نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)) .

* * *

(7/185)


باب
القراءة في الركوع والسجود
بوب البخاري على هذا، ولم يخرج فيه شيئاً، وفيه أحاديث ليست على شرطه:
أشهرها: حديث علي، قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قراءة القرآن في الركوع والسجود.
خرَّجه مسلم.
وفي بعض الروايات: الاقتصار على ذكر الركوع.
وكذا رواه مالك، عن نافع، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن علي.
وقد خرَّجه مسلم من طريقه كذلك.

(7/186)


وفي إسناده اختلاف كثير، قد ذكر مسلم منه في ((صحيحه)) ستة أنواع، وذكر الدارقطني فيه أكثر من ذلك، ولم يرجح منه شيئاً.
والظاهر: أن البخاري تركه، لأنه رأى الاختلاف مؤثراً فيه.
وله طرق أخرى، عن علي:
خرَّجه النسائي من رواية أشعث، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، عن علي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرَّج مسلم –أيضاً – من رواية إبراهيم بن عبد الله بن معبد، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: كشف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر، فقال:
((أيها الناس، أنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو ترى له، ألا وأني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم)) .

(7/187)


وقد قال الإمام أحمد فيه: ليس إسناده بذاك.
وإبراهيم هذا وأبوه، لم يخّرج لهما البخاري شيئاً.
وأكثر العلماء على كراهة القراءة في الركوع والسجود، ومنهم من حكاه
إجماعاً.
وهل الكراهة للتحريم، أو للتنزيه؟ فيه اختلاف.
وحكى ابن عبد البر الإجماع على أنه لا يجوز.
ومذهب الشافعي وأكثر أصحابنا: أنه مكروه.
وهل تبطل به الصلاة، أو لا؟ فيه وجهان لأصحابنا. والأكثرون على أنها لا تبطل بذلك.
وللشافعية وجه: إن قرأ بالفاتحة خاصة بطلت، لأنه نقل ركنا إلى غير موضعه.
ورخصت طائفة في القراءة في الركوع والسجود.
روي عن أبي الدرداء، أنه كان يقرأ البقرة في سجوده.

(7/188)


وعن سليمان بن ربيعة، وعبيد بن عمير، والمغيرة.
وعن النخعي فيمن نسي الآية أو تركها، فذكرها وهو راكع، قال: يقرؤها وهو راكع.
وعن المغيرة، قال: كانوا يفعلون ذلك.
وسئل عطاء، عن القراءة في الركوع والسجود؟ فقال: رأيت عبيد بن عمير يقرأ وهو راكع في المكتوبة.
ورخص بعضهم في ذلك في النفل دون الفرض:
روى سليمان بن موسى، عن نافع، عن علي، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن القراءة في الركوع والسجود في الصلاة المكتوبة، فأما الصلاة في التطوع، فلا جناح.
خرَّجه الإسماعيلي.
وإسناده منقطع، فإن نافعاً إنما يرويه عن ابن حنين، عن أبيه، عن علي، كما سبق.
وآخر الحديث، لعله مدرج من قول بعض الرواة.
وسليمان بن موسى، مختلف فيه.
***
124 -

(7/189)


باب
ما يقول الإمام ومن خلفه
إذا رفع رأسه من الركوع

(7/190)


795 - حدثنا آدم: نا ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قال: ((سمع الله لمن حمده)) قال: ((اللهم، ربنا ولك الحمد)) ، وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا ركع وإذا رفع رأسه يكَّبر، وإذا قام من السجدتين قال: ((الله
أكبر)) .
قد خَّرج البخاري فيما تقدم، في ((باب: التكبير إذا قام من السجود)) ، من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث. عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول:
((سمع الله لمن حمده)) حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ((ربنا لك الحمد)) .
فتبين بذلك: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: ((سمع الله لمن حمده)) في حال رفعه، ثم إذا أنتصب واستوى قائماً يقول: ((ربنا لك الحمد)) .
وفي رواية سعيد المقبري، عن أبي هريرة المخرجة في هذا الباب: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قال: ((سمع الله لمن حمده)) قال: ((اللهم، ربنا ولك الحمد)) .
والمراد: أنه يصلها بها من غير فصل، وإن كانت الأولى في حال

(7/190)


الرفع، والثانية في حال القيام.
وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المأمومين أن يقولوا: ((ربنا ولك الحمد)) إذا قال الإمام:
((سمع الله لمن حمده)) ، وسيأتي الحديث بذلك -، فدل هذا كله على أن الإمام والمأمومين يشتركون في قول: ((ربنا ولك الحمد)) .
لكن من قال: أن المأموم يقول: ((سمع الله لمن حمده)) كالامام، يقول: أنه يقوله في حال رفعه، فإذا أنتصب قال: ((ربنا ولك الحمد)) كالإمام.
ومن قال: يقتصر المأموم على التحميد، قال: يأتي به في حال رفعه.
وسيأتي ذكر الاختلاف في ذلك فيما بعد – إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وقوله: ((وكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا ركع وإذا رفع رأسه يكَّبر)) يوهم أنه كان يكَّبر إذا رفع رأسه من الركوع، وليس المراد ذلك.
وقد حمله البيهقي على أن المراد: أنه كان إذا رفع رأسه من ركوعه، ثم اراد أن يسجد، كبر حينئذ للسجود.
ويحتمل أن المراد: أنه كان إذا رفع رأسه من السجود كبر؛ فإنه قد ذكر قبل ذلك ما كان يقوله إذا رفع رأسه من الركوع، وهو: ((اللهم، ربنا ولك الحمد)) ثم ذكر بعد ذلك ما كان يقوله إذا رفع من السجود، وهو التكبير.
***
125 -

(7/191)


باب
فضل: ((اللهم ربنا ولك الحمد))
796 -

(7/192)


حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن سميًّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد، فإنه من وافق قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) .
قد تقدم في الباب الماضي: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في حال رفعه من الركوع: ((سمع الله لمن حمده)) ، ثم يقول بعد إنتصابه منه: ((ربنا ولك الحمد)) ، فدل على أن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد، وهو قول الثوري والأوزعي والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد، وروي عن علي وأبي هريرة.
وأما مالك وأبو حنيفة، فعندهما: يقتصر الإمام على التسميع والمأموم

(7/192)


على التحميد؛ ظاهر حديث أبي هريرة هذا.
وحمل بعض أصحابهما حديث أبي هريرة السابق في الجمع بينهما على النافلة، وهو بعيد جداً.
وقد خرَّج مسلم في ((صحيحه)) : أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجمع بينهما إذا رفع رأسه من الركوع من حديث علي وابن أبي أوفى. ومن حديث حذيفة –أيضاً -، لكن في صلاة النافلة.
وفي هذا الحديث: الأمر للمأمومين أن يقولوا: ((اللهم ربنا ولك الحمد)) إذا قال: ((سمع الله لمن حمده)) ، فيجتمع الإمام والمأمومون في قول: ((ربنا ولك
الحمد)) .
واستدل بهذا من قال: أن المأموم لا يقول: ((سمع الله لمن حمده)) كالإمام، وهو قول مالك والثوري والأوزعي وأبي حنيفة وأحمد.
وروي عن أبي مسعود وأبي هريرة والشعبي.
وقالت طائفة: يجمع المأموم بين الأمرين - أيضاً -، فيسمع ويحمد.
وهو قول عطاء وأبي بردة وابن سيرين والشافعي وإسحاق؛ لعموم

(7/193)


قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صلوا كما رأيتموني اصلي)) .
وفيه حديثان صريحان في المأموم أنه يجمع بينهما، ولكنهما ضعيفان -: قاله البيهقي وغيره.
وروي – أيضاً – عن أبي موسى، وضعفه البيهقي – أيضاً -.
ومعنى قوله: ((سمع الله لمن حمده)) : استجاب الله لحامده كما استعاذ من دعاء لا يسمع، أي لا يستجاب؛ فكذلك يشرع عقب ذلك الاجتماع على حمد الإمام من الإمام ومن خلفه.
وظاهر هذا الحديث: يدل على أن الملائكة تحمد مع المصلين، فلهذا علل أمرهم بالتحميد بقوله: ((من وافق قوله قول الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه)) .
وفي حديث أبي موسى الأشعري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم، فإن الله تعإلى قال على لسان نبيه: سمع الله لمن حمده)) .
خرَّجه مسلم.

(7/194)


وفي حديث أبي هريرة المخَّرج في هذا الباب: ((اللهم، ربنا لك الحمد)) بغير واو.
وفي حديث أبي هريرة المخرج في الباب قبله: ((اللهم، ربنا ولك الحمد)) – بالواو.
وفي رواية أخرى عن أبي هريرة –سبق تخريجها -: ((ربنا لك الحمد)) بغير
واو.
وفي روايات آخر: ((ربنا ولك الحمد)) - بالواو.
وكله جائز، وأفضله عند مالك وأحمد: ((ربنا ولك الحمد)) بالواو.
وقال أحمد: روى الزهري فيه ثلاثة أحاديث عن أنس بن مالك، وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وعن سالم عن أبيه.
يعني: كلها بالواو.
وقال في حديث علي الطويل: ((ولك الحمد)) .
وحديث علي، خرَّجه مسلم.
وقد ذكر الأصمعي أنه سال أبا عمرو عن الواو في قوله: ((ربنا ولك الحمد)) . فقال: هي زائدة.
وذكر غيره أنها عاطفة على محذوف، تقديره: ربنا أطعناك وحمدناك

(7/195)


ولك
الحمد.
قال أصحابنا: فإن قال: ((ربنا ولك الحمد)) فالأفضل أثبات الواو، وإن زاد في أولها: ((اللهم)) فالأفضل إسقاطها، ونص عليه أحمد في رواية حرب؛ لأن أكثر أحاديثها كذلك، ويجوز إثباتها، لأنه ورد في حديث أبي هريرة، كما خرَّجه البخاري في الباب الماضي.
وذهب الثوري والكوفيون إلى أن الافضل: ((ربنا لك الحمد)) بغير واو.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
***

126 -

(7/196)


باب
القنوت

(7/197)


797 - حدثنا معاذ بن فضالة: نا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: لأقربن لكم صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخيرة من صلاة الظهر وصلاة العشاء، وصلاة الصبح، بعدما يقول: ((سمع الله لمن حمده)) فيدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار.

(7/197)


798 - حدثنا عبد الله بن أبي الأسود: نا إسماعيل، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: كان القنوت في المغرب والفجر.
ليس مقصود البخاري بهذا الباب ذكر القنوت؛ فإن القنوت قد أفرد له باباً في اواخر ((أبواب الوتر)) ، ويأتي الكلام عليه في موضعه – إن شاء الله سبحانه وتعالى.
إنما مراده بتخريج هذين الحديثين في هذا الباب: أن المصلي يشرع له بعد أن يقول: ((سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد)) أن يدعو، ولا يقتصر

(7/197)


على التسميع والتحميد خاصة.
وقد وردت أحاديث صريحة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أنه كان يزيد في الثناء على التسميع والتحميد، ولم يخرجها البخاري، فإنها ليست على شرطه، وخرَّج مسلم كثيراً منها.
فخَّرج من حديث عليٍ، أنه وصف صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكر فيها: قال: وإذا رفع من الركوع قال: ((اللهم، ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد)) .
وفي رواية أخرى له: ((سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد)) –إلى آخره.
وخرَّج –أيضاً – من رواية قيس بن سعد، عن عطاء، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: ((اللهم، ربنا ولك الحمد، ملء السموات وملء الارض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، لامأنع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولاينفع ذا الجد منك الجد)) .
وخرَّج –أيضاً - من حديث الاعمش، عن عبيد بن الحسن، عن ابن أبي أوفى، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع ظهره من الركوع قال: ((سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات وملء

(7/198)


الارض، وملء ما شئت من شيء بعد)) .
وخَّرجه من حديث شعبة، عن عبيد، عن ابن أبي اوفى، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو بهذا الدعاء، ولم يذكر فيه: رفع رأسه من الركوع.
ورجح الإمام أحمد رواية شعبة، وقال: اظن الأعمش غلط فيه.
يعني: في ذكره: أنه كان يقوله بعد رفع رأسه من الركوع.
وقد بين ذلك أبو داود في ((سننه)) ، وبسط القول فيه.
وفي رواية لمسلم زيادة: ((اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الوسخ)) .
وليس في هذه الرواية: ذكر رفع رأسه من الركوع –أيضاً.
وخرَّج مسلم –أيضاً - من حديث قزعة، عن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع قال: ((ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الارض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجدُ)) .
وفي إسناده بعض اختلاف، وروي مرسلاً.
وفي الباب أحاديث أخر، ليست أسانيدها بالقوية.

(7/199)


وقد أستحب الشافعي وإسحاق قول هذه الاذكار المروية بعد التسميع والتحميد في الصلاة المكتوبة وغيرها.
ولم يستحب الكوفيون الزيادة على التسميع والتحميد في الصلاة المكتوبة، وحملوا ما ورد في الزيادة عليها على صلاة النافلة.
وظاهر مذهب الإمام أحمد: أن الإمام والمنفرد يقول كل منهما بعد التحميد: ((ملء السموات والارض)) ، إلى قوله: ((من شيء بعد)) في الصلاة المفروضة وغيرها.
وأما المأموم فيقتصر على قول: ((ربنا ولك الحمد)) .
قيل لأحمد: فيزيد –يعني الإمام والمنفرد – على هذا، فيقول: ((أهل الثناء
والمجد)) ؟ قال: قد روي ذلك، وأما أنا فاني أقول إلى ((ملء ما شئت من شيء بعد)) –يعني: لا يزيد عليه.
وحكي عن أحمد رواية أخرى: أنه يستحب قولها في المكتوبة – أيضاً -،
وهي إختيار أبي حفص العكبري.
ومن أصحابنا من قال: من أكتفى في ركوعه وسجوده بأدنى الكمال من التسبيح لم يستحب له الزيادة على ذلك، ومن زاد على ذلك

(7/200)


في التسبيح أستحب له قولها؛ لتقع أركان الصلاة متناسبةً في طولها وقصرها، وحمل فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها وتركه على مثل ذلك.
وعن أحمد رواية: أن المأموم يستحب له أن يأتي بالتحميد وما بعده من الدعاء، كالإمام والمنفرد، غير أنه لا ياتي بالتسميع، ورجحها بعض أصحابنا المتأخرين.
قال البخاري –رحمه الله -:
799 -

(7/201)


حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالكٍ، عن نعيم بن عبد الله المجمر، عن علي بن يحيى بن خلادٍ الزرقي، عن أبيه، عن رفاعة بن رافع الزرقي، قال: كنا يوماً نصلي وراء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما رفع رأسه من الركعة قال: ((سمع الله لمن حمده)) فقال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. فلما أنصرف قال: ((من المتكلم؟)) قال: أنا. قال: ((رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها، أيهم يكتبها أول)) .
قوله: ((أول)) روي على وجهين: بضم اللام وفتحها. فالضم على أنه صفة لأي.
وقد سبق نحوه في قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي هريرة: ((لقد ظننت أن لا يسألني أحد أول منك)) .
و ((

(7/201)


البضع)) : ما بين الثلاث إلى التسع، في الأشهر.
وقال أبو عبيدة: ما بين الثلاث إلى الخمس. وقيل غير ذلك.
وقد قيل في مناسبة هذا العدد: أن هذه الكلمات المقولة تبلغ حروفها بضعاً وثلاثين حرفاً، فكان الملائكة ازدحموا على كتابتها ورضوا أن يكتب كل واحد منهم حرفاً منها.
وفي هذا نظر؛ فأنه ليس في الحديث ما يدل على أنهم توزعوا كتابتها.
وقد دل الحديث على فضل هذا الذكر في الصلاة، وأن المأوم يشرع له الزيادة على التحميد بالثناء على الله عز وجل، كما هو قول الشافعي وأحمد –في رواية -، وأن مثل هذا الذكر حسنٌ في الاعتدال من الركوع في الصلوات

(7/202)


المفروضات؛ لأن الصحابة –رضي الله عنهم – أنما كانوا يصلون وراء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلوات المفروضة غالباً، وأنما كانوا يصلون وراءه التطوع قليلاً.
وفيه - أيضاً -: دليل على أن جهر المأموم أحيانا وراء الإمام بشيء من الذكر غير مكروه، كما أن جهر الإمام أحياناً ببعض القراءة في صلاة النهار غير مكروه.
وقد سبق ذكر الجهر مستوفى.
***

127 -

(7/203)


باب
الاطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع
وقال أبو حميد: رفع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستوى حتى يعود كل فقار مكانه.
هكذا في كثير من النسخ: ((الاطمأنينة)) . وفي بعضها ((الاطمأنينة)) وقيل: أنه الصواب، والمراد بها السكون.
وحديث أبي حميد قد خرَّجه فيما بعد، وذكر أن بعضهم رواه ((كل قفار)) بتقديم القاف على الفاء.
والصواب الرواية الأولى بتقديم الفاء.
ومنه: سمي سيف العاص بن منبه السهمي الذي نفله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر لعلي حين قتل صاحبه يومئذٍ.
و ((الفقار)) جمع فقارة، وهو خرزات الصلب، ويقال لها: الفقرة والفَقرة –بالكسر والفتح.
خَّرج البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث:
الحديث الأول:
800 -

(7/204)


ثنا أبو الوليد: ثنا شعبة، عن ثابت، قال: كان أنس ينعت لنا صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فكان يصلي، وإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول: قد نسي.
وخَّرجه في موضع آخر من حديث حماد بن زيد، عن ثابت، قال:

(7/204)


قال لنا أنس: أني لا ألو أن اصلي بكم كما رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بنا. قال حماد: قال ثابت: وكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع أنتصب قائماً، حتى يقول القائل: قد نسي.
ففي هذا الحديث: دليل على أن الرفع من الركوع ينتصب فيه حتى يعتدل قائماً، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي علمه الصلاة: ((ثم أرفع حتى تعتدل قائماً)) .
وأكثر العلماء على أن الرفع من الركوع ركن من اركان الصلاة، وهو قول الشافعي وأحمد.
وقال أبو حنيفة ومالك –في رواية عنه -: ليس بركن، فلو ركع ثم سجد
أجزأه.
وهذا يرده فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمره بالاعتدال.
والطمأنينة في هذا الاعتدال ركن –أيضاً - عند الشافعي وأحمد وأكثر أصحابهما.
ومن الشافعية من توقف في ذلك؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أمرنا بالاعتدال

(7/205)


دون
الطمأنينة.
والصحيح: أن الطمأنينة فيه ركن، وهو قول الأكثرين، منهم: الثوري والأوزعي وأبو يوسف وإسحاق.
وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالطمأنينة في الجلوس بين السجدتين، فالطمأنينة في الرفع من الركوع مثلها.
وقد روي من حديث رفاعة بن رافع، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم المسئ في صلاته، وأمره أن يرفع حتى يطمئن قائماً.
خرَّجه الإمام أحمد وغيره.
وقد سبق قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود)) .
وخرَّج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده)) .
ومن حديث طلق بن علي الحنفي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معناه.
وحديث طلق أصح من حديث أبي هريرة.
وفيه: دليل على استحباب اطالة ركن الرفع من الركوع، ولا سيما مع

(7/206)


إطالة الركوع والسجود، حتى تتناسب أركان الصلاة في القدر.
وذهب بعض الشافعية إلى أن من اطال ذلك فسدت صلاته؛ لأنه غير مقصود لنفسه، بل للفصل بين الركوع والسجود.
وهذا قول مردود؛ لمخالفته السنة.
الحديث الثاني:
801 -

(7/207)


ثنا أبو الوليد: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن البراء، قال: كان ركوع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسجوده، وإذا رفع رأسه من الركوع، وبين السجدتين قريباً من السواء.
هذا الحديث صريح في إطالة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للرفع من الركوع والسجود، وأن رفعه منهما كان قريباً من ركوعه وسجوده، فدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يناسب بين أركان الصلاة وهي الركوع والسجود والرفع منهما، ويقارب بين ذلك كله، فإن أطال منها شيئا اطال الباقي، وإن أخف منها شيئاً أخف الباقي.
ويستدل بذلك على تطويل الرفع من الركوع والسجود في صلاة الكسوف، كما سيأتي ذكره في موضعه – إن شاء الله سبحانه وتعالى.
الحديث الثالث:
802 -

(7/207)


ثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن

(7/207)


أبي قلابة، قال: قام مالك بن الحويرث يرينا كيف كان صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك في غير وقت الصلاة، فقام فأمكن القيام، ثم ركع فأمكن الركوع، ثم رفع رأسه فأنصت هنية. قال: فصلى بنا صلاة شيخنا هذا: أبي بريد، وكان أبو بريد إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة أستوى قاعداً، ثم نهض.
قوله: ((فأنصت)) –يعني من الإنصات، والمعنى: أنه سكت هنية بعد رفع رأسه من الركوع، والمراد بإنصاته: أنه لم يجهر بذكر يسمع منه، لا أنه لم يقل شيئاً في نفسه.
ويروى: ((فأنتصب)) من الإنتصاب، وهو القيام.
وقوله: ((هنَّية)) ، هو بالياء المشددة بغير همز، ويروى

(7/208)


بالهمز، ويروى
((هنيهة)) بهاءين، والكل بمعنى، وهو تصغير ((هنَّة)) ، وهي كلمة يكنى بها عن
الشيء، أي: شيئاً قليلاً من الزمان.
وفي هذا الحديث: أن قيامه بعد الركوع كان قليلاً، بخلاف ما دل عليه حيديث أنس، لعل سائر أركان الصلاة كانت خفيفة، فناسب ذلك تقصير القيام من الركوع، ويكون حديث أنس في حالة يطيل فيه الركوع والسجود.
وحديث البراء بن عازب يدل على هذا الجمع؛ فأنه يدل على أن ركوعه واعتداله وسجوده وقعوده من سجوده كان متقاربا.
وقوله: ((صلاة شيخنا هذا أبي بريد)) ، يريد به: عمرو بن سلمة الجرمي، وسلمة بكسر الام.
ووقع في عامة الروايات: ((يزيد)) –بالياء المثناة والزاي المعجمة.
وقال مسلم: إنما هو: أبو بريد –بالباء الموحدة والراء المهملة.
قال عبد الغني بن سعيد: لم أسمع من أحد إلا بالزاي، لكن مسلم أعلم باسماء المحدثين.
وكذا ذكره الدارقطني وأبو ذر الهروي كما ذكره مسلم.
وكذا ضبطه أبو نصر الكلاباذي بخطه.

(7/209)


وذكر ابن ماكولا أنه أبو بريد – بالباء والراء -، ثم قال، وقيل: أبو يزيد.
***

128 -

(7/210)


باب
يهوي بالتكبير حين يسجد
وقال نافع: كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه.
بوب على أن التكبير للسجود يكون في حال الهوي إلى الأرض بالسجود.
وذكر فيه أحكاماً أخرى من أحكام السجود.
فأما التكبير في حال الهوي، فروي عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة.
وكان عبد الله بن يزيد الخطمي يهوي بالتكبير، فكانه في أرجوحة حتى يسجد.
وقال النخعي: كبر وأنت تهوي، وأنت تركع.
يشير إلى أن التكبير للركوع يكون –أيضاً - في حال الهوي إليه كالسجود.
والهوي: هو السقوط والأنخفاض، وهو بتشديد الياء، وأما الهاء فمضمومة. وقيل: بفتحها: ثم قيل: هما لغتان. وقيل: بل هو بالضم

(7/211)


الصعود، وبالفتح النزول.
وقال بعض أصحابنا: يكون تكبير الخفض والرفع والنهوض ابتداؤه مع ابتداء الأنتقال، وأنتهاؤه مع أنتهائه، فإن كمله في جزء من الانتقال، ولم يستوعبه به أجزأه، لأنه لم يخرج به عن محله، وأن شرع فيه قبله أو كمله بعده، فوقع بعضه خارجاً منه، فهو كتركه، لأنه لم يكمله في محله، فهو كمن تمم قراءته في الركوع.
قال: هذا هو قياس المذهب.
قال: ويحتمل أن يعفى عن ذلك؛ لأن التحرز منه يعسر، والسهو به يكثر، ففي ابطال الصلاة بعمده، وإيجاب السجود لسهوه مشقة.
وقال أصحاب الشافعي: يبتدئ تكبير الركوع قائماً، ويمده إلى أن يصل إلى حد الراكع.
قالوا: هذا هو الذي نص عليه الشافعي في ((الأم)) . وقطع به العراقيون.
وحكى الخراسانيون قولين: أحدهما: هذا. قالوا: وهو الجديد.

(7/212)


والثاني –وهو القديم -: لا يديم التكبير بل يسرع به.
قالوا: والقولان جاريان في جميع تكبيرات الأنتقالات: هل تحذف، أم تمد حتى يصل إلى الذكر الذي بعدها؟ والصحيح: المد.
وقالوا في تكبير السجود: أنه يشرع به من حين يشرع في الهوي، ولم يقولوا: أنه يبتدئه قائماً، كما قالوا في تكبير الركوع، وهو خلاف نص الشافعي؛ فإنه حكوا عنه أنه قال في ((الأم)) : أحب أن يبتدئ التكبير قائماً وينحط مكانه ساجداً. قال: وأن أخر التكبير عن ذلك - يعني: عن الإنحطاط -، أو كبر معتدلاً، أو ترك التبكير كرهت ذلك. أنتهى.
وهذا يدل على أن تأخير التكبير عن الأنحطاط وتقديمه عليه كتركه.
وممن رأى التكبير في الهوي للسجود وغيره. مالك والثوري وأحمد وغيرهم.
وأما ما ذكره البخاري، عن نافع –تعليقاً -، قال: كان ابن عمر يضع يديه

(7/213)


قبل ركبتيه.
فخَّرج ابن خزيمة في ((صحيحه)) والدارقطني من رواية أصبغ بن الفرج، عن الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، إنه كان يضع يديه قبل ركبتيه، وقال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل ذلك.

(7/214)


وخَّرجه الحاكم والبيهقي من رواية محرز بن سلمة، عن الدراوردي، به.
وقال البيهقي: ما أراه إلا وهماً – يعني: رفعه.
وقد رواه ابن أخي ابن وهب، عن عمه، عن الدراوردي كذلك.
وقيل: أن أشهب رواه عن الدراوردي كذلك.
ورواه أبو نعيم الحلبي، عن الدراوردي، فوقفه على ابن عمر.
قال الدارقطني: وهو الصواب.
وروى عن ابن عمر خلاف ذلك؛ روى ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يضع ركبتيه إذا سجد قبل يديه، ويرفع يديه إذا رفع قبل ركبتيه.
خرَّجه ابن أبي شيبة.

(7/215)


وروى شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر، قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد يضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه.
خرَّجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن.
وخَّرجه الحاكم، وصححه.
وهو مما تفرد به شريك، وليس بالقوي.
وخَّرجه أبو داود من طريق همام، عن محمد بن جحادة، عن عبد الجبار بن
وائل، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال همام: ونا عاصم بن كليب، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(7/216)


بمثله.
فهذا الثاني مرسل، والأول منقطع، لأن عبد الجبار بن وائل لم يدرك أباه.

(7/217)


وفي الباب أحاديث أخر مرفوعة، لا تخلو من ضَّعف.
وروي في عكس هذا من حديث أبي هريرة، ولا يثبت –أيضاً -، وأجود طرقه: من رواية محمد بن عبد الله بن حسن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل
ركبتيه)) .
خرَّجه أبو داود والنسائي والترمذي مختصراً، وقال: غريب.
وقال حمزة الكناني: هو منكر.
ومحمد راويه، ذكره البخاري في ((الضعفاء)) ، وقال: يقال: ابن حسن، ولا يتابع عليه، ولا أدري سمع من أبي الزناد، أم لا؟
فكأنه توقف في كونه محمد بن عبد الله بن حسين بن حسن الذي خرج بالمدينة على المنصور، ثم قتله المنصور بها.

(7/218)


وزعم حمزة الكناني، أنه محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان الذي يقال له: الديباج، وهو بعيد.
واختلفت العلماء في الساجد: هل يضع ركبتيه قبل يديه، أم يديه قبل ركبتيه؟ فقال الأكثرون: يضع ركبتيه قبل يديه.
قال الترمذي:

(7/219)


وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله.
وهو قول مسلم بن يسار، وأبي قلابة، وابن سيرين، والنخعي والثوري، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال حجاج، عن أبي إسحاق: كان أصحاب عبد الله إذا أنحطوا للسجود وقعت ركبهم قبل أيديهم.
وكره النخعي أن يضع يديه قبل ركبتيه، وقال: هل يفعله إلا مجنون؟!
وقالت طائفة: يبدأ بيديه قبل ركبتيه، وهو مروي عن الحسن، وقد روي عن ابن عمر كما تقدم، وحكي رواية عن أحمد.
ومن أصحابنا من خصها بالشيخ الكبير والضعيف خاصة، وهو أصح.
وقال الأوزاعي: أدركت الناس يصنعونه.
وهو قول مالك. وروي عنه، أنهما سواء.

(7/220)


وقال قتادة: فيضع أهون ذلك عليه.
خَّرج البخاري في هذا الباب حديثين:
الحديث الأول:
803 -

(7/221)


نا أبو اليمان: أنا شعيب، عن الزهري: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة كان يكَّبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها في رمضأن وغيره، فيكبر حين يقوم، ثم يكَّبر حين يركع، ثم يقول: ((سمع الله لمن حمده)) ، ثم يقول: ((ربنا ولك الحمد)) قبل أن يسجد، ثم يقول:
((الله اكبر)) حين يهوي ساجداً، ثم يكَّبر حين يرفع رأسه من السجود، ثم يكَّبر حين يسجد، ثم يكَّبر حين يرفع رأسه من السجود، ثم يكَّبر حين يقوم من الجلوس في الاثنين، ويفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ

(7/221)


من الصلاة، ثم يقول حين ينصرف: والذي نفسي بيده، أني لأقربكم شبهاً بصلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا.

(7/222)


804 - قالا: وقال أبو هريرة، وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين يرفع رأسه يقول:
((سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد)) يدعو لرجال، فيسمهم باسمائهم، فيقول:
((اللهم، أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفون من المؤمنين، اللهم، اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف)) . وأهل المشرق يومئذ من مضر، مخالفون له.
مقصوده من هذا الحديث في هذا الباب: التكبير للسجود حين يهوي ساجداً، وقد فعله أبو هريرة، وذكر أن هذه الصلاة كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى فارق
الدنيا.
وقد خرَّجه مختصراً فيما تقدم من رواية مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وحده.
ومن رواية عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن وحده.

(7/222)


وفي هذه الرواية زيادة القنوت بعد الركوع؛ للدعاء على المشركين، والدعاء للمستضعفين من المؤمنين.
فأما القنوت، فيأتي الكلام عليه في موضعه – إن شاء الله تعالى.
وأما تسمية الرجال المدعو لهم وعليهم في الصلاة، فجائز عند أكثر العلماء، منهم: عروة والأوزاعي والشافعي وأحمد وغيرهم، وروي عن أبي الدرداء.
وكرهه عطاء والنخعي وأحمد – في رواية.
وعند الثوري وأبي حنيفة: أن ذلك كلام يبطل الصلاة.
واستدل لهم بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صرف أصحابه عن سلامهم في التشهد على جبريل وميكائيل، وأمرهم أن يسلموا على عباد الله الصالحين عموماً.
ولا حجة في ذلك؛ لأنه إنما قصد جوامع الكلم واختصاره.
وسيأتي ذلك في موضع أخر – إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وقوله: ((وأهل المشرق من مضر مخالفون له)) ، يريد: قبائل من مضر، كانوا مشركين، وكانت اقامتهم بأرض نجد وما والاها؛ لأن ذلك

(7/223)


مشرق المدينة، ولهذا قال له عبد القيس – عند قدوم وفدهم عليه -: بيننا وبينك هذا الحي من مضر، ولن نصل إليك إلا في شهر حوام، وكان عبد القيس يسكنون بالبحرين.
وروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال فيهم: ((هم خير أهل المشرق)) .
الحديث الثاني:

(7/224)


805 - نا علي بن عبد الله: نا سفيان –غير مرة -، عن الزهري، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سقط رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن فرس – وربما قال سفيان: من فرس -، فجحش شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة، فصلى بنا قاعداً فقعدنا – وقال سفيان مرة: صلينا قعوداً -، فلما قضى الصلاة قال: ((أنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كَّبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فأرفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فأسجدوا)) .
كذا جاء به معمر؟ قلت: نعم. قال:

(7/224)


لقد حفظ كذا قال الزهري: ((ولك الحمد)) ، حفظت منه ((شقه الأيمن)) ، فلما خرجنا من عند الزهري، قال ابن جريج – وأنا عنده -: ((فجحش ساقة الأيمن)) .
هذا الحديث خرَّجه البخاري عن شيخه علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة، وذكر أن سفيان لما حدثه به سأله: أهكذا جاء معمر؟ فقال ابن المديني: نعم، فقال سفيان: لقد حفظ، فاثتنى ابن عيينة على معمر بالحفظ حيث وافقه على رواية هذا الحديث عن الزهري.
وذكر ابن عيينة: أن الزهري قال في هذا الحديث: ((ولك الحمد)) –يعني: بالواو -، وأنه حفظ منه: ((فجحش شقه الأيمن)) ، فلما خرجوا من عند الزهري قال لهم ابن جريج: إنما هو ((فجحش ساقه الأيمن)) .
والمقصود من إيراد هذا الحديث في هذا الباب: أن سجود المأموم يكون عقيب سجود الإمام، وكذلك سائر افعاله تكون عقيب أفعال الإمام.
وقد تقدم الكلام على ذلك مستوفى، وعلي بقية فوائد هذا الحديث، من الصلاة خلف الجالس، وهل يصلي من خلفه من قعود أو قيام؟ بما فيه كفاية – إن شاء الله سبحانه وتعالى.
***

129 -

(7/225)


باب
فضل السجود

(7/226)


806 - حدثنا أبو اليمان: نا شعيب، عن الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي، أن أبا هريرة أخبرهما، أن الناس قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: ((هل تمارون في القمر ليلة البدر، ليس دونه سحاب؟)) قالوا: لا يا رسول الله. قال: ((هل تمارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟)) قالوا: لا، قال: ((فإنكم ترونه كذلك، يحشر الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فياتيهم الله، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فاذا جاء ربنا عرفناه، فياتيهم الله عز وجل فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيدعوهم، ويضرب

(7/226)


الصراط بين ظهرأني جهنم، فأكون أول من يجوز من الرسل بامته، ولا يتكلم يومئذٍ أحد إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رايتم شوك السعدان؟)) قالوا، نعم. قالَ: ((فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله، ومنهم من يخردل، ثُمَّ ينجو، حتَّى إذا أراد الله رحمة من اراد من أهل النار، أمر الله عز وجل الملائكة أن يخرجوا من النار من كانَ يعبد الله، فيخرجونهم، ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله عز وجل على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله النار إلا اثر السجود، فيخرجون من النار قد امنحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل
السيل)) .
وذكر بقية الحديث في آخر من يدخل الجنة، وقد خرَّجه بتمامه – أيضاً - في
((كتاب التوحيد)) ، ويأتي في موضعه - أن شاء الله سبحانه وتعالى -، فإن هذا القدر من الحديث فيه

(7/227)


ها هنا كفاية.
فأما ما يتعلق برؤية الله عز وجل يوم القيامة من اول الحديث، فقد سبق الكلام على ألفاظه ومعانيه في ((مواقيت الصلاة)) في ((باب: فضل صلاة العصر)) ، وفي
((باب: فضل صلاة الفجر)) ، فلا حاجة إلى أعادتها هاهنا.
وفي الحديث: دليل على أن المشركين الذين كانوا يعبدون في الدنيا من دون الله ألهة يتبعون ألهتهم التي كانوا يعبدون يوم القيامة، فيردنهم النار، كما قال تعإلى في حق فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ?} [هود:98] .
ويبقى من كان يعبد الله وحده ظاهراً، مؤمناً كان أو منافقاً، فهؤلاء ينظرون من كانوا يعبدونه في الدنيا، وهو الله وحده لا شريك له.
ففي هذا الحديث: أن الله يأتيهم أول مرة فلا يعرفونه، ثم يأتيهم في المرة الثانية فيعرفونه.
وفي الحديث السابق اختصار، وقد ساقه في مواضع أخر بتمامه.
وقد دل القرآن على ما دل عليه هذا الحديث في مواضع، كقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ?} [البقرة:210] . وقال: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:
158] ،

(7/228)


وقال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} [الفجر:22] .
ولم يتأول الصحابة ولا التابعون شيئاً من ذلك، ولا أخرجوه عن مدلوله، بل روي عنهم؛ يدل على تقريره والإيمان به وامراره كما جاء.؟

(7/228)


وقد روي عن الإمام أحمد، أنه قال في مجيئه: هو مجيء أمره.
وهذا مما تفرد به حنبل عنه.
فمن أصحابنا من قال: وهم حنبل فيما روى، وهو خلاف مذهبه المعروف المتواتر عنه.
وكان أبو بكر الخلال وصاحبه لا يثبتان بما تفرد به حنبل، عن أحمد رواية.
ومن متأخريهم من قال: هو رواية عنه، بتأويل كل ما كان من جنس المجيء والإتيان ونحوهما.
ومنهم من قال: إنما قال ذلك إلزاماً لمن ناظره في القرآن، فأنهم استدلوا على خلقه بمجيء القرآن، فقال: إنما يجيء ثوابه، كقوله: {وجاء ربك} ، أي: كما تقولون أنتم في مجيء الله، أنه مجيء أمره.
وهذا أصح المسالك في هذا المروي.
وأصحابنا في هذا على ثلاث فرق:
فمنهم من يثبت المجيء والإتيان، ويصرح بلوازم ذلك في المخلوقات، وربما ذكروه عن أحمد من وجوه لا تصح أسانيدها عنه.
ومنهم من يتأول ذلك على مجيء أمره.

(7/229)


ومنهم من يقر ذلك، ويمره كما جاء، ولا يفسره، ويقول: هومجيء وإتيان يليق بجلال الله وعظمته سبحانه.
وهذا هو الصحيح عن أحمد، ومن قبله من السلف، وهو قول إسحاق وغيره من الأئمة.
وكان السلف ينسبون تأويل هذه الآيات والأحاديث الصحيحة إلى الجهمية؛ لأن جهماً وأصحابه أول من أشتهر عنهم أن الله تعالى منزه عما دلت عليه هذه النصوص بأدلة العقول التي سموها أدلة قطعية هي المحكمات، وجعلوا ألفاظ الكتاب والسنة هي المتشابهات فعرضوا ما فيها على تلك الخيالات، فقبلوا ما دلت على ثبوته بزعمهم، وردوا مادلت على نفيه بزعمهم، ووافقهم على ذلك سائر طوائف أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم.
وزعموا أن ظاهر ما يدل عليه الكتاب والسنة تشبيه وتجسيم وضلال، واشتقوا من ذلك لمن آمن بما أنزل الله على رسوله اسماء ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي افتراء على الله، ينفرون بها عن الإيمان بالله ورسوله.
وزعموا أن ما ورد في الكتاب والسنة من ذلك – مع كثرته وأنتشاره – من باب التوسع والتجوز، وأنه يحمل على مجازات اللغة المستبعدة، وهذا من أعظم أبواب القدح في الشريعة المحكمة المطهرة، وهو من جنس حمل الباطنية نصوص الإخبار عن الغيوب كالمعاد والجنةوالنار على التوسع والمجاز دون الحقيقة، وحملهم نصوص الامروالنهي على مثل ذلك،

(7/230)


وهذا كله مروق عن دين الإسلام.
ولم ينه علماء السلف الصالح وأئمة الإسلام كالشافعي وأحمد وغيرهما عن الكلام وحذروا عنه، إلا خوفاً من الوقوع في مثل ذلك، ولو علم هؤلاء الأئمة أن حمل النصوص على ظاهرها كفر لوجب عليهم تبيين ذلك وتحذير الأمة منه؛ فإن ذلك من تمام نصيحة المسلمين، فكيف كان ينصحون الأمة فيما يتعلق بالاحكام العملية ويدعون نصيحتمهم فيما يتعلق بأصول الاعتقادات، هذا من أبطل الباطل.
قال أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي: سمعت عبد الرحمن بن محمد بن جابر السلمي يقول: سمعت محمد بن عقيل بن الأزهر الفقيه يقول: جاء رجل إلى المزني يسأله عن شيء من الكلام، فقال: أني أكره هذا، بل أنهي عنه، كما نهى عنه الشافعي؛ فإني سمعت الشافعي يقول: سئل مالك عن الكلام والتوحيد، فقالَ مالك: محال أن يظن بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه علم أمته الإستنجاء ولم يعلمهم التوحيد، فالتوحيد ما قاله النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:

(7/231)


لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم)) ، فما عصم الدم والمال فهو حقيقة التوحيد. أنتهى.
وقد استوفينا الكلام على ذلك في أوائل ((كتاب العلم)) في الكلام على أول الواجبات.
وقد صح عن ابن عباس أنه أنكر على من أستنكر شيئاً من هذه النصوص، وزعم أن الله منزه عما تدل عليه:
فروى عبد الرزاق في ((كتابه)) عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: سمعت رجلاً يحدث ابن عباس بحديث أبي هريرة: ((تحاجت الجنة والنار)) ، وفيه:
((فلا تمتلي حتى يضع رجله)) –أو قال: ((قدمه – فيها)) .
قال: فقام رجل فانتفض، فقال ابن عباس: ما فرق هؤلاء، يجدون رقة عند محكمة، ويهلكون عند متشابهه.
وخَّرجه إسحاق بن راهويه في ((مسنده)) عن عبد الرزاق.
ولو كان لذلك عنده تأويل لذكره للناس ولم يسعه كتمانه.
وقد قابل هؤلاء المتكلمين طوائف آخرون، فتكلموا في تقرير هذه النصوص بأدلة عقلية، وردوا على النفاة، ووسعوا القول في ذلك،

(7/232)


وبينوا أن لازم النفي التعطيل
المحض.
وأما طريقة أئمة أهل الحديث وسلف الامة: فهي الكف عن الكلام في ذلك من الطرفين، وإقرار النصوص وإمرارها كما جاءت، ونفي الكيفية عنها والتمثيل.
وقد قال الخطابي في ((الأعلام)) : مذهب السلف في أحاديث الصفات:
الإيمان، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها.
ومن قال: الظاهر منها غير مراد، قيل له: الظاهر ظاهران: ظاهر يليق ببالمخلوقين ويختص بهم، فهو غير مراد، وظاهر يليق بذي الجلال والإكرام، فهو مراد، ونفيه تعطيل.
ولقد قال بعض أئمة الكلام والفلسفة من شيوخ الصوفية، الذي يحسن به الظن المتكلمون: إن المتكلمين بالغوا في تنزيه الله عن مشابهة الأجسام، فوقعوا في تشبيهه بالمعاني، والمعاني محدثة كالأجسام، فلم يخرجوا عن تشبيهه بالمخلوقات.
وهذا كله إنما أتى من ظن أن تفاصيل معرفة الجائز على الله والمستحيل عليه يؤخذ من أدلة العقول، ولا يؤخذ مما جاء به الرسول.
وأما أهل العلم والايمأن، فيعلمون أن ذلك كله متلقى مماجاء به الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأن ما جاء به من ذلك عن ربه فهو الحق الذي لا مزيد عليه، ولا عدول عنه، وأنه لا سبيل لتلقي الهدى إلا منه، وأنه ليس في

(7/233)


كتاب الله ولا سنة رسوله الصحيحة ما ظاهرة كفر أو تشبيه، أو مستحيل، بل كل ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله، فإنه حق وصدقٍ، يجب اعتقاد ثبوته مع نفي التمثيل عنه، فكما أن الله ليس كمثله شيء في ذاته، فكذلك في صفاته.
وما أشكل فهمه من ذلك، فإنه يقال فيه ما مدح الله الراسخين من أهل العلم، أنهم يقولون عند المتشابهات: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا?} [آل عمران:7] .
وما أمر به رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في متشابه الكتاب، أنه يرد إلى عالمه، والله يقول الحق ويهدي السبيل.
وكلمة السلف وأئمة أهل الحديث متفقة على أن آيات الصفات وأحاديثها الصحيحة كلها تمر كما جاءت، من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطيل.
قال أبو هلال: سأل رجل الحسن عن شيء من صفة الرب عز وجل، فقال: أمروها بلا مثال.
وقال وكيع: أدركت إسماعيل بن أبي خالد وسفيان ومسعراً يحدثون بهذه الأحاديث، ولا يفسرون شيئاً.
وقال الأوزاعي: سُئل مكحول والزهري عن تفسير هذه الأحاديث، فقالا: أمرها على ما جاءت.
وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي ومالكاً وسفيان وليثاً

(7/234)


عن هذه الأحاديث التي فيها الصفة والقرآن، فقالوا: أمروها بلا كيف.
وقال ابن عيينة: ما وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره، ليس لأحد أن يفسره إلا الله عز وجل.
وكلام السلف في مثل هذا كثير جداً.
وقال أشهب: سمعت مالكاً يقول: إياكم وأهل البدع، فقيل: يا أبا عبد الله: وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان.
خرّجه أبو عبد الرحمن السُلمي الصوفي في كتاب ((ذم الكلام)) .
وروى – أيضاً - بأسانيده ذم الكلام وأهله عن مالك، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وابن مهدي، وأبي عبيد، والشافعي، والمزني، وابن خزيمة.
وذكر ابن خزيمة النهي عنه عن مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبي حنيفة وصاحبيه وأحمد وإسحاق وابن المبارك ويحيى بن يحيى ومحمد بن يحيى الذهلي.
وروى –أيضاً – السلمي النهي عن الكلام وذمه عن الجنيد وإبراهيم الخواص.
فتبين بذلك أن النهي عن الكلام إجماع من جميع أئمة الدين من المتقدمين من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية، وأنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم من أئمة المسلمين.

(7/235)


ومن جملة صفات الله التي نؤمن بها، وتمر كما جاءت عندهم: قوله تعالى:
{وَجَاءَ رَبُّكَ?والْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} [الفجر:22] ونحو ذلك مما دل على إتيانه ومجيئه يوم القيامة.
وقد نص على ذلك أحمد وإسحاق وغيرهما.
وعندهما: أن ذلك من أفعال الله الاختيارية التي يفعلها بمشيئته واختياره.
وكذلك قاله الفضيل بن عياض وغيره من مشايخ الصوفية أهل المعرفة.
وقد ذكر حرب الكرماني أنه أدرك على هذا القول كل من أخذ عنه العلم في البلدان، سمى منهم: أحمد وإسحاق والحميدي وسعيد بن منصور.
وكذلك ذكره أبو الحسن الأشعري في كتابه المسمى بـ – الإبانة -، وهو من أجل كتبه، وعليه يعتمد العلماء وينقلون منه، كالبيهقي وأبي عثمان الصابوني وأبي القاسم ابن عساكر وغيرهم.
وقد شرحه القاضي أبو بكر ابن الباقلاني.
وقد ذكر الأشعري في بعض كتبه أن طريقة المتكلمين في الاستدلال على قدم الصانع وحدوث العالم بالجواهر والأجسام والأعراض محرمة عند علماء المسلمين.
وقد روي ذم ذلك وإنكاره ونسبته إلى الفلاسفة عن أبي حنيفة.
وقال ابن سريج: توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين: الشهادتان،

(7/236)


وتوحيد أهل الباطن من المسلمين: الخوض في الأعراض والأجسام، وإنما بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإنكار ذلك.
خرّجه أبو عبد الرحمن السلمي.
وكذلك ذكره الخطابي في رسالته في - الغنية عن الكلام وأهله -.
وهذا يدل على أن ما يؤخذ من كلامه في كثير من كتبه مما يخالف ذلك ويوافق طريقة المتكلمين فقد رجع عنه، فإن نفي كثير من الصفات إنما هو مبني على ثبوت هذه الطريقة.
قال الخطابي في هذه الرسالة في هذه الطريقة في إثبات الصانع: إنما هو شيء أخذه المتكلمون عن الفلاسفة، وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة، فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء، فأما مثبتوا النبوات، فقد أغناهم الله عن ذلك، وكفاهم كلفة المؤنة في ركوب هذه الطريقة المتعرجة التي لا يؤمن العنت على من ركبها، والإبداع والانقطاع على سالكها.
ثم ذكر أن الطريق الصحيحة في ذلك: الاستدلال بالصنعة على صانعها، كما تضمنه القرآن، وندب إلى الاستدلال به في مواضع، وبه تشهد الفطر السليمة
المستقيمة.

(7/237)


ثم ذكر طريقتهم التي استدلوا بها، وما فيها من الاضطراب والفساد والتناقض والاختلاف.
ثم قال: فلا تشغل –رحمك الله - بكلامهم، ولا تغتر بكثرة مقالاتهم؛ فأنها سريعة التهافت، كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازيه ويفارقه، فكل بكل معارض، وبعضهم ببعض مقابل.
قال: وإنما يكون تقدم الواحد منهم وفلجه على خصمه بقدر حظه من الثبات والحذق في صنعة الجدل والكلام، وأكثر ما يظهر به بعضهم على بعض إنما هو إلزام من طريق الجدل على أصول مؤصلة لهم، ومناقضات على مقالات حفظوها عليهم [ ... ] تقودها وطردها، فمن تقاعد عن شيء منها سموه من طريق [ ... ] وه مبطلاً، وحكموا بالفلج لخصمه عليه، والجدل لا يقوم به حق [ ... ] به حجة.
وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين، كلاهما باطل، ويكون الحق في ثالث غيرهما، فمناقضة أحدهما صاحبة غير مصحح مذهبه، وإن كان مفسداً به قول خصمه؛ لأنهما مجتمعان معاً في الخطأ، مشتركان فيهِ، كقول الشاعر:
حجج تهافتت كالزجاج تخالها ... حقاً، وكلٌ واهن مكسور

(7/238)


ومتى كان الأمر كذلك، فإن أحد من الفريقين لا يعتمد في مقالته التي نصرها أصلاً صحيحاً، وإنما هو أوضاع وأراء تتكافأ وتتقابل، فيكثر المقال، ويدوم
الاختلاف، ويقل الصواب، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ، فأخبر تعالى أن ما كثر فيه الاختلاف فليس من عنده، وهو من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين مذاهب فاسدة؛ لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي بهم إلى التكفير والتضليل.
وذكر بقية الرسالة، وهي حسنة متضمنة لفوائد جليلة، وإنما ذكرنا هذا القدر منها ليتبين به أن القواعد العقلية التي يدعي أهلها أنها قطعيات لا تقبل الاحتمال، فترد لأجلها –بزعمهم –نصوص الكتاب والسنة، وتصرف عن مدلولاتها، إنما هي عند الراسخين شبهات جهليات، لا تساوي سماعها، ولا قراءتها، فضلا عن أن يرد لأجلها ما جاء عن الله ورسوله، أو يحرف شيء من ذلك عن مواضعه.
وإنما القطعيات ما جاء عن الله ورسوله من الآيات المحكمات البينات، والنصوص الواضحات، فترد إليها المتشبهات، وجميع كتب الله المنزلة متفقة على معنى واحد، وإن ما فيها محكمات ومتشابهات، فالراسخون في العلم يؤمنون بذلك كله، ويردون المتشابهة إلى المحكم،

(7/239)


ويكلون ما أشكل عليهم فهمه إلى عالمه، والذين في قلوبهم ريع يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فيضربون كتاب الله بعضه ببعض، ويردون
المحكم، ويتمسكون بالمتشابه ابتغاء الفتنة، ويحرفون المحكم عن مواضعه، ويعتمدون على شبهات وخيالات لا حقيقة لها، بل هي من وسواس الشيطان وخيالاته، يقذفها في القلوب.
فأهل العلم وإلايمان يمتثلون في هذه الشبهات ما أمروا به من الاستعاذة بالله، والانتهاء عما ألقاه الشيطان، وقد جعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك من علامات الأيمان، وغيرهم فيصغون إلى تلك الشبهات، ويعبرون عنها بألفاظ مشتبهات، لا حرمة لها في نفسها، وليس لها معنىً يصح، فيجعلون تلك الألفاظ محكمة لا تقبل التأويل، فيردون كلام الله ورسوله إليها، ويعرضونه عليها، ويحرفونه عن مواضعه لأجلها.
هذه طريقة طوائف أهل البدع المحضة من الجهمية والخوارج والروافض والمعتزلة ومن أشبههم، وقد وقع في شيء من ذلك كثير من المتأخرين المنتسبين إلى السنة من أهل الحديث والفقه والتصوف من أصحابنا وغيرهم في بعض الأشياء دون بعض.
وأما السلف وأئمة أهل الحديث، فعلى الطريقة الأولى، وهي الأيمان بجميع ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو صح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أثبته له، مع نفي التمثيل والكيفية عنه، كما قاله ربيعة ومالك وغيرهما من

(7/240)


أئمة الهدى في الاستواء، وروي عن أم سلمة أم المؤمنين، وقال مثل ذلك غيرهم من العلماء في النزول، وكذلك القول في سائر الصفات، والله سبحانه وتعالى الموفق.
وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فأكون أول من يجوز بأمته)) حتى يقطع الجسر بأمته، وروي: ((يجيز)) ، وهما لغتان، يقال: جزت الوادي وأجزته، وهما بمعنى.
وعن الأصمعي، قال: أجزته: قطعته، وجزته: مشيت عليه.
وقوله: ((منهم الموبق بعمله)) –أي: الهالك.
وقوله: ((ومنهم المخردل)) ، هو بالدال المهملة والمعجمة -: لغتان مشهورتان، والمعنى: المقطع، والمراد –والله أعلم -: أن منهم من يهلك فيقع في النار، ومنهم من تقطعه الكلاليب التي على جسر جهنم، ثم لا ينجو ولا يقع في النار.
وقيل: معناه أنه ينقطع عن النجاة واللحاق بالناجين.
والمقصود من تخريج الحديث بطوله في هذا الباب: أن أهل التوحيد لا تأكل النار منهم مواضع سجودهم، وذلك دليل على فضل السجود عند الله وعظمته، حيث حرّم على النار أن تأكل مواضع سجود أهل التوحيد.
واستدل بذلك بعض من يقول: إن تارك الصلاة كافر؛ فإنه تأكله النار كله، فلا يبقى حاله حال عصاة الموحدين.

(7/241)


وهذا فيمن لم يصلِ لله صلاة قط ظاهر.
وقوله: ((امتحشوا)) أي: احترقوا، وضبطت هذه الكلمة بفتح التاء والحاء. وفي بعض النسخ بضم التاء وكسر الحاء.
و ((الحبة)) –بكسر الحاء – قال الأصمعي: كل نبت له حب فاسم جميع ذلك الحب: الحبة.
وقال الفراء: الحبة: بذور البقل.
وقال أبو عمرو: الحبة نبت ينبت في الحشيش صغار.
وقال الكسائي: الحبة بذر الرياحين، وأحدها حبة، وأما الحنطة فهو الحب لا غير –يعني: بالفتح.
و ((الحميل)) : ما حمله السيل من كل شيء، فهو حميل بمعنى محمول، كقتيل بمعنى مقتول.
ويأتي الكلام على باقي الحديث في موضع آخر – أن شاء الله تعالى.
***
30 -

(7/242)


باب
يبدي ضبعيه ويجافي في السجود

(7/243)


807 - ثنا يحيى بن بكير: حدثني بكر بن مضر، عن جعفر، عن ابن هرمز، عن عبد الله بن مالك بن بحينة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه.
وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة – نحوه.
((الضبع)) - بسكون الباء -: العضد. ويقال: الإبط.
وعن الأصمعي، قال: الضبعان ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاه.
وابن هرمز، هو: عبد الرحمن الأعرج.
ورواية الليث بن سعد التي ذكرها تعليقاً، أسندها مسلم في – صحيحه - من رواية ابن وهب: أنا عمرو بن الحارث والليث بن سعد، كلاهما عن جعفر بهذا
الإسناد.
وفي رواية عمرو: ((كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد يجنح في سجوده

(7/243)


حتى يرى وضح إبطيه)) .
وفي رواية الليث: ((أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد فرج يديه عن إبطيه حتى إني لأرى بياض إبطيه)) .
وفي استحباب التجافي في السجود أحاديث كثيرة، لم يخرج البخاري منها غير هذا.
والقول باستحبابه قول جمهور العلماء، وذكر الترمذي أن العمل عندهم عليه، وهذا يشعر بأنه إجماع منهم.
ولكن روى نافع، عن ابن عمر، أنه كان إذا سجد ضم يديه إلى جنبيه ولم يفرجهما.
وروى عنه ابنه واقد بن عبد الله، أن أباه كان يفرج بين يديه.
وروى عنه آدم بن علي، أنه أمر بذلك.
وقد حمل بعضهم ما رواه نافع على حالة التضايق والازدحام، وقد يحمل على حالة إطالة السجود، وعلى ذلك حمله إلاوزاعي وغيره.

(7/244)


وروي عن ابن عمر، قال: أسجد كيف تيسر عليك.
ورخص ابن سيرين في الاعتماد بمرفقيه على ركبتيه.
وقال قيس بن سكن: كل ذلك قد كانوا يفعلون، كان بعضهم يضم، وبعضهم يجافي.
فان أطال السجود ولحقته مشقة بالتفريج، فله أن يعتمد بمرفقيه على ركبتيه.
وقد روى ابن عجلان، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: أشتكى أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مشقة السجود عليهم إذا تفرجوا، فقال: ((استعينوا
بالركب)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي –وهذا لفظه - وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم.
وزاد هو والإمام أحمد: قال ابن عجلان: وذلك أن يضع مرفقيه على ركبتيه إذا طال السجود وأعيا.
ورواه الثوري وابن عيينة وغيرهما، عن سمي، عن النعمان بن أبي عياش، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً.
والمرسل أصح عند البخاري وأبي حاتم الرازي والترمذي

(7/245)


والدارقطني وغيرهم.
وقد روي – أيضاً - عن زيد بن أسلم –مرسلاً.
ورخص فيه عمر بن عبد العزيز وإلاوزاعي ومالك في النافلة.
وكذلك قال بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي.
والمنصوص عن أحمد في رواية حرب أنه لا يفعل، بل يجافي.
ومتى كان التجافي يضر بمن يليه في الصف للزحام فإنه يضم إليه من جناحه -: قاله إلاوزاعي.
وهذا في حق الرجل، فأما المرأة فلا تتجافى بل تتضام، وعلى هذا أهل العلم – أيضاً -، وفيه أحاديث ضعيفة.
وخرّج أبو داود في ذلك حديثاً مرسلاً في ((مراسيله)) .
***

131 -

(7/246)


باب
يستقبل بأطراف رجليه القبلة
قاله أبو حميد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
حديث أبي حميد، قد خرّجه البخاري فيما بعد، ولفظه: فإذا سجد وضع يديه، غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف رجليه القبلة، وسيأتي بتمامه في موضعه –إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وعلقه البخاري –أيضاً - فيما سبق في ((باب: فضل استقبال القبلة)) وذكرنا هناك الأحاديث وإلاثار في استقبال القبلة بأصابع اليدين والرجلين في السجود، وأن ابن عمر كان يفعله، وكذلك الإمام أحمد، ونص عليه الشافعي.
وخالف فيه بعض أصحابه، وقالوا: يضع أصابع رجليه من غير تحامل عليها.
ورده عليه صاحب ((شرح المهذب)) ، وقال: هذا شاذ مردود مخالف للأحاديث الصحيحة، ولنص الشافعي.
وخرّج البيهقي من حديث البراء بن عازب، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد فوضع يديه بإلارض استقبل بكفيه وأصابعه القبلة.
وفي رواية له –أيضاً -: وإذا سجد وجه أصابعه قبل القبلة

(7/247)


فتفلج.
وفي إلاسنادين مقال.
***

132 -

(7/248)


باب
إذا لم يتم سجوده

(7/249)


808 - ثنا الصلت بن محمد: ثنا مهدي، عن واصل، عن أبي وائل، عن
حذيفة، أنه رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته، قال له حذيفة: ما صليت – وأحسبه قال -: لو مت على غير سنة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قد تقدم هذا الحديث في ((باب: إذا لم يتم الركوع)) من وجه آخر عن
حذيفة، وفيه: لو مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير شك.
ويستدل بهذه الرواية على أن المراد بالفطرة السنة.
ومعنى إتمام الركوع والسجود: التمكن فيهما والطمأنينة. وسبق الكلام على ذلك.
***

133 -

(7/249)


باب
السجود على سبعة أعظم

(7/250)


809 - حدثنا قبيصة: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة أعضاء، ولا يكف شعراً، ولا ثوباً: الجبهة، واليدين، والركبتين، والرجلين.

(7/250)


810 - حدثنا مسلم بن إبراهيم: ثنا شعبة، عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((أُمرنا أن نسجد على سبعة أعظم، ولا نكف ثوباً، ولا شعراً)) .
811 -

(7/250)


حدثنا آدم: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن يزيد: قال البراء بن عازب – وهو غير كذوب -: كنا نصلي خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا قال: ((سمع الله لمن حمده)) . لم يحن أحد منا ظهره حتى يضع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جبهته على الأرض.

(7/250)


حديث البراء هذا، قد سبق في مواضع، وإنما خرجه هاهنا؛ لما فيه من ذكر سجود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جبهته.
فأما حديث ابن عباس، فقد خرجه هاهنا من طريق سفيان وشعبة، كلاهما عن عمرو بن دينار، وفي حديث سفيان: ذكر الأعضاء وعددها.
وللحديث طرق عن طاوس، يأتي بعضها – إن شاء الله.
وله طرق عن ابن عباس.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه متعدده، أصحها: حديث ابن عباس هذا.
وروى عامر بن سعد، عن العباس بن عبد المطلب، أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
((إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه، وكفاه، وركبتاه، وقدماه)) .
وقد عزاه غير واحد من الحفاظ إلى ((صحيح مسلم)) ، ولم نجده فيه.
وصححه الترمذي وأبو حاتم الرازي.
وقد روي هذا المعنى عن عمر وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة من قولهم.
قال أبو هريرة: يسجد من الإنسان سبعة:

(7/251)


وجهه، ويداه، وركبتاه، وأطراف أصابعة، كل ذلك بمنزلة الوجه، لا يرفع شيئا من ذلك.
خرّجه الجوز جاني.
وقال ابن سيرين: كانوا يستحبون السجود على هذه السبعة.
خرّجه ابن أبي شيبة.
وقال الترمذي: عليه العمل عند أهل العلم.
ولا خلاف في أن السجود على هذه الأعضاء هو السجود الكامل، واختلفوا في الواجب من ذلك:
فقالت طائفة: يجب السجود على جميعها، وهو أحد القولين للشافعي، ورجحه كثير من أصحابه، والصحيح المشهور عن أحمد، وعليه أصحابه، وأكثرهم لم يحك عنه فيه خلافا، وهو قول مالك وإسحاق وزفر، وحكى عن طاوس.
ويدل على هذا القول: هذه الأحاديث الصحيحة بالامر بالسجود على هذه الأعضاء كلها، والامر للوجوب.
وقالت طائفة: إنما يجب بالجبهة فقط، ولا يجب بغيرها، وهو القول الثاني للشافعي، وحكي رواية عن أحمد، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه.
والمنقول عن أحمد فيمن سجد ورفع أطراف أصابع قدميه من الأرض: أنه ناقص الصلاة، وتوقف في الإعادة على من صلى

(7/252)


وسجد وقد رفع إحدى رجليه، وقال: قد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أمرت أن أسجد على سبعة أعظم)) .
ورأى مسروق رجلاً ساجداً قد رفع رجليه أو إحداهما، فقال: أن هذا لم يتم صلاته.
وروي عن أحمد، أنه صلى وسجد ووضع ثلاث أصابع رجليه على الأرض.
قال القاضي أبو يعلي: ظاهر هذا: أنه يجزئه، يضع بعض أصابع رجليه.
ونقل إسماعيل بن سعيد، عن أحمد: إذا وضع من يديه على الأرض قدر الجبهة أجزأه.
قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر: وكذا من الرجلين.
وقال القاضي أبو يعلى: يجزئه أن يضع من يديه وجبهته على الأرض شيئاً، وإن قل.
ومن أصحابنا من حكى الإجماع على ذلك.
وهذا مخالف لرواية الشالنجي؛ فانها تدل على أنه لا يجزئ دون وضع الجبهة، وقدرها من الكفين.
وحكي عن ابن حامد من أصحابنا: أنه يجب استيعاب الكفين

(7/253)


بالسجود عليهما، وهو قول أبي خيثمة بن حرب.
وقال داود بن سلمان الهاشمي: إذا وضع أكثر كفيه أجزأه.
ومذهب الشافعي الذي عليه أكثر أصحابه، ونص عليه في ((إلام)) : أنه لو سجد على بعض جبهته كره، وأجزأه.
ولأصحابه وجه: لا يجزئه حتى يسجد على جميع الجبهة.

***

134 -

(7/254)


باب
السجود على الأنف

(7/255)


812 - حدثنا معلى بن أسد: ثنا وهيب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة)) – وأشار بيده على أنفه – ((واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب والشعر)) .
معنى ((نكفت)) –أي: نضم ونجمع، ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ إلاَرْضَ كِفَاتاً - أَحْيَاءً وأَمْوَاتاً} [المرسلات:25، 26] أي: نكفتهم ونضمهم ونجمعهم وهم أحياء على ظهرها، وإذا ماتوا ففي بطنها.
وفي هذه الرواية: أنه لما ذكر الجبهة أشار بيده إلى أنفه، وقد خرّجه مسلم من حديث وهيب، وخرّجه – أيضاً - من طريق ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((أمرت أن أسجد على سبع، ولا أكفت الشعر ولا الثياب: الجبهة وإلانف واليدين، والركبتين، والقدمين)) .

(7/255)


واستدل بهذا من يقول: أنه يجب السجود على الأنف مع الجبهة، وهو قول مالك وأحمد –في رواية عنهما – وإسحاق، وأختار هذه الرواية عن أحمد أبو بكر عبد العزيز وغيره من أصحابنا –وأبي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة.
وحكي قولاً للشافعي، رجحه بعض المتأخرين من أصحابه، إلا أنه خصه بحال الذكر.
وروي معناه عن طاوس والنخعي وسعيد بن جبير.
وروي عن ابن عمر، قال: السجود على الأنف تحقيق السجود.
وسئل طاوس: الأنف من الجبين؟ قال: هو خيره.
وروى عاصم، عن عكرمة، قال: رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يصلي لا يمس أنفه الأرض، قال: ((لا تقبل صلاة لا يمس فيها الأنف ما يمس الجبين)) .
وخرّجه الدارقطني والحاكم –موصولاً -، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(7/256)


وصحح الحاكم وصله، وصحح إلاكثرون إرساله، منهم: أبو داود في ((مراسيله)) والترمذي في ((علله)) والدارقطني وغيرهم.
وإلى ذلك يميل الإمام أحمد، وهو مرسل حسن.
ولو اقتصر على السجود على أنفه دون جبهته، لم يجزئه عند أحد من العلماء ممن أوجب السجود على الأنف، غير أبي حنيفة، وهي رواية عن الثوري، رواها عنه
حسان بن إبراهيم.

(7/257)


وقال كثير من العلماء: السجود على الأنف مستحب غير واجب، وروي عن الحسن والشعبي والقاسم وسالم، وهو قول الشافعي وسفيان وأحمد –في الرواية الثانية عنهما.
وحمل من قال بذلك حديث ابن عباس على الاستحباب دون الوجوب، قالوا: لأنه عد الأعضاء المأمور بالسجود عليها سبعاً، ولو كان الأنف معها لكانت ثمانياً.
وهذا مردود، فان الأنف من الجبهة، كما قال طاوس: هو خيرها.
وروي عنه، أنه كان يعد الأنف والجبهة واحداً.
فان قيل: فالجبهة لا يجب السجود على جميعها بإلاجماع، ولو وجب السجود على الأنف لوجب استيعابها بالسجود عليها.
قيل: هذا الإجماع غير صحيح، وقد سبق قول من قال بوجوب استيعابها بالسجود عليها.
ولكن؛ قد قيل: إن ذكر الأنف منها إنما هوَ من كلام طاوس -: قاله البيهقي وغيره.

(7/258)


وفي ((سنن ابن ماجه)) من رواية ابن عيينة، عن ابن طاوس هذا الحديث، وفيه: قال ابن طاوس: وكان أبي يقول: الركبتين واليدين والقدمين، وكان يعد الجبهة وإلانف واحداً.
كذا خرّجه عن هشام بن عمار، عن سفيان.
وخرّجه النسائي من طريق سفيان –أيضاً -، وعنده: قال سفيان: قال لنا ابن طاوس: وضع يديه على جبهته، وأمرها على أنفه، وقال: هذا واحد.
ورواه – أيضاً – الشافعي وابن المديني، عن ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه –بمعناه.
خرّجه البيهقي.
وقال: في حديث سفيان ما دل على أن ذكر الأنف في الحديث من تفسير
طاوس.
وخرّجه - أيضاً - من طريق إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد منه على سبع، قال ابن ميسرة: فقلت لطاوس: أرابت الأنف؟ قالَ: هوَ خيره.
وأيضاً؛ فقد قال: ((سبعة أعظم)) ، وطرف الأنف المسجود عليه ليس عظماً، فعلم أنه تابع لعظم الجبهة، وليس عضواً مستقلاً.
فلو تعذر السجود على الجبهة لعذر، وقدر على السجود على أنفه،

(7/259)


فهل يلزمه عند من لا يوجب السجود عليه؟ فيه قولان:
أحدهما: نعم، وينتقل الفرض إليه، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه والشافعي.
والثاني: لا ينتقل الفرض إليه، بل يومي بجبهته، ولا يلزمه السجود على أنفه، وهو قول مالك وأصحابنا، كما لا ينتقل فرض غسل اليدين والرجلين في الوضوء إلى موضع الحلية، إذا قدر على غسله، وعجز عن غسل اليدين والرجلين.
***

135 -

(7/260)


باب
السجود على الأنف في الطين

(7/261)


813 - حدثنا موسى: ثنا همام، عن يحيى، عن أبي سلمة، قال: انطلقت إلى أبي سعيد الخدري، فقلت: إلا تخرج بنا إلى النخل نتحدث؟ فخرج، فقلت: حدثني ما سمعت من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ليلة القدر؟ فقال: اعتكف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشر الأول من رمضان، واعتكفنا معه، فأتاه جبريل، فقال: ((أن الذي تطلب أمامك)) ، فأعتكف العشر الأوسط، فاعتكفنا معه، فأتاه جبريل، فقال: ((أن الذي تطلب أمامك)) ، فقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطيباً صبيحة عشرين من رمضان، فقال: ((من كان أعتكف مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليرجع؛ فأني أريت ليلة القدر وإني نسيتها، وإنها في العشر الأواخر في وتر، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء)) ، وكان سقف المسجد عريش النخل، وما نرى

(7/261)


السماء شيئاً، فجاءت قزعة، فامطرنا، فصلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأرنبته، تصديق رؤياه)) .
قال أبو عبد الله: كان الحميدي يحتج بهذا الحديث، إلا يمسح الجبهة في الصلاة، بل يمسحها بعد الصلاة، لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُئي الماء في أرنبته وجبهته بعد ما صلى.
قد خرّج البخاري هذا الحديث في أواخر ((الصيام)) من ((كتابه)) هذا من
طرق، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد، ليس في شيء منها ذكر اعتكاف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العشر الأول، إنما فيها اعتكافه في العشر الأوسط، ثم العشر الأواخر، ولم يخرج اعتكافه في العشر الأول في غير هذه الرواية هاهنا.
وقد خرّج ذلك مسلم في ((صحيحه)) من رواية عمارة بن غزية، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد –أيضاً.
ومقصود البخاري بهذا الحديث هاهنا: ذكر سجود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جبهته وأرنبة أنفه، وأنه سجد عليهما في الطين.
وأرنبة الأنف: طرفه.

(7/262)


وقد سبق ذكر السجود في الماء والطين، وما للعلماء في ذلك من الاختلاف والتفصيل، عند ذكر البخاري، عن ابن عمر، أنه صلى على الثلج في ((باب: الصلاة في المنبر والسطوح والخشب)) ، فلا حاجة إلى إعادته هاهنا.
وأما ما ذكره عن الحميدي، فقد بوّب عليه البخاري باباً منفرداً، وعاد فيه الحديث مختصرا، ويأتي في موضعه –إن شاء الله سبحانه وتعالى.
***
136 -

(7/263)


باب
عقد الثياب وشدها
ومن ضم إليه ثوبه إذا خاف أن تنكشف عورته

(7/264)


814 - حدثنا محمد بن كثير: أنا سفيان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: كان الناس يصلون مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاقدي أزرهم من الصغر على رقابهم، فقيل للنساء: لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوساً.
قد خرّج البخاري هذا الحديث فيما سبق في ((باب: إذا كان الثوب ضيقاً)) .
ومقصودة بتخريجه في هذا الباب: أن عقد الثياب وشدها وضمها في الصلاة إذا كان لضيق الثوب أو تخرقه خشية انكشاف العورة منه، فإنه جائز غير مكروه، فإذا كان عليه إزار صغير، فعقده على منكبه ليستر به منكبه وعورته فهو حسن.
واختلفت الرواية عن أحمد في كراهة شد الوسط في الصلاة، فكرهه في رواية، وقال: هو تشبه بأهل الكتاب، ورخص فيه في رواية.

(7/264)


فمن الأصحاب من قال: عنه في كراهته روايتان.
ومنهم من قال: هما منزلان على حالين: فإن كان يشبه شد الزنار كره، وإلا لم يكره، بل يستحب، خصوصاً لمن ليس عليه إزار ولا سراويل؛ لأنه أستر لعورته.
وقد نص أحمد على التفريق بينهما، وقال إسحاق بن هاني في ((مسائله)) : سألت أحمد عن الرجل يصلي مشدود الوسط؟ فقال: هو عندي أسهل، إذا كان يريد بشد وسطه أن لا يتترب ثوبه، فلا يصلي مشدود الوسط إلا أن يكون لعمل.
ومعنى هذه الرواية: إن شد وسطه خشية أن يصيبه التراب في سجوده كره له ذلك؛ لمّا فيهِ من التكبر، فان ترتيب المصلى بدنه وثيابه من الخشوع والتواضع لله
عز وجل، وان كان شده لغير ذلك من عمل يعمله لم يكره.
وفهم طائفة من أصحابنا من كلام أحمد عكس هذا، ولا وجه لذلك.
وقال الشعبي: كان يقال: شد حقوك في الصلاة ولو بعقال.
وقال يزيد بن الأصم وإبراهيم النخعي شد حقوك ولو بعقال.
وروى شعبة، عن يزيد بن خمير، عن مولى لقريش، قال: سمعت أبا هريرة يحدث معاوية، قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلي الرجل حتى

(7/265)


يحتزم.
خرّجه الإمام أحمد.
وخرّجه أبو داود، ولفظه: نهى أن يصلي الرجل بغير حزام واستدل به أحمد على أنه لا يكره شد الوسط في الصلاة.
***

127 -

(7/266)


باب
لا يكف شعراً

(7/267)


815 - حدثنا أبو اليمان: نا حماد –هو ابن زيد -، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يسجد على سبعة أعظم، ولا يكف
ثوبه، ولا شعره.
كف الشعر المنهي عنه، يكون تارة بعقصه، وتاره بإمساكه عن أن يقع على الأرض في سجوده، وكله منهي عنه.
أما الأول:
ففي ((صحيح مسلم)) عن كريب، أن ابن عباس رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسه معقوص من ورائه، فجعل يحله، وأقر له الأخر، فلما انصرف أقبل إلى ابن عباس، فقال: مالك ورأسي؟ فقال: إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف)) .
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان في ((

(7/267)


صحيحه)) من حديث أبي رافع، أنه مر بالحسن بن علي وهو يصلي، وقد عقص ضفيرته في قفاه، فحلها، فالتفت أليه الحسن مغضبا، فقال: أقبل على صلاتك ولا تغضب، فإني سمعت
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((ذلك كفل الشيطان)) .
وقال الترمذي: حديث حسن.
وخرّجه الإمام أحمد وابن ماجه من وجه آخر، عن أبي رافع، أنه رأى الحسن بن علي يصلي وقد عقص شعره، فاطلقه – أو نهى عنه -، وقال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يصلي الرجل وهو عاقص شعره.
وفي باب أحاديث أخر.
وممن نهى عن الصلاة مع عقص الشعر: علي وابن مسعود وأبو هريرة، وقالا: إن الشعر يستجد مع صاحبه.
زاد ابن مسعود: وله بكل شعرة حسنة.
وفي رواية: أن رجلاً قال لابن مسعود: إني أخاف أن يتترب، قال: تربه خير لك.
وعن عثمان بن عفان، قال: مثل الذي يصلي وقد عقص شعره مثل الذي يصلي وهو مكتوف.
وقطع حذيفة ضفيرة ابنه لما رآه يصلي وهو معقوص.

(7/268)


وأما الثاني:
فقال ابن سيرين: نبئت أن عمر بن الخطاب مر على رجل قد طوّل شعره، كلما سجد قال هكذا، فرفع شعره بظهور كفيه، فضربه، وقال: إذا طول أحدكم فليتركه يسجد معه.
وروى عبد الله بن محرر، عن قتادة، عن أنس، قال: رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يسجد وهو يقول بشعره هكذا بكفه بكفه عن التراب، فقال: ((اللهم، قبح شعره)) قال: فسقط.
خرّجه ابن عدي.
وابن محرر، ضعيف جداً من قبل حفظه، وكان شيخاً صالحاً.
قال الإمام أحمد: إذا صلى فلا يرفعن ثوبه ولا شعره ولا شيئاً من ذلك؛ لأنه يسجد.
وكف الشعر مكروه كراهة تنزيه عند أكثر الفقهاء، وحرمه طائفة من أهل الظاهر وغيرهم، وأختاره ابن جرير الطبري، وقال: لا إعادة على من فعله، لإجماع الحجة وراثة عن نبيها –عليه السلام - أن لا إعادة عليه.
وحكى ابن المنذر الإعادة منه عن الحسن.
ورخص فيه مالك إذا كان ذلك قبل الصلاة، لمعنى غير الصلاة، وسنذكره –إن شاء الله سبحانه وتعالى.
* * *
138 -

(7/269)


باب
لا يكف ثوبه في الصلاة

(7/270)


816 - حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا أبو عوانة، عن عمرو، عن طاوس عن أبن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، ولا أكف شعراً ولا ثوباً)) .
ظاهر تبويب البخاري: يدل على أن النهي عنده عن كف الثياب مختص بفعل ذلك في الصلاة نفسها، فلو كفها قبل الصلاة، ثم صلى على تلك الحال لم يكن منهياً عنه.
وهذا قول مالك، قال: إن كان يعمل عملاً قبل الصلاة فشّمر كمه أو ذيله، أو جمع شعره لذلك فلا بأس أن يصلي كذلك، كما لو كان ذلك هيئته ولباسه، وإن فعل ذلك للصلاة، وإن يصون ثوبه وشعره عن أن تصيبها الأرض كره؛ لأن فيه ضرباً من التكبر وترك الخشوع.
قال بعض أصحابنا: وقد أومأ إلى ذلك أحمد في رواية محمد بن الحكم، فقال: قلت لأحمد: الرجل يقبض ثوبه من التراب إذا ركع وسجد؛ لئلا يصيب ثوبه؟ قال: لا؛ هذا يشغله عن الصَّلاة.

(7/270)


قلت: ليس في هذه الرواية دليل على اختصاص الكراهة بهذه الصورة، إنما بها تعليل الكراهة في الصَّلاة بالشغل عنها، وقد تعلل كراهة استدامة ذلك في الصلاة بعلة أخرى، وهي سجود الشعر والثياب، كما صّرح به في رواية أخرى، وقد يعلل الحكم الواحد بعلتين، فكراهة الكف في الصلاة له علتان، وكراهة الكف قبل الصلاة واستدامته لها معلل بإحداهما.
وأكثر العلماء على الكراهة في الحالين، ومنهم: إلاوزاعي والليث وأبو حنيفة والشافعي، وقد سبق عن جماعة من الصحابة ما يدل عليه، منهم: عمر وعثمان وابن مسعود وحذيفة وابن عباس وأبو رافع وغيرهم.
وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى يحل شعره وينشره إذا أراد الصلاة، ويعقصه بعد ذلك.
وقال عطاء: لا يكف الشعر عن الأرض.
وظاهر تبويب البخاري: يدل على أن كف الشعر في الصلاة مكروه، سواء فعله في الصلاة أو قبلها ثم صلى كذلك، بخلاف كف الثوب، فإنه إنما يكره فعله في الصَّلاة خاصة؛ لما فيه من العبث.
والجمهور على التسوية بينهما.
وقد كره أحمد كف الخف في الصلاة، وجعلها من كف الثياب.

* * *

139 -

(7/271)


باب
التسبيح والدعاء في السجود

(7/272)


817 - حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن سفيان، قال: حدثني منصور، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم أغفر لي)) يتأول القرآن.
- قد تقدم هذا الحديث في ((باب: الدعاء في الركوع)) من حديث شعبة، عن منصور –بنحوه.
وفي هذه الرواية: زيادة ذكر الإكثار.
وفيها –أيضاً - أنه يتأول القرآن، والمراد: أنه يمتثل ما أمره الله به بقوله:
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] .
فتأويل القرآن، تارة يراد به تفسير معناه بالقول، وتارة يراد به امتثال أوامره بالفعل.
وبهذا يقال: من ارتكب شيئاً من الرخص لتأويل سائغ أو غيره: أنه فعله
متأولاً.
وقد سبق ذكر حكم التسبيح في السجود والدعاء فيه ((في باب: الدعاء في الركوع)) .

* * *
40 -

(7/272)


باب
المكث بين السجدتين
فيه ثلاثة أحاديث:
الأول:
818 -

(7/273)


حدثنا أبو النعمان: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، أن مالك بن الحويرث قال لأصحابه: إلا أنبئكم صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ - قالَ: وذلك في غير حين صلاة -، فقام، ثُمَّ ركع فكبرّ، ثُمَّ رفع رأسه، فقام هنية، ثُمَّ سجد، ثُمَّ رفع رأسه
هنية، فصلى صلاة عمرو بن سلمة، شيخنا هذا.
قال أيوب: كان يفعل شيئاً لم أرهم يفعلونه، كان يقعد في الثالثة أو الرابعة.

(7/273)


819 - قال: فأتينا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاقمنا عنده، فقال: ((لو رجعتم إلى أهاليكم، صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم)) .
قد سبق هذا الحديث في مواضع، تاماً ومختصراً.
والمراد منه في

(7/273)


هذا الباب: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد رفع رأسه هنية، والمراد: أنه يجلس بين السجدتين هنية، ثم يسجد السجدة الثانية.
الحديث الثاني:

(7/274)


820 - ثنا محمد بن عبد الرحيم: ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله الزبيري: ثنا مسعر، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء، قال: كان سجود النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركوعه وقعوده بين السجدتين قريباً من السواء.
الحديث الثالث:
821 -

(7/274)


ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: اني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بنا.
قال ثابت: كان أنس بن مالك يصنع شيئاً لم أركم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل: قد نسي، وبين السجدتين حتى يقول القائل: قد نسي.
وقد تقدمت هذه الأحاديث الثلاثة في ((باب: الرفع من الركوع)) .
وحكم الرفع من السجود والجلوس بين السجدتين حكم الرفع من الركوع، على ما سبق ذكره.
وذكرنا هنالك: أن تطويل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذلك في حديث أنس إنما كان حين يطيل القيام والركوع والسجود،

(7/274)


وأن تخفيفه كما في حديث مالك بن الحويرث كان إذا لم يطل القيام والركوع والسجود، وأن حديث البراء بن عازب يفسر ذلك، حيث قال: كان سجوده وركوعه وقعوده بين السجدتين قريباً من السواء.
ولم يخرج البخاري في الدعاء والذكر بين السجدتين شيئاً؛ فإنه ليس في ذلك شيء على شرطه.
وفيه: عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول بين السجدتين: ((اللهم، أغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني)) .
خرّجه أبو داود.
والترمذي؛ وعنده: ((وأجبرني)) بدل: ((عافني)) .
وابن ماجه، وعنده: ((وارفعني)) بدل: ((اهدني)) ، وعنده: أنه كان يقوله في صلاة الليل.
وفي إسناده كامل بن العلاء؛ وثقه ابن معين وغيره، وقال النسائي: ليس بالقوي، وتكلم فيه غير واحد.
وقد اختلف عليه في وصله وإرساله.

(7/275)


وقد روي هذا من حديث بريدة - مرفوعاً -، وإسناده ضعيف جداً.
وروي عن علي بن أبي طالب –موقوفاً عليه -، وعن المقدام بن معدي كرب.
وخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث حذيفة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول بين السجدتين: ((رب اغفر لي)) .
واستحب الإمام أحمد ما في حديث حذيفة، فإنه أصح عنده من حديث ابن عباس، وقال: يقول: ((رب اغفر لي)) ثلاث مرات، أو ما شاء.
ومن أصحابه من قال: يقولها مرتين فقط.
ومنهم من قال: يقولها ثلاثاً كتسبيح الركوع والسجود، وحمل حديث حذيفة أنه كان يكرر ذلك؛ فإن في حديثه: أن جلوسه بين السجدتين كان نحوا من سجوده.
وروي عن أكثر العلماء استحباب ما في حديث ابن عباس، منهم: مكحول والثوري وأصحاب الشافعي.
وقال إسحاق: كله جائز، وعنده: إن قال ما في حديث ابن عباس لم يكرره، وإن قال: ((رب اغفر لي)) كرره ثلاثاً.
وحكم هذا الذكر بين السجدتين عند أكثر أصحاب أحمد حكم

(7/276)


التسبيح في الركوع والسجود، وأنه واجب تبطل الصلاة بتركه عمداً، ويسجد لسهوه.
وروي عن أحمد، أنه ليس بواجب:
قال حرب: مذهب أحمد: أنه إن قال جاز، وإن لم يقل جاز، والأمر عنده واسع.
وكذا ذكر أبو بكر الخلال، أن هذا مذهب أحمد.
وهذا قول جمهور العلماء.
وحكي عن أبي حنيفة، أنه ليس بين السجدتين ذكر مشروع بالكلية.
وعن بعض أصحابه، أنه يسبح فيه.

* * *
141 -

(7/277)


باب
لا يفترش ذراعيه في السجود
وقال أبو حمُيد: سجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ووضع يديه، غير مفترش، ولا قابضهما.
حديث أبي حميد، قد خرّجه البخاري، وسيأتي بتمامه قريباً – إن شاء الله تعالى.

(7/278)


822 - حدثنا محمد بن بشار: ثنا محمد بن جعفر: ثنا شعبة، قال: سمعت قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب)) .
في هذا الإسناد: التصريح بالسماع من أوله إلى قتادة، وليس فيه تصريح بسماع قتادة له من أنس، وقتادة مدلس كما قد عرف.
وخرّجه الترمذي من طريق أبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن قتادة: سمعت أنساً.
وكذلك خرّجه النسائي من طريق خالد الواسطي، عن شعبة.

(7/278)


فصح اتصاله كله. ولله الحمد.
وفي النهي عن افتراش الذراعين في السجود أحاديث أخر:
وقد خرج مسلم من حديث عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع.
ومن حديث البراء، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا سجدت فضع يديك، وارفع مرفقيك)) .
وقد ذكر الترمذي أن العمل على هذا عند أهل العلم، يختارون الاعتدال في السجود.
وهذا يشعر بحكاية الإجماع عليه، وهو قول جمهور العلماء، وروي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر.
وفي ((المسند)) عن شعبة مولى ابن عباس، قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: أن مولاك إذا سجد وضع رأسه وذراعيه وصدره بالارض، فقال له ابن عباس: ما يحملك على ما تصنع؟ قال: التواضع. قال: هكذا ربضة الكلب، رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد رئي بياض إبطيه.

(7/279)


ولكن؛ روي عن ابن مسعود، أنه كان يفرش ذراعيه.
قال الإمام أحمد – في رواية ابنه عبد الله -: كان ابن مسعود يذهب إلى ثلاثة أشياء: إلى التطبيق، وإلى افتراش الذراعين، وإذا كانوا يقوم في وسطهم، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يجافي في السجود، ولم تبلغه هذه الآثار.
وروى ابن أبي شيبة منة غير وجه، عن ابن مسعود، أنه قال: اسجدوا حتى بالمرفق.
وبإسناده، عن الحكم بن الأعرج، قال: أخبرني من رأى أبا ذر مسوداً ما بين رصغه إلى مرفقه.
وقوله: ((اعتدلوا في السجود)) يريد به: اعتدال الظهر فيه، وذلك لا يكون مع افتراش الذراعين، إنما يكون مع التجافي.
وقول أبي حميد: ((ولا قابضهما)) ، يعني: أنه بسط كفيه، ولم يقبضهما.

* * *
142 -

(7/280)


باب
من استوى قاعداً في وتر من صلاته ثم نهض

(7/281)


832 - ثنا محمد بن الصباح: ثنا هشيم: أنا خالد، عن أبي قلابة: انا مالك بن الحويرث الليثي، أنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً.
وقد خرّجه في الباب الأتي من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن مالك، وفي حديثه: أنه جلس واعتمد على الأرض، ثم قام.
وقد سبق من وجه آخر بهذا الإسناد، وفيه: كان يقعد في الثالثة أو الرابعة.
وهذا لا معنى له؛ لأن قعوده في الرابعة لابد منه للتشهد.
وروى هذا الحديث أنيس بن سوار الحنفي، قال: حدثني أبي، قال: كنت مع أبي قلابة، فجاءه رجل من بني ليث، يقال له: مالك بن الحويرث، من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إلا أريكم كيف كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(7/281)


يصلي؟ قلنا: بلى، فصلى لنا ركعتين، فأوجز فيهما.
قال أبي: فاختلفت أنا وأبو قلابة، قال أحدنا: لزق بالارض، وقال الأخر: تجافى.
خرّجه الخلال في ((كتاب العلل)) .
وقال الإمام أحمد في حديث مالك بن الحويرث في الاستواء إذا رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الأولى، قال: هو صحيح، إسناده صحيح.
وقال –أيضاً -: ليس لهذا الحديث ثان.
يعني: أنه لم ترو هذه الجلسة في غير الحديث.
وهذا يدل على أن ما روي فيه هذه الجلسة من الحديث غير حديث مالك بن الحويرث، فانه غير محفوظ، فإنها قد رويت في حديث أبي حميد وأصحابه في صفة صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرّجه الإمام أحمد وابن ماجه.
وذكر بعضهم أنه خرّجه أبو داود والترمذي، وإنما خرّجا أصل الحديث، ولم نجد في ((كتابيهما)) هذه اللفظة.

(7/282)


والظاهر –والله أعلم -: إنها وهم من بعض الرواة، كرر فيه ذكر الجلوس بين السجدتين غلطاً.
وبعضهم ذكر سجوده، ثم جلوسه، ثم ذكر أنه نهض.
كذا في رواية الترمذي وغيره.
فظن بعضهم، أنه نهض عن جلوسٍ، وليس كذلك، إنما المراد بذلك الجلوس: جلوسه بين السجدتين، ولم يذكر صفة الجلسة الثانية لاستغنائه عنها بصفة الجلسة
الأولى.
وقد خرج أبو داود حديث أبي حميد وأصحابه من وجه آخر، وفيه: أنه
سجد، ثم جلس فتورك، ثم سجد، ثم كبر فقام ولم يتورك.
وهذه الرواية صريحة في أنه لم يجلس بعد السجدة الثانية.
ويدل عليه: أن طائفة من الحفاظ ذكروا أن حديث أبي حميد ليس فيه ذكر هذه الجلسة.
واستدل بعضهم –أيضاً - بالحديث الذي خرّجه البخاري في ((صحيحه)) هذا في ((كتاب الاستئذان)) و ((أبواب السلام)) في ((باب من رد فقال: عليك السلام)) ، خرج فيه حديث المسيء في صلاته، من رواية ابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد المقبري، عن أبي

(7/283)


هريرة، أن رجلاً دخل المسجد فصلى، ثم جاء فسلم - فذكر الحديث بطوله، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ((إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم أقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم أسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) .
قال: وقال أبو أسامة في الأخير: ((حتى تستوي قائماً)) .
يعني: أنه ذكر بدل الجلوس: القيام.
ثم خرّج من حديث يحيى القطان، عن عبيد الله، عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((ثم ارفع حتى تطمئن جالساً)) .
يعني: أنه وافق ابن نمير في ذكر الجلوس.
فهذه اللفظة قد اختلف فيها في حديث أبي هريرة هذا، فمن الرواة من ذكر أنه أمره بالجلوس بعد السجدتين، ومنهم من ذكر أنه أمره بالقيام بعدهما، وهذا هو ألاشه؛ فإن هذا الحديث لم يذكر أحد فيه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه شيئاً من سنن الصلاة المتفق عليها، فكيف يكون قد أمره بهذه الجلسة؟ هذا بعيد جداً.
ثم وجدت البيهقي قد ذكر هذا، وذكر أن أبا أسامة اختلف عليه في ذكر هذه الجلسة الثانية بعد السجدتين. قال: والصحيح

(7/284)


عنه: أنه قال بعد ذكر السجدتين: ((ثم ارفع حتى تستوي قائماً)) .
قال: وقد رواه البخاري في ((صحيحه)) عن إسحاق بن منصور، عن أبي أسامة – وذكر رواية ابن نمير، ولم يذكر تخريج البخاري لها، ولم يذكر يحيى بن سعيد في روايته السجود الثاني، ولا ما بعده من القعود أو القيام.
قال: والقيام أشبه بما سيق الخبر لأجله من عد الأركان دون السنن. والله أعلم.
قلت: وهذا يدل على أن ذكر الجلسة الثانية غير محفوظة عن يحيى.
وفي حديث يحيى بن خلاد الزرقي، عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه علم المسيء في صلاته، وقال له بعد أن أمره بالسجود، ثم بالقعود، ثم بالسجود، فقال له: ((ثم قم)) .
وخرّجه الإمام أحمد بهذا اللفظ.
واستدل به على أنه لا يجلس قبل قيامه.
وخرّجه الترمذي –أيضاً -، وحسنه.
مع أن حديث رفاعة هذا فيه

(7/285)


تعليم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهذا المسيء أشياء من مسنونات الصلاة.
وقد روي في حديث رفاعة هذا: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ((ثم انهض قبل أن تستوي قاعداً)) .
خرّجه الحافظ أبو محمد الحسن بن علي الخلال.
ولكن إسناده ضعيف.
وخرج الإمام أحمد من حديث شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، أن أبا مالك الأشعري جمع قومه، فقال: اجتمعوا أعلمكم صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر
الحديث، وفيه: أنه صلى بهم، وذكر صفة صلاته، وقال فيها: ثم كبرّ وخر ساجداً، ثم كبر فرفع رأسه، ثم كبر فسجد، ثم كبر فانتهض قائماً، فلما قضى صلاته قال: احفظوا؛ فإنها صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرج أبو داود بعض الحديث، ولم يتمه.
وفي جلسة الاستراحة: حديث عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -، قال: إذا رفع أحدكم رأسه من السجد الثانية فليلزق اليتيه بالارض، ولا يفعل كما تفعل الإبل؛ فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((ذَلِكَ توقير الصَّلاة)) .
خرّجه العقيلي من رواية أبي خالد القرشي، عن علي بن الحزور، عن ألاصبغ بن نباته، عن علي.

(7/286)


وهذا إسناد ساقط، والظاهر: أن الحديث موضوع، وأبو خالد، الظاهر: أنه عمرو بن خالد الواسطي، كذاب مشهور بالكذب، وعلي بن الحزور، قال ابن معين: لا يحل لأحد أن يروي عنه، وإلاصبغ بن نباته، ضعيف جداً.
وهذه الجلسة تسمى جلسة الاستراحة، وأكثر الأحاديث ليس فيها ذكر شيء من ذلك، كذا قاله الإمام أحمد وغيره.
وقد اختلف العلماء في استحبابها في الصلاة:
فقالت طائفة: هي مستحبة. وهو قول حماد بن زيد والشافعي –في أشهر قوليه - وأحمد –في رواية عنه، ذكر الخلال: أن قوله استقر عليها، واختارها الخلال وصاحبة أبو بكر بن جعفر.
وقال إلاكثرون: هي غير مستحبة، بل المستحب إذا رفع رأسه من السجدة الثانية أن ينهض قائماً، حكاه أحمد عن عمر وعلي وابن مسعود، وذكره ابن المنذر عن ابن عباس.
وذكر بإسناده، عن النعمان بن أبي عياش، قال: أدركت

(7/287)


غير واحد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة – أول ركعة والثالثة – قام كما هو ولم يجلس.
وروي - أيضاً - عن أبي ريحانة صاحب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروي معناه عن ابن عمر – أيضاً.
خرجهما حرب الكرماني.
وقال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم.
وممن قال ذلك: عبادة بن نسي وأبو الزناد والنخعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي – في أحد قوليه – وأحمد – في المشهور من مذهبه عند عامة أصحابه.
ومن أصحابنا وأصحاب الشافعي من قال: هي مستحبة لمن كبر وثقل بدنه؛ لأنه يشق عليه النهوض معتمدا على ركبته من غير جلسة.
وحمل أبو إسحاق المروزي القولين للشافعي على اختلاف حالين، لا على اختلاف قولين، وحملوا حديث مالك بن الحويرث على مثل ذلك، وان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقعد أحيانا لمّا كبر وثقل بدنه؛ فإن وفود العرب إنما وفدت على النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في آخر
عمره.
ويشهد لذلك، أن أكابر الصحابة المختصين بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكونوا يفعلون ذلك في صلاتهم، فدل على أنهم علموا أن ذلك ليس

(7/288)


من سنن الصلاة مطلقاً.
وروى حرب الكرماني، عن إسحاق بن راهويه روايتين:
أحداهما: تستحب جلسة الاستراحة لكل أحد.
والثانية: لا تستحب إلا لمن عجز عن النهوض عن صدر قدميه.
وهي رواية ابن منصور، عن إسحاق –أيضاً.
ومن لم يستحب هذا الجلوس بالكلية، قال: إنه من الأفعال المباحة التي تفعل في الصلاة للحاجة إليها، كالتروح لكرب شديد، ودفع المؤذي، ونحو ذلك مما ليس بمسنون، وإنما هو مباح.

* * *
143 -

(7/289)


باب
كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة

(7/290)


824 - حدثنا معلى بن أسد: حدثنا وهيب، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: جاءنا مالك بن الحويرث، فصلى بنا في مسجدنا هذا، فقال: إني لأصلي بكم ولا أريد
الصلاة، لكني أريد أن أريكم كيف رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي.
قال أيوب: فقلت لأبي قلابة: وكيف كانت صلاته؟ قال: مثل صلاة شيخنا هذا - يعني: عمرو بن سلمة.
قال أيوب: وكان ذلك الشيخ يتم التكبير، وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض، ثم قام.
هذه الرواية ليست صريحة في رفع الاعتماد على الأرض بخصوصه؛ لان فيها أن صلاة عمرو بن سلمة مثل صلاة مالك بن الحويرث، وصلاة مالك مثل صلاة النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس ذلك تصريحاً برفع جميع حركات الصلاة، فان الممائلة تطلق كثيراً ولا يراد بها التماثل من كل وجه، بل يكتفي فيها بالممائلة من بعض الوجوه، أو أكثرها.
لكن رواية الثقفي، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة – بنحوه، وقال فيه: كان مالك إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة في الركعة الأولى، فاستوى

(7/290)


قاعداً قام واعتمد على الأرض.
خرّجه النسائي وغيره.
وقد اختلف العلماء في القائم إلى الركعة الثانية من صلاة: كيف يقوم؟ فقالت طائفة: يعتمد بيديه على الأرض، كما في حديث مالك بن الحويرث هذا.
وروي عن عطاء، وقال: يتواضع لله عز وجل.
وهو من رواية ابن لهيعة، عنه.
وهو قول مالك والشافعي وإسحاق.
وروي عن أحمد، أنه كان يفعله، وتأوله القاضي أبو يعلى وغيره على أنه فعله لعجز وكبر.
وقد روي عن كثير من السلف، أنه يعتمد على يديه في القيام إلى الركعة
الثانية، منهم: عمر وعبادة بن نسي وعمر بن عبد العزيز ومكحول والزهري – وقال: هو سنة الصلاة -، وهو قول إلاوزاعي وغيره، ورخص فيه قتادة.
وقالت طائفة: ينهض على صدور قدميه، ولا يعتمد على يديه، بل يضعهما على ركبتيه، صح ذلك عن ابن مسعود، وروي عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، أنه قال: هو من سنة الصلاة، وعن ابن عمر –أيضاً - وابن عباس وأبي سعيد الخدري وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي

(7/291)


ليلى، وهو قول النخعي والثوري وأبي حنيفة وأحمد.
وحكى ابن المنذر عن أحمد الاعتماد على يديه، وهو خلاف مذهبه المعروف
عنه.
وإلاكثرون على أنه لا تلازم بين الجلسة والاعتماد، فقد كان من السلف من يعتمد ولا يجلس للاستراحة، منهم: عبادة بن نسي، وحكاه عن أبي ريحانة الصحابي.
وهذا مذهب أصحاب الشافعي وأحمد؛ فان أصحاب الشافعي قالوا: يعتمد، سواء قلنا: يجلس للاستراحة أو قلنا لا يجلس. وقال أصحاب أحمد: لا يعتمد، سواء قلنا: يجلس، أو قلنا: لا يجلس، وحملوا حديث مالك بن الحويرث على أنه فعل الاعتماد لحاجته أليه: لضعف أو كبر ونحو ذلك.
ولا يبعد إذا قلنا: إن جلسة الاستراحة فعلها تشريعاً للأمة، أن يكون الاعتماد فعله كذلك.
وكلام أحمد في رواية ابنه عبد الله وغيره من أصحابه يدل على تلازم الجلسة والاعتماد، فيحتمل أن يقال: أن قلنا: يجلس للاستراحة

(7/292)


اعتمد على الأرض، لا سيما إن فعل ذلك لعجز أو كبر، وإن نهض من غير جلوس نهض على صدور قدميه، معتمداً على ركبتيه.
ويدل على ذلك: أن أحمد استدل على النهوض على صدور القدمين بحديث رفاعة بن رافع وحديث أبي حميد المتقدمين، وفيهما: ذكر القيام بعد السجدتين، من غير ذكر النهوض على صدور القدمين، فدل على أنه يرى تلازم الأمرين، وأنه يلزم من ترك جلسة الاستراحة النهوض على صدور القدمين.
وقد روى الهيثم، عن عطية بن قيس بن ثعلبة، عن الازرق بن قيس، قال: رأيت ابن عمر وهو يعجن في الصلاة يعتمد على يديه إذا قام، فقلت: ما هذا؟ قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعجن في الصلاة –يعني: يعتمد.
خرّجه الطبراني في ((أوسطه)) .
والهيثم هذا، غير معروف.
وقال بعضهم: العاجن، هو الشيخ الكير الذي يعتمد إذا قام ببطن يديه، ليس هو عاجن العجين.
وفي النهوض على صدور القدمين أحاديث مرفوعة،

(7/293)


أسانيدها ليست قوية، أجودها: حديث مرسل، عن عاصم بن كليب، عن أبيه.
وقد خرّجه أبو داود بالشك في وصله وإرساله.
والصحيح: إرساله جزماً. والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
144 -

(7/294)


باب
يكبر وهو ينهض من السجدتين
وكان ابن الزبير يكبر في نهضته.
وقد سبق في ((باب: يهوي بالتكبير حين يسجد)) حديث أبي هريرة، أنه كان يكبر حين يرفع رأسه من السجدة الأولى والثانية، ويقول حين ينصرف: إني لأقربكم شبهاً بصلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا.
وهو يدل على أنه كان يكبر في حال نهوضه وقيامه من السجود إلى الركعة التي بعده.
وخرّج هاهنا حديثين:
الحديث الأول:
825 -

(7/295)


حدثنا يحيى بن صالح: ثنا فليح بن سليمان، عن سعيد بن الحارث، قال: صلى لنا أبو سعيد، فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود، وحين سجد، وحين رفع، وحين قام من الركعتين، وقال:

(7/295)


هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الثاني:
826 -

(7/296)


حدثنا سليمان بن حرب: ثنا حماد بن زيد: ثنا غيلان بن جرير، عن مطرف، قالَ: صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب –رضي الله
عنه -، فكان إذا سجد كّبر، وإذا رفع كبر، وإذا نهض من الركعتين كّبر، فلما سلم أخذ عمران بيدي، فقال: لقد صلى بنا هذا صلاة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو قال: لقد ذكرني هذا صلاة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ووجه استدلال البخاري بهذين الحديثين على ما بوب عليه: أن حديث أببي سعيد فيه التكبير حين يرفع من السجود، وهذا ظاهر في شروعه في التكبير مع شروعه في الرفع، وأما حديث عمران، ففيه: ((إذا رفع كّبر)) ، ويحُمل –أيضاً – على أنه كّبر حين شرع في الرفع.
وحديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه أصرح من ذلك كله؛ فإن فيه: أنه كان يكّبر حين يرفع رأسه من السجدة الأولى والثانية، وهذا لا اختلاف فيه.
وفي حديث أبي سعيد: التكبير حين قام من الركعتين، وفي حديث عمران: إذا نهض من الركعتين كّبر.

(7/296)


وقد اختلف في تأويل ذلك، فحمله إلاكثرون على أنه كان يكّبر حين يشرع في القيام والنهوض.
وفي حديث أبي هريرة المشار إليه في أول الباب: ((ويكبر حين يقوم من الجلوس في الاثنتين)) .
وهذا قول أبي حنيفة والثوري والشافعي وأحمد.
وقال مالك - في أشهر الروايتين عنه -: لا يكبر إذا قام من الركعتين حتَّى يستوي قائماً؛ لأنه روي في بعض ألفاظ حديث أبي حميد وأصحابه: ((حتى إذا قام من الركعتين كّبر)) .
خرّجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان.
وروي نحوه من حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما.
وهذه الأحاديث محمولة على أنه كان يكبر إذا أراد القيام من التشهد الأول؛ بدليل ما روي في رواية أخرى في حديث أبي حميد وأصحابه: ((ثم جلس بعد ركعتين حتى إذا هو أراد أن ينهض للقيام قام بتكبيرة)) .

(7/297)


خرّجه أبو داود.
فهذه الرواية تدل على أن معنى تلك الرواية: أنه كان إذا شرع في القيام من الركعتين كبر.
* * *
145 -

(7/298)


باب
سنة الجلوس في التشهد
وكانت أم الدرداء تجلس في صلاتها جلسة الرجل، وكانت فقيهة قال حرب الكرماني: نا عمرو بن عثمان: نا الوليد بن مسلم، عن ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، أن أم الدرداء كانت تجلس في الصلاة جلسة الرجل إلا إنها تميل على شقها الأيسر، وكانت فقيهةً.
وهذا قول مالك والاوزاعي والشافعي، وهو رواية عن النخعي وروى عن نافع، أن أبن عمر كان يأمر نساءه أن يتربعن في الصلاة وروي من وجه آخر عن صفية بنت أبي عبيد امرأة عمر، أنها كانت تتربع في الصلاة.
وقال زرعة بن إبراهيم، عن خالد بن اللجلاج، كن النساء يؤمرن بأن يتربعن إذا جلسن في الصلاة، ولا يجلسن جلوس الرجال

(7/299)


على أوراكهن، يتقى ذلك عن المرأة، مخافة أن يكون الشيء منها.
خرّجه ابن أبي شيبة.
وقال الإمام أحمد: تتربع في جلوسها أو تسدل رجليها عن يمينها، والسدل عنده أفضل.
وهو قول النخعي والثوري وإسحاق؛ لأنه أشبه بجلسة الرجل، وأبلغ في الاجتماع والضم. وحمل بعض أصحابنا فعل أم الدرداء على مثل ذلك، وأما الإمام أحمد فصرّح بأنه لا يذهب إلى فعل أم الدرداء.
وروى سعيد بن منصور بإسناده، عن عبد الرحمن بن القاسم، قال كانت عائشة تجلس في الصلاة عن عرقيها وتضم فخذيها، وربما جلست متربعة.
وقال الشعبي: تجلس كما تيسر عليها وقال قتادة: تجلس كما ترى أنه أستر.
وقال عطاء: لا يضرها أي ذلك جلست، إذا اجتمعت. قال: وجلوسها على شقها الأيسر أحب إلى من الأيمن وقال حماد: تفعل كيف شاءت

(7/300)


خرج فيه حديثين:
الحديث الأول:
827 -

(7/301)


ثنا عبد الله بم مسلمة، عن مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم عن
عبد الله بن عبد الله، أنه اخبره أنه كان يرى ابن عمر يتربع في الصلاة إذا جلس ففعلته وأنا يومئذ حديث السن، فنهاني عبد الله بن عمر، وقال: إنما سنة الصلاةُ أن تنصب رجلك اليمنى وتثني رجلك اليسرى فقلت: إنك تفعل ذلك؟ فقالَ أن رجلي لا
تحملاني.
وخرّجه النسائي من رواية يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن
عبد الله بن عمر عن أبيه قال: من سنة الصلاة أن تنصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعها القبلة، والجلوس على اليسرى وفي رواية – أيضاً - بهذا إسناد: من سنة الصلاة أن تضجع رجلك اليسرى وتنصب اليمنى.
وهذا حكمه حكم المرفوع؛ لقوله: ((من سنة الصَّلاة)) وقد رواه مالك عن يحيى بن سعيد فجعله عن ابن عمر من فعله ولم يذكر: السنة

(7/301)


خرّجه أبو داود وذكر فيه الجلوس على وركه الأيسر وسيأتي لفظه فيما بعد إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وظاهر الروايات التي قبل هذه: إنما تدل على الافتراش لا على التورك ورواية النسائي صريحة بذلك.
الحديث الثاني:
828 -

(7/302)


ثنا يحيى بن بكير: ثنا الليث عن خالد عن سعيد عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن محمد بن عمرو بن عطاء -.
وثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب ويزيد بن محمد عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن محمد بن عمرو بن عطاء أنه كان جالساً في نفر من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرنا صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال أبو حميد الساعدي: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأيته إذا كّبر جعل يديه حذاء منكبيه وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف رجليه القبلة فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب

(7/302)


اليمنى فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته.
وسمع الليث بن يزيد بن أبي حبيب ويزيد من محمد بن حلحلة وابن حلحلة من ابن عطاء وقال أبو صالح، عن الليث: كل فقار وقال ابن المبارك عن يحيى بن أيوب حدثني يزيد بن أبي حبيب أن محمد بن عمرو بن حلحلة حدثه: كل فقار مقصود البخاري بما ذكره:
اتصال إسناد هذا الحديث وأن الليث سمع من يزيد بن أبي حبيب وأن يزيد سمع من محمد بن عمرو بن حلحلة وأن ابن حلحلة سمع من محمد بن عمرو بن عطاء.
وفي رواية يحيى بن أيوب التي علقها: التصريح بسماع يزيد من محمد بن عمرو بن حلحلة وأما سماع محمد بن عطاء من أبي حميد والنفر من الصحابة الذين معه ففي هذا رواية أنه كان جالساً معهم وهذا تصريح بالسماع

(7/303)


من أبي حميد وقد صّرح البخاري في تأريخه بسماع محمد بن عمرو بن عطاء من أبي حميد كذلك. وقد روى هذا الحديث
عبد الحميد أبن جعفر: حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منهم: أبو قتادة بن ربعي - فذكر الحديث وفي آخره: قالوا: صدقت هكذا صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وسماع محمد بن عمرو بن عطاء من أبي قتادة قد أثبته البخاري والبيهقي ورد على الطحاوي في إنكاره له وبين ذلك بياناً شافياً. وأنكر آخرون محمد بن عمرو بن عطاء لهذا الحديث من أبي

(7/304)


حميد - أيضاً - وقالوا: بينهما رجل وممن قال ذلك: أبو حاتم الرازي والطحاوي وغيرهما. ولعل مسلماً لم يخّرج في صحيحه الحديث لذلك واستدلوا لذلك بأن عطاف بن خالد روى هذا الحديث عن محمد بن عمرو بن عطاء: حدثنا رجل أنه وجد عشرة من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلوساً - فذكر الحديث.
وروى الحسن بن الحر الحديث بطوله، عن عبد الله بن عيسى بن مالك عن محمد بن عمرو بن عطاء عن عباس - أو عياش - بن سهل الساعدي أنه كان في مجلس فيهم أبو هـ وكان من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي المجلس أبو هريرة وأبو أسيد وأبو حميد الساعدي - فذكر الحديث
خرّجه أبو داود مختصراً وخرّجه - أيضاً - مختصراً من رواية بقية بن الوليد: حدثني عتبة بن أبي حكيم: حدثني عبد الله بن عيسى، عن العباس بن سهل عن أبي حميد الساعدي - فذكره.. وكذلك رواه إسماعيل بن عياش عن عتبة أيضاً

(7/305)


خرّجه من طريقه بقي بن مخلد في مسنده. وقال إسماعيل: عن عتبة عن عيسى بن عبد الله وهو أصح ورواه ابن المبارك عن عتبة عن عباس بغير واسطة وخرّجه أبو داود - أيضاً - من رواية فليح بن سليمان: حدثني عباس بن سهل، قال أجتمع أبو حميد وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة فذكروا صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال أبو وحميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر الحديث.
وخّرج بعضه ابن ماجه والترمذي وصّححه. قال أبو داود: ورواه ابن المبارك: أخبرنا فليح، قال: سمعت عباس بن سهل يحدث فلم أحفظه فحدثنيه أراه عيسى بن
عبد الله أنه سمعه من عباس بن سهل قال: حضرت أبا حميد الساعدي - فذكره.
وخرّجه الإمام أحمد من طريق ابن إسحاق: حدثني عباس بن سهل بن سعد قال: جلست بسوق المدينة الضحى مع أبي أسيد وأبي حميد وأبي قتادة فذكر الحديث. قال أبو حاتم الرازي: هذا الحديث إنما يعرف من رواية عباس بن سهل وهو صحيح من حديثه؛ كذا رواه فليح وغيره. فيتوجه أن

(7/306)


يكون محمد بن عمرو إنما أخذه عن عباس فتصير رواية عبد الحميد بن جعفر مرسله، وكذا رواية ابن حلحلة التي خر‍ّجها البخاري ها هنا. ويجاب عن ذلك:
بأن محمد بن عمرو بن حلحلة الديلي قد روى هذا الحديث عن محمد بن عمر بن عطاء أنه سمع أبا حميد يحدثه فكيف يعارض ذلك برواية عطاف بن خالد عن محمد بن عمرو بن عطاء وعطاف لا يقاوم ابن حلحلة ولا يقاربه.
وقد تابع ابن حلحلة على ذكر سماع ابن عمرو له من أبي حميد: عبد الحميد بن جعفر وهو ثقة جليل مقدم على عطاف وأمثاله. وأما رواية عيسى بن عبد الله عن محمد بن عمرو فعيسى ليس بذلك المشهور فلا يقضي بروايته على رواية الثقات الإثبات؛ فان رواية عيسى كثيرة الاضطراب وإلاكثرون رووه عن عيسى عن عباس بغير واسطة منهم: عتبة بن أبي حكيم وفليح بن سليمان.
واختلف فيه عن الحسن بن الحر: فروي عنه عن عيسى بن عبد الله عن محمد بن عمرو بن عطاء: أخبرني مالك عن عباس - أو عياش - بن سهل أنه كان في مجلس فيه أبوه ففي هذه الرواية بين محمد بن عمرو وبين أبي حميد رجلان.
وقد خرّجه البيهقي كذلك ثم قال روي - أيضاً - عن الحسن بن

(7/307)


الحر عن عيسى عن محمد بن عمرو بن عطاء: حدثني مالك عن عباس وقوله: عباس أو عياش يدل على عدم ضبطه لهذا الاسم وإنما هو عباس بغير شك.
وفي حديث الحسن بن الحر وهم في هذا الحديث وهو أنه ذكر أنه تورك في جلوسه بين السجدتين دون التشهد وهذا مما لا شك أنه خطأ فتبين أنه لم يحفظ متن هذا الحديث ولا إسناده.
والصحيح في اسم هذا الرجل أنه عيسى بن عبد الله بن مالك الدار وجده مولى عمر بن الخطاب ومن قال فيه: عبد الله بن عيسى - كما وقع في روايتين لأبي داود - فقد وهم.
وزعم الطبراني أنه: عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو وهم - أيضاً – وأما هو: عيسى بن عبد الله ابن مالك الدار -: قال البخاري في تأريخه وأبو حاتم الرازي وغيرهما من الحفاظ المتقدمين والمتأخرين. وقال ابن المديني فيه: هو مجهول
وحينئذ؛ فلا يعتمد على روايته مع كثرة اضطرابها وتعلل بها رويات الحفاظ الإثبات.
فظهر بهذا: أن أصح روايات هذا الحديث رواية لبن حلحلة عن

(7/308)


محمد بن عمرو التي أعتمد عليها البخاري ورواية عبد الحميد المتابعة لها ورواية فليح وغيره عن عباس بن سهل مع أن فليحاً ذكر أنه سمعه من عباس ولم يحفظه عنه إنما حفظه عن عيسى عنه.
وأما ما تضمنه حديث أبي حميد من الفقه في أحكام الصلاة فقد سبق ذكر عامة مافيه من الفوائد مفرقاً في مواضع متعددة وبقي ذكر صفة جلوسه للتشهد وهو مقصود البخاري في هذا الباب.
وقد دل الحديث على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجلس في التشهد الأول مفترشاً، وفي التشهد الثاني متوركاً.
خرّجه أبو داود من رواية ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب بإسناده ولفظه: فإذا قعد في الركعتين قعد على بطن قدمه اليسرى ونصب اليمنى فإذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض وأخرج قدميه من ناحية واحدة.
ولم يذكر أحد من رواة حديث أبي حميد التشهدين في حديثه سوى ابن حلحلة عن محمد بن عمرو بن عطاء وقد ذكر غيره من الرواة التشهد الأول خاصة وبعضهم ذكر الأخير خاصة.
ففي رواية فليح عن عباس بن سهل عن أبي حميد - فذكر الحديث وفيه: ثم جلس فافترش رجله اليسرى وأقبل بصدر اليمنى على قبلته ووضع كفه اليمن على ركبته اليمنى وكفه اليسرى على ركبته اليسرى وأشار بإصبعه. خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصحّحه..
ورواه - أيضاً - عتبة بن أبي حكيم عن عيسى - أو ابن عيسى عن العباس - بمعناه - أيضاً.
ففي هذه الرواية: ذكر التشهد الأول خاصة.
وأما ذكر التشهد الأخيرة ففي رواية عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عمرو عن أبي حميد - فذكر

(7/309)


الحديث وفيه: حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخرج رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقه الأيسر.
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وصحّحه الترمذي.
وقد خرّجه الجوزجاني في كتابه المترجم عن أبي عاصم عن [ ... ..

(7/310)


أنه كانَ] في الثنتين يثني رجله اليسرى فيقعد عليها معتدلاً حتى يقر كل عظم منه موضعه ثم ذكر: توركه في تشهده الأخير وهذه زيادة غريبة.
وقد خرّج أبو داود وابن ماجه الحديث من رواية أبي عاصم وخرّجه الإمام أحمد عن أبي عاصم ولم يذكروا صفة جلوسه في الركعتين إنما ذكروا ذلك في جلوسه بين السجدتين.
وفي حديث عبد الحميد: زيادة ذكر رفع اليدين إذا قام من التشهد الأول وكذلك في حديث عتبة بن أبي حكيم - أيضاً.
وقد أخذ بهذا الحديث في التفريق بين الجلوس في التشهد الأول وإلاخر في الصلاة فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق. ثم اختلفوا:
فقال الشافعي: يتورك في التشهد الذي يعقبه السلام بكل حال سواء كانت الصلاة فيها تشهد واحد أو تشهدان؛ لأن التشهد الذي يسلم فيه يطول بالدعاء فيه فيتورك فيه؛ لأن التورك أهون من الافتراش. وقال أحمد وإسحاق: إن كان فيها تشهدان تورك في الأخير منهما

(7/311)


وإن كان فيها تشهد واحد لم يتورك فيه، بل يفترش.
فيكون التورك للفرق بين التشهدين ويكون فيه فائدتان: نفي السهو عن المصلي ومعرفة الداخل معه في التشهد: هل هو في الأول أو الثاني. واتفقوا – أعني: هؤلاء الثلاثة - على أنه يفرش في التشهد الأول الذي لا يسلم فيه.
وقد خرّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث وائل بن حجر أنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي فلما جلس أفترش. لكن اختلفت ألفاظ الروايات فيه:
ففي رواية الترمذي: ((يعني للتشهد)) وهذا التفسير من بعض الرواة وفي رواية للإمام أحمد: أن ذلك كان في جلوسه بين السجدتين. وفي رواية للنسائي: أنه كان يفعل ذلك إذا جلس في الركعتين وهذه الرواية، إنما تدل على افتراشه في جلوسه، بعد الركعتين وأحمد وإسحاق يقولان بذلك.
وفي ((صحيح مسلم)) عن عائشة قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في كل ركعتين التحية وكان يفرش رجله اليسرى وينصب

(7/312)


اليمنى. وهو محمول على صلاة الركعتين، بدلالة سياق أول الكلام.
وخّرج أبو داود من حديث رفاعة بن رافع، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للمسيء في صلاته: ((إذا قعدت فاقعد على فخذك اليسرى)) .
وفي رواية أخرى له -: ((فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن وأفترش فخذك اليسرى، ثم تشهد)) .
وهذه الرواية تدل على أنه إنما أمره بالافتراش في التشهد الأول خاصة. وفي
((المسند)) من طريق ابن إسحاق: حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه، عن ابن مسعود، قال: علمني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها. فكنا نحفظ عن ابن مسعود، حين أخبرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه إياه، فكان يقول: إذا جلس في وسط الصلاة وفي أخرها على وركه اليسرى: ((التحيات لله)) - إلى آخر التشهد.
والظاهرُ: أن قوله ((على وركه)) يعود إلى قوله: ((وفي آخرها خاصة)) .
وذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه يفترش في جميع التشهدات،

(7/313)


وهو قول أبي حنيفة والثوري والحسن بن صالح وابن المبارك، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم. وقال طائفة: يتورك في جميعها، وهو قول مالك، وكذا قال في الجلوس بين السجدتين. وجميع ما سبق ذكره العلماء: أنه يفترش فيه. وفي ((صحيح مسلم)) عن ابن الزبير، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه، وفرش قدمه اليمنى وقد فسره بالتورك حرب الكرماني وغيره.
وقد روى التورك في الجلوس في الصلاة عن ابن عمر، ذكره مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد أنه أراهم الجلوس في التشهد منضب رجله اليمنى وثنى رجله اليسرى، وجلس على وركه الأيسر، ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر، وأخبرني أن أباه كان يفعل ذلك. وخرّجه أبو داود من طريقه.
وقال ابن جرير الطبري: كل ذلك جائز؛ لأنه يروى على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيخير المصلي بينه، فيفعل منه ما شاء. ومال إلى قوله ابن عبد البر.

(7/314)


وقد نص أحمد في رواية إلاثرم عل الجواز التورك في التشهد الذي يسلم فيه من ركعتين، مع قوله: إن الافتراش فيه أفضل. وقد روي النهي عن التورك في الصلاة، ولا يثبت، وفيه حديثان: أحدهما: من رواية يحيى بن إسحاق، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التورك وإلاقعاء في الصلاة خرّجه أبو داود في كتاب التفرد)) . وقال: هذا الحديث ليس بالمعروف.
وخرّجه البزار في ((مسنده)) .
وقال: لا يروى عن أنس إلا من هذا الوجه، وأظن يحيى أخطأ فيه. وقال أبو بكر البرديجي في كتاب ((أصول الحديث)) له: هذا

(7/315)


حديث لا يثبت؛ لأن أصحاب حماد لم يجاوزوا به قتادة. كأنه يشير إلى أن يحيى أخطأ في وصله بذكر انس، وأنما هو مرسل.
وثانيهما: من رواية سعيد بن بشير، عن الحسن، عن سمرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التورك وإلاقعاء، وأن لا نستوفز في صلاتنا. خرّجه البزار.
وقال: سعيد بن بشير، لا يحتج به. وخرّجه الإمام أحمد، ولفظه: أمرنا
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نعتدل في الجلوس، وأن لا نستوفز.
* * *
146 -

(7/316)


باب
من لم يرى التشهد الأول واجباً
لان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام من الركعتين ولم يرجع

(7/317)


829 - حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري: حدثني عبد الرحمن بن هرمز مولى بني عبد المطلب - وقال مرة: مولى ربيعة بن الحارث - أن عبد الله بن بحينه - وهو من أزد شنوءة، وهو حليف لبني عبد مناف، وكان من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين، لم يجلس، فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن
يسلم، ثم سلم.
عبد الرحمن بن هرمز: هو الأعرج؛ وهو مولى ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب، فلذلك نسبه الزهري مرة إلى ولاء بني عبد المطلب، ومرة إلى مولاه.
وقد استدل بهذا الحديث كثير من العلماء - كما أشار إليه البخاري - على أن التشهد الأول ليس بواجب؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نسيه، ولم يرجع بعد قيامه إلى الركعة الثالثة. وممن ذهب إلى أن التشهد الأول والجلوس لهُ سنة لا تبطل الصَّلاة

(7/317)


بتركهما عمداً: النخعي وأبو حنيفة وإلاوزاعي ومالك والشافعي وحكي رواية عن أحمد. والمنصوص عن أحمد: إنكار تسميته سنة، وتوقف في تسميته فرضاً؛ وقال: هو أمر أمر به
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال الثوري وأحمد – في ظاهر مذهبه – وإسحاق وأبو ثور وداود: أن ترك واحداً منها عمداً بطلت الصلاة، وإن تركه سهواً سجد لسهو. وحكى الطحاوي مثله عن مالك.
لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يداوم عليه، وقال: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) ، وإنما تركه نسياناً، وجبره بسجود السهو، وقد روى عنه الأمر به. كما خرّجه أبو دواد من حديث رفاعة بن رافع، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للمسيء في صلاته: ((فإذا جلست في وسط الصلاة فأطمئن وأفترش فخذك اليسرى ثم تشهد)) .
والعجب أن من المخالفين في ذلك من يقول في خطبتي الجمعة: إذا لم تجلس بينهما لم تصح الخطبة، وهو يقول: لو صلى الظهر أربعاً من غير جلوس في وسطها صحت صلاته.
وأما التشهد الأخر والجلوس به، فقال كثير من العلماء: إنهما

(7/318)


من فرائض
الصلاة، ومن تركهما لم تصح صلاته، وهو قول الحسن ومكحول ونافع مولى ابن عمر والشافعي وأحمد - في ظاهر مذهبه - وإسحاق وأبي ثور وداود.
وحكى ابن المنذر مثله عن مالك، إلا أنه قال: إذا نسيه خلف الإمام حمله
عنه، وروي عن إلاوزاعي نحوه. ونقل مهنا عن أحمد ما يدل على مثل ذلك. وقال أبو مصعب: من ترك التشهد بطلت صلاته، ونقله عن مالك وأهل المدينة. وقالت طائفة: هو سنة كالتشهد الأول، لا تبطل الصلاة بتركه، منهم: النخعي وقتادة وحماد وإلاوزاعي، وهو المشهور عن مالك.
ونقل محمد بن يحيى الكحال، عن أحمد، فيمن سلم ولم يتشهد: لا إعادة، واستدل بحديث ابن بحينه. ونقل ابن وهب، عن مالك، قال: كل أحد يحسن
التشهد؟ وإذا ذكر الله أجزاء عنه.
وقال أحمد - في رواية عنه، نقلها حرب -: إذا لم يقدر أن يتعلم التشهد يدعو بما أحب. وأوجب أبو حنيفة الجلوس له بقدر التشهد، دون التشهد، وهو رواية عن الثوري.
وروي عنه: أن أحدث قبل التشهد تمت صلاته. وحكي القول بأنه رواية عن أحمد - أيضاً - حكاه عنه الترمذي

(7/319)


في ((جامعه)) ، فأنه قال في رواية ابن منصور، وقد قيل: فأن لم يتشهد وسلم؟ قال: التشهد أهون؛ قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثنتين ولم يتشهد فحمله هؤلاء على أن التشهد غير واجب.
ومنهم من حملة على التشهد الأول؛ لاستدلاله عليهِ الحديث، والحديث إنما ورد في الأول، وقالوا: قد فرق بين الأول والثاني في روايات آخر عنه. وقال طائفة: هوَ واجب، تبطل الصَّلاة بتركه عمداً، ويسجد لسهوه، وهو قول الزهيري والثوري، وحكي عن إلاوزاعي - أيضاً - ونقله إسماعيل بن سعيد وأبو طالب وغيرهما عن
أحمد.
وذكر أبو حفص البرمكي من أصحابنا: أن هذا هو مذهب أحمد، وأنه لا فرق عنده بين التشهد الأول والثاني، وإنهما واجبان تبطل الصلاة بتركهما عمداً، ويسجد لسهوهما.
وهو - أيضاً - قول أبي خيثمة وسليمان بن داود الهاشمي وابن أبي شيبة واستدل من قال:
أنه فرض، بما روي عن ابن مسعود، أنه قال: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: ((السلام على الله)) - الحديث، وذكر فيه أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم بالتشهد وتعليمه لهم.
خرّجه الدارقطني، وقال: إسناده صحيح.
وخرّج البزار والطبراني من حديث ابن مسعود، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمهم

(7/320)


التشهد، وقال لهم: ((تعلموا؛ فإنه لا صلاة إلا بتشهد)) . وفي إسناده أبو حمزة، ضعيف جداً.
وخرّج الطبراني نحوه من حديث علي مرفوعاً، بإسناد لا يصح. وقد روى موقوفاً على ابن مسعود، وهو أشبه.
وروى شعبة، عن مسلم أبي النضر، قال: سمعت حملة بن عبد الرحمن، عن
عمر، أنه قالَ: لا تجزي صلاة إلا بتشهد. خرّجه الجوزجاني وغيره.
وفي رواية: قالَ: من لم يشهد فلا صلاة لهُ. وخرّجه البهقي، وعنده التصريح بسماع حملة لهُ من عمر.
* * *
147 -

(7/321)


باب
التشهد في الأولى

(7/322)


383 - حدثنا قتيبة: ثنا بكر - هو ابن مضر -، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن عبد الله بن مالك بن بحينة، قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر، فقام وعليه جلوس، فلما كان في آخر صلاته سجد سجدتين وهو جالسٌ.
يعني البخاري: التشهد في الجلسة الأولى في الصلاة وحديث ابن بحينة قد سبق في الباب الماضي وفيه: دليل على أن من تركه نسياناً لم تبطل صلاته، وأنه يسجد للسهو لتركه، وقد سبق حكم تركه نسياناً وعمداً في الباب الماضي. ومذهب أحمد: إن تركه نسياناً لزمه ((بسجود به أن يجبره بسهوويه)) وإن تركه عمداً بطلت صلاته؛ كما سبق ذكره.

(7/322)


وفي ((صحيح مسلم)) عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في كل ركعتين التحية.
وخرّجه البهيقي، ولفظه: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول بين كل ركعتين تحية.
وخرّج أبو داود من حديث سمرة بن جندب، قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان في وسط الصلاة أو حين انقضائها فابدؤوا قبل التسليم: ((التحيات والطيبات والصلوات والملك لله)) ، ثم سلموا.
والتشهد بعد الركعتين - وإن لم يسلم منه - إشارة إلى أن كل صلاة ركعتين صلاة تامة، فيتشهد عقبها، وإن كان يقوم منها إلى صلاة؛ فان الصلاة التي يقوم إليها كالصلاة المستقبلة.
ولم يكن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي أكثر من ركعتين بغير تشهد غير صلاة الليل؛ فإنه قد روي عنه أنه كان يصلي ثمانياً واربعاً ثم يتشهد.

* * *

148 -

(7/323)


باب
التشهد في الآخرة
يعني: في الجلسة الأخيرة في الصلاة

(7/324)


831 - حدثنا أبو نعيم: ثنا الأعمش، عن شقيق بن سلمة، قال: قال عبد الله: كنا إذا صلينا خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلنا: السلام على جبريل ومكائيل، السلام على فلان السلام على فلان، فالتفت إلينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إن الله هو السلام)) فإذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله عز وجل صالح في السماء وإلا رض، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)) .
وإنما خص البخاري هذا الحديث بالتشهد الأخير. لأنه روي في آخره الأمر بالتخيير من الدعاء، كما سيأتي، والدعاء يختص بالأخير، ولكن المراد بالتشهد الأخير: كل تشهد

(7/324)


يسلم منه، سواء كان تشهد آخر أم لا.
وخرج الإمام أحمد والنسائي حديث ابن مسعود بلفظ آخر وهو: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله)) - فذكره وقال في آخره:
((ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه، فليدع به ربه عز وجل)) .
وهذا اللفظ صريح في أنه يتشهد بهذا التشهد في كل ركعتين يسلم منهما.
وخرّجه الترمذي والنسائي - أيضاً بلفظ آخر وهو: علمنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعدنا في الركعتين أن نقول: ((التحيات لله)) - فذكره، ولم يذكر بعده الدعاء. وخرّجه الإمام أحمد بلفظ، وهو: علمني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد في وسط الصلاة وفي آخرها - وذكر الحديث، وقد سبق ذكر إسناده، وقال في آخره: ثم إن كان في وسط الصلاة نهض حين يفرغ من تشهده، وإن كان في آخرها، دعا بعد تشهده بما شاء الله أن يدعو، ثم يسلم.
وهذه الرواية صريحة في أنه يتشهد به في التشهد الأول وإلاخر.

(7/325)


وخرّجه النسائي بلفظ آخر، وهو: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لهم: ((قولوا في كل جلسة: التحيات لله)) - فذكره.
وهذا يشمل الجلوس الأول والثاني. وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أن الله هو السلام)) إنما قاله نهياً لهم على أن يقولوا: ((السلام على الله من عباده)) ، وكانوا يقولون ذلك، ثم يسلمون على جبريل وميكائيل وغيرهما.
وقد خرّج البخاري في رواية أخرى، يأتي ذكرهما - إن شاء الله تعالى ولم يأمرهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإعادة الصلوات التي قالوا فيها ذلك، واستدل بذلك على أن كلام الجاهل لا يبطل الصلاة؛ فإن هذا الكلام منهيٌ عنه في الصلاة وغيرها؛ فإن الله تعالى هو السلام؛ لأنه القدوس بالمبدأ من الآفات والنقائص كلها، وذلك واجب له لذاته، ومنه يطلب السلامة لعباده؛ فإنهم محتاجون إلى السلامة من عقابه وسخطه وعذابه.
وفي قولهم هذا الكلام قبل أن يعلموا التحيات: دليل على أنهم رأوا أن المنصرف من صلاته لا ينصرف حتى يحيي الله تعالى وخواص عباده بعده، ثم ينصرف، ثم يسلم؛ لأن المصلي يناجي ربه ما دام يصلي، فلا ينصرف حتى يختم مناجاته بتحية تليق به، ثم يحيي خواص خلقه، ثم يدعو لنفسه، ثم يسلم على الحاضرين معه، ثم ينصرف.

(7/326)


وقد أقرهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما قصدوه من ذلك، لكنه أمرهم أن يبدلوا قولهم:
((السلام على الله)) ، بقولهم: ((التحيات لله)) . والتحيات: جمع تحية، وفسرت التحية بالملك، وفسرت بالبقاء والدوام وفسرت بالسلامة؛ والمعنى: أن السلامة من الآفات ثابت لله، واجب له لذاته.
وفسرت بالعظمة، وقيل: إنها تجمع ذلك كله، وما كان بمعناه، وهو أحسن.
قال ابن قتيبة: إنما قيل ((التحيات)) بالجمع؛ لأنه كان لكل واحد من ملوكهم تحية يحيا بها، فقيل لهم: ((قولوا: التحيات لله)) أي: أن ذلك يستحقه الله وحده.
وقوله: ((والصلوات)) فسرت بالعبادات جميعها، وقد روي عن طائفة من المتقدمين: أن جميع الطاعات صلاة، وفسرت الصلوات هاهنا بالدعاء، وفسرت بالرحمة، وفسرت بالصلوات الشرعية، فيكون ختام الصلاة بهده الكلمة كاستفتاحها بقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] وقوله: ((والطيبات)) ، فسرت بالكلمات الطيبات، كما في قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر 10] فالمعنى: إن ما كان من

(7/327)


كلام فإنه لله، يثنى به عليه ويمجد به.
وفسرت ((الطيبات)) بالاعمال الصالحة كلها؛ فإنها توصف بالطيب، فتكون كلها لله بمعنى: أنه يعبد بها ويتقرب بها إليه.
فهذا جعله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدل قوله: ((السلام على الله)) وأما سلامهم على جبريل وميكائيل وفلان وفلان من خواص الخلق، فأقرهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذكر السلام؛ لأن الخلق كلهم يطلب السلام من الله. وفي تفسير ((السلام على فلان)) قولان:
أحدهما: أن المراد بالسلام اسم الله - يعني: فكأنه يقول: اسم الله عليك.
والثاني: أن المراد: سلّم الله عليك تسليماً وسلاماً، ومن سلّم عليه الله فقد سلم من الآفات كلها ثم أقرهم أن يسلموا على النبي بخصوصه ابتداءً؛ فإنه أشرف المخلوقين وأفضلهم، وحقه على الأمة أوجب من سائر الخلق؛ لأن هدايتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة كان بتعليمه وإرشاده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسليماً، وجزاه عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته.
والسلام على النبي بلفظ: ((السلام عليك أيها النبي)) ، وهكذا في سائر

(7/328)


الروايات؛ ولذلك كان عمر يعلم الناس في التشهد على المنبر بمحضر من الصحابة.
وقد اختار بعضهم أن يقال بعد زمان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((السلام على النبي)) ، وقد ذكر البخاري في موضع آخر من ((كتابه)) أنهم كانوا يسلمون على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد موته في التشهد كذلك، وهو رواية عن ابن عمر وعائشة.
ثم عطف على ذكر السلام على النبي: ((ورحمة الله وبركاته)) ، وهذا مطابق لقول الملائكة لإبراهيم عليه سلام: {رَحْمةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ} [هود: 73] ويستدل بذلك على جواز الدعاء بالرحمة للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيه اختلاف بين العلماء.
ثم أمرهم بعد ذلك بأن يقولوا: ((السلام علينا)) والضمير عائد على المصلي نفسه، وعلى من حضره من الملائكة والمصلين وغيرهم.
وفي هذا مستند لمن أستجب لمن يدعوه لغيره أن يبدأ بالدعاء لنفسه قبله، وهو قول علماء الكوفة، وخالفهم آخرون، وقد أطال الاستدلال لذلك في ((كتاب
الدعاء)) من ((صحيحه)) هذا، ويأتي - أن شاء الله تعالى - في موضعه بتوفيق الله وعونه.

(7/329)


وقوله: ((وعلى عباد الله الصالحين)) هو كما قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فإنكم إذا قلتم ذلك أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض)) . فيعني ذلك عن تعيين أسمائهم؛ فإن حصرهم لا يمكن، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد خرّج النسائي حديث ابن مسعود في التشهد، ولفظه: قال عبد الله: كنا لا ندري ما نقول إذا صلينا، فعلمنا نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جوامع الكلم: ((التحيات لله)) – فذكره. وفي رواية أخرى له: كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين، غير أن نسبح ونكبر ونحمد ربنا، وأن محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم فواتح الكلم وخواتمه، فقال: ((إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات الله)) - فذكره.
ثم أمرهم أن يختموه بالشهادتين، فيشهدون لله بتفرده بإلالهية، ويشهدون لمحمد بالعبودية والرسالة؛ فإن مقام العبودية أشرف مقامات الخلق؛ ولهذا سمى الله محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أشرف مقاماته وأعلاها بالعبودية، كما قال تعالى في صفة ليلة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] ، وقال: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:
10] .

(7/330)


وقال في حقه في مقام الدعوة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19] ،
وقال: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] .
ولهذا

(7/330)


المعنى لما سلّم على الصالحين في هذا التشهد سماهم: ((عبادا الله)) ، والصالحون هم القائمون بما لله عليهم من الحقوق له ولخلقه، وإنما سمي التشهد تشهداً لختمه بالشهادتين.
ولم يخرج البخاري في التشهد غير تشهد ابن مسعود، وقد أجمع العلماء على أنه أصح أحاديث التشهد، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد من روايات أخر فيها بعض المخالفة لحديث ابن مسعود بزيادة ونقص، وقد خرج مسلم منها حديث ابن عباس وأبي موسى الأشعري، وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد وإسحاق.
وحديث أبي موسى فيه: ((التحيات الطيبات الصلوات لله)) ، وباقيه كتشهد ابن مسعود. وحديث ابن عباس فيه: ((التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله)) وباقيه كتشهد ابن مسعود، غير أن في آخره: ((وأشهد أن محمداً رسول الله)) . وكل ما صح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من التشهدات، فإنه يصح الصلاة به، حكى طائفة الإجماع على ذلك،

(7/331)


لكن اختلفوا في أفضل التشهدات:
فذهب إلاكثرون إلى ترجيح تشهد ابن مسعود، وتفضيله، والأخذ به وقد روى ابن عمر، أن أبا بكر الصديق كان يعلمهم على المنبر كما يُعلم الصبيان في الكتاب، ثم ذكره بمثل تشهد ابن مسعود. خرّجه ابن أبي شيبة.
وروى - أيضاً - نحوه عن أبي سعيد الخدري وغيره، وهو قول علماء العراق من أهل الكوفة والبصرة، من التابعين ومن بعدهم.
قال أبو إسحاق، عن الأسود: رأيت علقمة يتعلم التشهد من عبد الله، كما يتعلم السورة من القرآن. وقال إبراهيم، عن الأسود: كان عبد الله يعلمنا التشهد في الصلاة كما يعلمنا السورة من القران، يأخذ علينا الألف والواو.
وقال إبراهيم: كانوا يتحفظون هذا التشهد - تشهد عبد الله - ويتبعونه حرفاً حرفاً.
خرّجه ابن أبي شيبة وغيره وذكر الترمذي أن العمل على تشهد ابن مسعود عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، وأنه قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق.

(7/332)


وحكاه ابن المنذر عن أبي ثور وأهل الرأي وكثير من أهل المشرق وحكاه ابن البر عن أكثر أهل الحديث.
وروي عن خصيف قال: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المنام فقلت: يا رسول الله، اختلف علينا في التشهد: فقال: ((عليك بتشهد ابن مسعود)) . وقد نص أحمد على أنه لو تشهد بغيره بما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه يجزئه.
وذكر القاضي أبو يعلى: أن كلام أحمد في التشهد بما روي عن الصحابة، كعمر أو غيره: هل يجزئ، أو لا؟ - محتمل، والأظهر: أنه يجزئ. وقد روي عن علي وابن عمر وعائشة تشهدت أخر.
وقد نص إسحاق على جواز التشهد بذلك كله -: نقله حرب ومن أصحابنا من قال: يجب التشهد بتشهد ابن مسعود، ولا يجزئ أن يسقط منه واواً ولا الفاً. وهذا خلاف أحمد.
والمحققون من أصحابنا على أنه يجوز التشهد بجميع أنواع التشهدات المروية عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما نص عليه أحمد.
وقال طائفة، منهم: القاضي أبو يعلى في كتابه ((الجامع الكبير)) : إذا أسقط من التشهد ما هو ساقط في بعض الروايات دون بعض صحت صلاته، وإن أسقط ما هو ساقط في جميعها لم تصح.

(7/333)


وقيل لأحمد: لو قال في تشهده: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله)) :
هل يجزئه؟ قالَ: أرجو.
وقد ورد مثل ذَلِكَ في بعض روايات حديث أبي موسى، وهو في بعض نسخ
((صحيح مسلم)) ، وهي رواية لأبي دواد والنسائي.
والأفضل عند الشافعي: التشهد بتشهد ابن عباس، الذي نقله عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخرّجه مسلم، وهو قول الليث بن سعد.
والأفضل عن مالك تشهد عمر بن الخطاب، وقد ذكره في ((الموطأ)) موقوفاً على عمر، أنه كان يعلمه الناس على المنبر يقول: قولوا: ((التحيات لله، الزاكيات
لله، الصلوات لله)) وباقيه كتشهد ابن مسعود وإليه ذهب الزهري ومعمر.
وقد روى عن عمر مرفوعاً من وجوه لا تثبت، والله أعلم.
وطائفة مم علماء الأندلس اختاروا تشهد ابن مسعود، وكان يقال عنه: أنه لم يكن بالاندلس من اجتمع له علم الحديث والفقه أحد قبله مثله. وقد روي من حديث سلمان الفارسي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه التشهد

(7/334)


حرفاً حرفاً - فذكر مثل حديث تشهد ابن مسعود سواء، قال: ثم قال: ((قلها يا سلمان في صلاتك، ولا تزد فيها حرفاً، ولا تنتقص منها حرفاً)) .
خرّجه البزار في ((مسنده)) وفي إسناده ضعف. والله أعلم.
* * *
149 -

(7/335)


باب
الدعاء قبل السلام
فيه حديثان
الأول:
832 -

(7/336)


حدثنا أبو اليمان: أنا شعيب، عن الزهري: أنا عروة، عن عائشة أخبرته، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو في الصلاة: ((اللهم أني أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)) ، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقالَ:
((إن الرجل إذا غرم حدّث فكذب ووعد فاخلف)) .
833 -

(7/336)


وعن الزهري، قال: أخبرني عروة، أن عائشة قالت: سمعت النبي ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستعيذ في صلاته من فتنة الدجال.

(7/336)


إنما في هذا الحديث أنه كان يدعو بذلك في صلاته، وليس فيه أنه كان يدعو به في تشهده قبل السلام، كما بوب عليه. وقد روى مسروق، عن عائشة في ذكر عذاب القبر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل صلاة بعد ذلك إلا تعوذ من عذاب القبر. وقد خرّجه البخاري في موضع آخر.
وخرّجه النسائي من رواية جسرة بنت دجاجة، عن عائشة، وفي حديثها: أنه كان يقول في ذلك دبر كل صلاة. وهذا يدل على أنه كان يقوله في تشهده.
ويستدل على ذلك - أيضاً - بحديث أخر، خرّجه مسلم من رواية إلاوزاعي، عن حسان ابن عطية، عن محمد بن أبي عائشة، عن أبي هريرة وعن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة -، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
((إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم أني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)) .
وفي رواية له بالطريق الأول خاصة: ((إذا فرع أحدكم من التشهد فليقل)) .

(7/337)


وفي رواية أخرى له أيضاً -: ((التشهد الأخير)) .
وخرّج - أيضاً - من رواية هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتعوذ من ذلك - ولم يذكر: الصلاة.
وكذلك خرّجه البخاري في ((الجنائز)) من رواية هشام.
وهذا يدل على أن رواية إلاوزاعي حمل فيها حديث يحيى، عن أبي سلمة على لفظ حديث حسان، عن ابن أبي عائشة، ولعل البخاري لم يخرّجه لذلك؛ فإن المعروف ذكر الصلاة في رواية ابن أبي عائشة خاصة، ولم يخرج له البخاري.
وخرّج أبو داود من رواية عُمر بن يونس اليمامي: حدثني ابن عبد الله بن
طاوس، عن أبيه، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يقول بعد التشهد: ((اللهم، إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة الدجال)) .
وروى مالك، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعلمهم الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن – فذكره، ولم يذكر: الصلاة.
وخرّجه من طريقه مسلمٌ.
وكذلك خرج - أيضاً - من طريق ابن عيية، عن ابن طاوس، عن

(7/338)


أبيه، عن أبي هريرة - ومن طريق عمرو بن دينار، عن طاوس، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه يأمر بهذا التعوذ، ولم يذكر: الصلاة - أيضاً.
وذكر مسلم، أنّ طاوساً كان يروي هذا الحديث عن ثلاثة، أو عن أربعة، وأنه أمر ابنه أن يعيد الصلاة حيث لم يتعوذ فيها من ذلك.
وخرّجه الحاكم من طريق ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن عائشة، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وذكر الدارقطني أن ابن طاوس كانَ يرويه، عن أبيه مرسلاً.
وسماع عائشة دعاء النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته يدل على أنه كانَ أحياناً يسمع من يليه دعاءه، كما كانَ أحياناً يسمع من يليه الآية من القرآن.

الحديث الثاني:
834 -

(7/339)


حدثنا قتيبة: ثنا الليثُ، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو، عن أبي بكر الصديق، أنه قال

(7/339)


لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال:
((قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فأغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)) .
وهذا الحديث - أيضاً - إنما فيه: ذكرُ الدعاء في الصلاة من غير تخصيص بالتشهد، وقد سبق ذكرُ الدعاء في الركوع والسجود والاختلاف فيه. والكلام على الاختلاف في إسناد هذا الحديث، وفي بعض ألفاظه وفي معانيه يأتي في موضع آخر - أن شاء الله سبحانه وتعالى.
* * *
150 -

(7/340)


باب
ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب

(7/341)


835 - حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن الأعمش: حدثني شقيق، عن عبد الله، قال: كُنا إذا كُنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ فإنكم إذا قلتم ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء – أو بين السماء والأرض – أشهد إلا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسولهُ، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فبدعوا)) .
وقد سبق في رواية للإمام أحمد التصريح بأن هذا الدعاء إنما هو في التشهد الأخير خاصةً، فأما التشهد الأول فلا يدعو بعده عند جمهور العلماء، ولا يزاد عليه عند أكثرهم، حتى قال الثوري - في رواية عنه - إن فعل ذلك عمداً بطلت صلاته.
إلا أن الشافعي - في الجديد - قال: يصلي فيه على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحده دون آله.
وقال مالك: يدعى فيه كالتشهد

(7/341)


الأخير.
وروي عن ابن عمر.
وخرّج النسائي من حديث سعد بن هشام، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل تسع ركعات، لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيحمد الله ويثني على نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويدعو بينهن، ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويقعد، ويحمد الله ويصلي على نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويدعو، ثم يسلم تسليماً يسمعناً.
وحمل بعض أصحابنا هذا على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله أحيانا في صلاة النفل، لبيان الجواز دون الاستحباب.
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في الركعتين كأنه على الرضف حتى يقوم.
وحسّنه.
وأبو عبيدة، وإن لم يسمع من أبيه، إلا أن أحاديثه عنه صحيحة، تلقاها عن أهل بيته الثقات العارفين بحديث أبيه -: قاله ابن المدني وغيره.
وروي عن أبي بكر الصديق نحو ذلك.

(7/342)


فأما الدعاء قبل السلام في التشهد الأخير، فإنه مشروع بغير خلاف.
وحكى ابن المنذر، عن الحسن، أنه كَرِه الدعاء في المكتوبة، وأباحه في
التطوع.
ولعله أراد في غير التشهد. وقد دل عليه حديثُ ابن مسعود هذا، وليس هو بواجب كما ذكره البخاريّ، ومن العلماء من حكى الإجماع على ذلك.
قد يستدل بما روى الحسن الحر، عن القاسم بن مخيمرة، قال أخذ علقمة
بيدي، فحدثني أن ابن مسعود أخذ بيده، وأن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ بيده، فعلّمه التشهد في الصلاة - فذكر إلى آخره، ثم قال: إذا قلت هذا - أو قضيتُ هذا - فقد قضيت صلاتك، فإن شئت أن تقوم فقم، وان شئت أن تقعد فاقعد.
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود.
وقال إسحاق بن راهويه: صح هذا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهذا ظاهر في أن ما بعد التشهد ليس بواجب، ولكن قد قيل: إن القائلَ:
((إذا قلت هذا)) إلى آخره، هو ابن مسعود، وليس مرفوعاً –؛ كذلك قاله الدارقطني وأبو علي النيسابوري والبيهقي وأبو بكر الخطيب وغيرهم من الحفاظ.

(7/343)


على هذا التقدير، فإذا قال ابن مسعود هذا، وهو راوي الحديث الذي فيه:
((ثم ليتخير من الدعاء)) دل على أنه فهم من ذلك الاستحباب دون الوجوب؛ ولهذا ردّه إلى اختياره ومشيئته وإعجابه، وراوي الحديث أعلم بمعنى ما روى، فيرجع إليه فهم ذلك.
وقد سبق عن طاوسٍ: ما حكاه عنه مسلم، أنه بلغه عنه، أنه أمر ابنه بالاعادة إذا لم يتعوذ في صلاته من تلك الأربع.
وحكي بعض أصحابنا وجهاً لهم بمثل ذلك.
وحكُي عن أبي طالب، عن أحمد، أنه قال: من ترك شيئاً من الدعاء في الصلاة عمداً يعيد.
وقوله: ((ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو)) يستدل به على أنه يجوز الدعاء في الصلاة بما لا يوافق لفظه لفظ القرآن، وعامة الأدعية المروية عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاته كذلك، وقد سبق في الباب الماضي بعض ذلك.
وهذا قول جمهور العلماء، خلافاً لأبي حنيفة والثوري في قولهما: لا يدعو في صلاته إلا بما يوافق لفظَ القرآن، فإن خالف بطلت صلاته.
وحكى أصحاب سفيان الثوري مذهبه كذلك.
والصحيح - المنصوص عن أحمد -: أنه يجوز الدعاء بما يعود بمصلحة الدين بكل حالٍ، وهو قول جمهور العلماء.
وفي ((سنن أبي داود)) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: ((كيف تقول في الصلاة؟)) قالَ: أتشهد، ثُمَّ أقول: اللهمّ إني أسألك الجنة، وأعوذُ بك من النار، أما إني لا أحسنُ دندنتك

(7/344)


ولا دندنة معاذ، قالَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((حولها ندندن)) . وهذا يشعر بأنه يجوز الدعاء بمصالح الآخرة بأي لفظٍ كان.
واختلفوا: هل يجوز الدعاء في الصلاة بالمصالح الدنيوية خاصة؟
فقالت طائفة: يجوز، منهم: عروة ومالك والشافعي، وحُكي روايةً عن أحمد، واستدلوا بعموم حديث ابن مسعود.
وقالت طائفة: لا يجوز ذلك، وهو المشهور عن أحمد، واختاره أبو محمد الجويني من الشافعية. وإنما هذا فيما لم يرد النص بمثله كالرزق والعافية والصحة ونحو ذلك مما ورد الدعاء به في الأخبار في الصلاة وغيرها، فإنه يجوز الدعاء به في الصلاة، وإنما الممنوع طلبُ تفاصيل حوائج الدنيا؛ كالطعام الطيب والجارية الوضيئة.
والثوب الحسن ونحو ذَلِكَ، فان هذا عندهم من جنس كلام الآدميين الذي قالَ فيهِ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)) .
ولا فرق في استحباب الدعاء بين الإمام والمأموم والمنفرد عند جمهور العلماء. واستحب إسحاق للإمام أن يدعو في هذا الموضع بصيغة الجمع؛ ليشمل المأمومين معه، وكره أن يخص نفسه؛ للحديث المروي في النهي عن ذلك.
وللشافعية وجه ضعيف: أن الإمام لا يدعو، وهو خلاف نص

(7/345)


الشافعي؛ فإنه قال في كتاب ((الأم)) : أحبُّ لكلَُ مصلًّ أن يزيد على التشهد والصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر الله عز وجل وتحميده ودعاءً في الركعتين الأخيرتين، وأرى أن تكون زيادته ذلك إن كان إماماً أقل من قدر التشهد، والصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها قليلا؛ للتخفيف عمن خلفه، وأرى أن يكون جلوسه إذا كان وحده أكثر من ذلك، ولا أكره ما طال ما لم يخرجه ذلك إلى سهو أو خاف فيه سهواً، وإن لم يزد على التشهد والصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كرهت ذلك، ولا إعادة عليه، ولا سجود سهو. انتهى كلامه.
وقد تضمن: أنه بعد التشهد والصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يشرع له ذكر الله وتحميده، وهو خلاف نص أحمد؛ فإنه نص على أنه يدعو بعد التشهد من غير ثناء وحمد.
وسئل أحمد - أيضاً -: هل يحمد الله الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: لا أعرفه.
وقال القاضي أبو يعلى: وظاهر هذا أنه لم يستحب ذلك.
ولا يستحب للأمام أن يدعو أكثر من قدر التشهد خشية الإطالة على المأمومين، فأما المنفرد فإنه يطيل ما لم يخف السهو فيكره له الزيادة.
وقد بوّب النسائيّ في ((سننه)) : ((باب: الذكر بعد التشهد)) ، وخرج

(7/346)


فيه حديث عكرمة بن عمار: ثنا إسحاق بن أبي طلحة، عن أنسٍ، قال: جاءت أم سليٍم إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله، علمني كلمات أدعو بهن في صلاتي، قال: ((سبحي الله عشراً، واحمديه عشراً، وكبريه عشرا، ثم سليه حاجتك، يقول: نعم، نعم)) .
وخرّج –أيضاً – بعد ذلك من حديث جعفر بن محمدٍ، عن أبيه، عن جابر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في صلاته بعد التشهد: ((أحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمدٍ)) .
وهذا الحديث إنما يعرف فيه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوله في تشهده في الخطبة، كما في ((صحيح مسلمٍ)) وغيره، فلعل ذكر الصلاة فيه مما توهمه بعض الرواة، حيث سمع أنه كان يقوله في تشهده، فظنّ أنه تشهد الصلاة.
وحديث أنسٍ المتقدم، خرّجه الترمذيّ والحاكمُ في ((باب: صلاة التسبيح)) .
وحسّنه الترمذي، وصححه الحاكم، وجعلاه من جملة أحاديث صلاة التسبيح.
وخرّجه الإمام أحمد، ولم يذكر فيه: ((في صلاتي)) .

(7/347)


وقد روي الحديث بلفظٍ آخر بإسنادٍ آخر، وهو: ((إذا صليت الصلاة المكتوبة فسبحي)) .
وهذا اللفظ يحمل على أنها تقول ذلك إذا فرغت من صلاتها، فيستدل به حينئذٍ على فضل الذكر والدعاء عقب الصلاة المكتوبة، وعلى ذلك حمله ابن حبان وغيره.
وقد روي عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفتتح قيام الليل، يكبر عشراً، ويسبح عشراً، ويحمد عشراً، ويهلل عشراً، ويستغفر عشراً، ويقول: ((اللهم، اغفر لي واهدني وارزقني)) –عشراً، ويقول: ((اللهم، أني أعوذ بك من ضيق المقام يوم الحساب)) - عشراً.
خرّجه النسائي.
وخرّجه من وجوهٍ متعددةٍ بألفاظٍ متقاربةٍ، وفي بعضها: ثم يستفتح الصلاة.
وهذه الرواية تشهد لأنه كان يقول ذلك قبل دخوله في الصلاة. والله أعلم.
وروى جعفر الفريابي في ((كتاب الذكر)) بإسنادٍ صحيحٍ، عن ابن عمر، أنه رأى رجلاً دخل في الصلاة، فكبر، ثم قال: اللهم اغفر لي وأرحمني، فضرب ابن عمر منكبيه وقال: أبدأ بحمد الله عز وجل

(7/348)


والثناء عليه.
وهذا يدل على استحباب ذلك عند افتتاح الصلاة.
ومما يستدل به على استحباب الثناء على الله عز وجل في التشهد قبل الدعاء: ما روى أنس قال: كنت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورجل قائم يصلي، فلما ركع وسجد وتشهد دعا، فقال في دعائه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، إني أسألك، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأصحابه: ((هل تدرون بما دعا؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قالَ:
((والذي نفسي بيده، لقد دعا باسمه العظيم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى)) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم وقال: صحيح على شرطهما.
وعن محجن بن الأدرع، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل المسجد، فإذا رجل قد قضى صلاته وهو يتشهد، فقال: اللهم، إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم، فقال
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((قد غفر له)) –ثلاثاً.
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم، وقال: على شرطهما.

(7/349)


وخرّج الترمذي من حديث ابن مسعود، قال كنت أصلي والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله تعالى، ثم الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم دعوت لنفسي، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((سل تعطه. سل تعطه)) .
وقال: حسن صحيح.
وعن فضالة بن عبيدٍ، قال: سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يدعو في صلاته، فلم يصل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((عجل هذا)) ، ثم دعاه، فقال له –أو لغيره -: ((إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم ليدع بما شاء)) .
خرّجه الترمذي، وقال: حسن.
وخرّجه الإمام أحمد وأبو داود وعنده: ((فليبدأ بتمجيد ربه والثناء عليه)) .
وخرّجه النسائي، وزاد: فسمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يصلي فمجد الله وحمده، وصلى على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أدع تجب، وسل تعطه)) .
وخرّجه الترمذي بهذا المعنى –أيضاً -، وعنده: فقال: ((عجلت أيها
المصلي، إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله

(7/350)


وصلَّ عليَّ، ثم ادعه)) –وذكر باقيه بمعناه.
وفي هذا الحديث وحديث ابن مسعودٍ: استحباب تقديم الثناء على الله على الصلاة على نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذا قد يصدق بالدعاء بعد التشهد والصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأن التشهد فيه ثناء على الله عز وجل، فلا يحتاج إلى إعادة الثناء.
وقال إسحاق: يحمد الله بعد التشهد وقبل الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نقله عنه حرب.
واستحب إسحاق وبعض الشافعية أن يبتدئ التشهد بـ ((بسم الله)) ، وفيه حديث مرفوع ضعفه غير واحدٍ.
وقد روي عن ابن عمر، أنه كان إذا تشهد التشهد الأخير دعا فيه، ثم أخر السلام على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى نفسه وعباد الله الصالحين إلى بعد الدعاء، ثم يختم دعاءه بالسلام، ثم يسلم عن يمينه.
ولم يذكر البخاري الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد، وقد دّل هذان

(7/351)


الحديثان – أعنى: حديث ابن مسعود وفضالة –عليها، ولكن ليسا على شرطه.
وقد روى ابن إسحاق: حدثنا محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن محمد بن
عبد الله بن زيدٍ، عن عقبة بن عمرو، قال: قالوا: يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ قالَ: ((قولوا: اللهم، صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد)) .
خرّجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحهما)) والدارقطني –وقال: إسناد حسن متصل –والحاكم – وقال: صحيح الإسناد.
ويشهد لذلك: قول الصحابة للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((هذا السلام عليك قد عرفناه)) ، وإنما عرفوا السلام عليه في التشهد في الصلاة، وهو: ((السلام على النبي ورحمة الله
وبركاته)) ، فيكون سؤالهم عن الصلاة عليه في

(7/352)


الصلاة –أيضاً.
وقد خرّج ابن عدي من حديث طلحة، قال قلت: يا رسول الله، هذا التشهد قد عرفنا، فكيف الصلاة عليك –فذكره.
وفي إسناده: سليمان بن أيوب الطلحي، وقد وثقه يعقوب بن شيبة وغيره وقال ابن عديً: عامة أحاديثه أفراد لا يتابعه عليها أحد.
وخرج الحاكم والبيهقي من حديث ابن مسعودٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا تشهد أحدكم في الصلاة، فليقل: اللهم صل على محمد وآل محمدٍ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، وارحم محمداً وآل محمد، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ)) .
وفي إسناده: رجل غير مسمىً.
وخرّج الدارقطني من حديث عبد الوهاب بن مجاهدٍ، عن مجاهدٍ، قال: أخذ بيدي ابن أبي ليلى –أو أبو معمرٍ -، قال: علمني ابن مسعودٍ التشهد، وقال: علمنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((التحيات لله)) –فذكره إلى آخره، وزاد بعده: الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال: ابن مجاهد هذا، ضعيف الحديث.
وخرّج البيهقي من رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن
عبد الله، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: ((إذا جلستم بين

(7/353)


الركعتين فقولوا: التحيات لله)) – إلى آخر التشهد. قال عبد الله: وإذا قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أصابت كل عبدٍ صالحٍ أو نبيً مرسلٍ، ثم يبدأ بالثناء على الله والمدحة له بما هو أهله، وبالصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يسأل بعد ذلك.
والظاهر: أن آخره من قول ابن مسعود.
وفيه: استحباب الثناء على الله بعد التشهد قبل الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولا نعلم خلافاٌ بين العلماء في أن الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأخير مشروعة، واختلفوا: هل تصح الصلاة بدونها؟ على ثلاثة أقوالٍ:
أحدها: لا تصح الصلاة بدونها بكل حال، وهو مذهب الشافعي وأحمد –في رواية عنه.
وروي عن أبي مسعودٍ الأنصاري، قال: ما أرى أن لي صلاة تمت لا أصلي فيها على محمد وآله.
وخرّج ابن ماجه من رواية عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعدٍ، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا صلاة لمن لم يصل على نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) .
وعبد المهيمن، تكلموا فيه.
والثاني: تصح الصلاة بدونها مع السهو دون العمد، وهو رواية أخرى عن أحمد وإسحاق.
وروي معناه عن ابن عمر من قوله.
خرّجه المعمري في كتاب ((عمل يومٍ وليلةٍ)) .

(7/354)


واستدل بعض من قال ذلك بحديث فضالة بن عبيد المتقدم ذكره، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر من صلى ولم يصل عليه بالإعادة حيث لم يكن يعلم ذلك، وإنما علمه أن يقولها فيما بعد.
والثالث: تصح الصلاة بدونها بكل حال، وهو قول أكثر العلماء، منهم: أبو حنيفة ومالك والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق –في رواية عنهما – وداود وابن جريرٍ وغيرهم.
وقال النخعي: كانوا يكتفون بالتشهد من الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرّجه سعيد بن منصورٍ.
ولعله أراد: أن التسليم عليه والشهادة له بالرسالة تكفي من الصلاة عليه.
وقد روي عنه ما يدل على أن ذلك مراده، وعن منصور والثوري نحوه –
أيضاً.
واستدل لذلك بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعلم المسيء في صلاته الصلاة عليه، ولا صح عنه أنه علمها أصحابه مع التشهد، مع أنه علمهم الدعاء بعده، وليس بواجبٍ كما
سبق.

(7/355)


والأمر بها في حديث ابن إسحاق لا يدل على الوجوب؛ فإنه إنما أمرهم عندَ سؤالهم عنه، وهذه قرينة تخرج الأمر عن الوجوب، على ما ذكره طائفة من الأصوليين؛ فإنه لو كان أمره للوجوب لا بتدأهم به، ولم يؤخره إلى سؤالهم، مع حاجتهم إلى بيان ما يجب في صلاتهم؛ فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فدل على أنه اكتفى بالسلام عليه عن الصلاة.
يدل على ذلك: أن عمر كان يعلم الناس التشهد على المنبر، ولم يذكر فيه الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك روي صفة التشهد عن طائفةٍ من الصحابة، منهم: ابن عمر وعائشة وغيرهما، ولم يذكروا فيه الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
* * *
151 -

(7/356)


باب
من لم يمسح جبهته وأنفه حتى صلى
قال أبو عبد الله: رأيت الحميدي يحتج بهذا الحديث أن لا يمسح الجبهة في الصلاة.

(7/357)


836 - حدثنا مسلم بن إبراهيم: ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، قال: سألت أبا سعيدٍ الخدري، فقال: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجد في الماء والطين، حتى رأيت أثر الطين في جبهته.
هذا مختصر من الحديث الذي فيه ذكر طلب ليلة القدر، وقد سبق بتمامه في ((أبواب السجود)) ، وسيأتي في آخر ((الصيام)) –إن شاء الله سبحانه وتعالى –بألفاظٍ أخر، وفي بعضها: أانه قال: فبصرت عيني رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنظرت إليه انصرف من الصبح ووجهه ممتلىء.
ولا شك أنه لم ينظر إلى وجهه إلا بعد انصرافه من الصلاة، فدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يمسح أثر الطين من جبهته وأنفه في الصلاة، وهذا هو الذي أشار إليه الحميدي.
وقد اتفقوا على أن تركه في الصلاة أفضل، فإنه يشبه العبث،

(7/357)


واختلفوا: هل هو مكروهُ، أم لا؟
قال ابن المنذر: روينا عن ابن مسعودٍ، أنه قال: من الجفاء مسح الرجل أثر سجوده في الصلاة.
وكره ذلك الأوزاعي وأحمد ومالك.
وقال الشافعي: تركه أحب إلي، وإن فعل فلا شيء عليه.
ورخص مالك وأصحاب الرأي فيه. انتهى.
وروي عن ابن عباس، أنه قال: لا يمسح وجهه من التراب في الصلاة حتى يتشهد ويسلم.
وعن سعيد بن جبير: أنه عدّه من الجفاء.
وعن الحسن: أنه رخص فيه.
وقال سفيان –في نفض التراب عن اليدين في الصلاة -: يُكره.
وأما عن الوجه فهو أيسر، وفي كراهته حديثان مرفوعان:
أحدهما: خرّجه ابن ماجه من روايةٍ هارون بن هارون بن عبد الله بن الهدير، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إن من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل الفراغ من صلاته)) .
وهارون هذا، قال البخاري: لا يتابع على حديثه. وضَّعفه النسائي

(7/358)


والدارقطني.
والثاني: من رواية سعيد بن عبيد الله بن زياد بن جبير بن حية، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((ثلاث من الجفاء: أن يبول الرجل قائماً، أو يمسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أو ينفخ في سجوده)) .
خَّرجه البزار في ((مسنده)) والطبراني والدارقطني وغيرهم.
وسعيد هذا، احتج به البخاري ووثقه أحمد وابن معينٍ وأبو زرعة وغيرهم.
لكنه خولف في إسناد هذا الحديث:
فرواه قتادة والجريري، عن ابن بريدة، عن ابن مسعودٍ من قوله.
ورواه كهمس، عن ابن بريدة، قال: كان يقال ذلك.
وهذا الموقوف أصح.
وحكى البيهقي، عن البخاري، أنه قال في المرفوع: هو حديث منكر يضطربون فيه.

(7/359)


وأشار الترمذي إليه في ((باب: البول قائما)) ، ولم يخرجه، ثم قال: حديث بريدة في هذا غير محفوظٍ.
قال البيهقي: وقد روي فيه من أوجه أخرى، كلها ضعيفة.
فأما مسح الوجه من أثر السجود بعد الصلاة، فمفهوم ما روي عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ يدل على أنه غير مكروهٍ.
وروى الميموني، عن أحمد، أنه كان اذا فرغ من صلاته مسح جبينه.
وقد روي من حديث أنسٍ، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان اذا قضى صلاته مسح جبهته بكفه اليمنى.
وله طرق عن أنس، كلها واهية.
وكرهه طائفة؛ لما فيه من إزالة أثر العبادة، كما كرهوا التنشيف من الوضوء والسواك للصائم.
وقال عبيد بن عميرٍ: لا تزال الملائكة تصلي على إلانسان ما دام أثر السجود في وجهه.
خَّرجه البيهقي بإسنادٍ صحيحٍ.
وحكى القاضي أبو يعلي روايةً عن أحمد، أنه كان في وجهه شيء من أثر السجود فمسحه رجل، فغضب، وقال: قطعت استغفار الملائكة عني.
وذكر إسنادها عنه، وفيه رجل غير مسمىً.

(7/360)


وبوب النسائي ((باب: ترك مسح الجبهة بعد التسليم)) ، ثم خرج حديث أبي سعيد الخدري الذي خَّرجه البخاري هاهنا، وفي آخره: قال ابو سعيدٍ: مطرنا ليلة أحدى وعشرين، فوكف المسجد في مصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح، ووجهه مبتل طيناً وماءً.
* * *

152 -

(7/361)


باب
التسليم

(7/362)


837 - حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا إبراهيم بن سعد: ثنا الزهري، عن هند بنت الحارث، أن أم سلمة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه، ومكث يسيراً قبل أن يقوم.
قال ابن ئهاب: فأرى –والله أعلم - أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم.
المقصود من هذا الحديث: ذكر تسليم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصلاة، وتسليمه من الصلاة مذكور في أحاديث كثيرة جداً، قد سبق بعضها، ويأتي بعضها، كمثل حديث ابن بحينة في قيام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الثنتين ولم يجلس، ومثل حديث عمران بن حصين حين صلى خلف علي بن أبي طالب –رضي الله عنهما -، ومثل حديث أبي هريرة في سلام
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من اثنتين، وكلام ذي اليدين له، وحديث ابن مسعودٍ في سجود السهو –أيضاً.
والاحاديث في ذلك كثيرة جداً.
ولعله ذكر هاهنا هذا الحديث لما ذكر فيه من قيام النساء حين يقضي تسلميه؛ فإن هذا الكلام يشعر بإنه كانَ يسلم تسليمتين، فإذا قضاهما

(7/362)


قام النساء، فإنه لا يقال: ((قضى الله)) بمعنى الفراغ منه إلا فيما لهُ أجزاء متعددة تنقضي شيئاً فشيئاً، كما قالَ تعالى: {فإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} [النساء:103] ، {? فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ}
[الجمعة:10] ، {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ} [البقرة:200] .
وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشيطان وهربه من الأذان والتثويب به: ((فإذا قضي الأذان –وإذا قضي التثويب –أقبل)) .
ولا يكاد يقال لمن سلم على قومٍ مرة: قضى سلامه، بمعنى فرغ، ولا لمن كبر للإحرام: قضى تكبيره، ولا لمن عطس فحمد الله: قضى حمده.
ولم يخرج البخاري الأحاديث المصرحة بتسليم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسليمتين عن يمينه وشماله في الصلاة شيئاً، ولعله كان يميل إلى قول من يقول بالتسليمة الواحدة، وقد كان شيخه ابن المديني يميل إلى ذلك، متابعة لشيوخه البصريين.
وخَّرج مسلم في ((صحيحه)) من أحاديث التسليمتين عدة أحاديث:
منها: حديث مجاهد، عن أبي معمر، أن أميراً كان يسلم تسليمتين بمكة، فقال – يعني: ابن مسعودٍ -: أنى علقها، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله.
وقد اختلف في رفعه ووقفه، وخَّرجه مسلم بالوجهتين.
وخرّج –أيضاً - من حديث سعد بن أبي وقاصٍ، قال: كنت أرى

(7/363)


رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم عن يمينه وعن يساره، حتى أرى بياض خده.
وهو من رواية عبد الله بن جعفرٍ المخرمي، ولم يخرج له البخاري.
وخرّج –أيضاً - من حديث عبيد الله بن القبطية، عن جابر بن سمرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله)) .
وروى أبو إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم عن يمينه وعن يساره: ((السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله)) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
وفي روايةٍ لهم: حتى يرى بياض خده.
وخرّجه الترمذي بدون ذلك، وصححه.
وخرّجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحهما)) والحاكم وصححه.
وصححه العقيلي، وقال: الأحاديث صحاح ثابتةٌ من حديث ابن مسعودٍ في تسليمتين.
وفي رواية للنسائي: ورأيت أبا بكرٍ وعمر يفعلان ذلك.

(7/364)


قد اختلف في إسناده على أبي إسحاق على أقوالٍ كثيرةٍ، وفي رفعه ووقفه، وكان شعبةُ ينكر أن يكون مرفوعاً.
وروى عمرو بن يحيى المازني، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، أنه سأل ابن عمر عن صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف كانت؟ قال: ((الله أكبر)) ، كلما وضع ورفع، ثم يقول: ((السلام عليكم ورحمه الله)) عن يمينه، ((السلام عليكم ورحمه الله)) عن يساره.
خَّرجه الإمام أحمد والنسائي.
وهذا إسناد جيد.
قال ابن عبد البر: هو إسناد مدني صحيح، إلا أنه يعلل بأن ابن عمر كان يسلم تسليمةً واحدةً، فكيف يروي هذا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يخالفه؟
وقد ذكر البيهقي أنه اختلف في إسناده، لكنه رجح صحته.
ورواه –أيضاً - بقية، عن الزبيدي، عن الزهري، عن سالمٍ، عن ابن عمر –مرفوعاً - أيضاً.

(7/365)


قال أبو حاتم: هو منكر.
وقال الدارقطني: اختلف على بقية في لفظه: روي أنه كان يسلم تسليمتين، وروي تسليمةً واحدةً، وكلها غير محفوظةٍ.
وقال الأثرم: هو حديث واهٍ، وابن عمر كان يسلم واحدةً، قد عرف ذلك عنه من وجوهٍ، والزهري كان ينكر حديث التسليمتين، ويقول: ما سمعنا بهذا.
وروي –أيضاً - من حديث حميدٍ الساعدي، أنه لما وصف صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سلم عن يمينه وشماله.
خرّجه أبو داود من رواية الحسن بن الحر: حدثني عيسى بن عبد الله بن مالكٍ، عن محمد بن عمرة وابن عطاءٍ، عن عباس بن سهلٍ، عنه.
وقد سبق الكلام على هذا الإسناد.
وفي الباب أحاديث كثيرة، لا تخلو أسانيد غالبها من كلام.
وقد قال الإمام أحمد –في رواية ابنه عبد الله -: ثبت عندنا، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير وجهٍ، أنه كان يسلم عن يمينه وعن شماله، حتى يرى بياض خده.
وقال العقيلي: الأحاديث الصحاح عن ابن مسعودٍ وسعد بن أبي

(7/366)


وقاص وغيرهما في تسليمتين.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يسلم تسليمةً واحدةً من وجوهٍ لا يصح منها شيء -: قاله ابن المديني والأثرم والعقيلي وغيرهم.
وقال الإمام أحمد: لا نعرف عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التسليمة الواحدة إلا حديثاً مرسلاً لابن شهابٍ الزهري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انتهى.
ومرسيل ابن شهابٍ من أوهى المراسيل وأضعفها.
ومن أشهرها: حديث زهير بن محمدٍ، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن
عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم في الصلاة تسليمةً واحدةً تلقاء وجهه، ثم يميل إلى الشق الأيمن شيئاً.
خرّجه الترمذي من رواية عمرو بن أبي سلمة التنيسي، عن زهير، به.
وقال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من من هذا الوجه. قال محمد بن إسماعيل: زهير بن محمد أهل الشام يروون عنه مناكير، ورواية أهل العراق عنه أشبه.
وخرّجه ابن ماجه من طريق عبد الملك بن محمد الصنعاني، عن زهير، به، مختصراً.
وخرّجه الحاكم، وقال: صحيح على شرطهما.
وأخطأ فيما قال؛

(7/367)


فإن روايات الشاميين عن زهيرٍ مناكير عند أحمد ويحيى بن معينٍ والبخاري وغيرهم.
قال أحمد –في رواية الأثرم -: أحاديث التنيسي عن زهيرٍ بواطيل. قال: وأظنٌّه قال: موضوعةٌ. قال: فذكرت له هذا الحديث في التسليمة الواحدة. فقال: مثلُ هذا.
وذكر ابن عبد البر: أن يحيى بن معين سئل عن هذا الحديث، فضعفه.
وقال أبو حاتم الرازي: هو منكر، إنما هو عن عائشة –موقوفٌ.
وكذا رواه وهيب بن خالد، عن هشام.
وكذا رواه الوليد بن مسلمٍ عن زهير بن محمدٍ، عن هشامٍ، عن أبيه –موقوفاً.
قال الوليد: فقلت لزهيرٍ: فهل بلغك عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه شيء؟ قال: نعم، أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم تسليمةً واحدةً.
قال العقيلي: حديث الوليد أولى.
يعني: من حديث عمرو بن أبي سلمة.
قال: وعمرو في حديثه وهم.

(7/368)


قال الدارقطني: الصحيح وقفه، ومن رفعه فقد وهم.
وخرج النسائي من حديث سعد بن هشامٍ، عن عائشة في صفة صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالليل، أنه كان يسلم تسليمةً يسمعنا.
وخَّرجه الإمام أحمد، ولفظه: يسلم تسليمةً واحدةً: ((السلام عليكم)) يرفع بها صوته، حتى يوقظنا.
وقدحمله الإمام أحمد على أنه كان يجهر بالواحدة، ويسر الثانية.
وروي عبد الوهاب الثقفي، عن حميدٍ، عن أنسٍ، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمة واحدة.

(7/369)


خَّرجه الطبراني والبيهقي.
ورفعه خطأ، إنما هو موقوف، كذا رواه أصحاب حميدٍ، عنه، عن أنسٍ، من فعله.
وروى جرير بن حازمٍ، عن أيوب، عن أنسٍ، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكرٍ وعمر كانوا يسلمون تسليمةً واحدةً.
خَّرجه البزار في ((مسنده)) .
وأيوب، رأى أنساً، ولم يسمع منه -: قاله أبو حاتمٍ.
وقال الأثرم: هذا حديث مرسل، وهو منكر، وسمعت أبا عبد الله

(7/370)


يقول: جرير بن حازم يروي عن أيوب عجائب.
وروى روح بن عطاء بن أبي ميمونة: ثنا أبي، عن الحسن، عن سمرة: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم في الصلاة تسليمةً واحدةً قبالة وجهه، فإذا سلم عن يمينه سلم عن يساره.
خَّرجه الدارقطني والعقيلي والبيهقي وغيرهم، وخَّرجه بقي بن مخلدٍ مختصراً.
وروح هذا، ضعفه ابن معين وغيره، وقال الأثرم: لا يحتج به.
وفي الباب أحاديث أخر لا تقوم بها حجة، لضعف أسانيدها.

(7/371)


وقد اختلف الصحابة ومن بعدهم في ذلك: فمنهم من كان يسلم ثنتين، ومنهم من كان يسلم واحدةً.
قال عمار بن أبي عمارٍ: كان مسجد الأنصار يسلمون تسليمتين، ومسجد المهاجرين يسلمون تسليمةً واحدةً.
وأكثر أهل العلم على التسليمتين.
وممن روي عنه ذلك من الصحابة: أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعودٍ وعمار وسهل بن سعدٍ ونافع بن عبد الحارث.
وروي عن عطاءٍ والشعبي وعلقمة ومسروقٍ وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعمرو بن ميمونٍ وأبي وائلٍ وأبي عبد الرحمن السلمي.
وهو قول النخعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثورٍ، وحكي عن الأوزاعي.
وروي التسليمة الواحدة عن ابن عمر وأنسٍ وعائشة وسلمة بن الأكوع، وروى عن عثمان وعليً –أيضاً -، وعن الحسن وابن سيرين وعطاءٍ –أيضاً – وعمر بن عبد العزيز والزهري، وهو قول مالكٍ والاوزاعي والليث.
وهو قول قديم للشافعي.
وحكاه أحمد عن أهل المدينة، وقال: ما كانوا يسلمون إلا واحدةً. قال: وإنما حدثت

(7/372)


التسليمتان في زمن بني هاشمٍ.
يعني: في ولاية بني العباس.
وقال الليث: أدركت الناس يسلمون تسليمةً واحدةً.
وقد اختلف على كثيرٍ من السلف في ذلك، فروى عنهم التسليمتان، وروي عنهم التسليمة الواحدة، وهو دليلٌ على أن ذلك كان عندهم سائغاً، وإن كان بعضه أفضل من بعضٍ، وكان الأغلب على أهل المدينة التسليمة الواحدة، وعلى أهل العراق التسليمتان.
وحكي للشافعي قولٌ ثالثٌ قديمٌ –أيضاً -، وقيل: إن الربيع نقله عنه، فيكون حينئذٍ جديداً -: أنه إن كان المصلي منفرداً أو في جماعةٍ قليلةٍ ولا لغط عندهم فتسليمةٌ واحدةٌ، وإلا فتسليمتان.
والقائلون بالتسليمتين أكثرهم على أنه لو اقتصر على تسليمة واحدة أجزأه، وصحت صلاته، وذكره ابن المنذر إجماعاً ممن يحفظ عنه من أهل العلم.
وذهب طائفة منهم إلى أنه لا يخرج من الصلاة إلا بالتسليمتين معاً، وهو قول الحسن بن حي وأحمد –في روايةٍ عنه – وبعض المالكية وبعض أهل الظاهر.
واستدلوا بقوله عليه السلام: ((تحليلها التسليم)) ، وقالوا: التسليم إلى ما عهد منه فعله، وهو التسليمتان، وبقوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) ، وقدكان يسلم تسليمتين.

(7/373)


ومن ذهب إلى قول الجمهور، قال: التسليم مصدرٌ، والمصدر يصدق على القليل والكثير، ولا يقتضي عدداً، فيدخل فيه التسليمة الواحدة.
واستدلوا بأن الصحابة قد كان منهم من يسلم تسليمتين، ومنهم من يسلم تسليمةً واحدةً، ولم ينكر هؤلاء على هؤلاء، بل قد روي عن جماعةٍ منهم التسليمتان والتسليمة الواحدة، فدل على أنهم كانوا يفعلون أحياناً هذا وأحياناً هذا، وهذا اجماع منهم على أن الواحدة تكفي.
قال أكثر أصحابنا: ومحل الخلاف عن أحمد في الصلاة المكتوبة، فأما التطوع فيجزئ فيه تسليمة، واستدلوا بحديث عائشة في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالليل، وقد سبق ذكره.
وخرّج الإمام أحمد من حديث إبراهيم الصائغ، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفصل بين الشفع والوتر بتسليمةٍ يسمعناها.
وقد تأول حديث عائشة في هذا المعنى على أنه كان يسمعهم واحدةً ويخفي
الثانية، وقد نص أحمد على ذلك، وأن الأولى تكون أرفع من الثانية في الجهر.
وقد روى أبو رزينٍ، قال: سمعت علياً يسلم في الصلاة عن يمينه

(7/374)


وعن شماله، والتي عن شماله أخفض.
ومن أصحابنا من قال: يجهر بالثانية ويخفض بالأولى، وهو قول النخعي.
واختلفوا في صفة التسليم:
فقالت طائفةٌ: صفة التسليم: ((السلام عليكم ورحمه الله)) ، وهذا مروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه، إليه ذهب أكثر العلماء.
ولو اقتصر على قوله ((السلام عليكم)) أجزأه عند جمهورهم، ولأصحاب أحمد فيه وجهان.
وقالت طائفة: يزيد مع ذلك: ((وبركاته)) ، ومنهم: الأسود بن يزيد، كان يقولها في التسليمة الأولى.
وقال النخعي: أقولها وأخفيها.
واستحبه طائفة من الشافعية.
وقد خرّج أبو داود من حديث وائل بن حجر، أنه صلى مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان يسلم عن يمينه: ((السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)) ، وعن شماله: ((السلام عليكم ورحمة الله)) .
ومن أصحابنا من قال: إنما فعل ذلك مرةً لبيان الجواز.

(7/375)


وكان من السلف من يقول في التسليمة الأولى: ((السلام عليكم ورحمه الله)) ، ويقتصر في الثانية على ((السلام عليكم)) ، وروي عن عمار وغيره.
وقد تقدم حديث ابن عمر المرفوع بموافقة ذلك.
وقالت طائفة: بل يقتصر على قوله: ((السلام عليكم)) بكل حالٍ، وهو قول مالك والليث بن سعدٍ، وروي عن علي وغيره.
وكذلك هو في بعض روايات حديث جابر بن سمرة المرفوع.
وفي بعضها زيادة: ((ورحمه الله)) .
وقد خَّرجه مسلم بالوجهين.
واكثر العلماء على أنه لا يخرج من الصلاة بدون التسليم، واستدلوا بحديث: ((تحليلها التسليم)) .
وممن قال من الصحابة: تحليل الصلاة التسليم: ابن مسعودٍ وابن عباسٍ، وحكاه الإمام أحمد إجماعاً.
وذهب طائفة إلى أنه يخرج من الصلاة بفعل كل منافٍ لها، من أكلٍ أو شربٍ أو كلامٍ أو حدثٍ، وهو قول الحكم وحماد والثوري وأبي حنيفة وأصحابه والأوزاعي وإسحاق.
ولم يفرقوا بين أن يوجد المنافي باختيار المصلي أو بغير اختياره إلا أبا حنيفة، فإنه قال: إن وجد باختياره خرج من الصلاة بذلك، وإن وجد بغير اختياره بطلت صلاته، وجعل الفرض الخروج منها بفعل المنافي باختيار المصلى لذلك.
وخالفه صاحباه في اشتراط ذلك.

(7/376)


وقد حكي عن طائفة من السلف: أن من أحدث بعد تشهده تمت صلاته، منهم: الحسن وابن سيرين وعطاء – على خلاف عنه – والنخعي.
وروي ذلك عنن علي بن أبي طالب، وقد أنكر صحته أحمد وأبو حاتمٍ الرازي وغيرهما.
وروي –أيضاً - عن ابن مسعود من طريقٍ منقطعٍ.
واستدل لهؤلاء بحديث ابن مسعود: ((إذا قلت هذا وقضيت هذا فقد قضيت صلاتك، فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد)) .
وقد سبق ذكره، والاختلاف في رفعه ووقفه على ابن مسعودٍ.
واختلف في لفظه –أيضاً -: فرواه بعضهم، وقال: قال ابن مسعودٍ: فإذا فرغت من صلاتك، فإن شئت فاثبت، وإن شئت فانصرف.
خَّرجه البيهقي.
وهذه الرواية تدل على أنه إنما خيره إذا فرغ من صلاته، وإنما يفرغ بالتسليم؛ بدليل ما روى شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: مفتاح الصلاة التكبير، وانقضاؤها التسليم، إذا سلم الإمام فقم إن شئت.
قال البيهقي: وهذا أثر صحيح.
وقال: ويكون مراد ابن مسعودٍ: الإنكار على من زعم أن المأموم لا يقوم حتى يقوم إمامه.
وحمل أبو حنيفة وإسحاق حديث: ((تحليلها والتسليم)) على

(7/377)


التشهد، وقالوا: يسمى التشهد تسليماً؛ لما فيه من التسليم على النبي والصالحين.
وهذا بعيد جداً.
واستدلوا –أيضاً - بما روى عبد الرحمن بن زيادٍ الأفريقي، أن عبد الرحمن بن رافعٍ وبكر بن سوادة أخبراه، عن عبد الله ابن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا أحدث وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم جازت صلاته)) .
خَّرجه الترمذي.
وقال: إسناده ليس بالقوي، وقد اضطربوا في إسناده، والأفريقي ضعفه القطان وأحمد بن حنبلٍ.
وخَّرجه أبو داود بمعناه.
وخَّرجه الدارقطني، ولفظه: ((إذا أحدث بعدما يرفع رأسه من آخر سجدة واستوى جالساً تمت صلاته)) .
وقد روي بهذا المعنى عن الأفريقي، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو –مرفوعاً.
وهذا اضطراب منه في إسناده، كما أشار اليه الترمذي، ورفعه منكر جداً، ولعله موقوف، والأفريقي لا يعتمد على ما ينفرد به.
قال حربٌ: ذكرت هذا الحديث لأحمد، فرده، ولم يصححه.

(7/378)


وقال الجوزجاني: هذا الحديث لا يبلغ القوة أن يدفع أحاديث: ((تحليلها
التسليم)) .
وأجاب بعضهم عن هذا، وعن حديث ابن مسعودٍ –على تقدير صحتهما –بالنسخ، واستدل بما روى عمر بن ذرَّ، عن عطاء بن أبي رباحٍ، قالَ: كانَ النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد في آخر صلاته قدر التشهد أقبل على الناس بوجهه، وذلك قبل أن ينزل التسليم.
خَّرجه البيهقي.
وخَّرجه وكيعٌ في ((كتابه)) عن عمر بن ذرَّ، عن عطاءٍ – بمعناه -، وقال: حتَّى نزل التسليم.
وقد ذكرنا –فيما تقدم في أول ((كتاب الصَّلاة)) –حديثاً، عن عمر، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يصلي في أول الاسلام ركعتين، ثُمَّ أمر أن يصلي أربعا، فكان يسلم بين كل ركعتين، فخشينا أن ينصرف الصبي والجاهل، يرى أنه قد أتم الصَّلاة، فرأيت أن يخفي الإمام التسليمة الأولى، ويعلن بالثانية، فافعلوا ذَلِكَ.
خَّرجه الإسماعيلي.
وإسناده ضعيف.

(7/379)


ولم يقل بذلك أحد من علماء المسلمين: إن الصَّلاة الرباعية المكتوبة يسلم فيها مرتين: مرة في التشهد الأول، ومرة في الثاني، ولكن الإمام يسر السلام الأول، ويعلن بالثاني، والأحاديث كلها تدل على أنه لم يكن يسلم فيها إلا مرةً واحدةً، في التشهد الثاني خاصةً.
* * *
153 -

(7/380)


باب
يسلم حين يسلم الإمام
وكان ابن عمر يستحب إذا سلم الإمام أن يسلم من خلفه.
روى وكيع بإسناده، عن مجاهد، قال: سألت ابن عمر، يسلم الإمام وقد بقي شيءٌ من الدعاء، أدعو أو أسلم؟ قال: لا، بل سلم.
وقد نص الإمام أحمد على هذه المسالة، وأن يسلم مع الإمام ويدع الدعاء، إلا أن يكون قد بقي عليه منه شيءٌ يسيرٌ، فيتمه ثم يسلم.
ومذهب سفيان - فيما نقله عنه أصحابه -: إذا سلم الإمام سلم من خلفه، وإن كان بقي عليه شيءٌ من التشهد قطعه.
ولعل مراده: الدعاء بعد التشهد.
ولكن نقل حسان بن إبراهيم، عن سفيان: أنه قال: إن كان بقي عليه شيءٌ من التشهد فليسلم، فإنه أحب إلي.
واستحب أحمد وإسحاق سلام المأموم عقب سلام الإمام، وجعله أحمد من جملة الائتمام به، وعدم الاختلاف عليه.
والأولى للمأموم أن يسلم عقب فراغ الإمام من التسليمتين، فان سلم بعد تسليمته الأولى جاز عند من يقول: إن الثانية غير واجبةٍ؛ لأنه يرى أن الإمام قد خرج من الصلاة بتسليمته الأولى، ولم يجز عند من يرى أن الثانية واجبةٌ، لا يخرج من الصلاة بدونها.

(7/381)


واختلف أصحاب الشافعي: هل الأفضل أن يسلم المأموم بعد تسليمة الإمام
الأولى، أو بعد تسليمته الثانية؟ على وجهين.
وقال الشافعي – في ((البويطي)) -: من كان خلف إمامٍ، فإذا فرغ الإمام من سلامه سلم عن يمينه وعن شماله.
وهذا يدل على أنه لا يسلم إلا بعد فراغ الإمام من التسليمتين، ويدل –أيضاً -، على أنه لا يستحب للمأموم التخلف عن سلام الإمام، بل يسلم عقب سلامه.
وهذا على قول من قال من أصحابه –كالمتولي -: إنه يستحب للمأموم أن يسلم بعد فراغ الإمام من التسليمة الأولى –أظهر.
وقال القاضي أبو الطيب الطبري منهم: المأموم بالخيار، إن شاء سلم بعده، وإن شاء استدام الجلوس للتعوذ والدعاء وأطال لك، وعلل: أنه قد انقطعت قدوته بالإمام بسلامه.
وهذا مخالفة لنص الشافعي، وعامة أصحابه، وللمأثور عن الصحابة.
ولو سلم المأموم مع تسلم إمامه، ففي بطلان صلاته لأصحابنا وأصحاب الشافعي وجهان، سبق ذكرهما عند ذكر متابعة المأموم للإمام.
والأصح عندنا وعندهم: أنه لا تبطل صلاته، كما لو قارنه في سائر الأركان، سوى تكبيرة الإحرام.
ومذهب مالك: البطلان.
وقد استحب طائفة من السلف التسليم مع الإمام.

(7/382)


وروى وكيع في ((كتابه)) عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يسلم مع تسليم الإمام.
وبإسناده، عن إبراهيم، قال: إن شئت سلمت معه، وإن شئت سلمت بعده.
وعن عطاءٍ، أنه كان ربما سلم تسليمه، وربما سلم بعده.
وقد يحتمل أن يكون مراد هؤلاء السلف بالسلام معه: السلام عقبيه، من غير مهلةٍ، وبالسلام بعده: التأخر عنه. والله أعلم.
وقد وقع في كلام المتقدمين في إسلام الزوجين معاً ما يدل على أن مرادهم به: اجتماعهما في الإسلام في مجلسٍ واحدٍ، أو يومٍ واحدٍ، وفيه حديثٌ مرفوعٌ يشهد
بذلك.
وإن سلم المأموم قبل سلام إمامه لم يجز، وبطلت صلاته إن تعمد ذلك ولم ينو مفارقته على وجه يجوز معه المفارقة، إلا عند من يرى أن السلام ليس من الصلاة، ويخرج منها بإنهاء التشهد، أو بدون التشهد عند من يرى أن التشهد الأخير سنة.
لكن من قال منهم: لا يخرج من الصلاة إلا بالإتيان بالمنافي، فإنه لا يجيز للمأموم أن يخرج من الصلاة قبل خروج إمامه بذلك.
وظاهر ما روي عن ابن مسعودٍ يدل على جوازه، وأنه يخرج من الصلاة بإنهاء التشهد، وقد تقدم قوله: فإذا قلت ذلك، فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد.

(7/383)


وروي ذلك عن علي صريحاً، فروى عبد الرزاق في ((كتابه)) ، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، قال: إذا تشهد الرجل وخاف أن يحدث قبل أن يسلم الإمام فليسلم، فقد تمت صلاته.
وقد رواه الحكم، عن عاصمٍ، عن علي، ولفظه: إذا جلس مقدار التشهد، ثم أحدث فقد تمت صلاته.
فيكون أمره بالمبادرة بالسلام على وجه الاستحباب، فإنه لو أحدث لم تبطل صلاته عنده.
وقد حكي مذهب أبي حنيفة مثل ذلك. والله أعلم.
قال البخاري:
838 -

(7/384)


ثنا حبان بن موسى: ثنا عبد الله – هو: ابن المبارك -: أنا معمر، عن الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عتبان، قال صلينا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فسلمنا حين سلم.
هذا مختصر من حديث عتبان الطويل في إنكاره بصره، وطلبه من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتي إلى بيته فيصلي فيه في مكان يتخذه مسجدا، وقد خَّرجه بتمامه في الباب الذي يلي هذا عن عبدان، عن ابن المبارك.
وقد خَّرجه فيما مضى من طريق عقيل ومالك وإبراهيم بن سعدٍ، عن الزهري – مختصراً ومطولاً -، وليس في رواياتهم: ((

(7/384)


فسلمنا حين سلم)) ، إنما هذه في رواية معمرٍ المخَّرجة في هذا الباب.
وقوله: ((سلَّمنا حين سلم)) ظاهرة يقتضي أنهم سَّلموا مع سلامه؛ لأن
((الحين)) معناه الوقت، فظاهر اللفظ يقتضي أن سلامهم كانَ في وقت سلامه مقارناً لهُ، وليس هذا هوَ المراد –والله أعلم – وإنما المراد: أنهم سلمو اعقيب سلامه من غير تأخر عنه، وعبر عن ذَلِكَ باتحاد الوقت، والحيز؛ فإن التعاقب شبيه بالتقارب وهو – أيضاً –المراد –والله اعلم. من المروري عن ابن عمر وغيره من السلف في السلام مع
الإمام، وأنهم أرادوا بالمعية: التعاقب، دون التقارن.
* * *

(7/385)


154 - باب
من لم يرد السلام على الإمام واكتفى بتسليم الصلاة
خَّرج فيه حديث عتبان –أيضاً:
839 - 840 -

(7/386)


عن عبدان، عن ابن المبارك، بالإسناد المتقدم، وذكر الحديث بتمامه، وفي آخر قالَ:
فغدا علي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكرٍ معه بعدما أشتد النهار، فأستأذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأذنت له، فلم يجلس حتى قال: ((اين تحب أن اصلي من بيتك؟)) فأشار إليه من المكان الذي أحب أن يصلي فيه، فقام وصففنا خلفه، ثم سلم، وسلمنا حين سلم.
مراده بهذا الحديث في هذا الباب: أن الذين صلوا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيت عتبان سلموا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين سلم من الصلاة، ولم يوجد منهم سوى السلام من الصلاة كسلام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها، وفي ذلك ردٌ على من قال: إن المأموم يرد على الإمام سلامه مع تسليمه من السلام إما قبله أو بعده.
وقد قال بذلك طوائف من السلف، منهم: ابن عمر وأبو هريرة:
فروي عن ابن عمر، أنه كان إذا سلم الإمام رد عليه، ثم سلم عن يمينه، فإن سلم عليه أحد عن يساره رد عليه وإلاّ سكت.

(7/386)


وروي عنه، أنه كان يسلم عن يمينه، ثم يرد على الإمام.
وعن أبي هريرة، أنه كان إذا سلم الإمام قال: السلام عليك أيها القارئ.
وقال عطاء: ابدأ بالامام، ثم سلم على من عن يمينك، ثم على من عن شمالك.
وعن الحسن وقتادة نحوه.
وقال الشعبي: إذا سلم الإمام فَّرد عليه.
وكان سالمٌ يفعله.
وقاله النخعي.
وقال الزهري: هو سنةٌ.
قال مكحولٌ: كان أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يردون على الإمام إذا سلم عليهم.
وقال عطاء –أيضاً -: حق عليك أن ترد على الإمام إذا سلم.
وقال – مرةً -: هو مخيرٌ، إن شاء رد عليه، وإن شاء صبر حتى يسلم لنفسه، وينوي به الإمام، ومن صلى على جانبيه.
وقال في الرد على الإمام: يرد في نفسه، ولا يسمعه.
وكذا قال حمادٌ.
فإن كان مرادُ من قال: يرد على الإمام: أنه يرد عليه السلام في نفسه، ولا يتكلم به، فهذا الرد إذا فعله في الصلاة لا تبطل به الصلاة، وإن كان مراده: أنه يرد بلسانه، كما هو ظاهر أكثرهم، فإنه ينبني على أن ردَّ السلام في الصلاة لا يبطل الصلاة، وقد ذهب إلى ذلك

(7/387)


طائفة من السلف، ويأتي ذكره في موضعٍ آخر – إن شاء الله تعالى.
وقد ينبني –أيضاً -، على أن السلام ليس من فروض الصلاة، وأنه يخرج من الصلاة بكل منافٍ لها من الكلام ونحوه، كما قال ذلك من ذكرنا قوله من قبل.
وأما من قال: إن الرد على الإمام يكون بعد السلام من الصلاة، فهذا لا إشكال فيه؛ فإنه قد خرج من الصلاة بالسلام، وقد ذهب إلى ذلك غير واحد من الأئمة المشهورين.
قال مالكٌ، في المأموم: يسلم تسليمةً عن يمينه، وأخرى عن يساره، ثم يرد على الإمام.
قال ابن عبد البر: تحصيل قول مالكٍ في ذلك: أن الإمام يسلم واحدةً تلقاء وجهه، ويتيامن بها قليلاً - وأن المصلي لنفسه –يعني: منفرداً –يسلم اثنين – في رواية ابن القاسم، وأن المأموم يسلم ثلاثا إن كان عن يساره أحد.
واختلف قوله في موضع رد المأموم على الإمام: فمرةً قال: يسلم عن يمينه وعن يساره، ثم يرد على الإمام. ومرة قال: يرد على الإمام بعد أن يسلم عن يمينه، ثم يسلم عن يساره.
وقد روى أهل المدينة عن مالك وبعض المصريين، أن الإمام والمنفرد سواءٌ، يسلم كل واحد منهما تسليمةً واحدةً تلقاء وجهه، ويتيامن بها قليلاً.
قال: وكان الليث بن سعد يبدأ بالرد على الإمام، ثم

(7/388)


يسلم عن يمينه وعن يساره.
ونقل أبو داود عن أحمد في الرد على الإمام قبل السلام، قال: لا.
قيل له: فبعده؟ قال: نعم، وإن شاء نوى بالسلام الرد. قال: وما أعرف فيه حديثاً عالياً يعتمد عليه.
قال القاضي أبو يعلى: زظاهر هذا: أنه مخير في الرد على الإمام بالنية في حال سلامه، أو بالقول بعده، فيقول: السلام عليك أيها القارئ. قال: ويسر به، ولا يجهر.
نقل المروذي عن أحمد في الرجل يرد السلام على الإمام، فقال: إذا نوى بتسليمه الردَّ فقد ردَّ عليه، فإن فعل رجلٌ فليخفه.
قال: ومعناه: إن ردَّ عليه بالقول فليخفه.
وقال إسحاق: لا اختلاف بين أهل العلم في الرد على الإمام إذا سلم كما سلم، ولكن اختلفوا: هل يبدأ بالرد عليه قبل السلام، أم يرد عليه بعد السلام؟ قال: وأحب إلي أن يرد بعد السلام. قال واذا رفع صوته بالردَّ قدر ما يسمع الإمام والصف الذي يليه جاز، وإن أسره وأسمع أذنيه بالرد على الإمام أجزأه.
وكل من قال: يرد على الإمام قال: يرد عليه بلفظ السلام من غير زيادة، إلا ما روي عن أبي هريرة، أنه يقال: السلام عليك أيها القارئ، كما سبق.
واختلفوا في المأموم: هل ينوي بسلامه من الصلاة الرد على إمامه، أم لا؟ وفيه قولان:

(7/389)


أحدهما: لا ينوي ذلك، ونص عليه أحمد في رواية مُهنا وغيره، وهو اختيار ابن حامدٍ من أصحابنا؛ لأن السلام ركن من أركان الصلاة، لا يخرج منها بدونه، على ما تقدم، والصلاة لا يردّ فيها السلام على أحدٍ، بل هو مبطلٌ للصلاة؛ لأنه خطاب آدمي، هذا مذهبنا، وقول جمهور العلماء.
وعلى هذا: فهل تبطل صلاته بذلك؟
قالَ ابن حامد من أصحابنا: إن لم ينو سوى الرد بطلت صلاته، وإن نوى الردَّ والخروج من الصَّلاة ففي البطلان وجهان؛ لأنه لم يخلص النية لخطاب المخلوق، فأشبه ما لو قال لمن دق عليه الباب: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46] ينوي به القراءة والإذن له؛ فإن في بطلان الصَّلاة بذلك روايتين، أصحهما: لا تبطل.
قالَ أحمد – في رواية جعفر بن محمدٍ -: السلام على الإمام لا نعرف لهُ موضعاً، وتسليم الإمام هوَ انقضاء الصَّلاة، ليس هوَ سلام على القوم، فيجب عليهم أن يردوا، ولكن ابن عمر شدد في هذا، يسلم الرجل وينوي به السلام من الصَّلاة والرد على
الإمام، كأنه يقوله على وجه الإنكار لذلك. قيل له: أنهم يقولون: إن ردَّ السلام على الإمام واجبٌ. قال: أرجو أن لا يكون واجباً، وإن رد فلا بأس.
والقول الثاني: أنه ينوي المأموم بسلامه الرد على إمامه، وهو قول عطاءٍ والنخعي وحماد والثوري، ونص عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه.
وهل هو مسنونٌ مستحبٌ، أو جائز؟ فيه روايتان –أيضاً - عن أحمد:

(7/390)


قال – في رواية يعقوب بن بختان -: ينوي بسلامه الرد.
وهو اختيار أبي حفصٍ العكبري.
وقال – في رواية غيره -: لا بأس به.
فظاهره: جوازه فقط، وهو اختيار القاضي أبي يعلى وغيره.
وقال - في رواية ابن هانئ -: إذا نوى بتسليمه الردَّ على الإمام أجزأه.
وظاهر هذا: أنه واجبٌ؛ لأنه رد سلامٍ، فيكون فرض كفاية، إلا أن يقال: إن المسلم في الصلاة لا يجب الرد عليه، أو يقال: أنه يجوز تأخير الرد إلى بعد السلام. ولكن إذا جوزنا تأخيره وجب أحد أمرين: إما أن ينوي الرد بالسلام، أو أن يرد بعد ذلك، وهو قول عطاءٍ كما تقدم.
وتبويب البخاري قد يشعر بذلك؛ لقوله: ((واكتفى بتسليم الإمام)) ، ويحتمل أنه أراد أن تسليم الصلاة كافٍ عن الردَّ، وإن لم ينو به الردَّ، كما قاله أحمد في روايةٍ.
وقال يحيى بن سعيدٍ الأنصاري: إذا سلمت عن يمينك أجزأك من الرد عليه.
وكذا قال النخعي.
ولم يشترطا أن ينوي بسلامه الردَّ.
قال أبو حفصٍ العكبري: وينوي بالأولى الخروج من الصلاة، وبالثانية الرد على الإمام والحفظة.

(7/391)


وممن رأى أن ينوي بسلامة الرد على الإمام: أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما.
ثم قال أصحاب الشافعي: إن كان المأموم عن يمين الإمام نوى بتسليمه الأولى السلام على من عن يمينه من الملائكة والمسلمين من الإنس والجن، وينوي بالثانية ذلك مع الرد على إمامه، وإن كان المأموم عن يسار إمامه نواه في الأولى، وإن كان محاذياً له نواه في أيتهما شاء، والأولى افضل -: نص عليه الشافعي في ((الأم)) ، وينوي الإمام بسلامه من عن يمينه ويساره يمينه ويساره من الملائكة والمسلمين من المأمومين وغيرهم، وينوي بعض المأمومين الردَّ على من بعضٍ. قالوا: وكل هذه النيات مستحبةٌ، لا يجب منها شيءٌ.
وقال أصحاب أبي حنيفة ينوي المصلي بكل تسليمةٍ من في تلك الجهة من الناس والحفظة.
وهل يقدم الآدميين على الملائكة في النية؟ على روايتين عندهم:
أحدهما: يقدم الملائكة؛ لأنهم عندهم أفضل.
والثانية: يقدم الناس؛ لمشاهدتهم.
ويدخل المأموم الإمام في الجهة التي هو فيها. فإن كان بحذائه أدخله في اليمين؛ لأنهما أفضل.
وروى عبد الرزاق، عن معمرٍ، عن حمادٍ، قال: إذا كان الإمام عن يمينك ثم سلمت عن يمينك، ونويت الإمام كفى ذلك، وإذا كان عن يسارك ثم سلمت عن يسارك ونويت الإمام كفى ذلك - أيضاً -، وإن كان بين يديك فسلم عليه في نفسك، ثم سلم عن يمينك وشمالك.

(7/392)


وأما نية الخروج من الصلاة، فهل هي واجبةٌ، تبطل الصلاة بتركها، أم لا؟ فيه وجهان لأصحابنا، اختار ابن حامد وجوبها، واختار الأكثرون عدم الوجوب، وهو ظاهر كلام أحمد.
وينوي الخروج بالأولى، سواءٌ قلنا: يخرج بها من الصلاة، أو قلنا: لا يخرج إلا بالثانية؛ لأن النية تستصحب إلى الثانية.
ومن الأصحاب من قال: أن قلنا: الثانية سنةٌ نوى بالأولى الخروج، وإن قلنا: الثانية فرضٌ نوى الخروج بالثانية خاص. والصحيح: الأول.
ولأصحاب الشافعي في وجوب نية الخروج بالسلام وبطلان الصلاة بتركها وجهان –أيضاً.
ونص الشافعي على أن ينوي بالسلام الخروج.
ولكن اختلفوا: هل هو محمولٌ على الاستحباب، أو الوجوب؟
وإنما ينوي الخروج عندهم بالأولى؛ لان الثانية ليست عندهم واجبةً بغير خلافٍ.
واستدل من استحب أن ينوي بسلامه الحفظة والامام والمأمين بما خَّرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة، قال: كنا إذا صلينا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((علام تومئون بأيديكم كأنها أذناب خيلٍ شمسٍ، وإنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثميسلم على إخيه من على يمينه وشماله)) .

(7/393)


وفي رواية له: فقال: ((ما شأنكم تشيرون بأيديكم، كأنها أذناب خيلٍ شمسٍ، إذا سلم احدكم فليلتفت إلى صاحبه، ولا يومئ بيده)) .
وخرّج أبو داود من حديث سمرة بن جندب، قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نرد على الإمام، وأن نتحاب، وأن يسلم بعضنا على بعض.
وخرّج أبو داود –أيضاً -، من طريقٍ اخرٌ، عن سمرة، قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((ابدأوا قبل التسليم، فقولوا: التحيات الطيبات الصلوات، والملك لله، ثم سلموا على اليمين، ثم سلموا على قارئكم وعلى أنفسكم)) .
وخرّجه ابن ماجه بمعناه.
وفي رواية له باسناد فيه ضعفٌ: ((إذا سلم الإمام فردوا عليه)) .
وخرّج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث عاصم بن ضمرة، عن علي، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي قبل العصر أربعاً، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين، والنبيين والمرسلين، ومن تبعهم من المؤمنين.
وقال الترمذي: حديث حسنٌ.
وظاهره: يدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينوي بسلامه في صلاة التطوع السلام على الملائكة ومن ذكر معهم.
وتأوله إسحاق على أنه اراد بذلك التشهد؛ فإنه يسلم فيه على عباد الله الصالحين.
وهو خلاف الظاهر. والله أعلم.

(7/394)


* * *

155 - باب
الذكر بعد الصلاة
فيه ثلاثة أحاديث:
الأول: حديث ابن عباس:
841 -

(7/395)


حدثنا إسحاق بن نصرٍ: حدثنا عبد الرزاق: أنا ابن جريجٍ: أخبرني عمرو، أن أبا معبد مولى ابن عباسٍ أخبره، أن ابن عباس أخبره، أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال ابن عباسٍ: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته.

(7/395)


842 - حدثنا عليٌ: ثنا سفيان: ثنا عمرو: أخبرني أبو معبدٍ، عن ابن عباسٍ، قال: كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتكبير.
حدثنا عليٌ: ثنا سفيان، عن عمروٍ، قال: كان أبو معبدٍ أصدق موالي ابن عباسٍ.

(7/395)


قال عليٌ: واسمه: نافذٌ.
أبو معبدٍ مولى ابن عباسٍ، اسمه، نافذٌ، وهو ثقةٌ؛ وثقه أحمد ويحيى وأبو زرعة، واتفق الشيخان على تخريج حديثه.
ولكن في رواية لمسلمٍ في هذا الحديث من طريق ابن عيينة، عن عمروٍ، أن أبا معبدٍ حدثه بذلك، ثم أنكره بعد، وقال: لم أحدثك بهذا.
ورواه الإمام أحمد، عن سفيان، عم عمروٍ، به، وزاد: قال عمروٌ: قلت له: إن الناس كانوا إذا سلم الإمام من صلاة المكتوبة كبروا ثلاث تكبيرات وهكذا هنا ثلاث تهليلات [ ... ] .
وقال حنيلٌ: سمعت أبا عبد الله يقول: ثنا عليٌ بن ثابتٍ: ثنا واصلٌ، قال: رأيتُ علي عبد الله بن عباسٍ إذا صلى كبر ثلاث تكبيراتٍ. قلت لأحمد: بعد الصلاة؟ قال: هكذا. قلت له: حديث عمرو، عن أبي معبد، عن ابن عباسٍ: ((كنا نعرف

(7/396)


انقضاء صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتكبير)) ، هؤلاء أخذوه عن هذا؟. قال نعم -: ذكره
أبو بكرٍ عبد العزيز ابن جعفر في كتابه ((الشافي)) .
فقد تبين بهذا أن معنى التكبير الذي كان في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقب الصلاة المكتوبة: هو ثلاث تكبيراتٍ متواليةٍ.
ويشهد لذلك: ما روي عن مسعرٍ، عن محمد بن عبد الرحمن، عن طيسلة، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من قال في دبر الصلوات، وإذا أخذ مضجعه: الله أكبر كبيراً، عدد الشفع والوتر، وكلمات الله الطيبات المباركات – ثلاثاً -، ولا إله إلا الله – مثل ذلك – كن له في القبر نوراً، وعلى الحشر نوراً، وعلى الصراط نوراً، حتى يدخل الجنة)) .
وخَّرجه –أيضاً - بلفظ آخر، وهو: ((سبحان الله عدد الشفع والوتر، وكلمات ربي الطيبات التامات المباركات – ثلاثاً – والحمد لله، والله أكبر، ولا إله إلا الله)) .
وذكر الإسماعيلي: أن محمد بن عبد الرحمن، هو: مولى آل طلحة، وهو ثقةٌ مشهورٌ، وخرّج له مسلمٌ.

(7/397)


وطيسلة، وثقه ابن معينٍ، هو: ابن علي اليمامي، ويقال: ابن مياسٍ، وجعلهما ابن حبان اثنين، وذكرهما في ((ثقاته)) ، وذكر أنهما يرويان عن ابن عمر.
وخرّجه ابن أبي شيبة في ((كتابه)) عن يزيد بن هارون، عن مسعر بهذا الإسناد – موقوفاً على ابن عمر.
وأنكر عبيدة السلماني على مصعب بن الزبير تكبيره عقب السلام، وقال: قاتله الله، نعار بالبدع، واتباع السنة أولى.
وروى ابن سعدٍ في ((طبقاته)) بإسناده عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يكبر: الله اكبر ولله الحمد – ثلاثاً – دبر كل صلاةٍ.
وقد دل حديث ابن عباسٍ على رفع الصوت بالتكبير عقب الصلاة المفروضة، وقد ذهب الىظاهره أهل الظاهر، وحكي عن أكثر العلماء خلاف ذلك، وأن ألافضل الإسرار بالذكر؛ لعموم قوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} [الأعراف:205] وقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] ، ولقول النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن جهر بالذكر من أصحابه: ((إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)) .

(7/398)


وحمل الشافعي حديث ابن عباسٍ هذا على أنه جهر به وقتاً يسيراً حتى يعلمهم صفة الذكر؛ لا أنهم جهروا دائماً. قال: فأختار للإمام والمأموم أن يذكروا الله بعد الفراغ من الصلاة، ويخفيان ذلك، إلا أن يكون إماما يريد أن يتعلم منه، فيجهر حتى يعلم، أنه قد تعلم منه، ثم يسر.
وكذلك ذكر أصحابه.
وذكر بعض أصحابنا مثل ذلك – أيضاً.
ولهم وجهٌ آخر: أنه يكره الجهر به مطلقاً.
وقال القاضي أبو يعلى في ((الجامع الكبير)) : ظاهر كلام أحمد: أنه يسن للإمام الجهر بالذكر والدعاء عقب الصلوات بحيث يسمع المأموم، ولا يزيد على ذلك.
وذكر عن أحمد نصوصاً تدل على أنه كان يجهر ببعص الذكر، ويسر الدعاء، وهذا هو الأظهر، وأنه لا يختص ذلك بالإمام؛ فإن حديث ابن عباس هذا ظاهره يدل على جهر المأمومين –أيضاً.
ويدل عليه – أيضاً -: ما خَّرجه مسلمٌ في ((صحيحه)) من حديث ابن الزبير، أنه كان يقول في دبر كل صلاةٍ حين يسلم: ((لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)) ، وقال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهل بهن في دبر كل صلاةٍ.

(7/399)


ومعنى: ((يهل)) . يرفع صوته، ومنه: إلاهلال في الحج، وهو رفع الصوت بالتلبية، واستهلال الصبي إذا ولد.
وقد كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجهرون بالذكر عقب الصلوات، حتى يسمع من يليهم:
فخَّرج النسائي في ((عمل اليوم والليلة)) من رواية عون بن عبد الله بن عتبة، قال صلى رجلٌ إلى جنب عبد الله بن عمرو بن العاص، فسمعه حين سلم يقول: ((أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلاب والاكرام)) ، ثم صلى إلى جنب عبد الله بن عمر، فسمعه حين سلم يقول مثل ذلك، فضحك الرجل، فقال له ابن عمر: ما أضحكك؟ قال: إني صليت إلى جنب عبد الله بن عمروٍ، فسمعته يقول مثلما قلت: قال ابن عمر: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ذلك.
وأما النهي عن رفع الصوت بالذكر، فإنما المراد به: المبالغة في رفع الصوت؛ فإن أحدهم كان ينادي بأعلى صوته: ((لا إله إلا الله، والله اكبر)) فقال لهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تنادون أصم ولا غائباً)) ، وأشار إليهم بيده يسكنهم ويخفضهم.
وقد خرّجه الإمام أحمد بنحو من هذه الألفاظ.
وقال عطية بن قيسٍ: كان الناس يذرون الله عند غروب الشمس،

(7/400)


يرفعون أصواتهم بالذكر، فإذا خفضت أصواتهم أرسل إليهم عمر بن الخطاب أن يرددوا الذكر.
خرّجه جعفر الفريابي في ((كتاب الذكر)) .
وخرّج – أيضاً - من رواية ابن لهيعة، عن زهرة بن معبدٍ، قال: قال: رأيت ابن عمر إذا انقلب من العشاء كبر كبر، حتى يبلغ منزله، ويرفع صوته.
وروى محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن جابرٍ، أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر، فقال رجل: لو أن هذا خفض من صوته، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((دعه؛ فإنه أواه)) .
وهذا يدل على أنه يحتمل ذلك ممن عرف صدقه وإخلاصه دون غيره.
وخرّج الإمام أحمد من رواية عقبة بن عامر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجلٍ، يقال له: ذو البجادين: ((إنه أواهٌ)) ، وذلك أنه رجلٌ كثير الذكر لله في القرآن، ويرفع صوته في الدعاء.
وفي إسناده: ابن لهيعة.
وقال الأوزاعي في التكبير في الحرس في سبيل الله: أحب إلي أن

(7/401)


يذكر الله في
نفسه، وإن رفع صوته فلا بأس.
فأما قول ابن سيرين: يكره رفع الصوت إلا في موضعين: الأذان والتلبية، فالمراد به –والله أعلم -: المبالغة في الرفع، كرفع المؤذن والملبي.
وقد روي رفع الصوت بالذكر في مواضع، كالخروج إلى العيدين، وايام العشر، وأيام التشريق بمنىً.
وأما الدعاء، فالسنة إخفاؤه.
وفي ((الصحيحين)) عن عائشة، في قوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء:110] ، أنها نزلت في الدعاء.
وكذا روي عن ابن عباس وأبي هريرة، وعن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة وعروة ومجاهدٍ ولإبراهيم وغيرهم.
وقال الإمام أحمد: ينبغي أن يسر دعاءه؛ لهذه الآية. قال: وكان يكره أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء.
وقال الحسن: رفع الصوت بالدعاء بدعةٌ.
وقال سعيد بن المسيب: أحدث الناس الصوت عند الدعاء.
وكرهه مجاهدٌ وغيره.
وروى وكيعٌ، عن الربيع، عن الحسن –والربيع، عن يزيد بن أبانٍ، عن
أنسٍ -، أنهما كرها أن يسمع الرجل جليسه شيئاً من دعائه.

(7/402)


وورد فيه رخصةٌ من وجهٍ لا يصح:
خرّجه الطبراني من رواية أبي موسى: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى الصبح يرفع صوته حتى يسمع أصحابه، يقول: ((اللهم، أصلح لي ديني الذي جعلته عصمة أمري)) –ثلاث مرات – ((اللهم، أصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي)) –ثلاث مرات، ((اللهم، أصلح لي آخرتي التي جعلت إليها مرجعي)) - ثلاث مراتٍ – وذكر دعاء آخر.
وفي إسناده: يزيد بن عياضٍ، متروك الحديث. وإسحاق بن طلحة، ضعيفٌ.
فأما الحديث الذي خَّرجه مسلمٌ وغيره، عن البراء بن عازبٍ، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحببنا أن نكون عن يمينه؛ ليقبل علينا بوجهه.
قال: فسمعته يقول: ((رب قني عذابك يوم تبعث عبادك)) .
فهذا ليس فيه أنه كان يجهر بذلك حتى يسمعه الناس، إنما فيه كان يقوله بينه وبين نفسه، وكان يسمعه منه –احيانا – جليسه، كما كان يسمع منه من خلفه الآية أحياناً في صلاة النهار.

(7/403)


وروى هلال بن يسافٍ، عن زاذان: نا رجل من الأنصار، قال: سمعت
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في دبر الصلاة: ((اللهم، اغفر لي، وتب عليَّ، إنك أنت التواب الغفور)) –مائة مرةٍ.
خرّجه ابن أبي شيبة، وعنه بقي بن مخلدٍ في ((مسنده)) .

الحديث الثاني:
843 -

(7/404)


حدثنا محمد بن أبي بكر: ثنا المعتمر، عن عبيد الله، عن سمىً، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: جاء الفقراء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضلٌ من أموال يحجون بها ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدقون، قال: ((ألا أحدثكم بما إن أخذتم به أدركتم من سبقكم، ولم يدركم أحدٌ بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم، إلا من عمل مثله، تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين)) .
فاختلفنا بيننا، فقال بعضنا: نسبح ثلاثاً وثلاثين، ونحمد ثلاثاً وثلاثين،

(7/404)


ونكبر أربعاً وثلاثين. فرجعت إليه، فقال: تقول: سبحان الله، والحمد لله، والله اكبر، حتى يكون منهنكلهن ثلاثٌ وثلاثون.
ذكر الخطابي: أن لفظ هذه الرواية: ((ذهب أهل الدور)) ، وقال: والصواب ((الدثور)) .
وذكر غيره: أن هذه رواية المرزوي، وأنها تصحيفٌ، والرواية المشهورة: ((أهل الدثور)) على الصواب.
و ((الدثور)) : جمع دثرٍ، بفتح الدال، وهو: المال الكثير.
وفي الحديث: دليل على قوة رغبة الصحابة –رضي الله عنهم - في الأعمال الصالحة الموجبة للدرجات العلى والنعيم المقيم، فكانوا يحزنون على العجز عن شيءٍ مما يقدر عليه غيرهم من ذلك.
وقد وصفهم الله في كتابه بذلك، بقوله: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا
يُنفِقُونَ} [التوبة:92] .
ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا حسد إلا في اثنين)) ، فذكر منهما: ((رجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه في وجهه، فيقول رجل: لو أن لي مالاً، لفعلت فيه كما فعل ذلك)) .
فلذلك كان الفقراء إذا رأوا أصحاب الأموال

(7/405)


يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون وينفقون حزنوا على عجزهم عن ذلك، وتأسفوا على امتناعهم من مشاركتهم فيه، وشكوا ذلك إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدلهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عمل، إن أخذوا به أدركوا من سبقهم، ولميدركهم أحدٌ بعدهم، وكانوا خير من هم بين ظهرانيهم، إلا من عمل مثله، وهو التسبيح والتحميد والتكبير خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين.
وهذا يدل على أن الذكر أفضل ألاعمال، وأنه أفضل من الجهاد والصدقة والعتق وغير ذلك.
وقد روي هذا المعنى صريحاً عن جماعةٍ كثيرةٍ من الصحابة، منهم: أبو الدرداء ومعاذ وغيرهما.
وروي مرفوعاً من وجوهٍ متعددةٍ –أيضاً.
ولا يعارض هذا حديث الذي سأل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عما يعدل الجهاد، فقال: ((هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر، وتقوم فلا تفتر)) –الحديث المشهور، لأن هذا السائل سأل عن عمل يعمله في مدة جهاد المجاهد من حين خروجه من بيته إلى
قدومه. فليس يعدل ذلك شيء غير ما ذكره، والفقراءُ دلهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عمل يستصحبونه في مدة عمرهم،

(7/406)


وهو ذكر الله الكثير في أدبار الصلوات، وهذا أفضل من جهاد يقع في بعض الأحيان، ينفق صاحبه فيه ماله.
فالناس منقسمون ثلاثة أقسامٍ، أهل ذكر يدومون عليه إلى أنقضاء أجلهم، وأهل جهادٍ يجاهدون وليس لهم مثل ذلك الذكر. فالأولون أفضل من هؤلاء.
وقومٌ يجمعون بين الذكر والجهاد، فهؤلاء أفضل الناس.
ولهذا لما سمع الأغنياء الذين كانوا يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون بما علم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفقراء من ذلك عملوا به، فصاروا أفضل من الفقراء حينئذ؛ ولهذا لما يألوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، قال: ((ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)) .
ومن زعم من الصوفية أنه أراد أن الفقر فضل الله، فقد اخطأ، وقال ما لا يعلم.
وقد دَّل الحديث على فضل التسبيح والتحميد والتكبير خلف كل صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين.
وخرّجه مسلمٌ من طريق بن عجلان، عن سميٍ، وذكر فيه: أن المختلفين هم سميٌ وبعض أهله، وان القائل له هو أبوه أبو صالحٍ

(7/407)


السمان، وأن ابن عجلان قال: حدثت بهذا الحديث رجاء بن حيوة، فحدثني بمثله عن أبي صالحٍ.
وخرّجه البخاري في أواخر كتابه ((الصحيح)) –أيضاً - من طريق ورقاء، عن سمي بهذا الإسناد، بنحوه، ولكن قال فيه: ((تسحبون في دبر كل صلاةٍ عشراً، وتحمدون عشراً، وتكبرون عشراً)) .
وقال: تابعه عبيد الله بن عمر، عن سمي. قال: ورواه ابن عجلان عن سميَ ورجاء بنحيوة. ورواه جريرٌ، عن عبد العزيز بن رفيعٍ، عن أبي صالحٍ، عن أبي الدرداء. ورواه سهيلٌ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انتهى.
ومراده: المتابعة على إسناده.
ورواية عبيد الله بن عمر، هي التي خرجها في هذا الباب.
ورواية ابن عجلان، هي التي خرجها مسلمٌ، كما ذكرناه.
ورواية سهيلٍ، خرجها مسلمٌ –أيضاً - بمثل حديث ابن عجلانٍ، عن سمي، وزاد في الحديث: يقول سهيلٌ: إحدى عشرة إحدى عشرة، فجميع ذلك كله ثلاثةٌ وثلاثون.
وأما رواية جريرٍ التي أشار إليها البخاري، قوله: عن أبي صالحٍ، عن أبي
الدرداء، فقد تابعه عليها – أيضاً – أبو الأحوص سلام بن

(7/408)


سليمٍ، عن عبد العزيز.
والظاهر: أنه وهمٌ، فإن أبا صالحٍ إنما يرويه عن أبي هريرة، لا عن أبي الدرداء، كما رواه عنه سمي وسهيلٌ ورجاء ابن حيوة.
وإنما رواه عبد العزيز بن رفيعٍ، عن أبي عمر الصيني، عن أبي الدرداء، كذلك رواه الثوري، عن عبد العزيز، وهو أصح -: قاله أبو زرعة، والدارقطني.
وأما ألفاظ الحديث، فهي مختلفةٌ:
ففي رواية عبيد الله بن عمر التي خرجها البخاري هاهنا: ((تسبحون وتحمدون وتكبرون ثلاثاً وثلاثين)) ، وفسره بأنه يقول: ((سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر)) حتى يكون منهن كلهن ثلاثاً وثلاثين.
وقد تبين أن المفسر لذلك هو أبو صالح، وهذا يحتمل أمرين:
أحدهما: أنه يجمع بين هذه الكلمات الثلاث، فيقولها ثلاثاً وثلاثين مرةً، فيكون مجموع ذلك تسعاً وتسعين.
والثاني: أنه يقولها إحدى عشرة مرةً، فيكون مجموع ذلك ثلاثاً وثلاثين.
وهذا هو الذي فهمه سهيلٌ، وفسر الحديث به، وهو ظاهر رواية سمي، عن أبي صالحٍ – أيضاً.

(7/409)


ولكن؛ قد روي حديث أبي هريرة من غير هذا الوجه صريحاً بالمعنى الأول:
فخرج مسلمٌ من حديث سهيل، عن أبي عبيد المذحجي –وهو: مولى سليمان بن عبد الملك وحاجبه -، وعن عطاء بن يزيد، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((من سبح في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر)) .
وقد روي عن سهيل بهذا الإسناد –موقوفاً على أبي هريرة.
وكذا رواه مالك في ((الموطإ)) عن أبي عبيدٍ –موقوفاً.
وخرّجه ابن حبان في ((صحيحه)) من طريق مالكٍ –مرفوعاً.
والموقوف عن مالكٍ أصح.
وخرّجه النسائي في ((اليوم والليلية)) بنحو هذا اللفظ، من رواية ابن عجلان، عن سهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة –مرفوعاً.
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان في ((صحيحه)) من طريق الأوزاعي: حدثني حسان بن عطية: حدثني محمد بن أبي عائشة: حدثني أبو هريرة، قال: قال أبو ذر: يا رسول الله، ذهب أصحاب الدثور بالأجور –

(7/410)


فذكر الحديث، بمعناه، وقال فيه: ((تكبر الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتحمده ثلاثاً وثلاثين، وتسبحه ثلاثاً وثلاثين، تختمها بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت له ذنوبه، ولوكانت مثل زبد البحر)) .
فهذا ما في حديث أبي هريرة من الاختلاف.
وقدروي عنه نوعٌ آخر، وهو: التسبيح مائة مرةٍ، والتكبير مائة مرةٍ والتهليل مائة مرةٍ، والتحميد مائة مرةٍ.
وخرّجه النسائي في ((كتاب اليوم والليلة)) بإسنادٍ فيه ضعفٌ.
وروي موقوفاً على أبي هريرة.
وخرّجه النسائي في ((السنن)) بإسنادٍ آخر عن أبي هريرة - مرفوعاً -: ((من سبح في دبر صلاة الغداة مائة تسبيحةٍ، وهلل مائة تهليلةٍ، غفر له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر)) .
وروي عن أبي هريرة –موقوفاً عليه -: التسبيح عشرٌ، والتحميد عشرٌ، والتكبير عشرٌ.
وقد تقدم أن البخاري خَّرجه في آر ((كتابه)) عنه – مرفوعاً.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير حديث أبي هريرة في هذا الباب

(7/411)


أنواعٌ أخر من الذكر:
فمنها: التسبيح والتحميد والتكبير مائة، فالتسبيح والتحميد كلٌ منهما ثلاثٌ وثلاثون، والتكبير وحده أربعٌ وثلاثون.
خرّجه مسلمٌ من حديث كعب بن عجرة.
وخرّجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث زيد بن ثابتٍ.
وخرّجه الإمام أحمد من حديث أبي ذر، لكن عنده: أن التحميد هو الأربع.
وخرّجه ابن ماجه، وعنده: أن ابن عيينة قال: لا أدري أيتهن أربع.
ومنها: التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل مائة مرةٍ، من كل واحدٍ خمسٌ وعشرون.
وخرّجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي من حديث زيد بن ثابتٍ.
وخرّجه النسائي من حديث ابن عمر.
ومنها: التسبيح ثلاثاً وثلاثين، والتحميد مثله، والتكبير أربعاً وثلاثين،

(7/412)


فذلك مائةٌ، ويزيد عليهن التهليل عشراً.
خرّجه النسائي والترمذي من حديث ابن عباسٍ.
ومنها: التسبيح عشرٌ مراتٍ، والتحميد مثله، والتكبير مثله، فذلك ثلاثون.
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
وخرّجه النسائي في ((اليوم والليلة)) من حديث سعدٍ.
ومنها: التكبير إحدى عشرٌ مرةً، والتحميد مثله، والتهليل مثله والتسبيح مثله، فذلك أربعٌ وأربعون.
خرّجه البزار من حديث ابن عمر.
وإسناده ضعيفٌ، فيه موسى بن عبيدة.
ويجوز الأخذ بجميع ما ورد من أنواع الذكر عقب الصلوات، والأفضل أن لا ينقص عن مائةٍ، لأن أحاديثها أصح أحاديث الباب.
واختلف في تفضيل بعضها على بعض:
فقال أحمد – في رواية الفضل بن زيادٍ -، وسئل عن التسبيح بعد الصلاة ثلاثةً وثلاثين أحب إليك، أم خمسةً وعشرين؟ قال: كيف شئت.

(7/413)


قال القاضي أبو يعلى: وظاهر هذا: التخيير بينهما من غير ترجيح.
وقال – في رواية علي بن سعيدٍ -: أذهب إلى حديث ثلاثٍ وثلاثين.
وظاهر هذا: تفضيل هذا النوع على غيره.
وكذلك قال إسحاق: الافضل أن تسبح ثلاثاً وثلاثين، وتحمد ثلاثاً وثلاثين، وتكبر ثلاثاً وثلاثين، وتختم المائة يالتهليل. قال: وهو في دبر صلاة الفجر آكد من سائر الصلوات؛ لما ورد من فضيلة الذكر بعد الفجر إلى طلوع الشمس.
نقل ذلك عنه حربٌ الكرماني.
وهل الأفضل أن يجمع بين التسبيح والتحميد والتكبير في كل مرةٍ، فيقولهن ثلاثاً وثلاثين مرةٍ، ثم يختم بالتهليل، أم الأفضل أن يفرد التسبيح والتحميد والتكبير على
حدةٍ؟
قال أحمد –في رواية محمد بن ماهان، وسأله: هل يجمع بينهما، أو يفرد؟ قال: لا يضيق.
قال أبو يعلى: وظاهر هذا: أنه مخيرٌ بين الافراد والجمع.
وقال أحمد –في رواية أبي داود -: يقول هكذا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله اكبر، ولا يقطعه.

(7/414)


وهذا ترجيحٌ منه للجمع، كما قاله أبو صالحٍ، لكن ذكر التهليل فيه غرابةٌ.
وقد روى عبد الرزاق، عن معمرٍ، عن قتادة - مرسلاً -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم أن يقولوا دبر كل صلاةٍ: ((لا إله إلا الله، والله اكبر، وسبحان الله، والحمد لله عشرٌ مراتٍ)) .
وقال إسحاق: الأفضل أن يفرد كل واحدٍ منها.
وهو اختيار القاضي أبي يعلى من أصحابنا، قال: وهو ظاهر الأحاديث؛ لوجهين:
أحدهما: أنه قال: ((تسبحون وتحمدون وتكبرون)) ، والواو قد قيل: إنها للترتيب، فإن لم تقتض وجوبه أفادت استحبابه.
والثاني: أن هذا مثل نقل الصحابة –رضي الله عنهم – لوضوء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه تمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ولا خلاف في المراد: أنه غسل كل عضوٍ من ذلك بانفراده ثلاثاً ثلاثاً، قبل شروعه في الذي بعده، ولم يغسل المجموع مرةً، ثم اعاده مرةًثانيةً، وثالثةً.

(7/415)


قلت: هذا على رواية من روي التسبيح ثلاثاً وثلاثين، والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتكبير ثلاثاً وثلاثين ظاهرٌ، وأما رواية من روى ((تسبحون وتحمدون وتكبرون ثلاثاً وثلاثين)) فمحتملةٌ، ولذلك وقع الاختلاف في فهم المواد منها.

الحديث الثالث:

(7/416)


844 - حدثنا محمد بن يوسف: ثنا سفيان، عن عبد الملك بن عميرٍ، عن ورادٍ - كاتب المغيرة بن شعبة -، قالَ: أملى علي المغيرة في كتاب إلى معاوية، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبةٍ: ((لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قديرٌ، اللهم، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما
منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) .
وقال شعبة، عن عبد الملك بن عمير بهذا، وعن الحكم، عن القاسم بن مخيمرة، عن ورادٍ بهذا.

(7/416)


هذا الحديث، أسنده البخاري من طريق سفيان الثوري، عن عبد الملك بن
عميرٍ، عن ورادٍ.
وعَّلقه عن شعبة بإالافضل سنادين:
أحدهما: عن عبد الملك –أيضاً - بهذا الإسناد.
والثاني: عن الحكم، عن القاسم بن مخيمرة، عن ورادٍ.
رواية شعبة لهذا الحديث غريبةٌ لم تخرج في شيءٍ من الكتب الستة، ولا في ((مسند الإمام أحمد)) .
وخرّجه مسلمٌ من طريق عبدة بن أبي لبابة والمسيب بن رافعٍ وغيرهما، عن ورادٍ.
وخرّجه البخاري في موضعٍ آخر من رواية المسيب، وفي روايته: ((بعد
السلام)) .
وخرّجه الإمام أحمد والنسائي من طريق مغيرة، عن الشعبي، عن ورادٍ، أن المغيرة كتب إلى معاوية: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول عند انصرافه من الصلاة: ((لا إله إلا الله، وحده لا سريك له، له المللك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) –ثلاث مراتٍ.
وهذه زيادةٌ غريبةٌ.
وقد روي في الحديث زيادة: ((بيده الخير)) .
خرجها الإسماعيلي من طريق مسعرٍ، عن زياد بن علاقة، عن ورادٍ.
وروي فيه –أيضاً - زيادة: ((يحيى ويميت)) .
ذكرها الترمذي في ((كتابه)) –تعليقاً، ولم يذكر رواتها.
وقد خَّرجه البزار بهذه الزيادة من رواية ابن علاقة، عن عبد الله بن محمد بن
عقيلٍ، عن جابرٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثل حديث المغيرة، بهذه الزيادة.
وفي اسنادها ضعفٌ.
وخرّجه –أيضاً – من حديث ابن عباسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه زيادة: ((بيده الخير)) .
وفي إسنادها ضعفٌ.
وخرّجه ابن عدي، وزاد فيه: ((يحيى ويميت)) .
وقال: هو غير محفوظٍ.
وخَّرجه أبو مسلم الكجي في ((سننه)) من حديث أبان بن أبي عياشٍ، عن أبي الجوزاء، عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه: ((يحيي ويميت، بيده الخير)) .
وأبانٌ، متروكٌ.
وخرج النسائي وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم من حديث كعب الأحبار، عن صهيب، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول عند انصرافه من الصلاة: ((اللهم، أصلح لي ديني الذي جعلته لي عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي، اللهم، اني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ [ ... ] بعفوك من نقمتك، وأعوذ بك منك، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) .
وفي إسناده اختلافٌ.
وخرج مسلمٌ من حديث عائشة، قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقعد إلا مقدار ما يقول: ((اللهم، أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام)) .
وفي رواية له – أيضاً -: ((يا ذا الجلال والإكرام)) .
وخرج –أيضاً - من حديث ثوبان، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن ينصرف من صلاته استغفر ثلاث مراتٍ، ثم قال: ((اللهم، أنت السلام، ومنك السلام، تبارك ذا الجلال والإكرام)) . [ ... ] ، ((يا ذا الجلال والإكرام)) .
وفي الذكر عقب الصلوات المكتوبات أحاديث أخر.
وجمهور أهل العلم على استحبابه، وقد روي عن علي وابن عباسٍ وابن الزبير وغيرهم، وهو قول عطاءٍ والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم.
وخالف فيه طائفةٌ قليلةٌ من الكوفيين، وقد تقدم عن عبيدة السلماني، أنه عد التكبير عقب الصلاة من البدع، ولعله أراد بإنكاره على مصعبٍ، أنه كان يقوله مستقبل القبلة قبل أن ينحرف ويجهر، كذلك هو في ((كتاب عبد الرزاق)) ، وإذا صحت السنة بشيءٍ وعمل بها الصحابة، فلا تعدل عنها.
واستحب –أيضاً - أصحابنا وأصحاب الشافعي الدعاء عقب الصلوات، وذكره بعض الشافعية اتفاقاً.
واستدلوا بحديث أبي أمامة، قال: قيل لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الدعاء أسمع؟ قال: ((جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات)) .
خرّجه الإمام أحمد والترمذي، وحَّسنه.
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث معاذٍ، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ((لا تدَعن دبر كل صلاةٍ تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) .
وقال طائفةٌ من أصحابنا ومن الشافعية: يدعو الإمام للمأمومين عقب صلاة الفجر والعصر؛ لأنه لا تنفل بعدهما.
فظاهر كلامهم: أنه يجهر به، ويؤمنون عليه، وفي ذلك نظرٌ.
وقد ذكرنا فيما تقدم حديث دعاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقب الصلاة جهراً، وأنه لا يصح، ولم يصح في ذلك شيءٌ عن السلف.
والمنقول عن الإمام أحمد أنه كان يجهر ببعض الذكر عقب الصلاة، ثم يسر بالباقي، ويعقد التسبيح والتكبير والتحميد سراً، ويدعو سراً.
ومن الفقهاء من يستحب للإمام الدعاء للمأمومين عقب كل صلاة، وليس في ذلك سنةٌ ولا أثرٌ يتبع. والله أعلم.
وفي بعض نسخ البخاري:
وقال الحسن: الجد غنىً.
وهذا تفسير لقوله: ((ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) ، والجد –بفتح الجيم – المراد به في هذا الحديث: الغنى، والمعنى: لا ينفع ذا الغنى منك غناه.
وهذا كقوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} [سبأ:37] ، وقوله: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ} [الشعراء:88] .
وقدروي تفسير الجد بذلك مرفوعاً:
ففي ((سنن ابن ماجه)) ، عن أبي جحيفة، قالَ: ذكرت الجدود عندَ رسول الله ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في الصَّلاة، فقالَ رجلٌ: جد فلانٌ في الخيل. وقال آخر: جد فلان في الابل، فقالَ آخر: جد فلانٌ في الغنم، وقال آخر: جد فلان في الرقيق، فلما قضى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاته، ورفع رأسه من آخر الركعة، قالَ: ((اللَّهُمَّ، ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، اللَّهُمَّ، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدَّ منك الجدّ)) ، وطول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صوته بالجد؛ ليعلم أنه ليس كما يقولون.
* * *
156 -

(7/417)


باب
يستقبل الإمام الناس إذا سلم
فيه ثلاثة أحاديث:
الأول:
845 -

(7/417)


حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا جرير بن حازم: ثنا أبو رجاءٍ، عن سمرة بن جندبٍ، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى صلاةً أقبل علينا بوجهه.
هذا أول حديثٍ طويلٍ، ساقه بتمامه في ((الجنائز)) ومواضع أخر وفيه: دليلٌ على أن عادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الاقبال على الناس بوجهه بعد الصلاة.
الحديث الثاني:
846 -

(7/417)


حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالكِ، عن صالح بن كيسان، عن
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زيد ابن خالد الجهني، أنه قال: صلى لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافرٌ)) - الحديث.
وسيأتي بتمامه في ((الاستسقاء)) –إن شاء الله تعالى.
والمقصود منه هاهنا: إقباله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد انصرافه من صلاة الصبح، والمعنى: بعد فراغه منها.
الحديث الثالث:
847 -

(7/417)


ثنا عبد الله بن منيرٍ: سمع يزيد: أنا حميدٌ، عن أنسٍ، قال: أخر
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة ذات ليلةٍ إلى شطر الليل، ثم خرج علينا، فلمَّا صلى أقبل علينا بوجهه، فقال: ((إن الناس قد صلوا ورقدوا، وإنكم لن تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم الصلاة)) .
قد تقدم في ((باب: وقت العشاء)) بسياق أتم من هذا.
والمقصود منه هاهنا: إقباله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوجهه بعد الصلاة.
وخرّج مسلمٌ في ((صحيحه)) من حديث البراء بن عازبٍ، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحببنا أن نكون عن يمينه؛ ليقبل علينا بوجهه.
قال: فسمعته يقول: ((رب قني عذابك يوم تبعث عبادك)) - وفيه: ذكر الدعاء بعد الصلاة –أيضاً.
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث يزيد بن الأسود، قال: صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان إذا انصرف انحرف.
وصححه الترمذي.
وفي رواية بعضهم: فصلى، ثم انحرف.
وروى عبد الله بن فروخٍ: أنا ابن جريج، عن عطاءٍ، عن أنس بن مالكٍ، قال: صليت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان ساعة يسلم يقوم، ثم صليت مع أبي بكر، فكأن إذا سلم وثب مكانه، كانه يقوم على رضفٍ.
خرّجه البيهقي.
وقال: تفرد به عبد الله بن فروخ المصري، وله أفرادٌ، والله أعلم.
قلت: وثقه قومٌ، وخرج له مسلمٌ في ((صحيحه)) ، وتكلم فيه آخرون.

(7/417)


وقد رواه عبد الرزاق في ((كتابه)) عن ابن جريجٍ، قال: نبئت عن أنس بن مالكٍ - فذكر الحديث بتمامه.
وهذا أصح.
قال البيهقي: والمشهور: عن أبي الضحى، عن مسروقٍ، قال: كان أبو بكرٍ الصديق إذا سلم قام كأنه جالسٌ على الرضف.
قال: وروينا عن عليّ، أنه سلم ثم قام.
ثم خرج بإسناده، عن خارجة بن زيدٍ، أنه كان يعيب على الأئمة جلوسهم بعد أن يسلموا، ويقول: السنة في ذلك أن يقوم الإمام ساعة يسلم.
قال: وروينا عن الشعبي والنخعي، أنهما كرهاه.
ويذكر عن عمر بن الخطاب. والله أعلم.
وروى عبد الرزاق بإسنادٍ صحيحٍ، عن ابن عمر، قال: كان الإمام إذا سلم انكفت وانكفتنا معه.
وعن ابن مسعودٍ، قال: إذا سلم الإمام فليقم، ولينحرف عن مجلسه.
وعنه، أنه كان إذا سلم قام عن مجلسه أو انحرف.
وممن روي عنه، أن الإمام ينحرف ويستقبل القوم بوجهه: علي بن

(7/426)


أبي طالبٍ وطلحة والزبير.
وقال النخعي: إذا سلم الإمام ثم استقبل القبلة فأحصبوه.
وكره ذلك الثوري وأحمد وغيرهما من العلماء.
ولم يرخص في إطالة استقبال الإمام القبلة بعد سلامه للذكر والدعاء إلا بعض المتأخرين ممن لا يعرف السنن والآثار، ومنهم من استحب في عقب صلاة الفجر أن يأتي بالتهليل عشرٌ مراتٍ.
ذكره طائفةٌ من أصحابنا وغيرهم، لما روى شهر بن حوشبٍ، عن عبد الرحمن بن غنمٍ، عن أبي ذر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثانٍ رجله قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيءٍ قديرٌ –عشرٌ مرات – كتب له عشرٌ حسناتٍ ومحي عنه عشرٌ سيئاتٍ، ورفع له عشرٌ درجاتٍ، وكان يومه ذلك في حرزٍ من كل مكروهٍ، وحرس من الشيطان، ولم ينبغ لذنبٍ أن يدركه في ذلك اليوم، إلا الشرك بالله)) .
خَّرجه الترمذي بهذا اللفظ، وقال: حسنٌ غريبٌ صحيحٌ.
وخَّرجه النسائي في ((اليوم والليلة)) بنحوه.
وخَّرجه –أيضاً –من وجهٍ آخر من حديث شهرٍ، عن عبد الرحمن، عن معاذٍ بن جبلٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنحوه، ولم يذكر: ((وهو ثانٍ رجله)) ،

(7/427)


إنما قال: ((قبل أن يتكلم)) ، وذكر في صلاة العصر مثل ذلك.
وخرّجه الإمام أحمد من حديث شهرٍ، وعن ابن غنمٍ - مرسلاً، وعنده ((من قال من قبل أن ينصرف ويثني رجله من صلاة المغرب والصبح)) –وذكر الحديث.
وشهر بن حوشبٍ، مختلفٌ فيه، وهو كثير الاضطراب، وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث كما ترى.
وقيل: عنه، عن ابن غنم عن أبي هريرة.
وقيل: عن شهر، عن أبي أمامة.
قال الدارقطني: الاضطراب فيه من قبل شهرٍ.
وقد روي نحوه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوهٍ أخر، كلها ضعيفةٌ.
وحكى بعض أصحاب سفيان الثوري، عنه، أنه قال: يستحب للإمام إذا صلى أن لا يجلس مستقبل القبلة، بل يتحول من مكانه أو ينحرف، إلا في العصر والفجر.
ولم يأخذ الإمام أحمد بحديث أبي ذر، فإنه ذكر له هذا الحديث، فقال: أعجب إليّ أن لا يجلس، لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا صلى الغداة أقبل عليهم بوجهه.
يعني: أن هذا أصح من حديث شهر بن حوشبٍ هذا، مع أنه ليس في جميع رواياته: ((قبل أن يثنى رجله)) ، بل في بعضها.
* * *

157 -

(7/428)


باب
مكث الإمام في مصلاه بعد السلام

(7/429)


848 - وقال لنا آدم: ثنا شعبة، عن أيوب، عن نافعٍ، قال: كان ابن عمر يصلي في مكانه الذي صلى فيه الفريضة.
وفعله القاسم.
ويذكر عن أبي هريرة –رفعه -: ((لا يتطوع الإمام في مكانه)) . ولم يصح.
هذا الذي ذكر أنه لا يصح، خَّرجه الإمام وأبو داود وابن ماجه من رواية ليث، عن حجاج بن عبيدٍ، عن إبراهيم ابن إسماعيل، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر، أو عن يمينه أو شماله في الصلاة)) –يعني: في السبحة.
وليس في هذا ذكر الإمام، كما أورده البخاري.
وضعف إسناده من جهة ليث بن أبي سليمٍ، وفيه ضعفٌ مشهورٌ. ومن جهة إبراهيم بن إسماعيل، ويقال فيه: إسماعيل بن إبراهيم، وهو حجازي، روى عنه

(7/429)


عمرو بن دينارٍ وغيره. قال أبو حاتمٍ الرازي: مجهولٌ.
وكذا قال في حجاج بن عبيد، وقد اختلف في اسم أبيه.
واختلف في إسناد الحديث على ليثٍ –أيضاً.
وخرج أبو داود وابن ماجه –أيضاً - من حديث عطاءٍ الخراساني، عن المغيرة بن شعبة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لا يصلي الإمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه)) .
وقال أبو داود: وعطاء الخراساني لم يدرك المغيرة.
وقد اختلف العلماء في تطوع الإمام في مكان صلاته بعد الصلاة، فأما قبلها فيجوز بالاتفاق -: قاله بعض أصحابنا:
فكرهت طائفةٌ تطوعه في مكانه بعد صلاته، وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالكٌ وأحمد وإسحاق.
وروي عن علي –رضي الله عنه -، أنه كرهه.
وقال النخعي: كانوا يكرهونه.
ورخص فيه ابن عقيلٍ من أصحابنا، كما رجحه البخاري، ونقله عن ابن عمر والقاسم بن محمدٍ.
فأما المروي عن ابن عمر، فإنه لم يفعله وهو إمامٌ، بل كان مأموماً، كذلك قال الإمام أحمد،.

(7/430)


وأكثر العلماء لا يكرهون للمأموم ذلك، وهو قول مالكٍ وأحمد.
وقد خرج أبو داود حديثاً يقتضي كراهته من حديث أبي رمثة، قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان أبو بكرٍ وعمر يقومان فيالصف المقدم عن يمينه، وكان رجلٌ قد شهد التكبيرة الأولى من الصلاة، فصلى نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم سلم عن يمينه وعن يساره، حتى رأيت بياض خديه، ثم انفتل، فقام الرجل الذي أدرك التكبيرة الأولى من الصلاة ليشفع، فوثب إليه عمر، فاخذ بمنكبيه فهزَّه، ثم قال: أجلس؛ فإنه لم يهلك أهل الكتاب إلا أنه لم يكن بين صلاتهم فصل، فرفع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصره، فقال: ((أصاب الله بك يا بن الخطاب)) .
وهذا الحديث يدل على كراهة أن يصل المكتوبة بالتطوع بعدها من غير فصل، وإن فصل بالتسليم.
ويدل عليه - أيضاً -: ما روى السائب بن يزيد، قال: صليت مع معاوية الجمعة في المقصورة، فلما سلم قمت في مقامي فصليت، فلما دخل أرسل إلي، فقال: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاةٍ حتى تتكلم أو تخرج؛ فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرنا بذلك، أن لا توصل صلاةٌ بصلاةٍ حتى نتكلم أو

(7/431)


نخرج.
خَّرجه مسلمٌ –بمعناه.
وروى حربٌ بإسناده، عن عطاءٍ، أنه قال فيمن صلى المكتوبة: لا يصلي مكانه نافلةً إلا أن يقطع بحديثٍ، أو يتقدم أو يتأخر.
وعن الأوزاعي، قال: إنما يجب ذلك على الإمام، أن يتحول من مصلاه.
قيل له: فما يجزئ من ذلك؟ قال: أدناه أن يزيل قدميه من مكانه. قيل له: فإن ضاق مكانه؟ قال: فليتربع بعد سلامه؛ فإنه يجزئه.
وروى – أيضاً -: بإسناده، عن ابن مسعودٍ، أنه كان إذا سلم قام وتحول من مكانه غير بعيدٍ.
قال حربٌ: ثنا محمد بن آدم: ثنا أبو المليح الرقي، عن حبيبٍ، قال: كان ابن عمر يكره أن يصلي النافلة في المكان الذي يصلي فيه المكتوبة، حتى يتقدم أو يتأخر أو يتكلم.
وهذه الرواية تخالف رواية نافع التي خرجها البخاري.
وقد ذكر قتادة، عن ابن عمر، أنه رأى رجلاً صلى في مقامه الذي صلى فيه الجمعة، فنهاه عنه، وقال: لا أراك تصلي في مقامك.
قال

(7/432)


سعيدٌ: فذكرته لابن المسيب، فقال: إنما يكره ذلك للإمام يوم الجمعة.
وعن عكرمة، قال: إذا صليت الجمعة فلا تصلها بركعتين حتى تفصل بينهما بتحولٍ أو كلامٍ.
خرَّجهما عبد الرزاق.
ومذهب مالك: أنه يكره في الجمعة أن يتنفل في مكانه من المسجد، ولا ينتقل منه وإن كان مأموماً، وأما الإمام فيكره أن يصلي بعد الجمعة في المسجد بكل حالٍ.
وقد قال الشافعي في ((سنن حرملة)) : حديث السائب بن يزيد، عن معاوية في هذا ثابتٌ عندنا، وبه نأخذ. قال: وهذا مثل قوله لمن صلى وقد أقيمت الصلاة:
((أصلاتان معاً؟!)) كأنه أحب أن يفصلهما منها حتى

(7/433)


تكون المكتوبات منفرداتٍ مع السلام بفصلٍ بعد السلام.
وقدروي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اضطجع بعد ركعتي الفجر.
وروى الشافعي، عن ابن عيينة، عن عمروٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عباسٍ، أنه كان يأمر إذا صلى المكتوبة، فأراد أن يتنفل بعدها أن لا يتنفل حتى يتكلم أو يتقدم.
قال ابن عبد البر: هذا حديثٌ صحيحٌ.
قال: وقال الشعبي: إذا صليت المكتوبة، ثم اردت أن تتطوع، فاخط خطوةً.
وخالف ابن عمر ابن عباسٍ في هذا، وقال: وأي فصلٍ أفصل من السلام؟
وقد ذكر الفقهاء من أصحابنا والشافعية: أن هذا كله خلاف الأولى من غير كراهةٍ فيه، وحديث معاوية يدل على الكراهة.
قال البخاري –رحمه الله -

(7/434)


849 - حدثنا أبو الوليد: ثنا إبراهيم بن سعد: ثنا الزهري، عن هند بنت الحارث، عن أم سلمة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سلم

(7/434)


مكث في مكانه يسيراً.
قال ابن شهاب: فنرى –والله أعلم – لكي ينفذ من ينصرف من النساء.

(7/435)


850 - وقال ابن أبي مريم: أنا نافع بن يزيد: حدثني جعفر بن ربيعة، أن ابن شهاب كتب إليه، قال: حدثتني هند ابنت الحارث الفراسية، عن أن سلمة زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت من صواحباتها -، قالت: كان يسلم، فينصرف النساء فيدخلن في بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ثم ذكر رواياتٍ أخر عن الزهري، حاصلها يرجع إلى قولين في نسبة هند بنت الحارث:
منهم من قال: ((الفراسية)) .
ومنهم من قال: ((القرشية)) .
وقيل: انها فراسيةٌ بالنسب، قرشية بالحلف، كانت تحت معبد بن المقداد بن الأسود.
وفي الحديث: دليل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمكث في المسجد بعد تسليمه من الصلاة يسيراً، وإنما كان يمكث بعد إقباله على الناس بوجهه، لا يمكث مستقبلاً للقبلة، وبهذا يجمع بين هذا الحديث والأحاديث المذكورة في الباب الماضي.

(7/435)


ويدل على أنه كان يجلس قبل انصرافه يسيراً: ما خَّرجه مسلمٌ من حديث البراء بن عازبٍ، قال: رمقت الصلاة مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوجدت قيامه، فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريباً من السواء.
فهذا الحديث: صريحٌ في أنه كان يجلس بعد تسليمه قريباً من قدر ركوعه أو سجوده أو جلوسه بين السجدتين، ثم ينصرف بعد ذلك.
وخرّج مسلمٌ –أيضاً –من حديث عائشة، قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: ((اللهم، أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والاكرام)) .
وقد سأل أبو داود الإمام أحمد عن تفسير حديث عائشة، وهل المعنى: أنه يجلس في مقعده حتى ينحرف؟ قال: لا أدري.
فتوقف: هل المراد جلوسه مستقبل القبلة يسيراً؟
قال: وقال أبو يحيى الناقد: صليت خلف أبي عبد الله –يعني: أحمد -، فكان إذا سلم من الصلاة لبث هنيةً، ثم ينحرف. قال: فظننته يقول ما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فحكى القاضي في كراهة جلوس الإمام مستقبل القبلة بعد سلامه يسيراً روايتين عن أحمد.
والمنصوص عن أحمد في تكبير أيام التشريق: أن

(7/436)


الإمام يكبر مستقبل القبلة قبل أن ينحرف، وحكاه عن النخعي.
قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفرٍ: والعمل على ذلك.
وهذا يدل على أنه يستحب اليسير للإمام قبل انحرافه.
ومن المتأخرين من أصحابنا من قال: إنما يكبر الإمام بعد استقباله للناس، واستدلوا فيه بحديثٍ مرفوعٍ، لا يصح إسناده.
والمنقول عن السلف يدل على أن الإمام ينحرف عقب سلامه، ثم يجلس إن شاء.
روى عبد الرزاق في ((كتابه)) عن معمرٍ، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعودٍ، قال: إذا سلم الإمام فليقم ولينحرف عن مجلسه. قلت: يجزئه ينحرف عن مجلسه ويستقبل القبلة؟ قال: الانحراف يغرب أو يشرق، عن غير واحدٍ.
وكان المسئول معمراً. والله أعلم.
وروى –أيضاً - بإسناده، عن مجاهدٍ، قال: ليس من السنة أن يقعد حتى يقوم، ثم يقعد بعد إن شاء.
وعن سعيد بن جبيرٍ، أنه كان يفعله.
وعن عطاءٍ، قال: قد كان يجلس الإمام بعد ما يسلم –وأقول أنا: التسليم: الانصراف - قدر

(7/437)


ما ينتعل نعليه.
وعن عبيدة، أنه قال لما سمع مصعباً يكبر ويهلل بعد صلاته مستقبل القبلة: ماله، قاتله الله، نعار بالبدع.
ويستثنى من ذلك: الجلوس بعد الفجر، فإنه لو جلس الإمام بعد استقباله الناس إلى أن تطلع الشمس كان حسناً.
ففي ((صحيح مسلم)) عن جابر بن سمرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام.
وروى وكيعٌ بإسناده، عن النخعي، أنه كان إذا سلم قام، إلا الفجر والعصر. فقيل له في ذلك؟ فقالَ: ليس بعدهما صلاة.
قالَ أحمد –في الإمام إذا صلى يقوم الفجر أو العصر -: أعجب إلي أن ينحرف، ولا يقوم من موضعه.
وكان أحمد إذا صلى بالناس الصبح جلس حتى تطلع الشمس.
فأما جلوسه بعد الظهر، فقال أحمد: لا يعجبني.
قال القاضي أبو يعلى: ظاهر كلامه: أنه يستحب بعد الصلاة التي لا يتطوع بعدها، ولا يستحب بعد غيرها.
قال: وروى الخلالُ بإسناده، عن عابدٍ الطائيَّ، قال: كانوا يكر هونَ جلوسَ الإمام في مصلاهُ بعد صلاةٍ يصلي بعدها، فإذا كانت صلاةٌ لا يصلى بعدها فإن شاءَ قامَ، وإن شاءَ جلسَ.

(7/438)


وحكي عن أصحاب الشافعيَّ: أن المستحب للإمامِ أن يقومَ ولا يجلسَ في كل الصلواتِ.
وقد نصَّ الشافعيَّ في ((المختصر)) على أنه يستحبَُ للإمامِ أن يقومَ عقبَ سلامهِ إذا لم سكن خلفهَ نساءٌ.
فأما المأموم فلا يكره له الجلوسُ بعدَ الصلا ة في مكانه، يذكرُ اللهَ، حصوصاً بعد الصبحِ والعصرِ، ولا نعلمُ في ذلك خلافاً.
وقد صحَ الحديثُ في أن الملائكةَ تصليَّ على العبدِ ما دامَ في مصلاه، ما لم يحدثُ، وقد سبق ذكرهُ، ووردت أحاديثُ في الجلوسِ بعد الصبحِ والعصرِ، وكان السلفُ الصالحُ يحافظونَ عليه.
ومتى أطال الإمامُ الجلوس في مصلاهُ، فإن للمأمومِ ان ينصرفَ ويتركه، وسواءٌ كان جلوسهُ مكروهاً أو غير مكروهٍ.
قال ابنُ مسعودٍ: إذا فرغَ الإمامُ ولم يقم ولم ينحرفُ، وكانت لك حاجةٌ فاذهب ودعه، فقد تمتَّ صلاتك.

(7/439)


خرجه عبد الرزاقِ.
وذكر بإسناده عن عطاء، قال: كلامهُ بمنزلةِ قيامه، فإن تكلم فليقم المأمومُ إن شاءَ.
وإن لم يطل الإمام الجلوس، فالسنة أن لا يقوم المأموم حتى يقوم الإمام، كذا قال الزهري والحسن وقتادة وغيرهم.
وقال الزهري: إنما جعل الإمام ليؤتم به.
يشير إلى أن مشروعية الاقتداء به لا تنقطع إلا بانصرافه.
وفي ((صحيح مسلمٍ)) عن أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((أيها الناس، إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف)) .
وحديث أم سلمة المخرج في هذا الباب يدل عليه، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يجلس يسيراً حتى ينصرف النساء، فلا يختلط بهن الرجال، وهذا يدل على أن الرجال كانوا يجلسون معه، فلا ينصرفون إلا مع انصرافه.
وقد روي ذلك صريحاً في هذا الحديث:
خَّرجه البخاري فيما بعد من رواية يونس، عن ابن شهاب، ولفظه: إن النساء كن إذا سلمن من الصلاة قمن وثبت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن معه من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام الرجال.

(7/440)


وفي هذا الحديث: دليل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يدعو بعد فراغ صلاته دعاء عاما للمأمومين، فإنه لو كان كذلك لاشترك في حضوره الرجال والنساء، كما أمر بشهود النساء العيدين حتى الحيض، وقال: ((يشهدن الخير ودعوة المسلمين)) ، فلو كان عقبٌ الصلاة دعاء عام لشهده النساء مع الرجال –أيضاً.
وقال الشافعي في ((الأم)) : فإن قام الإمام قبل ذلك، أو جلس أطول من ذلك، فلا شيء عليه. قال: وللمأموم أن ينصرف إذا قضى الإمام السلام قبل قيام الإمام، وتأخيره حتى ينصرف بعد انصراف الإمام أو معه أحب إلي.
وظاهر كلام كثير من السلف: كراهة ذلك، كما تقدم.
وفي ((تهذيب المدونة)) للمالكية، ولا يقيم الإمام في مصلاه إذا سلم، إلا أن يكون في سفرٍ أو فنائه، وإن شاء تنحى وأقام.
* * *
158 -

(7/441)


باب
من صلى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم

(7/442)


851 - حدثنا محمد بن عبيد: ثنا عيسى بن يونس، عن عمر بن سعيد: أخبرني ابن أبي مليكة، عن عقبة، قال: صليت وراء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة العصر، فسلم، ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلي بعض حجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم، فرأى أنهم عجبوا من سرعته، فقال: ((ذكرت شيئاً من تبرٍ عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته)) .
فيه: دليل على أن الإسراع بالقيام عقب السلام من غير تمهلٍ لم يكن من عادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولهذا تعجبوا من سرعته في هذه المرة، وعلم منهم ذلك، فلذلك أعلمهم بعذره.
وفيخ: دليلٌ على أن التخطي للإمام لحاجةٍ جائزٌ، وإن كان بعد فراغه من الصلاة، كما له أن يتخطى الصفوف في حال دخوله –أيضاً -، وأما غيره، فيكره له ذلك.
وظاهر كلام أحمد أنه يكره للإمام –أيضاً.
قال إسحاق بن هانئٍ:

(7/442)


سألت أبا عبد الله عن الرجل يصلي بالقوم، فإذا فرغ من الصلاة خرج من بين رجلين، أفهو متخطً؟ قال: نعم، وأحب إلى أن يتنحى عن القبلة قليلاً حتى ينصرف النساء، فإن خرج مع الحائط فهذا ليس بمتخط.
وظاهر هذا: كراهةٌ تخطيهم للإمام، وقد يكون مراده: إذا لم يكن له حاجة تدعوه إلى ذلك.
والتبر: هو قطع الذهب قبل أن يضرب.
والظاهر: أنه كان من مال الصدقة أو غيرها من الأموال التي يجب قسمتها على المساكين ونحوهم.
وقد خَّرجه البخاري في موضعٍ آخر، وذكر فيه: أنه كان تبراً من الصدقة، وقال: ((كرهت أن أبيته، فقسمته)) .
* * *
159 -

(7/443)


باب
الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال
وكان أنسٌ ينفتل عن يمينه وعن يساره، ويعيب على من يتوخى –أو يعمد – الانفتال عن يمينه.
الانفتال: هو الانحراف عن جهة القبلة إلى الجهة التي يجلس اليها الإمام بعد انحرافه، كما سبق ذكره.
وحكمه: حكم الانصراف بالقيام نم محل الصلاة.
وقد نص عليه إسحاق وغيره.
وقد ذكر البخاري، عن أنسٍ، أنه كان ينفتل عن يمينه ويساره، ويعيب على من يتوخى الانفتال عن يمينه - يعني: يتحراه ويقصده.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) من رواية أبي الأوبر الحارثي، عن أبي هريرة، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينفتل عن يمينه وشماله.
وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن
جده، قال: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة.

(7/444)


وفي رواية للإمام أحمد: ((ينصرف)) بدل: ((ينفتل)) .
وخرج مسلمٌ في هذا الباب حديث البراء بن عازب، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحببنا أن نكون عن يمينه فيقبل علينا بوجهه.
وخرّجه من روايةٍ أخرى ليس فيها: ((ثم يقبل علينا بوجهه)) .
ولكن روي تفسير هذه اللفظة بالبداءة بالتفاته إلى جهة اليمين بالسلام.
خرّجه الإسماعيلي في ((حديث مسعرٍ من جمعه)) ، ولفظه: كان يعجبنا أن نصلي مما يلي يمين رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأنه كان يبدأ بالسلام عن يمينه.
وفي رواية أخرى له: أنه كان يبدأ بمن علي يمينه، فيسلم عليه.
قال أبو داود: كان أبو عبد الله –يعني: أحمد – ينحرف عن يمينه.
قال ابن منصورٍ: كان أحمد يقعد ناحية اليسرى، ويتساند.
قال القاضي أبو يعلى: وهما متفقان؛ لأنه إذا انحرف عن يمينه حصل جلوسه ناحية يساره.
قال: وقال ابن أبي حاتمٍ: سمعت يقول: تدبرت الاحاديث التي رويت في إستقبال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس بوجهه،

(7/445)


فوجدت انحرافه عن يمينه أثبت.
وقال ابن بطة من أصحابنا: يجلس عن يسرة القبلة.
ونقل حربٌ، عن إسحاق، أنه كان يخير في ذلك كالانصراف.
وللشافعية وجهان: أحدهما: التخيير كقول إسحاق. والثاني: أن الانفتال عن يمينه أفضل.
ثم لهم في كيفيته وجهان:
أحدهما –وحكوه عن أبي حنيفة -: أنه يدخل يمينه في المحراب ويساره إلى
الناس، ويجلس على يمين المحراب.
والثاني –وهو أصح عند البغوي وغيره -: بالعكس.
واستدلوا له بحديث البراء بن عازبٍ الذي خَّرجه مسلمٌ.
وأما الانصراف: فهو قيام المصلي وذهابه من موضع صلاته إلى حاجته، فيذهب حيث كانت حاجته، سواءٌ كانت من وجهة اليمين أو اليسار، ولا يستحب له أن يقصد جهة اليمين مع حاجته إلى غيرها، هذا قول جمهور العلماء، وروي عن علي وابن مسعود وابن عمر والنخعي وعطاء والشافعي وأحمد وإسحاق.
وإنما كان أكثر انصراف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن يساره؛ لأن بيوته كانت من جهة اليسار.

(7/446)


وقد خَّرجه الإمام أحمد مصرحاً بذلك من رواية ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، أن ابن مسعودٍ حدثه، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ عامةً ما ينصرف من الصَّلاة على يساره إلى الحجرات.
فإن لم يكن له حاجةٌ في جهةٍ من الجهات، فقال الشافعي وكثيرٌ من أصحابنا: انصرافه إلى اليمين أفضل، فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعجبه التيمن في شأنه كله.
وحمل بعضهم على ذلك حديث السدي، قال: سألت أنساً: كيف أنصرف إذا صليت عن يميني أو عن يساري؟ فقال: أما أنا فأكثر ما رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينصرف عن يمينه.
خرّجه مسلمٌ.
والسدي، هو: إسماعيل بن عبد الرحمن، وقد تكلم فيه غير واحدٍ، ووثقه أحمد وغيره. وعن يحيى فيه روايتان.
ولم يخرج له البخاري، وأظنه ذكر هاهنا الأثر الذي علقه عن أنسٍ ليعلل به هذا الذي رواه عنه السدي. والله أعلم.

(7/447)


وحكى ابن عبد البر، عن الحسن وطائفة من العلماء: أن الانصراف عن اليمين أفضل.
وقد حكاه ابن عمر عن فلانٍ، وأنكره عليه، ولعله يريد به ابن عباسٍ –رضي الله عنهما.
وسئل عطاءٌ: أيهما يستحب؟ قال: سواءٌ، ولم يفرق بين أن يكون له حاجة، أو لا.
وخرّج الإمام أحمد والنسائي من حديث عائشة. أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينصرف عن يمينه وشماله.
وهو من رواية بقية، عن الزبيدي، أن مكحولاً حدثه، إن مسروق بن الاجدع حدثه، عن عائشة.
وهذا إسنادٌ جيدٌ.
لكن رواه عبد الله بن سالمٍ الحمصي –وهو ثقةٌ ثبتٌ -، عن الزبيدي، عن سليمان بن موسى، عن مكحولٍ بهذا الإسناد.
قالَ الدارقطني: وقوله أشبه بالصواب.

(7/448)


وسليمان بن موسى، مختلفٌ في أمره.
وروى قبيصة بن الهلب، عن أبيه، قالَ: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤمنا، فينصرف على جانبيه جميعاً، عن يمينه وشماله.
خَّرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي.
وقال: حديثٌ حسنٌ، وعليه العمل عندَ أهل العلم.
قالَ وصح الأمران عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
* * *

160 -

(7/449)


باب
ما جاء في الثوم النئ والبصل والكراث
وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من أكل الثوم والبصل، من الجوع أو غيره، فلا يقربن مسجدنا)) .
خرّج فيه: عن ابن عمر، وجابر، وأنسٍ:
فاما حديث ابن عمر:
فقال:
853 -

(8/5)


ثنا مسددٌ: ثنا يحيى، عن عبيد الله: حدثني نافعٌ، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال – في غزوة خيبر -: ((من أكل من هذه الشجرة –يعني: الثوم – فلا يقربن مسجدنا)) .
وخَّرجه مسلم، ولفظه: ((فلا يقربن المساجد)) .
وهذا صريحٌ بعموم المساجد، والسياق يدل عليه؛ فإنه لم يكن بخيبر مسجد بني للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إنما كان يصلي بالناس في موضع نزوله منها.
وقد روي، أنه أتخذ بها مسجداً، والظاهر: أنه نصب احجاراً في مكان، فكان يصلي بالناس فيه، ثم قد نهى من أكل الثوم عن قربان موضع صلاتهم.

(8/5)


يدل عليه: ما خَّرجه مسلمٌ من حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: لم نعد أن فتحت خيبر، فوقعنا أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تلك البقلة الثوم، والناس جياعٌ، فاكلنا منها أكلاً شديداً، فوجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الريح، فقال: ((من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئاً فلا يقربنا في المسجد)) ، فقال الناس: حرمت، حرمت. فبلغ ذلك
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((يأيها الناس، إنه ليس بي تحريم ما أحل الله، ولكنها شجرةٌ أكره ريحها)) .
وخرّج الإمام أحمد من حديث معقل بن يسار، قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسيرٍ له، فنزلنا في مكان كثير الثوم، وإن أناساً من المسلمين أصابوا منه، ثم جاءوا إلى المصلى يصلون مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنهاهم عنها، صم جاءوا بعد ذلك إلى المصلى، فوجد ريحها
منهم، فقال: ((من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا في مسجدنا)) .
وأما حديث جابرٍ، فمن طريقين:
أحدهما:

(8/6)


854 - حدثنا عبد الله بن محمد: ثنا أبو عاصمٍ: أنا ابن جريجٍ: أخبرني عطاءٌ، قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من أكل من هذه الشجرة –يريد: الثوم – فلا يغشانا في مساجدنا)) .
قلت: ما يعنى به؟ قال: ما أراه يعني إلا نيئه.
وقال مخلد بن يزيد، عن ابن جريجٍ: إلا نتنه.

(8/6)


وهذه الرواية –أيضاً - صريحة بعموم المساجد، والمسئول والمجيب لعله عطاءٌ وفي أبي عاصم.
((نيئه)) ، بالهمز، ويقال بالتشديد بدون همزة، والمراد به: ما ليس بمطبوخٍ، فإنه قد ورد في المطبوخ رخصةٌ، لزوال بعض ريحه بالطبخ.
وقد قال عمر –رضي الله عنه – في خطبته -: إنكم تأكلون شجرتين، لا أراهما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا وجد ريحها من الرجل في المسجد أمر به وأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخا.
خَّرجه مسلمٌ.
وخرّج أبو داود والنسائي من حديث معاوية بن قرة، عن أبيه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن هاتين الشجرتين، وقال: ((من أكلهما فلا يقربن مسجدنا)) وقال: ((إن كنتم لابد آكلوهما، فاميتوهما طبخاً)) .
قال: يعني: البصل والثوم.
وقال البخاري –فيما نقله عنه الترمذي في ((علله)) -: حديثٌ حسنٌ.
وخرّج الطبراني معناه من حديث أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال فيه: ((فإن كنتم لابد آكلوهما فاقتلوهما بالنار قتلاً)) .

(8/7)


وخرّج أبو داود من حديث علي، قال: نهي عن أكل الثوم، إلا مطبوخاً.
خَّرجه الترمذي.
ثم خَّرجه - موقوفاً - عن علي، أنه كره أكله إلا مطبوخاً.
وخرّج ابن ماجه من حديث عقبة بن عامر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه: ((لا تأكلوا البصل)) ، ثم قال كلمة خفية: ((النئ)) .
وأما رواية مخلد بن يزيد الحراني، عن ابن جريج، التي ذكرها البخاري –تعليقاً -، فمعناها: نتن ريحه، ولأجلها كره دخول المسجد لآكله.
وخرّج مسلم حديث جابر هذا من رواية يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، ولفظه: ((من أكل من هذه البقلة: الثوم)) –وقال مرةٍ -: ((من أكل من البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم)) .
وخرّج معناه من حديث أبي الزبير، عن جابر –أيضاً.
وخرّج مسلم –أيضاً - من حديث الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن

(8/8)


مسجدنا، ولا يؤذينا بريح الثوم)) .
فدل هذا الحديث – مع الذي قبله – على أن علة المنع من قربان المسجد تأذى من يشهده من المؤمنين والملائكة بالرائحة الكريهة.
وفي عامة هذه الأحاديث: تسمية الثوم شجرةً.
قال الخطابي: فيه أنه جعل الثوم من جملة الشجر، والعامة انما يسمون الشجر ما كان له ساق يحمل أغصانه دون غيره.
وعند العرب: أن كل ما بقيت له أرومة في الأرض تخلف ما قطع فهو شجر، وما لا أرومة له فهو نجمٌ، فالقطن شجرٌ، يبقى في كثير من البلدان سنين، وكذلك الباذنجان، فأما اليقطين والريحان ونحوهما فليس بشجر، فلو حلف رجل على شيء من الأشجار فالاعتبار من جهة الاسم والحقيقة على له ذكرت، وفي العرف ما تعارفه الناس. انتهى.
وأما قوله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} [الصافات:146] ، فلا يرد على ذكره؛ فإنها شجرة مقيدة بكونها من يقطين، وكلامه إنما هوَ في اطلاق اسم
الشجر.
وقد اختلف أصحابنا الفقهاء فيما يتكرر حمله من أصول الخضروات ونحوهما: هل هو ملتحق بالشجر، أو بالزرع؟ وفيه وجهان، ينبني

(8/9)


عليهما مسائل متعددة، قد ذكرناها في ((كتاب القواعد في الفقه)) .
الطريق الثاني:

(8/10)


855 - ثنا سعيد بن عفير: ثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب: زعم عطاء، أن جابر بن عبد الله زعم، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا – أو قال: فلعتزل مسجدنا -، وليقعد في بيته)) .
وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى بقدر فيه خضروات من بقول، فوجد لها ريحا، فسأل، فأخبر بما فيها من البقول، فقال: ((قربوها)) –الي بعض أصحابه كان معه -، فلما رأه كره أكلها. قال: ((كل، فإني أناجي من لا تناجي)) .
وقال أحمد بن صالح، عن ابن وهب: ((أُتي بِبَدرٍ)) .
قال ابن وهب: يعني: طبقاً فيه خضرواتٌ.
ولم يذكر الليث وأبو صفوان، عن يونس قصةَ القدرِ، فلا أدري: هو من قول الزهري، أو في الحديث؟
قالَ الخطابي: قول ابن شهاب: ((زعم عطاء، أن جابراً زعمَ)) ليس على معنى التهمة لهما، ولكن لما كان أمراً مختلفاً فيه حكىعنهم بالزعم، وقد يستعمل فيما يختلف فيه كما يستعمل فيما يرتاب به، ويقال: في قولِ فلانٍ مزاعمٌ، إذا لميكن موثوقاً به.
وذكر: أن رواية ((القدر)) تصحيفٌ، إنما الصواب ((ببدرٍ)) وهو الطبق،

(8/10)


كما قاله ابن وهب، وسمي بدراً لاستدارئه وحسن اتساقه، تشبيهاً بالقمر.
قال: وإن لم يكن ((القدر)) تصحيفاً، فلعله كان مطبوخاً، ولذلك لم يكره أكله لأصحابه، ثم بين أن كراهته لا تبلغُ التحريمَ لقوله: ((أناجي من لا تناجي)) ، يريد: الملك. انتهى.
وخرج ابن جرير الطبري بإسناد فيه ضعفٌ من حديث أبي أيوب الأنصاري، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال –لما امتنعَ من أكل الطعام الذي أرسله إليه -: ((إن فيها هذه البقلةَ: الثومَ، وأنا رجلٌ أقربُ الناسَ وأناجيهم، فأكره أن يجدُوا مني ريحهُ، ولكن مُر أهلكَ أن يأكلوها)) .
وهذه الرواية: تدلُ على أنه كره أكلها لكثرةِ مخالطتهِ للناس وتعليمهم القرآن والعلمَ، فيستفاد من ذلك: أن من كان على هذه الصفة، فإنه يكره ذلك من ذلك ما لا يكره لمن لم يكن مثلَ حاله.
ولكن؛ روى مالكٌ، عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار، قالَ: كانَ
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يأكل الثوم ولا البصل ولا الكراث من أجل أن الملائكة تأتيه، مِن أجل أنه يكلم جبريل عليه السلام.

(8/11)


وهذا مرسلٌ.
ولا ينافي التعليلُ بمناجاتِ الملك التعليلَ بمناجاةِ بني آدم، كما وردً تعليلٌ النهي عن قربانِ أكل الثومِ للمساجد بالعلتين جميعاً، كما سبق ذكرُه.
وقد ذكر البخاري: أن قصة إتيانه بقدرٍ أو بدرٍ لم يذكرها في هذا إلا ابن وهبٍ عن يونسَ، وأن الليث بن سعدٍ وأبا صفوان –وهو: عبدُ الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان –رويا عن يونس أول الحديث دون هذه القصةِ الآخرة، وأن ذلك يوجب التوقفَ في أن هذه القصةَ: هل هي من تمام حديثِ جابرٍ، أو مدرجةٌ من كلامِ الزهري؛ فإن الزهريَ كان كثيراً ما يروي الحديث، ثم يدرجُ فيه أشياءَ، بعضها مراسيلُ، وبعضها من رأيه وكلامه.
وقد خرّج البخاري في ((الأطعمةِ)) الحديث من رواية أبي صفوان، عن يونس، مقتصراً على أول الحديثِ.
وخرّج البخاري في ((الأطعمةِ)) الحديثَ عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب، وفي حديثه: ((ببدر)) ، وذكر مخالفة سعيد بن عفيرٍ له، وأنه قال: ((بقدرٍ)) .

(8/12)


وأما حديث أنسٍ:
فقال:
856 -

(8/13)


حدثنا أبو معمرٍ: ثنا عبدُ الوارثِ، عن عبد العزيز، قال: سأل رجلٌ أنساً: ما سمعتَ نبيَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثوم؟ فقال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا، ولا يصلين معنا)) .
وخَّرجه في موضع آخر، وقال: ((فلا يقرَبنَّ مسجدنا)) .
وفي النهي لمن أكلهما عن قربان الناس: دليلٌ على أنه يكره له أن يغشى الناس حتى يذهب ريحها، ولكن حضوره مجامع الناسِ للصلاةِ والذكر ومجالسته لأهل العلمِ والدين أشد كراهةً من حضوره الأسواق ومجالسته الفساق.
ولهذا في حديث جابر المتقدم: ((وليقعد في بيته)) .
وفي ((صحيح مسلمٍ)) من حديث أبي سعيدٍ الخدريَ، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر على زراعة بصل هو وأصحابه، فنزلَ ناسٌ منهم، فأكلوا منه، ولم يأكل اخرون، فرحنا إليهِ، فدعا الذين لم يأكلوا البصلَ، وأخر الاخرينَ، حتى ذهب ريحها.

(8/13)


وقد روي عن عمرَ، أنه قال: من أكل البصل والكراث فلا يأكله عند قراءة القرآن، ولا عند حضورِ المساجد.
خرّجه عثمان الدارمي في ((كتاب الأطعمةِ)) .
ومن أغرب ما روي في هذا الباب: ما خَّرجه أبو داود وابن حبان في
((صحيحه)) من حديث حذيفةَ –بالشكَّ في رفعه -: ((من أكل منهذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا ثلاثاً)) .
وهذا مشكوك في رفعه.
وقدرواه جماعةٌ من الثقات، فوقفوه على حذيفة بغير شك، وهو الأظهر والله أعلم.
ويحتمل أن في الكلام حذفاً، تقديره: قالها ثلاثاً. يعني: أنه اعاد هذه الكلمة ثلاث مراتٍ.
وقد دلت أحاديث هذا الباب على أن أكل الثوم غير محرمٍ في الجملة، وإنما ينهى من أكله عن دخولِ المسجدِ حتى يذهبَ ريحه، وعلى هذا جمهور العلماءِ.
وذهب إلى تحريمِ أكله طائفةٌ قليلةٌ من أهل الظاهرِ. وروي عن بعض المتقدمين –أيضاً -، والنصوصُ الصحيحةُ صريحةٌ برد هذا الكلامِ.

(8/14)


وأما كراهةٌ أكل ذلك، فمن العلماء من كره أكله نيئاً حتى يُطبخ، منهم: عمر وابن عمر والنخعي، وهو قول أحمد، وقال: الثوم أشدُّ.
وروي عنه روايةٌ، أنه قال: لا أحب أكل الثوم خاصة، وإن طبخ، لأنه لا يذهب ريحه إذا طبخ، قال: وإن أكله من علةٍ فلا بأس، وقال: الذي يأكلها يتجنب المسجد، وكل ما له ريحٌ، مثلُ البصلِ والثومِ والكراثِ والفجلِ فإنما أكرهه لمكانِ الصلاةِ.
وسئل عن أكل ذلك بالليلِ؟ فقال: أليس يتأذى به الملكُ.
وظاهرُ هذا: يدل على كراهةِ أكل ما له ريحٌ كريهةٌ، وان كان وحده.
وقد روي عن سعد بن أبي وقاصٍ، أنه كان إذا اراد أن ياكل الثوم بدا –يعني: خرج إلى البادية.
وعن عكرمة، قال: كنا نأكله ونخرجُ من الكعبةِ.
خَّرجه ابن جريرٍ الطبريُ.
ولو أكله، ثم دخل المسجد كُره له ذلكَ.
وظاهر كلامِ أحمد: أنه يحرمُ، فإنه قال في رواية إسماعيل بن سعيد: إن أكل وحضر المسجدَ أثمَ.
وهو قولَ ابن جرير – أيضاً - وأهل الظاهر وغيرهم.
قال ابنُ جرير: وإذا وجد منه ريحةً في المسجد، فإن السلطان يتقدم اليه بالنهي عن معاودة ذلك، فإن خالف وعاد، أمر بإخراجه من البلد إلى أن تذهب منه الرائحة. واستدل بحديث عمر –رضي الله عنه -، وقد سبق

(8/15)


ذكره.
وقد استدل قومٌ من العلماء بأحاديث هذا الباب على أن حضور الجماعة في المساجد ليست فرضاً؛ لأنها لو كانت فرضاً لم يرخص في أكل الثوم وينهى من أكله عن حضور المسجد، وجعلوا أكل هذهِ البقولِ التي لها ريحٌ خبيثةٌ عذراً يبيح ترك الجماعةِ.
ورد عليهم آخرون:
قال الخطابي: قد توهم هذا بعضُ الناس؛ قال: وإنما هو – يعني: النهي عن دخول المسجد – توبيخٌ له وعقوبةٌ على فعله إذ حرم فضيلة الجماعةَ.
ونقل ابن منصورٍ، عن إسحاق، قال: إن أكل الثوم من علةٍ حادثةٍ به فإن ذلك مباح، وان لم يكن علة لا يسعه أكله، لكي لا يترك الجماعةَ.
وهذا مجمولٌ على ما إذا أكله بقربِ حضورٍ الصلاة ويعلم [ ... ] فريضة.
ودخولُ المسجد مع بقاء ريح الثوم محرمٌ، وهو قولُ طائفةٍ من أصحابنا وابن جرير وغيرهم من العلماء.
ويشهدُ لهذا: أن الخمر قبل أن تحرم بالكلية كانت محرمة عند حضور الصلاةِ، كيلا يمنع من الصلاةِ، حيث كان الله قد انزل فيها {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ، فكان منادي

(8/16)


النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينادي: ((لا يقرب الصلاة سكرانٌ)) . وفي ضمن ذلك، النهي عن السكر بقرب وقت الصلاة، ثم حرمت بعد ذلك على الإطلاق بالآية التي في سورة المائدة.
وقد تقدم نص أحمد بإنه قال: أكرهه في وقت الصلاة، لمكانِ المسجدِ.
وهذا يحتملُ كراهة التنزيه، وكراهة التحريم.
وروى ابن وهب، عن مالك، أنه سئل عن أكل الثوم يوم الجمعة؟ فقال: بئسما صنع حين أكل الثوم وهو ممن يجب عليه حضورُ الجمعة.
وقد ذكرنا: أن هذ الحكم يتعدى إلى كل مأكول له رائحةٌ كريهةٌ، كالفجل وغيره، وأن أحمد نص عليه.
وكذلك قال مالكٌ: الكراثُ كالثوم، إذا وجدت ريحهما يؤذي.
وألحق أصحاب مالكٍ به: كل من له رائحةٌ كريهةٌ يتأذى بها، كالحراث والحوات.
وفيه نظر، فإن هذا أثر عملٍ مباحٍ، وصاحبه مخحتاج اليه، فينبغي أن يؤمر إذا شهد الصلاة في جماعته بالغسل وإزالة ما يتأذى برائحته منه، كما أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كان يشهد الجمعة من الأنصار الذين كانوا يعملون في نخلهم ويلبسون الصوف ويفوح ريحهم بالغسل، وأمرهم بشهود الجمعة في ثوبين غير ثوبي المهنة.

(8/17)


وذكر ابن عبد البر عن بعض شيوخه، أنه ألحق بأكل الثوم من كان أهل المسجد يتأذون بشهوده معهم من اذاه لهم بلسانه ويده، لسفهه عليهم وإضراره بهم، وأنه يمنع من دخول المسجد ما دام كذلك، وهذا حسنٌ.
وكذلك يمنعُ المجذومُ من مخالطة الناس في مساجدهم وغيره؛ لما روي من الامر بالفرار منه. والله أعلمَ.

(8/18)


وفي ((تهذيب المدونةِ)) : ويقامُ الذي يقعدُ في المساجد يوم الخميس وغيره لقراءة القرآن.
ولعلَ مراده: إذا كان يقرأ جهراً، ويحصلُ بقراءته أذى لأهلِ المسجدِ، ويشوش عليهم. والله أعلم.
* * *
161 -

(8/19)


باب
وضوء الصبيان، ومتى يجب عليهم الغسل والطهور
وحضورهم الجماعة والعيدين والجنائز، وصفُوفهم
لما أن تعين ذكر صفة الصلاة، وكان الغالبُ على أحكامها يختصً بالرجال المكلفين، افرد لحكم الصبيان باباً مفرداً، ذكر فيه حكم طهارتهم من الوضوء والغسل، وذكر صلاتهم وحضورهم الجماعات مع الرجال فيالصلوات المفروضات وفي العيدين والجنائز، وصفوفهم مع الرجال.
وذكر في الباب أحاديث ستة، يُستنبط منها هذهِ الأحكام التي بوب عليها.
ولم يبوب على وقت وجوب الصلاة عليهم؛ لأن الأحاديث في ذلك ليست على شرطهِ.
وهي نوعان:
أحاديث: ((مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم على تركها لعشرٍ)) .
وقد رُويت من وجوهٍ متعددةٍ، أجودها: من حديث سبرة بن معبدٍ الجهني، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((مروا الصبيَّ بالصلاة إذا بلغَ سبعَ سنينَ، واذا بلغ عشر سنينَ فاضربوه عليها)) .
خرّجه الإمام أحمد وأبو داود – وهذا لفظه – والترمذي –وقال: حسنٌ صحيحٌ –وابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكمُ –وقال: على شرط

(8/20)


مسلم.
وقد ذهبَ إلى هذا الحديث جماعةٌ من العلماء، وقالوا: يُؤمر بها الصبيُ لسبعٍ، ويضرب على تركها لعشرٍ، وهو قولُ مكحولٍ والأوزاعي وأحمد وإسحاق.
وتقل ابن منصورٍ، عنهما، أنهما قالا: إذا ترك الصلاة بعد العشر يعيد.
واختلف أصحابنا: هل هي واجبةٌ عليه في هذه الحال، أم لا؟ فأكثرهم على أنها لا تجب على الصبي، لكن يجب على الولي أمره بها لسبعٍ، وضربه إذا نركها لعشر.
ومنهم من قال: هي واجبةٌ عليه إذا بلغ عشراً، يضربه على تركها.
وقد قيل: إن الضرب على الترك، تارةً يكون في الدنيا والآخرة كالوضوء على المسلمِ البالغِ العاقل، وتارةً يكون في الآخرة دون الدنيا كوجوب فروع الاسلام على الكفار، وتارةً يكون فغي الدنيا خاصة كضرب الصبي إذا ترك الصلاة لعشر، ولا يلزم من ذلك أن يعاقب عليها في الآخرة.
ومن العلماء من قال: يؤمر الصبي بالصلاة إذا عرف يمينه من شماله، روي عن ابن سيرين والزهري، وروي عن الحسن وابن عمر،

(8/21)


وفيه حديث مرفوع، خَّرجه أبو داود، وفي إسناده جهالةٌ، وهو اختيار الجوزجاني.
وروي عن عمر، أنه مر على امرأة توقظ ابنها لصلاة الصبح وهو يتلكا، فقال: دعيه لا يعنيه، فإنها ليست عليه حتى يعقلها.
وعن عروة، وميمون بن مهران، قالا: يؤمر بها إذا عقلها.
وعن بعض التابعين: يؤمر بها إذا أحصى عدد عشرين.
وعن النخعي ومالك: يؤمر بها إذا ثغر –يعني: تبدلت اسنانه.
النوع الثاني: أحاديث: ((رُفع القلم عن ثلاث)) ، منهم: ((الصبي حتى
يحتلم)) .
وفي ذلك أحاديث متعددة:
منها: عن عمر وعلي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خَّرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذيُ والنسائي.
وقد اختلف في رفعه ووقفه، ورجح الترمذي والنسائي والدارقطني وغيرهم وقفه على عمر، وعلى عليّ من قولهما.
وله طرق عن علي.
ومنها: عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: ((وعن الصبي حتى يكبر)) .

(8/22)


خَّرجه أبو داود وابن حبان في ((صحيحه)) من رواية حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة.
وقال النسائي: ليس في هذا الباب صحيحٌ إلاحديث عائشة؛ فإنه حسن.
ونقل الترمذي في ((علله)) عن البخاري، أنه قالَ: ارجو أن يكون محفوظاً. قيل له: رواه غير حماد؟ قال: لا أعلمه.
وقال ابن معين: ليس يرويه أحد، إلا حماد بن سلمة، عن حمادٍ.
وقال ابن المنذر: هو ثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والى هذا الحديث ذهب أكثر العلماء، وقالوا: لا تجب الصلاة على الصبي حتى يبلغ. والله أعلم.
وقد تقدم: أن البخاري خرج في هذا الباب ستة أحاديث:
الأول:
857 -

(8/23)


حدثنا محمد بن المثنى: ثنا غندر: ثنا شعبة: سمعت سليمان

(8/23)


الشيباني: سمعت الشعبي، قال: أخبرني من مر مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على قبرٍ منبوذ، فأمهم وصفوا عليه، فقلت: يا أبا عمرو: من حدثك؟ قالَ: ابن عباس.
مراد البخاري من هذا الحديث في هذا الباب: أن ابن عباس صلى خلف النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع أصحابه على القبر، وابن عباس كانَ صغيراً لم يبلغ الحلم، وقد سبق ذكر الاختلاف في سنه عندَ وفاة النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ((كتاب العلم)) ، فدّل على أن الصبي يشهد صلاة الجنائز مع الرجال، ويصلي معهم عليها، ويصف معهم.
وقدر خَّرجه البخاري في موضع آخر من ((كتابه)) هذا بلفظ آخر، وفيه:
((فقام فصففنا خلفه، قال ابن عباس: وأنا فيهم، فصلى عليه)) .
وقد خَّرجه الدارقطني من طريق شريك، عن الشيباني بهذا الإسناد، وقال في حديثه: ((فقام فصلى عليه، فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه)) .
وهذه زيادة غريبة، لا أعلم ذكرها غير شريك، وليس بالحافظ، فإن كانت محفوظة استدل بها على صفوف الجنائز كصفوف سائر الصلوات.
وقد اختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: كذلك، وهو ظاهر كلام أحمد؛ لأنه نص على كراهة صلاة الفذ وحده في صلاة الجنازة.

(8/24)


ومنهم من قال: يصلي على الجنازة الرجل وحده، منفرداً خلف الصفوف، منهم: القاضي أبو يعلى في ((خلافه)) وابن عقيل.
وقالوا: إذا لم يكن جعل الصفوف في صلاة الجنازة ثلاثة إلا بقيام واحد
صفاً وحده كان أفضل.
واستدل بما روى عبد الله بنعمر العمري، قال: سمعت أم يحيى قالت: سمعت أنس بن مالك يقول: مات ابن أبي طلحة، فصلى عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقام أبو طلحه خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأم سليمٍ خلف أبي طلحة كأنهم عرفُ ديكٍ، وأشار بيده.
خَّرجه الإمام أحمد.
وخرج أبو حفص العكبري – من أصحابنا – بإسناده. عن خير بن نعيم الحضرمي، أن أبا الزبير – أو عطاء بن أبي رباح – أخبره. أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على جنازةٍ، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابعهم، فجعلهم ثلاثة صفوفٍ، الصف الأول ثلاثة، والصف الثاني رجلين، والصف الثالث رجلاً، والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أيديهم.
وهذا مرسلٌ.
وقد نص أحمد على أنه يستحب جعلهم في صلاة الجنائز ثلاثة صفوف، إذا أمكن أن يكون في كل صف اثنان فصاعداً، واستدل بحديث مالك بن هبيرة، أنه كان إذا صلى على جنازة فتقال الناس عليها جزأئهم ثلاثة اجزاء، ثم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب)) .
خَّرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي.

(8/25)


وقال: حديث حسن.
الحديث الثاني:
858 -

(8/26)


ثنا علي بن عبد الله: ثنا سفيان: حدثني صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)) .
مراده بهذا الحديث هاهنا: الاستدلال به على أن الغسل الواجب لا يجب إلا على من بلغ الحلم، وهو المراد بالمحتلم في هذا الحديث، كما أن قوله: ((لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمارٍ)) ، إنما أراد به من بلغت

(8/26)


المحيض.
وقد اختلف العلماء في معنى الوجوب في هذا الحديث: هل هو على ظاهره، أم المراد به التأكيد؟ وفيه خلاف يأتي في موضع آخر –إن شاء الله سبحانه وتعالى.
فإن قيل: أنه علي ظاهره، وإنه يأثم بتركه، فإن هذا الوجوب يختص بالبالغ ولا يدخل فيه الصبي، اللهم، إلا على رأي من أوجب الصلاة على من بلغ عشراً من الصبيان، كما هو قول طائفةٍ من أصحابنا، فإنهم اختلفوا في وجوب الجمعة عليه، ولهم فيه وجهان، أصحهما: لا يجب.

(8/27)


فإن قيل بوجوبها عليه توجه وجوب الغسل عليه – أيضاً -، وهو ضعيف لأنه مبطلٌ فائدة تخصيص الوجوب في هذا الحديث بالمحتلم.
وإن قيل: أن الوجوب في الحديث إنما أريد به تأكيد الاستحباب، فهل يدخل فيه الصبي؟
لا يخلو الصبي، إما أن لا يريد حضور الجمعة، فلا يؤمر بالغسل لها، وإما أن يريد حضورها مع الرجال، ففي استحباب الغسل له وجهان لأصحابنا.
وينبغي أن لا يتأكد الاستحباب في حقه كتاكيده على الرجال؛ لئلا تبطل فائدة تخصيص الوجوب بالمحتلم في الحديث.
ومذهب مالك؛ أنه يغتسل إذا أراد شهود الجمعة.
وأما وجوب الغسل على الصبي إذا وجد منه ما يوجب الغسل على البالغ، مثل أن يطأ ويولج في فرج امرأة، أو تكون الزوجة الموطأة صغيرةً لم تبلغ، فيطؤها الرجل، فهل يجب عليها وعلى الصبي الواطء - بغير إنزال – الغسل؟ فيه قولان مشهوران
للفقهاء:
أحدهما: يجب، وهو نص أحمد، واختيار ابن شاقلا وغيره من أصحابنا، وهو قول إسحاق بن راهويه.
وقالت الشافعية: يصير بذلك جنباً، ويمنع مما يمنع منه الجنب حتى يغتسل، ويلزم وليه أن لا يمكنه مما يمنع منه الجنب حتى يغتسل.
ولم يقولوا: أن غسله واجبٌ، لئلا يتوهم

(8/28)


أنه مكلف به.
والثاني: لا يجب، بل يستحب، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وأبي ثور، وأصحابنا؛ لأن الغسل عبادة بدنية، فلا تلزم الصبي، كالصوم والصلاة.
قال المحققون من أصحابنا: وهذا لا يصح؛ لأنه ليس المعني بوجوبه تأثيمه بتركه لينافيه الصغر، بل فائدته اشتراطه لصحة صلاته وطوافه، وتمكينه من مس المصحف، وقراءة القرآن، واللبث في المسجد، وإلزامه به إذا بلغ، وتغسيلنا له يشبه ما لو قتل شهيداً قبل أن يغتسل، وغير ذلك من الأحكام، والصغر لا ينافي ذلك، كما لم يناف إيجاب الوضوء عليه بموجباته بهذا المعنى –أيضاً.
ولا نعلم خلافاً أن الصبي المميز تصح طهارته ويرتفع حدثه، ولو بلغ بعد أن توضأ لجاز أن يصلي بذلك الوضوء الفرض، ولا نعلم في ذلك خلافاً، إلا وجهاً شاذاً للشافعية، لا تعويل عليه.
ولكن؛ هل يوصف وضوؤه قبل بلوغه بالوجوب؟ فيه لأصحابنا وجهان.

(8/29)


وهذا الخلاف يشبه الخلاف في تسمية غسله واجباً، على ما سبق.
ويشبه تخريج هذا الخلاف في تسميته واجباً عليه بدون إرادة الصلاة، على الخلاف في أن الموجب للطهارة، هل هو الحدث، أو إرادة الصلاة؟ وفيه اختلافٌ مشهورٌ.
ويمكن أخذه من اختلاف الروايتين عن أحمد في غسل الحائض للجنابة في حال حيضها.
وأما أن الصبي ممنوعٌ من الصلاة بدون الطهارة، فمتفقٌ عليه.
نعم؛ في جواز تمكين الصبي من مس لوحه الذي يكتب فيه القرآن روايتان عن أحمد، ومن أصحابنا من حكى الخلاف في مسهم لمصاحفهم.
ووجه عدم اشتراطه: أن حاجتهم إلى ذلك داعيةٌ، ويشق منعهم منه بدون طهارة، لتكرره، ووضوؤهم لا يحتفظ غالباً.
وهو - أيضاً – قول الحنفية، وأصح الوجهين للشافعية؛ لهذا المعنى.
وهذا كله في حق الصبي المميز، فأما من لا تميز له فلا طهارة له ولا صلاة، ولو توضأ لم يؤثر استعماله في الماء شيئاً.
وأما المميز إذا توضأ بالماء، فهل يصير مستعملاً؟ فيه لأصحابنا وجهان.
ويحسن بناؤها على أن وضوءه: هل يوصف بالوجوب، أو بالاستحباب؟
والأظهر: أنه يصير مستعملاً، لأنه قد رفع حدثه، وأزال منعه من

(8/30)


الصلاة.
وهو – أيضاً – أصح الوجهين للشافعية.
والثاني لهم: ليس بمستعمل، لأنه لم يؤدَّ به فرضاً.
قالوا: والصحيح: أنه مستعمل؛ لأن المراد بفرض الطهارة ما لا تجوز الصلاة ونحوها إلا به، لا ما يأثم بتركه.
الحديث الثالث:

(8/31)


859 - حديث ابن عباس: بت عند خالتي ميمونة ليلة، فقام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما كان في بعض الليل قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتوضأ من شنَّ معلقٍ، وضوءا خفيفا، ثم قام يصلي، فقمت فتوضأت نحواً مما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره، فحولني فجعلني عن يمينه، ثم صلى –وذكر الحديث.
وقد تقدم في أوائل ((كتاب الوضوء)) بهذا الاسناد والسياق الذي خرَّجه في هذا الباب.
والمقصود منه هاهنا: أن ابن عباسٍ توضأ كما توضأ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قام إلى جانب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي معه، وأنه لما قام عن يساره ولم يكن موقفاً للمأموم حوله عن يمينه إلى موقف المأموم، فهذا يدل على صحة طهارة الصبي وصلاته، وإئتمامه بالإمام،

(8/31)


ومصافته للإمام، فإن ابن عباس كان إذ ذاك صبياً، كما سبق ذكره.
وقد تقدم الكلام على انعقاد الجماعة بالصبي، وعلى أن من وقف مع صبي، فهل هو فذٌ، أم لا؟

الحديث الرابع:
861 -

(8/32)


حديث ابن عباس: أقبلت راكباً على حمارٍ أتانٍ، وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس بمنىً إلى غير جدارٍ، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي أحدٌ.
قد سبق هذا الحديث في ((باب: سترة الإمام سترةٌ لمن خلفه)) من طريق مالك، خرَّجه هناك عن عبد الله بن يوسف، عن مالكٍ، وخرَّجه هنا عن عبد الله بن مسلمة –هو: القعنبي -، عن مالكٍ.
والمراد بتخريجه هاهنا: الاستدلال على صحة صلاة النبي، وأنه يدخل في صف الرجال ويقف معهم.
وقد استدل بهذا مالكٌ على أن الأفضل أن يجعل في الصف بين كل رجلين صبياً؛ ليتعلم أدب الصلاة وخشوعها.
وهو أحد الوجهين للشافعية.
والثاني لهم: يقف الصبيان إذا كثروا صفاً خلف الرجال.
وهو

(8/32)


مذهبنا ومذهب أبي حنيفة.
استدلوا لذلك بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ليلني أولوا الأحلام منكم والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) .
خرَّجه مسلم.
وبما روى شهر بن حوشبٍ: حدثنا عبد الرحمبن غنمٍ، أن أبا مالكٍ الأشعري جمع قومه، فقال: اجتمعوا واجمعوا نسائكم وأبنائكم أعلمكم صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاجتمعوا وجمعوا نساءهم وأبناءهم، وأراهم كيف يتوضأ، فأحصى الوضوء أماكنه، حتى لما أن فاء الفيء وانكسر الظل قام فأذن، وصف الرجال في أدنى الصف، وصف الولدان خلفهم، وصف النساء خلف الولدان، ثم اقام الصلاة، فتقدم فصلى – وذكر قصة الصلاة، ثم قال: إنها صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرَّجه الإمام أحمد بتمامه، وخرَّجه أبو داود مختصراً.
ولو قام الصبي في وسط الصف، ثم جاء رجلٌ، فله أن يؤخره ويقوم مقامه، نص عليه، وفعله أبي بن كعبٍ بقيسِ ابن عبادٍ، وروي نحوه عن عمر – أيضاً -، فهذا قول الثوري وأحمد، وقد سبق ذكره في ((أبواب الصفوف)) .

(8/33)


ولو كان الصبي في آخر الصف، فقام رجلٌ خلفه في الصف الثاني، فقال أحمد: لا بأس به، هو متصلٌ بالصف.
وحمله القاضي على أن الصف إذا كان فيه خللٌ، فوقف رجلٌ لم يبطل اتصاله؛ لأن الصبي لا يصاف في الفرض، على المنصوص لأحمد.
ومن أصحابنا من قال: لا يصاف في الفرض ولا في النفل، ولو قلنا: تصح إمامته في النفل.
وهذه طريقة أبي الخطاب، أنه تصح مصافته في الفرض والنفل، وهو قول الأوزاعي وإسحاق؛ لأنه محكومٌ بصحة صلاته، وان لم تصح إمامته للرجال.
وكذا قال الثوري ومالكٌ وأبو حنيفة والشافعي، لكنه يجيز إمامته للرجال ومصافته أولى.
وكل هؤلاء يقولون فيمن أم رجلاً وصبياً: إنهما يقفان خلفه، وعند أحمد: يقفان عن يمينه، أو يقف بينهما، وعليه حمل وقوف ابن مسعودٍ بين علقمة والأسود، وقال: كان الأسود غلاماً.
وحديث ابن عباسٍ الذي خرَّجه البخاري في هذا الباب يدل على أن دخول الصبي المميز في صف الرجال في الصلاة المفروضة هو السنة. والله أعلم.
الحديث الخامس:
862 -

(8/34)


حديث عائشة:

(8/34)


أعتم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العشاء، حتى ناداه عمر: قد نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر الحديث.
وقد سبق في ((أبواب المواقيت)) ، وذكرنا هنالك إسناد هذه الرواية التي في هذا الباب، وأنها من وجهين: مسندٍ ومعلقٍ، وبقية الحديث.
والمقصود منه هاهنا: أن الصبيان كانوا يشهدون مع الرجال الصلاة المكتوبة في المسجد مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الحديث السادس:
863 -

(8/35)


حدثنا عمرو بن عليَّ: ثنا يحيى: حدثنا سفيان: حدثني عبد الرحمن بن عابس، قال: سمعت ابن عباسٍ، وقال له رجلٌ: شهدت الخروج مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم، ولولا مكاني منه ما شهدته –يعني: من صغره – وذكر بقية الحديث.
ويأتي في ((صلاة العيدين)) – إن شاء الله.
وقد خرَّجه هناك عن مسددٍ، عن يحيى، وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لابن عباسٍ: أشهدت العيد مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم.
والمراد في هذه الرواية بالخروج: الخروج للعيد.
والمقصود من الحديث هاهنا: أن الصبيان كانوا يشهدون صلاة العيد

(8/35)


مع النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قوله: ((لولا مكاني منه ما شهدته –يعني: من صغره)) ، يدل على أن من كان في سنه لم يكن خروجه إلى العيد معتاداً، وإنما أخرج ابنٍ عباس لقربه من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكأن الإمام له مزية على الناس في الخروج إلى العيد، حتى يخرج حاشيته كلهم، صغيرهم وكبيرهم.
ولعل ابن عباسٍ أشار إلى خروجه في عيد وهو صغيرٌ في أول سن التمييز، والإ فقد أدرك من حياة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك مدةً؛ فإنه كان في حجة الوداع مناهزاً للاحتلام، كما سبق في الحديث الماضي.
* * *

162 -

(8/36)


باب
خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس
لما فرغ من ذكر أحكام صلاة الرجال وصلاة الصبيان شرع في ذكر حكم صلاة النساء، فأفرد لذلك أبواباً وابتدأها بخروجهن إلى المساجد في الليل وغلس الفجر.
وخرج فيه ستة أحاديث:
الحديث الأول:
864 -

(8/37)


حدثنا أبو اليمان: أنا شعيبٌ، عن الزهري: أخبرني عروة، عن عائشة، قالت: أعتم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعتمة، حتى ناداه عمر: نام النساء والصبيان – وذكر بقية الحديث.
وقد ذكرنا باقيه في ((أبواب المواقيت)) .
والمقصود منه هاهنا: الاستدلال على شهود النساء صلاة العشاء مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الحديث الثاني:
865 -

(8/37)


ثنا عبيد الله بن موسى، عن حنظلة، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى

(8/37)


المساجد فأذنوا لهن)) .
تابعه: شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
((حنظلة)) ، هو: السدوسي.
وقد رواه الترمذي –أيضاً - عن سالم.
وخرَّجه البخاري فيما بعد، ويأتي قريباً –إن شاء الله.
وليس فيها: ذكر الليل.
وكذلك رواه نافعٌ، عن ابن عمر، وغيرهم –أيضاً.
ورواية الأعمش، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر التي علقها البخاري، خرَجها مسلمٌ في ((صحيحه)) من رواية أبي معاوية وعيسى بن يونس، كلاهما عن الأعمش، به، ولفظه: ((لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل)) .
وخرَّجه – أيضاً – من رواية عمروٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد)) .
وخرّج البخاريُّ في ((كتاب الجمعة)) من طريق عمروٍ – أيضاً -، وسياتي –إن شاء الله سبحانه وتعالى.

(8/38)


ومراد البخاري بالمتابعه، ذكر الليل، مع أن مسلماً خَرج حديث حنظلة عن سالمٍ، ولم يذكر فيه: ((بالليل)) .
وقال الإمام أحمد في رواية حنظلة، عن سالم عن أبيه: إسنادٌ حسنٌ.
الحديث الثالث:
866 -

(8/39)


حدثنا عبد الله بن محمد: حدثنا عثمان بن عمر: أخبرنا يونس، عن الزهري: حدثتني هند بنت الحارث أن أم سلمه زوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبرتها، أن النساء في عهد الرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كن إذا سلمن من المكتوبة قمن وثبت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فاذا قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام الرجال.
قد سبق هذا الحديث وهذا السياق أتم مما تقدم.
وليس في هذا الحديث: ذكر الليل، والظاهر أنه كان نهاراً، أو أعم من ذلك.
الحديث الرابع:
867 -

(8/39)


حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالكٍ –ح وحدثنا عبد الله بن يوسف: أخبرنا مالكٌ، عن يحيى بن سعيد، عن

(8/39)


عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشه، قالت: إن كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي، الصبح فينصرف النساء متلفعاتٍ بمروطهن، ما يعرفن من الغلس.
قد سبق هذا الحديث في"أبواب المواقيت "من روايه الزهري، عن عروة عن، عائشة –بمعناه.
وفيه: دليلٌ على شهود النساء صلاة الصبح مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجوعهن في غلس الظلام.
الحديث الخامس:
868 -

(8/40)


حدثنا محمد بن مسكين - يعني: ابن نملية -: ثنا بشر بن بكرٍ: أنبأ الأوزاعي: حدثني يحيى بن أبي كثيرٍ، عن عبد الله ابن أبي قتادة، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إني لأقوم إلى الصلاة، وأنا أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي كراهة أن أشق على أمه)) .
((نملية)) بالنون، ذكره ابن ماكولا، وهو يماميٌ ثقةٌ.
وقد تقدم هذا الحديث في "أبواب الإمامه"مع أحاديث أخر متعددةٍ في هذا المعنى.
والمراد هاهنا من ذلك: أن النساء كن يشهدن الصلاة خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، ومعهن صبيانهن، وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعلم ذلك، ويراعي في صلاته حالهن، ويؤثر ما عليهن، ويجتنب ما يشق

(8/40)


عليهن، وذلك دليل على أن حضورهن الجماعه معه غير مكروهٍ، ولولا ذلك لنهاهن عن الحضور معه للصلاة.
الحديث السادس:
869 -

(8/41)


حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالكٌ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن عمرة، عن عائشه: قالت لو أدرك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أحدث النساء [بعده] لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل.
قلت لعمرة: أو منعن؟ قالت: نعم.
تشير عائشةُ – رضي الله عنها –إلى أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرخص في بعض ما يرخص فيه حيث لم يكن في زمنه فسادٌ، ثم يطرأ الفساد ويحدث بعده، فلو أدرك ما حدث بعده لما استمر على الرخصه، بل نهى عنه؛ فإنه إنما يأمرُ بالصلاح، وينهى عن الفساد.
وشبيهٌ بهذا: ما كان في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعهد أبي بكرٍ وعمر من خروج الإماء إلى الأسواق بغير خمارٍ حتى كان عمر يضرب الأمه إذا رآها منتقبةً أو مستترةً، وذلك لغلبة السلامه في ذلك الزمان، ثم زال ذلك وظهر الفساد وانتشر، فلا يرخص حينئذٍ فيما كانوا يرخصون فيه.
فقد اختلف العلماء في حضور النساء مساجد الجماعات للصلاة مع

(8/41)


الرجال: فمنهم من كرهه بكل حالٍ، وهو ظاهر المروي عن عائشه - رضي الله عنها -، وقد استدلت بأن الرخصة كانت لهن حيث لم يظهر منهن ما ظهر، فكانت لمعنىً وقد زال ذلك المعنى.
قال الإمام أحمد: أكره خروجهن في الزمان؛ لأنهن فتنتةٌ.
وعن أبي حنيفة روايةٌ: لا يخرجن الإ للعيدين خاصةً.
وروى أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي، قال: حقٌ على كل ذاتِ نطاقٍ أن تخرج للعيدين. ولم يكن يرخص لهن في شيء من الخروج الإ في العيدين.
ومنهم من رخص فيه للعجائز دون الشوابَّ، وهو قول مالكٍ –في رواية - والشافعي وأبي يوسف ومحمدٍ، وطائفةٍ من أصحابنا أو أكثرهم.
حكاه ابن عبد البر عن العلماء، وحكاه عن مالكٍ من روايه أشهب: أن العجوز تخرج إلى المسجد ولا تكثر التردد، وأن الشابه تخرج مرةً بعد مرة.
وقال ابن مسعودٍ: ما صلت امرأة صلاةً أفضل من صلاتها في بيتها، الإ أن تصلي عند المسجد الحرام، إلا عجوزاً في منقلها.
خرَّجه وكيع وأبو عبيدٍ.
وقال: يعني: خفها.
وخرَّجه البيهقي، وعنده: إلا في مسجد الحرام، أو مسجد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(8/42)


ومنهم من رخص فيه للجمع، إذا أمنت الفتنه، وهو قول مالكٍ - في رواية ابن القاسم، ولم يذكر في ((المدونة)) سواه -، وقول طائفه من أصحابنا المتأخرين.
ثم اختلفوا: هل يرخص لهن في الليل والنهار، أم في الليل خاصةً؟ على قولين.
أحدهما: يرخص لهن في كل الصلوات، وهو المحكي عن مالكٍ والشافعي وأبي يوسف ومحمدٍ، وقول أصحابنا.
واستدلوا بعموم الأحاديث المطلقة، وبخروجهن في العيدين، فأما المقيدة بالليل، فقالوا: هو تنبيهٌ على النهار من طريق الفحوى؛ لأن تمكن الفساق من الخلوة بالنساء والتعرض لهن بالليل أظهر، فإذا جاز لهن الخروج بالليل ففي النهار أولى.
وقالت طائفةٌ: إنما يرخص لهن في الليل، وتبويب البخاري يدل عليه، وروي مثله عن أبي حنيفة، لكنه خصه بالعجائز.
وكذا قال سفيان: يرخص لهن في العشاء والفجر. قال: وينهى عن حضورهن تراويح رمضان.
ومذهب إسحاق كأبي حنيفة والثوري في ذلك، الإ أنه رخص لهن في حضور التراويح في رمضان.

(8/43)


وهؤلاء استدلوا بالأحاديث المقيدة بالليل، وقالوا: النهار يكثر انتشار الفساق
فيه، فأما الليل فظلمته مع الاستتار تمنع النظر غالباً، فهو أستر وروي عن أحمد ما يدل على أنه يكره للمراة أن تصلي خلف رجلٍ صلاةً جهرية.
وهذا عكس قول من رخص في خروج المرأة إلى المسجد بالليل دون النهار.
قال مهنا: قال أحمد: لا يعجبني أن يؤم الرجل النساء، الإ أن يكون في بيته، يؤم أهل بيته، أكره أن تسمع المرأة صوت الرجل.
وهذه الروايه مبينة –والله أعلم - على قول أحمد: إن المرة لا تنظر إلى الرجل الأجنبي، فيكون سماعها صوته كنظرها إليه، كما أن سماع الرجل صوت المرأة مكروهٌ كنظره إليها؛ لما يخشى في ذلك من الفتنة.
وإن صلى الرجل بنساءٍ لا رجلٌ معهن، فإن كن محارم له أو بعضهن جاز، وإن كن أجنبياتٍ فإنه يكره.
وإنما يكره إذا كان في بيتٍ ونحوه، فأما في المسجد فلا يكره؛ لاسيما إن كان فيه رجالٌ لا يصلون معهم.
فقد روي أن عمر - رضي الله عنه - جعل للنساء في قيام رمضان إماماً يقوم بهن على حدة كما جعل للرجال إماماً.
وأما في بيت ونحوه فيكره؛ لما فيه من الخلوة.
فإن كان امرأةٌ واحدةٌ، فهو محرمٌ، وإن كان امرأتان فهل يمنع ذلك الخلوة؟ فيه لأصحابنا وجهان.

(8/44)


ومتى كثر النساء فلا يحرم، بل يكره.
ومن أصحابنا من علل الكراهة بخشيه مخالطة الوسواس له في صلاته.
ومذهب الشافعي: إن صلى بامرأتين أجنبيتين فصاعداً خالياً بهن فطريقان، قطع جمهورهم بالجواز. والثاني: في تحريمه وجهان.
وقيل: أن الشافعي نص على تحريم أن يؤم الرجل نساء منفرداتٍ، إلا أن يكون فيهن محرمٌ له، أو زوجةٌ، وإن خلا رجلان أو رجالٌ فالمشهور عندهم تحريمه.
وقيل: إن كانوا ممن يبعد مواطأتهم على الفاحشة جاز.
فإن صلي بهن في حال يكره، كرهت الصلاة وصحت، وإن كان في حال
تحريم، فمن أصحابنا من جزم ببطلان صلاتهما.
وكره طائفة من السلف أن يصلي الرجل بالنساءِ الأجنبيات وليس خلفه صفٌ من الرجال منهم: الجزري.
وكذلك قال الإمام أحمد –في روايه الميموني -: إذا كان خلفه صف رجال صلى خلفه النساء؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بأنس واليتيم وأم سليم وراءهم.
قيل لهُ: فإن لم يكن رجال، كانوا نساء؟
قالَ: هذه مسأله مشتبهةٌ. قيل لهُ: فصلاتهم جائزة؟

(8/45)


قال: أما صلاته فهي جائزة قيل له: فصلاة النساء؟ هذه مسألةٌ مشتيهةٌ.
فتوقف في صحة صلاتهن دونه.
* * *
164 -

(8/46)


باب
صلاة النساء خلف الرجال
فيه حديثان:
الأول:
870 -

(8/47)


حديث أم سلمة: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه ويمكث في مقامه هو يسيراً قبل أن يقوم.
قال: فنرى –والله أعلم –أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحدٌ من الرجال.

(8/47)


خرَّجه عن يحيى بن قزعة، عن إبراهيم بن سعد. وقد خرَّجه فيما تقدم من طريقتين. عنه.
ووجه استدلاله به على تأخير النساء: أن النساء إذا كن يصلين في مؤخر المسجد أمكن أن يتبادرن إلى القيام والخروج قبل الرجال فلو كن يصلين في مقدم المسجد لم يتمكن من ذلك.
الثاني:
871 -

(8/48)


حديث أنس: صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيت أم سليم، فقمت ويتيم خلفه، وأم سليم خلفنا.
خرَّجه عن أبي نعيم، عن ابن عيينه، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس.
ووجه الاستدلال به ظاهرةٌ الإ أن الأول هذه الجماعة لم تكن في المسجد.
وقد خرج فيما تقدم حديث سهل بن سعدٍ: كان الناس يصلون مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عاقدي أزرهم من الصغر على رقابهم، فقيل للنساء: ((لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرحال جلوساً)) .
خرَّجه في ((أبواب: اللباس)) وفي ((أبواب: السجود)) .
وهو صريح في أن النساء كن يصلين خلف الرجال.
وخرج أبو داود من حديث أسماء بنت أبي بكر، قالت: سمعت

(8/48)


رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((من كان منكنَّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رؤسهم)) كراهية من أن يرين عورات الرجال. وقد تقدم حديث أبي مالكٍ الأشعري في وصفه صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وصفهٍ الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء.
وقد روي عن ابن مسعود، أنه قال: أخروهن من حيث أخرهن الله.
وخرّج مسلم من حديث سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال:
((خيرُ صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)) .
ولا خلاف بين العلماء في أن المراد بتأخير مقامها في الصلاة عن مقام الرجل، إلا أن تكون صغيرة، لم تبلغ فإنه قد روي، عن أبي الدرداء، أنه كان يفهم أم الدرداء –وهي صغيرة لم تبلغ – صف الرجال. والجمهور على خلافه.
وقد سبق حكم إبطال الصلاة بمصافتها الرجال، أو تقدمها عليهم في ((باب: إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد)) .
* * *

165 -

(8/49)


باب
سرعة انصراف النساء من الصبح
وقلة مقامهن في المسجد

(8/50)


872 - حدثنا يحيى بن موسى: ثنا سعيد بن منصور: ثنا فليح، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الصبح بغلس، فينصرفن نساء المؤمنين، لا يعرفن من الغلس –أو لا يعرف بعضهنَّ بعضاً.
قد سبق هذا الحديث في ((المواقيت)) من رواية الزهري، عن عروة، عن عائشة –بمعناه -، وفيه: ((ثم ينقلين إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة، لا يعرفهن أحد من
الغلس)) .
وهذا يدل على سرعة خروجهن من المسجد عقيب انقضاء الصلاة مبادرة لما بقي من ظلام الغلس، حتى ينصرفن فيه، فيكون أستر لهن.
وهذا المعنى لا يوجد في غير الصبح من سائر الصلوات؛ فلذلك خصه البخاري بالتبويب عليه. والله أعلم.
* * *

166 -

(8/50)


باب
استئذان المراة زوجها بالخروج إلى المسجد

(8/51)


873 - حدثنا مسدد: ثنا يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا استأذنت امرأة أحدكم فلا يمنعها)) .
قد تقدم هذا الحديث بأتم من هذا السياق.
وقد روي هذا المعنى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه أخر:
خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود من رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات)) .
خرَّجه الإمام أحمد من حديث زيد بن خالد الجهني وعائشة، وفي حديث عائشة أنها قالت: لو رأى حالهنَّ اليوم لمنعهن.
فهذه الأحاديث: تدل على أمرين:
أحدهما:
أن المرأة لا تخرج إلى المسجد بدون اذن زوجها، فإنه لو لم يكن له اذن في ذلك لأمرها أن تخرج أن اذن أو لم يأذن.

(8/51)


وخرج ابن أبي شيبة من حديث ابن عمر – مرفوعاً -: ((حق الزوج على زوجته لا تخرج من بيتها إلا بأذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة الله، وملائكة الرحمة، وملائكة الغضب، حتى تتوب أو تراجع)) .
وفي إسناده: ليث بن أبي سليم، وقد اختلف عليه في إسناده.
وخرج البزار نحوه من حديث ابن عباسٍ.
وفي إسناده: حسين بن علي الرحبي، ويقال له: حنش، وهو ضعيف الحديث.
وخرج الترمذي وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث قتادة، عن مورق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((المرأة عورة، فاذا خرجت استشرفها الشيطان)) .
زاد ابن حبان: ((وأقرب ما تكون من ربها إذا هي في قعر بيتها)) .
وصَححه الترمذي.
وإسناده كلهم ثقات.
قال الدارقطني: رفعه صحيح من حديث قتادة، والصحيح عن أبي إسحاق وحميد بن هلال، أنهما روياه عن أبي الأحوص، عن عبد الله

(8/52)


موقوفاً.
ولا نعلم خلافاً بين العلماء: أن المرأة لا تخرج إلى المسجد الإ بأذن زوجها، وهو قول ابن المبارك والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم.
لكن من المتقدمين من كان يكتفي في اذن الزوج بعلمه بخروج المرأة من غير منع؛ كما قال بعض الفقهاء: إن العبد يصير مأذونا له في التجارة بعلم السيد بتصرفه في ماله من غير منعٍ.
فروى مالكٍ، عن يحيى بن سعيد، أن عاتكة بنت زيد كانت تستأذن زوجها عمر بن الخطاب إلى المسجد، فيسكت، فتقول: والله، لأخرجنَّ، إلا أن تمنعني، فلا يمنعها.
وروي عن ابن عمر، قال: كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في جماعة، فقيل لها: لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ فقالت: ما يمنعه أن ينهاني؟ قالوا: يمنعه قول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)) .
خرَّجه البخاري من حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر.
وخرَّجه الإمام أحمد من رواية سالم، عن عمر – منقطعاً.

والأمر الثاني:
أن الزوج منهيٌ عن منعها إذا استأذنته، وهذا لابد من تقييده بما إذا لم يخف فتنةً أو ضرراً.
وقد أنكر ابن عمر على ابنه لما قال له: والله، لمنمعهن، أشد الأنكار، وسبه، وقال له: تسمعني اقول: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتقول: لنمنعهن؟! .

(8/53)


وقد تقدم من عمر عدم المنع.
وممن قال: لا يمنعن: ابن المبارك ومالك وغير واحد.
وحكي عن الشافعي، أن له المنع من ذلك وقاله القاضي أبو يعلى وغيره من أصحابنا.
وروى سعيد بن أبي هلال، عن محمد بن عبد الله بن قيس، أن رجالاً من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتو رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: إن نساءنا استاذنونا في المسجد، فقال: ((احبسوهن)) ، ثم إنهن عدن إلى أزواجهن، فعاد أزواجهن إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال:
((احبسوهن)) ، ثم إنهن عدن إلى أزواجهن، فقالوا: يا رسول الله، قد استأذننا حتى إنا لنخرج. قال: ((فإذا أرسلتموهن، فأرسلوهن تفلات)) .
وهذا مرسلٌ غريب.
ومن هؤلاء من حمل قوله: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)) على النهي عن منعهن من حجة الاسلام، وهو في غاية البعد، ورواية من روى تقييده بالليل تبطل ذلك.
ومنهم من حمله على الخروج للعيدين، وهو بعيد –أيضاً -؛ فان النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن من عادته صلاة العيدين في المسجد.
ومن أصحابنا من قال: يكره منعهن إذا لم يكن في خروجهن ضررٌ

(8/54)


ولا فتنهٌ، فحملوا النهي على الكراهة.
وقال صاحب ((المغني)) منهم: ظاهر الحديث يمنعه من منعها.
قلت: وهوظاهر ما روي عن عمر وابن عمر، كما تقدم.
وكذلك مذهب مالكٍ: لا يمنع النساء من الخروج إلى المسجد.
وبكل حال؛ فصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد.
خرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهنَّ خيرٌ لهنَّ)) .
وخرج الإمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) من حديث أم حميد –امرأة أبي حميد -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: ((صلاتك في بيتك خيرٌ من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي)) .
قال: فأمرت، فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها واظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل.

(8/55)


وخرج أبو داود معناه من حديث ابن مسعود.
والبيهقي معناه –أيضاً - من حديث عائشة.
وخرج الإمام أحمد والحاكم من حديث أم سلمة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((خيرُ مساجد النساء قعر بيوتهن)) .
وخرَّجه الطبراني من وجه أخر عن أم سلمة، بمعنى الأحاديث التي قبله.
وقد تقدم عن ابن مسعود، أن صلاتها في مسجد مكة والمدينة أفضل من صلاتها في بيتها.

* * *

(8/56)