فتح الباري لابن رجب

83 - باب
رَفعِ اليدَينِ في التَّكبيرَةِ الأُولَى معَ الاِفْتِتَاحِ سَواءً

(6/321)


735 - حدثنا عبد الله بنِ مسلمة، عَن مالك، عَن ابن شهاب، عَن سالم بنِ
عبد الله، عَن أبيه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يرفع حَذو منكبيه إذا افتتحَ الصلاة وإذا كبر للركوع، واذا رفعَ رأسه مِن الركوع رفعهما كذلك أيضاً، وقالَ: ((سمع الله لمن حمدهُ، ربنا ولك الحمد)) ، وكان لا يفعل ذَلِكَ في السجود.
مقصود بهذا الحديث في هَذا الباب مسألتان
إحداهما:
أن رفع اليدين عند افتتاح الصلاة مشروع، وهذا كالمجمع عليهِ.
قالَ ابن المنذر: لَم يختلف أهلُ العلم أنَّ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يرفع يديه إذا افتتح الصلاة.
وحكى بعضهم رواية عَن مالك، أنه لا يرفع يديه في الصلاة بحالٍ -: ذكره ابن عبد البر وغيره.
ولعل ذَلِكَ لا يصح عَن مالك، وحديثه هَذا مجمع على صحته لا مطعن لأحد فيهِ.
والرفع في افتتاح الصلاة سنةٌ مسنونة، وليس بركنٍ ولا فرض عند

(6/321)


جمهور العلماء، ولا تبطل الصلاة بتركهِ عند أحد مِنهُم.
وحكي عَن الحميدي وداود وأحمد بنِ يسار مِن الشافعية: أنه تبطل الصلاة بتركه.
وروي عن علي بنِ المديني ما يشبهه، وأن الرفع واجب، لا يحل تركه.
ونقل حرب، عَن إسحاق ما يدل على بطلان الصلاة بترك الرفع عند تكبيرة الإحرام، وأنه واجب.
وَهوَ قول أبي بكر بنِ أبي شيبة والجوزجاني.
وقال ابن خزيمة: هوَ ركن مِن أركان الصلاة، حكاه الحاكم في ((تاريخ
نيسابور)) عَن خاله أبي علي المؤذن - وأثنى عليهِ -، أنَّهُ سمع ابن خزيمة يقوله.
وحكاه ابن بد البر روايةً عَن الأوزاعي؛ لقوله فيمن ترك الرفع: نقصت صلاته.
وهذا لا يدل؛ فإن مراده: لَم يتم سننها، كَما قالَ ابن سيرين: الرفع مِن تمام الصلاة.
ونص أحمد على أن مِن ترك الرفع نقصت صلاته.
وفي تسميته: ((مِن تمام الصلاة)) ، عَنهُ روايتان.
ولا خلاف أنَّهُ لا يبطل تركه عمداً ولا سهواً.
وتوقف إسحاق بنِ راهوية في تسميته: ((ناقص الصلاة)) ، وقال: لا أقول سفيان الثوري ناقص الصلاة.
واستدل الأكثرون على أنَّهُ غير واجب، بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَم يعلمه المسيء

(6/322)


في صلاته، كَما علمه التكبير لافتتاح الصلاة، ولو كانَ حكم الرفع حكم التكبير لعلمه إياه معه.
وقد روى الوليد بنِ مسلم، عَن الأوزاعي: حدثني إسحاق بنِ عبد الله بنِ أبي طلحة، قالَ: بصر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجلٍ يسيء في صلاته، فقالَ لَهُ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((أحسن صلاتك)) ، وأمره برفع يديه عند تكبيرة الاستفتاح للصلاة، وبالقراءة، وبرفع يديه إذا كبر للركوع، وبرفع يديه عند تكبيرة السجدة التي بعد الركوع.
خرجه ابن جوصا في ((مسند الأوزاعي)) .
وَهوَ مرسل.
ورواه جماعةٌ عَن الوليد، عَن الأوزاعي، عَن إسحاق، عَن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يفعل ذلك في صلاته.
وَهوَ أصح.
وفي رواية: أن الوليد لَم يسمعه مِن الأوزاعي.
والوليد مدلس عَن غير الثقات، وقد استنكر الإمام أحمد حديثه هَذا.
المسألة الثانية:
أن الرفع يكون معَ التكبير سواءً؛ ولهذا بوبَ عليهِ: ((رفع اليدين في التكبيرة الأولى معَ الافتتاح سواءً)) .
ومراده بالافتتاح: التكبيرة نفسها؛ فإن هَذهِ التكبيرة هي افتتاح الصلاة، كَما في حديث عائشة: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفتتح الصلاة بالتكبير.

(6/323)


فالصلاة لها مفتاح، وَهوَ الطهور، كَما في حديث علي وأبي سعيد مرفوعاً:
((مفتاح الصلاة الطهور)) . ولها افتتاح، وَهوَ التكبير , ولها استفتاح، وَهوَ ما يقوله بين التكبير والقراءة مِن الذكر والدعاء.
وممن ذهب إلى أن رفع اليدين معَ تكبيرة الإحرام سواء، فيبدأُ بهِ معَ ابتدائها، وينتهي معَ انتهائها: الإمام أحمد وعلي بنِ المديني، ونص عليهِ الشَافِعي في ((الأم)) ، قالَ: يرفع يديه معَ افتتاح التكبيرة، ويرد يديه عَن الرفع معَ انقضائه، ويثبت يديه

مرفوعتين حتى يفرغ مِن التكبير كله. وقال: إن أثبت يديه بعد انقضاء التكبير قليلاً لَم يضره، ولا آمره بهِ.
ومن أصحابه مِن قالَ: يرفع يديه ابتداء التكبير، ولا استحباب في انتهائه.
ومنهم مِن قالَ: يرفعهما قبل التكبير، ثُمَّ يرسلهما بعد فراغه مِن التكبير.
وقال إسحاق: إن رفع يديه معَ التكبير أجزأهُ، وأحب إلينا أن يرفع يديه، ثُمَّ يكبر.
وحكاه بعض أصحابنا روايةً عَن أحمد.
ومن أصحابنا مِن قالَ: يخير بين الرفع معَ التكبير وقبله، وهما سواء في الفضيلة وقد استدل البخاري لقوله بحديث ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يرفع يديه إذا افتتح الصلاة.
يعني: إذا كبر للافتتاح.
وقد خرجه فيما بعد، ولفظهُ: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افتتح التكبير في

(6/324)


الصلاة، فرفع يديه حين يكبر - وذكر الحديث.
وفي رواية لمسلم مِن طريق ابن جريج ويونس وعقيل، كلهم عَن الزهري بهذا الإسناد، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا قام للصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، ثُمَّ كبر.
وروى الإمام أحمد، عن سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، قالَ: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه مع التكبير معا.
قالَ الدارقطني في ((العلل)) : رواه يونس وعقيل وابن أخي الزهري والنعمان ابن راشد والزبيدي، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يرفع يديه، ثم يكبر.
رواه شعيب بن أبي حمزة وإبراهيم ابن أبي عبلة وابن جريج وفليح وهشيم وإسماعيل بن علية وابن عيينة، عن الزهري، وقالوا: يرفع يديه حين يكبر.
وخرج أبو داود من حديث وائل بن حجر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه رفع يديه ثم كبر.
وخرج - أيضا - من حديث وائل بن حجر، أنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه مع التكبيرة.
وروى حرب الكرماني: ثنا محمد بن الوزير: ثنا الوليد بن مسلم، قالَ: قالَ أبو عمرو: أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن

(6/325)


أنس بن مالك أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفعهما مع التكبير.
وقد تقدم ذكر علة هذا الحديث، وأنه روي مر سلا، وأن الوليد لم يسمعه من الأوزاعي، بل دلسه عنه.
وروى - أيضا - من طريق ابن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة، قالَ: ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام إلى الصلاة قط إلا شهر بيديه إلى السماء قبل أن يكبر، ثم يكبر.
وقد حمل بعضهم هذا على أن هذا الرفع كانَ للدعاء قبل الصلاة.
وخرجه البيهقي، ولفظه: ما رأيت رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام في صلاة فريضة ولا تطوع إلا شهر يديه إلى السماء يدعوا، ثم يكبر.
وقد روي عن ابن عمر وغيره استحباب رفع رأسه ووجهه إلى السماء _ أيضا _ مع التكبير.
خرجه حرب بإسناده صحيح، عن ابن جريج، قالَ: سألت نافعا، فقلت: أكان ابن عمر إذا كبر بالصلاة يرفع رأسه ووجهه إلى السماء؟ فقالَ: نعم قليلا.
ومن طريق ابن جريج - أيضا -، قالَ: أخبرني ابن سابط، أن وجه التكبير: أن يكبر الرجل بيديه ووجهه وفيه، ويرفع رأسه وفاه شيئا حين يبدىء وحين يرفع رأسه.

(6/326)


وأعلم؛ أن حديث مالك الذي خرجه البخاري في هذا الباب، عن القعنبي، عنه ليس فيهِ ذكر الرفع إذا ركع، إنما فيهِ الرفع افتتح الصلاة، وإذا رفع رأسه من الركوع، وكذا هوَ في ((موطأ القعنبي)) عن مالك، وكذا رواه عامة رواة ((الموطأ)) عن مالك.
ورواه جماعة عن مالك، فذكروا فيهِ الرفع إذا كبر للركوع - أيضاً - منهم: الشافعي وابن وهب ويحيى القطان وابن مهدي وجويرية بن أسماء وإبراهيم بن طهمان ومعن وخالد بن مخلد وبشر بن عمر وغيرهم.
وكذلك رواه عامة أصحاب الزهري، عنه، منهم: يونس وشعيب وعقيل وابن جريج وغيرهم.
وكذلك رواه سليمان الشيباني والعلاء بن عبد الرحمن وغيرهما، عن سالم ابن عبد الله.
ذكر البيهقي وغيره.
وممن رواه عن مالك بذكر الرفع عندَ الركوع: عبد الله بن يوسف التنيسي وابن المبارك وعبد الرحمن بن القاسم وعبد الله بن نافع وإسماعيل بن أبي أويس ويحيى بن يحيى النيسابوري.

(6/327)


84 - بَابُ
رَفعُ الْيَدَيَنِ إذَا كَبَّر، وَإِذَا ركَعَ، وإِذَا رَفّعَ
فيهِ حديثان:
أحدهما:
قالَ:

(6/328)


736 - حدثنا محمد بن مقاتل: ثنا عبد الله: أنا يونس، عن الزهري: أخبرني سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر، قالَ: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام في الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، وكان يفعل ذَلِكَ حين يكبر للركوع، ويفعل ذَلِكَ إذا رفع رأسه من الركوع، ويقول: ((سمع الله لمن حمده)) ، ولا يفعل ذَلِكَ في السجود.
الثاني:
قالَ:

(6/328)


737 - حدثنا إسحاق الواسطي: ثنا خالد بن عبد الله، عن خالد، عن أبي قلابة، أنه رأى مالك بن الحويرث إذا صلى كبر ورفع يديه، وإذا أراد أن يركع رفع يديه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه، وحدث أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع هكذا.
لم يخرج البخاري في ((صحيحه)) في رفع اليدين غير حديث ابن عمر وحديث مالك بن الحويرث، وقد أفرد للرفع كتابا، خرج فيهِ

(6/328)


الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة، وكذلك صنف في الرفع غير واحد من أئمة أهل الحديث، منهم: النسائي ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما.
وسبب اعتنائهم بذلك: أن جميع أمصار المسلمين، كالحجاز واليمين ومصر والعراق كانَ عامة أهلها يرون رفع الأيدي في الصلاة عندَ الركوع والرفع منه، سوى أهل الكوفة، فكانوا لا يرفعون أيديهم في الصلاة، إلا في افتتاح الصلاة خاصة، فاعتنى علماء الأمصار بهذه المسألة، والاحتجاج لها، والرد على من خالفها.
قل الأوزاعي: ما اجتمع عليهِ علماء أهل الحجاز والشام والبصرة: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يرفع يديه حذو منكبيه حين يكبر لافتتاح الصلاة، وحين يكبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع، إلا أهل الكوفة، فإنهم خالفوا في ذَلِكَ أئمتهم.
خرجه ابن جرير وغيره.
وقال البخاري في ((كتابه رفع اليدين)) بعد أن روى الآثار في المسألة:
فهؤلاء أهل مكة والمدينة واليمن والعراق قد اتفقوا على رفع الأيدي.
وقال محمد بن نصر المروزي: لا نعلم مصرا من الأمصار تركوا الرفع بأجمعهم في الخفض والرفع منه، إلا أهل الكوفة.
وروى البيهقي بإسناده عن الأوزاعي، أنه تناظر هوَ والثوري في هذه المسألة بمكة، وغضب واشتد غضبه، وقال للثوري: قم بنا إلى المقام نلتعن

(6/329)


أينا على الحق، فتبسم الثوري لما رأى الأوزاعي قد احتد رضي الله عنهما.
وحديث الزهري، عن سالم، عن ابن عمر مما اتفق العلماء كلهم على صحته وتلقيه بالقبول، وعليه اعتمد أئمة الإسلام في هذه المسألة، منهم: الأوزاعي وابن
المبارك، وقال: ثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
كذلك قالَ الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم.
وأما مالك، فإنه خرجه في ((كتاب الموطإ)) في ((باب: افتتاح الصلاة)) ، وذكر عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ يعمل به.
وقد روى عامة أصحاب مالك، أنه كانَ يعمل به، منهم: ابن وهب وأبو مصعب وأشهب والوليد بن مسلم وسعيد بن أبي مريم.
وإنما روى عنه الرفع عندَ افتتاح الصلاة خاصة: ابن القاسم، قالَ: وكان مالك يرى رفع اليدين في الصلاة ضعيفا. وقال: إن كانَ ففي الإحرام.
قالَ محمد بن الحكم: لم يرو أحد عن مالك مثل رواية ابن القاسم.
وذكر ابن عبد البر، عن أحمد بن خالد _ وهو: ابن الجباب، وكان أعلم أهل الأندلس بالفقه والحديث في وقته -، قالَ: كانَ جماعة من أصحابنا يرفعون أيديهم في الصلاة على حديث ابن عمر، ورواية من روى ذَلِكَ عن مالك وجماعة لا يرفعون، على رواية ابن القاسم، ولا

(6/330)


يعيب هؤلاء على هؤلاء، ولا هؤلاء على هؤلاء.
قلت: افترق الناس في هذه المسألة فرقا ثلاثة.
ففرفة منهم: تنكر على من يرفع أو تبدعه، وهؤلاء عامة فقهاء أهل الكوفة، حتى غالى بعصهم فجعله مبطلا للصلاة، وادعى بعضهم أن الرفع نسخ.
وقد وافقهم بعض المتقدمين من أهل الشام، حتى ضرب من رفع يديه في صلاته في زمن عمر بن عبد العزيز وغضب عمر من ذَلِكَ وأنكره على من فعله وحجبه عنه.
وفرقة: لا ينكرون على واحد من الفريقين، ويعدون ذَلِكَ من مسائل الخلاف السائغ، ثم منهم من يميل إلى الرفع، ومنهم من يميل إلى تركه، ومنهم: سفيان الثوري.
وقد روى ابن أبي شيبة في ((كتابه)) عن طائفة كثيرة من الصحابة والتابعين، أنهم لم يرفعوا أيديهم إلا عندَ الافتتاح، منهم عمر وابن عمر.
وهي رواية مجاهد عنه، وقد ضعفها الإمام أحمد والبخاري والدارقطني وغيرهم.
ومنهم: علي وابن مسعود وأصحابهما.
وقد روى ذَلِكَ عن علي وابن مسعود مرفوعا، وضعف المرفوع عامة أئمة الحديث قديما وحديثا.

(6/331)


وأكثر الصحابة والتابعين على الرفع عندَ الركوع، والرفع منه - أيضا -، حتى قالَ قتادة، عن الحسن: كانَ أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاتهم كأن أيديهم أيديهم المراوح، إذا ركعوا وإذا رفعوا رؤسهم.
وقال عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير أنه سئل عن رفع اليدين في الصلاة، فقالَ: هوَ شيء يزين به الرجل صلاته؛ كانَ أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفعون أيديهم في الافتتاح، وعند الركوع، وإذا رفعوا رؤسوهم.
وهو قول عامة التابعين.
وقال عمر بن عبد العزيز: إن كنا لنؤدب عليها بالمدينة إذا لم نرفع أيدينا.
وقول عامة فقهاء الأمصار.
وكان الإمام أحمد لا بيالغ في الإنكار على المخالفة في هذه المسألة:
روى عنه المروذي وغيره، أنه سئل عمن ترك الرفع يقال: إنه تارك للسنة؟
قالَ: لا تقل هكذا، ولكن قل: راغب عن فعل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ونقل عنه الميموني، قالَ: الرفع عندنا أكثر وأثبت، فإن تأول رجل، فما
أصنع؟ !
وسئل الإمام أحمد، فقيل لهُ: إن عندنا قوما يأمروننا برفع اليدين في الصلاة، وقوما ينهوننا عنه؟ فقالَ: لا ينهاك إلا مبتدع، فعل ذَلِكَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان ابن عمر يحصب من لا يرفع.
فلم يبدع إلا من نهى عن الرفع وجعله مكروها، فأما المتأول في

(6/332)


تركه من غير نهي عنه فلم يبدعه.
وقد حمل القاضي أبو يعلى قول أحمد: أنه مبتدع، على من ترك الرفع عندَ تكبيرة الإحرام. وهو بعيد.
ونقل جماعة عن أحمد في تارك الرفع، أنه يقال: إنه تارك السنة.
قالَ القاضي أبو يعلى: إنما توقف في ذَلِكَ في رواية المروذي متابعة للفظ المروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قالَ: ((من رغب عن سنتي فليس مني)) ، وإلا ففي الحقيقة: الراغب عن الرفع هوَ التارك لهُ.
ونقل حرب، عن أحمد، قالَ: أنا أصلي خلف من لا يرفع يديه، والرفع أحب إلي وأصح.
وكلام البخاري في ((كتاب رفع اليدين)) لهُ إنما يدل على الإنكار على من أنكر الرفع، وقال: هوَ بدعة - أيضاً.
وخرج مسلم في ((صحيحه)) في الرفع عندَ الركوع والرفع منه حديث ابن عمر ومالك بن الحويرث - أيضاً.
وخرجه - أيضاً - من حديث وائل بن حجر.
وخرجه أبو داود والترمذي من حديث علي بن أبي طالب، ومن حديث أبي حميد في عشرة من الصحابة، منهم: أبو قتادة.
وخرجه ابن ماجه - أيضا.

(6/333)


وخرجه أبو داود - أيضا - من حديث أبي هريرة.
وخرجه ابن ماجه من حديث أنس وجابر وابن عباس.
وقد روي من وجوه أخر، حتى قالَ بعضهم: رواه قريب من ثلاثين نفسا من الصحابة.
وقال غيره: رواه نيف وثلاثون من الصحابة.
وقال الحاكم: رواه العشرة المشهود لهم بالجنة.
وفي هذه العبارات تسامح شديد، وقد ذكرت هذه الأحاديث وطرقها وعللها في ((كتاب شرح الترمذي)) بحمد الله ومنه.
وأحسن من ذَلِكَ: قول الشافعي: رواه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثنا عشر غير ابن عمر.
وهذه عبارة صحيحة حسنة مليحة.
وكذا قالَ ابن عبد البر وغيره من الحفاظ.
وذكر الترمذي في ((جامعه)) لهُ أربعة عشر روايا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولم يوجب الرفع عندَ الركوع والرفع منه، ويبطل الصلاة بتركه، إلا شذوذ من الناس من أصحاب داود ونحوهم.
وسئل حماد بن زيد، عن معنى رفع اليدين في الصلاة؟ فقالَ: هوَ من إجلال الله.
خرجه أبو موسى المديني.
وقال الشافعي: فعلته إعظاما لجلال الله، واتباعا لسنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

(6/334)


ورجاء لثواب الله.
خرجه البيهقي في ((مناقبه)) .

(6/335)


85 - بَابُ
إلَى أيْنَ يرفَعُ يَدَيْه؟
قالَ أبو حميد - في أصحابه -: رفع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حذو منكبيه.
حديث أبي حميد هذا، قد خرجه البخاري فيما بعد من رواية محمد بن عمرو بن عطاء، أنه كانَ جالسا في نفر من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرنا صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالَ أبو حميد الساعدي: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه _ وذكر بقية الحديث، ولم يذكر فيهِ رفع اليدين في غير هذا الموضع.
وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من وجه آخر، عن محمد ابن عمرو بن عطاء، عن أبي حميد، قالَ: سمعته في عشرة من الصحابة، منهم: أبو قتادة، ويقول: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قالوا: فاعرض قالَ: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما، ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، فإذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم قالَ: ((الله أكبر)) ، وركع، ثم قالَ: ((سمع الله لمن حمده)) ، ورفع يديه.

(6/336)


وعند أبي داود: ثم يرفع رأسه، فيقول: ((سمع الله لمن حمده)) ، ثم يرفع يديه حتى تحاذي منكبيه معتدلا.
وفي حديثه - أيضا -: رفع اليدين إذا قام من الركعتين.
وفي رواية للترمذي: قالوا: صدقت؛ هكذا كانَ يصلي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ورواه _ أيضا _: عباس بن سهل بن سعد، قالَ: اجتمع أبو حميد وأبو أسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة، فذكروا صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالَ أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام فكبر.
ورفع يديه، ثم رفع حين كبر للركوع، ثم قام فرفع يديه فاستوى حتى رجع كل عظم إلى موضعه.
خرجه أبن ماجه.
وخرجه أبو داود مختصرا.
وخرجه من وجه آخر، عن عباس مختصرا - أيضا -، وذكر أنه كانَ في المجلس: سهل بن سعد وأبو هريرة وأبو حميد وأبو أسيد.
وقد صحح الترمذي هذا الحديث.
وذكر الخلال، عن إسماعيل بن إسحاق الثقفي، قالَ: سئل أحمد بن حنبل عن حديث أبي حميد الساعدي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رفع الأيدي؟ فقالَ: صحيح.

(6/337)


قالَ البخاري:

(6/338)


738 - حدثنا أبو اليمان: أنا شعيب، عن الزهري: أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قالَ: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افتتح التكبير في الصلاة، فرفع يديه حين يكبر حتى يجعلهما حذو منكبيه، وإذا كبر للركوع فعل [مثل ذَلِكَ] ، وإذا قالَ:
((سمع الله لمن حمده)) فعل مثله، وقال: ((ربنا ولك الحمد)) ولا يفعل ذَلِكَ حين يسجد، ولا حين يرفع من السجود.
ومراد البخاري: أن حديث ابن عمر فيهِ رفع اليدين إلى المنكبين، وكذلك حديث أبي حميد ومن معه من الصحابة.
وكذلك روي من حديث علي بن أبي طالب وأبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرج حديثهما أبو داود.
وخرج مسلم من حديث مالك بن الحويرث، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يرفع يديه إلى فروع أذنيه.
وقد روى عنه - أيضا -: ((إلى حذو منكبيه)) .
خرجه الدارقطني.
واختلفت ألفاظ الروايات في حديث وائل بن حجر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فروي عنه الرفع إلى حيال أذنيه. وروي عنه: الرفع إلى المنكبين. وروي

(6/338)


عنه: أنه جاء بعد ذَلِكَ في الشتاء، فرآهم يرفعون أيديهم في الأكسية والبرانس إلى صدورهم.
وقد خرجه أبو داود وغيره بهذه الألفاظ.
وقد اختلف العلماء في الترجيح:
فمنهم: من رجح رواية من روى: الرفع إلى المنكبين؛ لصحة الروايات بذلك، واختلاف ألفاظ روايات الرفع إلى الأذنين.
وهذه طريقة البخاري، وهي _ أيضا _ ظاهر مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، عملا بحديث ابن عمر، فإنه أصح أحاديث الباب، وهو _ أيضا _ قول:
أكثر السلف، وروي عن عمر بن الخطاب.
قالَ ابن عبد البر: عليهِ جمهور التابعين، وفقهاء الأمصار، وأهل الحديث.
ومنهم: من أخذ بحديث مالك بن الحويرث في الرفع إلى فروع الأذنين، وهو قول أهل الكوفة، منهم: النخعي وأبو حنيفة والثوري، وقول أحمد - في رواية عنه -، رجحها أبو بكر الخلال.
ومنهم: من قالَ: هما سواء لصحة الأحاديث بهما، وهو رواية أخرى عن
أحمد، اختارها الخرقي وأبو حفص العكبري وغيرهما.
وقال ابن المنذر: هوَ قول بعض أهل الحديث، وهو حسن.
وروى مالك في ((الموطأ)) عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ إذا ابتدأ الصلاة يرفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع من الركوع رفعهما دون ذَلِكَ.

(6/339)


وخرجه أبوداود، وذكر أنه انفرد به مالك.
قالَ: وذكر الليث: قالَ ابن جريج: قلت لنافع: أكان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهن؟ قالَ: لا سواء. قلت: أشر لي. فأشار إلى الثديين أو أسفل من ذَلِكَ.
وقال حرب الكرماني: ربما رأيت أحمد يرفع يديه إلى فروع أذنيه، وربما رفعهما إلى منكبيه، وربما رفعهما إلى صدره، ورأيت الأمر عنده واسعا.
وقال طائفة من الشافعية: جمع الشافعي بين الروايات في هذا، بأنه يرفعهما حتى تحاذي أطراف أصابعه أعلى أذنيه، وإبهاماه شحمتي أذنيه، وراحتاه منكبيه.
قالوا: ومن حكى للشافعي ثلاثة أقوال في ذَلِكَ فقد وهم.
واختلفوا في المرأة: كيف ترفع يديها في الصلاة؟
فقالت طائفة: ترفع كما يرفع الرجل إلى المنكبين.
روي عن أم الدرداء، أنها كانت تفعله، وهو قول الأوزاعي والشافعي.
وقالت طائفة: ترفع إلى ثدييها، ولا تزيد على ذَلِكَ، وهو قول حماد وإسحاق.
وروي نحوه عن حفصة بنت سيرين، أنها كانت تفعله.
وقال أحمد - في رواية عنه - ترفع يديها في الصلاة، ولا ترفع كما يرفع الرجل، دون ذَلِكَ.
ونقل عنه جماعة، أنه قالَ: ما سمعنا في المرأة، فإن فعلت فلا بأس.
قالَ القاضي أبو يعلى: ظاهر هذا: أنه رآه فعلا جائزا، ولم يره مسنونا.
وقال عطاء: ترفع دون رفع الرجل، وإن تركته فلا بأس.

(6/340)


86 - بابُ
رَفْعِ الَيدَيْنِ إذا قَامَ منَ الرَّكْعَتَيْنِ

(6/341)


739 - حدثنا عياش: ثنا عبد الأعلى، قالَ: ثنا عبيد الله، عن نافع، أن ابن عمر كانَ إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قالَ: ((سمع الله لمن حمده)) رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه، ورفع ذَلِكَ ابن عمر إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ورواه حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ورواه إبراهيم بن طهمان، عن أيوب وموسى بن عقبة - مختصرا.
عياش، هوَ: ابن الوليد الرقام البصري.
وعبد الأعلى، هوَ: ابن عبد الأعلى الشامي البصري.
وقد روى هذا الحديث، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا.
وأنما رواه الناس عن عبيد الله - موقوفا - منهم: عبد الوهاب الثقفي ومحمد بن بشر، إلا أن محمدا لم يذكر فيهِ: الرفع إذا قام من الركعتين.
وكذلك رواه أصحاب نافع عنه موقوفا.
فلهذا المعنى احتاج البخاري

(6/341)


إلى ذكر من تابعه عبد الأعلى على رفعه؛ ليدفع ما قيل من تفرده به.
فقد قالَ الإمام أحمد في رواية المروذي وغيره: رواه عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، وبلغني أن عبد الأعلى رفعه.
وقد روي عن أحمد، أنه صحح رفعه، وسنذكره _ إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وقال الدارقطني في ((العلل)) : أشبهها بالصواب عن عبيد الله: ما قاله عبد الأعلى. ثم قالَ: والموقوف عن نافع أصح.
وخرجه أبو داود في ((السنن)) ، عن نصر بن علي، عن عبد الأعلى، كما خرجه البخاري مرفوعا.
ثم قالَ: الصحيح: قول ابن عمر، وليس بمرفوع. قالَ: روى بقية أوله عن عبيد الله وأسنده. قالَ: ورواه الثقفي، عن عبيد الله، أوقفه على ابن عمر، وقال فيهِ: إذا قام من الركعتين يرفعهما إلى ثدييه وهذا هوَ الصحيح.
ورواه الليث بن سعد ومالك وأيوب وابن جريج _ موقوفا. وأسنده حماد بن سلمة وحده، عن أيوب، ولم يذكر أيوب ومالك: الرفع إذا قام من السجدتين، وذكره الليث في حديثه - انتهى.
وقد رفعه بعضهم عن مالك، ولا يصح،

(6/342)


قد رواه رزق الله بن موسى، عن يحيى القطان، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كانَ إذا دخل في الصلاة رفع يديه نحو صدره، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، ولا يرفع بعد ذَلِكَ.
قالَ العقيلي والدارقطني: لا يتابع رزق الله على رفعه.
وذكر الدارقطني: أن عبد الله بن نافع الصائغ وخالد بن مخلد وإسحاق الجندي رووه، عن مالك - مرفوعا.
قالَ: ولا يصح ذَلِكَ في حديث مالك، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يرفع في كل رفع ووضع. وقال: وهذا وهم على مالك في رفعه ولفظه.
قالَ: ورواه إسماعيل بن عياش، عن صالح بن كيسان، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا - أيضا.
وإسماعيل، سيء الحفظ لحديث الحجازيين.
ورواه إساعيل - أيضا - عن موسى بن عقبة وعبيد الله كلاهما، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا - في التكبير في هذه المواضع الأربعة، دون الرفع.
وأما رواية إبراهيم بن طهمان التي استشهد بها البخاري، فخرجها البيهقي من رواية إبراهيم بن طهمان، عن أيوب بن أبي تميمة وموسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ يرفع يديه حين يفتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا استوى قائما من ركوعه حذو منكبيه، ويقول: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل ذَلِكَ.
ولم يذكر في حديثه: الرفع إذا قام من

(6/343)


الركعتين.
وهذا هوَ الرفع الذي أشار إليه البخاري.
قالَ الدارقطني: وتابع إبراهيم بن طهمان: حماد بن سلمة، عن أيوب _ وقيل: عن هدبة، عن حماد بن زيد، عن أيوب، وإنما أراد: حماد بن سلمة: والله أعلم.
والصحيح: عن حماد بن زيد، عن أيوب _ موقوفا.
وكذا قالَ أبو ضمرة، عن موسى بن عقبة.
قالَ: وروي عن عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا -: قاله محمد بن شعيب بن شابور.
وروي عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا.
ورواه إسماعيل بن أمية والليث، عن نافع، عن ابن عمر موقوفا.
قالَ: والموقوف عن نافع أصح. انتهى.
قالَ: وروي عن يحيى بن أبي كثير، عن نافع وسالم، عن ابن عمر _ مرفوعا.
قلت: هوَ غير محفوظ عن يحيى. وهذا هوَ المعروف عن الإمام أحمد وقول أبي داود والدارقطني.
فرواية نافع، عن ابن عمر، الأكثرون على أن وقفها أصح من رفعها، وكل هؤلاء لم يذكروا في رواياتهم القيام من الثنتين، وصحح رفعها

(6/344)


البخاري والبيهقي.
قالَ ابن عبد البر: هذا أحد الأحاديث الأربعة التي اختلف فيها سالم ونافع، فرفعها سالم ووقفها نافع، والقول فيها قول سالم، ولم يلتفت الناس إلى نافع، هذا أحدهما. والثاني: حديث: ((فيما سقت السماء العشر)) .
والثالث: حديث ((من باع عبدا وله مال)) . والرابع: حديث: ((تخرج نار من قبل اليمن)) . انتهى.
وقال النسائي والدارقطني: أحاديث نافع الثلاثة الموقوفة أولى بالصواب.
ورجح أحمد وقف: ((فيما سقت السماء)) وتوقف في حديث: ((من باع عبدا لهُ مال)) . وقال إذا اختلف سالم ونافع فلا يقضى لأحدهما.
يشير إلى أنه لا بد من الترجيح بدليل.
وقد روي الرفع إذا قام من الركعتين من رواية سالم، عن ابن عمر.
خرجه النسائي من طريق معتمر، عن عبيد الله بن عمر، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يرفع يديه إذا دخل في الصلاة , وإذا أراد أن يركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا قام من الركعتين.
يرفع يديه كذلك حذاء المنكبين.

(6/345)


وروي - أيضا - عن الثقفي، عن عبيد الله، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أنه كانَ إذا نهض رفع يديه.
فتبسم، وقال: كم روي هذا عن الزهري، ليس فيهِ هذا، وضعفه.
ورواه - أيضا - أبو سعيد ابن الأعربي، عن الدبري، عن عبد الرزاق، عن عاصم، عن عبيد الله بن عمر كذلك.
وذكر الدارقطني في ((العلل)) : أن معتمر بن سليمان والثقفي روياه عن
عبيد الله بن عمر - مرفوعا، وذكرا فيهِ: الرفع إذا قام من الثنتين.
ورواه ابن المبارك، عن عبيد الله، فلم يذكر: الرفع إذا قام من الثنتين من
الثنتين.
ورواه - أيضا - إبراهيم بن عبد الحميد بن ذي حماية، عن أيوب، عن سالم، عن ابن عمر.
خرجه الطبراني.
وهذا غير محفوظ عن أيوب.
وقد روي عن ابن عمر _ مرفوعا _ من وجه آخر.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود من طريق محمد بن فضيل، عن

(6/346)


عاصم بن كليب، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، قالَ: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام في الركعتين كبر ورفع يديه.
وخالفه عبد الواحد بن زياد، فرواه عن محارب بن دثار، عن ابن عمر
- موقوفا - في الرفع عندَ الإحرام والركوع والرفع منه خاصة.
قالَ الدارقطني: وكذلك رواه أبو إسحاق الشيباني والنضر بن محارب بن دثار، عن محارب، عن ابن عمر - موقوفا.
وقد روي الرفع إذا قام من الركعتين في حديث أبي حميد وأصحابه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد سبق ذكره.
وفي حديث علي بن أبي طالب وأبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ?.
خرجهما أبو داود وغيره.
وقد تكلم في حديث أبي هريرة أبو حاتم الرازي والدارقطني.
وأما حديث علي، فصححه الإمام أحمد والترمذي.
وقد اختلف العلماء في الرفع إذا قام من التشهد الأول:
فأكثرهم على أنه غير مستحب، حتى ادعى أبو حامد الإسفراييني من أعبان الشافعية الإجماع على ذَلِكَ، وجعله دليلا على نسخ الأحاديث الواردة فيهِ.
وليس الأمر كما قالَ.

(6/347)


واستحبه طائفة من العلماء، كما ذكره البخاري والنسائي في ((كتابيهما)) .
وقال حرب الكرماني: حدثنا أحمد بن حنبل: ثنا هاشم بن القاسم:
حدثنا الربيع بن صبيح، قالَ: رأيت الحسن وابن سيرين وعطاء وطاوسا ومجاهدا ونافعا وقتادة وابن أبي نجيح والحسن بن مسلم إذا دخلوا في الصلاة كبروا ورفعوا أيديهم وإذا كبروا للركوع رفعوا أيديهم.
غير أن أهل الحجاز كانوا يرفعون أيديهم إذا قاموا من الركعتين من الفريضة وكانوا يقعون على أعقابهم.
والمشهور عن الشافعي وأحمد، أنه لا يرفع إذا قام من الركعتين.
قالَ أحمد: أنا لا أستعمله ولا أذهب إليه، واستدل بحديث ابن عمر، وقال فيهِ: وكان لا يرفع بعد ذَلِكَ - أي: بعد المواضع الثلاثة.
وهذا الحديث بهذا اللفظ قد سبق من رواية رزق الله بن موسى، عن يحيى القطان، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا -، وأنه لا يصح رفعه.
ورواه - أيضا - بشير الكوسج، عن نافع، عن ابن عمر، قالَ: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه في أول التكبير، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، ثم يكبر بعد ذَلِكَ ولا يرفع يديه.
قالَ بشير: وحدثني الحسن بن عثمان المديني، عن سالم، عن أبيه،

(6/348)


عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثل ذَلِكَ.
وبشير هذا، غير مشهور، وقد ذكره الحاكم في ((تاريخ نيسابور)) ، وذكر أنه روى عنه جماعة.
وقال إسحاق بن إبراهيم: سئل أحمد: إذا نهض الرجل من الركعتين يرفع
يديه؟ قالَ: إن فعله فما أقربه؛ فيهِ عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبي حميد أحاديث صحاح، ولكن قالَ الزهري في حديثه: ولم يفعل في شيء من صلاته، وأنا لا أفعله.
وهذا اللفظ لا يعرف في حديث الزهري.
وذكر القاضي أبو يعلى: أن هذه الرواية عن أحمد تدل على جوازه، من غير استحباب.
وحكي عن أحمد رواية باستحبابه.
قالَ البيهقي في كتاب ((مناقب الإمام أحمد)) : أنبأني أبو عبد الله الحافظ - يعني: الحاكم -: ثنا أبو بكر ابن إسحاق الفقيه: أنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قالَ: سألت أبي عن حديث عبد الأعلى، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - في رفع اليدين، وكان إذا قام من الثنتين رفع يديه -؟ فقالَ: سنة صحيحة مستعملة، وقد روى مثلها علي بن أبي طالب وأبو حميد في عشرة من الصحابة، وأنا أستعملها.
قالَ الحاكم أبو عبد الله: سئل الشيخ أبو بكر - يعني: ابن إسحاق - عن ذَلِكَ؟ فقالَ: أنا أستعملها، ولم أر من أئمة الحديث أحدا يرجع إلى معرفة الحديث إلا وهو يستعملها.

(6/349)


وهذه الرواية غريبة عن أحمد جدا، لا يعرفها أصحابنا، ورجال إسنادها كلهم حفاظ مشهورون، إلا أن البيهقي ذكر أن الحاكم ذكرها في كتاب ((رفع اليدين)) وفي كتاب ((مزكي الأخبار)) ، وأنه ذكرها في ((كتاب التاريخ)) بخلاف ذَلِكَ، عندَ القيام من الركعتين، فوجب التوقف. والله أعلم.
وحكي ذَلِكَ - أيضا - قولا للشافعي؛ لأنه ذكر حديث أبي حميد الساعدي بطوله، قالَ: وبهذا نقول.
قالَ البيهقي في ((كتاب المعرفة)) : ومذهب الشافعي متابعة السنة إذا ثبتت، وقد قالَ في حديث أبي حميد: وبهذا أقول.
وقال البغوي: لم يذكر الشافعي رفع اليدين إذا قام من الثنتين، ومذهبه اتباع السنة، وقد ثبت ذَلِكَ.
وذهب إلى هذا طائفة من أهل الحديث، منهم: ابن لمنذر، ومن أصحاب الشافعي، منهم: أبو علي الطبري والبيهقي والبغوي وغيرهم من المتأخرين، ورجحه - أيضا - طائفة من المتأخرين من أصحابنا، قالوا: وهو دون الرفع في الإحرام والركوع والرفع منه في الاستحباب.
فأما الرفع للسجود وللرفع منه، فلم يخرج في ((الصحيحين)) منه شيء، وقد خرج البخاري في حديث ابن عمر: وكان لا يفعل ذَلِكَ في السجود.
وفي رواية لهُ - أيضا -: وكان لا يفعل ذَلِكَ حين يسجد، ولا حين يرفع من السجود. وقد سبقت الروايتان.

(6/350)


وهذا قول جمهور العلماء، وقد نص عليهِ الشافعي وأحمد.
وسئل أحمد: أليس يروى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه فعله؟ فقالَ: هذه الأحاديث أقوى وأكثر.
وروى هذا الحديث بقية، عن الزبيدي، عن الزهري - وابن أخي الزهري، عن عمه -، وزاد في روايته بعد قوله: ولا يرفعهما في السجود: ويرفعهما في كل تكبيره يكبرها قبل الركوع حتى تنقضي صلاته.
خرجه أبو داود من طريق بقية.
والإمام أحمد من الطريق الأخرى، وعنده: ((في كل ركعة وتكبيرة)) إلى آخره.
وذهب طائفة إلى استحباب رفع اليدين إذا قام من السجود، منهم: ابن المنذر وأبو علي الطبري من الشافعية.
واستدلوا: بما روى محمد بن جحادة، عن عبد الجبار بن وائل، عن علقمة بن وائل، عن أبيه، أنه صلى مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان إذا كبر رفع يديه.
قالَ: ثم التحف، ثم أخذ شماله بيمينه، فأدخل يديه في ثوبه، فإذا أراد أن يركع أخرج يديه ثم رفعهما، وإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع رفع يديه ثم سجد ووضع وجهه بين كفيه، فإذا رفع رأسه - أيضا - من السجود رفع يديه حتى فرغ من صلاته.

(6/351)


خرجه أبو داود.
وخرجه مسلم إلى قوله: ((فلما سجد سجد بين كفيه)) ، ولم يذكر ما بعده.
وقالت طائفة: يرفع يديه مع كل تكبيرة، وكلما خفض ورفع، وهو قول بعض أهل الظاهر.
وقال أحمد بن أصرم المزني: رأيت أحمد يرفع يديه في كل خفض ورفع، وسئل عن رفع اليدين إذا قام من الركعتين؟ فقالَ: قد فعل.
وحمل القاضي أبو يعلى هذه الرواية على الجواز دون الاستحباب.
ونقل المروذي، عن أحمد، قالَ: لا يرفع يديه بين السجدتين، فإن فعل فهوَ جائز. ونقل جعفر بن محمد، عن أحمد، قالَ: يرفع يديه في كل موضع، إلا بين السجدتين.
وروى محارب بن دثار، أنه رأى ابن عمر يرفع يديه إذا ركع وسجد.
وروى أبو أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ يرفع يديه إذا رفع رأسه من السجدة الأولى.
وروى حماد بن سلمة، عن يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس، أنه كانَ

(6/352)


يرفع يديه من السجدتين.
وروي ذَلِكَ - أيضا - عن الحسن وابن سيرين وطاوس ونافع وأيوب.
ذكره ابن أبي شيبة في ((كتابه)) .
وروى شعبة، عن قتادة، عن نصر بن عاصم، عن مالك بن الحويرث، أنه رأى نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه في الصلاة إذا ركع، وإذا رفع رأسه من ركوعه، وإذا
سجد، وإذا رفع رأسه من سجوده حتى يحاذي بهما فروع أذنيه.
خرجه النسائي.
وخرجه - أيضا - من طريق هشام، عن قتادة - بنحوه، إلا أنه [لم] يذكر فيهِ: الرفع إذا سجد.
وخرجه مسلم من رواية سعيد بن أبي عروبة وأبي عوانة، عن قتادة.
ولم يذكر فيهِ سوى الرفع في المواضع الثلاثة الأول خاصة.
وروى شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن عبد الرحمن
اليحصبي، عن وائل بن حجر، أنه صلى مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان يكبر إذا خفض وإذا رفع، ويرفع يديه عندَ التكبير، ويسلم عن

(6/353)


يمينه وعن يساره.
قالَ الإمام أحمد: أنا لا أذهب إلى حديث وائل بن حجر، وهو مختلف في ألفاظه.
ويجاب عن هذه الرويات كلها على تقدير أن يكون ذكر الرفع فيها محفوظا، ولم يكن قد اشتبه [بذكر] التكبير بالرفع - بأن مالك بن الحويرث ووائل بن حجر لم يكونا من أهل المدينة، وإنما كانا قد قدما إليها مرة أو مرتين، فلعلهما رأيا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذَلِكَ مرة، وقد عارض ذَلِكَ نفي ابن عمر، مع شدة وملازمته للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشدة حرصه على حفظ أفعاله واقتدائه به فيها، فهذا يدل على أن أكثر أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ ترك الرفع فيما عدا المواضع الثلاثة والقيام من الركعتين.
وقد روي في الرفع عندَ السجود وغيره أحاديث معلولة:
فروى الثقفي: حدثنا حميد، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يرفع يديه إذا دخل في الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا سجد.
خرجه الدارقطني.
وخرجه ابن ماجه إلى قوله: ((وإذا ركع)) .
وخرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) إلى قوله: ((وإذا رفع رأسه)) .
وقد أعل هذا بأنه قد رواه غير واحد من أصحاب حميد، عن

(6/354)


حميد، عن أنس - من فعله غير مرفوع.
كذا قاله البخاري -: نقله عنه الترمذي في ((علله)) .
وقال الدارقطني: الصواب من فعل أنس.
وروى إسماعيل بن عياش، عن صالح بن كيسان، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، قالَ: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه في الصلاة حذو منكبيه، حين يفتتح
الصلاة، وحين يركع، وحين يسجد.
خرجه الإمام أحمد وابن ماجه.
زاد الإمام أحمد: وعن صالح: عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثل ذَلِكَ.
وإسماعيل بن عياش، سيء الحفظ لحديث الحجازيين.
وقد خالفه ابن إسحاق، فرواه عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة - موقوفا -: قاله الإمام أحمد وغيره.
وقال الدارقطني في ((علله)) : اختلف على إسماعيل بن عياش في لفظه، فذكرت عنه طائفة الرفع عندَ الافتتاح والركوع والسجود. وذكرت طائفة عنه الرفع عندَ الافتتاح والركوع والرفع منه.
قالَ: وهو أشبه بالصواب.
وروى عمرو بن علي، عن ابن أبي عدي، عن محمد بن عمرو، عن أبي
سلمة، عن أبي هريرة، أنه كانَ يرفع يديه في كل خفض ورفع،

(6/355)


ويقول: أنا أشبهكم صلاة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الدارقطني في كتاب ((العلل)) ، وقال: لا يتابع عليهِ عمرو بن علي وغيره يرويه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يكبر في كل خفض ورفع، وهو الصحيح.
وروى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يرفع يديه في الصلاة في كل خفض ورفع.
وفي رواية: كانَ يرفع يديه حين يهوي للسجود.
قالَ الوليد: وبهذا كانَ يأخذ الأوزاعي.
خرجه ابن جوصا في ((مسند الأوزاعي)) .
وقد اختلف على الوليد في إرساله ووصله، ولم يسمعه من الأوزاعي، بل دليه عنه، وهو يدلس عن [غيره] الثقات.
وروى الإمام أحمد: ثنا نصر بن باب، عن حجاج، عن الذيال بن حرملة، عن جابر، قالَ: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه في كل تكبيرة في الصلاة.
نصر بن باب، وحجاج بن أرطأة، لا يحتج بهما.
وروى رفدة بن قضاعة، عن الأوزاعي، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن أبيه، عن جده عمير بن حبيب، قالَ: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع يديه مع كل تكبيرة في الصلاة المكتوبة.
خرجه ابن ماجه.
وقال منها: سألت أحمد ويحيى عن هذا الحديث، فقالا جميعا: ليس بصحيح: قالَ أحمد: لا يعرف رفدة بن قضاعة، وقال يحيى: هوَ شيخ ضعيف.
وخرج ابن ماجه - أيضا - من رواية عمر بن رياح، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ

(6/356)


يرفع يديه عندَ كل تكبيرة.
وعمر بن رياح، ساقط الرواية.
لكن؛ تابعه النضر بن كثير أبو سهل الأزدي، قالَ: صلى جنبي عبد الله بن طاوس بمنى في مسجد الخيف، فكان إذا سجد سجدة الأولى فرفع رأسه منها رفع يديه تلقاء وجهه، فأنكرت أنا ذَلِكَ، فقالَ عبد الله بن طاوس:
رأيت أبي يصنعه، وقال أبي: رأيت ابن عباس يصنعه، وقال: رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يصنعه.

(6/357)


خرجه النسائي.
وخرجه أبو داود، وعنده: ولا أعلم إلا أنه قالَ: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنعه.
والنضر بن كثير، قالَ البخاري: فيهِ نظر. وقال - مرة -: عنده مناكير.
قالَ أبو أحمد الحاكم: هذا حديث منكر من حديث طاوس.
وقال العقيلي: لا يتابع النضر عليهِ.
وقال ابن عدي: هوَ ممن يكتب حديثه.
وخرج لهُ هذا الحديث، وعنده: أنه كانَ يرفع يديه كلما ركع وسجد [ويرفع] بين السجدتين.
وضعف الإمام أحمد النضر هذا.
وقال أبو حاتم والدارقطني: فيهِ نظر.
وقال النسائي: صالح.
وخرج أبو داود من حديث ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن ميمون المكي، أنه رأى عبد الله بن الزبير يصلي بهم يشير بكفيه حين يقوم، وحين يركع، وحين يسجد، وحين ينهض للقيام، فيقوم فيشير بيديه. قالَ:
فانطلقت إلى ابن عباس، فقلت: إني رأيت ابن الزبير صلى صلاة لم أر أحدا صلاها، ووصفت لهُ هذه الإشارة، فقالَ: إن أحببت أن تنظر إلى صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاقتد بصلاة عبد الله بن الزبير. إسناده ضعيف.

(6/358)


87 - بَابُ
وَضْعِ الْيُمْنى عَلَى الْيُسْرَى في الصَّلاةِ

(6/359)


740 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قالَ: كانَ الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة.
قالَ أبو حازم: لا أعلمه إلا ينمي ذَلِكَ إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قالَ: إسماعيل: ينمي ذَلِكَ، ولم يقل: ينمي.
هذا الحديث في ((الموطأ)) ليس فيهِ ذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما فيهِ: قالَ أبو حازم: لا أعلمه إلا ينمي ذَلِكَ، ولم يذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكذا رأيناه في ((موطإ القعنبي)) ، وهو الذي خرج عنه البخاري هذا الحديث، ومراد البخاري: أن إسماعيل - وهو: ابن أبي أويس - رواه بالبناء للمفعول: ينمى.
ومعنى ((ينمى)) يرفع ويسند، والمراد: إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ورواه عمار بن مطر، عن مالك، فقالَ فيهِ: أمرنا أن نضع.
وعمار، ليس بحجة.
وليس في ((صحيح البخاري)) في هذا الباب غير هذا الحديث، ولا في
((صحيح مسلم)) فيه غير حديث محمد بن جحادة: حدثني عبد الجبار

(6/359)


بن وائل، عن علقمة بن وائل ومولى لهم، حدثاه عن أبيه وائل بن حجر، أنه رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه حين داخل في الصلاة، كبر ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من ثوبه، ثم رفعهما وكبر فركع، فلما قالَ: ((سمع الله لمن حمده)) رفع يديه، فلما سجد سجد بين كفيه.
وله طرق أخرى عن وائل.
وفي رواية للأمام أحمد: وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد.
وفي الحديث: دليل على أن المصلي إذا التحف في صلاته بثوبه، ثم أخرج يديه منه لمصلحة الصلاة لم يضره ذَلِكَ.
وفي الباب أحاديث كثيرة، لا تخلو أسانيدها من مقال.
وقد خرج ابن حبان في ((صحيحه)) من طريق حرملة بن يحيى، عن أبن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث، أنه سمع عطاء بن رباح يحدث، عن ابن عباس، أن
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: ((إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نؤخر سحورنا، ونعجل إفطارنا، وأن نمسك بأيماننا على شمائلنا في الصلاة)) .
وهذا إسناد في الظاهر على شرط مسلم، وزعم ابن حبان أن ابن وهب سمع هذا الحديث من عمرو بن الحارث وطلحة بن عمرو، كلاهما عن عطاء، وفي هذا إشارة إلى أن غير حرملة رواه عن ابن وهب، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، وهذا هوَ الأشبه، ولا يعرف

(6/360)


هذا الحديث من رواية عمرو بن الحارث.
قالَ البيهقي: إنما يعرف هذا بطلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس
- ومرة: عن أبي هريرة - وطلحة ليس بالقوي.
قلت: وقد روي، عن طلحة، عن عطاء - مرسلا.
خرجه وكيع عنه كذلك.
قالَ الترمذي في ((جامعه)) : العمل عندَ أهل العلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين ومن بعدهم على هذا، يرون أن يضع الرجل يمينه على شماله في الصلاة. انتهى.
وقد روي ذَلِكَ عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب.
وروي عن ابن الزبير، أنه قالَ: هوَ من السنة.
خرجه أبو داود.
وعن عائشة، قالت: هوَ من النبوة.
خرجه الدارقطني.
وروي عن أبي الدرداء، أنه قالَ: هوَ من أخلاق النبيين.

(6/361)


وروي عن علي وابن عباس، أنهما فسرا ((النحر)) المذكور في قوله تعالى:
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] بهذا.
وهو قول عامة فقهاء الأمصار، منهم: الثوري وأبو حنيفة والحسن بن صالح والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وغيرهم.
وحكى ابن المنذر إرسال اليدين في الصلاة عن ابن الزبير والحسن والنخعي، وحكى عن مالك كقول الأولين.
وذكر ابن عبد البر: أنه روي عن مالك، أنه قالَ: لا بأس بذلك في الفريضة والنافلة. قالَ: وهو قول المدنيين من أصحابه.
ونقل ابن القاسم، عنه، قالَ: إنما يفعل في النوافل من طول القيام وتركه أحب إلي.
قالَ: وقال الليث: سدل اليدين في الصلاة أحب إلي، أن يطول القيام فلا بأس أن يضع اليمنى على اليسرى.
وقال الأوزاعي: من شاء فعل، ومن شاء ترك.
وهو قول عطاء.
قلت: وحكي رواية عن أحمد، وحكي عنه: أنه يرسل يديه في النوافل خاصة.
وهذا عكس ما نقله ابن القاسم عن مالك.
وروى ابن المبارك في ((كتاب الزهد)) عن صفوان بن عمرو، عن مهاجر النبال، أنه ذكر عنده قبض الرجل يمينه على شماله، فقالَ: ما أحسنه، ذل بين يدي عز

(6/362)


وحكي مثل ذَلِكَ عن الإمام أحمد.
قالَ بعضهم: ما سمعت في العلم أحسن من هذا.
وروينا عن بشر بن الحارث، أنه قالَ: منذ اربعين سنة أشتهى أن أضع يدا على يد في الصلاة، مايمنعني من ذَلِكَ إلا أن أكون قد أظهرت من الخشوع ما ليس في قلبي مثله.
وروى محمد بن نصر المروزي في ((كتاب الصلاة)) بإسناده، عن أبي هريرة، قالَ: يحشر الناس يوم القيامة على قدر صنيعهم في الصلاة - وقبض بعض رواة الحديث شماله بيمينه، وانحنى هكذا.
وبإسناده عن الأعمش، عن أبي صالح، قالَ: يبعث الناس يوم القيامة هكذا - ووضع إحدى يديه على الأخرى.
واختلف القائلون بالوضع: هل يضعهما على صدره، أو تحت سرته، أو يخير بين الأمرين؟ على ثلاثة أقوال، هي ثلاث روايات عن أحمد.

(6/363)


وممن روي عنه، أنه يضعهما تحت سرته: علي وأبو هريرة والنخعي وأبو مجلز، وهو قول الثوري وأبي حنيفة ومالك وإسحاق.
وروي عن علي - أيضا - وعن سعيد بن جبير، أنه يضعهما على صدره، وهو قول الشافعي.
وقال أبو إسحاق المروزي من أصحابه: يضعهما تحت سرته.
وحكى ابن المنذر التخيير بينهما.
قالَ الترمذي في ((جامعه)) : رأى بعضهم أن يضعهما فوق سرته، ورأى بعضهم أن يضعهما تحت سرته، كل ذَلِكَ واسع عندهم.

(6/364)


88 - بَابُ
الْخُشُوعِ في الصَّلاةِ

(6/365)


741 - حدثنا إسماعيل، قالَ: حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: ((هل ترون قبلتي هاهنا، والله ما يخفى علي ركوعكم ولا خشوعكم، وإني لأراكم من وراء ظهري)) .

(6/365)


742 - حدثنا محمد بن بشار: حدثنا غندر: ثنا شعبة: سمعت قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((أقيموا الركوع والسجود، فوالله إني لأراكم من بعدي)) - وربما قالَ: ((من بعد ظهري - إذا ركعتم وإذا سجدتم)) .
قد خرج البخاري حديث أبي هريرة وحديث أنس في ((باب: عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة وذكر القبلة)) ، وقد سبق الكلام عليهما هناك بما فيهِ كفاية.
وإنما خرجهما هاهنا؛ لدلاتهما على الخشوع في الصلاة.
وفي ((صحيح مسلم)) عن عثمان بن عفان، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((ما من امريء مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، مالم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)) .

(6/365)


وقد مدح الله الخاشعين في صلاتهم، فقالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1و2] وقال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: من الآية45] .
روي عن علي بن أبي طالب، قالَ: هوَ الخشوع في القلب، وأن تلين كنفك للمسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك.
وعنه، قالَ: الخشوع: خشوع القلب، وأن لا تلتفت يمينا ولا شمالا.
وعن ابن عباس، قالَ: خاشعون: خائفون ساكنون.
وعن الحسن، قالَ: كانَ الخشوع في قلوبهم، فغضوا لهُ البصر، وخفضوا لهُ الجناح.
وعن مجاهد، قالَ: هوَ الخشوع في القلب، والسكون في الصلاة.
وعنه، قالَ: هوَ خفض الجناح وغض البصر، وكان المسلمون إذا قام أحدهم في الصلاة خاف ربه أن يلتفت عن يمينه وشماله.
وعنه، قالَ: العلماء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن - عز وجل - أن يشذ
نظره، أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يبعث بشيء، أو يحدث نفسه بشيء من
الدنيا، إلا ناسيا، مادم في صلاته.

(6/366)


وعن الزهري، قالَ: هوَ سكون العبد في صلاته.
وعن سعيد بن جبير، قالَ: يعني: متواضعين، لا يعرف من عن يمينه، ولا من عن شماله، ولا يلتفت من الخشوع لله - عز وجل -.
وروي عن حذيفة، أنه رأى رجلا يعبث في صلاته، فقالَ: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.
وروي عن ابن المسيب.
وروي مرسلا.
فأصل الخشوع: هوَ خشوع القلب، وهو انكساره لله، وخضوعه وسكونه عن التفاته إلى غير من هوَ بين يديه، فإذا خشع القلب خشعت الجوارح كلها تبعا لخشوعه؛ ولهذا كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في ركوعه: ((خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظامي، وما استقل به قدمي)) .
ومن جملة خشوع الجوارح خشوع البصر أن يلتفت عن يمينه أو يساره، وسيأتي حديث الإلتفات في الصلاة، وأنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد، فيما بعد - إن شاء الله تعالى.
وقال ابن سيرين: كانَ رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلتفت في الصلاة عن يمينه وعن يساره، فأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] .
فخشع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يكن يلتفت يمنة ولا يسرة.

(6/367)


وخرجه الطبراني من رواية ابن سيرين، عن أبي هريرة.
والمرسل أصح.
والظاهر: أن البخاري إنما ذكر الخشوع في هذا الموضع؛ لأن كثيرا من الفقهاء والعلماء يذكرون في أوائل الصلاة: أن المصلي لا يجاوز بصره موضع سجوده، وذلك من جملة الخشوع في الصلاة.
وخرج ابن ماجه من حديث أم سلمة أم المؤمنين، قالت: كانَ الناس في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام أحد هم يصلي لم يعد بصره موضع قدمه، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصره موضع جبينه، فتوفي أبو بكر فكان عمر فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة، وكان عثمان بن عفان فكانت الفتنة، فالتفت الناس يمينا وشمالا.
وقال ابن سيرين: كانوا يستحبون للرجل أن لا يجاوز بصره مصلاه.
خرجه سعيد بن منصور.
وقال النخعي: كانَ يستحب أن يقع الرجل بصره في موضع سجوده.

(6/368)


وفسر قتادة الخشوع في الصلاة بذلك. وقال مسلم بن يسار: هوَ حسن.
وفيه حديثان مرفوعان، من حديث أنس وابن عباس، ولا يصح إسنادهما.
وأكثر العلماء على أنه يستحب للمصلي أن ينظر إلى موضع سجوده، منهم:
سليمان بن يسار وأبو حنيفة والثوري والحسن بن حي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
وقال مالك: يستحب أن يكون بصره أمام قبلته. قالَ: واكره ما يصنع الناس من النظر إلى موضع سجودهم وهم قيام.
وحكي عن شريك بن عبد الله، قالَ: ينظر في قيامه إلى موضع قيامه، وإذا ركع إلى قدميه، وإذا سجد إلى أنفه، وإذا قعد إلى حجره.
واستحب ذَلِكَ بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي.
قالَ أصحابنا: ويستحب إذا جلس للتشهد أن لا يجاوز بصره أصبعه؛ لما روى ابن الزبير، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا جلس في التشهد أشار بالسبابة، ولم يجاوز بصره
إشارته.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
وحكى أصحاب الثوري في كتبهم، عن سفيان، أنه قالَ: إذا قام في

(6/369)


الصلاة فليكن بصره حيث يسجد إن استطاع، قالَ: وينظر في ركوعه إلى حيث يسجد - ومنهم من قالَ: إلى ركبتيه -، ويكون نظره في سجوده إلى طرف أنفه.
وبكل حال؛ فهذا مستحب، ولا تبطل الصلاة بالإخلال به، ولا باستغراق القلب في الفكر في أمور الدنيا، وقد حكى ابن حزم وغيره الإجماع على ذَلِكَ، وقد خالف فيهِ بعض المتأخرين من أصحابنا والشافعية.
وحكى ابن المنذر عن الحكم، قالَ: من تأمل من عن يمينه أو عن شماله حتى يعرفه فليس لهُ صلاة.
وهذا يرجع إلى الالتفات، ويأتى ذكره في موضعه - إن شاء الله - سبحانه وتعالى -.
وحكي عن ابن حامد من أصحابنا: أن عمل القلب في الصلاة إذا طال أبطل الصلاة كعمل البدن.
وهذا يرده حديث تذكير الشيطان المرء في صلاته حتى يظل لا يدري كم صلى وأمره أن يسجد سجدتين، ولم يأمره بالإعادة.
وخرج الإمام أحمد والنسائي والترمذي من حديث الفضل بن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((الصلاة مثنى مثنى، تشهد في كل ركعتين، وتخشع وتضرع، وتمسكن، وتقنع يديك - يَقُول: ترفعهما إلى ربك - مستقبلاً ببطونهما وجهك، وتقول: يَا رب يَا رب، وإن لَمْ تفعل ذَلِكَ فهو

(6/370)


كذا وكذا)) .
وهذا لفظ الترمذي.
وللإمام أحمد: ((وتقول: يارب ثلاثاً، فمن لَمْ يفعل ذَلِكَ فَهِيَّ خداج)) .
وفي إسناده اخْتِلاَف.
وخرجه أبو داود وابن ماجه، وعندهما: عَن المطلب، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد قَالَ أبو حاتم الرَّازِي: هُوَ إسناد حسن.
وضعفه البخاري، وَقَالَ: لا يصح.
وَقَالَ العقيلي: فِيهِ نظر.
وأما قَوْلِ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إني أراكم من وراء ظهري)) ، فليس المراد مِنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يلتفت ببصره فِي صلاته إلى من خلفه حَتَّى يرى صلاتهم، كما ظنه بعضهم، وقد رد الإمام أحمد عَلَى من زعم ذَلِكَ، وأثبت ذَلِكَ من خصائص النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآياته
ومعجزاته، وقد سبق ذكر كلامه فِي ذَلِكَ.

(6/371)


89 - بَاب
مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ

(6/372)


743 - حَدَّثَنَا حفص بْن عُمَر: نا شعبة، عَن قتادة، عَن أَنَس بْن مَالِك، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بَكْر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

(6/372)


744 - حَدَّثَنَا موسى بن إِسْمَاعِيل: ثنا عَبْد الواحد بن زياد: ثنا عمارة بن القعقاع: ثنا أبو زُرْعَة: ثنا أبو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسكت بَيْن التكبير وبين القراءة إسكاتة - قَالَ: أحسبه قَالَ: هنية -، فَقُلْت: بأبي وأمي يَا رَسُول الله، إسكاتك بَيْن التكبير وبين القراءة، مَا تَقُول: ((أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بَيْن المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد)) .
قَالَ الخطابي: قوله: ((إسكاتة)) وزن إفعالة، من السكوت، ومعناه: سكوت يقتضي بعده كلاماً، أو قراءة مَعَ قصر المدة فِيهِ، وإنما أراد ترك رفع الصوت، ألا تراه يَقُول: مَا تَقُول فِي إسكاتك.

(6/372)


قَالَ: وقوله: ((اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد)) ، فإنها أمثال، ولم يرد أعيان هذه المسميات، وإنما أراد التوكيد فِي التطهير، والثلج والبرد ماءان، لَمْ تمسهما الأيدي، ولم يمرس ولم يمتهن.
قَالَ: وفيه مستدل لمن منع من الماء المستعمل؛ لأنه يَقُول: إن منزلة الخطايا المغسولة بالماء بمنزلة الأوضار الحالة فِي الماء والغسولات المانعة من التطهير.
قَالَ: وعندي فِي قوله: ((اغسل خطاياي)) عجائب. انتهى مَا ذكره.
وكأنه يشير إلى مسألة العصمة، ولا حاجة إلى ذكرها.
ولما كَانَتْ الذنوب تؤثر فِي القلب دنساً، وَهُوَ المذكور فِي قوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] وتوجب للقلب احترافاً؛ طلب فِي هَذَا الدعاء المباعدة بينه وبينها عَلَى أقصى وجوه المباعدة، والمراد: المباعدة من تأثيراتها وعقوباتها الدنيوية والأخروية.
وربما دَخَلَ فِيهِ المباعدة بَيْن مَا قدر مِنْهَا ولم يعلمه بعد، فطلب مباعدته مِنْهُ، عَلَى نحو قوله: ((أعوذ بك من شر مَا عملت وما لَمْ أعمل)) .
وطلب - أَيْضاً - أن ينقي قلبه من دنسها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
وطلب - أَيْضاً - إطفاء حرارتها وحريقها للقلب بأعظم مَا يوجد فِي الدنيا إنقاء وتبريداً، وَهُوَ الماء والثلج والبرد.
وفي حَدِيْث عَائِشَة، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُول فِي دعائه: ((اللهم اغسل

(6/373)


خطاياي بالثلج والبرد، وأنق قلبي من الخطايا كما أنقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بَيْن المشرق والمغرب)) .
وقد خرجه البخاري فِي موضع آخر، وخرجه مُسْلِم - أَيْضاً.
وإنما كَانَ يدعو فِي افتتاح الصلاة المكتوبة بهذا - والله أعلم -؛ لأن الصلوات الخمس تكفر الذنوب والخطايا، كما قَالَ تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ، فإقامة الصلوات المفروضات عَلَى وجهها يوجب مباعدة الذنوب، ويوجب - أَيْضاً - إنقاءها وتطهيرها؛ فإن
((مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار، يغتسل فِيهِ كل يوم خمس مرات)) وقد تقدم الحَدِيْث فِي ذَلِكَ، ويوجب - أَيْضاً - تبريد الحريق الَّذِي تكسبه الذنوب وإطفاءه.
وخرج الطبراني من حَدِيْث ابن مَسْعُود - مرفوعاً -: ((تحترقون [تحترقون] حَتَّى إذا صليتم الفجر غسلتها، ثُمَّ تحترقون تحترقون حَتَّى إذا صليتم الظهر غسلتها، ثُمَّ تحترقون تحترقون حَتَّى إذا صليتم العصر غسلتها، ثُمَّ تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثُمَّ تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها)) .

(6/374)


وقد روي موقوفاً، وَهُوَ أشبه.
وخرج - أَيْضاً - من حَدِيْث أَنَس - مرفوعاً -: ((إن الله ملكاً ينادي عِنْدَ كل صلاة ك يَا بني آدم، قوموا إلى نيرانكم الَّتِيْ أوقدتموها عَلَى أنفسكم فأطفئوها)) .
وخرج الإسماعيلي من حَدِيْث عُمَر بْن الخَطَّاب - مرفوعاً -: ((يجرقون، فإذا صلوا الصبح غسلت الصلاة مَا كَانَ قبلها)) حَتَّى ذكر الصلوات الخمس.
ولما كَانَتْ الصلاة صلة بَيْن العبد وربه، وكان المصلي يناجي ربه، وربه يقربه مِنْهُ، لَمْ يصلح للدخول فِي الصلاة إلا من كَانَ طاهراً فِي ظاهره وباطنه؛ ولذلك شرع للمصلي أن يتطهر بالماء، فيكفر ذنوبه بالوضوء، ثُمَّ يمشي إلى المساجد فيكفر ذنوبه بالمشي، فإن بقي من ذنوبه شيء كفرته الصلاة.
قَالَ سُلَيْمَان الفارسي: الوضوء يكفر الجراحات الصغار، والمشي إلى المسجد يكفر أكثر من ذَلِكَ، والصلاة تكفر أكثر من ذَلِكَ.
خرجه مُحَمَّد بْن نصر المروزي وغيره.
فإذا قام المصلي بَيْن يدي ربه فِي الصلاة وشرع فِي مناجاته، شرع لَهُ أول مَا يناجي ربه أن يسأل ربه أن يباعد بينه وبين مَا يوجب لَهُ البعد من ربه، وَهُوَ الذنوب، وأن يطهره مِنْهَا؛ ليصلح حينئذ للتقريب والمناجاة،

(6/375)


فيستكمل فوائد الصلاة وثمراتها من المعرفة والأنس والمحبة والخشية، فتصير صلاته ناهية لَهُ عَن الفحشاء والمنكر، وهي الصلاة النافعة.
وقد روي، أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يستعيذ من صلاة لا تنفع.
خرجه أبو داود.
وخرجه البزار فِي ((مسنده)) بإسناد فِيهِ ضعف، عَن سمرة بْن جندب، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُول لنا: ((إذا صلى أحدكم فليقل: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بيني وبين المشرق والمغرب، اللهم إني أعوذ بك أن تصد عني وجهك يوم القيامة، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أحيني مسلماً وتوفني مسلماً)) .
وهذا حَدِيْث غريب.
والاستعاذة من الإعراض مناسبة لهذا المقام؛ فإن المصلي قائم بَيْن يدي الله
لمناجاته، فيحسن أن يستعيذ بِهِ من أن يعرض بوجهه عَنْهُ.
وفي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ جواز التفدية بالأبوين، وفيه كلام يذكر فِي موضع آخر ذو القعدة إن شاء الله تعالى.
وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ استدل بِهِ من يَقُول: إنه يستحب استفتاح [الصلاة] بذكر قَبْلَ الشروع فِي القراءة، وَهُوَ قَوْلِ أكثر العلماء، ثُمَّ اختلفوا:
فَقَالَ كثير منهم: يستحب استفتاح الصلاة بقول:

(6/376)


((سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)) .
صح هَذَا عَن عُمَر بْن الخَطَّاب، روي عَنْهُ من وجوه كثيرة، وعن ابن مَسْعُود، وروي عَن أَبِي بَكْر الصديق وعثمان بْن عَفَّانَ، وعن الْحَسَن وقتادة والنخعي، وَهُوَ قَوْلِ الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة وابن المبارك وأحمد وإسحاق - فِي رِوَايَة.
وقد روي فِي ذَلِكَ أحاديث مرفوعة من وجوه متعددة، أجودها: من حَدِيْث أَبِي سَعِيد وعائشة.

(6/377)


وَقَالَ الإمام أحمد: نذهب فِيهِ إلى حَدِيْث [عُمَر] ، وقد روي فِيهِ من وجوه ليست بذاك - فذكر حَدِيْث عَائِشَة وأبي هُرَيْرَةَ.
فصرح بأن الأحاديث المرفوعة

(6/384)


ليست قوية، وأن الاعتماد عَلَى الموقوف عَن الصَّحَابَة؛ لصحة مَا روي عَن عُمَر.
وروي عَن أَبِي إِسْحَاق، عَن عَبْد الله بْن أَبِي الخليل، قالَ: سَمِعْت علياً حِينَ افتتح الصلاة قَالَ: لا إله إلا أنت سبحانك إني قَدْ ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، فاغفر ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
وروي عَن ابن عُمَر، أَنَّهُ افتتح الصلاة، فَقَالَ: الله أكبر كبيراً، وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلاً، اللهم اجعلك أحب شيء إلي، واخشى شيء عندي. وذهب طائفة إلى الاستفتاح بقول: ((وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً)) - الآيات، وما بعده من الدعاء.
وقد خرجه مُسْلِم من حَدِيْث عَلِيّ بْن أَبِي طالب، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يستفتح بذلك، خرجه فِي ((أبواب: صلاة الليل)) .
وخرجه الترمذي، وعنده: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يستفتح بِهِ فِي الصلاة المكتوبة.
وفي إسناده مقال.
وخرجه الطبراني من وجه آخر كذلك.
وخرجه النسائي من رِوَايَة مُحَمَّد بْن مسلمة، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذا قام يصلي تطوعاً يَقُول ذَلِكَ.

(6/385)


وممن ذهب إلى الاستفتاح بهذا: الشَّافِعِيّ وأصحابه وإسحاق - فِي رِوَايَة.
وروي عَن عَلِيّ، أَنَّهُ كَانَ يستفتح بِهِ من وجه منقطع.
وظاهر كلام الشَّافِعِيّ وبعض أصحابه: أَنَّهُ يستفتح بِهِ كله الإمام وغيره.
وَقَالَ كثير من أصحابه: يقتصر الإمام عَلَى قوله: ((وأنا من المُسْلِمِين)) .
وقالت طائفة: يجمع بَيْن قوله: ((سبحانك اللهم وبحمدك)) وقوله: ((وجهت وجهي)) .
وَهُوَ قَوْلِ أَبِي يوسف وإسحاق - فِي رِوَايَة - وطائفة من الشافعية، ومنهم: أبو إِسْحَاق المروزي، وطائفة قليلة من أصحابنا.
وقد ورد فِي الجمع بَيْنَهُمَا أحاديث غير قوية الأسانيد.
وكل هَذَا عَلَى وجه الاستحباب، فلو لَمْ يستفتح الصلاة بذكر، بل بدأ بالقراءة صحت صلاته، ولو استفتح بشيء مِمَّا ورد حصلت بِهِ سَنَة الاستفتاح عِنْدَ الإمام أحمد وغيره من العلماء، ولو كَانَ الأفضل عِنْدَ بعضهم غيره.
وَقَالَ أحمد فِي رِوَايَة الميموني: مَا أحسن حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الاستفتاح - يعني: الحَدِيْث الَّذِي خرجه البخاري هاهنا - فَقِيلَ لَهُ: فإن بعض النَّاس يَقُول: هَذَا كلام؟ فَقَالَ - متعجباً -: وهل الدعاء إلا كلام فِي الصلاة ويجوز.
والمنكر لهذا هُوَ من يَقُول من الكوفيين: إنه لا يجوز الدعاء فِي الصلاة إلا بلفظ القرآن، فأما الثناء عَلَى الله فمتفق عَلَى جوازه فِي الصلاة.
وهذا مِمَّا يرجح

(6/386)


بِهِ الاستفتاح بـ ((سبحانك اللهم وبحمدك)) ؛ لاشتماله عَلَى أفضل الكلام، فإنه إذا جمع مَعَ التكبير صار متضمناً لقول: ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) ، وقد قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهن: ((إنهن أفضل الكلام بعد القرآن)) .
وذهبت طائفة قليلة: إلى أن من ترك الاستفتاح عمداً أعاد صلاته، منهم: ابن بطة وغيره من أصحابنا، وربما حكي رِوَايَة عَن أحمد.
وَقَالَ الحكم: إذا قَالَ: سبحان الله حِينَ يفتتح الصلاة والحمد لله أجزأه.
وهذا يشعر بوجوبه.
وَقَالَ إِسْحَاق: إن تركه عمداً فهو مسيء، ولا يتبين لِي إيجاب الإعادة؛ لما ذكر فِي غير حَدِيْث، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذا كبر قرأ فاتحة الكتاب.
وحكي الترمذي عَن بعض أهل الكوفة: أن حَدِيْث عَلِيّ بْن أَبِي طالب يعمل بِهِ فِي التطوع دون الفريضة.
وكذلك خرجه مُسْلِم فِي ((أبواب قيام الليل)) .
وَقَالَ أحمد - فِي رِوَايَة ابن منصور -: أنا أذهب إلى قَوْلِ ابن عُمَر، وإن قَالَ كما روي عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا بأس، وعامة مَا قَالَ فِي صلاة الليل.
وَقَالَ الوليد بْن مُسْلِم: ذكرت ذَلِكَ لسعيد بْن عَبْد العزيز، فأخبرني

(6/387)


عَن المشيخة، أنهم كانوا يقولون: هؤلاء الكلمات حِينَ يقبلون بوجوههم إلى القبلة، قَبْلَ تكبيرة الاستفتاح - يعني: ((وجهت وجهي)) - قَالَ: ثُمَّ يتبعون تكبيرة الاستفتاح بـ ((سبحانك وبحمدك)) إلى آخره.
وذهب مَالِك إلى أَنَّهُ لا يشرع الاستفتاح فِي الصلاة، بل يتبع التكبير بقراءة الفاتحة.
وحكاه الإمام أحمد - فِي رِوَايَة حَنْبل - عَن ابن مَسْعُود وأصحابه.
وهذا غريب.
واستدل لمن ذهب إلى هَذَا القول بظاهر حَدِيْث أَنَس الَّذِي خرجه البخاري هاهنا فِي أول الباب.
وقد تقدم عَن إِسْحَاق، أَنَّهُ استدل بِهِ عَلَى أن الاستفتاح غير واجب.
وحمله آخرون عَلَى أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يتركه أحياناً؛ ليبين أَنَّهُ غير واجب.
وحمله آخرون عَلَى أن المراد بِهِ: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يبدأ بقراءة الفاتحة قَبْلَ السورة، ولم يرد بِهِ نفي الاستفتاح والتعوذ، فالمراد بِهِ - حينئذ - استفتاح قراءة الصلاة بالفاتحة.
وعلى هَذَا حمله الشَّافِعِيّ وأصحابه.
ويدل عَلِيهِ: أن الترمذي خرج هَذَا الحَدِيْث من رِوَايَة أَبِي عوانة، عَن قتادة، عَن أَنَس، قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بَكْر وعمر وعثمان يفتتحون القراءة بـ
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ولو كَانَتْ رِوَايَة شعبة الَّتِيْ خرجها البخاري عَلَى ظاهرها فِي افتتاح الصلاة لذلت عَلَى أن الصلاة

(6/388)


تفتتح بكلمة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} دون التكبير، ولم يقل أحد: إن هَذَا هُوَ المراد من هَذَا الحَدِيْث.
وَقَالَ آخرون: المراد من حَدِيْث أَنَس: أن القراءة فِي الصلاة الجهرية تفتتح بكلمة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} دون البسملة.
واستدلوا لذلك بما خرجه مُسْلِم فِي ((صحيحه)) من طريق غندر، عَن شعبة، قَالَ: سَمِعْت قتادة يحدث، عَن أَنَس، قَالَ: صليت مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بَكْر وعمر وعثمان فَلَمْ أسمع أحداً منهم يقرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
وخرجه - أَيْضاً - من طريق أَبِي داود، عَن شعبة، وزاد: قَالَ شعبة: فَقُلْت لقتادة: أسمعته من أنس؟ قَالَ: نَعَمْ، نحن سألناه عَنْهُ.
ففي هذه الرواية: تصريح قتادة بسماعه لَهُ من أَنَس، فبطل بذلك [تخيل] من أعل الحَدِيْث بتدليس قتادة.
وخرجه مُسْلِم - أَيْضاً - من طريق الأوزاعي، عَن عبدة، أن عُمَر بْن الخَطَّاب كَانَ يجهر بهؤلاء الكلمات، يَقُول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك.
وعن قتادة، أَنَّهُ كتب إليه يخبره عَن أَنَس بْن مَالِك، أَنَّهُ حدثه، قَالَ: صليت خلف النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بَكْر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لا يذكرون ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، لا فِي أول قراءة ولا آخرها.

(6/389)


وعن الأوزاعي، قَالَ: أخبرني إِسْحَاق بْن عَبْد الله بْن أَبِي طلحة، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَس بْن مَالِك يذكر ذَلِكَ.
فهذه الرواية صحيحة، متصلة الإسناد بالسماع المُتَّصِل عَن قتادة، وإسحاق عَن أَنَس.
وقد روي حَدِيْث شعبة، عَن قتادة بالفاظ آخر.
فرواه وكيع، عَن شعبة، عَن قتادة، عَن أَنَس، قَالَ: صليت خلف النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخلف أَبِي بَكْر وعمر وعثمان، فكانوا لا يجهرون بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
خرجه الإمام أحمد، عَن وكيع.
وخرجه الدارقطني من طرق، عَن شعبة - بنحوه.
ومن طريق شيبان وهمام عَن قتادة - أَيْضاً - بنحوه.
ومن طريق زيد بْن الحباب، عَن شعبة، وَقَالَ فِي حديثه: فَلَمْ أسمع ـحد منهم يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
وكذا رواه سَعِيد بْن أَبِي عروبة وحجاج، عَن قتادة، عَن أَنَس.
وخرجه النسائي من رِوَايَة سَعِيد بْن أَبِي عروبة وشعبة، كلاهما عَن قتادة، ولفظه: فَلَمْ أسمع أحداً منهم يجهر بِهَا.
وخرجه أبو يعلى الموصلي من طريق غندر، عَن شعبة، ولفظه: لَمْ يكونوا يستفتحون الصلاة بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) . قُلتُ لقتادة:

(6/390)


أسمعته من أَنَس؟ قَالَ: نَعَمْ، ونحن سألناه عَنْهُ.
ورواه الأعمش، عَن شعبة، فَقَالَ: عَن ثابت، عَن أَنَس - بنحو هَذَا اللفظ.
وأخطأ فر قوله: ((ثابت)) ، إنما هُوَ: ((عَن قتادة)) -: قاله أبو حاتم الرَّازِي والترمذي فِي ((كِتَاب العلل)) .
وقيل: إن الخطأ من عمار بْن رزيق، رِوَايَة عَن الأعمش.
وقد روي عَن شعبة، عَن قتادة وحميد وثابت، عَن أنس من وجه آخر فِيهِ نظر.
ورواه يزيد بْن هارون، عَن حماد، عَن قتادة وثابت، عَن أَنَس.
وخرجه الإمام أحمد عَن أَبِي كامل، عَن حماد بْن سَلَمَة، عَن ثابت وقتادة وحميد، عَن أَنَس، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بَكْر وعمر كانوا يفتتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ورواه حماد بْن سَلَمَة فِي ((كتابه)) كذلك، [إلا] أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يذكر حميد فِي روايته: النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
يعني: أن حميداً وحده وقفه، ولم يرفعه.
وقد رواه مَالِك فِي ((الموطإ)) عَن حميد، عَن أَنَس، قَالَ: قمت وراء أَبِي بَكْر وعمر وعثمان، فكلهم لا يقرأ: ((بسم الله الرحمن الرحيم))

(6/391)


إذا افتتح الصلاة.
وقد رفعه عَن مَالِك الوليد بْن مُسْلِم وأبو قرة الزبيدي وإسماعيل بْن موسى السدي وابن وهب - من رِوَايَة ابن أخيه عَنْهُ.
والصحيح عَن مَالِك: ليس فِيهِ ذكر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذا الصحيح عَن حميد.
قَالَ أحمد: حميد لَمْ يرفعه.
وذكر الدارقطني جماعة رووه عَن حميد ورفعوه، منهم: معمر وابن عُيَيْنَة والثقفي وأبو بَكْر بْن عياش ومروان بْن معاوية وغيرهم.
ثُمَّ قَالَ: والمحفوظ: أن حميداً رواه عَن أَنَس، وشك فِي رفعه، وأخذه عَن قتادة، عَن أنس مرفوعاً.
وخرج النسائي من رِوَايَة أَبِي حَمْزَة، عَن منصور بْن زاذان، عَن أَنَس، قَالَ: صلى بنا رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يسمعنا قراءة ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، وصلى بنا أبو بَكْر وعمر فَلَمْ نسمعها منهما.
وروى مُحَمَّد بْن أَبِي السري، عَن معتمر بْن سُلَيْمَان، عَن أَبِيه، عَن الْحَسَن، عَن أَنَس، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يسر ((بسم الله الرحمن الرحيم)) وأبو بَكْر وعمر.
خرجه الطبراني.
وروي من وجه آخر، عَن الْحَسَن، عَن أَنَس.
وروي عَن أَنَس من وجوه أخر، مِنْهَا: عَن أَبِي قلابة وثمامة وعائذ بْن شريح وغيرهم.

(6/392)


وقد اعترض طائفة من العلماء عَلَى هَذَا، بأن حَدِيْث أَنَس اختلفت ألفاظه، والمحفوظ من ذَلِكَ رِوَايَة من قَالَ: كَانَ يفتتح الصلاة - أو القراءة - بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، كما هِيَ الرواية الَّتِيْ خرجها البخاري، وهذه الرواية تحتمل أن المراد: افتتاح القراءة بقراءة سورة الفاتحة دون غيرها من السور.
وزعم الدارقطني: أن عامة أصْحَاب قتادة رووه عَنْهُ كذلك، منهم: أيوب وحميد، وأنه المحفوظ عَن قتادة وغيره، عَن أَنَس.
وكذلك رواه جماعة عَن شعبة كما خرجه البخاري، عَن أَبِي عُمَر الحوضي، عَنْهُ، كذا رواه يَحْيَى القطان ويزيد بْن هارون، عَن شعبة.
وكذلك ذكر الشَّافِعِيّ: أن أصْحَاب حميد خالفوا مالكاً فِي لفظ حديثه الَّذِي خرجه فِي ((الموطإ)) ، وقالوا: كانوا يفتتحون قراءتهم بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ} وذكر منهم سبعة أو ثمانية، منهم: ابن عُيَيْنَة والفزاري والثقفي.
والجواب عَن ذَلِكَ: أن مَا ذكروه من اخْتِلاَف ألفاظ الرواية يدل عَلَى أنهم كانوا يروون الحَدِيْث بالمعنى، ولا يراعون اللفظ، فإذا كَانَ أحد الألفاظ محتملاً، والآخر صريحاً لا احتمال فِيهِ، علم أنهم أرادوا باللفظ المحتمل هُوَ مَا دل عَلَيْهَا اللفظ الصريح الَّذِي لا احتمال فِيهِ، وأن معناهما عندهم واحد، وإلا لكان الرواة قَدْ رووا الحَدِيْث الواحد بألفاظ مختلفة متناقضة، ولا يظن ذَلِكَ بهم مَعَ علمهم وفقههم وعدالتهم وورعهم.
لا سيما وبعضهم قَدْ زاد فِي الحَدِيْث زيادة تنفي كل احتمال وشك، وهي

(6/393)


عدم ذكر قراءة البسملة فِي القراءة، وهذه زيادة من ثقات عدول حفاظ، تقضي عَلَى كل لفظ محتمل، فكيف لا تقبل؟ لا سيما وممن زاد هذه الزيادة الأوزاعي فقيه أهل الشام وإمامهم وعالمهم، مَعَ مَا اشتهر من بلاغته وفصاحته وبلوغه الذروة العليا من ذَلِكَ.
والذي رَوَى نفي قراءة البسملة من أصْحَاب حميد هُوَ مَالِك، ومالك مَالِك فِي فقهه وعلمه وورعه وتحريه فِي الرواية، فكيف ترد روايته المصرحة بهذا المعنى برواية شيوخ ليسوا فقهاء لحديث حميد بلفظ محتمل؟
فالواجب فِي هَذَا ونحوه: أن تجعل الرواية الصريحة مفسرة للرواية المحتملة؛ فإن هَذَا من بَاب عرض المتشابه عَلَى المحكم، فأما رد الروايات الصريحة للرواية المحتملة فغير جائز، كما لا يجوز رد المحكم للمتشابه.
ومن زعم: أن ألفاظ الحَدِيْث متناقضة فلا يجوز الاحتجاج بِهِ فَقَدْ أبطل، وخالف مَا عَلِيهِ أئمة الإسلام قديماً وحديثاً فِي الاحتجاج بهذا الحَدِيْث والعمل بِهِ.
وأيضاً؛ فأي فائدة فِي رِوَايَة أَنَس أو غيره: أن القراءة تفتتح بفاتحة الكتاب، فتقرأ الفاتحة قَبْلَ السورة، وهذا أمر معلوم من عمل الأمة، لَمْ يخالف فِيهِ منهم أحد، ولا اختلف فِيهِ اثنان، لا يحتاج إلى الإخبار بِهِ، كما أن أحداً من الصَّحَابَة لَمْ يرو فِي أمور الصلاة مَا كَانَ مقرراً عِنْدَ الأمة، لا يحتاج إلى الإخبار بِهِ، مثل عدد الركعات بعد استقرارها أربعاً، ومثل الجهر فيما يجهر بِهِ والإسرار فيما يسر، ونحو ذَلِكَ مِمَّا لا فائدة فِي الإخبار بِهِ.
فكذلك ابتداء القراءة بالفاتحة، لا يحتاج إلى الإخبار بِهِ، ولا إلى السؤال عَنْهُ، وقد كَانَ أَنَس يسأل عَن هَذَا - كما قَالَ قتادة: نحن سألناه عَنْهُ، وقد تقدم - وكان يَقُول - أحياناً -: مَا سألني عَن هَذَا أحد.

(6/394)


وروي عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: مَا أحفظه.
وهذا يدل عَلَى أَنَّهُ مِمَّا يخفى عَلَى السائل والمسئول، ولو كَانَ السؤال عَن الابتداء بقراءة الفاتحة لَمْ يخف عَلَى سائل ولا مسئول عَنْهُ.
فخرج الإمام أحمد من طريق شعبة: قَالَ قتادة: سألت أَنَس بْن مَالِك: بأي شيء كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستفتح القراءة؟ قَالَ: إنك لتسألني عَن شيء مَا سألني عَنْهُ أحد.
ومن طريق سَعِيد، عَن قتادة، قَالَ: قُلتُ لأنس - فذكره.
قَالَ: وحدثنا إِسْمَاعِيل - يعني: ابن علية -: ثنا سَعِيد بْن يزيد: أنا قتادة - أبو مسلمة -، قَالَ: قُلتُ لأنس.
قَالَ أحمد: وحدثنا غسان بْن مضر، عَن أَبِي مسلمة سَعِيد بْن يزيد، قَالَ: سألت أَنَس بْن مَالِك: أكان رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) أو
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ؟ فَقَالَ: إنك تسألني عَن شيء مَا أحفظه، أو مَا سألني عَنْهُ أحد قبلك.
وخرجه من هَذَا الوجه ابن خزيمة والدارقطني، وصحح إسناده.

(6/395)


وقد ذكرنا أَنَّهُ مختلف فِيهِ، وعلى تقدير أن يكون محفوظاً، فالمراد: هَلْ كَانَ يقرأ البسملة فِي نفسه، أم لا؟ فَلَمْ يكن عنده مِنْهُ علم؛ لأنه لَمْ يسمع قراءتها، فلا يدري: هَلْ كَانَ يسرها، أم لا؟
وأيضاً؛ فَقَدْ شك الرَّاوي: هَلْ قَالَ: ((لا أحفظه)) ، أو ((مَا سألني عَنْهُ أحد قبلك)) ، فالظاهر: أَنَّهُ إنما قَالَ: ((مَا سألني عَنْهُ أحد قبلك)) ، كما رواه شعبة وغيره عَن قتادة، كما تقدم.
وعلى تقدير: أن يكون قَالَ: ((مَا أحفظه)) ، فيجوز أن يكون نسي مَا أخبر بِهِ قتادة وغيره من قَبْلَ ذَلِكَ، ويكون قَالَ ذَلِكَ عِنْدَ كبره وبعد عهده بما سئل عَنْهُ.
قَالَ ابن عَبْد البر: من حفظ عَنْهُ حجة عَلَى من سأله فِي حال نسيانه. والله
أعلم.
فإن قيل: فَقَدْ رَوَى الأوزاعي، عَن إِسْحَاق بْن عَبْد الله بْن أَبِي طلحة، عَن أَنَس، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بَكْر وعمر وعثمان كانوا يستفتحون بأم القرآن، فيما يجهر فِيهِ.
خرجه ابن جوصة والدارقطني.
وهذا صريح فِي أن المراد ابتداء القراءة بفاتحة الكتاب.
قيل: ليس المراد الإخبار بأنهم كانوا يقرءون أم القرآن قَبْلَ سور سواها؛ فإن هذه لا فائدة فِيهِ إنما المراد: أنهم كانوا لا يقرءون قَبْلَ أم القرآن شيئاً يجهرون بِهِ فِي الصلاة، فتدخل فِي ذَلِكَ البسملة؛ فإنها ليست من أم القرآن.
ويدل على هَذَا شيئان:

(6/396)


أحدهما: أن رِوَايَة الأوزاعي الَّتِيْ فِي ((صحيح مُسْلِم)) : لا يذكرون ((بسم الله الرحمن الرحيم)) فِي أول قراءة ولا آخرها.
والأوزاعي إمام فقيه عندما يروي، فرواياته كلها متفقة.
والثاني: أن الأوزاعي كَانَ يأخذ بهذا الحَدِيْث الَّذِي رواه، ولا يرى قراءة البسملة قَبْلَ الفاتحة من أولا جهراً، وسنذكر قوله فِي ذَلِكَ فيما بعد - إن شاء الله - سبحانه وتعالى -.
وقد عارض بعضهم حَدِيْث أَنَس هَذَا بما خرجه البخاري فِي ((فضل القرآن)) من ((صحيحه)) هَذَا: حَدَّثَنَا عَمْرِو بْن عاصم: ثنا همام، عَن قتادة، قَالَ: سئل أَنَس: كَيْفَ كَانَتْ قراءة رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: كَانَتْ مداً، ثُمَّ قرأ: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، يمد بـ ((بسم الله)) ، ويمد بـ ((الرحمن)) ويمد بـ ((الرحيم)) .
وخرجه - أَيْضاً - من طريق جرير بْن حَازِم، عَن قتادة - إلى قوله: ((مداً)) ، ولم يذكر: ((ثُمَّ قرأ)) وما بعده.
وقد ذكر ابن أَبِي خيثمة فِي ((كتابه)) : أن يَحْيَى بْن معين سئل عَن حَدِيْث جرير هَذَا، فَقَالَ: ليس بشيء.
قُلتُ: وروايات جرير بْن حَازِم عَنْ قتادة فيها مناكير -: قاله الإمام أحمد ويحيى وغير واحد.
وقد تابعه عَلَى هَذَا: همام.
قَالَ: وروي عَن قتادة مرسلاً، وَهُوَ أشبه -: ذكره فِي ((العلل)) .

(6/397)


قُلتُ: وقد روي بإسناد فِيهِ لين، عَن حرب بْن شداد، عَن قتادة، قَالَ: سألت أَنَس بْن مَالِك: كَيْفَ كَانَتْ قراءة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: كَانَ إذا قرأ مد صوته مداً.
خرجه الطبراني.
وفي الجملة؛ فتفرد عَمْرِو بْن عاصم عَن همام بذكر البسملة فِي هَذَا الحَدِيْث.
وقد روي عَن شعبة، عَن همام بدون هذه الزيادة.
خرجه أبو الحسين بن المظفر فِي ((غرائب شعبة)) .
وعلى تقدير أن تكون محفوظة، فليس فِي الحَدِيْث التصريح بقراءته فِي الصلاة، فَقَدْ يكون وصف قراءته فِي غير الصلاة، ويحتمل - وَهُوَ أشبه -: أن يكون أَنَس أو قتادة قرأ: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) عَلَى هَذَا الوجه، وأراد تمثيل قراءته بالمد، ولم يرد بِهِ حكاية عين قراءته للبسملة.
ويشهد بهذا: مَا خرجه أبو داود من حَدِيْث ابن جُرَيْج، عَن ابن أَبِي مليكة، عَن أم سَلَمَة، ذكرت قراءة رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) . {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، يقطع قراءته آية آية.
وخرجه الترمذي ولم يذكر فِي أوله البسملة، وزاد: وكان يقرأها {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .
وقراءة هذه الآيات عَلَى هَذَا الوجه إنما هُوَ من حكاية ابن جُرَيْج

(6/398)


لحديث أم سَلَمَة، وقولها: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقطع قراءته آية آية، كذلك قاله النسائي وأبو داود السجستاني، حكاه عنهما أبو بَكْر بْن أَبِي داود فِي كتابه ((المصاحف)) .
وكذا قَالَ الإمام أحمد فِي رِوَايَة ابن الْقَاسِم، وقالوا: ابن جُرَيْج هُوَ الَّذِي قرأ
{ملِكِ} ، وليس ذَلِكَ فِي حَدِيْث أم سَلَمَة.
يدل على صحة هَذَا: مَا خرجه الإمام أحمد من طريق نَافِع، عَن ابن أَبِي مليكة، عَن بعض أزواج النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ نَافِع: أراها حَفْصَةَ -، أنها سئلت عَن قراءة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَتْ: إنكم لا تستطيعونها، فَقِيلَ: أخبرينا بِهَا، فقرأت قراءة ترسلت فيها. قَالَ نَافِع: فحكى لنا ابن أَبِي مليكة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ثُمَّ قطع {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ثُمَّ قطع {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .
ففي هذه الرواية: تصريح ابن جُرَيْج بأن هذه القراءة إنما هِيَ حكاية مَا قرأ لهم ابن أَبِي مليكة.
وفي لفظ الحَدِيْث اختلاف فِي ذكر البسملة وإسقاطها.
وفي إسناده - أَيْضاً - اخْتِلاَف؛ فَقَدْ أدخل الليث بْن سعد فِي روايته عَن ابن أَبِي مليكة بينه وبين أم سليمة: يعلى بْن مملك، وصحح روايته الترمذي وغيره.
وَقَالَ النسائي فِي يعلى هَذَا: ليس بمشهور.
وَقَالَ بعضهم: عَن يعلى، عَن عَائِشَة.
وقد ذكر الاختلاف فِيهِ الدارقطني فِي ((علله)) ، وذكر أن عُمَر بْن

(6/399)


هارون زاد فِيهِ: عَن ابن جُرَيْج، وعد: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) آية.
وعمر بْن هارون، لا يلتفت إلى تفرد بِهِ.
وقد يكون ابن جُرَيْج عدها آية - أو ابن أَبِي مليكة.
ومن زعم: أَنَّهُ صحيح؛ لتخريج ابن خزيمة لَهُ، فَقَدْ وهم.
ومن زعم من متقدمي الفقهاء أن حفص بْن غياث رواه عَن ابن جُرَيْج كذلك وأنه أخبره بِهِ عَنْهُ غير واحد، فَقَدْ وهم، ورواه بالمعنى الَّذِي فهمه هُوَ، وَهُوَ وأمثاله من الفقهاء يروون بالمعنى الَّذِي يفهمونه، فيغيرون معنى الحَدِيْث.
وحديث حفص مشهور، مخرج فِي المسانيد والسنن باللفظ المشهور.
وقد ادعى طائفة: أن حَدِيْث قتادة وإسحاق بْن أَبِي طلحة ومن تابعهما عَن أَنَس كما تقدم معارض بروايات أخر عَن أَنَس، تدل عَلَى الجهر بالبسملة، فإما أن تتعارض الروايات وتسقط، أو ترجح رِوَايَة الجهر؛ لأن الإثبات مقدم عَلَى النفي.
فروى الشَّافِعِيّ: نا عَبْد المجيد بْن عَبْد العزيز، عَن ابن جُرَيْج، قَالَ: أخبرني عَبْد الله بْن عُثْمَان بْن خثيم، أن أَبَا بَكْر بْن حفص بْن عُمَر أخبره، أن أنس بْن مَالِك قَالَ: صلى معاوية بالمدينة صلاة، فجهر فيها بالقراءة، فقرأ: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) لأم القرآن، ولم يقرأ بِهَا للسورة الَّتِيْ بعدها حَتَّى قضى تلك القراءة، ولم يكبر حَتَّى قضى تلك، فلما سلم ناداه من شهد ذَلِكَ من المهاجرين من كل مكان: يَا معاوية: أسرقت

(6/400)


الصلاة، أم نسيت؟ فلما صلى بعد ذَلِكَ قرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) للسورة الَّتِيْ بعد أم القرآن، وكبر حِينَ يهوي ساجداً.
ورواه عَبْد الرزاق عَن ابن جُرَيْج بهذا الإسناد، وَقَالَ فِيهِ: فَلَمْ يقرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) لأم القرآن، ولم يقرأ بِهَا للسورة التي بعدها.
وخرجه الشافعي - أيضا - عن إبراهيم بن محمد - هو: ابن أبي يحيى -: حدثني عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم، ولم يقرأ: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، ولم يكبر إذا رفع.
ورواه - أَيْضاً - عَن يَحْيَى بْن سليم، عَن عَبْد الله بْن عُثْمَان بْن خثيم، عَن إِسْمَاعِيل بْن عُبَيْدِ بن رِفَاعَة، عَن أَبِيه - فذكر بنحوه.
قَالَ الشَّافِعِيّ: وأحسب هَذَا الإسناد أحفظ من الإسناد الأول.
قَالَ البيهقي: ورواه إِسْمَاعِيل بْن عياش، عَن ابن خثيم، عَن

(6/401)


إِسْمَاعِيل ابن عُبَيْدِ بْن رِفَاعَة، عن أبيه، عَن جده، أن معاوية قدم المدينة.
قَالَ: ويحتمل أن يكون ابن خثيم سمعه منهما، والله أعلم. انتهى.
فعلى طريقة الشَّافِعِيّ فِي ترجيح الإسناد الثاني عَلَى الحَدِيْث، ليس هَذَا الحَدِيْث من رِوَايَة أَنَس بْن مَالِك بالكلية، فلا يكون معارضاً لروايات أَنَس الصحيحة الثابته.
وعلى التقدير الآخر، فليس هَذَا الحَدِيْث مرفوعاً، وإنما فِيهِ إنكار من كَانَ حاضراً تلك الصلاة من المهاجرين، وإنما حضر ذَلِكَ قليل منهم؛ فإن أكابرهم توفوا قَبْلَ ذَلِكَ، فغاية هَذَا: أن يكون موقوفاً عَلَى جماعة من الصَّحَابَة، فكيف ترد بِهِ الرواية المرفوعة، وليس فِيهِ تصريح بإنكار ترك الجهر بالبسملة، بل يحتمل أنهم إنما أنكروا قراءتها فِي الجملة، وذلك محتمل بأن يكون معاوية وصل تكبيرة الإحرام بقراءة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} من غير سكوت بَيْنَهُمَا يتسع للبسملة، ثُمَّ وصل الفاتحة بقراءة سورة من غير سكوت يتسع للبسملة.
ورواية ابن جُرَيْج صريحة فِي أن معاوية لَمْ يقرأ البسملة مَعَ الفاتحة - ?? أَيْضاً -، فيدل هَذَا عَلَى اتفاقهم عَلَى أن البسملة ليست من الفاتحة، وإلا لأمروه بإعادة الصلاة، أو لأعادوا هم صلاتهم خلفه.
وبكل حال؛ المضطرب إسناده وألفاظه لا يجوز أن يكون معارضاً لأحاديث أَنَس الصحيحة الصريحة.
وقد تفرد بهذا الحَدِيْث عَبْد الله بْن عُثْمَان بْن خثيم، وليس بالقوي؛ ترك حديثه يَحْيَى القطان وابن مهدي.
ومن العجب، قَوْلِ بعضهم: يكفي أن مسلماً خرج لَهُ، مَعَ طعنه

(6/402)


فِي حَدِيْث الأوزاعي الَّذِي خرجه مُسْلِم فِي ((صحيحه)) من حَدِيْث أنس المصرح بنفي قراءة البسملة.
وقوله: إنه معلول غير ثابت، بغير حجة ولا برهان، نعوذ بالله من اتباع الهوى.
فإن قيل: فَقَدْ روي عَن أَنَس أحاديث صريحة فِي الجهر بالبسملة:
فروى حاتم بْن إِسْمَاعِيل، عَن شريك بن عَبْد الله بن أَبِي نمر، عَن أَنَس، قَالَ: سَمِعْت النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
خرجه الحَاكِم فِي ((المستدرك)) من طريق أصبع بْن الفرج، عَن حاتم، بِهِ.
وَقَالَ: رواته ثقات.
قُلتُ: هَذَا لا يثبت؛ فَقَدْ خرجه الدارقطني من طريق آخر عَن حاتم بْن
إِسْمَاعِيل، عَن شريك بْن عَبْد الله، عَن إِسْمَاعِيل المكي، عَن قتادة، عَن أَنَس - فذكره.
فتبين بهذه الرواية أَنَّهُ سقط من رِوَايَة الحَاكِم من إسناده رجلان: أحدهما إِسْمَاعِيل المكي، وَهُوَ: ابن مُسْلِم، متروك الحَدِيْث، لا يجوز الاحتجاج بِهِ.
وخرج الدارقطني - أَيْضاً - من طريق معتمر بْن سُلَيْمَان، عَن أَبِيه، عَن أَنَس، قَالَ: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
وفي إسناده مجاهيل لا يعرفون.
وخرج - أَيْضاً - بإسناد منقطع وجادة وجدها فِي كِتَاب عَن مُحَمَّد بْن المتوكل بْن أَبِي السري العسقلاني، أَنَّهُ صلى خلف المعتمر بْن

(6/403)


سُلَيْمَان، فكان يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، وَقَالَ: إني مَا آلو أن اقتدي بصلاة المعتمر، وَقَالَ أَنَس: مَا آلو أن اقتدي بصلاة رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهذا لا يثبت؛ لوجوه:
مِنْهَا: انقطاع أول إسناده.
ومنها: أَنَّهُ ليس فِيهِ تصريح برواية معتمر للجهر بالبسملة بهذا الإسناد، وإنما فِيهِ اقتداء كلي فِي الصلاة، ومثل هَذَا لا يثبت به نقل تفاصيل أحكام الصلاة الخاصة.
ومنها: أن المعتمر بْن سُلَيْمَان إنما كَانَ يروي حَدِيْث البسملة بإسناد آخر عَن إِسْمَاعِيل بْن حماد، عَن أَبِي خَالِد، عَن ابن عَبَّاس، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يفتتح صلاته بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
خرجه من طريقه كذلك أبو داود، وَقَالَ: هَذَا حَدِيْث ضَعِيف.
والترمذي، وَقَالَ: إسناده ليس بذاك. وقال: إِسْمَاعِيل بْن حماد، هُوَ: ابن أَبِي سُلَيْمَان، وأبو خالد، هُوَ: الوالبي، كذا قَالَ.
وَقَالَ الإمام أحمد - فِي رِوَايَة حَنْبل -: إِسْمَاعِيل بْن حماد: ليس بِهِ بأس، ولا أعرف أبا خَالِد - يعني: أَنَّهُ غير الوالبي.

(6/404)


كذا قَالَ العقيلي، قَالَ: إِسْمَاعِيل بْن حماد بْن أَبِي سليمان حديثه غير محفوظ
- يعني: هَذَا الحَدِيْث -، ويحكيه عَن مجهول كوفي.
وخرجه ابن عدي فِي ((كتابه)) من طريق معتمر، كما خرجه أبو داود وغيره.
وخرج - أَيْضاً - من طريق آخر عَن معتمر، قَالَ: سَمِعْت ابن حماد، عَن عمران بْن خَالِد، عَن ابن عَبَّاس.
ثُمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيْث لا يرويه غير معتمر، وَهُوَ غير محفوظ، سواء قَالَ: عَن أَبِي خَالِد، أو عمران بْن خَالِد؛ جميعاً مجهولان.
وَقَالَ ابن عَبْد البر: هَذَا الحَدِيْث - والله أعلم - إنه روي عَن ابن عَبَّاس من فعله لا مرفوعاً إلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومنها: أن مُحَمَّد بْن المتوكل لَمْ يخرج لَهُ فِي ((الصحيح)) ، وقد تكلم فِيهِ أبو حاتم الرَّازِي وغيره ولينوه، وَهُوَ كثير الوهم.
وقد روي عَنْهُ هَذَا الحَدِيْث عَلَى وجه آخر:
خرجه الطبراني عَن عَبْد الله بْن وهيب الغزي، عَن مُحَمَّد بْن أَبِي السري، عَن معتمر بْن سُلَيْمَان، عَن أَبِيه، عَن الْحَسَن، عَن أَنَس، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يسر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) وأبو بَكْر وعمر.
فهذه الرواية المتصلة الإسناد أولى من تلك المنقطعة.
وأعجب من هَذَا: مَا خرجه الحَاكِم من طريق سيف بْن عَمْرِو أَبِي

(6/405)


جابر، عَن مُحَمَّد بْن أَبِي السري، عَن إِسْمَاعِيل بْن أَبِي أويس، عَن مَالِك، عَن حميد، عَن أَنَس، قَالَ: صليت خلف النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلف أَبِي بَكْر وخلف عُمَر وخلف عُثْمَان وخلف عَلِيّ، فكلهم كانوا يجهرون بقراءة ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
وتخريج هَذَا فِي ((المستدرك)) من المصائب، ومن يخفى عَلِيهِ أن هَذَا كذب عَلَى مَالِك، وأنه لَمْ يحدث بِهِ عَلَى هَذَا الوجه قط؛ إنما رَوَى عَن حميد، عَن أَنَس، أن أَبَا بَكْر وعمر وعثمان كانوا لا يقرأون: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
هكذا خرجه فِي ((الموطإ)) ، ورواه عَنْهُ جماعة، وذكروا فِيهِ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضاً - وقد سبق ذكر ذَلِكَ.
فمن اتقى وأنصف علم أن حَدِيْث أنس الصحيح الثابت لا يدفع بمثل هذه المناكير والغرائب والشواذ الَّتِيْ لَمْ يرض بتخريجها أصْحَاب الصحاح، ولا أهل السنن مَعَ تساهل بعضهم فيما يخرجه، ولا أهل المسانيد المشهورة مَعَ تساهلهم فيما يخرجونه.
وإنما جمعت هذه الطرق الكثيرة الغريبة والمنكرة لما اعتنى بهذه المسألة من اعتنى بِهَا، ودخل فِي ذَلِكَ نوع من الهوى والتعصب، فإن أئمة الإسلام المجتمع عليهم إنما قصدوا اتباع مَا ظهر لهم من الحق وسنة رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَمْ يكن لهم قصد فِي غير ذَلِكَ - رضي الله عنهم -، ثُمَّ حدث بعدهم من كَانَ قصده أن تكون كلمة فلان وفلان هِيَ العليا، ولم يكن ذَلِكَ قصد أولئك المتقدمين، فجمعوا وكثروا الطرق والروايات

(6/406)


الضعيفة والشاذة والمنكرة والغريبة، وعامتها موقوفات رفعها من ليس بحافظ، أو من هُوَ ضَعِيف لا يحتج بِهِ، أو مرسلات وصلها من لا يحتج بِهِ، مثلما وصل بعضهم مرسل الزُّهْرِيّ فِي هَذَا، فجعله عَنْهُ، عَن ابن المُسَيِّب، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، ووصله باطل قطعاً.
والعجب ممن يعلل الأحاديث الصحيحة المخرجة فِي ((الصحيح)) بعلل لا تساوي شيئاً، إنما هِيَ تعنت محض، ثُمَّ يحتج بمثل هذه الغرائب الشاذة المنكرة، ويزعم أنها صحيحة لا علة لها.
وقد اعتنى بهذه المسألة وأفرادها بالتصنيف كثير من المُحَدِّثِين، منهم: مُحَمَّد بْن نصر وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني وأبو بَكْر الخَطِيْب والبيهقي وابن عَبْد البر وغيرهم من المتأخرين.
ولولا خشية الإطالة لذكرنا كل حَدِيْث احتجوا بِهِ، وبيان أَنَّهُ لا حجة فِيهِ عَلَى الجهر؛ فإنها دائرة بَيْن أمرين: إما حَدِيْث صحيح غير صريح، أو حَدِيْث صريح غير صحيح.
ومن أقوى مَا احتجوا بِهِ: حَدِيْث خَالِد بْن يزيد، عَن سَعِيد بْن أَبِي هلال، عَن نعيم المجمر، أَنَّهُ صلى وراء أَبِي هُرَيْرَةَ، فقرأ: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، ثُمَّ قرأ بأم القرآن، ثُمَّ قَالَ لما سلم: إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(6/407)


خرجه النسائي وابن خزيمة والحاكم وغيرهم.
وسعيد وخالد، وإن كانا ثقتين، لكن قَالَ أبو عُثْمَان البرذعي فِي ((علله عَن أَبِي زُرْعَة الرَّازِي)) ، أَنَّهُ قَالَ فيهما: ربما وقع فِي قلبي من حسن حديثهما.
قَالَ: وَقَالَ أبو حاتم: أخاف أن يكون بعضها مراسيل، عَن ابن أبي فروة وابن سمعان.
يعني: مدلسة عنهما.
ثُمَّ هَذَا الحَدِيْث ليس بصريح فِي الجهر، إنما فِيهِ أَنَّهُ قرأ البسملة، وهذا يصدق بقراءتها سراً.
وقد خرجه النسائي فِي ((باب: ترك الجهر بالبسملة)) .
وعلى تقدير أن يكون جهر بِهَا، فيحتمل أن يكون جهر بِهَا ليعلم النَّاس استحباب قراءتها فِي الصلاة، كما جهر عُمَر بالتعوذ

(6/408)


لذلك.
وأيضاً؛ فإنه قَالَ: قرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ثُمَّ قرأ بأم القرآن، وهذا دليل عَلَى أنها ليست من أم القرآن، وإنما تقرأ قَبْلَ أم القرآن تبركاً بقراءتها.
وأيضاً؛ فليس فِي الحَدِيْث تصريح بأن جميع مَا فعله أبو هُرَيْرَةَ فِي هذه الصلاة نقله صريحاً عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما فِيهِ أن صلاته أشبه بصلاة النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غيره.
وخرج الدارقطني من حَدِيْث أَبِي أويس، عَن العلاء، عَن أَبِيه، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانَ إذا أم النَّاس قرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
وهذا مِمَّا تفرد بِهِ أبو أويس، وقد تكلم فِيهِ، وإن خرج لَهُ مُسْلِم، ووثقه غير واحد.
وليس - أَيْضاً - بصريح فِي الجهر، بل يحتمل أَنَّهُ كَانَ يقرأها سراً.
وقد روي بهذا الإسناد بعينة، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لا يجهر بِهَا، وسنذكره.
وخرج ابن عَبْد البر بهذا الإسناد: التصريح بالجهر بِهَا، بإسناد فِيهِ

(6/409)


النضر ابن سَلَمَة شاذان، وَهُوَ متهم بالكذب.
وخرج الدارقطني - أَيْضاً - من رِوَايَة أَبِي بَكْر الحنفي، عَن عَبْد الحميد بْن جَعْفَر، عَن نوح بْن أَبِي بلال، عَن سَعِيد المقبري، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: ((إذا قرأتم {الْحَمْدُ} فاقرءوا: بسم الله الرحمن الرحيم؛ إنها أحد آياتها)) ، وذكر فِيهِ فضل الفاتحة. قَالَ الحنفي: لقيت نوحاً، فحدثني عَن سَعِيد، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ - بمثله، ولم يرفعه.
وذكر الدارقطني فِي ((علله)) : أن وقفه أشبه بالصواب.
قُلتُ: ويدل عَلَى صحة قوله: أن ابن أَبِي ذئب رَوَى الحَدِيْث فِي فضل الفاتحة، عَن المقبري، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعاً، ولم يذكر فِيهِ: البسملة.
وروى إِبْرَاهِيْم بْن إِسْحَاق السراج، عَن عقبة بْن مكرم، عَن يونس بْن بكير: ثنا مِسْعَر، عَن مُحَمَّد بْن قيس، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجهر
بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
خرجه الدارقطني والحاكم.
وظن بعضهم أَنَّهُ إسناد صحيح، وليس كذلك؛ فإن السراج وهم فِي قوله فِي إسناده: ((حَدَّثَنَا مِسْعَر)) ، إنما هُوَ ((أبو معشر)) ، كذا قَالَ الدارقطني والخطيب، وقبلهما أبو بَكْر الإسماعيلي فِي ((مسند مِسْعَر)) ، وحكاه عَن أَبِي بَكْر ابن عمير الحافظ.
وَقَالَ البيهقي: الصواب أبو معشر.

(6/410)


وأبو معشر، وَهُوَ نجيح السندي، ضَعِيف جداً.
وخرج الدارقطني وغيره من حَدِيْث حميد، عَن الْحَسَن، عَن سمرة، قَالَ: كَانَتْ لرَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سكتتان: سكتة إذا قرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، وسكتة إذا فرغ من القراءة، فأنكر ذَلِكَ عمران بْن حصين، فكتبوا إلى أَبِي بْن كعب، فكتب: أن صدق سمرة.
ورواة هَذَا الحَدِيْث كلهم ثقات، كما ذكره غير واحد، لكن سماع الْحَسَن من سمرة مختلف فِيهِ.
وإن ثبت فهو دليل عَلَى الإسرار بالبسملة، لا عَلَى الجهر؛ لأنه صرح بأن سكتته الأولى كَانَتْ إذا قرأ البسملة، ومراده: إذا أراد قراءتها، فدل عَلَى أَنَّهُ كَانَ يقرأها فِي السكتة الأولى، وإلا فلا يَقُول أحد: إن السنة أن يقرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) جهزاً، ثُمَّ يسكت بعد ذَلِكَ سكتة، ثُمَّ يقرأ الفاتحة، ولا نقل هَذَا أحد عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عَن أحد من أصحابه، ولا قَالَ بِهِ قائل.
وقد رَوَى هَذَا الحَدِيْث قتادة، عَن الْحَسَن، عَن سمرة، وفسر قتادة السكتتين: إذا دَخَلَ فِي الصلاة، وإذا فرغ من القراءة.
وفي رِوَايَة قَالَ: سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ.
خرجه أبو داود وغيره.
وخرج - أَيْضاً - من حَدِيْث يونس، عَن الْحَسَن، عَن سمرة، قَالَ: حفظت سكتتين فِي الصلاة: سكتة إذا كبر الإمام حَتَّى يقرأ، وسكتة إذا فرغ.

(6/411)


ففي هذه الروايات كلها: تصريح بأن السكتة كَانَتْ بَيْن التكبير والقرءاة، كما فِي حَدِيْث أَبِي هُرَيْرَةَ.
وخرج الحَاكِم من طريق عَبْد الله بْن عَمْرِو بْن حسان، عَن شريك، عَن سَالِم الأفطس، عَن سَعِيد بْن جبير، عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجهر
بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
وَقَالَ: صحيح، ليس لَهُ علة.
وهذه زلة عظيمة؛ فإن عَبْد الله بْن عَمْرِو بْن حسان هَذَا هُوَ الواقعي، نسبه ابن المديني إلى الوضع. وَقَالَ الدارقطني: كَانَ يكذب. وَقَالَ أبو حاتم الرَّازِي: كَانَ لا يصدق.
وخرج الدارقطني هَذَا الحَدِيْث من طريق أَبِي الصلت الهروي، عَن عباد ابن العَوَّامِ، عَن شريك، وَقَالَ فِيهِ: يجهر فِي الصلاة.
وأبو الصلت هَذَا، متروك.
وخرجه الطبراني فِي ((أوسطه)) من طريق يَحْيَى بْن طلحة اليربوعي، عَن عباد بْن العَوَّامِ بهذا الإسناد، ولفظ حديثه: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) هزأ مِنْهُ المشركون، وقالوا: مُحَمَّد يذكر إله اليمامة، وكان مسيلمة يتسمى الرحمن، فلما نزلت هذه الآية أمر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا يجهر بِهَا.

(6/412)


وهذا لَوْ صح لدل عَلَى نسخ الجهر بِهَا، ولكن الصحيح أَنَّهُ مرسل، وكذلك رواه يَحْيَى بْن معين، عَن عباد بْن العَوَّامِ: ثنا شريك بْن عَبْد الله بْن سنان، عَن سَالِم الأفطس، عَن سَعِيد بْن جبير، فِي قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ
بِهَا} [الاسراء:110] قَالَ: نَزَلَتْ فِي ((بسم الله الرحمن الرحيم)) - وذكر الحَدِيْث بمعناه مرسلاً.
كذا خرجه عَنْهُ المفضل الغلابي فِي ((تاريخه)) .
وكذا خرجه أبو داود فِي ((المراسيل)) عَن عباد بْن موسى، عَن عباد بْن العَوَّامِ، وعنده: فأمر رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإخفائها، فما جهر بِهَا حَتَّى مات.
وكذا رواه يَحْيَى بْن آدم، عَن شريك، عَن سَالِم، عَن سَعِيد - مرسلاً.
وَهُوَ أصح.
وقد روي عَن إِسْحَاق بْن راهويه، [عَن إِسْحَاق]- موصولاً، ولا يصح.
ذكره البيهقي فِي ((المعرفة)) .
وروى عُبَيْدِ الله بْن عَمْرِو الرقي، عَن عَبْد الكريم الجزري، عَن أَبِي الزُّبَيْر، عَن ابن عُمَر، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ كَانَ إذا قام إلى الصلاة، فأراد أن يقرأ قَالَ: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
قَالَ ابن عَبْد البر: قَدْ رفعه غيره - أَيْضاً -، عَن ابن عُمَر، ولا يصح؛

(6/413)


لأنه موقوف عَلَى ابن عُمَر من فعله، كذلك رواه سَالِم ونافع ويزيد الفقير، عَن ابن عُمَر.
وَقَالَ البيهقي: الصواب موقوف.
وقد قَالَ العقيلي فِي ((كتابه)) : لا يصح فِي الجهر بالبسملة حَدِيْث مسند.
يعني: مرفوعاً إلى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وحكي مثله عَن الدارقطني.
وما ينقل عَنْهُ فِي ((سننه)) من تصحيح احاديث فِي هَذَا الباب، فلا توجد فِي جميع النسخ، بل فِي بعضها، ولعله من زيادة بعض الرواة.
وفي ترك الجهر بِهَا: حَدِيْث عَبْد الله بْن مغفل، وَهُوَ شاهد لحديث أَنَس الَّذِي خرجه مُسْلِم، وَهُوَ من رِوَايَة أَبِي نعامة الحنفي، عَن ابن عَبْد الله بْن مغفل، قَالَ: سمعني أَبِي وأنا فِي الصلاة أقول: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
فَقَالَ: أي بني، محدث، إياك والحدث. قَالَ: ولم أرأحداً من أصْحَاب النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أبغض إليهى الحدث فِي الإسلام - يعني: مِنْهُ -

(6/414)


قَالَ: وقد صليت مَعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومع أَبِي بَكْر ومع عُمَر ومع عُثْمَان، فَلَمْ أسمع أحداً منهم يقولها، إذا أنت صليت فقل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
خرجه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي، وَقَالَ: حَدِيْث حسن.
وخرجه النسائي مختصراً.
وأبو نعامة هَذَا، بصري، قَالَ ابن معين: ثقة.
قَالَ ابن عَبْد البر: هُوَ ثقة عِنْدَ جميعهم.
وله رِوَايَة عَن عَبْد الله بْن مغفل فِي الاعتداء فِي الدعاء والطهور.
وأما هَذَا الحديث، فَقَدْ رواه عَن ابن عَبْد الله بْن مغفل، عَن أَبِيه.
وابن عَبْد الله بْن مغفل، يقال: اسمه: يزيد.
وقد رَوَى هَذَا الحَدِيْث أبو حنيفة، عَن أَبِي سُفْيَان، عَن يزيد بْن عبد الله ابن مغفل، عَن أَبِيه.
وكذلك خرجه أبو بَكْر عَبْد العزيز بن جَعْفَر فِي ((كِتَاب الشافي)) لَهُ من طريق حَمْزَة الزيات، عَن أَبِي سُفْيَان، عَن يزيد بْن عَبْد الله بْن مغفل، قَالَ: صلى بنا إمام فجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: تأخر عَن مصلانا، تجنب عنا هَذَا الحرف الَّذِي أراك تجهر بِهِ؛ فإني صليت خلف النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بَكْر وعمر فَلَمْ يجهروا بِهَا. قَالَ لَهُ رَجُل: وعثمان؟ فسكت.
ويزيد هَذَا، لَمْ نعلم فِيهِ جرحاً، وقد حسن حديثه الترمذي.
وما قاله

(6/415)


طائفة من المتأخرين: إنه مجهول، كابن خزيمة وابن عَبْد البر، فَقَدْ علله ابن عَبْد البر، بأنه لَمْ يرو عَنْهُ إلاّ واحد فيكون مجهولاً؛ يجاب عَنْهُ: بأنه قَدْ رَوَى عَنْهُ اثنان، فخرج بذلك عَن الجهالة عِنْدَ كثير من أهل الحَدِيْث.
وقد رَوَى سُفْيَان الثوري، عَن خَالِد الحذاء، عَن أَبِي نعامة، عَن أَنَس، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يكن ولا أبو بَكْر ولا عُمَر يجهرون بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
كذا رواه غير واحد عَن سُفْيَان.
وخالفهم يَحْيَى بْن آدم، فرواه عَن سُفْيَان، عَن خَالِد، عَن أَبِي قلابة، عَن أنس.
ووهم فِيهِ، إنما هُوَ أبو نعامة -: قاله الإمام أحمد.
ثُمَّ اختلف الحفاظ:
فمنهم من قَالَ: الأشبه بالصواب رِوَايَة من رواه عَن أَبِي نعامة، عَن ابنَ مغفل، عَن أَبِيه، ومنهم: الدارقطني، وكلام أحمد يدل عَلِيهِ - أَيْضاً -، قالوا: لأنه رواه ثَلاَثَة عَن أَبِي نعامة بهذا الإسناد، وهم: الجريري وعثمان بْن غياث وراشد الحراني، فقولهم أولى من قَوْلِ خَالِد الحذاء وحده.
ومنهم من قَالَ: يجوز أن يكون القولان عَن أَبِي نعامة صحيحين.

(6/416)


ومن العجائب تأويل بعضهم لحديث ابن مغفل عَلَى مثل تأويله لحديث أَنَس، وأن المراد افتتاحهم بالفاتحة.
وهذا إسقاط لفائدة أول الحَدِيْث وآخره، والسبب الَّذِي لأجله رواه ابن مغفل، وإنما الصواب عكس هَذَا، وَهُوَ حمل حَدِيْث أَنَس عَلَى مثل مَا رواه ابن مغفل.
وروى عُبَيْدِ الله بْن عَمْرِو الرقي، عَن زيد بْن أَبِي أنيسة، عَن عَمْرِو بْن مرة، عَن نَافِع بْن جبير بْن مطعم، عَن أَبِيه، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يجهر فِي صلاته بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
ذكره الدارقطني، فِي ((علله)) .
وهذا الإسناد، رجاله كلهم ثقات مشهورون، ولكن لَهُ علة، وهي: أن هَذَا الحَدِيْث قطعة من حَدِيْث جبير بْن مطعم فِي صفة تكبير النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتعوذه فِي الصلاة، وقد رواه الثقات عَن عَمْرِو بْن مرة، عَن عاصم العنزي، عَنْ نَافِع بْن جبير، عَن أَبِيه بدون هذه الزيادة؛ فإنه تفرد بِهَا الرقي عَن زيد.
وروى الحافظ أبو أحمد العسال: ثنا عَبْد الله بن العباس الطيالسي: ثنا
عَبْد الرحيم بْن زياد السكري: ثنا عَبْد الله بْن إدريس، عَن عُبَيْدِ الله بْن عُمَر، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، قَالَ: صليت خلف رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بَكْر وعمر وعثمان، فَلَمْ يقنتوا ولم يجهروا.
وهذا الإسناد - أَيْضاً - كلهم ثقات مشهورون.

(6/417)


وهذا والذي قلبه خير من كثير من أحاديث الجهر الَّتِيْ يصححها الحَاكِم وأمثاله، ويحتجون بِهَا، ولكن لا نستحل كتمان مَا ذكر فِي تعليله.
فذكر الدارقطني فِي ((العلل)) أَنَّهُ تفرد بِهِ السكري، عَن ابن إدريس مرفوعاً.
قَالَ: ورواه زائدة والقطان ومحمد بْن بشر وابن نمير، عَن عُبَيْدِ الله، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر - موقوفاً.
قَالَ: وكذلك رواه مَالِك فِي ((الموطإ)) عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر - موقوفاً.
قَالَ: وَهُوَ الصواب.
وفي ((صحيح مُسْلِم)) عَن عَائِشَة، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وفيه: عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذا نهض فِي الثانية استفتح بـ
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ولم يسكت.
وروى منصور بْن مزاحم - وَهُوَ صدوق -: ثنا أبو أويس، عَن العلاء بن
عَبْد الرحمن، عَن أَبِيه، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لا يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
ذكره ابن عَبْد البر وغيره.
وهذا إسناد جيد.
وقد عضده: أن مسلماً خرج بهذا الإسناد بعينة حَدِيْث: ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين)) ، وذكر سورة الفاتحة بكمالها، فَلَمْ يذكر فيها البسملة.

(6/418)


وروى عمار بْن زربي، عَن المعتمر بْن سُلَيْمَان، عَن أَبِيه، عَن أَبِي عُثْمَان النهدي، عَن عُمَر بْن الخَطَّاب، قَالَ: كَانَ قراءة رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مداً {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حَتَّى يختم السورة.
عمار هَذَا، تكلم فِيهِ.
وليست هذه الأحاديث بدون الأحاديث الَّتِيْ يستدل بِهَا الحَاكِم وأمثاله عَلَى الجهر، بل إما أن تكون مساوية لها، أو أقوى مَعَ اعتضادها بالأحاديث الصحيحة والحسنة المخرجة فِي الصحاح والسنن، وتلك لا تعتضد بشيء من ذَلِكَ.
وفي الباب: أحاديث أخر، تركناها اختصاراً، وبعضها مخرج فِي بعض السنن - أَيْضاً.
وأما الآثار الموقوفة فِي المسألة فكثيرة جداً.
وإلى ذَلِكَ ذهب أكثر أهل العلم من أصْحَاب النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، منهم: أبو بَكْر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، ومن بعدهم من التابعين، وبه يَقُول سُفْيَان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق، لا يرون أن يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) . قالوا: ويقولها فِي نفسه. انتهى.
وحكى ابن المنذر هَذَا القول عَن سُفْيَان وأهل الرأي وأحمد وأبي عُبَيْدِ، قَالَ: ورويناه عَن عُمَر وعلي وابن مَسْعُود وعمار بْن ياسر

(6/419)


وابن الزُّبَيْر والحكم وحماد.
قَالَ: وَقَالَ الأوزاعي: الإمام يخفيها.
وحكاه ابن شاهين عَن عامة أهل السنة، قَالَ: وهم السواد الأعظم.
وروى شعبة، عَن حصين، عَن أَبِي وائل، قَالَ: كانوا لا يجهرون بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
وروى الأثرم بإسناده، عَن عُرْوَةَ بْن الزُّبَيْر، قَالَ: أدركت الأئمة وما يستفتحون القراءة إلاّ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وعن الأعرج - مثله.
وعن النخعي، قَالَ: مَا أدركت أحداً يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
وعنه، قَالَ: الجهر بِهَا بدعة.
وعن عَكْرِمَة، قَالَ: أنا أعرابي إن جهرت بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
وروى وكيع فِي ((كتابه)) عَن همام، عَن قتادة، قَالَ: الجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) أعرابية.
وعن سُفْيَان، عَن عَبْد الملك بْن أَبِي بشير، عَن عَكْرِمَة، عَن ابن عَبَّاس، قَالَ: الجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) قراءة الأعراب.
وعن إسرائيل، عَن جابر، عَن أَبِي جَعْفَر مُحَمَّد بْن عَلِيّ، قَالَ: لا يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
وهذه الرواية تدل عَلَى أَنَّهُ لا يصح مَا حكي عَن أَبِي جَعْفَر وأهل البيت من الجهر بِهَا، ولعل الشيعة تفتري ذَلِكَ عليهم.

(6/420)


وممن روي عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لا يجهر بِهَا: بَكْر المزني والحسن وابن سيرين والشعبي وأبو إِسْحَاق السبيعي وعمر بْن عَبْد العزيز - فِي رِوَايَة عَنْهُ، رواها الوليد ابن مُسْلِم، عَن عَبْد الله بْن العلاء، عَنْهُ -، وقتادة وابن أَبِي ليلى وابن شبرمة والحسن بْن حي.
وَقَالَ الْحَسَن: الجهر بِهَا أعرابية.
خرجه حرب الكرماني.
وروي عَنْهُ من وجه آخر، قَالَ: الجهر بِهَا قراءة الأعراب.
وأكثر هؤلاء يكرهون الجهر، كما أنكره عَبْد الله بْن مغفل، وكما أنكره من قَالَ: ذَلِكَ قراءة الأعراب، ومن قَالَ: هُوَ بدعة، ونص أحمد عَلَى كراهته.
وروي عَن طائفة، أَنَّهُ يخير بَيْن الجهر والإسرار، ولا يكره الجهر وإن كَانَ الإسرار أفضل، وحكي هَذَا عَن ابن أَبِي ليلى وإسحاق، ورجحه طائفة من أهل الحَدِيْث.
ومنهم من قَالَ: الجهر أفضل.
وقالت طائفة: يجهر بِهَا وَهُوَ السنة، وَهُوَ قَوْلِ الشَّافِعِيّ وأصحابه وأبي ثور، وروي عَن الليث بْن سعد.
قَالَ ابن المنذر: وروينا عَن عُمَر وابن عَبَّاس أنهما كانا يستفتحان بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) . انتهى.
وليس عَن ابن عُمَر تصريح بالجهر، بل بقراءة البسملة.
وأما المروي عَن عُمَر، فَقَدْ ثبت عَنْهُ فِي ((صحيح مُسْلِم)) من حَدِيْث أَنَس، أَنَّهُ لَمْ

(6/421)


يكن يجهر بِهَا، فلعله جهر بِهَا مرة ليبين جواز ذَلِكَ.
وخرج ابن أَبِي شيبة بإسناد جيد، عَن الأسود، قَالَ: صليت خلف عُمَر سبعين صلاة، فَلَمْ يجهر فيها بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) .
قَالَ ابن عَبْد البر: روي عَن عُمَر وعلي وعمار بْن ياسر، أنهم كانوا يجهرون بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، والطرق ليست بالقوية، وقد قدمنا الاختلاف عنهم فِي ذَلِكَ.
قَالَ: وروي عَن عُمَر فيها ثلاث روايات: أحدها: أَنَّهُ كَانَ لا يَقْرَؤُهَا.
والثانية: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا سراً. والثالثة: أَنَّهُ جهر بِهَا.
وكذلك اختلف عَن أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الجهر والإسرار، وعن ابن عَبَّاس - أَيْضاً -، والأكثر عَنْهُ الجهر بِهَا، وعليه جماعة أصحابه.
وذكر ابن عَبْد البر جماعة ممن كَانَ يرى الجهر بِهَا، منهم: مكحول وعمر ابن عَبْد العزيز ومحمد بْن كعب القرظي، قَالَ: وَهُوَ أحد قولي ابن وهب، إلا أَنَّهُ رجع عَنْهُ إلى الإسرار بِهَا.
وعن عَطَاء الخراساني، قَالَ: الجهر بِهَا حسن.
وَقَالَ الزُّهْرِيّ: من سَنَة الصلاة أن يقرأ: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ثُمَّ فاتحة الكتاب، ثُمَّ يقرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ثُمَّ يقرأ بسورة. وكان يَقُول: أول من قرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم) سراً بالمدينة عَمْرِو بْن سَعِيد بْن العاص.

(6/422)


خرجه البيهقي.
ومراسيل الزُّهْرِيّ من أردإ المراسيل.
وإنما عنى أول من أسر بِهَا ممن أدركه، فَقَدْ ثبت عَن أَبِي بَكْر وعمر وعثمان الإسرار بِهَا، فلا عبرة بمن حدث بعدهم وبعد انتقال عَلِيّ بْن أَبِي طالب من المدينة؛ فإن هؤلاء هم الخُلَفَاء الراشدون الذين أمرنا رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باتباع سنتهم، وهم كانوا لا يجهرون بِهَا.
قَالَ البيهقي: وروينا الجهر بِهَا عَن فقهاء مكة: عَطَاء وطاوس ومجاهد وسعيد بْن جبير.
وَقَالَ الإمام أحمد - فِي رِوَايَة مهنا -: عامة أهل المدينة يجهر بِهَا: الزُّهْرِيّ
وربيعة، وذكر ابن عَبَّاس وابن الزُّبَيْر.
وأما مَا ذكره الخَطِيْب فِي كتابه فِي الجهر بالبسملة من الآثار الكثيرة فِي المسألة حَتَّى اعتقد بعض من وقف عَلِيهِ أَنَّهُ قَوْلِ الجمهور، فغالب آثاره أو كثير مِنْهَا معلول لا يصح عِنْدَ التحقيق.
وكثير منهم يروي الجهر والإسرار، وقد حكي عَن الدارقطني، أَنَّهُ قَالَ فِي المنقول عَن الصَّحَابَة [ ... ] منهم: عَمْرِو بْن دينار وابن جُرَيْج ومسلم بْن خَالِد، وعن بعض أهل المدينة دون سائر الأمصار، ولقلة من كَانَ يجهر بِهَا اعتقد بعضهم أن الجهر بِهَا بدعة، وأنه من شعار أهل الأهواء كالشيعة، حَتَّى تركه بعض أئمة الشافعية، منهم: ابن أَبِي هُرَيْرَةَ لهذا المعنى.

(6/423)


وكان سُفْيَان الثوري وغيره من أئمة الأمصار يعدون الإسرار بالبسملة من جملة مسائل أصول الدين الَّتِيْ يتميز بِهَا أهل السنة عَن غيرهم، كالمسح عَلَى الخفين ونحوه، حَتَّى قَالَ سُفْيَان لشعيب بْن حرب: لا ينفعك مَا كتبت حَتَّى ترى أن إخفاء: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) أفضل من الجهر بِهَا.
وَقَالَ وكيع: لا يصلى خلف من يجهر بِهَا.
وَقَالَ أحمد فِي الصلاة خلف من يجهر بِهَا: إن كَانَ يتأول فلا بأس بِهِ، وإن كَانَ غير ذَلِكَ فلا يصلى خلفه.
يشير إلى أَنَّهُ يصلي خلف من جهر بِهَا من أهل العلم والحديث، دون من يجهر بِهَا من أهل الأهواء، فإنهم المعروفون بالجهر بِهَا.
ونقل أبو طالب، عَن أحمد، وسأله: يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ؟ قَالَ: بالمدينة نَعَمْ، وهاهنا من كَانَ يرى أنها آية من كِتَاب الله مثلما قَالَ ابن عَبَّاس وأبو هُرَيْرَةَ وابن الزُّبَيْر كانوا يجهرون بِهَا، ويتأولونها من كِتَاب الله.
قَالَ القاضي أبو يعلى: ظاهر هَذَا أَنَّهُ أجاز الجهر لمن كَانَ بالمدينة دون غيرها من البلاد. قَالَ: ولعله ذهب فِي هَذَا إلى أن أهل المدينة يرون الجهر بِهِا، فإذا خافت استنكروا فعله، وامتنعوا من الصلاة خلفه.
قُلتُ: إنما مراد أحمد الإخبار عَن الجهر بِهَا أَنَّهُ سائغ لمثل أهل المدينة ومن يتأول من غيرهم من أهل الحَدِيْث والعلم، وليس مراده أَنَّهُ يرى الجهر بِهَا بالمدينة.
وقد حكى أبو حفص العكبري رِوَايَة أَبِي طالب عَن أحمد، بلفظ صريح فِي هَذَا المعنى، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: سئل أحمد: هَلْ

(6/424)


يصلي الرَّجُلُ خلف من يجهر بـ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ؟ قَالَ: بالمدينة نَعَمْ، وهاهنا من كَانَ يتأول - وذكر بقية الرواية.
وهذا تصريح بالمعنى الَّذِي ذكرناه، وَهُوَ أَنَّهُ إنما يسوغ الخلاف فِي هذه المسألة من مثل هؤلاء العلماءالمجتهدين، دون أهل الأهواء الذين كَانَتْ هذه المسألأة مشهورة عنهم.
ولذلك نقل مهنا عَن أحمد، أن عامة أهل المدينة يرون الجهر بالبسملة.
ونقل صالح بْن أحمد، عَن أَبِيه، قَالَ: نحن لا نرى الجهر ولا نقنت؛ فإن جهر رَجُل - وليس بصاحب بدعة، يتبع مَا روي عَن ابن عَبَّاس وابن عُمَر - فلا بأس بالصلاة خلفه والقنوت هكذا.
ونقل عَنْهُ يعقوب بْن بختان، قَالَ: يصلى خلف من يجهر من الكوفيين، إلا أن يكون رافضياً.
واختلفت الرواية عَن أحمد فِي قراءة البسملة بَيْن السورتين فِي قيام رمضان: فروي عَنْهُ، أَنَّهُ يسر بِهَا ولا يجهر.
وروي عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: أرجو.
وظاهر هذه الرواية: يدل عَلَى أَنَّهُ لا يكره الجهر بِهَا فِي هَذَا الموطن خاصة؛ فإن النفل يسامح فِيهِ وخصوصاً قيام الليل؛ فإنه لا يكره الجهر بالقراءة فِيهِ للمنفرد.
وإلى هَذَا القول ذهب أبو عُبَيْدِ وعلي بْن المديني -: حكاه عنهما الأثرم.
وذهبت طائفة إلى أَنَّهُ لا يقرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) فِي الصلاة سراً ولا جهراً، هَذَا قَوْلِ مَالِك وأصحابه، ورخص فِيهِ فِي السور بعد الفاتحة فِي قيام رمضان خاصة.
وحكي عَنْهُ إجازته فِي اول الفاتحة وغيرها للمتهجدين، وفي النوافل.
وروي عَنْهُ، أَنَّهُ لا بأس بقراءتها فِي الفرائض والنوافل -: ذكره القاضي إِسْمَاعِيل فِي

(6/425)


((مبسوطه)) من طريق ابن نَافِع، عَن مَالِك.
قَالَ ابن عَبْد البر: لا يصح هَذَا عندنا عَن مَالِك، إنما هُوَ عَن صاحبه عَبْد الله بْن نَافِع.
وكذلك روي عَن عُمَر بْن عَبْد العزيز، أَنَّهُ لا يَقْرَؤُهَا سراً ولا جهراً من وجه فِيهِ نظر -: ذكره ابن سعد فِي ((طبقاته)) .
وكذلك قَالَ الأوزاعي: لا يقرأ بِهَا سراً ولا جهراً -: نقله عَنْهُ الوليد بْن مُسْلِم.
قَالَ الوليد: فذكرت ذَلِكَ لخليد، فأخبرني أن الْحَسَن كَانَ لا يَقْرَؤُهَا. فَقَالَ الَّذِي سأله: أكان رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسرها؟ فَقَالَ الْحَسَن: لَوْ أسر قراءتها فيما يسر بِهَا لجهر بِهَا فيما يجهر، ولكنها أعرابية.
قَالَ الوليد: وأقول أنا: إن قرأتها فحسن، وذلك لما أخبرنا بِهِ عَبْد الله بْن عُمَر بْن حفص، عَن نَافِع، عَن ابن عُمَر، أَنَّهُ كَانَ لا يدع قراءة ((بسم الله الرحمن الرحيم)) حِينَ يستفتح الحمد والسورة الَّتِيْ بعدها.
خرجه حرب الكرماني.
واختاره ابن جرير الطبري، وَهُوَ مذهب مَالِك والأوزاعي.
وبهذا المروي عَن ابن عُمَر استدل أحمد عَلَى قراءتها ـ وبالمروي عَن ابن عَبَّاس وابن الزُّبَيْر وأبي هُرَيْرَةَ.
ومالك ومن وافقه تأولوا ظاهر حَدِيْث أَنَس، وعند التحقيق فِي التأمل إنما يدل عَلَى نفي الجهر لا عَلَى قراءتها

(6/426)


سراً، وبذلك تجتمع ألفاظ الحَدِيْث وعامة الأدلة فِي هذه المسألة. والله أعلم.
وأكثر من يرى قراءتها فِي الصلاة يرى قراءتها فِي الفاتحة والسورة الَّتِيْ بعدها.
وقالت طائفة قليلة منهم: إنما يقرأ بِهَا فِي ابتداء الفاتحة دون السورة الَّتِيْ بعدها، روي عَن طاوس، وَهُوَ قَوْلِ سُفْيَان الثوري وسليمان بْن داود الهاشمي، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَبِي حنيفة.
وروى يوسف بْن أسباط، عَن الثوري، قَالَ: من قرأ ((بسم الله الرحمن الرحيم)) فِي أول القرآن أجزأه لكل القرآن.
وأعلم: أن الجهر بقراءة البسملة مَعَ الفاتحة ليس مبنياً عَلَى القول بأن البسملة آية من سورة الفاتحة وغيرها، كما ظنه طائفة من النَّاس من أصحابنا وغيرهم، وإنما الصحيح عِنْدَ المحققين من أصحابنا وأصحاب الشَّافِعِيّ وغيرهم أَنَّهُ غير مبني عَلَى ذَلِكَ.
ولهذا اختلفت الرواية عَن أحمد: هَلْ البسملة آية من الفاتحة، أو لا؟ وأكثر الروايات عَنْهُ عَلَى أنها ليست من الفاتحة، وَهُوَ قَوْلِ أكثر أصحابه.
ولم تختلف عَنْهُ فِي أَنَّهُ لا يجهر بِهَا، وكذا قَالَ الجوزجاني وغيره من فقهاء الحَدِيْث.
واختلف قَوْلِ الشَّافِعِيّ: هَلْ البسملة آية من كل سورة سوى الفاتحة، وَهُوَ يرى الجهر بِهَا فِي السور - أَيْضاً.

(6/427)


وحينئذ؛ فلا يصح أن يؤخذ الجهر بِهَا من القول بأنها آية من الفاتحة، كما يفعله كثير من النَّاس؛ فإنهم يحكون عمن قَالَ: هِيَ آية من الفاتحة: الجهر بِهَا، وليس ذَلِكَ بلازم.
ومما يستحب الإتيان بِهِ قَبْلَ القراءة فِي الصلاة: التعوذ، عِنْدَ جمهور العلماء.
واستدلوا بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] والمعنى: إذا أردت القراءة، هكذا فسر الآية الجمهور، وحكي عَن بعض المتقدمين، منهم: أبو هُرَيْرَةَ وابن سيرين وعطاء: التعوذ بعد القراءة.
والمروي عَن ابن سيرين: قَبْلَ قراءة أم القرآن وبعدها، فلعله كَانَ يستعيذ لقراءة السورة، كما يقرأ البسملة لها - أَيْضاً.
وقد جاءت الأحاديث بأن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يتعوذ قَبْلَ القراءة فِي الصلاة:
فروى عَمْرِو بْن مرة، عَن عاصم العنزي، عَن [ابن] جبير بْن مطعم، عَن أَبِيه، أَنَّهُ رأى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاة، قَالَ: ((الله أكبر كبيراً، والله أكبر كبيراً، والله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، سبحان الله بكرة وأصيلاً)) - ثلاثاً - ((أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من نفخه ونفثه وهمزه)) . قَالَ: نفثه الشعر، ونفخه الكبر، وهمزه الموتة.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان فِي

(6/428)


((صحيحه)) والحاكم، وصححه.
وابن جبير، هُوَ: نَافِع، وقع مسمى فِي رِوَايَة كذلك. وعاصم العنزي، قَالَ أحمد: لا يعرف. وَقَالَ غيره: رَوَى عَنْهُ غير واحد. ذكره ابن حبان فِي ((ثقاته)) .
وروى عَطَاء بْن السائب، عَن أَبِي عَبْد الرحمن السلمي، عَن ابن مَسْعُود، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ كَانَ إذا دَخَلَ فِي الصلاة يَقُول: ((اللهم إني أعوذ بك من الشيطان وهمزه ونفخه ونفثه)) .
خرجه ابن ماجه والحاكم، وهذا لفظه.
وَقَالَ: صحيح الإسناد؛ فَقَدْ استشهد البخاري بعطاء بْن السائب.
وروى عَلِيّ بْن عَلِيّ الرفاعي، عَن أَبِي المتوكل، عَن أَبِي سَعِيد الْخُدرِيَّ، قَالَ: كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر، ثُمَّ يَقُول: ((أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.
وَقَالَ: كَانَ يَحْيَى بْن سَعِيد يتكلم فِي عَلِيّ بْن عَلِيّ. وَقَالَ أحمد: لا يصح هَذَا الحَدِيْث.

(6/429)


كذا قَالَ، وإنما تكلم فِيهِ يَحْيَى بْن سَعِيد من جهة أَنَّهُ رماه بالقدر، وقد وثقه وكيع ويحيى بْن معين وأبو زُرْعَة.
وَقَالَ أحمد: لا بأس بِهِ، إلا أَنَّهُ رفع أحاديث.
وَقَالَ أبو حاتم: ليس بِهِ بأس، ولا يحتج بحديثه.
وإنما تكلم أحمد فِي هَذَا الحَدِيْث؛ لأنه روي عَن عَلِيّ بْن عَلِيّ، عَن الْحَسَن - مرسلاً -، وبذلك أعله أبو داود، وخرج فِي ((مراسيله)) من طريق عمران بْن مُسْلِم، عَن الْحَسَن، أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذا قام من الليل يريد أن يتهجد، يَقُول - قَبْلَ أن يكبر: ((لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، والله أكبر كبيراً الله أكبر كبيراً، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه)) ، ثُمَّ يَقُول: ((الله أكبر)) .
وفي الباب أحاديث أخر مرفوعة، فيها ضعف.
واعتماد الإمام أحمد عَلَى المروي عَن الصَّحَابَة فِي ذَلِكَ؛ فإنه روي التعوذ قَبْلَ القراءة فِي الصلاة عَن عُمَر بْن الخَطَّاب وابن مَسْعُود وابن عُمَر وأبي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ قَوْلِ جمهور العلماء كما تقدم.
والجمهور عَلَى أَنَّهُ غير واجب، وحكي وجوبه عَن عَطَاء والثوري وبعض الظاهرية، وَهُوَ قَوْلِ ابن بطة من أصحابنا.
والجمهور عَلَى أَنَّهُ يسره فِي الصلاة الجهرية، وَهُوَ قَوْلِ ابن عُمَر وابن مَسْعُود والأكثرين.
وروي عَن أَبِي هُرَيْرَةَ الجهر بِهِ.
وللشافعي قولان.
وعن ابن أَبِي ليلى: الإسرار والجهر سواء.

(6/430)


واختلفوا: هَلْ يختص التعوذ بالركعة الأولى، أم يستحب فِي كل ركعة؟ عَلَى قولين:
أحدهما: يستحب فِي كل ركعة، وَهُوَ قَوْلِ ابن سيرين والحسن والشافعي وأحمد - فِي رِوَايَة.
والثاني: أَنَّهُ يختص بالركعة الأولى، وَهُوَ قَوْلِ عَطَاء والحسن والنخعي والثوري وأبي حنيفة وأحمد - فِي رِوَايَة عَنْهُ.
وَقَالَ هِشَام بْن حسان: كَانَ الْحَسَن يتعوذ فِي كل ركعة، وكان ابن سيرين يتعوذ فِي كل ركعتين.
وذهب مَالِك وأصحابه إلى أَنَّهُ لا يتعوذ فِي الصلاة المكتوبة، بل يفتتح بعد التكبير بقراءة الفاتحة من غير استعاذة ولا بسملة، واستدلوا بظاهر حَدِيْث أَنَس: كَانَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفتتح الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وَهُوَ الحَدِيْث الَّذِي خرجه البخاري فِي أول هَذَا الباب.
ويجاب عَنْهُ؛ بأنه إنما أراد أَنَّهُ يفتتح قراءة الصَّلاة بالتكبير والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وافتتاح القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إما أن يراد بِهِ افتتاحها بقراءة الفاتحة كما يَقُول الشَّافِعِيّ، أو افتتاح قراءة الصلاة الجهرية بكلمة {الْحَمْدُ} من غير بسملة كما يقوله الآخرون.
ودل عَلِيهِ: حَدِيْث أَنَس الَّذِي خرجه مُسْلِم صريحاً.
وعلى التقديرين، فلا ينفي ذَلِكَ أن يكون يَقُول قَبْلَ القراءة ذكراً، أو دعاء، أو استفتاحاً، أو تعوذاً، أو بسملةً؛ فإنه لا يخرج بذلك عَن أن يكون افتتح القراءة بالفاتحة، أو افتتح الجهر بالقراءة بكلمة {الْحَمْدُ} .
ولا

(6/431)


يمكن حمل الحَدِيْث عَلَى أَنَّهُ كَانَ أول مَا يفتتح بِهِ الصلاة قراءة كلمة
{الْحَمْدُ} ؛ فإنه لَوْ كَانَ كذلك لكان لا يفتتح الصلاة بالتكبير، وهذا باطل غير مراد قطعاً. والله أعلم.

(6/432)


90 - بَاب

(6/433)


745 - حَدَّثَنَا ابن أَبِي مريم: أنا نَافِع بْن عُمَر: حَدَّثَنِي ابن أَبِي مليكة، عَن أسماء بنة أَبِي بَكْر، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الكسوف، فقام فأطال القيام، ثُمَّ ركع فأطال الركوع، ثُمَّ قام فأطال القيام، ثُمَّ ركع فأطال الركوع، ثُمَّ رفع، ثُمَّ سجد فأطال السجود، ثُمَّ رفع، ثُمَّ سجد فأطال السجود، ثُمَّ قام فأطال القيام، ثُمَّ ركع فأطال الركوع، ثُمَّ رفع فأطال القيام، ثُمَّ ركع فأطال الركوع، ثُمَّ رفع فسجد فأطال السجود، ثُمَّ رفع، ثُمَّ سجد فأطال السجود، ثُمَّ انصرف، فَقَالَ: ((قَدْ دنت مني الجنة حَتَّى لَوْ اجترأت عَلَيْهَا لجئتكم بقطاف من قطافها، ودنت مني النار حَتَّى قُلتُ: أي رب، وأنا معهم؟ فإذا امرأة)) - حسبت أَنَّهُ قَالَ: تخدشها هرة - ((قُلتُ: مَا شأن هذه؟ قالوا: حبستها حَتَّى ماتت جوعاً لا هِيَ أطعمتها ولا هِيَ أرسلتها تأكل)) .
قَالَ نَافِع: حسبته من خشيش الأرض - أو خشاش.
قَالَ الخطابي: خشيش ليس بشيء، إنما هُوَ خشاش - مفتوحة الخاء -، وَهُوَ حشرات الأرض وهوامها، فأما الخشاش - بكسر الخاء -، فهو العود الَّذِي يجعل فِي أنف البعير.

(6/433)


وفي ((الفائق)) : خشاش الأرض: هوامها. الواحدة: خشاشة، سميت بذلك لاندساسها فِي التراب من خش فِي الشيء إذا دَخَلَ فِيهِ، يخش وخشه غيره فخشه، ومنه الخشاش؛ لأنه يخش فِي أنف البعير، انتهى.
وفي هَذَا الحَدِيْث فوائد كثيرة:
مِنْهَا: مَا يتعلق بصفة صلاة الكسوف، ويأتي الكلام عَلِيهِ فِي موضعه - إن شاء الله - سبحانه وتعالى -.
ومنها: أَنَّهُ يدل عَلَى وجود الجنة والنار، كما هُوَ مذهب أهل السنة والجماعة.
ومنها: مَا يدل عَلَى تحريم قتل الحيوان غير المؤذي، لغير مأكله.
ومنها: مَا هُوَ مقصوده بإيراد الحَدِيْث فِي هذا الباب: أن المصلي لَهُ النظر فِي صلاته إلى مَا بَيْن يديه، وما كَانَ قريباً، ولا يقدح ذَلِكَ فِي صلاته.
ولكن المنظور إليه نوعان:
أحدهما: مَا هُوَ من الدنيا الملهية، فهذا يكره النظر إليه فِي الصلاة؛ فإنه يلهي.
وقد دل عَلِيهِ حَدِيْث الإنبجانية، وقد سبق.
والثاني: مَا ينظر إليه مِمَّا يكشف من أمور الغيب، فالنظر إليه غير قادح فِي الصلاة؛ لأنه كالفكر فِيهِ بالقلب، ولو فكر فِي الجنة والنار بقلبه فِي صلاته كَانَ حسناً.
وقد كَانَ ذَلِكَ حال كثير من السلف، ومنهم من كَانَ يكشف لقلبه عَن بعض ذَلِكَ حَتَّى ينظر إليه بقلبه

(6/434)


بنور إيمانه، وَهُوَ من كمال مقام الإحسان.
وأما النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه كشف ذَلِكَ لَهُ فرآه عياناً بعين رأسه، هَذَا هُوَ الظاهر، ويحتمل أن يكون جلي ذَلِكَ لقلبه.
وقوله: ((أي رب، وأنا معهم)) يشير إلى قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] ، فخشي أن يكون إدناؤها مِنْهُ عذاباً أرسل عَلَى الأمة، فاستفهم عَن ذَلِكَ، وَقَالَ: ((أتعذبهم وأنا معهم؟)) بحذف همزة الاستفهام.
وهذا القول، الظاهر: أَنَّهُ كَانَ بقلبه دون لسانه، وكذلك سؤاله عَن المرأة؛ فإن عالم الغيب فِي هذه الدار إنما تدركه الأرواح دون الأجساد - غالباً -، وقد تدرك بالحواس الظاهرة لمن كشف الله لَهُ ذَلِكَ من أنبيائه ورسله، ويحتمل أن يكون قوله:
((وأنا فيهم)) بلسانه؛ لأن هَذَا من بَاب الدعاء؛ فإنه إشارة مِنْهُ إلى أَنَّهُ موعود بأنه لا تعذب أمته وَهُوَ فيهم.
يدل عَلَى ذَلِكَ: مَا رَوَى عَطَاء بْن السائب، عَن أَبِيه، عَن عَبْد الله بْن عَمْرِو بْن العاص، قَالَ: كسفت الشمس عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر الحَدِيْث بطوله، وفيه: فجعل ينفخ فِي آخر سجوده فِي الركعة الثانية، ويبكي، ويقول: ((لَمْ تعدني هَذَا وأنا فيهم، لَمْ تعدني هَذَا ونحن نستغفرك)) - وذكر بقية الحَدِيْث.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.

(6/435)


وأما سؤاله عَن المرأة فلا يحتمل أن يكون بلسانه. والله أعلم.
وفي الجملة؛ فإن كَانَ البخاري ذكر هَذَا الباب للاستدلال بهذا الحَدِيْث عَلَى أن نظر المصلي إلى مَا بَيْن يديه غير قادح فِي صلاته، فَقَدْ ذكرنا أن الحَدِيْث لا دليل فِيهِ عَلَى النظر إلى الدنيا ومتعلقاتها، وإن كَانَ مقصوده الاستدلال بِهِ عَلَى استحباب الفكر للمصلي فِي الآخرة ومتعلقاتها، وجعل نظر النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ إلى الجنة بقلبه كَانَ حسناً؛ لأن المصلي مأمور بأن يعبد الله كأنه يراه، فينبغي لَهُ أن يسغرق فكره فِي قربه من الله، وفيما وعد الله أولياءه، وتوعد بِهِ أعداءه، وفي الفكر فِي معاني مَا يتلوه من القرآن.
وقد كَانَ السلف الصالح ينجلي الغيب لقلوبهم فِي الصلاة، حَتَّى كأنهم ينظرون إليها رأى عين، فمن كَانَ يغلب عَلِيهِ الخوف والخشية ظهر لقلبه فِي الصلاة صفات الجلال من القهر والبطش والعقاب والانتقام ونحو ذَلِكَ، فيشهد النار ومتعلقاتها وموقف القيامة، كما كَانَ سَعِيد بْن عَبْد العزيز - صاحب الأوزاعي - يَقُول: مَا دخلت فِي الصلاة قط إلا مثلت لِي جهنم.
ومن كَانَ يغلب عَلِيهِ المحبة والرجاء، فإنه مستغرق فِي مطالعة صفات الجلال والكمال والرأفة والرحمة والود واللطف ونحو ذَلِكَ، فيشهد الجنة ومتعلقاتها، وربما شهد يوم المزيد وتقريب المحبين فِيهِ.
وقد روي عَن أَبِي ريحانة - وَهُوَ من الصَّحَابَة -، أَنَّهُ صلى ليلة، فما انصرف حَتَّى أصبح، وَقَالَ: مَا زال قلبي يهوى فِي الجنة وما أعد الله فيها

(6/436)


لأهلها حَتَّى أصبحت.
وعن ابن ثوبان - وكان من عباد أهل الشام -، أَنَّهُ صلى ليلة ركعة الوتر، فما انصرف إلى الصبح، وَقَالَ: عرضت لِي روضة من رياض الجنة، فجعلت أنظر إليها حَتَّى أصبحت.
يعني: ينظرها بعين قلبه.

(6/437)


91 - بَاب
رفعِ البصرِ إلى الإمَامِ فِي الصَّلاَةِ
وقالت عَائِشَة: قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حِينَ رأيتموني تأخرت)) .
حَدِيْث عَائِشَة، يأتي فِي ((أبواب: الكسوف)) - إن شاء الله تعالى -، وليس فِيهِ رفع البصر إلى الإمام فِي الصلاة، إنما فِيهِ مد البصر إلى مَا بَيْن يدي المصلي، وقد سبق القول فِي هَذَا في الباب الماضي، وأن النظر إلى الآخرة ومتعلقاتها فِي الصلاة حسن، سواء كَانَ نظر عين أو قلب.
وقد خرج فِي هَذَا الباب أربعة أحاديث:
الأول:

(6/438)


746 - حَدَّثَنَا موسى: ثنا عَبْد الواحد: ثنا الأعمش، عَن عمارة بْن عمير، عَن أَبِي معمر، قَالَ: قلنا لخباب: أكان رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ فِي الظهر والعصر؟ قَالَ نَعَمْ. قلنا: بم كنتم تعرفون ذَلِكَ؟ قَالَ: باضطراب لحيته.
فهذا فِيهِ دليل عَلَى أن المأموم ينظر إلى إمامه، ويراعي أقواله فِي قيامه؛ لأنهم إنما شاهدوا اضطراب لحية النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صلاته بمدهم بصرهم إليه فِي قيامه.
وهذا قَدْ يقال: إنه يختص بالصلاة خلف النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

(6/438)


لما يترتب عَلَى ذَلِكَ من معرفة أفعاله فِي صلاته فيقتدي بِهِ، فأما غيره من الأئمة فلا يحتاج إلى النظر إلى لحيته، فالأولى بالمصلى وراءه أن ينظر إلى محل سجوده، كما سبق.
الحَدِيْث الثاني:

(6/439)


747 - حَدَّثَنَا حجاج: ثنا شعبة، أنبأنا أبو إِسْحَاق، قَالَ: سَمِعْت عَبْد الله بْن يزيد يخطب: حَدَّثَنَا البراء - وكان غير كذوب -، أنهم كانوا إذا صلوا مَعَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرفع رأسه من الركوع، قاموا قياماً حَتَّى يروه قَدْ سجد.
قَدْ سبق هَذَا الحَدِيْث فِي ((بَاب: متى يسجد من وراء الإمام)) من حَدِيْث سُفْيَان، عَن أَبِي إِسْحَاق، وهاهنا خرجه من رِوَايَة شعبة: أنبأنا أبو إِسْحَاق.
ومراد شعبة بقوله: ((أنبأنا)) كقوله: ((أخبرنا)) أو ((حَدَّثَنَا)) ، وليس مراده - كما يقوله المتأخرون -: الإجازة.
وفي الحَدِيْث: دليل عَلَى أن المأموم يراقب حال إمامه فِي ركوعه وسجوده؛ ليسجد بعد سجوده، وتقع أفعاله بعد أفعال إمامه، وهذا حكم عام فِي جميع النَّاس، فإن اقتداء المأموم بأفعال إمامه الَّتِيْ يشاهدها أولى من الاكتفاء بمجرد سماع تكبيره؛ فإنه قَدْ ينهي تكبيره قَبْلَ أن ينهي فعله، فلذلك كانوا يراعون تمام سجود النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستقراره عَلَى الأرض، حَتَّى يسجدوا بعده.
قَالَ أصحابنا وغيرهم: ولهذا المعنى كره أن يكون موقف الإمام أعلى

(6/439)


من المأموم؛ لأن المأموم يحتاج إلى رفع بصره إلى إمامه، فإذا كَانَ عالياً عَلِيهِ احتاج إلى كثرة رفع بصره، وَهُوَ مكروه فِي الصلاة.
الحَدِيْث الثالث:

(6/440)


748 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل: حَدَّثَنِي مَالِك، عَن زيد بْن أسلم، عَن عَطَاء بْن يسار، عَن عَبْد الله بْن عَبَّاس، قَالَ: خسفت الشمس عَلَى عهد رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلى، قالوا: يَا رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رأيناك تناولت شيئاً فِي مقامك، ثُمَّ رأيناك تكعكعت؟ قَالَ: ((إني رأيت الجنة فتناولت مِنْهَا عنقوداً، ولو أخذته لأكلتم مِنْهُ مَا بقيت الدنيا)) .
قَالَ الخطابي: التكعكع التأخر، واصله فِي الجبن. كع الرَّجُلُ عَن الأمر إذا جبن وتأخر. وأصله: تكعع، فأدخل الكاف لئلا: يجمع بَيْن حرفين.
ويقال: كاع يكيع: مثله. انتهى.
وفي الحَدِيْث: دليل عَلَى أن رفع بصر المصلي إلى مَا بَيْن يديه، ومد يده لتناول شيء قريب مِنْهُ لا يقدح فِي صلاته.
وليس فِيهِ نظر المأموم إلى إمامه، إنما فِيهِ نظر الإمام إلى مَا بَيْن يديه، وقد تقدمت الإشارة إلى أن هَذَا النظر والتناول ليس هُوَ مَا يكره فِي الصلاة؛ لأنه نظر إلى الآخرة لا إلى الدنيا، ومد يده إلى العنقود كَانَ فِيهِ مصلحة دينية، ليري أصحابه بعض مَا وعدوا به عياناً فِي الجنة، لكنه أوحي إليه أن لا يفعل؛ فإنه كَانَ يصير الغيب شهادة، فتزول فائدة التكليف بالإيمان بالغيب.
وقوله: ((فتناولت مِنْهُ عنقوداً)) . يعني: أَنَّهُ مد يده يريد تناول العنقود،

(6/440)


ولكنه لَمْ يتناوله، ولهذا قَالَ: ((لَوْ أخذته لأكلتم مِنْهُ)) .
وقوله: ((لأكلتم مِنْهُ مَا بقيت الدنيا)) إشارة إلى أن مَا فِي الجنة لا ينفد؛ فإنه كُلَّمَا أكل مِنْهُ استخلف فِي الحال مثلاه.
وفي رِوَايَة أخرى: ((لأكل مِنْهُ من بَيْن السماء والأرض، لا ينقصونه شيئاً)) .
ولهذا يروى أن الطير يمر بأهل الجنة، فيشتهونه، فيخر بَيْن أيديهم، فيأكلون مِنْهُ مَا يشاءون ثُمَّ يطير، والكأس يشربون مَا فِيهِ ثُمَّ يعود ممتلئاً فِي الحال، لا حرمنا الله خير مَا عنده بشر مَا عندنا بمنه ورحمته.
الحَدِيْث الرابع:

(6/441)


749 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سنان: ثنا فليح: ثنا هلال، عَن أَنَس بْن مَالِك، قَالَ: صلى رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ رقى المنبر، فأشار بيده قَبْلَ قبلة المسجد، ثُمَّ قَالَ: ((لَقَدْ رأيت الآن منذ صليت لكم الصلاة الجنة والنار ممثلتين فِي قبلة هَذَا الجدار، فَلَمْ أر كاليوم فِي الخير والشر)) - ثلاثا.
الظاهر: أن هذه الصلاة كَانَتْ غير صلاة الكسوف وأن الجنة والنار مثلتا لهُ في هذه الصلاة في جدار القبلة تمثيلاً، وأما إدناء الجنة والنار في صلاة الكسوف، فكان حقيقة. والله أعلم.
وفيه: أن رفع بصر المصلي إلى مَا مثل لَهُ من أمور الآخرة إذا ظهرت لَهُ غير قادح فِي الصلاة.
وليس فِيهِ - أَيْضاً -: نظر المأموم إلى إمامه، كما بوب عَلِيهِ. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(6/441)


92 - بَاب
رَفْعِ الْبَصَرِ إلى السَّمَاءِ فِي الصَّلاَةِ

(6/442)


750 - حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن عَبْد الله: أنا يَحْيَى بْن سَعِيد: أنا ابن أَبِي عروبة: نا قتادة، أن أنس بْن مَالِك حدثهم، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَا بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء فِي صلاتهم)) ، فاشتد قوله قي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: ((لينتهين عَن ذَلِكَ أو ليخطفن الله أبصارهم)) .
هَذَا الإسناد كله مصرح بسماع رواته بعضهم من بعض، وقد أمن بذلك تدليس قتادة فِيهِ.
وفي الحَدِيْث: دليل عَلَى كراهة رفع بصره إلى السماء فِي صلاته.
وقد روي هَذَا الحَدِيْث عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رِوَايَة عدة من الصَّحَابَة.
وروي النهي عَن حذيفة وابن مَسْعُود.
وَقَالَ سُفْيَان: بلغنا أن رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يرفع بصره إلى السماء فِي الصلاة، حَتَّى نَزَلَتْ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] فرمى ببصره نحو مسجده.
والمعنى فِي كراهة ذَلِكَ: خشوع المصلي وخفض بصره، ونظره إلى محل سجوده؛ فإنه واقف بَيْن يدي الله - عز وجل - يناجيه، فينبغي أن

(6/442)


يكون خاشعاً منكساً رأسه، مطرقاً إلى الأرض.
وقد تقدم فِي تفسير الخشوع أن خشوع البصر: غضه.
وإنما يكره رفع البصر إلى السماء عبثاً، فأما لحاجة فيجوز.
وقد أشارت عَائِشَة لأختها أسماء إلى السماء فِي صلاة الكسوف.
وقد نَصَّ أحمد عَلَى أن من تجشأ فِي صلاته فإنه يرفع رأسه إلى السماء؛ لئلا يتأذى من إلى جانبه برائحة جشائه.
ولكن؛ قَدْ يقال - مَعَ رفع رأسه -: إنه يغض بصره.
وقد سبق عَن عُمَر وابن سابط: رفع الوجه إلى السماء عِنْدَ تكبيره الإحرام.
وزاد ابن سابط: وإذا رفع رأسه.
وأما تغميض البصر فِي الصلاة، فاختلفوا فِيهِ:
فكرهه الأكثرون، منهم: أبو حنيفة والثوري والليث وأحمد.
قَالَ مُجَاهِد: هُوَ من فعل اليهود.
وفي النهي عَنْهُ حَدِيْث مرفوع، خرجه ابن عدي، وإسناده ضَعِيف.
ورخص فِيهِ مَالِك.
وَقَالَ ابن سيرين: كَانَ يؤمر إذا كَانَ يكثر الالتفات فِي الصلاة أن يغمض عينيه.
خرجه عَبْد الرزاق.

(6/443)


93 - بَاب
الالْتِفَاتِ فِي الصَّلاَةِ
فِيهِ حديثان:
الأول:

(6/444)


751 - حَدَّثَنَا مسدد: ثنا أبو الأحوص: ثنا أشعث بْن سليم - هُوَ: أبو الشعثاء -، عَن أَبِيه، عَن مسروق، عَن عَائِشَة، قَالَتْ: سألت رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَن الالتفات فِي الصلاة: فَقَالَ: ((هُوَ اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)) .
الثاني:

(6/444)


752 - حَدَّثَنَا قتيبة: ثنا سُفْيَان، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَةَ، عَن عَائِشَة، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فِي خميصة لها أعلام، فَقَالَ: ((شغلتني أعلام هذه، اذهبوا بِهَا إلى أَبِي جهم، وأتوني بأنبجانية)) .
حَدِيْث عَائِشَة فِي خميصة، قَدْ سبق فِي ((أبواب: الصلاة فِي الثيات)) فِي
((بَاب: إذا صلى فِي ثوب وله أعلام ونظر إلى علمها)) ، وسبق الكلام

(6/444)


عَلِيهِ مستوفى.
وبعده حَدِيْث أنس، أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لعائشة: ((أميطي عنا قرامك؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض فِي صلاتي)) .
وذكرنا أن الحديثين دليلاً عَلَى كراهة أن يصلي إلى مَا يلهي النظر إليه أأو لبسه فِي الصلاة.
وأما حَدِيْث عَائِشَة الَّذِي خرجه هاهنا فِي الالتفات، فتفرد بِهِ دون مُسْلِم، وفي إسناده اخْتِلاَف عَلَى أشعث بْن أَبِي الشعثاء.
فالأكثرون رووه عَنْهُ، كما رواه عَنْهُ أبو الأحوص، كما أسنده البخاري من طريقه.
قَالَ الدارقطني: وَهُوَ الصحيح عَنْهُ، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، لَمْ يذكر:
((مسروقاً)) فِي إسناده.
ورواه إسرائيل، عَن أشعث، عَن أَبِي عطية الهمداني، عَن مسروق، عَن عَائِشَة.
ورواه مِسْعَر، عَن أشعث، عَن أَبِي وائل، عَن مسروق، عَن عَائِشَة وكلهم رفعوه.
ورواه الأعمش موقوفاً، واختلف عَلِيهِ:
فرواه الأكثرون، عَنْهُ، عَن عمارة، عَن أَبِي عطية، عَن عَائِشَة موقوفاً.
وَقَالَ شعبة، عَن الأعمش، عَن خيثمة، عَن أَبِي عطية، عَن عَائِشَة موقوفاً.
ولهذا الاختلاف - والله أعلم - تركه مُسْلِم فَلَمْ يخرجه.
وفي الالتفات أحاديث أخر متعددة، لا تخلو أسانيدها من مقال.
ومن أجودها: مَا رَوَى الزُّهْرِيّ، عَن أَبِي الأحوص، عَن أي ذر، قَالَ: قَالَ

(6/445)


رَسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يزال الله مقبلاً عَلَى العبد وَهُوَ فِي صلاته مَا لَمْ يلتفت، فإذا التفت انصرف عَنْهُ)) .
رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة فِي ((صحيحه)) .
وأبو الأحوص، قَدْ قيل: إنه غير معروف.
وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حَدِيْث الحارث، عَن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيْث طويل ذكره -: ((إن الله ينصب وجهه لوجه عبده مَا لَمْ يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا)) .
وصححه الترمذي.
وروى عَبْد الرزاق، عَن ابن جُرَيْج، عَن عَطَاء: سَمِعْت أبا هُرَيْرَةَ يَقُول: إذا صلى أحدكم فلا يلتفت؛ فإنه يناجي [ربه] إن ربه أمامه، وإنه يناجيه، فلا يلتفت.
قَالَ عَطَاء: وبلغنا أن الرب - عز وجل - يَقُول: ((يابن آدم، إلى أين تلتفت، أنا خير ممن تلتفت إليه)) .
ورواه إِبْرَاهِيْم بْن يزيد الخوزي وعمر بْن قيس المكي سندل - وهما ضعيفان -، عَن عَطَاء، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ - مرفوعاً كله.
والموقوف أصح -:

(6/446)


قاله العقيلي وغيره.
وكذا رواه طلحة بْن عَمْرِو، عَن عَطَاء، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَا التفت عَبْد فِي صلاته قط إلا قَالَ الله: ((أنا خير لَكَ مِمَّا تلتفت إليه)) .
والأشبه: أن هَذَا قَوْلِ عَطَاء، كما سبق.
وقوله: ((هُوَ اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)) يعني: أن الشيطان يسترق من العبد فِي صلاته التفاته فيها ويختطفه مِنْهُ اختطافاً حَتَّى يدخل عَلِيهِ بذلك نقص في صلاته وخلل ولم يأمره بالإعادة لذلك، فدل على أنه نقص لا يوجب الإعادة والالتفات نوعان:
أحدهما: التفات القلب إلى غير الصلاة ومتعلقاتها، وهذا يخل بالخشوع فيها، وقد سبق ذكر الخشوع في الصلاة وحكمه.
والثاني: التفات الوجه بالنظر إلى غير ما فيه مصلحة الصلاة، والكلام هاهنا في ذلك.
وروي عن ابن مسعود، قال: لا يقطع الصلاة إلا الالتفات.
خرجه وكيع بإسناد فيه ضعف.
وروى بإسناد جيد، عن ابن عمر، قال: يدعى الناس يوم القيامة المنقوصين. قيل: وما المنقوصون؟ قالَ: الذي أحدهم صلاته في وضوئه والتفاته.

(6/447)


قالَ ابن المنذر -: فيما يجب على الملتفت في الصلاة -:
فقالت طائفة: تنقص صلاته، ولا إعادة.
روي عن عائشة، أنها قالت: الالتفات في الصلاة نقص.
وبه قال سعيد بن جبير.
وقال عطاء: لا يقطع الالتفات الصلاة.
وبه قال مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي.
وقال الحكم: من تأمل من عن يمينه في الصلاة أو عن شماله حتى يعرفه فليس له صلاة.
وقال أبو ثور: إذا التفت ببدنه كله تفسد صلاته.
وروينا عن الحسن، أنه قال: إذا استدبر القبلة استقبل، وإن التفت عن يمينه وعن شماله مضى في صلاته.
والذي قاله الحسن حسن. انتهى.
قال ابن المنصور: قلت لأحمد: إذا التفت في الصلاة يعيد الصلاة؟ قالَ: ولا أعلم أني سمعت فيهِ حديثاً أنه يعيد.
قال إسحاق: كما قال.
وقال أصحابنا: الالتفات الذي لا يبطل أن يلوي عنقه، فأما إن استدار بصدره بطلت صلاته، لأنه ترك استقبال القبلة بمعظم بدنه، بخلاف ما إذا استدار بوجهه، فإن معظم بدنه مستقبل للقبلة.
وحكوا عن المالكلية، أنه لا يبطل بالتفاته بصدره حتى يستدبر، إلحاقاً للصدر على الوجه.
فأما الالتفات لمصلحة الصلاة، كالتفات أبي بكر لما صفق الناس خلفه وأكثروا التصفيق – وقد سبق حديثه – فلا ينقص الصلاة.
ويدل عليه: قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من نابه شيء في صلاته فليسبح؛ فإنه إذا سبح التفت إليه)) .

(6/448)


وكذلك التفت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى من صلى خلفه، لما صلى بهم جالساً وصلوا وراءه قياماً، وقد سبق - أيضاً.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يلتفت في صلاته لمصلحة غير مصلحة الصلاة:
فروى سهل بن الحنظلية، قال: ثوب بالصلاة – يعني: صلاة الصبح -، فجعل رسول الله يصلي، وهو يلتفت إلى الشعب.
خرجه أبو داود.
وقال: كان أرسل فارساً إلى الشعب من الليل يحرس.
وخرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) والحاكم وصححه.
وهذا فيه جمع بين الصلاة والجهاد.
ومن هذا المعنى: قول عمر: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كان يلحظ في صلاته.
فروى الفضل بن موسى، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلحظ يميناً وشمالاً، ولا يلوي عنقه خلف ظهرة.
خرجه الإمام أحمد والنسائي والترمذي.
وقال: غريب ثم خرجه من طريق وكيع، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن بعض أصحاب عكرمة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلحظ في الصلاة – فذكر نحوه.

(6/449)


وخرجه أبو داود في بعض نسخ ((سننه)) .
ثم خرجه من طريق رجلٍ، عن عكرمة.
وقال: هو أصح.
وأنكر الدارقطني وصل الحديث إنكاراً شديداً، وقال: هو مرسل.

(6/450)


وقد رواه – أيضاً – مندل، عن الشيباني عن ابن عباس، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى يلاحظ يميناً وشمالاً.
خرجه ابن عدي.
ومندل، ضعيف.
وروى الزهري، عن سعيد بن المسيب، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يلمح في الصلاة، ولا يلتفت.
خرجه ابن أبي شيبة بإسناد فيه جهالة، وهو مرسل.
وقد وصله بعضهم، وأنكر ذلك الإمام أحمد، وضعف إسناده، وقال: إنما هو: عن رجل، عن سعيد.
وقد يحمل هذا – إن صح – على الالتفات لمصلحة.
وقد روى عن علي بن شيبان الحنفي، قال: قدمنا على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلينا معه، فلمح بمؤخر عينه رجلا لا يقيم صلبه في الركوع ولا في السجود فقال: ((لا صلاة لمن لا يقيم صلبه)) .
خرجه الإمام أحمد وابن حبان وابن ماجه.
وقد روي الالتفات في الصلاة يميناً وشمالاً عن طائفة من السلف، منهم أنس والنخعي وعبد الله بن معقل بن مقرن.
وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان لا يلتفت في صلاته

(6/452)


حتى يقضيها.
وعن أبي جعفر القارئ، قال كنت أصلي وابن عمر ورائي، ولا أعلم فالتفت، فغمزني.
وروى حميد، عن معاوية بن قرة، قال: قيل لابن عمر: إن الزبير إذا صلى لم يقل هكذا ولا هكذا؟ قال: لكنا نقول كذا وكذا.
وفي رواية: ونكون مثل الناس.
وقد رويت الرخصة في الالتفات في النافلة.
فخرج الترمذي في حديث علي بن زيد، عن ابن المسيب، عن أنس، قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يابني، إياك والالتفات في الصلاة؛ فإن الالتفات في الصَّلاة
هلكة، فإن كان لا بد ففي التطوع، لا في الفريضة)) .
وقال: حديث حسن.
وذكر في ((كتاب العلل)) : أنه ذاكر به البخاري، فلم يعرفه، ولم يعرف لابن المسيب عن أنس شيئا.
وقد روي عن أنس من وجوه أخر، وقد ضعفت كلها.
وخرج الطبراني نحوه بإسناد ضعيف، عن أبي الدرداء مرفوعاً.
ولا

(6/453)


يصح إسناده – أيضاً.
قال الدارقطني: إسناده مضطرب، لا يثبت.
والله - سبحانه وتعالى - أعلم.

(6/454)


94 - باب
هل يلتفت لأمر ينْزل به
أو يَرَى شيئاً أو بصاَقاً في القِبلْةِ؟
وقال سهل: التفت أبو بكر، فرأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
حديث سهل، قد سبق بتمامه في التفات أبي بكر لما جاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأكثر الناس التصفيق خلف أبي بكر.
خرج فيه حديثين:
أحدهما:
قال:

(6/455)


753 - حدثنا قتيبة: ثناليث، عن نافع، عن ابن عمر، أنه قال: رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نخامة قبلة المسجد، وهو يصلى بين يدي الناس فحتها، ثم قال حين أنصرف: ((إن أحدكم إذا كان في الصلاة، فإن الله قبل وجهه، فلا يتنخمن أحد قبل وجهه في
الصلاة)) .
رواه موسى بن عقبة وابن أبي رواد، عن نافع.
هذا الحديث، قد خرجه البخاري في مواضع أخر من طريق مالك وجويرية ابن أسماء، عن نافع.
ومراده بتخريجه هاهنا: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآها في حال صلاته، كما في رواية الليث التي خرجها هاهنا، وذكر أنه تابعه على ذلك موسى بن عقبة

(6/455)


وابن أبي رواد.
وقد خرج مسلم حديث موسى، إلا أنه لم يتم لفظه.
وقد رواه أيوب، عن نافع، وذكر فيه أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى النخامة وهو يخطبُ.
خرجه أبو داود.
وظاهر رواية الليث يدل على أنه حتها وهو في الصلاة.
وقد روى: أنه حتها حين فرغ من الصلاة.
خرجه الإمام أحمد من رواية عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرأى نخامة، فلما قضى صلاته قال: ((إن أحدكم إذا صلى في المسجد فإنه يناجي ربه، وإن الله تبارك وتعالى يستقبله بوجهه، فلا يتنخمن أحدكم في القبلة، ولا عن يمينه)) ثم دعا بعود فحكه، ثم دعا بخلوق فخضبه.
فهذه رواية ابن أبي رواد التي أشار إليها البخاري.
وأما رواية موسى بن عقبة [. . . . .]
وبكل حال؛ فليس في الحديث دليل على الالتفات في الصلاة، إنما فيه دليل على جواز نظر المصلي إلى قبلته، ورؤيته ما فيها، وأن ذلك لا ينافي الخشوع كما يحكى عن بعضهم، وأنه لا يكره للمصلي أن ينظر

(6/456)


في قيامه إلى ما بين يديه، ويزيد رفع بصره عن محل سجوده.
وأما حديث سهل المتقدم، ففيه جواز التفات المصلي في صلاته لأمر يعرض له في صلاته، ولا سيما إذا نبهه المأمومون بالتسبيح ونحوه؛ ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فإنه إذا سبح به التفت)) .
وقد سبق في ((أبواب: المساجد)) قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المصلي: ((إنه يبزق عن يساره، أو تحت قدمه)) .
وبصاقه يساره إنما يكون بنوع من الالتفات يسير، ولكنه لمصلحة الصلاة؛ فلذلك أمر به.
الحديث الثاني:

(6/457)


754 – حدثنا يحيى بن بكير ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك، قال: بينما المسلمون في صلاة الفجر، لم يفجأهم إلا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم صفوف، فتبسم يضحك، ونكص أبو بكر على عقبيه، ليصل الصف، فظن أنه يريد الخروج، وهم المسلمون أن يفتتنوا في
صلاتهم، فأشار إليهم أن أتموا صلاتكم، وأرخى الستر، وتوفي في آخر ذلك اليوم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قد تقدم هذا الحديث – أيضاً.
والمقصود منه في هذا الباب: أن أبا بكر ومن كان خلفه في صلاة الفجر رأوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين كشف ستر

(6/457)


حجرة عائشة، وظنوا أنه خارج للصلاة، حتى نكص أبو بكر على عقبيه، ليصل إلى الصف؛ لأجل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى يجيء فيقوم مقامه في الإمامة.
وإنما يكون نظرهم إليه في الصلاة بنوع من الالتفات، فإن حجرة عن يسار المسجد، ليست في قبلته، على ما لا يخفى، وقد أشار إليهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أتموا صلاتكم، ولم ينههم عن نظرهم إليه فدل على جواز التفات المصلى التفاتاً يسيراً يتعلق بالصلاة، فإنه غير منهي عنه.

(6/458)


95 - باب
وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها
في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت
قد ذكرنا هذا الباب بكماله عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف:204] في آخر سورة الأعراف، فأغنى عن إعادته هنا.
ولله الحمد.

(6/459)


96 - باب
القراءة في الظهر
فيه ثلاثة أحاديث:
الأول:

(7/5)


758 - حدثنا أبو النعمان: ثنا أبو عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن جابر ابن سمرة، قال: قال سعد: قد كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، صلاة العشي، لا أخرم عنها، أركد في الأوليين، وأحذف في الأخريين. قال عمر: ذلك الظن بك.
صلاة العشي: هي صلاة الظهر والعصر، لأن العشي هو ما بعد الزوال.
وركودهُ في الأوليين وتطويله، إنما هو لطول القراءة، وقد خالف ابن عباس في ذلك.
وقد خرج البخاري فيما بعد من حديث أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قرأ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما أمر، وسكت فيما أمر {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] و {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} [الأحزاب: 21] .

(7/5)


فهذا يدل على أن ابن عباس كان يرى أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يقرأ في صلاة الظهر والعصر شيئاً.
وقد تأوله الإسماعيلي وغيره على أنه لم يكن يجهر بالقراءة، بل يقرأ سراً وهذا لا يصح؛ فإن قراءة السر لا تسمى سكوتا.
وقد روي عن ابن عباس التصريح بخلاف بذلك.
وخرج الإمام أحمد حديث أيوب، عن عكرمة بزيادة في أوله، وهي لم يكن ابن عباس يقرأ في الظهر والعصر – وذكر الحديث.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث موسى بن سالم: ثنا عبد الله بن
عبيد الله، قال: دخلت على ابن عباس في شباب من بني هاشم، فقلنا لشباب منا: سل ابن عباس: أكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: لا. قيل له: فلعله كان يقرأ في نفسه فقال: خمشاً، هذه شر من الأولى، وكان عبداً مأموراً بلغ ما أرسل به – وذكر الحديث.
وخرج الإمام أحمد من رواية أبي يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس نحو حديث أيوب، وزاد: قيل له: فلعله كان يقرأ في نفسه، فغضب منهم وقال: أيتهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟!

(7/6)


وروى ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، أنه سئل أفي الظهر والعصر قراءة؟ قال: لا قيل له عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا؟ قال: لا، ثم قال: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو قرأ علم ذلك الناس.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود - أيضاً - من طريق حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لا أدري أكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الظهر
والعصر، أم لا؟
وهذه الرواية تقتضي أنه شك في ذلك، ولم يجزم فيه بشيء.
وخرج الإمام أحمد من رواية الحسن العرني، عن ابن عباس، قال: ما أدري أكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الظهر والعصر، أم لا، ولكنا نقرأ.
الحسن العرني، لم يسمع من ابن عباس.
وروى موسى بن عبد العزيز القنباري، عن الحكم - هو ابن أبان - عن
عكرمة، عن ابن عباس، قال: لم أسمع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الظهر والعصر، ولم يأمرنا به، وقد بلغ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قد روي عن ابن عباس من وجه آخر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ، ولكن في إسناده ضعف.
خرجه أبو داود في ((كتاب الصلاة)) من طريق سفيان، عن زيد العمي، عن أبي العالية، عن ابن عباس، قال رمق أصحاب رسولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رسولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحزروا قراءته في الظهر والعصر، بقدر (تَنْزِيلُ) [السجدة: 2] ،
وقال: لم يسنده عن سفيان إلاّ يزيد بن هارون، ولم نسمعه من أحد إلاّ من الحسن بن منصور، وذكرته لأبي: فأعجب به، وقال: حديث غريب.
وزيد العمي، متكلم فيهِ.
الحديث الثاني:

(7/7)


759 - ثنا أبو نعيم: ثنا شيبان، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قالَ: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى ويقصر في الثانية، ويسمع الآية أحياناً، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين، وكان يطول [في الأولى، وكان يطول] في الركعة الأولى من صلاة الصبح، ويقصر في الثانية.
في هذا الحديث: دليل على استحباب القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر والعصر بسورة سورة مع الفاتحة، وهذا متفق على استحبابه بين العلماء، وفي وجوبه خلاف سبق ذكره.
وفيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت القراءة بسورة تامة، وهذا هوَ

(7/7)


الأفضل بالاتفاق؛ فأن قرأ السورة في ركعتين لم يكره - أيضاً - وقد فعله أبو بكر الصديق. قالَ: الزهري: أخبرني أنس، أن أبا بكر صلى بهم صلاة الفجر، فافتتح بهم سورة البقرة، فقرأها في ركعتين، فلما سلم قام إليه عمر، فقالَ: ما كنت تفرغ حتَّى تطلع الشمس. قالَ: لو طلعت لألفتنا غير غافلين.

ورخص فيهِ سعيد بن جبير وقتادة وأحمد، ولا نعلم فيهِ خلافاً إلاّ رواية عن
مالك. وسيأتي حديث قراءة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالأعراف في ركعتين من المغرب. وفي ((صحيح مسلم)) عن عبد الله بن السائب، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم صلاة الفجر فافتتح بسورة المؤمنين، حتى أتى عليهِ ذكر موسى وهارون فأخذته سعلة فركع.
وكذلك لو قرأ في ركعة بسورة وفي أخرى ببعض سورة، وقد روي عن عمر وابن مسعود.
وإن قرأ في الركعتين ببعض سورة: إما في أوائلها، أو أواسطها، أو أواخرها ففي كراهته خلاف عن أحمد، وسنذكره فيما بعد - إن شاء الله - سبحانه وتعالى -؛ فإن البخاري أشار إلى هذه المسائل.
وليس في حديث أبي قتادة تعيين السورتين المقروء بهما في الظهر والعصر، وقد ورد تعيين السور، وتقدير قراءته في أحاديث أخر.

(7/9)


فخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، قالَ: كنا نحزر قيام رسول الله، في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة {ألم
تَنْزِيلُ} السجدة، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذَلِكَ، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر قدر قيامه من الأخريين في الظهر، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذَلِكَ.
وفي رواية لهُ أيضاً: كانَ يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية - أو قالَ: نصف ذَلِكَ - وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة، وفي الأخريين قدر نصف ذَلِكَ.
وخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي سعيد، قالَ: اجتمع ثلاثون من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: تعالوا حتى نقيس قراءة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما لم يجهر به من الصلاة، فما اختلف منهم رجلان، فقاسوا قراءته في الركعة الأولى من الظهر بقدر ثلاثين آية، وفي الركعة الأخرى بقدر النصف من ذَلِكَ، وقاسوا ذَلِكَ في صلاة العصر على قدر النصف من الركعتين الأخريين من الظهر.
وفي إسناده: زيد العمي، وفيه مقال.

(7/10)


وخرج مسلم - أيضاً - من حديث جابر بن سمرة، قالَ: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى، وفي العصر نحو ذَلِكَ، وفي الصبح أطول من ذَلِكَ.
وفي رواية: كانَ يقرأ في الظهر {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} .
وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وعندهم: كانَ يقرأ في الظهر والعصر بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق، وشبهها.
وقد سبق حديث عمران بن حصين، أن النبي، صلى بهم الظهر والعصر، ثم قالَ: ((أيكم قرأ خلفي بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ؟)) قالَ رجل: أنا.
قالَ: ((قد علمت أن بعضكم خالجنيها)) .
خرجه مسلم - أيضاً.
وخرج النسائي وابن ماجه من حديث البراء بن عازب، قالَ: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بنا الظهر، فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات.
وخرج النسائي من حديث أنس، أنه صلى بهم الظهر، قالَ: إني صليت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الظهر فقرأ لنا بهاتيين السوررتين في الظهر: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ

(7/11)


الْغَاشِيَةِ} .
وذكر الترمذي - تعليقاً - أن عمر كتب إلى أبي موسى، يأمره أن يقرأ بأوساط المفصل.
وهو قول طائفة من أصحابنا.
وقال إسحاق: الظهر تعدل في القراءة بالعشاء. لكنه يقول: إن الظهر يقرأ فيها بنحو الثلاثين آية.
وحديث جابر بن سمرة الذي خرجه مسلم كما تقدم: يدل على أن قراءة الظهر أقصر من قراءة الصبح.
وقال طائفة: يقرأ في الظهر بطوال المفصل كالصبح، وهو قول الثوري والشافعي وطائفة من أصحابنا كالقاضي أبي يعلي في ((جامعه الكبير)) ، لكنه خصه بالركعة الأولى من الظهر.
وروى وكيع بإسناده، عن عمر، أنه قرأ في الظهر بـ {ق} {والذاريات} .
وعن عبد الله بن عمرو، أنه قرأ في الظهر بـ {كهيعص} .
وروى حرب بإسناده، عن ابن عمر، أنه كانَ يقرأ في الظهر بـ {ق}
{والذاريات} .
وخرجه ابن جرير، وعنده: بـ {ق} {والنازعات} .
قالَ: وكان عمر يقرأ بـ {ق} .
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ يقرأ في الظهر بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد: 1] و {إِنَّا فَتَحْنَا لَك} [الفتح: 1] .

(7/12)


وممن رأي استحباب القراءة في الظهر بقدر ثلاثين آية: إبراهيم النخعي والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق.
وقال الثوري وإسحاق: كانوا يستحبون أن يقرأوا في الظهر قدر ثلاثين في الركعة الأولى، وفي الثانية بنصفها - زاد إسحاق: أو أكثر.
وظاهر كلام أحمد وفعله يدل على أن المستحب أن يقرأ في الصبح والظهر في الركعة الأولى من طوال المفصل، وفي الثانية من وسطه.
وروي عن خباب بن الأرت، أنه قرأ في الظهر بـ {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة:1] .
قالَ أبو بكر الأثرم: الوجه في اختلاف الأحاديث في القراءة في الظهر أنه كله جائز، وأحسنه استعمال طول القراءة في الصيف، وطول الأيام، واستعمال التقصير في القراءة في الشتاء وقصر الأيام، وفي الأسفار، وذلك كله معمول به. انتهى.
ومن الناس من حمل اختلاف الأحاديث في قدر القراءة على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يراعي أحوال المأمومين، فإذا علم أنهم يؤثرون التطويل طول، أو التخفيف خفف، وكذلك إذا عرض لهُ في صلاته ما يقتضي التخفيف، مثل أن يسمع بكاء صبي مع أمه، ونحو ذَلِكَ.
وفي حديث أبي قتادة: يطول الركعة الأولى على الثانية.
وقد ذهب إلى القول بظاهره في استحباب تطويل الركعة الأولى على ما بعدها من جميع الصوات طائفة من العلماء، منهم: الثوري

(7/13)


وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن، وطائفة من أصحاب الشافعي، وروى عن عمر - رضي الله عنه -.
وقد خرج الإمام أحمد وأبو داود حديث أبي قتادة، وزاد فيهِ: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى.
وخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، قالَ: لقد كانت صلاة الظهر
تقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الركعة الأولى؛ مما يطولها.
وقد سبق حديث أبي سعيد الذي خرجه مسلم، أن قراءته في الثانية كانت على النصف من قراءته في الأولى.
وخرج الإمام أحمد من حديث شهر بن حوشب، عن أبي مالك الأشعري، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يسوي بين الأربع ركعات في القراءة والقيام ويجعل الركعة الأولى هي أطولهن، لكي يثوب الناس.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يطيل سوى الركعة من الفجر؛ لأنه وقت غفلة ونوم، ويسوي بين الركعات في سائر الصلوات.
وقال مالك والشافعي: يسوى بين الركعتين الأولتين في جميع الصلوات واستدل لذلك بقول (سعد) : ((أركد في الأوليين)) ، وليس بصريح ولا ظاهر في التسوية بينهما.

(7/14)


واستدل أيضاً - بحديث أبي سعيد، أنهم حزروا قيام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الظهر في الركعتين الأوليين قدر قراءة ثلاثين آية، وقد سبق.
ولكن في رواية أحمد وابن ماجه: أن قيامه في الثانية كانَ على النصف من ذَلِكَ، وهذه الرواية توافق أكثر الأحاديث الصحيحة، فهي أولى.
واستدل لهم بقراءة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((سبح)) و ((الغاشية)) و ((الجمعة))
و ((المنافقين)) و ((تَنزِيُلُ السجدة)) و ((هلُ أَتَى)) و ((ق)) و ((اقتْرَبَتْ)) ، هي سور متقاربة.
وأما تطويل الركعة الثالثة على الرابعة، فالأكثرون على أنه لا يستحب، ومن الشافعية من نقل الاتفاق عليهِ، ومنهم من حكى لأصحابهم فيهِ وجهين.
وهذا إنما يتفرع على أحد قولي الشافعي باستحباب القراءة في الأخريين بسور مع الفاتحة.
وقد خرج البزار والبيهقي من حديث عبد الله بن أبي أوفي، قالَ: كانَ
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطيل الركعة الأولى من الظهر، فلا يزال يقرأ قائماً ما دام يسمع خفق نعال القوم، ويجعل الركعة الثانية أقصر من الأولى، والثالثة أقصر من الثانية، والرابعة أقصر من الثالثة وذكر مثل ذَلِكَ في صلاة العصر والمغرب وفي إسناده: أبو إسحاق الحميسي، ضعفوه.

(7/15)


وقد خرجه بقي بن مخلد في ((مسنده)) بإسناد أجود من هذا، لكن ذكر أبو حاتم الرازي أن فيهِ انقطاعاً، ولفظه في الظهر: ويجعل الثانية أقصر من الأولى، والثالثة أقصر من الثانية، والرابعة كذلك، وقال في العصر: يطيل في الأولى، ويقصر الثانية والثالثة والرابعة كذلك. وقال في المغرب: يطيل في الأولى، ويقصر في الثانية والثالثة.
وهذا اللفظ لا يدل على تقصير الرابعة عن الثالثة.
وقوله: ((ويسمعنا الآية أحياناً)) مما يحقق أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يقرأ في الظهر والعصر، ويأتي بقية الكلام على ذَلِكَ فيما بعد - إن شاء الله تعالى.
الحديث الثالث:

(7/16)


760 - حدثنا عمر - هوَ: ابن حفص بن غياث -: ثنا أبي: ثنا الأعمش: حدثني عمارة، عن أبي معمر، قالَ: سألنا خبابا: أكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الظهرِ
والعصر؟ ، قالَ: نعم قلنا: بأي شيء كنتم تعرفون ذَلِكَ؟ قالَ: باضطراب لحيته.
يعني: بحركة شعر لحيته.
هكذا رواه جماعة عن الأعمش.
ورواه بعضهم عنه، قالَ: بتحريك لحيته.
ورواه أبو معاوية، عن الأعمش، فقالَ: باضطراب لحييه - بيائين تثنية لحي، وهو عظم الفك.
وقد كانَ غير واحد من الصحابة يستدل بمثل هذا على قراءة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة النهار.

(7/16)


وروى سفيان، عن أبي الزعراء، عن أبي الأحوص، عن بعض أصحاب النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: كانت تعرف قراءة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الظهر بتحريك لحيته.
خرجه الإمام أحمد.
وخرج - أيضاً - من رواية كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله، قالَ: تماروا في القراءة في الظهر والعصر، فأرسلوا إلى خارجه بن زيد،
فقالَ: قالَ أبي: قام - أو كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطيل القيام، ويحرك شفتيه، فقد أعلم ذَلِكَ لم يكن إلا بقراءة، فأنا أفعله.
وفي هذه الأحاديث: دليل على أن قراءة السر تكون بتحريك اللسان والشفتين وبذلك يتحرك شعر اللحية، وهذا القدر لابد منه في القراءة والذكر وغيرهما من الكلام.
فأما إسماع نفسه فاشترطه الشافعي وبعض الحنفية وكثير من

(7/17)


أصحابنا.
وقال الثوري: لا يشترط، بل يكفي تصوير الحروف، وهو قول الحرقي من الحنفية، وظاهر كلام أحمد.
قالَ أبو داود: قيل لأحمد: كم يرفع صوته بالقراءة؟ فقالَ: قالَ ابن مسعود: من أسمع أذنية فلم يخافت.
فهذا يدل على أن إسماع الأذنين جهر، فيكون السر دونه.
وكذا قالَ ابن أبي موسى من أصحابنا: القراءة التي يسرها في الصلاة يتحرك اللسان والشفتان بالتكلم بالقرآن، فأما الجهر فيسمع نفسه ومن يليه.

(7/18)


97 - باب
القراءة في العصر

(7/19)


761 - حدثنا محمد بن يوسف: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عمارة ابن عمير، عن أبي معمر، قالَ: قلنا لخباب بن الأرت: أكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الظهر والعصر؟ قالَ: نعم. قلت: بأي شيء كنتم تعلمون قراءته؟ قالَ: باضطراب لحيته.

(7/19)


762 - حدثنا مكي بن إبراهيم، عن هشام، عن يحيى بن كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قالَ: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الركعتين (الأوليين) من الظهر والعصر بفاتحه الكتاب وسورة (سورةٍ) ، ويسمعنا الآية أحيانا.
هذان الحديثان سبقا في الباب الماضي.
والمقصود منهما هاهنا: القراءة في صلاة العصر.
وقد ذكرنا حديث أبي سعيد الخدري الذي خرجه مسلم، وفيه: أن قيامه في الركعتين الأوليين من صلاة العصر كانَ على قدر قيامه في الأخريين من الظهر.
وفي رواية: أنه قدر خمس عشرة آية.

(7/19)


وفي رواية ابن ماجه: أن قيامه في صلاة العصر على قدر النصف من الركعتين الأخريين من الظهر.
واختلف العلماء في القراءة في العصر:
فقالَ النخعي: العصر مثل المغرب في القراءة:
يعني: أن قراءتها تخفف.
وعنه قالَ: تضاعف الظهر على العصر أربعة أضعاف.
وكذا قالَ الثوري في قراءة العصر: إنها كقراءة المغرب بقصار المفصل.
وقال إسحاق: الظهر يعدل في القراءة بالعشاء، والعصر تعدل المغرب.
يعني: أنه يقرأ فيها بقصار المفصل.
وسياتي في الباب الذي بعده في تقصير العصر حديث مرفوع.
وقالت طائفة: قراءة العصر على نصف قراءة الظهر، وقراءة الظهر نحو ثلاثين آية، ونص على ذَلِكَ الإمام أحمد، واحتج بحديث أبي سعيد الخدري.
وقال أصحاب الشافعي: يقرأ في الصبح بطوال المفصل كالحجرات والواقعة، وفي الظهر بقريب من ذَلِكَ، وفي العصر والعشاء بأوساط المفصل، وفي المغرب بقصاره ولإن خالف وقرأ بالطول أو القصر جاز.
وقالت طائفة: يسوى بين قراءة الظهر والعصر، روي ذَلِكَ عن أنس بن مالك، وروي عن ابن عمر من وجه ضيعف.
وحديث جابر بن سمرة الذي خرجه مسلم يشهد لذلك: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى، وفي العصر نحو ذَلِكَ.

(7/20)


98 - باب
القراءة في المغرب
فيهِ حديثان:
الأول:

(7/21)


763 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، أنه قالَ: إن أم الفضل سمعته وهو يقرأ:
{وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} ، فقالَت: يابني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بها في المغرب.
وخرجه مسلم من طريق مالك وسفيان ومعمر وصالح بن كيسان، كلهم عن الزهري بنحوه.
وزاد صالح في حديثه: ثم ما صلى بعد حتى قبضه الله.
والمراد - والله أعلم - ما صلى بعدها إماماً بالناس.
وخرجه الترمذي من حديث ابن إسحاق، عن الزهري، ولفظه: قالَ: خرج إلينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلى المغرب، ثم قراً بالمرسلات، فما صلى بها بعد حتى لقي الله.

(7/21)


وخرجه الطبراني من رواية أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أبي رشدين - وهو: كريب -، عن أم الفضل، أنها كانت إذا سمعت أحداً يقرأ بالمرسلات قالت: صلى لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قرأ في المغرب بالمرسلات، ثم يصل لنا عشاء حتى قبضه الله.
وهذا يبين أن المعنى أنه لم يصل لهم بعدها صلاة المغرب إماماً ولكن قوله: ((عن كريب)) في هذا الإسناد وهم، إنما هوَ: عبد الله ابن عباس.
وخرج النسائي من حديث موسى بن داود، عن عبد العزيز الماجشون، عن حميد، عن أنس، عن أم الفضل، قالت: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيته المغرب، فقرأ بالمرسلات، ما صلى بعدها صلاة حتى قبض الله روحه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وهذا الإسناد كلهم ثقات، إلا أنه معلول، فإن الماجشون روى، عن حميد، عن أنس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في ثوب واحد، ثم قالَ الماجشون عقب ذَلِكَ: وذكر لي عن أم الفضل - فذكر هذا الحديث، فوهم فيهِ موسى بن دواد، فساقه كله عن حميد، عن أنس -: ذكر ذَلِكَ أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان.
الحديث الثاني.

(7/22)


764 - حدثنا أبو عصام، عن ابن جريح، عن ابن أبي مليكة، عن

(7/22)


عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكم، قالَ: قالَ لي زيد بن ثابت: مَا لكَ تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بطولي الطوليين؟!
طولى: وزنه فعلى، والطوليين: تثنية الطولى.
ويقال: إنه هاهنا أراد الأعراف: فإنها أطول من صاحبتها الأنعام _: ذكره الخطابي.
وخرج أبو داود هدا الحديث من طريق ابن جريح - أيضاً -، وعنده ((بقصار المفصل)) ، وزاد فيهِ: قالَ: قلت: وما طولى الطوليين؟ قالَ: الأعراف قالَ: فسألت ابن أبي ملكية، فقالَ لي من قبل نفسه المائدة والأعراف.
وخرجه النسائي - أيضاً -، وعنده: بقصار السور، وعنده: بأطول الطوليين، قلت: يا أبا عبد الله، ما أطول الطوليين؟ قالَ: الأعراف.
وهذا يدل على أن المسئول والمخبر هوَ عروة.
ثم خرجه من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في صلاة المغرب الأعراف، فرقها في ركعتين.
وخرجه - أيضاً - من طريق أبي الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث، عن زيد بن ثابت، قالَ لمروان: أتقرأ في المغرب بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ

(7/23)


أَحَدٌ} و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ
الْكَوْثَرَ} ؟ قالَ: نعم. قالَ: فمحلوفة، لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ فيها بأطول الطوليين {الَمَصَ} .
فهذا ثلاثة أنواع من الاختلاف في إسناده:
أحدها: عروة، عن مروان، وهي رواية ابن أبي مليكة عنه.
وهذا أصح الروايات عندَ البخاري، وكذلك خرجه في ((صحيحه)) ونقل عنه ذَلِكَ الترمذي في ((علله)) صريحاً، ووافقه الدارقطني في ((العلل)) .

والثاني: عروة، عن عائشة، وهي رواية شعيب بن أبي حمزة، عن هشام، عن أبيه.
وقد قال أبو حاتم الرازي: إنه خطأ.
والثالث: عروة، عن زيد - من غير واسطة، وهي رواية أبي الأسود، عن عروة.
وكذلك رواه جماعة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زيد، منهم: يحيى القطان والليث بن سعد وحماد بن سلمة وغيرهم.
وصحح ذلك ابن حبان، ورجحه الدارقطني في جزء له مفرد علقه على أحاديث عللها من " صحيح البخاري ".
وقد اختلف في إسناده عن هشام بن عروة.
فقيل: عنه، عن أبيه، عن عائشة.
وقيل: عنه، عن أبيه، عن زيد بن ثابت.

(7/24)


وقيل: عنه، عن أبيه، عن أبي أيوب وزيد معا.
وقيل: عنه، عن أبيه، عن أبي أيوب - أو زيد - بالشك في ذلك
وهو الصحيح عن هشام -: قاله البخاري، حكاه الترمذي عنه في ((علله)) ، وقاله - أيضاً - الدارقطني في ((علله)) وقالا: كانَ هشام يشك في إسناده.
وقال ابن أبي الزناد: عن هشام، عن أبيه، عن مروان، عن زيد.
خرجه الإمام أحمد من طريقه.
وهذا موافق لقول ابن أبي مليكة، عن عروة.
وروي عن هشام، عن أبيه - مرسلاً.
وفي رواية: عن هشام: سورة الأنفال، بدل: الأعراف.
ولعل مسلماً أعرض عن تخريج هذا الحديث لاضطراب إسناده؛ ولأن الصحيح عنده إدخال ((مروان)) في إسناده، وهو لا يخرج لهُ استقلالاً، ولا يحتج بروايته. والله - سبحانه وتعالى - أعلم.
وسيأتي حديث جبير بن مطعم في قراءة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المغرب بالطور، في الباب الذي يلي هذا - إن شاء الله - سبحانه وتعالى -.
وقد اختلف في القراءة في المغرب:
فذهبت طائفة من السلف إلى تطويلها، وقد سبق عن زيد بن ثابت

(7/25)


أنه أنكر على مروان القراءة فيها بقصار المفصل.
وروي عن ابن عمر، أنه كانَ يقرأ فيها بـ {يسَ} .
وروى عنه مرفوعاً.
والموقوف أصح -: ذكره الدارقطني في ((علله)) .
وخرج العقيلي المرفوع، وقال: هوَ غير محفوظ.
وخرج الدارقطني في ((علله)) - أيضاً - من رواية عامر بن مدرك: ثنا
سفيان، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن عائشة، قالت: كانت صلاة
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين ركعتين، إلا المغرب؛ فإنها كانت وتراً، فلما رجع إلى المدينة صلى مع كل ركعتين ركعتين، إلا المغرب والفجر؛ لأنه كانَ يطيل فيهما القراءة.
وهذا لفظ غريب.
وقد سبق في أول ((المواقيت)) بلفظ آخر: إلا المغرب؛ لأنها وتر، والفجر؛ لأنه كانَ يطيل فيها القراءة.
وهذا اللفظ أصح.
وذهب أكثر العلماء إلى استحباب تقصير الصلاة في المغرب. روى مالك في
((الموطإ)) بإسناده عن الصنابحي، أنه قدم المدينة في خلافة أبي بكر الصديق، فصلى وراء أبي بكر الصديق المغرب، فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة من قصار المفصل، ثم قام في الركعة الثالثة، فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد أن تمس ثيابه،

(7/26)


فسمعته قرأ بأم القرآن، وبهذه الآية {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:

(7/27)


8] الآية.
وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري، أن يقرأ في صلاة المغرب بقصار المفصل.
ذكره الترمذي - تعليقاً - وخرجه وكيع.
وروى وكيع في ((كتابه)) عن سيفان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن
ميمون، قالَ: سمعت عمر يقرأ في المغرب في الركعة الأولى بالتين والزيتون، وفي الثانية {أَلَمْ تَرَ} و {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} .
وعن الربيع، [عن الحسن] ، أنه كانَ يقرأ في المغرب {إِذَا زُلْزِلَتِ}
{وَالْعَادِيَاتِ} لا يدعهما، قالَ الربيع: وحدثني الثقة عن ابن عمر، أنه كانَ لا يدعهما في المغرب.
وخرج أبو داود في ((سننه)) عن ابن مسعود، أنه قرأ في المغرب: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
وعن هشام بن عروة، أن أباه كانَ يقرأ في المغرب بنحو ما تقرءون
{وَالْعَادِيَاتِ} ونحوها من السور.
وهذا مما يعلل به حديثه عن مروان، عن زيد بن ثابت، كما تقدم

(7/27)


وكان النخعي يقرأ في المغرب {أَلَمْ تَر} أو {لإيلافِ قُرَيْشٍ} .
وذكر الترمذي: أن العمل عندَ أهل العلم على القراءة في المغرب بقصار المفصل. وهذا يشعر بحكاية الإجماع عليهِ.
وممن استحب ذَلِكَ ابن مبارك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال: كانوا يستحبون ذَلِكَ.
وقد دل على استحباب ذَلِكَ: ماروى الضحاك بن عثمان، عن بكير بن
الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة، قالَ: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فلان.
قالَ سليمان: يطيل الركعتين الأوليين من الظهر، ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بوسط المفصل، ويقرأ في الصبح بطوال المفصل.
خرجه الإمام أحمد والنسائي.
وخرج ابن ماجه بعضه.
وفي رواية للنسائي: ويقرأ في العشاء بالشمس وضحاها، وأشباهها، ويقرأ في الصبح سورتين طويلتين.
وفي رواية للإمام أحمد: قالَ الضحاك: وحدثني من سمع أنس بن مالك يقول: ما رأيت أحداً أشبه صلاة بصلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من هذا الفتى.

(7/28)


قالَ الضحاك: فصليت خلف عمر بن عبد العزيز، فكان يصنع مثلما قالَ سليمان بن يسار.
وخرج ابن سعد وغيره حديث أنس، عن ابن أبي فديك، عن الضحاك، قالَ: حدثني يحيى بن سعيد - أو شريك بن أبي نمر، لا ندري أيهما حدثه - عن أنس - فذكر الحديث.
والفتى: هوَ عمر بن عبد العزيز، كذا قالَ ابن أبي فديك، عن الضحاك بالشك.
ورواه الواقدي، عن الضحاك، عن شريك - من غير شك.
فهذا حديث صحيح عن أبي هريرة وأنس، ويدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يقرأ في المغرب بقصار المفصل.
ويشهد لهُ - أيضاً -: ما خرجه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب، عن
أبيه، عن جده، قالَ: ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا قد سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤم بها الناس في الصلاة المكتوبة.
فهذا يدل على إكثار النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قراءة سور المفصل في الصلوات الجهريات الثلاث. قصارها، وطوالها، ومتوسطها، فإن كانَ يقرأ في الصبح بطول المفصل وفي المغرب بقصاره وفي العشاء بأوساطه؛ فهوَ موافق لحديث أبي هريرة وأنس، وهذا هوَ الظاهر، وإن يقرأ بقصار سور المفصل في العشاء أو في الصبح، فقراءتها في المغرب أولى.

(7/29)


وخرج النسائي من رواية سيفان، عن محارب بن دثار، عن جابر، قالَ: مر رجل من الأنصار بناضحين على معاذ، وهو يصلى المغرب، فافتتح سورة البقرة، فصلى الرجل، ثم ذهب، فبلغ ذَلِكَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالَ: ((أفتان يا معاذ؟ أفتان يا معاذ؟ ألا قرأت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ونحوهما)) .
ورواه مسعر، عن محارب بن دثار، قالَ في حديثه: ((إنما يكفيك أن تقرأ في المغرب بالشمس وضحاها وذواتها)) .
وروه أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن محارب، وقال في حديثه:
((ألا يقرأ أحدكم في المغرب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} )) .
وخرج ابن ماجه: حدثنا أحمد بن بديل: ثنا حفص بن غياث، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قالَ: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في المغرب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
ابن بديل، قالَ النسائي ليس به بأس، وقال ابن أبي حاتم: محله الصدق، وقال ابن عدي: حدث بأحاديث أنكرت عليهِ، ويكتب حديثه

(7/30)


مع ضعفه.
وقد أنكر عليهِ هذا الحديث بخصوصه أبو زرعة الرازي وغيره. قالَ الدارقطني: لم يتابع عليهِ.
قلت: وقد تابعه عبد الله بن كرز على إسناده، فرواه عن نافع، عن ابن عمر، وخالفه في متنه، فقالَ: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يقرأ في المغرب بالمعوذتين.
ولم يتابع عليهِ، قالَ الدار القطني: ليس بمحفوظ، وابن كرز ضعيف.
وروى سعيد بن سماك بن حرب: ثنا أبي، ولا أعلمه إلا عن جابر ابن سمرة، قالَ: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}
و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة: سورة الجمعة والمنافقين.
خرجه الحاكم والبيهقي.
وروي عن أبي عثمان الصابوني أنه صححه، وكان يعمل به حضراً وسفراً، وعن ابن حبان أنه ذكر في ((ثقاته)) : أن المحفوظ عن سماك

(7/31)


مرسلا.
وسعيد بن سماك بن حرب، قالَ أبو حاتم الرازي: متروك الحديث.
قالَ علي بن سعيد: قلت لأحمد: ما يروى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة المغرب بالطور والأعراف والمرسلات؟ قالَ: قد روي عنه ذَلِكَ، حديث معاذ.
وأشار أبو داود إلى نسخ القراءة بالأعراف، واستدل لهُ بعمل عروة بن الزبير بخلافه، وهو روايه.
وقد قالَ طائفة من السلف: إذا اختلفت الأحاديث فانظروا ما كانَ عليهِ أبو بكر وعمر.
يعني: أن ما عملا به فهوَ الذي استقر عليهِ أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد تقدم عنهما القراءة في المغرب بقصار المفصل، وعضد ذَلِكَ - أيضاً - حديث عثمان بن أبي العاص، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد إليه أن يخفف، ووقت لهُ أن يقرأ بـ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وأشباهها من السور.
وعثمان بن أبي العاص قدم مع وفد ثقيف بعد فتح مكة، وذلك في آخر حياة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فإن قرأ في المغرب بهذه السور الطوال ففي كراهته قولان:

(7/32)


أحدهما: يكره، وهو قول مالك.
والثاني: لا يكره، بل يستحب، وهو قول الشافعي؛ لصحة الحديث بذلك، حكى ذَلِكَ الترمذي في ((جامعه)) ، وكذلك نص أحمد على أنه لا بأس به ولكن أن كانَ ذَلِكَ يشق على المأمومين، فإنه يكره أن يشق عليهم، كما سبق ذكره.
وهذا على قول من يقول بامتداد وقت المغرب إلى مغيب الشفق ظاهر، فأما على قول من يقول: إن وقتها وقت واحد مضيق فمشكل.
وكذلك كرهه مالك.
وأما أصحاب الشافعي، فاختلوا فيمن دخل فيها في أول وقتها: هل لهُ أن يطيلها ويمدها إلى مغيب الشفق، أم لا؟ على وجهين.
ورجح كثير منهم جوازه؛ لحديث زيد بن ثابت، فأجازوا ذَلِكَ في الاستدامة دون الابتداء، والله أعلم.

(7/33)


99 - باب
الجهر في المغرب

(7/34)


756 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن ابن شهاب، عن محمد ابن جبير بن مطعم، عن أبيه، قالَ: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في المغرب بالطور.
وخرجه في ((المغازي)) من طريق معمر، عن الزهري، وزاد فيهِ: وذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي.
وهذا كانَ قبل أن يسلم جبير بن مطعم، وكان قدم المدينة لفداء أسارى بدر.
وخرج الإمام أحمد من طريق سعد بن إبراهيم: سمعت بعض إخوتي يحدث، عن أبي، عن جبير بن مطعم، أنه أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فداء المشركين _ وفي رواية: في فداء أهل بدراً _ وما أسلم يومئذ، قالَ: فانتهيت إليه وهو يصلي المغرب، وهو يقرأ فيها بالطور، قالَ: فكانما صدع قلبي حين سمعت القرآن.
وفي هذا: دليل على قبول رواية المسلم لما تحمله من العلم قبل إسلامه.
وقد روي أنه سمع صوت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو خارج من المسجد.

(7/34)


وفيه: دليل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يرفع صوته بالقراءة في صلاة الليل.
والأحاديث المذكورة في الباب الماضي تدل على الجهر بالقراءة في المغرب؛ فإن عامة من روى عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القراءة في [المغرب] بسورة ذكر أنه سمعه يقرأ بها، وفي ذَلِكَ دليل الجهر.
والجهر بالقراءة في المغرب إجماع [المسلمين] رأياً وعملا به لم يزل المسلمون يتداولونه بينهم، من عهد نيبهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى الآن.
[وأدنى] الجهر: أن يسمع من يليه، هذا قول أصحابنا والشافعية وغيرهم.
وقد سبق عن ابن مسعود، قالَ: من أسمع أذنيه فلم يخافت، وهو يدل على أدنى الجهر: أن يسمع نفسه.
روى وكيع، عن سفيان، عن أشعت بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن هلال، عن ابن مسعود، قالَ: لم يخافت من أسمع أذنيه.
ومنتهى الجهر: أن يسمع من خلفه إن أمكن ذَلِكَ من غير مشقة، وقد كانَ عمر بن الخطاب يسمع قراءته في المسجد من خارجه.
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء:110] قالَ: نزلت ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متوار بمكة، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، سمع ذَلِكَ المشركون سبوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، فقالَ الله لنبيه:

(7/35)


{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} فيسمع المشركون قراءتك {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك، أسمعهم القرآن لا تجهر ذَلِكَ الجهر {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} ، يقول: بين الجهر والمخافتة.
خرجاه في ((الصحيحين)) ولفظه لمسلم.
والجهر فيما يجهر فيهِ سنة، لا تبطل الصلاة بتركه عندَ جمهور العلماء.
وحكى عن ابن أبي ليلى أنه تبطل الصلاة بتركه. وهو وجه ضعيف لأصحابنا إذا تعمد ذَلِكَ.
وإنما يجهر الإمام إذا صلى من يأتم به، فأما المنفرد، فاختلفوا: هل يسن لهُ
الجهر، أم لا؟
فقالَ الشافعي وأصحابه: يسن لهُ الجهر. وحكاه بعضهم عن الجمهور.
ومذهب أبي حنيفة وأحمد: إنما يسن الجهر لإسماع من خلفه؛ ولهذا أمر من خلفه بالإنصات لهُ، كما قالَ تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] ، وقد سبق أنها نزلت في الصلاة وأما المنفرد فيجوز لهُ الجهر ولا يسن.
قالَ أحمد: إن شاء جهر، وإن شاء لم يجهر؛ إنما الجهر للجماعة.
وكذا قالَ طاوس: إن شاء جهر، وإن شاء لم يجهر.

(7/36)


ومن أصحابنا من كرهه للمنفرد.
ونص أحمد على أن المنفرد إذا صلى الكسوف جهر فيها بالقراءة، فخرج القاضي أبو يعلى من ذَلِكَ رواية باستحباب الجهر للمنفرد في الفرائض.
وبينهما فرق؛ فإن صلاة الكسوف تطول فيها القراءة، فيحتاج المنفرد إلى الجهر فيها؛ كقيام الليل، بخلاف الفرائض.

(7/37)


100 - باب
الجهر في العشاء

(7/38)


766 - حدثنا أبو النعمان: ثنا معتمر، عن أبيه، عن بكر، عن أبي رافع، قالَ: صليت مع أبي هريرة العتمه، فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد، فقلت لهُ. فقالَ: سجدت خلف أبي القاسم، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه.

(7/38)


767 - حدثنا أبو الوليد: ثنا شعبة، عن عدي، قالَ: سمعت البراء، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ في سفر، فقرأ في العشاء بالتين والزيتون.
لم يذكر في هذا الباب حدثنا مرفوعاً إلا على الجهر في العشاء.
أما حديث أبي هريرة: فغايته أن يدل على أن أبا هريرة جهر في قراءة صلاة العشاء، وسجد، وأخبر أنه سجد بهذه السجدة خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يقل: في صلاة العشاء، فيحتمل أنه سجد بها خلفه في صلاة جهر فيها بالقراءة غير صلاة العشاء، ويحتمل أنه سجد بها في غير صلاة؛ فإن القارئ إذا قرأ وسجد سجد من سمعه، ويكون مؤتماً به عندَ كثير من العلماء، وهو مذهب أحمد وغيره، ويأتي ذكر ذَلِكَ في مواضع أخر - إن شاء الله - سبحانه وتعالى -.

(7/38)


وأما حديث البراء: فليس في هذه الرواية التي خرجها هاهنا تصريح بالجهر، ولكنه خرجه فيما بعد، وزاد فيهِ: ((قالَ: فما سمعت أحسن صوتاً منه)) وهذا يدل على الجهر.
وبكل حال؛ فالجهر بالقراءة في الركعتين الأوليين من العشاء متفق عليهِ بين المسلمين، وقد تداولته الأمة عملاً به قرنا بعد قرن، من عهد نبيهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإلى الآن.
وحكم الجهر في العشاء حكم الجهر في المغرب، وقد سبق ذكره.

(7/39)


101 - باب
القراءة في العشاء بالسجدة

(7/40)


768 - حدثنا مسدد: ثنا يزيد بن زريع: ثنا التيمي، عن بكر، عن أبي رافع، قالَ: صليت مع أبي هريرة العتمة، فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد. فقلت:
ما هذه؟ قالَ: سجدت بها خلف أبي القاسم، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه.
قد ذكرنا أن هذا الحديث إنما فيهِ التصريح بالسجود في صلاة العشاء عن أبي هريرة، وليس فيهِ تصريح برفع ذَلِكَ إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسيأتي في موضع آخر - إن شاء الله تعالى - قراءة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في فجر يوم الجمعة بـ {الم تَنْزِيل} (السجدة) .
والظاهر: أنه كانَ يسجد فيها، ولو لم يكن يسجد فيها لنقل إخلاله بالسجود فيها، فإنه يكون مخالفا لسنته المعروفة في السجود فيها، ولم يكن يهمل نقل ذَلِكَ، فإن هذه السورة تسمى سورة السجدة، وهذا يدل على أن السجود فيها مما استقر عليهِ العمل به عندَ الأمة.
وجمهور العلماء على أن الإمام لا يكره لهُ قراءة سجدة في صلاة الجهر، ولا السجود لها فيها، وروى ذَلِكَ عن ابن عمر وأبي هريرة، وهو قول الشافعي وأحمد

(7/40)


وغيرهما.
واختلف فيهِ عن مالك، فروي عنه كراهته، وروي عنه أنه قالَ: لا بأس به إذا لم يخف أن يغلط على من خلفه صلاته.
وكأنه يشير إلى أنه إذا كثر الجمع وأدى السجود إلى تغليط من بعد عن الإمام؛ لضنّه أنه يكبر للركوع فركع.
وأما قراءة الإمام في صلاة السر سورة فيها سجدة، فاختلفوا في ذَلِكَ:
فكرهه كثير من العلماء، منهم: مالك والثوري وأبو حنيفة وأحمد.
وعللوا الكراهة بتغليط المأمومين، وأنه ربما اعتقدوا أنه سها في صلاته فيتخلف بعضهم عن متابعته وتختبط صلاتهم.
ثم اختلفوا فيما إذا قرأها: هل يسجد، أم لا؟
فقالَ: أكثرهم: يسجد، وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة.
والسجود عندَ مالك مستحب، وعندهما واجب؛ بناء على أصلهما في وجوب سجود التلاوة.
وقالوا: متى سجد لزم المأمومين متابعته في السجود.
وقال أحمد وأصحابه: يكره أن يسجد، فإن فعل لم يلزم المأموم متابعته، بل يخير في ذَلِكَ؛ لأن إمامه فعل مكروها لا يبطل صلاته، فخير في متابعته وترك متابعته.
وكذا قالَ الثوري في إمامٍ سجد، يظن أنه قرأ سجدة فسجد فيها: لا يتبعه من خلفه.
وقالت طائفة: لا يكره قراءة السجدة في صلاة السر ولا السجود

(7/41)


لها، وعلى المأموم متابعته، وهو قول الشافعي وإسحاق.
ومن الشافعية من قالَ: يستحب تأخير السجود لها حتى يفرغ من الصلاة، فيسجد حينئذ للتلاوة.
واستدلوا بما روى سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد في الركعة الأولى من صلاة الظهر، فرأى أصحابه أنه قرأ {تَنْزِيلُ} [السجدة] .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود.
ولم يسمعه التيمي عن أبي مجلز.
قالَ الدارقطني: وقيل: عنه، عن أبي أمية، عن أبي مجلز. قالَ: ويشبه أن يكون: عبد الكريم أبو أمية. وكذا قاله إبراهيم بن عرعرة.

(7/42)


وقال في موضع آخر: أمية مجهول.
وذكر البيهقي أنه قيل فيهِ: ((مية)) - أيضاً - بغير ألف.
وروى بهذا الإسناد عن أبي مجلز مرسلا.
قالَ الإمام أحمد في هذا الحديث: ليس لهُ إسناد. وقال - أيضاً -: لم يسمعه سليمان من أبي مجلز، وبعضهم لا يقول فيهِ: عن ابن عمر - يعني: جعله مرسلا.
وخرج أبو يعلى الموصلي في ((مسنده)) من طريق يحيى بن عقبة بن أبي العيزار، عن أبي إسحاق، عن البراء، قالَ: سجدنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الظهر، فظننا أنه قرأ
{تَنْزِيلُ} [السجدة] .
ويحيى هذا ضعيف جداً.

(7/43)


102 - باب
القراءة في العشاء

(7/44)


769 - حدثنا خلاد بن يحيى: ثنا مسعر: ثنا عدي بن ثابت: سمع البراء، قالَ: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في العشاء بالتين والزيتون، وما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه - أو قراءة.
هذا الحديث، رواه عن عدي بن ثابت: مسعر، ومن طريقه خرجه البخاري هاهنا.
وشعبة، وقد خرجه من حديثه فيما سبق.
ويحيى بن سعيد الأنصاري، وقد خرجه من طريقه الترمذي وابن ماجه.
وفي أحاديثهم: أن ذَلِكَ كانَ في العشاء.
وخرجه الإمام أحمد، عن أبي خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد، وقال في حديثه: ((المغرب)) ، بدل: ((العشاء)) .
رواه كذلك عبد الوهاب، عن شعبة.
خرجه من طريقه ابن أبي داود في ((كتاب الصلاة)) .
وروى ذَلِكَ عن مسعر - أيضاً.
خرجه الإسماعيلي في ((جمعه حديث مسعر)) .
وفي رواية خرجها الإسماعيلي - أيضاً -، عن البراء، قالَ: مشيت إلى

(7/44)


مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العشاء - فذكر الحديث. وزاد في آخره: وكان في قراءته ترسيل، أو ترتيل.
وذكر المشي إلى المسجد غريب لا يثبت، وهو يوهم أنه كانَ بالمدينة، وترده رواية شعبة المتفق عليها في ((الصحيحين)) : أن ذَلِكَ كانَ في سفر.
وهذا الحديث: يدل على القراءة في صلاة العشاء بقصار المفصل.
وقد بوب عليهِ أكثر من صنف في العلم، كالبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه: ((القراءة في العشاء)) . وظاهر كلامهم: يدل على أنه يستحب القراءة في العشاء بقصار المفصل، ولا يعلم قائل من الفقهاء يقول باستحباب ذَلِكَ مطلقاً.
وبوب عليهِ أبو داود: ((قصر القراءة في السفر)) ، فحمله على الصلاة في السفر خاصة.
وروى عمرو بن ميمون، أنه سمع عمر يقرأ بمكة في العشاء بالتين والزيتون،
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} وهذا - أيضاً - كانَ في سفر.
وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على تقصير القراءة في السفر.
وقال أصحابنا: لا يكره تخفيف القراءة في الصبح وغيرها في السفر دون الحضر.
وقال إبراهيم النخعي: كانَ أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرءون في السفر بالسور القصار.

(7/45)


خرجه ابن أبي شيبة. وخرج - أيضاً - بإسناده، عن عمرو بن ميمون، قالَ: صلى بنا عمر الفجر بذي الحليفة فقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون} ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
وبإسناده، عن ابن مسعود، أنه صلى بأصحابه الفجر في سفر، فقرأ بآخر بني إسرائيل: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} ، ثم ركع.
وروى حرب بإسناده، عن المعرور بن سويد، قالَ: حججت مع عمر، فقرأ بنا في صلاة الصبح بمكة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} و {لإِيلافِ قُرَيْشٍ} .
ويروى عن أنس أنه كانَ يقرأ في السفر في الفجر بالعاديات وأشباهها.
وروي عن عقبة بن عامر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى به الفجر في سفر، فقرأ بالمعوذتين.
خرجه وكيع في ((كتابه)) بإسناد منقطع.
وخرجه الإمام أحمد بإسناد متصل، ولم يذكر السفر، لكن ذكر أنه كانَ يقود بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راحلته، ثم ذكر صلاته عقب ذَلِكَ، وهو دليل على السفر.
وخرجه أبو داود والنسائي مختصراً.

(7/46)


وكان الأولى أن يخرج في هذا الباب حديث جابر في أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ أن يقرأ في صلاة العشاء بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَاللَّيْلِ
إِذَا} وقد خرجه البخاري فيما تقدم في ((أبواب: الإمامة)) .
وفي رواية لهُ - أيضاً - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره يقرأ سورتين من وسط المفصل. وعلى هذا جمهور العلماء: أن المستحب أن يقرأ في صلاة العشاء سورتين من أواسط المفصل، وهو قول الشافعي وأحمد.
وقد سبق من حديث أبي هريرة وأنس ما يدل على ذَلِكَ - أيضاً.
وروى ابن لهعية، عن ابن أبي جعفر، عن خلاد بن السائب، عن أبي قتادة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((لا يقرأ في الصبح دون عشرين آية، ولا في العشاء دون عشر آيات)) .
خرجه أبو الشيخ الأصبهاني.
وهو غريب.
وقد روي عن عمر، أنه كتب إلى أبي موسى أن يقرأ في الفجر بوسط المفصل.
ذكره الترمذي - تعليقاً.
وذكر عن عثمان أنه كانَ يقرأ في العشاء بأوساط المفصل؛ مثل سورة

(7/47)


المنافقين ونحوها.
وقد تقدم عن أبي هريرة، أنه قرأ فيها بـ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وروى مثله عن عمر، وعن ابن مسعود، أنه قرأ في الركعة الأولى من العشاء من أول الأنفال إلى رأس الأربعين {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} ثم ركع، ثم قام فقرأ بسورة من المفصل.
وقال النخعي وإسحاق: كانوا يعدلون الظهر في القراءة بالعشاء.
ومن قولهما: إن الظهر يقرأ فيها بنحو ثلاثين آية.
وقد سبق حديث في قراءة سورة الجمعة والمنافقين في صلاة العشاء، وأن من أهل الحديث من كانَ يعمل به حضراً وسفراً.
وروى حرب بإسناده، عن حبيب بن أبي ثابت، قالَ: كانوا يستحبون أن يقرءوا ليلة الجمعة سورة الجمعة، كي يعلم الناس أن الليلة ليلة الجمعة.
قالَ حرب: قلت لأحمد: فنقرأ ليلة الجمعة في العتمة بسورة الجمعة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} -؟ قالَ: لا؛ لم يبلغني في هذا شيء. وكأنه كره ذَلِكَ.
وروى الخلال من طريق الحسن بن حسان، قالَ: قلت لأحمد: فنقرأ في ليلة الجمعة بسورة الجمعة؟ قالَ: لا بأس، ما سمعنا بهذا شيئاً أعلمه، ولكن لا يدمن، ولا يجعله حتماً.

(7/48)


103 - باب
يطول في الأوليين ويحذف في الأخريين

(7/49)


770 - حديثاً سليمان: ثنا شعبة، عن أبي عون، قالَ: سمعت جابر بن سمرة، قالَ: قالَ عمر لسعد: قد شكوك في كل شيء حتى الصلاة؟ قالَ: أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين، ولا آلو ما اقتديت به من [صلاة] رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالَ: صدقت، ذَلِكَ الظن بك - أو ظني بك.
معنى: ((لا آلو)) : لا أقصر ولا أدع جهداً في الاقتداء بصلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد روي حديث سعد هذا بثلاثة ألفاظ:
أحدها: هذا، وهو ذكر الصلاة مطلقاً.
والثاني: ذكر صلاة العشي، والمراد: صلاة الظهر والعصر.
والثالث: ذكر صلاة العشاء، فإن كانَ محفوظاً كانَ الأنسب ذكره في هذا الباب.
وإنما خرجه البخاري في صلاة الظهر والعصر، وخرج هاهنا الرواية

(7/49)


المطلقة التي تدخل فيها كل صلاة رباعية، لقوله: أمد في الأوليين وأحذف في الأخريين.
ومراد البخاري: الاستدال بحديث سعد هاهنا على تطويل الأوليين من صلاة العشاء، فيكون ذَلِكَ مخالفاً لحديث البراء بن عازب الذي خرجه في الباب الماضي.
وقد ذكرنا عن النخعي وإسحاق ما يدل على أنه يشرع تطويل القراءة في العشاء، وأن الجمهور على أنه يقرأ فيها من أوساط المفصل، كما دل عليهِ حديث جابر في قصة معاذ بن جبل. والله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلم.

(7/50)


104 - باب
القراءة في الفجر
وقالت أم سلمة: قرأ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالطور.
حديث أم سلمة هذا، قد خرجه البخاري فيما سبق في ((أبواب: المسجد)) في ((باب: إدخال البعير المسجد لعلة)) وخرجه - أيضاً - في ((كتاب: الحج)) ولفظه: عن أم سلمة، قالت: شكوت إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني أشتكي، فقالَ: ((طوفي من وراء الناس وأنت راكبة)) فطفت ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى جنب البيت، وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور.
وخرجه مسلم - أيضاً -، وفي رواية لهُ: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ لها: ((إذا أقيمت الصلاة للصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون)) قالت: ففعلت.
وهذا يرد ما قاله ابن عبد البر: أن صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه كانت تطوعاً، ثم تردد: هل كانت ليلاً، أو نهار؟ وقال: فيهِ دليل على الجهر في تطوع النهار.
وهذا كله ليس بشيء.
فيهِ حديثان:

(7/51)


أحدهما:
قالَ:

(7/52)


771 - حدثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا سيار بن سلامة - هوَ: أبو المنهال -، قالَ: دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فسألناه عن وقت الصلاة. فقالَ: كانَ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الظهر حين تزول الشمس، والعصر ويرجع الرجل إلى أقصى المدينة، والشمس حية، ونسيت ما قالَ في المغرب، ولا يبالى بتأخير العشاء إلى ثلث الليل، ولا يحب النوم قبلها، ولا الحديث بعدها، ويصلي الصبح، (فينصرف) فيعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ في الركعتين - أو إحداهما - ما بين الستين إلى المائة.
قد سبق هذا الحديث في ((أبواب: المواقيت)) في مواضع متعددة، وفيها: أنه كانَ يقرأ فيها - يعني: صلاة الصبح - ما بين الستين إلى المائة.
وكذا خرجه مسلم.
وأما هذه الرواية التي فيها التردد بين القراءة في الركعتين، أو أحداهما ما بين الستين إلى المئة، فتفرد بها البخاري، وهذا الشك من سيار.
وخرجه الإمام أحمد، عن حجاج، عن شعبة، وفي حديثه: وكان يقرأ فيها ما بين الستين إلى المئة. قالَ سيار: لا أدري أفي إحدى الركعتين

(7/52)


أو كلتيهما.
والظاهر - والله أعلم -: أنه كانَ يقرأ بالستين إلى المائة في الركعتين كلتيهما؛ فإنه كانَ ينصرف حين يعرف الرجل جليسه، ولو كانَ يقرأ في كل ركعة بمائة آية لم ينصرف حتى يقارب طلوع الشمس.
يدل على ذَلِكَ: ما رواه الزهري وقتادة، عن أنس، أن أبا بكر صلى بالناس الصبح، فقرأ سورة البقرة، فقالَ لهُ عمر: كادت الشمس أن تطلع. فقالَ: لو طلعت لم تجدنا غافلين.
وروي، عن قتادة في هذا الحديث: أنه قرأ بال عمران.
ورواه مالك، عن هشام، عن أبيه، أن أبا بكر صلى الصبح، فقرأ فيها سورة البقرة في الركعتين كلتيهما.
وروى مالك - أيضاً -، عن هشام، عن أبيه، أنه سمع عبد الله بن عامر قالَ: صلينا وراء عمر بن الخطاب الصبح، فقرأ فيها سورة يوسف وسورة الحج قراءة بطيئة. قالَ هشام: فقلت لهُ: إذا، لقد كانَ يقوم حين يطلع الفجر. قالَ: أجل.
وقد رواه وكيع وأبو أسامة، عن هشام، أنه سمع عبد الله بن عامر.
وزعم مسلم: أن قولهم أصح، وأن مالكاً وهم في زيادته في إسناده:

(7/53)


((عن
أبيه)) .
قالَ ابن عبد البر: والقول عندي قول مالك؛ لأنه أقعد بهشام.
وقد كانَ عمر هوَ الذي مد في صلاة الفجر، كما روى ثابت، عن أنس قالَ: ما صليت خلف أحد أوجز من صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تمام، كانت صلاته متقاربة، وكانت صلاة أبي بكر متقاربة، فلما كانَ عمر بن الخطاب مد في صلاة الفجر.
خرجه مسلم.
ورواه حميد عن أنس، قالَ: كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متقاربة، وصلاة أبي بكر وعمر، حتى مد عمر في صلاة الفجر.
خرجه الإمام أحمد.
فهذا يدل على أن زيادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قراءة صلاة الفجر على سائر الصلوات لم يكن كثيراً جداً، وأن صلواته كلها لم يكن بينها تفاوت كثير في القراءة، وأن هذا هوَ الغالب على صلاته، وقد يطيل أحياناً ويقصر أحياناً؛ لعارض يعرض لهُ، فيحمل حديث أبي برزة على أنه كانَ يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المائة، أحيانا، لا غالباً.
وقد سبق حديث عائشة: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يطيل القراءة في الفجر.

(7/54)


والمراد: أنه يقرأ في الفجر أطول مما يقرأ في غيرها من الصلوات، وإنما كانت قراءة أبي بكر بالبقرة مرة واحدة، وكان عمر يقرأ في الفجر ببني إسرائيل والكهف ويونس وهود ونحو ذَلِكَ من السور.
وكان عثمان يكرر قراءة سورة يوسف في صلاة الفجر كثيراً. وكذلك كانَ ابن مسعود يقرأ فيها ببني إسرائيل في ركعة و {طسم} في ركعة.
وكان ابن الزبير يقرأ في الصبح بيوسف وذواتها.
وكان عليّ يخفف، فكان يقرأ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} ونحو ذَلِكَ من السور.
والظاهر: أنه كانَ يسفر بالفجر، وكان من قبله يغلس بها.
وقد روي، أن عمر لما قتل أسفر بها عثمان.
خرجه ابن ماجه.
وقد روى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التخفيف في الفجر - أيضاً -، وقد تقدم أنه قرأ بالطور.
وفي ((صحيح مسلم)) عن قطبة بن مالك، أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الفجر
{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:10] .
وفي رواية لهُ: أنه قرأ في أول ركعة {ق} .

(7/55)


وفيه - أيضاً -: عن عمرو بن حريث، أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الفجر {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير:17] .
وفيه - أيضاً -: عن جابر بن سمرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يقرأ في الفجر بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ونحوها.
وفي رواية: وكانت صلاته بعد تخفيفاً.
والظاهر: أنه أراد أن صلاته بعد الفجر كانت أخف من صلاة الفجر.
وروى أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الفجر بسورة الروم، وبسورة {يّس} و {حم}
و {الم} السجدة، و {هَلْ أَتَى} .
وفي ((سنن أبي داود)) أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الصبح {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} في الركعتين كلتيهما.
يعني: أنه أعادها في الركعة الثانية، ولعل ذَلِكَ كانَ سفراً.
وروى عقبة بن عامر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الفجر في السفر بالمعوذتين وقد سبق ذكره.
وأكثر العلماء على أن المستحب أن يقرأ في الفجر بطول المفصل، كما كتب به عمر إلى موسى الأشعري، ودل عليهِ حديث أبي هريرة وأنس، وقد سبق.
وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق.
وروي عن أحمد ما يدل على أن الركعة الأولى يقرأ فيها بطول

(7/56)


المفصل، والثانية يقرأ فيها متوسطة.
وروي عن الزهري، أنه كانَ يقرأ في الأولى من طوال المفصل، وفي الثانية من قصاره.
وهذا مبني على القول باستحباب تطويل الأولى على الثانية كما سبق.
وروى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كانَ يقرأ في الصبح في السفر بالعشر السور الأول من المفصل، في كل ركعة بسورة.
وظاهر هذا: يدل على أنه كانَ يرى القراءة في الصبح بطوال المفصل مختصاً بالسفر.
وقد نص أحمد على أنه يكره قراءة السورة القصيرة في صلاة الفجر؛ مثل {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {أَرأَيْتَ} إلا في السفر، وأنه لا تكره القراءة فيها بمريم و {طه} وأشباهما من السور.
وقال: قد قرأ أبو بكر بالبقرة، وكأنه استحب موافقة من خلفه.
يعني: مراعاة أحوالهم من ضعفهم وقوتهم وما يؤثرونه من التخفيف والإطالة.
الحديث الثاني:
قالَ:

(7/57)


772 - حدثنا مسدد: ثنا إسماعيل بن إبراهيم: ثنا ابن جريح: أخبرني عطاء، أنه سمع أبا هريرة يقول: في كل صلاة يقرأ، فما أسمعنا

(7/57)


رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسمعناكم، وما أخفى علينا أخفينا عنكم، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت، وأن زدت فهوَ خير.
هذا الحديث: يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يقرأ في جميع الصلوات ما جهر فيهِ وما خافت، فيجهر في الجهريات فيسمعه من خلفه، ويخفي في غيرها.
وهذا شبيه بحديث خباب المتقدم، وكان الأولى تخريجه في ((أبواب: القراءة في الظهر والعصر)) ؛ فإن قراءة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة السر خفيت على ابن عباس وغيره، وأما قراءته في صلوات الجهر فلم تخف على أحد.
فأكثر ما يستفاد من هذا الحديث في هذا الباب: أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يقرأ في صلاة الصبح ويجهر بالقراءة، وليس فيهِ ذكر ما كانَ يقرأ به، ولا تقديره، فأول الحديث وآخره موقوف على أبي هريرة.
وقد وقع أوله مرفوعاً:
خرجه مسلم من رواية حبيب بن الشهيد: سمعت عطاء يحدث، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: ((لا صلاة إلا بقراءة)) . قالَ أبو هريرة: فما أعلن لنا
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلنا لكم، وما أخفاه أخفيناه لكم.
وذكر الدارقطني وأبو مسعود الدمشقي وغيرهما: أن رفعه وهم، وإنما هوَ موقوف.

(7/58)


وقد رفعه - أيضاً - ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن أبي هريرة، قالَ: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((لا صلاة إلا بقراءة)) قالَ أبو هريرة: كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بنا فيجهر ويخافت، فجهرنا فيما جهر، وخافتنا فيما خافت.
خرجه الحارث بن أبي أسامة.
وابن أبي ليلى، سيء الحفظ جداً، ورفعه وهم. والله أعلم.

(7/59)


105 - باب
الجهر بقراءة الفجر
وقالت أم سلمة: طفت وراء الناس والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي يقرأ بالطور.
حديث أم سلمة، قد ذكرنا في الباب الماضي.
فيهِ حديثان:
الأول:

(7/60)


773 - حدثنا مسدد: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر - هوَ: جعفر بن أبي
وحشية -، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قالَ: انطلق النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فانصرف الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بنخلة - عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القران [استمعوا لهُ، فـ] قالوا: هذا - والله - الذي حال بينكم

(7/60)


وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرانا عجبا، يهدي إلى الرشد فامنا به، ولن نشرك بربنا أحداً، فأنزل الله على نبيه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيّ} ، وإنما أوحي إليه قول الجن.
هذه القصة كانت في أول البعثة.
وهذا الحديث مما أرسله ابن عباس، ولم يسم من حدثه به من الصحابة، ويحتمل أنه سمعه من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحكي عن نفسه. والله أعلم.
وسوق عكاظ نحو نخلة، كانَ يجتمع فيهِ العرب، ولهم فيهِ سوق، فكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج إليهم، فيدعوهم إلى الله عز وجل، وقد كانت الشهب يرمى بها في الجاهلية، وإنما كثرت عندما بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد قالَ السدي وغيره: إن السماء لم تحرس إلا حيث كانَ في الأرض نبي أو دين لله ظاهر.
والمقصود من هذا الحديث هاهنا: أن الشياطين لما مروا بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي بأصحابه صلاة الصبح، وقفوا واستمعوا القرآن. وهذا يدل على أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يجهر بالقراءة في صلاة الصبح، فلما سمعوا عرفوا أنه هوَ الذي حال بينهم وبين خبر السماء.
وظاهر هذا السياق: يقتضي أن الشياطين آمنوا بالقرآن، وكذا قالَ

(7/61)


السدي وغيره.
وقد اختلف في الجن والشياطين: هل هم جنس واحد، أو لا؟
فقالت طائفة: الجن كلهم ولد إبليس، كما أن الإنس كلهم ولد آدم.
روي هذا عن ابن عباس من وجه فيهِ نظر. وأنهم لا يدخلون الجنة.
وروي - أيضاً - عن الحسن، وأنه قالَ: مؤمنهم ولي لله لهُ الثواب، ومشركهم شيطان لهُ العقاب.
وقالت طائفة: بل الشياطين ولد إبليس، وهم كفار ولا يموتون إلا مع إبليس، والجن [ولد] الجان وليسوا الشياطين، وهم يموتون، وفيهم المؤمن والكافر.
روي هذا عن ابن عباس بإسناد فيهِ نظر - أيضاً.
وقوله: ((وإنما أوحي إليه قول الجن)) . يشير ابن عباس إلى أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ير الجن، ولا قرأ عليهم، وإنما أوحي إليه استماعهم القرآن منه وإيمانهم به.
وقد روي ذَلِكَ صريحاً عنه، أنه قالَ في أول هذا الحديث: ما قرأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الجن ولا رآهم - ثم ذكر هذا الحديث.
الحديث الثاني:

(7/62)


774 - حدثنا مسدد: ثنا إسماعيل: ثنا [أيوب، عن] عكرمة، عن

(7/62)


ابن عباس، قالَ: قرأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما أمر، وسكت فيما أمر، وما كانَ ربك نسيا، ولقد كانَ لكم في رسول الله أسوة حسنة.
وخرجه الإمام أحمد، عن عبد الصمد بن الوراث، عن أبيه، عن أيوب، عن عكرمة، قالَ: لم يكن ابن عباس يقرأ في الظهر والعصر، قالَ: قرأ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما أمر أن يقرأ فيهِ، وسكت فيما أمر أن يسكت فيهِ، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وما كان ربك نسيا.
وهذا يرد قول من تأول كلام ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسر القراءة في بعض صلاته، ويجهر في بعضها، كما نقله الإسماعيلي والخطابي وغيرهما.
وقد روي ذلك صريحاً عن ابن عباس من وجوه أخر، قد ذكرنا بعضها فيها سبق في ((باب: القراءة في الظهر)) ، وذكرنا اختلاف الروايات عن ابن عباس في ذلك.
والمراد من تخريج هذا الحديث في هذا الباب: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في صلاة الفجر، ويجهر بالقراءة فيها؛ فإن ابن عباس أخبر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ فيما يجهر فيه.
ولا خلاف بين أحد من المسلمين كان يجهر بالقراءة في صلاة الفجر كلها.
فيستفاد من حديث ابن عباس هذا قراءة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الفجر جهراً وهو المقصود في هذا الباب. والله أعلم.

(7/63)


106 - باب
الجمع بين السورتين في الركعة، والقراءة بالخواتيم
وسورة قبل سورة، بأول سورة
ويذكر، عن عبد الله بن السائب: قرأ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المؤمنين في الصبح، حتى إذا جاء ذكر موسى [وهارون]- أو ذكر عيسى - أخذته سعلة فركع.
هذا الحديث خرجه مسلم من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريح سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول: أخبرني أبو سلمة بن سفيان، وعبد الله ابن عمرو، وعبد الله بن المسيب العابدي، عن عبد الله بن

(7/64)


السائب، قال: صلى لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصبح بمكة، فاستفتح بسورة المؤمنين، حتى جاء ذكر موسى وهارون – أو ذكر عيسى – محمد بن عباد يشك، أو اختلفوا عليه – أخذت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعلة فركع. وعبد الله بن السائب حاضر ذلك.
وخرجه – أيضاً – من طريق حجاج، عن ابن جريح، وقال فيه: وعبد الله بن عمرو بن العاص – في أحد الرواة الثلاثة عن ابن السائب.
وقيل: إنه وهم؛ فإن عبد الله بن عمرو هذا ليس بابن العاص.
وكذا رواه أبو عاصم، عن ابن جريح، كما رواه عنه عبد الرزاق وحجاج.
ورواه يحيى بن سعيد عن ابن جريح، فقال: - مرة -: عن أبي سفيان، عن عبد الله بن السائب.
ورواه ابن عيينة، عن جريح، عن ابن أبي ملكية، عن ابن السائب.
وقال أبو حاتم الرازي: هو خطأ من ابن عيينة.
و ((السعلة)) : من السعال، قيد كثير من الناس بفتح السين. وقيل: إنه، وهم، وإن الصواب بضمها. والله أعلم.
وهذا الحديث: قد يستدل به على قراءة السورة في الركعتين، وقد سبق ذكر ذلك، إلا أنه ليس فيه تصريح بأنه أتمها في الركعة الثانية، فإنما يستدل به على جواز قراءة أول السور في ركعة.
وأكثر العلماء على أنه لا يكره قراءة أوائل السور وأوساطها وخواتمها في الصلاة.
وقد روي عن ابن مسعود، أنه كان يقرأ في المفروضة بخواتيم السور وعن أحمد، يكره القراءة من أوساط السور دون خواتيمها.
وعنه، أنه يكره قراءة أواخر السور.
كذا حكاها طائفة من أصحابنا عن أحمد، ومنهم من حملها على كراهة المدوامة على ذلك دون فعله أحياناً؛ لأن أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان الغالب عليهم قراءة السورة التامة، فيكره مخالفتهم في أفعالهم.
ثم قال البخاري:
وقرأ عمر في الركعة الأولى بمئة وعشرين [آية] من البقرة، وفي الثانية بسورة من المثاني.

(7/65)


هذا يدل على قراءة سورة وبعض أخرى في ركعتين. وقد سبق ذكر حكم
ذلك، وأنه غير مكروه.
والقرآن: ينقسم إلى ((السبع الطوال)) ، وهي: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس، كذا قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما. وإلى ((المئين)) ، وهي ما كان من السور وعدد آياته مائة آية، أو يزيد، أو ينقص شيئا. وإلى ((المفصل)) ، وأوله الحجرات – على الأشهر و ((المثاني)) ، وهو ما عدا ذلك.
وقد سأل ابن عباس عثمان، فقال: ما حملكم على أن عمدتم إلى ((براءة)) – وهي من المئين – وإلى الأنفال – وهي من المثاني – فجعلتموها في السبع الطوال – وذكر الحديث.
خرجه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه.
وفي ((المسند)) عن واثلة بن الأسقع مرفوعا: ((أعطيت مكان التوراة السبع الطول، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني وفصلت
بالمفصل)) .
وروى الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن أدريس: أبنا يزيد بن أبي زياد، عن
عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن أبزى، قال: صليت خلف

(7/67)


عمر، فقرأ بسورة يوسف حتى إذا بلغ {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} [يوسف: 84] وقع عليه البكاء فركع، ثم قرأ سورة النجم، فسجد فيها، ثم قام، فقرأ {إذا زلزلت الأرض} .
وهذا فيه – أيضاً – جمع قراءة سورتين في ركعة وبعض سورة في آخرى.
قال البخاري:
وقرأ الأحنف الكهف في الأولى، وفي الثانية بيوسف أو يونس، وذكر أنه صلى مع عمر الصبح بهما.
هذا يدل على أنه لا يكره قراءة القرآن على غير ترتيب المصحف، فيقرأ في الركعة الأولى سورة، وفي الثانية بسورة قبلها في ترتيب المصحف.
وقد روي هذا عن عمر من وجه آخر، وعن أنس:
وروى وكيع بإسناده، عن عمرو بن ميمون، قال: أمنا عمر في المغرب فقرأ بالتين في الركعة الأولى، ثم قرأ {وَطُورِ سِينِينَ} ، ثم قرأ في الثانية {ألم تر}
و {لإيلاف} .
وفي هذا جمع بين سورتين في الركعة – أيضاً.

(7/68)


وروى عن أنس، أنه قرأ في صلاة المغرب في أول الركعة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
وقد روي مثل هذا من حديث ابن عمر مرفوعاً.
خرجه حرب الكرماني.
ولا يصح إسناده.
والأكثرون على أن ذلك غير مكروه. وعن أحمد رواية أنه يكره تعمد ذلك؛ لمخالفته ترتيب المصحف.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قرأ في قيامه من الليل سورة البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران.
وترتيب سور المصحف على هذا الترتيب ليس توقيفاً على الصحيح، بل هو أمر اجتهد فيه عثمان مع الصحابة، وحديث سؤال ابن عباس لعثمان المشار إليه فيما سبق يدل عليه.
قال البخاري:
وقرأ مسعود بأربعين آية من الأنفال وفي الثانية بسورة من المفصل.
هذا الأثر رواه وكيع في ((كتابه)) ، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن
عبد الرحمن بن يزيد، قال: أمنا عبد الله في العشاء، فقرأ الأنفال، فلما بلغ رأس الأربعين {ونعم النصير} ركع، ثم قام، فقرأ في

(7/69)


الثانية بسورة من المفصل.
وهذا فيه قراءة سورة وبعض أخرى في ركعتين كما تقدم عن عمر.
قال البخاري:
[و] قال قتادة فيمن يقرأ سورة واحدة في الركعتين، أو يردد سورة واحدة في ركعتين: كل كتاب الله - عز وجل -.
أما قراءة سورة يقسمها في ركعتين فغير مكروه، وقد فعله أبو بكر وعمر وغيرهما، وقد سبق ذكره. وكذلك ترداد السورة في الركعتين كلتيهما، قد سبق حديث الرجل الجهيني أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الصبح {إذا زلزلت الأرض} في الركعتين كلتيهما، قال: فلا أدري أنسي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أم قرأ ذلك عمداً؟
خرجه أبو داود.
ونص أحمد على أنه جائز في الفرض من غير كراهة.
قال البخاري:

(7/70)


774م - وقال عبيد الله بن عمر، عن ثابت عن أنس بن مالك:

(7/70)


كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما استفتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص:1] حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى
معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمة أصحابه، فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بالأخرى، فإما أن تقرأ بها أما أن، تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم. وكان يرون أنه من أفضلهم، وكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبروه الخبر. فقال ((يا فلان، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟ وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟)) قال: إني أحبها قال: ((حبك إياها أدخلك الجنة)) .
هذا الحديث خرجه الترمذي في ((جامعه)) عن البخاري: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس: حدثني عبد العزيز بن محمد، عن عبيد الله بن عمر – فذكره وقال: حسن غريب من هذا الوجه.
وإنما لم يخرجه البخاري – هاهنا – مسنداً؛ لأن حماد بن سلمة رواه عن

(7/71)


ثابت، عن حبيب بن سبيعة، عن الحارث، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال الدارقطني: هو أشبه بالصواب.

(7/72)


وحماد بن سلمة ذكر كثير من الحفاظ أنه أثبت الناس في حديث ثابت، وأعرفهم به.
والحارث هذا اختلف: هل هو صحابي، أو لا؟ فقال أبو حاتم الرازي: له صحبة. وقال الدارقطني: حديثه مرسل.
وخرجا في ((الصحيحين)) معنى هذا الحديث من رواية أبي الرجال، عن
عمرة، عن عائشة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ((سلوه لأى شيء يصنع ذلك)) ؟ فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأها. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أخبروه أن الله يحبه)) .
وقد دل حديث أنس وعائشة على جواز جمع سورتين مع الفاتحة في ركعة واحدة من صلاة الفرض؛ فإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينهه عن ذلك.
ويدل على أنه ليس هو الأفضل؛ لأن أصحابه استنكروا فعله وإنما استنكروه لأنه مخالف لما عهدوه من عمل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه في صلاتهم؛ ولهذا قال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟)) .
فدل على أن موافقتهم فيما أمروه به كان حسناً، وإنما اغتفر ذلك لمحبته لهذه السورة.

(7/73)


وأكثر العلماء على أنه لا يكره الجمع بين السور في الصلاة المفروضة، وروي فعله عن عمر وابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعلقمة، وهو قول قتادة والنخعي ومالك، وعن أحمد في كراهته روايتان. وكرهه أصحاب أبي حنيفة.
قال البخاري:

(7/74)


775 - حدثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا وائل قال: جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة. قال: هذا كهذ
الشعر، لقد عرفت النظائر التي كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل، سورتين في كل ركعة.
((الهذ)) : متابعة القراءة في سرعة، وكرهه ابن مسعود لما فيه من قلة التدبر لما يقرءوه.
و ((النظائر)) : قيل: إنها سميت بذلك؛ لأنها متشابهة في الطول، فتكون جمع نظيرة. وقيل لفظ لما [. . .] فيكون جمع نظورة، وهي الخيار، يقال: نظائر الجيش بمعنى أفاضلهم وأماثلهم.
وسمى المفصل مفصلاً لكثرة الفصول بين، وأول المفصل سورة {ق} وروي ذلك في حديث مرفوع. وقيل: أوله [سورة] القتال. وكان ابن

(7/74)


مسعود أول مفصله
((الرحمن)) ، لكن ترتيب سوره على غير هذا الترتيب.
وقد روي تفسير هذه السور التي ذكرها ابن مسعود في روايات أخر عنه.
وفي رواية لمسلم في هذا الحديث: ثمان عشرة من المفصل، وسورتين من آل
حم.
وفي رواية لأبي داود من طريق أبي إسحاق، عن الأسود وعلقمة، عن عبد الله: تفسير ذلك فقال: {الرحمن} {والنجم} في ركعة، و {اقتريب} و {الحاقة} في ركعة، {والطور} و {والذاريات} في ركعة، و {إذا وقعت الواقعة}
و {نَ} في ركعة، و {سأل سائل} {والنازعات} في ركعة، و {ويل للمطففين} و {عبس} في ركعة، و {المدثر} و {المزمل} في ركعة، و {هل أتى} و {لا أقسم بيوم القيامة} في ركعة و {عم يتساءلون} {والمرسلات} في ركعة،
و {الدخان} و {إذا الشمس كورت} في ركعة.
قال أبو داود: هذا تأليف من ابن مسعود.
وليس في هذه الرواية من آل حم سوى سورة الدخان، وهذا يخالف رواية مسلم المتقدمة: وسورتين من آل حم.
وخرج الإمام أحمد من رواية إبراهيم، عن نهيك بن سنان السلمي، أنه أتى ابن مسعود فقال: إني قرأت المفصل الليلة في ركعة. فقال: هذا مثل هذ الشعر، أو نثرا كنثر الدقل، إنما فصل لتفصلوا، لقد

(7/75)


علمت النظائر التي كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرن: عشرين سورة: {الرحمن} {والنجم} ، على تأليف ابن مسعود، كل سورتين في ركعة، وذكر {الدخان} و {عم يتساءلون} في ركعة.
وخرجه يعقوب بن شيبة في ((مسنده)) ، وقال: هو حسن الإسناد.
وفي هذه الرواية اقتران الدخان بـ {عم يتساءلون} ، وهي تخالف رواية أبي داود السابقة في اقتران الدخان بـ {إذا الشمس كورت} .
وخرج الطبراني من رواية محمد بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن أبي وائل، قالَ: قالَ عبد الله: لقد علمت النظائر التي كانَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بهن:
{الذاريات} ، {والطور} ، {والنجم} ، و {اقتربت} ، و {الرحمن}
و {الواقعة} ، و {نَ} و {الحاقة} ، و {سأل سائل} و {المزمل} و {لا أقسم بيوم القيامة} و {هل أتي على الانسان} ، {والمرسلات} ، و {عم يتساءلون} ، {والنازعات} ، و {عبس} و {ويل للمطففين} ، و {إذا الشمس كورت} .
وهذه الرواية تخالف ما تقدم، وتلك الرواية أصح، ومحمد بن سلمة بن كهيل تكلم فيه، وتابعة عليه أخوه يحيى، وهو أضعف منه.
وخرج أبو داود من رواية عبد الله بن شقيق، قال: سألت عائشة: هل كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرن بين السور؟ قالت: من المفصل.

(7/76)


والظاهر: أن حديث ابن مسعود وعائشة إنما هو في صلاة الليل.
وخرج مسلم من حديث حذيفة، قال: صليت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة [فمضى] ، فقلت: يركع بها، ثم افتتح سورة النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها – وذكر الحديث.
وهذا كله يدل على جواز الجمع بين السور في صلاة التطوع.
وروى أبو العالية، قال: أخبرني من سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((لكل سورة حظها من الركوع والسجود)) .
وخرجه الإمام أحمد.
وقد حمل هذا – تقدير صحته – على الصلاة المفروضة.
وروى وكيع، عن عيسى الخياط، عن الشعبي، عن زيد بن خالد الجهني، قال: ما أحب أني قرنت سورتين في ركعة، وأن لي حمر النعم.
عيسى هذا، فيه ضعف.

(7/77)


107 - باب
يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب

(7/78)


776 - حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا همام، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي
قتادة، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الظهر [في الأوليين] بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب، ويسمعنا الآية، ويطول في الركعة الأولى ما لا يطول في [الركعة] الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح.
قد خرج البخاري هذا الحديث فيما سبق من رواية شيبان وهشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، وليس في حديثهما: ويقرأ في الركعتين الأخريين بأم الكتاب.
وخرجه هاهنا من طريق همام، عن يحيى بهذه الزيادة.
وخرجه مسلم في ((صحيحه)) من راوية همام وأبان العطار، كلاهما عن يحيى بن أبي كثير.
وقد سأل الأثرم الإمام أحمد عن هذه الزيادة: أثبت هي؟ قال: روها عدة، ورواها بعضهم عن الأوزاعي، فقال له الأثرم: هشام لا

(7/78)


يقولها؟ قال نعم، هشام لا يقولها.
وقد ذهب أكثر العلماء إلى القول بذلك، وأنه لا يزيد في الركعتين الأخريين والثالثة من المغرب على فاتحة الكتاب.
وروي نحو ذلك عن علي وابن مسعود وعائشة وأبي هريرة وجابر وأبي الدرادء.
وعن ابن سيرين، قال: لا أعلمهم يختلفون أنه يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب.
وقد دل على ذلك – أيضاً –: حديث سعد في الحذف في الأخريين. وقد تقدم في مواضع من الكتاب.
وروى مالك عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان إذا صلى وحده يقرأ في الأربع جميعا، في كل ركعة بأم القرآن وسورة.
وذهب الشافعي – في أحد قوليه – أنه يستحب أن يقرأ سورة مع أم القرآن في الركعات كلها.
ومن أصحابنا من حكاه رواية عن أحمد، وأكثر أصحابنا قالوا: لا يستحب -: رواية واحدة.
وفي كراهيته عنه روايتان.

(7/79)


وقد تقدم عن أبي بكر الصديق، أنه قرأ في الثالثة من المغرب بعد الفاتحة:
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] .
وقد استحب أحمد ذلك في رواية.
قال القاضي أبو يعلى: يحتمل أنه استحبه؛ لأنه دعاء، فإنه قال في رواية الأثرم: إن شاء قاله. قال: ولا تدري أكان ذلك من أبي بكر قراءة أو دعاء.
وقد تقدم من حديث أبي سعيد الخدري ما يدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الركعتين الأخريين على قدر نصف قراءته في الأوليين.
وحمله طائفة من أصحابنا وغيرهم على أن هذا كان يفعله أحياناً لبيان الجواز، فيدل على أنه غير مكروه، خلافا لمن كرهه. والله أعلم

(7/80)


108 - باب
من خافت القراءة في الظهر والعصر

(7/81)


777 - حدثنا قتيبة: ثنا جرير، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي معمر، قال: قلنا لخباب: أكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الظهر والعصر؟ قال نعم. قلنا: من أين علمت؟ قال: باضطراب لحيته.
قد تقدم هذا الحديث من طريق عن الأعمش.
ومقصود بهذا الباب: أن قراءة الظهر والعصر تكون سراً، وهذا مما لا اختلاف فيه بين المسلمين علماً وعملاً، متداولا من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإلى الآن.
والمخافته سنة كالجهر. وأوجب ذلك ابن أبي ليلى وقليل من الناس، وهو وجه للمالكية.
ولأصحابنا: أنه تبطل الصلاة بتركه عمداً.
وخرج الطبراني وابن عدي من طريق أبي الرحال البصري، عن

(7/81)


النضر ابن أنس، عن أبيه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم الظهر بالهاجرة، فرفع صوته، فقرأ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} فقال أبي بن كعب: يارسول الله، أمرت في هذه الصلاة بشيء؟ قال: ((لا، ولكني أردت أن أوقت لكم صلاتكم)) .
أبو الرحال، اسمه: خالد بن محمد، قال البخاري: منكر الحديث وأخرجه العقيلي من طريقه.
وقال: لا يتابع عليه. قال: والصحيح من الرواية عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه لم يكن يجهر في صلاة النهار بالقراءة إلا في الجمعة.
وخرجه النسائي من رواية عبد الله بن عبيد، قال: سمعت أبا بكر بن النضر يقول: كنا عند أنس، فصلى بهم الظهر، فلما فرغ قال: إني صليت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر، فقرأ لنا بهاتين السورتين في الركعتين بـ {) سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . وخرجه أبو بكر بن أبي داود في ((كتاب الصلاة)) ، وعنده: أن أنسا أسمعهم قراءته في الركعتين الأوليين، فلما قضى صلاته أقبل عليهم، وقال: عمداً أسمعتكم قراءة هاتين السورتين، أني صليت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر فقرأ بهاتين السورتين.
وخرج الطبراني من حديث قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري، أنه صلى بهم صلاة رسول

(7/82)


الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فصلى الظهر فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، يسمع من يليه – وذكر الحديث.
وشهر بن حوشب، مختلف فيه.
وقد رواه عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، وذكر في حديثه: أنه أسر القراءة.
خرجه الإمام أحمد من طريقه.
وهو أصح، وعبد الحميد أحفظ لحديث شهر بن حوشب بخصوصه من غيره.
ولو صح شيء من ذلك لحمل على أنه جهر لإرادة تعليم القراءة وقدرها وروي هذا المعنى عن أنس وخباب بن الأرت.
ولهذا المعنى روي عن عمر الجهر بالاستفتاح، عن ابن عباس الجهر بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.
وأما الجهر بالتطوع في النهار؛ فإن كانَ في صلاة جماعة ويطول فيهِ القراءة كصلاة الكسوف، فإنه يجهر فيهِ بالقراءة، وستأتي المسألة في مواضع آخر – إن شاء الله تعالى -.
وكذا لو صلى الكسوف وحده جهر فيها -: نص عليه أحمد.
وأما غير ذلك من التطوع فالأكثرون على أنه لا يجهر فيها بالقراءة.
قالَ أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: قراءة النهار عجماء.

(7/83)


وقال الحسن: صلاة النهار عجماء.
أي: لا تسمع فيها قراءة.
وكثير من العلماء جعله حديثاً مرفوعاً، منهم: ابن عبد البر وابن الجوزي، ولا أصل لذلك.
وحكى عن أبي حامد الإسفراييني، سأل الدارقطني عنه فقال: لا أعرف صحيحاً ولا فاسداً.
وروى أبو عبيد في كتابه ((غريب الحديث)) حدثنا إبراهيم بن سعد، عن
أبيه، عن أبي سلمة، قال: سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن حذافة يقرأ في المسجد، يجهر يالقراءة في صلاة النهار، فقال: ((يابن حذافة سمع الله ولا تسمعنا)) .
وقد رواه بعضهم، فجعله: عن أبي سلمة، عن أبي هريرة – موصولا وإرساله أصح -: قاله الدارقطني وغيره.
وروى وكيع، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: قالوا: يارسول الله، إن هاهنا قوم يجهرون بالقرآن بالنهار؟ فقال: ((ارموهم بالبعر)) .
مراسل يحيى بن أبي كثير ضعيفة.

(7/84)


وقد رواه يوسف بن يزيد الدمشقي، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن بريدة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوصله.
وهو خطأ لا أصل له -: قاله صالح بن محمد الحافظ وغيره.
ويوسف هذا، ضعيف.
وروي موصولا من وجوه أخر، لا تصح.
وروي ابن أبي شيبة بإسناده، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، أنه سمع رجلا يجهر بالقراءة نهاراً، فدعاه فقال: إن صلاة النهار لا يجهر فيها فأسر قراءتك.
ورخصت طائفة في الجهر في التطوع بالنهار إذا لم يؤذ أحداً، وهو قول النخعي والثوري وإسحاق، وروي – أيضاً – عن خالد بن معدان وسعيد بن جبير.
وقال بشر بن حرب: رأيت ابن عمر يصلي بالنهار، فكان يسمعنا قراءته وبشر بن حرب، تكلموا فيه.
ولأصحابنا وجه: أنه لابأس به.

(7/85)


109 - باب
إذا أسمع الإمام الآية

(7/86)


778 - حدثنا محمد بن يوسف: ثنا الأوزاعي: حدثني يحيى بن أبي كثير: حدثني عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ بأم الكتاب وسورة معها، في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر و [صلاة] العصر ويسمعنا الآية أحياناً، وكان يطيل في الركعة الأولى.
قوله: ((كان يسمعنا الآية أحياناً)) ظاهرة: أنه كان يقصد ذلك، وقد يكون فعله ليعلمهم أنه يقرأ في الظهر والعصر، فإنه حصل لبعضهم شك في ذلك كما تقدم.
وقد يكون فعله ليعلمهم هذه السورة المعينة، كما روي ذلك عن أنس وغيره؛ أو ليبين جواز الجهر في قراءة النهار، وأن الصلاة لا تبطل به.
وقالت طائفة من العلماء: لم يكن إسماعهم الآية أحياناً عن قصد، إنما كا يقع اتفاقاً عن غير قصد؛ فإنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ لنفسه سراً، فربما استغرق في تدبر ما يقرأه، أو لعله كان يقصد تحقيق القراءة، فيقع سماع قراءته للآية أحياناً لذلك من غير أن يتعمد إسماعهم، أو أن يكون وقع الإسماع منه على وجه السهو وفي هذا نظر.
قال الشافعي: لا نرى بأسا أن يتعمد الرجل الجهر بالشيء من القرآن

(7/86)


ليعلم من خلفه أنه يقرأ. قال: وهم يكرهون هذا، ويوجبون السهو على من فعله.
يشير إلى أهل الكوفة.
واختلف كلام الإمام أحمد في ذلك:
فنقل عنه حنبل في قراءة النهار: ترى للرجل أن يسمع من يليه؟ قال: الحرف ونحو ذلك، ولا يغلط صاحبه؛ كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسمعهم الآية أحياناً وقال: صلاة النهار عجماء لا يجهر فيما.
ونقل عنه إسماعيل بن سعيد الشالنجي في الإمام يسمع من يليه، فكره ذلك في صلاة النهار، وقال: لا أرى عليه سهوا في ذلك – أي: سجود سهو.
وروى الشافعي بإسناده، عن ابن مسعود، أنه سمع قراءة في الظهر والعصر.
قال الشافعي: وهذا عندنا لا يوجب سهواً – يعني: سجوداً.
وروى وكيع في ((كتابه)) عن سيف المكي، عن مجاهد، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقرأ في الظهر بـ {كهيعص} .
وروى الجوزجاني بإسناده، عن أبي عثمان النهدي، قالَ: سمعت من

(7/87)


ابن عمر نغمة من {ق} في صلاة الظهر.
وروى حماد بن سلمة، عن حميد وثابت وقتادة والتيمي، أن أنساً صلى بهم الظهر والعصر، وكان يسمعهم النغمة أحياناً.
وروى عنه مرفوعاً.
ووقفه أصح -: قاله أبو حاتم والدارقطني وغيرهما.
وروي عن خباب بن الأرت، أنه قرأ بهم في الظهر بـ {إذا زلزلت} ، فسمع قراءته حتى تعلمها من خلفه.
وعنه: قرأ بهم في العصر {إذا زلزلت} فجهر بها.
وقال علقمة: صليت إلى جنب عبد الله بن مسعود بالنهار، فلم أدر أي شيء قرأ، حتى سمعته يقول: {رب زدني علماً} (طه: 114) ، فظننته يقرأ {طه} .
وقال النخعي: كان بعضهم يسمعهم الآية في الظهر والعصر.
وخرج النسائي وابن ماجه من حديث البراء بن عازب، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بنا الظهر، فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات.

(7/88)


واختلفوا فيمن جهر فيما يخافت فيه: هل يسجد للسهو، أم لا؟
فقالت طائفة: لا يسجد، وروي عن أنس وعلقمة والأسود، أنهم فعلوه ولم يسجدوا.
وهو قول الأوزاعي والشافعي.
وقال النخعي والثوري وأبوحنيفة: يسجد لذلك.
وعن أحمد فيه روايتان.
وقال مالك: إن تطاول ذلك سجد للسهو، ولا أرى عليه في السر سهوا.
واستدل أحمد بأنه لا يجب السجود لذلك بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسمع منه نغمة في صلاة الظهر، وبأن أنساً جهر فلم يسجد.
قلت: المروي عن الصحابة قد تقدم أنه كان عمداً منهم فعلوه؛ لتعليم من وراءهم سنة القراءة، والعمد لا يسجد له.
وفيه رد على من قال: تبطل صلاته بتعمد الجهر فيما يسر فيه، كما تقدم.
فقد حكي عن ابن أبي ليلى، أنه تبطل الصلاة بتركه عمداً ونسياناً وهو بعيد جداً.

(7/89)


110 - باب
يطول في الركعة الأولى

(7/90)


779 - حدثنا أبو نعيم: ثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يطول في الركعة الأولى من صلاة الظهر، ويقصر في الثانية، ويفعل ذلك في صلاة الصبح.
في هذه الرواية: التطويل في الركعة الأولى من صلاة الظهر والصبح.
وقد سبق من حديث همام، عن يحيى بن أبي كثير ذكر التطويل في الأولى من العصر – أيضاً.
وكذا في بعض النسخ من رواية شيبان، عن يحيى.
وقد خرجها في ((باب: القراءة في الظهر)) .
وقد سبق الكلام على التطويل في الأولى من الصلوات في ((باب: القراءة في الظهر)) فلا حاجة إلى إعادته هاهنا.

(7/90)


111 - باب
جهر الإمام بالتأمين
وقال عطاء: أمين دعاء، أمن ابن الزبير ومن وراءه حتى إن للمسجد للجة، وكان أبو هريرة ينادي الإمام: لا تسبقني بآمين.
وقال نافع: كان ابن عمر لا يدعه، ويحضهم، وسمعت منه في ذلك خبراً.
قال عبد الرزاق: أنا ابن جريج: قلت لعطاء: كان ابن الزبير يؤمن على إثر أم القرآن؟ قال: نعم، حتى إن للمسجد للجة. قال: إنما آمين دعاء قال: وكان أبو هريرة يدخل المسجد، وقد قام الإمام فيه، فيقول: لا تسبقني بآمين.
وروى يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أنه كان مؤذنا للعلاء بن الحضرمي بالبحرين، فاشترط عليه أن لا يسبقه بآمين.

(7/91)


وروى عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، قالَ: قالَ بلال: يارسول الله، لا تسبقني بآمين.
وهذا مرسل.
وخرجه أبو داود، وعنده عن أبي عثمان، عن بلال.
وهو خطأ -: قاله أبو حاتم الرازي. قال: وهو مرسل.
وقيل: إن أبا عثمان لم يسمع من بلال بالكلية؛ لأنه قدم المدينة في خلافة
عمر، وقد كان بلال انتقل إلى الشام قبل ذلك.
وقد رواه هشام بن لاحق، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن سلمان، عن
بلال، فوصله.
وهشام، تركه الإمام أحمد وغيره.
وقول عطاء في آمين: إنها دعاء، يريد به – والله أعلم – أن معنى آمين اللهم استجب، ونحو هذا من الدعاء.
وفي ((سنن أبي داود)) عن أبي زهير النميري – وكان من الصحابة – أنه كان يقول: إذا دعا أحدكم بدعاء فليختمه بآمين؛ فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة. وذكر أنه خرج مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة، قال: فأتينا

(7/92)


على رجل قد ألح في المسألة، فوقف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسمع منه، ثم قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أوجب إن ختم بآمين)) .
وخرج ابن عدي بإسناد ضعيف، عن أبي هريرة – مرفوعاً -: ((آمين قوة الدعاء)) .
وفي ((آمين)) لغتان: المد، والقصر، والميم مخففة، وحكي عن بعضهم تشديدها، وقالوا: معناها قاصدين نحوك. وزعم بعضهم أن آمين اسم من أسماء الله. وفيه أقوال أخر لا تكاد تصلح.
و ((اللجة)) – بفتح اللام وتشديد الجيم -: اختلاط الأصوات والضجات
و ((الرجة)) – بالراء – مثلها.
وقول أبي هريرة: ((لا تسبقني بآمين)) يدل على فضل شهود المأموم مع إمامه آمين.
وروي عن أبي الدرداء، أنه سمع إقامة الصلاة، فقالَ: أسرعوا بنا ندرك آمين.
وقد قال وكيع: من أدرك آمين مع إمامه فقد أدرك معه فضلية تكبيرة الإحرام.
وأنكر الإمام أحمد ذلك، وقال: لا تدرك فضلية تكبيرة الإحرام إلا بإدراكها مع الإمام.
قال البخاري:

(7/93)


780 - حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، أنهما أخبراه، عن أبي هريرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
((إذا أمن الإمام فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر لهُ ما تقدم من ذنبه)) .
وقال ابن شهاب: وكان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ((آمين)) . قول النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((آمين)) هوَ مما أرسله الزهري في آخر الحديث. وقد روي عن الزبيدي، عن الزهري بهذا الإسناد، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته، فقالَ:
((آمين)) .
خرجه الدارقطني.
وقال: إسناده حسن.
كذا قال، ووصله وهم، إنما هو مدرج من قول الزهري، كما رواه مالك.
وروي ابن وهب هذا الحديث، عن مالك ويونس، عن الزهري، وزاد فيه بعد قوله: ((إذا أمن الإمام فأمنوا)) : ((فإن الملائكة تؤمن)) – وذكر باقي الحديث.
خرجه البيهقي.
وخرجه ابن ماجه بهذه الزيادة –

(7/94)


أيضاً – من رواية سفيان، عن الزهري.
دل هذا الحديث على أن الإمام والمأمومين يؤمنون جميعاً، وهذا قول جمهور أهل العلم.
روي عن أبي بكر وعمر وابن عمر وأبي هريرة.
وقال عطاء: لقد كنت أسمع الآئمة يقولون على إثر أم القرآن: أمين، هم أنفسهم ومن وراءهم، حتى إن للمسجد للجة.
وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة والأوزاعي وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد.
وهو رواية المدنيين عن مالك واختيارهم.
وروى ابن القاسم، عن مالك، أن الإمام لا يؤمن، إنما يؤمن من خلفه، وهو اختيار المصريين من أصحابه.
وحملوا قوله: ((إذا أمن الإمام فأمنوا)) على أن المراد بتأمين الإمام دعاؤه بقراءة آخر الفاتحة، بدليل رواية أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا قال الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين)) وسيأتي فيما بعد – إن شاء الله.
وليس فيه ما يدل على أن الإمام لا يؤمن، بل فيه دليل على اقتران تأمين المأمومين بتأمين الإمام.
وقد خرج الإمام أحمد والنسائي من حديث معمر، عن الزهري،

(7/95)


عن ابن
المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا قال الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) .
واختلفوا في الجهر بها على ثلاثة أقوال:
أحدها: يجهر بها الإمام ومن خلفه، وهو قول عطاء والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وابن أبي شيبة، وعامة أهل الحديث.
واستدل بعضهم بقوله: ((إذا أمن الإمام فأمنوا)) فدل على سماعهم لتأمينه وروي عن عطاء، قال: أدركت مائتين من أصحاب محمد، إذا قال الإمام: {وَلا الضَّالِّينَ} سمعت لهم ضجة بـ ((آمين)) .
خرجه حرب.
والثاني: يخفيها الإمام ومن خلفه، وهو قول الحسن والنخعي والثوري ومالك وأبي حنيفة وأصحابة.
والثالث: يخفيها المأموم كما يخفي سائر الأذكار، ويجهر بها الإمام، وهو قول للشافعي.
ومن أصحابه من حمله على حال على قلة المأمومين أو صغر المسجد بحيث يبلغهم تأمين الإمام، فإن لم يكن كذلك جهر المأمومون قولا واحداً.
وفي الجهر بالتأمين للإمام أحاديث مرفوعة يطول ذكرها.
وقال الإمام أحمد – في رواية أبي داود -: يجهر الإمام حتى يسمع

(7/96)


كل من في المسجد. قال أبو داود: وكان مسجده صغيراً.
وقال حرب: سمعت أحمد يجهر بآمين جهراً خفيفاً رقيقاً، وربما لم أسمعه يجهر بها. قال: وسمعت إسحاق قال: يجهر بها حتى يسمع الصف الذي يليه. قال: ويجهر بها كل صف حتى يسمع الصف الذي يليهم، حتى يؤمن أهل المسجد كلهم.
ويكون تأمين المأمومين مع تأمين الإمام، لا قبله ولا بعده عند أصحابنا وأصحاب الشافعي، وقالوا: لا يستحب للمأموم مقارنة إمامه في شيء غير هذا، فإن الكل يؤمنون على دعاء الفاتحة، والملائكة يؤمنون – أيضاً – على هذا الدعاء، فيشرع المقارنة بالتأمين للإمام والمأموم، ليقارن ذلك تأمين الملائكة في السماء؛ بدليل قوله في رواية معمر:
((فإن الملائكة تقول: آمين، والإمام يقول: آمين)) ، فعلل باقتران تأمين الإمام والملائكة، ويكون معنى قوله ((إذا أمن الإمام فأمنوا)) – أي: إذا شرع في التأمين، أو أراده.
وورد أثر يدل على تأخير تأمين المأموم عن تأمين الإمام، من رواية ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن عتاب العدوي، قال: صليت مع أبي بكر وعمر والأئمة بعدهما، فكان إذا فرغ الإمام من قراءة فاتحة الكتاب فقال: {وَلا الضَّالِّينَ} قال: آمين، ورفع بها صوته، ثم أنصت، وقال من خلفه: آمين، حتى يرجع الناس
بها، ثم يستفتح القراءة.
إسناده ضعيف.
وتأمين الملائكة هو على دعاء القارئ، هذا هو الصحيح الذي يفهم

(7/97)


من
الحديث.
وقد ذكر ابن عبد البر وغيره فيهِ أقوالاً أخر، مرغوباً عن ذكرها؛ لبعدها وتعسفها من غير دليل.
وقد قال عكرمة: إذا أقيمت الصلاة فصف أهل الأرض صف أهل السماء، فإذا قال أهل الأرض: {وَلا الضَّالِّينَ} قالت الملائكة: آمين، فوافق آمين أهل الأرض آمين لأهل السماء؛ غفر لأهل الأرض ما تقدم من ذنوبهم.
وروى العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: إذا قرأ الإمام بأم القرآن فاقرأ بها واسبقه؛ فإنه إذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} قالت الملائكة: آمين. فمن وافق ذلك قمن أن يستجاب لهم.
ولا يستجب أن يصل آمين بذكر آخر، مثل أن يقول: آمين رب العالمين؛ لأنه لم تأت به السنة، هذا قول أصحابنا.
وقال الشافعي: هو حسن:
ولا يسحتب أن يقدم على التأمين دعاء؛ لأن التأمين على دعاء الفاتحة، وهو هداية الصراط المستقيم، وهو أهم الأدعية وأجلها.
ومن السلف من استحب ذلك للمأموم، منهم: الربيع بن خثيم والثوري.
وروى أبو نعيم في ((كتاب الصلاة)) حدثنا أبو مالك النخعي، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إذا قال

(7/98)


الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فسل موجبة، ثم قل: آمين.
أبو مالك هذا، ضعيف.
وروى أبو بكر النهشلي، عن أبي إسحاق عن أبي عبد الله اليحصبي، عن وائل بن حجر، أنه سمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال:
((رب اغفر لي، آمين)) .
خرجه البيهقي وغيره.
وهذا الإسناد لا يحتج به.
وروى أبو حمزة، عن إبراهيم النخعي، قال: كانوا يستحبون ذلك.
وأبو حمزة، هو ميمون الأعور، ضعيف.
وظاهر الأحاديث: يدل على أن يوصل التأمين بالفاتحة من غير سكوت.
وروى ابن المبارك: ثنا عاصم الأحوال، عن حفصة بنت سيرين، عن عبد الله بن مسعود، قال: إذا قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ووصل بآمين، فوافق تأمينه تأمين الملائكة استجيبت الدعوة.
حفصة، لم تسمع من ابن مسعود.
واستحب الشافعية أن يسكت بين الفاتحة والتأمين سكتة لطيفة؛ ليفصل القرآن عما ليس منه.

(7/99)


والتأمين سنة في الصلاة، وليس بواجب عند جمهور العلماء.
وروى إسحاق بن إبراهيم بن هانئ، عن أحمد، قال: آمين أمر من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا أمن القارئ فأمنوا)) فهذا أمر منه، والأمر أوكد من الفعل.

(7/100)


112 - باب
فضل التأمين

(7/101)


781 - حدثنا عبد الله بن يوسف: ثنا مالك عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا قال أحدكم آمين [و] قالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحدهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه)) .
وخرج مسلم من رواية يونس، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين، والملائكة في السماء: آمين، فوافق إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه)) .
ومن رواية سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا قال القارئ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقال من خلفه: آمين، فوافق قوله قول أهل السماء، غفر له ما تقدم من ذنبه)) .
وروى إسحاق بن راهوية: حدثنا جرير: ثنا ليث، عن كعب، عن أبي
هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إذا قال الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقال: آمين، فوافق آمين أهل الأرض آمين أهل

(7/101)


السماء، غفر الله للعبد ما تقدم من ذنبه. ومثل من لا يقول: آمين كمثل رجل غزا مع قوم فاقترعوا، فخرجت سهامهم ولم يخرج سهمه، فقال: لم لم يخرج سهمي؟ فقيل: إنك لم تقل آمين)) .
قال أبو هريرة: وكان الإمام إذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} جهر بآمين.
كعب هذا، قال أحمد: لا أدري من هو. وقال أبو حاتم: مجهول لا يعرف.
وقد ذكرنا – فيما تقدم – أن الحديث على ظاهره، وأن الملائكة في السماء تؤمن على قراءة المصلين في الأرض للفاتحة.
وفي ((صحيح مسلم)) من رواية العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((قال الله - عز وجل -: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما
سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثنى على عبدي، فإذا قال {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مجدني عبدي – وقال مرة: فوض إلي عبدي - وقال مرة: فوّض إلي عبدي - {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قالَ: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل)) .
فهذا الحديث يدل على أن الله يستمع لقراءة المصلي حيث

(7/102)


كان مناجيا له، ويرد عليه جواب ما يناجيه به كلمة كلمة، فأول الفاتحة حمد، ثم ثناء، وهو تثنية الحمد وتكريره، ثم تمجيد، والثناء على الله بأوصاف المجد والكبرياء والعظمة، ثم ينتقل العبد من الحمد والثناء والتمجيد إلى خطاب الحضور، كأنه صلح حينئذ للتقريب من الحضرة فخاطب خطاب الحاضرين، فقال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
وهذه الكلمة قد قيل: أنها تجمع سر الكتب المنزلة من السماء كلها؛ لأن الخلق إنما خلقوا ليؤمروا بالعبادة، كما قالَ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}
[الذاريات: 56] ، وأنما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب لذلك، فالعبادة حق الله على عباده، ولا قدرة للعباد عليها بدون إعانة الله لهم، فلذلك كانت هذه الكلمة بين الله وبين عبده؛ لأن العبادة حق الله على عبده، والإعانة من الله فضل من الله على عبده.
وبعد ذلك الدعاء بهداية الصراط المستقيم؛ صراط المنعم عليهم، وهم الأنبياء وأتباعهم من الصديقين والشهداء والصالحين، كما ذكر ذلك في سورة النساء.
فمن استقام على هذا الصراط حصل له سعادة الدنيا والآخرة، واستقام سيره على الصراط يوم القيامة، ومن خرج عنه فهو إما مغضوب عليه، وهو من يعرف طريق الهدى ولا يتبعه كاليهود، أو ضال عن طريق الهدى كالنصارى ونحوهم من المشركين.
فإذا ختم القارئ في الصلاة قراءة الفاتحة، أجاب الله دعاءه فقال: ((هذا لعبدي ولعبدي ماسأل)) . وحينئذ تؤمن الملائكة على دعاء المصلى، فيشرع للمصلين موافقتهم في التأمين معهم، فالتأمين مما يستجاب به الدعاء.

(7/103)


وفي ((صحيح مسلم)) عن أبي موسى الأشعري، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين، يجبكم الله)) .
ولما كان المأموم مأموراً بالإنصات لقراءة الإمام، مأموراً بالتأمين على دعائه عند فراغ الفاتحة؛ لم يكن عليهِ قراءة؛ لأنه قد أنصت للقراءة، وأمن على الدعاء، فكأنه دعا؛ كما قال كثير من السلف في قول الله تعالى لموسى وهارون: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89] . قالوا: كان موسى يدعو وهارون يؤمن، فسماهما داعيين.

(7/104)


113 - باب
جهر المأموم بالتأمين

(7/105)


782 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن سمي مولى أبي بكر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا آمين؛ فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) .
تابعة: محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونعيم المجمر، عن أبي هريرة.
حديث محمد بن عمرو الذي أشار إليه:
خرجه البيهقي، ولفظه: ((إذا قال القارئ {وَلا الضَّالِّينَ} فقال من خلفه: آمين، فوافق ذلك قول أهل السماء آمين؛ غفر له ما تقدم من ذنبة)) .
وحديث نعيم المجمر، عن أبي هريرة.
خرجه النسائي ولفظه: عن نعيم، قال: صليت وراء أبي هريرة، فقرأ
((بسم الله الرحمن الرحيم)) ، ثم قرأ بأم القرآن، حتى بلغ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ، فقال: آمين. فقال الناس: آمين، ويقول كلما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس من الاثنتين: الله أكبر، وإذا سلم قال: والذي نفسي بيده، إني

(7/105)


لأشبهكم صلاة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وحديث أبي صالح الذي خرجه البخاري وحديث محمد بن عمرو الذي أشار إليه: استدل بهما من يقول: إن الإمام لا يؤمن ولا يجهر بالتأمين؛ فإنه أمر المأموم أن يؤمن عقيب فراغ الإمام من قراءة: {وَلا الضَّالِّينَ} .
وأجاب عنه من قال: يؤمن جهراً، بأنه إشارة إلى أن تأمينه يكون مع تأمين الإمام لا بعده؛ فإنه قد سبق في رواية بأن الإمام يقول: آمين. والملائكة تقول: آمين.
وأجاب بعضهم – كالخطابي -، بأنه يحتمل أن يكون هذا محمولا على من بعد عن الإمام ولم يسمع تأمينه، وسمع قراءته؛ فإن جهر الإمام بالتأمين دون جهره بالقراءة فقد يسمع قراءته من لا يسمع تأمينه.
وأما حديث نعيم، عن أبي هريرة، فلا حجة فيه؛ فإن أبا هريرة أمن على قراءة نفسه حيث كان إماماً، وقال: إني أشبهكم صلاة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفي استدلال البخاري بقوله: ((فقولوا: آمين)) على جهر المأموم بالتأمين نظر، إلا أن يقال: قد سوى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين قول الإمام: ((ولا الضالين)) وقول المأوم: آمين، وسماهما قولا، وجعل قول المأموم كالمجاوبة للإمام، وقول المأموم إنما يكون
جهراً؛ لأن هذا الخطاب مختص بالصلاة الجهرية بالاتفاق فيكون مجاوبته بالتأمين جهراً –
أيضا.

* * *

(7/106)


كتاب الأذان
(تابع)

(7/107)


باب
إذا ركع دون الصف

(7/107)


783 - حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا همام، عن الأعلم - وهو: زياد -، عن الحسن، عن أبي بكرة، أنه انتهى إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((زادك الله حرصاً ولا تعد)) .
في إسناد هذا الحديث شيئأن:
أحدهما: أنه اختلف فيه على الحسن:
فرواه زياد الأعلم وهشام، عن الحسن، عن أبي بكرة.
وفي رواية: عن زياد، عن الحسن، أن أبا بكرة حدثه - فذكره.
خرَّجه أبو داود.
ورواه يونس وقتادة، واختلف عنهما:
فقيل: عنهما كذلك.
وقيل: عنهما، عن الحسن - مرسلاً -، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي بكرة.

(7/107)


وكذا روي، عن حماد بن سلمة، عن زياد الأعلم - أيضاً.
خرَّجه من طريقه أبو داود.
الثاني: أنه اختلف في سماع الحسن من أبي بكرة، فأثبته ابن المديني والبخاري وغيرهما، وكذلك خرج حديثه هذا، ونفاه يحيى بن معين -: نقله عنه ابن أبي خيثمة.
ويؤيده: أنه روي عن الحسن مرسلاً، وأن الحسن روى عن الأحنف، عن أبي بكرة حديث: ((إذا التقى المسلمأن بسيفيهما)) .
وهذا مما يستدل به على عدم سماعه منه، حيث أَدخل بينه وبينه في حديث آخر واسطةً.
وقد روى هشام بن حسأن، عن الحسن، أنه دخل مع أنس بن مالك ٍعلى أبي بكرة وهو مريض.

(7/108)


وروى مبارك بن فضالة، عن الحسن، قال: أخبرني أبو بكرة - فذكر حديث صلاة الكسوف.
إلا أن مبارك بن فضاله ليس بالحافظ المتقن.
وقال الشافعي في حديث أبي بكرة هذا: إسناده حسن.
وقد استدل بهذا الحديث على مسألتين.
المسألة الأولى:
من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك الركعة، وإن فاته معه القيام وقراءة
الفاتحة.
وهذا قول جمهور العلماء، وقد حكاه إسحاق بن راهويه وغيره إجماعا من
العلماء. وذكر الإمام أحمد في رواية أبي طالب أنه لم يخالف في ذلك أحد من أهل الإسلام، هذا مع كثرة اطلاعه وشدة ورعه في العلم وتحريه.
وقد روي هذا عن عليٍ وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابتٍ وأبي هريرة - في رواية عنه رواها عبد الرحمن بن إسحاق المديني، عن المقبري، عنه.
وذكر مالك في ((الموطأ)) أنه بلغه عن أبي هريرة، أنه قال: من أدرك

(7/109)


الركعة فقد أدرك السجدة.
وهو قول عامة علماء الأمصار.
ثم من رأى أن القراءة لا تجب على المأموم استدل به على أن القراءة غير لازمة للمأموم بالكلية، ومن رأى لزوم القراءة له كالشافعي قال: إنها تسقط ها هنا للضرورة وعدم التمكين منها.
وجعله إسحاق دليلاً على أن القراءة لا تجب إلا في ثلاث ركعاتٍ من الصلاة.
ولازم هذا: أنه لو أدرك الركوع في ركعةٍ من الصبح أنه لا يعتد بها؛ لأنه فاتته القراءة في نصف الصلاة.
وهذا التفصيل محدث مخالف الإجماع.
وقد روي أن الصلاة التي ركع فيها أبو بكرة هي صلاة الصبح، وسيأتي - إن شاء الله.
وذهبت طائفة إلى أنه لا يدرك الركعة بإدراك الركوع مع الإمام، لأنه فاته مع الإمام القيام وقراءة الفاتحة، وإلى هذا المذهب ذهب البخاري في ((كتاب القراءة خلف الإمام)) ، وذكر فيه عن شيخه علي بن المديني أن الذين قالوا بإدراك الركعة بإدراك الركوع من الصحابة كانوا ممن لا يوجب القراءة خلف الإمام، فأما من رأى وجوب القراءة خلف الإمام، فأنه قال: لا يدرك الركعة

(7/110)


بذلك، كأبي هريرة، فأنه قال: للمأموم: أقرأ بها في نفسك. وقال: لا تدرك الركعة بإدراك الركوع.
وخرَّج البخاري في ((كتاب القراءة)) من طريق ابن إسحاق: أخبرني الأعرج، قال: سمعت أبا هريرة يقول: لا يجزئك إلا أن تدرك الإمام: قائماً قبل أن تركع.
ثم ذكر أنه رأى ابن المديني يحتج بحديث ابن إسحاق، ثم أخذ يضَّعف عبد الرحمن بن إسحاق المديني الذي روى عن المقبري، عن أبي هريرة خلاف رواية ابن إسحاق، ووهَّن أمره جداً.
وقد وافقه على قوله هذا، وأن من أدرك الركوع لا يدرك به الركعة، قليل من المتأخرين من أهل الحديث، منهم: ابن خزيمة وغيره من الظاهرية وغيرهم وصَّنف فيه أبو بكر الصبغي من أصحاب ابن خزيمة مُصنفاً.

(7/111)


وهذا شذوذٌ عن أهل العلم ومخالفةٌ لجماعتهم.
وقد روي عن زيد بن وهب، أنه أدرك الركوع وقضى تلك الركعة، وهذا يحتمل أنه شك في إدراكها إدراكاً يعتد به، فلا ينسب به إليه مذهب.
وقد روي عن ابن عمر، أنه إذا امترى: هل ركع قبل رفع إمامه أم لا، لم يعتد بتلك الركعة، وهو قول جمهور العلماء.
وأيضا؛ فقد قال زيد بن وهب: إنه كان وابن مسعودٍ، وإنهما ركعا دون الصف، قال: فلما فرغ الإمام قمت أقضي، وأنا أرى أني لم أدرك.
فقال ابن مسعودٍ: قد أدركته.
فتمام الرواية يدل على أن ما فعله قد أنكره عليه ابن مسعود، ولم يكن أحد من التابعين يصر على فعله مع إنكار الصحابة عليه.
والمروي عن أبي هريرة قد اختلف عنه فيه، وليس عبد الرحمن بن إسحاق المديني عند العلماء بدون ابن إسحاق، بل الأمر بالعكس؛ ولهذا ضَّعف ابن عبد البر وغيره رواية ابن إسحاق، ولم يثبتوها، وجعلوا رواية عبد الرحمن مقدمة على روايته.
قال ابن عبد البر في المروي عن أبي هريرة: في إسناده نظر. قال:

(7/112)


ولا نعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال به. وقد روي معناه عن أشهب.
وعبد الرحمن بن إسحاق هذا يقال له: عباد. وثَّقه ابن معين. وقال أحمد: صالح الحديث.
وقال ابن المديني: هو عندنا صالح وسط -: نقله عنه أبو جعفر بن أبي شيبة، وأنه قال في محمد بن إسحاق كذلك: إنه صالح وسط.
وهذا تصريح منه بالتسوية بينهما.
ونقل الميموني، عن يحيى بن معين، أنه قال في محمد بن إسحاق:
ضعيف. وفي عبد الرحمن بن إسحاق الذي يري عن الزهري: ليس به بأس. فصرح بتقديمه على ابن إسحاق.
وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو داود: محمد بن إسحاق قدري معتزلي، وعبد الرحمن بن إسحاق قدري، إلا أنه ثقة.
وهذا تصريح من أبي داود بتقديمه على ابن إسحاق، فأنة وثقه دون ابن إسحاق، ونسبه إلى القدر فقط، ونسب ابن إسحاق إلى القدر مع الاعتزال.
وعامة ما أنكر عليه هو القدر، وابن إسحاق يشاركه في ذلك ويزيد عليه ببدع أخر كالتشيع والاعتزال؛ ولهذا خرَّج مسلم في ((صحيحه)) لعبد الرحمن بن إسحاق ولم

(7/113)


يخّرج لمحمد بن إسحاق إلا متابعة.
وأيضاً؛ فأبو هريرة لم يقل: إن من أدرك الركوع فاتته الركعة؛ لأنه لم يقرأ بفاتحة الكتاب كما يقوله هؤلاء، إنما قال: لا يجزئك إلا أن تدرك الإمام قائماً قبل أن يركع، فعلل بفوات لحوق القيام مع الإمام.
وهذا يقتضي أنه لوكبر قبل أن يركع الإمام، ولم يتمكن من القراءة فركع معه كان مدركاً للركعة، وهذا لا يقوله هؤلاء، فتبين أن قول هؤلاء محدث لا سلف لهم
به.
وقد روي عن أبي سعيد وعائشة: لا يركع أحدكم حتى يقرأ بام القرآن.
هذا - إن صح - محمول على من قدر على ذلك وتمكن منه.
وقد أجاب البخاري في ((كتاب القراءة)) عن حديث أبي بكرة بجوأبين:
أحدهما: أنه ليس فيه تصريح بأنه اعتد بتلك الركعة.
والثاني: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهاه عن العود إلى ما فعله.
فأما الأول، فظاهر البطلان، ولم يكن حرص أبي بكرة على الركوع

(7/114)


دون الصف إلا لإدراك الركعة، وكذلك كل من أمر بالركوع دون الصف من الصحابة ومن بعدهم أنما أمر به لإدراك الركعة، ولو لم تكن الركعة تدرك به لم يكن فيه فائدة بالكلية، ولذلك لم يقل منهم أحد: أن من ادركه ساجداً فأنه يسجد حيث أدركته السجدة، ثم يمشي بعد قيام الإمام حتى يدخل الصف، ولو كان الركوع دون الصف للمسارعة إلى متابعة الإمام فيما لا يعتد به من الصلاة، لم يكن فرق بين الركوع والسجود في ذلك.
وهذا أمر يفهمه كل أحد من هذه الأحاديث والآثار الواردة في الركوع خلف الصف، فقول القائل: لم يصرحوا بالاعتداد بتلك الركعة هو من التعنت والتشكيك في الواضحات، ومثل هذا إنما يحمل عليه الشذوذ عن جماعة العلماء، والأنفراد عنهم بالمقالات المنكرة عندهم.
فقد أنكر ابن مسعود على من خالف في ذلك، واتفق الصحابة على موافقته، ولم يخالف منهم أحدٌ، إلا ما روي عن أبي هريرة، وقد روي عنه من وجه أصح منه أنه يعتد بتلك الركعة.
واما الثاني، فإنما نهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكرة عن الإسراع إلى الصلاة، كما قال: ((لا تأتوها وأنتم تسعون)) ، كذلك قاله الشافعي وغيره من الأئمة، وسيأتي الكلام على ذلك فيما بعد – إن شاء الله تعإلى.
وكان الحامل للبخاري على ما فعله شدة إنكاره على

(7/115)


فقهاء الكوفيين أن سورة الفاتحة تصح الصلاة بدونها في حق كل أحدٍ، فبالغ في الرد عليهم ومخالفتهم، حتى التزم ما التزمه مما شذ فيه عن العلماء، واتبع فيه شيخه ابن المديني، ولم يكن ابن المديني من فقهاء أهل الحديث، وأنما كان بارعا في العلل والأسانيد.
وقد روي عن النبي، أن ((من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة)) ، من حديث أبي هريرة، وله طرق متعددة عنه. ومن حديث معاذ وعبد الرحمن بن الأزهر وغيرهم. وقد ذكرناها مستوفاة في ((كتاب شرح الترمذي)) .
وأكثر العلماء على أنه لا يكون مدركا للركعة إلا إذا كبر وركع قبل أن يرفع إمامه، ولم يشترط أكثرهم أن يدرك الطمأنينة مع الإمام قبل رفعه.
ولأصحابنا وجه باشتراط ذلك.
ومن العلماء من قال: إذا كَّبر قبل أن يرفع إمامه فقد أدرك الركعة، وإن لم يركع قبل رفعه، منهم: ابن أبي ليلى والليث بن سعد وزفر، وجعلوه بمنزلة من تخَّلف عن إمامه بنومٍ ونحوه.
ولكن الجمهور إنما قالوا بالمتخلف بالنوم ونحوه أنه يركع ثم يلحقه؛ لأنه كان متابعاً له قبل الركوع فيغتفر في الاستدامة ما لا يغتفر في الابتداء.
وروي عن هؤلاء الثلاثة – أيضاً.
وعن الحسن بن زياد –أيضاً -: أنه إذا كبر بعد رفع رأسه من الركوع قبل أن يسجد اعتد له بالركعة.
وقد تقدم عن الشعبي، أنه قال: إذا أنتهيت إلى الصف المؤخر، ولم يرفعوا رءوسهم، وقد رفع الإمام رأسه، فركعت معهم، فقد أدركت، لأن

(7/116)


بعضهم أئمة لبعض.
المسألة الثانية:
أن من صلى خلف الصف وحده، فإنه يعتد بصلاته، ولا إعادة عليه، فإن أبا بكرة ركع خلف الصف وحده، ولم يأمره النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإعادة صلاته.
وقد استدل بذلك الشافعي وغيره من الأئمة.
وممن روي عنه الركوع دون الصف والمشي راكعاً: ابن مسعودٍ وزيد بن ثابتٍ وابن الزبير، وكان يعلّم الناس ذلك على المنبر.
وروي عنه أنه قال: هو السنة.
وورد – أيضاً – أنه فعله، ولم يصححه الإمام أحمد عنه، وذكر أن الصحيح عنه النهي عنه.
وروي –أيضاً – فعله عن أبي بكر الصديق.
خرَّجه البيهقي بإسنادٍ منقطعٍ.
وهو قول سعيد بن جبير وعطاء، وقالا: يركع وإن لم يصل إلى صف النساء، ثم يمشي.
قال عطاء: ويرفع مع إمامه، ويسجد حين تدركه السجدة، فإن تشهد إمامه عقب ذلك تشهد معه، ثم قام إذا قام إلى الثالثة، فدخل في الصف حينئذٍ.

(7/117)


وممن رأي الركوع دون الصف والمشي راكعاً: زيد بن ثابت وعروة ومجاهد وأبو سلمة وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود وابن جريج ومعمر.
وقاله القاسم والحسن: بشرط أن يظن أنه يدرك الصف.
ووجه هذا: أن المشي في الصلاة عملٌ فيها، فيغتفر فيه اليسير دون الكثير؛ فأنه منافٍ الصَّلاة فيبطلها، وهذا مخالف لقول سعيد بن جبير وعطاء: أنه يركع من حين دخوله المسجد خلف صفوف النساء.
وحكى ابن عبد البر عن مالكٍ والليث: لا بأس أن يركع الرجل وحده دون الصف، ويمشي إلى الصف إذا كان قريباً قدر ما يلحق.
وذكر عن القاضي إسماعيل، أن ابن القاسم روى عن مالكٍ: أنه لا يركع دون الصف، إلا أن يطمع أن يصل إلى الصف قبل رفع الإمام رأسه.
قال: وقال غيره: له أن يركع خلف الصف، ويتم ركعته، كما له أن يصلي خلف الصف وحده. قال: وهو قول مالكٍ وأصل مذهبه قبل أن يرفعوا رءوسهم. وقال الزهري والأوزاعي: إن كان قريباً من الصفوف فعل، وإلا لم يفعل.
وكذلك قاله الإمام أحمد -: نقله عنه ابن منصور.
وقالت طائفة: لا يركع حتى يقوم في الصف.
رواه محمد بن عجلان، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: إذا

(7/118)


دخلت والإمام راكع فلا تركع حتى تأخذ مصافك من الصف.
وروي مرفوعاً، ووقفه أصح.
وروي - أيضاً - النهي عن ذلك عن الحسن والنخعي.
وهو رواية عن أحمد -: نقلها عنه أبو طالبٍ والحسن بن ثوابٍ والاثرم وغيرهم.
وقالت طائفة: أن كان منفرداً لم يركع حتى يدخل الصف، وإن كان مع غيره ركعوا دون الصف، وهو قول إسحاق وأبي بكر بن أبي شيبة، ونقله إسحاق بن هأنئ، عن أحمد، وحكاه ابن عبد البر عن أبي حنيفة.
ومن العجائب: أن البخاري ذكر في ((كتاب القراءة خلف الإمام)) أن المروي عن زيد بن ثابت لا يقول به من خالفه في هذه المسألة، فإنه قال: روى الأعرج، عن أبي أمامة بن سهلٍ، قال: رأيت زيد بن ثابت ركع وهو بالبلاط لغير القبلة، حتى دخل في الصف.
ثم قال: وقال هؤلاء: إذا ركع لغير القبلة لم يجزئه. أنتهى.
وهذه رواية منكرة لا تصح، وإنما ركع زيد للقبلة؛ كذلك رواه الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قال: رأيت زيد بن ثابت دخل المسجد والإمام راكع، فاستقبل فكبر، ثم ركع، ثم دب راكعاً حتى وصل الصف.
خرَّجه عبد الرزاق، عن معمرٍ، عنه.

(7/119)


ورواه ابن وهب، عن يونس وابن أبي ذئب، عن ابن شهابٍ: أخبرني أبو أمامة بن سهل، أنه رأى زيد بن ثابت دخل المسجد والإمام راكعٌ. فمشى حتى إذا أمكنه أن يصل الصف وهو راكعٌ كبر، فركع، ثم دب وهو راكع حتى وصل الصف.
وهذه الرواية تدل –أيضاً - على أنه كبر مستقبل القبلة، ولا يمكن غير ذلك
البتة. فأما من قال: تصح صلاة المنفرد خلف الصف وحده و [ ... ] حديث أبي بكرة على ذلك.
والقول بصحة الصلاة فذاً خلف الصف: قول مالك وأبي حنيفة والثوري – في أشهر الروايتين عنه – والشافعي وابن المبارك والليث بن سعد. وروي عن أبي جعفر محمد بن عليٍ.
وأما القائلون بأنه لا تصح صلاة الفذ خلف الصف: الحسن بن صالح والأوزعي – فيما حكاه ابن عبد البر، وخَّرجه حرب بإسناده، عنه – وقول أحمد وإسحاق ووكيع ويحيى بن معينٍ وابن المنذر، وأكثر أهل الظاهر، ورواية عن الثوري، رواها عصام،
عنه.
وروي –أيضاً - عن النخعي وحمادٍ والحكم وابن أبي ليلى.

(7/120)


وقيل: أنه لم يصح عن النخعي، وأنه إنما قال: يعتد بها، فصحفها من قرأها فقال: يعيدها.
وروي ذلك عن شريك، أنه قاله.
فهؤلاء لهم في الجواب عن حديث أبي بكرة طريقأن:
أحدهما: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهاه عن ذلك، فلا تصح الصلاة بعد النهي عنه، وتصح إذا لم يعلم النهي.
قال أحمد، في رواية أبي طالب في الرجل يركع دون الصف، وهو جاهلٌ:
أجزأه. وقيل له: لا يعيد، كما قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكرة: ((لا تعد)) فأجاز له صلاته لما لم يعلم، ونهاه أن يصلي بعد ذلك، فقال: ((زادك الله حرصا ولا تعد)) . قيل له: فإن كان لا يعلم، يقول: صلى فلأن وصلى فلأن؟
قال: لا تجزئه صلاته، يعيد الصلاة، قال أبو هريرة: لا يركع أحدكم حتى يأخذ مقامه من الصف.
ففرق بين الجاهل والمتأول، فأمر بالاعادة دون الجاهل.
وهذه الرواية إختيار الخرقي وابن أبي موسى وجماعة من متقدمي الأصحاب.
وقال بعض الأصحاب: أن هذا مطرد فيمن لم يتم الركعة وهو فذ، منهم: القاضي في ((شرح المذهب)) .
ومنهم من قال: بل يطرد، ولو أتم الركعة فذاً.
ولم يذكر أكثرهم أنه مطرد فيما لو صلى –فذاً –الصلاة كلها جاهلاً بالنهي.
فظاهر كلام أحمد وتعليله يدل على أنه مطرد فيه – أيضاً -، وقد حكاه بعضهم رواية عن أحمد.
وقد حكى أبو حفص وغيره من أصحابنا فيمن فعل كفعل أبي بكرة –

(7/121)


مع العلم بالنهي – هل تبطل صلاته؟ روايتين عن أحمد.
فادخلوا في ذلك من كبرَّ ثم دخل في الصف قبل رفع الإمام.
وفي هذا الطريق نظر؛ فأن الذي أمره النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالاعادة في حديث وابصة ابن معبد الظاهر أنه لم يكن عالماً بالنهي، ولم يسأله: هل علم النهي أم لا.
والطريق الثاني: أن أبا بكرة دخل في الصف قبل رفع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأسه.
وقد خرَّج حديثه أبو داود، وقال فيه: ثم مشى حتى دخل في الصف.
وخَّرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من وجه أخر، عن الحسن، عن أبي بكرة.
وحينئذٍ، فقد زالت فذوذيته قبل أن تفوته الركعة، فيعتد له بذلك.
وعلى هذا يحمل ما روي عن الصحابة في ذلك –أيضاً.
وقد اشار أحمد إلى هذا –أيضاً - في رواية أبي الحارث، وسأله عن رجل كَّبر قبل أن يدخل في الصف وركع دون الصف؟ فقال: قد كبر أبو بكرة، فقال له النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((زادك الله حرصاً، ولا تعد)) ولم يأمره أن يعيد –أيضاً.
وقد روي، عن ابن مسعودٍ وزيدٍ، أنهما ركعا دون الصف.
وهذه الرواية تخالف ما رواه الأثرم وغيره، أنه قال: لا يعجبني فعل

(7/122)


زيد وابن مسعود، ورده بحديث أبي بكرة.
ولكن هذه الرواية توافق رواية ابن منصور المتقدمة بجواز الركوع خلف الصف، إذا ظن أنه يصل إليه قبل رفع الإمام.
وقد استدل طائفة من أصحابنا، منهم: أبو حفص البرمكي لهذه الرواية بحديث أبي بكرة، وحملوا قوله: ((ولا تعد)) على شدة السعي إلى الصلاة، كما قاله
الشافعي.
وذكر ابن عبد البر أن معنى قوله: ((ولا تعد)) عند العلماء: لا تعد إلى الإبطاء عن الصلاة حتى يفوتك منها شيء.
وهذا بعيد جداً، ولا يعرف هذا عن أحد من العلماء من المتقدمين.
وقد روى الإمام أحمد من طريق عبد العزيز بن أبي بكرة، عن أبي بكرة، أنه جاء والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكع، فسمع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صوت نعلي أبي بكرة وهو يحضر؛ يريد أن يدرك الركعة، فلما أنصرف قال: ((من الساعي؟)) قال أبو بكرة: أنا. قال: ((زادك الله حرصا، ولا تعد)) .
وفي رواية عبد العزيز: بشار الخياط، وهو غير معروف.

(7/123)


وخَّرجه ابن عبد البر من بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة، عن أبيه، عن جده، أنه دخل المسجد –ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس، وهم ركوع -، فسعى إلى الصف، فلما أنصرف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((من الساعي؟)) قال أبو بكرة: أنا يا رسول الله. قال: ((زادك الله حرصاً، ولا تعد)) .
وبكار، فيه ضَّعف.
وخَّرجه البخاري في "كتاب القراءة خلف الإمام " بإسناد ضعيف، عن الحسن، عن أبي بكرة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الصبح، فسمع نفساً شديداً – أو بهراً – من خلفه، فلما قضى الصلاة قال لأبي بكرة: ((أنت صاحب هذا النفس؟)) قال: نعم يا رسول الله، خشيت أن تفوتني ركعة معك، فاسرعت المشي. فقال له: ((زادك الله حرصاً، ولا تعد، صل ما أدركت، وأقض ما سُبقت)) .
وفي إسناده: عبد الله بن عيسى الخزاز، ضعفوه.
وفي هاتين الروايتين: ما يدل على اعتداده بتلك الركعة، وهذا أمر غير مشكوكٍ فيه، وأنما يحتاج إليه لتعنت من يتعنت.
ومن أغرب ما روي في حديث أبي بكرة: ما خرَّجه عبد الرزاق

(7/124)


عن ابن جريج، عن رجل، عن الحسن، قال: التفت إليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ((زادك الله حرصاً، ولا تعد)) قال: فثبت مكانه.
وهذا يوهم أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له ذلك في الصلاة، وأنه لم يدخل الصف، فيستدل به على أن كلام الإمام لمصلحة الصلاة عمداً غير مبطل، ويستدل به –أيضاً - على صحة صلاة الفذ وحده، ولكنها مرسلة، في إسنادها مجهول، وابن جريج كان يدلس عن الضعفاء ومن لا يعتمد عليه كثيراً.
وعلى هذه الطريقة: فهل يختص جواز الركوع دون الصف بمن أدرك الركوع في الصف، أو لا يختص بذلك؟
ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور أنه يختص بمن أدرك الركوع في الصف؛ لأنه إنما أجاز الركوع خلفه لمن ظن أنه يدركه، فأنه إذا زالت فذوذيته في حال
الركوع، فلم يصل ركعة فذاً، والمنهي عنه أن يصلي فذاً ركعةً فأكثر، وأما إذا زالت فذوذيته قبل أن يرفع من الركوع فقد أدرك الركعة في الصف، فلا يكون بذلك فذاً؛ ولهذا لو قام خلف الإمام اثنأن فأحرم أحدهما قبل إحرام الآخر، لم يكن في تلك الحالة فذاً بالاتفاق.
وقد حكي عن جماعة من أصحابنا الاتفاق على تكبيرة الإحرام فذاً، لكن منهم من قال: كان القياس بطلأنها، وإنما ترك لحديث أبي بكرة.
وحكى ابن حامد –من أصحابنا – أنه تبطل تكبيرة الفذ خلف الإمام كالركوع.

(7/125)


وهذا إذا لم يكن لغرض إدراك الركعة، فأما أن كان لغرض إدراك الركعة، فهي المسألة التي سبق ذكرها.
وقد نص أحمد على التفريق بين أن يصل إلى الصف قبل رفع الإمام رأسه وبعده.
وفي رواية حرب، قال: لا بأس أن يركع دون الصف إذا أدرك الإمام راكعاً.
قلت: فأن رفع الإمام رأسه قبل أن يصل هو إلى الصف، فكانه أحب أن لا يعتد بهذه الركعة.
ومن الأصحاب من حكى فيما إذا زالت فذوذيته بعد الركوع وقبل السجود، فهل تصح صلاته؟ على روايتين.
كذلك حكى ابن أبي موسى في ((كتابه)) ، وحكاه –أيضاً - جماعة بعده.
وحكاها –أيضاً - من المتقدمين أبو حفص، وقال: روى أبو داود، عن أحمد – فيمن ركع دون الصف، ثم مشى حتى دخل الصف، وقد رفع الإمام قبل أن ينتهي إلى الصف -: تجزئه ركعة، فإن صلى خلف الصف وحده، أعاد الصلاة.
وظاهر هذه الرواية أنه يجزئه، ولو دخل في الصف بعد رفع إمامه، ما لم يصل ركعة كاملة وحده، وليس في حديث أبي بكرة أنه دخل في الصف قبل رفع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ووجه ذلك: أنه أدرك معظم الركعة في الصف، وهو السجدتان، فاكتفى بذلك في المصافة.
وقد قال بعض التابعين: أنه يكتفي بذلك في ادراك الركعة – أيضاً.

(7/126)


وإنما أبطل أحمد ومن وافقه صلاة الفذ خلف الصف؛ لحديث وابصة، وله طرق، من أجودها: رواية شعبة، عن عمرو بن مرة، عن هلال بن يسافٍ، عن عمرو بن راشدٍ، عن وابصة بن معبدٍ، أن رجلاً صلى خلف الصف وحده، فأمره النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعيد الصلاة.
خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه.
وخَّرجه ابن حبان –أيضاً - من طريق زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة بهذا الإسناد.
وخَّرجه الترمذي وابن ماجه من حديث حصين، عن هلال بن يسافٍ، عن
زياد بن أبي الجعد، عن وابصة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وحسَّنه الترمذي.
ورواه –أيضاً – منصور، عن هلال بن يساف.
كذلك خرَّجه أبو القاسم البغوي في " معجمه ".
وأشار إلى ترجيح رواية حصين بمتابعة منصور له.

(7/127)


ورجح أحمد وأبو حاتم الرازي رواية عمرو بن مرة.
ورجح عبد الله الدارمي والترمذي رواية حصين؛ لأن الحديث معروف عن
زياد بن أبي الجعد، عن وابصة من غير طريق هلال بن يساف، فإنه رواه يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن عبيد بن أبي الجعد، عن وابصة.
وقد خرَّجه من هذه الطريق ابن حبان في ((صحيحه)) –أيضاً -، وذكر أن هلال بن يساف سمعه من زياد بن أبي الجعد، ومن عمرو بن

(7/128)


راشد، كلاهما عن وابصة من غير واسطة بينهما.
ورجح الترمذي صحة ذلك، وأن هلالاً سمعه من وابصة مع زياد بن أبي الجعد.
وقد روي من وجوه متعدده ما يدل لذلك.
وقد جعل بعضهم هذا الاختلاف اضطراباً في الحديث يوجب التوقف، وإلى ذلك يميل الشافعي في الجديد، وحكاه عن بعض أهل الحديث، بعد أن قال في القديم: لو صح قلت به. فتوقف في صحته.
وممن رجح ذلك: البزار وابن عبد البر.

(7/129)


وأنكر الإمام أحمد على من قال ذلك، وقال: إنما اختلف عمرو بن مرة
وحصين. وقال: عمرو بن راشد معروف.
وكذلك يحيى بن معين أخذ بهذا الحديث، وعمل به، حكاه عنه عباس الدوري، وهو دليل على ثبوته عنده.
وقد روي هذا الحديث عن وابصة من وجوه أخر.
وروي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه أخر، من أجودها: رواية ملازم بن عمرو، عن عبد الله بن بدر، عن عبد الرحمن بن علي بن شيبأن، عن أبيه علي بن شيبأن، قال: خرجنا حتى قدمنا على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبايعناه وصلينا خلفه. قال: ثم صلينا وراءه صلاة أخرى، فقضى الصلاة، فرأى رجلاً فرداً يصلي خلف الصف وحده، فوقف عليه نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أنصرف، قال: ((استقبل صلاتك، لا صلاة للذي خلف الصف)) .
خرَّجه الإمام أحمد وابن ماجه، وهذا لفظه.
وفي رواية للامام أحمد: ((فلا صلاة لفرد خلف الصف)) .
وكذلك خرَّجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحهما)) .

(7/130)


وقال الإمام أحمد: حديث ملازم في هذا –أيضاً - حسن.
ورواته كلهم ثقات من أهل اليمامة، فأن عبد الله بن بدر ثقة مشهور، وثقه يحيى بن معينٍ وأبو زرعة والعجلي وغيرهم.
وملازم، قال الإمام أحمد: كان يحيى القطان يختاره على عكرمة بن عمار، ويقول: هو أثبت حديثاً. وقال ابن معين: هو ثبت، وهو من أثبت أهل اليمامة.
وعبد الرحمن بن علي بن شيبأن، مشهور، وروى عنه جماعة من أهل اليمامة، وذكره ابن حبان في ((الثقات)) .
وقد قال الإمام أحمد: لا اعرف لحديث وابصة مخالفاً.
يعني: لا يعرف له حديثاً يخالفه، فإن حديث أبي بكرة يمكن الجمع بينه وبينه بما تقدم، والجمع بين الأحاديث والعمل بها أولى من معارضة بعضها ببعض، واطرادها واطراحها بعضها، إذا كان العمل بها كلها لا يؤدي إلى مخالفة ما عليه السلف الأول.
وقد تأول بعضهم قوله: ((لا صلاة لفذ خلف الصف)) على نفي الكمال دون الصحة: ويرد هذا أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له بالإعادة.
واختلف أصحابنا: هل تقع صلاة الفذ باطلة غير منعقدة، أو تنقلب

(7/131)


نفلا؟ لهم فيه وجهان.
وأختار ابن حمادٍ وغيره أنها تنقلب نفلاً، وظاهر كلام الخرقي أنها تبطل بالكلية.
وتظهر فائدتها لو صلى ركعة فذاً خلف الصف، ثم جاء آخر فصف معه في الركعة الثانية، فإن قلنا: صلاته باطلة، فالثاني فذ – أيضاً – وإن قلنا: هو متنفل صحت مصافته.
ولأصحابنا وجه آخر: أن جماعته تبطل وتصح صلاته منفرداً.
وهو مروري عن النخعي، قال: صلاته تامةٌ وليس له تضعيفٌ.
خرَّجه البيهقي.
وعلى هذا، فيكون أمره بالإعادة في الجماعة ليحصل ثوابها ومضاعفتها، وليس ذلك في الحديث.
وقد يستدل به أن على من صلى منفرداً فعلية الإعادة، كما يقوله من يجعل الجماعة شرطاً لصحة الصلاة.
وهذا الوجه –أعني: بطلأن جماعته وصحة صلاته منفرداً – جزم به ابن عقيل من أصحابنا في موضع من كتابه ((الأصول)) .
وحكى في موضع آخر منه وجهين: أحدهما: كذلك، وعلله بأن البطلأن يختص بالجماعة، فيصح فرضه ويكون منفرداً. والثاني: يبطل فرضه وتصير صلاته نفلاً.
الوجهأن مطردأن في كل صلاة وجد فيها خلل يعود إلى الجماعة

(7/132)


خاصة؛ كمن صلى فذاً قدام الإمام، أو أنتقل من الجماعة إلى الإنفراد لغير عذر، أو عكسه، أو أئتم بمن لا يجوز الإئتمام به.
ومن أصحابنا من قال: أن لم يعلم امتناع ذلك أنقلبت الصلاة نفلاً، وإن علم ففي البطلأن وأنقلابها نفلاً وجهأن، والأظهر الأول.
وإن صلى الفذ خلف الصف لا يسقط فرضه، وعليه إعادتها كما نص عليه أحمد وأكثر أصحابه.
وقد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤكد أمر الصفوف وتعديلها وتسويتها، وهي من خصائص هذه الأمة كما سبق ذكره، فالمصلي في جماعة من غير مخل بما يلزم من القيام في الصف، فعليه الإعادة إذا تركه عمداً، وهو عالم بالنهي، قادر على الصلاة في الصف. فأما إن كان جاهلاً ففيه خلاف سبق ذكره. وإن كان عاجزاً ففيه خلاف يأتي ذكره – إن شاء الله تعإلى.
وقد عارض بعضهم حديث وابصة بحديث ابن عباس، لما صلى عن يسار النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأداره من ورائه إلى يمينه، قال: فهو في حال إدارته فذ.
وهذا ليس بشيء، فإن المصلي في صف إذا زال اصطفافه ثم عاد سريعا على وجه أكمل من الأول لم يضره ذلك، كما أن الإمام في صلاة الخوف تفارقه طائفة، ويبقى منتظراً لطائفة أخرى، ولا

(7/133)


يضره ذلك. والله أعلم.
ونقل حرب، عن إسحاق بن راهويه: أن صلى الصلاة كلها خلف الصف أعاد صلاته، فأن صلى ركعة فذاً، ثم جاء أخر فقام إلى جنبه، فإنه يعيد تلك الركعة، فلم تبطل سوى ركعته التي كان فيها فذاً، وأمره أن يبني على تكبيرة الإحرام ومذهب أحمد: أنه إذا صلى ركعةً تامةً في أول صلاته فذاً أنه يعيد صلاته كلها واختلفت الرواية عنه: إذا صلى ركعة في الصف ثم صار فذاً.
ونقل مهنا عن أحمد في رجل صلى يوم الجمعة ركعة وسجدتين في الصف، ثم زحموه، فصلى الركعة الأخرى خلف الصف وحده: يعيد تلك الركعة التي صلاها وحده.
ونقل عنه بعض أصحابه: أنه يعيد الصلاة كلها في هذه المسألة، منهم: ابناه صالح وعبد الله والأثرم وغيرهم.
وحمل القاضي أبو يعلى في ((خلافه الكبير)) رواية حنبلٍ على أحد وجهين:
أحدهما: ما أومأ إليه أبو بكر: أن الصلاة في هذه الحال أنعقدت في الصف، وإنما صار فذاً في أثنائها، ولا يمتنع أن ينافي الابتداء في

(7/134)


الاستدامة، كالعدة والردة والإحرام في عقد النكاح.
والثاني: أنه في هذه الحال صار فذاً بغير اختياره، فهي حال ضرورة.
هكذا حكى القاضي أبو يعلى وأصحابه مذهب أحمد.
وحكى أبو حفص الخلاف عن أحمد فيمن صلى ركعة فذاً: هل تبطل ركعته
فقط، أم صلاته كلها؟ وحكى في ذلك روايتين، وسوَّى بين الركعة الأولى وغيرها، ولم يفرق بين حال ضرورة وغيرها.
وذكر أن الحسن بن محمد روى عن أحمد، قال: إذا ركع ركعة سجد، ثم دخل في الصف، يعيد التي صلاها ولا يعيد الصلاة كلها.
قال أبو حفصٍ: والأصح عندي أنه يعيد ما صلى دون الصف حسب، فيعيد الركعة أو الركعتين، ولا يعيد ما صلى مع غيره، قال: لأن تكبيرة الإحرام لم تفسد لأنه لا يختلف قوله أنه إذا كبر وحده أنها صحيحة.
فصرح أبو حفص بأنه لو صلى ركعتين فذاً، ثم دخل في الصف، أو وقف مع غيره أنه يعيد ما صلى فذاً وحده.
ورد القاضي أبو يعلى قوله – فيما قرأته بخطه – بأن القياس يقتضي بطلان الصلاة فذاً في تكبيره والركوع، لأن ما أبطل جميع الصلاة يفسد بعضها، كالحدث. قال: إنما أجاز ذلك القدر لحديث أبي بكرة.
يعني: أن أحمد اجاز صلاة الفذ إذا لم يتم الركعة فذاً، لحديث أبي بكرة.
فإن دخل في الصف، أو قام معه آخر قبل رفع الإمام، فمن الأصحاب من قال: يصح له ركعة بغير خلافٍ، لإدراكه الركعة في

(7/135)


الصف، ومنهم من حكى فيه روايتين أيضاً.
وأن كان ذلك بعد أن رفع وقبل السجود ففيه روايتأن:
أصحهما: أنه لا يعتد بتلك الركعة، لأنه لم يدرك في الصف ما يدرك به
الركعة.
والثانية: لأنه أدرك في الصف السجدتين، وهما معظم الركعة.
وفي بطلأن صلاته من أصلها وبنائه على تكبيرته روايتأن – أيضاً -، على ما حكاه أبو حفص.
وأما القاضي أبو يعلى وأصحابه، فقالوا: تبطل صلاته روايةً واحدةً.
وأكثر النصوص عن أحمد تدل على البطلأن. والله أعلم.
* * *

115 -

(7/136)


باب
إتمام التكبير في الركوع
قاله ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفيه: مالك بن الحويرث.

(7/137)


784 - حدثنا إسحاق الواسطي: ثنا خالد، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن مطرف، عن عمرأن بن حصين، قال: صلى مع عليٍ –رضي الله عنه – بالبصرة، فقال: ذكرنا هذا الرجل صلاة كنا نصليها مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكر أنه كان يكَّبر كلما رفع وكلما وضع.
[ ... ] .
مضطرب إسناده، والحسن بن عمرأن مجهول، وابن عبد الرحمن بن أبزى، قيل: أنه عبد الله، وقيل: أنه سعيد.
قال أحمد: هو أشبه.
وروي أنه محمد، ومحمد هذا غيرُ معروفٍ.
وفسر الإمام أحمد نقص التكبير بأنهم لا يكبرون في الأنحطاط للسجود، ولا في الانحطاط للسجدة الثانية: نقله عنه ابن منصور.

(7/137)


ونقل عن إسحاق، أنه قال: إنما نقصوا التكبير للسجدة الثانية خاصةً.
وقد روي عن أبي موسى الأشعري، قال: لما صلى خلف علي بالبصرة مثل قول عمران بن حصينٍ، لقد ذكرنا علي بن أبي طالب صلاة كنا نصليها مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إما نسيناها، وإما تركناها عمداً، يكَّبر كلما خفض، وكلما رفع، وكلما سجد.
خرَّجه الإمام أحمد.
وفي إسناده اختلاف؛ رواه أبو إسحاق السبيعي، واختلف عنه:
فقيل: عنه، عن الاسود بن يزيد، عن أبي موسى.
وقيل: عنه، عن بريد بن أبي مريم، عن أبي موسى.
وقيل: عنه، عن بريد بن أبي مريم، عن رجل من بني تمميم، عن أبي موسى.
ورجَّحه الدارقطني.
ولذلك لم يخّرج حديثه هذا في ((الصحيح)) .
وأكثر العلماء على التكبير في الصلاة في كل خفضٍ ورفعٍ، وقد كان ابن عمر وجابر وغيرهما من الصحابة يفعلونه ويامرون به.
وممن روي عنه إتمام التكبير: عمر بن الخطاب وابن مسعودٍ وعلي وأبو موسى

(7/138)


وأبو هريرة وابن عباس.
وروى عبد الرحمن بن الأصم، قال: سمعت أنس بن مالك قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر يتمون التكبير.
خرَّجه الإمام أحمد.
وخَّرجه النسائي، وزاد فيه: وعثمان.
وقال سفيان عن منصور، عن إبراهيم: أول من نقص التكبير زياد.
وقال: ثوير بن أبي فاختة، عن أبيه، عن ابن مسعود: أن اول من نقص التكبير: الوليد بن عقبة، فقال ابن مسعود: نقّصوها نقَّصهم الله.
خرَّجه البزار وغيره.

(7/139)


وخرَّج الإمام أحمد والنسائي والترمذي من حديث ابن مسعود، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكَّبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود، وأبو بكر وعمر.
زاد النسائي: وعثمان.
وكان بنو أمية ينقصون التكبير، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز، والظن به أنه لم تبلغه السنة الصحيحة في ذلك، ولو بلغته لكان أتبع الناس لها.
وروي عن القاسم وسالم وسعيد بن جبيرٍ، أنهم كانوا لا يتمون التكبير.
ذكره ابن المنذر وغيره.
وقد سبق تفسير ترك إتمام التكبير، ومن فهم عنهم أنهم كانوا لا يكبرون في الصلاة غير تكبيرة الإحرام فقد وهم فيما فهم.
وأما ما حكاه ابن عبد البر، عن ابن عمر، أنه كان لا يكَّبر إذا صلى وحده، وذكر أن أحمد بن حنبل حكاه عنه في رواية ابن منصور. فهذا وهم منه –رحمه الله – على أحمد،

(7/140)


فأن مراد أحمد التكبير في أدبار الصلوات أيام التشريق.
ويدل عليه: أن أحمد في تمام هذه الرواية حكى – أيضاً -، عن قتادة، أنه كان يكَّبر إذا صلى وحده، ثم قال: واحب الي أن يكَّبر من صلى وحده في الفرض، وأما النافلة فلا.
ولم يرد أحمد أن صلاة النافلة لا يكَّبر فيها للركوع والسجود والجلوس، فإن هذا لم يقله أحمد قط، ولا فَّرق أحد بين الفرض والنفل في التكبير.
وأما حديث ابن أبزى، فقد تقدم الكلام على ضعفه، ولو صح حمل على أنه لم يسمع من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتمام التكبير، لا أنه لم يكن يكَّبر في سجوده ورفعه.
وهكذا المروي عن عثمان، فإنه لما كبر وضعف خفض صوته به أو أسره.
وأكثر الفقهاء على أن التكبير في الصلاة – غير تكبيرة الإحرام – سنة، لا تبطل الصلاة بتركه عمداً ولا سهواً.
وذهب أحمد واسحاتق إلى أن من ترك تكبيرة من تكبيرات الصلاة عمداً فعليه الإعادة، وأن كان سهواً فلا إعادة عليه في غير تكبيرة الإحرام.
وأنكر أحمد أن يسمي شيء من أفعال الصلاة واقوالها سنة، وجعل تقسيم الصلاة إلى سنة وفرض بدعة، وقال: كل ما في

(7/141)


الصلاة واجب، وإن كانت الصلاة لا تعاد بترك بعضها.
وكذلك أنكر مالك تقسيم الصلاة إلى فرض وسنة، وقال: هو كلام الزنادقة. وقد ذكرنا كلامه في موضع آخر.
وكذلك ذكر الأبري في ((مناقب الشافعي)) بإسناده عن الواسطي، قال: سمعت الشافعي يقول: كل أمور الصلاة عندنا فرض.
وقال –أيضاً -: قرأت عن الحسين بن علي، قال: سُئل الشافعي عن فريضة الحج؟ قال: الحج من أوله إلى آخره فرض، فمنه ما إن تركه بطل حجة، فمنه
الإحرام، ومنه الوقوف بعرفات، ومنه الافاضة.
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: كل شيء في الصلاة مما ذكره الله فهو فرض.
وهذا قيد حسن.
وسمى أصحاب أحمد هذه التكبيرات التي في الصلاة بعد تكبيرة الإحرام واجبات، لأن الصلاة تبطل بتركها عمداً عندهم.
وحكي عن أحمد رواية أن هذه التكبيرات من فروض الصلاة، لا تسقط الصلاة بتركها عمداً ولا سهواً.
وحكي عنه رواية أخرى: إنها فرض في حق غير المأموم، وأما المأموم فتسقط عنه بالسهو.
وروي عن ابن سيرين وحماد، أنه من أدرك الإمام راكعاً وكبر تكبيرة واحدة للإحرام لم يجزئه حتى يكَّبر معها تكبيرة الركوع.
وقال ابن القاسم –صاحب مالك -: من أسقط من التكبير في الصلاة ثلاث تكبيرات فما فوقها سجد للسهو قبل السلام، فإن لم يسجد بطلت صلاته، وإن نسي تكبيرة واحدة أو اثنتين سجد للسو –أيضاً -، فإن لم يفعل فلا شيء عليه.
وروي عنه، أن التكبيرة الواحدة لا سجود على من سها عنها.
قال ابن عبد البر: هذا يدل على أن عظم التكبير وجملته عنده فرض، وأن اليسير منه متجاوز عنه.
وأكثر أصحاب مالك على أن هذه التكبيرات تسمى سنناً، كما يقوله أصحاب الشافعي وغيرهم، وأن الصلاة لا تبطل بتركها عمدا ولا سهواً،

(7/142)


وحكي رواية عن
أحمد.
وقال سعيد بن جبيرٍ في التكبير: كلما خفض ورفع، إنما هو شيء يزين به الرجل الصلاة.
وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال: من نسي شيئاً من

(7/143)


تكبيرات الصلاة، أو ((سمع الله لمن حمده)) فإنه يقضيه حين يذكره.
وهذا مذهب غريب، وجمهور العلماء على أنه يفوت بفوات محله، فلا يعاد في غير محله.
واستدل من أوجب ذلك بأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه قال: ((صلوا كما رأيتموني
أصلي)) . وكان يصلي بهذا التكبير، وقال في الإمام: ((إذا كبر فكبروا)) .
وهذا يعم كل تكبير في الصلاة. وقال – في حديث أبي موسى -: ((فإذا كبر الإمام وركع فاركعوا)) . وكذا قال في السجود.
خرَّجه مسلم.
وبأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الصلاة: ((إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)) ، فدل على أن الصلاة لا تخلو من التكبير، كما لا تخلو من قراءة القرآن، وكذلك
التسبيح.
وقد روي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم المسيء في صلاته التكبير للركوع والسجود، من حديث رفاعة بن رافع، وأخبره أنه لا تتم صلاته بدون ذلك.
خرَّجه أبو داود وغيره.

(7/144)


واستدل الإمام أحمد لسقوطه بالسهو بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نسي التشهد الأول، فأتم صلاته، وسجد للسهو. وقد ترك بتركه التشهد التكبيرة للجلوس له، فدل على أنها تسقط بالسهو، ويجبر بالسجود له.
واستدل –أيضاً –على سقوطه بالسهو بحديث: ((كان لا يتم التكبير)) ، فكأنه حمله على حالة السهو.

الحديث الثاني:
785 -

(7/145)


حدثنا عبد الله بن يوسف: أنا مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أنه كان يصلي بهم، فيكبر كلما خفض ورفع، فاذا أنصرف قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد رواه عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، أن أبا هريرة كان يكَّبر في الصلاة كلما رفع ووضع، فقلنا: يا أبا هريرة، فما هذا التكبير؟ قال: إنها لصلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرَّجه مسلم.
وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة من وجوه متعددة، وسيأتي بعضها فيما بعد – إن شاء الله.
وقد استدل به بعضهم على أن التكبير لغير الإحرام غير واجب في الصلاة، لأن هذا كان يستنكره الناس على أبي هريرة، كما استنكره عكرمة على من صلى خلفه
بمكة، وكما دل حديث عمرأن بن حصين

(7/145)


وأبي موسى على ترك الناس له.
وخَّرجه النسائي وابن حبان في ((صحيحه)) ، من حديث سعيد بن سمعان، قال: دخل علينا أبو هريرة المسجد، فقال: ثلاث كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعمل بهن، تركهن الناس: كان إذا قام إلى الصلاة رفع يده مداً، وكان يقف قبل القراءة هنيهة يسأل الله من فضله، وكان يكَّبر في الصلاة كلما ركع وسجد.
ولو كان ذلك من واجبات الصلاة لما أقرت الصحابة على تركه.
وقد أجاب بعضهم بأنهم إنما تركوا الجهر به فقط، وقد سبق عن الإمام أحمد أن نقص التكبير الذي احدثوه إنما هو ترك التكبير للسجدة الأولى والثانية، وأن إسحاق قال: إنما تركوا التكبير للسجدة الثانية فقط.
فلعل بني أمية كانوا يرون أن المأمومين يشاهدون الإمام في سجوده فلا يحتاج إلى إسماعهم التكبير في هذه الحال، بخلاف رفعه فإنهم لا يشاهدونه، فيحتاج إلى إسماعهم التكبير فيه.
وفي هذا نظر. والله أعلم.
وقد سبق ما يدل على أنهم تركوا تكبيرتي الركوع والسجود خاصة، وأن علياً
– رضي الله عنه - أحيا ما تركوه من ذلك وأماتوه.

(7/146)


وروى مسعر، عن يزيد الفقير، قال: كان ابن عمر ينقص التكبير في الصلاة. قال مسعر: إذا انحط بعد الركوع للسجود لم يكَّبر، فإذا أراد أن يسجد الثانية لم يكَّبر.
خرَّجه ابن أبي شيبة.
فتفسير مسعر لنقص التكبير يدل على أن نقصه هو ترك التكبير للسجدتين معاً، كما فسره الإمام أحمد.
وهذه الرواية عن ابن عمر تخالف رواية مالك، عن الزهري، عن سالمٍ، عن
أبيه، أنه كان يكَّبر كلما خفض ورفع.
كذا رواه مالك في ((الموطأ)) .
ورواه أشهب، عن مالك، فزاد فيه: يخفض بذلك صوته.
وهذه الرواية يجمع بها بين الروايتين بأن يكون سالم سمع أباه يكَّبر ويخفض صوته، ويزيد الفقير لم يسمعه لخفض صوته، أو لبعده عنه.
وروى – أيضاً – عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يتم التكبير.
ونافع وسالم أعرف بابن عمر من غيرهما.

(7/147)


116 - باب
اتمام التكبير في السجود
فيه حديثان:
الأول:
786 -

(7/148)


حدثنا أبو النعمان: حدثنا حماد، عن غيلان بن جرير، عن مطرف بن عبد الله، قال: صليت خلف علي ابن أبي طالب – رضي الله عنه – أنا وعمران بن حصين، فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كَّبر، فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين، فقال: لقد ذكرني هذا صلاة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو قال: لقد صلى بنا صلاةَ محمدَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فيه ما يستدل به على أن نقص التكبير الذي كان معهوداً بينهم: هو تركه عند السجود، وعند القيام من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة.
قد روي عن طائفة من التابعين التكبير للسجود وللنهوض من الركعتين.
وهذا يدل على أن هذا هو الذي كان تركه من نقص التكبير، فإما التكبير للرفع من السجود فإنما ذكر – والله أعلم – تبعاً للتكبير

(7/148)


للسجود، ويكون المراد: أنه كان يكَّبر للهوي إلى السجود، كما كان يكَّبر للرفع منه. والله أعلم.

الحديث الثاني:
787 -

(7/149)


ثنا عمرو بن عون: ثنا هشيم، عن أبي بشرٍ، عن عكرمة، قال: رأيت رجلاً عند المقام كبر في كل خفضٍ ورفع، وإذا قام وإذا وضع، فاخبرت ابن عباس، فقال: أو ليس تلك صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا أم لك؟!
مراده بالخفض: خفض الرأس للركوع والسجود.
وبالرفع: رفعه من السجود خاصة.
وبالقيام: قيامه من السجود ومن التشهد الأول إلى الركعة الأخرى.
وبالوضع: وضع الرأس للسجود.
ومقصود البخاري بهذا الباب: إثبات تكبير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للسجود، وهو الذي كان قد اشتهر تركه في زمن بني امية، كما سبق.
* * *

117 -

(7/149)


باب
التكبير إذا قام من السجود
فيه حديثان:
الأول:

(7/150)


788 - ثنا موسى بن إسماعيل: نا همام، عن قتادة، عن عكرمة، قال: صليت خلف شيخ بمكة، فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لابن عباس: إنه أحمق، فقال: ثكلتك أمك، سنة أبي القاسم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال موسى: نا أبان: نا قتادة: نا عكرمة.
إنما ذكر رواية أبان العطار تعليقاً؛ لأن فيها تصريح قتادة بسماع هذا الحديث من عكرمة، فأمن بذلك تدليسه فيه.
وهذه الصلاة التي صلاها عكرمة خلف هذا الشيخ كانت رباعية، فإن الصلاة الرباعية تشتمل على أربع ركعات، في كل ركعة خمس تكبيرات تكبيرة للركوع؛ تكبيرتان للسجدتين، وتكبيرة للجلوس بينهما، وتكبيرة للرفع من السجدة الثانية، فهذه عشرون تكبيرة في الأربع. وتكبيرة الإحرام وتكبيرة القيام من التشهد الأول.
فأما صلاة المغرب، ففيها سبع عشرة تكبيرة؛ لأنه يسقط منها تكبيرات ركعة كاملة، وهي خمس تكبيرات.
وأما صلاة الفجر، ففيها إحدى عشرة

(7/150)


تكبيرة، لأن في الركعتين عشر تكبيرات وتكبيرة الإحرام.
وهذا كله في حق غير المأموم المسبوق ببعض الصلاة، فإن المسبوق قد يزيد تكبيرة على ذلك لأجل متابعة إمامه، كما أنه يزيد في صلاته أركانا لا يعتد بها متابعة لإمامه، ولا سجود عليه لذلك عند الأكثرين، وفيه خلاف سبق ذكره.
ومقصود البخاري بهذا الحديث في هذا الباب: أن القائم من السجود إلى الركعة الثانية أو الرابعة يكَّبر في قيامة.

الحديث الثاني:
789ـ

(7/151)


نا يحيى بن بكير: ناالليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، أنه سمع أبا هريرة يقول: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام إلى الصلاة يكَّبر حين يقوم، ثم يكَّبر حين يركع، ثم يقول: ((سمع الله لمن
حمده)) حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ((ربنا لك الحمد)) ، ثم يكَّبر حين يرفع رأسه، ثم يكَّبر حين يسجد، ثم يكَّبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكَّبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس.
قال عبد الله، عن الليث ((ولك الحمد))

(7/151)


عبد الله، هو: أبو صالح كاتب الليث. ومراده: أنه رواه عن الليث. وقال في روايته ((ربنا ولك الحمد)) بالواو، بخلاف رواية يحيى بن بكير عن الليث، فإنها بإسقاط الواو. وخَّرجه مسلم من طريق حجين، عن الليث به، وقال فيه: بمثل حديث ابن جريح. وخَّرجه قبل ذلك من طريق ابن جريح، عن الزهري، وفي حديثه ((ولك الحمد)) بالواو. والمقصود من هذا الحديث: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكَّبر حين يرفع رأسه ويقوم من السجدة الثانية، كما كان يكبر حين يرفع رأسه من السجدة الأولى للجلوس بين السجدتين.

* * *

118 -

(7/152)


باب
وضع الأكف على الركب في الركوع
وقال أبو حميد في أصحابه: أمكن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يديه من ركبتيه.
حديث أبي حميد هذا، قد خرَّجه بإسناده، وسيأتي في موضعه – إن شاء الله
تعالى.

(7/153)


790 - حدثنا أبو الوليد: نا شعبة، عن أبي يعفور، قال: سمعت مصعب بن سعد يقول: صليت إلى جنب أبي، فطبقت بين كفي، ثم وضعتهما بين فخذي، فنهاني أبي، وقال: كنا نفعله فنهينا عنه، وامرنا أن نضع أيدينا على الركب.
أبو يعفور، هو: العبدي الكوفي، اسمه: وقدان. وقيل: واقد، وهوأبو يعفور الأكبر.
وهذا الحديث قد ذكر ابن المديني وغيره أنه غير مرفوع، ومرادهم: أنه ليس فيه تصريح بذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لكنه في حكم المرفوع، فإن الصحابي إذا قال ((أمرنا - أو نهينا – بشيء)) ، وذكره في معرض الاحتجاج به قوي الظن برفعه؛ لأنه غالباً إنما يحتج بأمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونهيه.
وقد ورد التصريح برفعه من وجه فيه ضَّعف، من رواية عكرمة بن ابراهيم
الأزدي، عن عبد الملك بن عمير، عن مصعب

(7/153)


بن سعد، قالَ: قلت لأبي: رأيت أصحاب ابن مسعود يطبقون أيديهم، ويضعونها بين ركبهم إذا ركعوا، فقال: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل الشيء زماناً، ثم يدعه، وقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يركع –أو قال -: أشهد أني رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? إذا ركع يضع راحتيه على ركبتيه، ويفرج بين أصابعه.
خرَّجه يعقوب بن شيبة في ((مسنده)) .
وقال: عكرمة بن إبراهيم، منكر الحديث.
وذكر يحيى بن معين، أنه قالَ: ليس فيه شيء.
وروى عاصم بن كليب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن علقمة، قال: قال عبد الله: علمنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة، فكبر ورفع يديه، فلما ركع طبق يديه بين
ركبتيه. قال: فبلغ ذلك سعداً، فقال: صدق أخي، كنا نفعل هذا، ثم أمرنا بهذا.
يعني: الامساك على الركبتين.
خرَّجه أبو داود والنسائي والدارقطني.
وقال: إسناد صحيح ثابت.
وهذه الرواية - أيضاً - تدل على رفع الأمر بالإمساك بالركبتين،

(7/154)


لأن أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يترك بأمرغيره بما يخالفه.
وروى أبو عبد الرحمن السلمي قال: قال لنا عمر: إن الركب سنت لكم فخذوا بالركب.
خرَّجه الترمذي.
وقال حديث حسن صحيح.
وخَّرجه النسائي، ولفظه: قال: قال عمر: إنما السنة الأخذ بالركب. وفي رواية عن أبي عبد الرحمن، عن عمر، قالَ: سنت لكم الركب، فأمسكوا بالركب.
وسماع أبي عبد الرحمن من عمر، قد أنكره شعبة ويحيى بن معين.
وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجوه متعددة وضع اليدين على الركبتين في الركوع من فعله وأمره، وليس شيءُ منها على شرط البخاري.
وهذا هو السنة عند جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأجمع عليه أئمة الأمصار.
وكان ابن مسعود يطبق في ركوعه، فيجعل أحد كفيه على الأخر، ويجعلها بين ركبتيه، وقد رواه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يأمر أصحابه بذلك.
وقد خرَّج حديثه

(7/155)


مسلم في ((صحيحه)) .
وبه أخذ أصحابه، منهم: علقمة والأسود وأبو عبيدة بن عبد الله.
وكان النخعي يذهب إليه ثم رجع إلى ما روي عن عمر -: ذكره الإمام أحمد وغيره.
وذكر أكثر العلماء: أن التطبيق كان شرع أولاً، ثم نسخ حكمه، واستدلوا بحديث سعد وما في معناه.
وروى حصين، عن عمرو بن مرة، عن خيثمة، عن أبي سبرة الجعفي، قال: قدمت المدينة فجعلت أطبق كما يطبق أصحاب عبد الله وأركع، فقال رجل: ما حملك على هذا؟ قلت: كانَ عبد الله يفعله، وذكر أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يفعله. قالَ: صدق عبد الله، ولكن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربما صنع الأمر ثم أحدث الله له الأمر الأخر، فأنظر ما أجمع عليه المسلمون فاصنعه. فلما قام كان لا يطبق.
وذكره الأثرم – تعليقا – بمعناه، فقال لي رجل من المهاجرين - فذكره.
وأكثر العلماء على أن وضع اليدين على الركبتين في الركوع من سنن الصلاة، ولا تبطل الصلاة بتركه ولا بالتطبيق.

(7/156)


وروى عاصم بن ضمرة، عن علي، أن الراكع مخير بين أن يضع يدية على ركبتيه أو يطبق.
وذهب طائفة من أهل الحديث إلى المنع من التطبيق، وابطال الصلاة به؛ للنهي
عنه كما دل حديث سعد، منهم: أبو خيثمة زهير بن حرب وأبو إسحاق
الجوزجاني.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة - فيمن طبق ولم يضع يدية على ركبتيه -: أحب إلي أن يعيد.
ونقل إسحاق بن منصور، عن أحمد، أنه سئل عن قول سفيان: من صلى بالتطبيق يجزئه؟ فقالَ أحمد: أرجو أن يجزئه. فقالَ إسحاق بن راهويه كما قالَ: إذا كانَ به علة.
وحمل أبو حفص البرمكي –من أصحابنا - قول أحمد على ما إذا كان به علة، فإن لم يكن به علة فلا تجزئه صلاته، إلا أن لا يعلم بالنهي عنه.
وتوقف أحمد في إعادة الصلاة مع التطبيق في رواية أخرى.
فعلى قول هؤلاء: يكون وضع اليدين على الركبتين في الركوع من واجبات الصلاة.
وقد روي عن طائفة من السلف ما يدل على ذلك، فإنه روي عن جماعة، أنهم قالوا: إذا وضع يديه على ركبتيه أجزأه

(7/157)


في الركوع.
وممن روي ذلك عنه: سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وابن سيرين ومجاهد وعطاء، وقال: هو أدنى ما يجريء في الركوع.
* * *

119 -

(7/158)


باب
إذا لم يتم الركوع

(7/159)


791 - حدثنا حفص بن عمر: نا شعبة، عن سليمان، قالَ: سمعت زيد بن وهب، قالَ: رأى حذيفة رجلاً لا يتم الركوع والسجود. قالَ: ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمداً - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها.
سليمان، هو: الاعمش.
وقد روي هذا الحديث من رواية عثمان بن الأسود، عن زيد بن وهب، عن حذيفة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإسناده لا يصح.
والصحيح: أنه من قول حذيفة، لكنه في حكم المرفوع؛ بذكره فطرة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والمراد بفطرة محمدٍ شرعه ودينه، ولذلك عاد الضمير في قوله: ((عليه)) بلفظ التذكير، وفي بعض النسخ: ((عليها)) ولا إشكال على ذلك.

(7/159)


وخرَّج الطبراني من روايه بيأن، عن قيس، عن بلال، أنه ابصر رجلاً يصلي لا يتم الركوع والسجود، فقال: لو مات هذا لمات على غير ملة عيسى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد روي مرفوعاً من وجه آخر بمعناه:
خرَّجه الإمام أحمد من رواية ابن لهيعة: ثنا الحارث بن يزيد الحضرمي، عن البراء بن عثمان الأنصاري، أن هانيء بن معاوية الصدفي حدثه، قال: حججت في زمأن عثمان بن عفأن، فجلست في مسجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا رجل يحدثهم، قال: كنا مع
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً، فاقبل رجل إلى هذا العمود، فعجل قبل أن يتم صلاته، ثم خرج، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن هذا لو مات لمات وليس هو من الدين على شيء، أن الرجل ليخفف ويتمها)) . فسألت عن الرجل: من هو؟ فقيل: لعله عثمان بن حنيف الأنصاري.
وهذا الإسناد فيه ضَّعف.

(7/160)


وروى الوليد بن مسلم: أنا شيبة بن الأحنف، أنة سمع أبا سلام الأسود يحدث عن أبي صالح الأشعري أنه حدثة عن أبي عبد الله الأشعري، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نظر إلى رجل يصلي، لايتم ركوعه ولاسجوده، ينقر صلاته كما ينقر الغراب، فقال ((إن مثل الذي يصلي ولايتم ركوعه ولاسجوده كمثل الذي يأكل التمرة والتمرتين لا يغنيان عنه شيئاً، فأتموا الركوع والسجود، وويل للأعقاب من النار)) .
قال أبو صالح: فقلت لأبي عبد الله الأشعري: من حدثك بهذا عن رسول الله
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالَ: خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن
حسنة، كل هولاء سمعوه من النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرجة أبو القاسم البغوي في معجمه، وخرجه الطبرأني وزاد فيهِ: فقالَ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((لو مات على حالته هذه مات على غير ملة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) وخرَّج ابن ماجه من هذا الحديث: ((ويلٌ للأعقاب من النار)) فقط

(7/161)


وقد دلت هذه الأحاديث على أن إتمام الركوع والسجود في الصَّلاة واجب، وأن تركة محرم، ولولا ذَلِكَ لم يكن تاركه خارجاً من الدين، بل هوَ يدل على أن تاركه تارك للصلاة، فأنه لا يخرج من الدين بدون ترك الصَّلاة، كما في الحديث عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ ((بين العبد وبين الكفر ترك الصَّلاة)) وفي رواية ((فمن تركها فقد كفر)) وأما المثل المضروب في هذا الحديث لمن لا يتم ركوعه ولا سجوده ففي غاية الحسن، فإن الصلاة هي قوت قلوب المؤمنين وغذاؤها، بما اشتملت عليه من ذكر الله ومناجاته وقربه فمن أتم صلاته فقد استوفى غذاء قلبه وروحه، فما دام على ذلك كملت قوته، ودامت صحته وعافيته، ومن لم يتم صلاته فلم يستوف قلبه وروحه قوتها وغذاءها، فجاع قلبه وضعف، وربما مرض أو مات؛ لفقد غذائه، كما يمرض الجسد ويسقم إذا لم يكمل تناول غذائه وقوته الملائم له.
* * *

120 - 121

(7/162)