فتح الباري لابن رجب

بسم الله الرحمن الرحيم

(8/341)


1 - صلاة الخوف
وقول الله - عز وجل -: {وَإذا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً - وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَأبا مُهِيناً} [النساء: 101 - 102] قوله تعالى: {وَإذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
قد ذكر طائفة من السلف أنها نزلت في صلاة في السفر، لا في صلاة السفر بمجرده؛ ولهذا ذكر عقبيها قوله تعالى: {وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} ، ثم ذكر صفة صلاة الخوف، فكان ذلك تفسيرا للقصر المذكور في الآية الأولى. وهذا هو الذي يشير إليه البخاري، وهو مروي عن مجاهد والسدي والضحاك وغيريهم، واختاره ابن جرير وغيره.

(8/341)


وتقدير هذا من وجهين:
أحدهما: أن المراد بقصر الصلاة قصر أركانها بالإيماء ونحوه، وقصر عدد الصلاة إلى ركعة. فأما صلاة السفر، فإنها ركعتان، وهي تمام غير قصر، كما قاله عمر - رضي الله عنه -.
وروى سماك الحنفي، قال: سمعت ابن عمر يقول: الركعتان في السفر تمام غير قصر، إنما القصر صلاة المخافة.
خرجه ابن جرير وغيره.
وروى ابن المبارك عن المسعودي، عن يزيد الفقير، قال: سمعت جابر بن عبد الله يسأل عن الركعتين في السفر: أقصرٌهما؟ قالَ: إنما القصر ركعةٌ عندَ القتال، وإن الركعتين في السفر ليستا بقصرٍ.
وخرج الجوزجاني من طريق زائدة بن عمير الطائي، أنه سأل ابن عباس عن تقصير الصلاة في السفر؟ قال: إنها ليست بتقصير، هما ركعتان من حين تخرج من أهلك إلى أن ترجع إليهم.

(8/342)


وخرج الإمام أحمد بإسناد منقطع، عن ابن عباس، قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين ركعتين، وحين أقام أربعا أربعا.
وقال ابن عباس: فمن صلى في السفر أربعا كمن صلى في الحضر ركعتين.
وقال ابن عباس: لم تقصر الصلاة إلاّ مرة واحدة حيث صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين، وصلى الناس ركعة واحدة. يعني: في الخوف.
وروى وكيع، عن سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف ركعة ركعة. قال سعيد: كيف تكون مقصورة وهما ركعتان.
والوجه الثاني: أن القصر المذكور في هذه الآية مطلق، يدخل فيه قصر العدد، وقصر الأركان ومجموع ذلك يختص بحالة الخوف في السفر، فأما إذا انفرد أحد الأمرين - وهو السفر أو الخوف - فإنه يختص بأحد نوعي القصر، فانفراد السفر يختص بقصر العدد، وانفراد الخوف يختص بقصر الأركان. لكن هذا ممالم يفهم من ظاهر القرآن، وإنما بين دلالةٌ عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والآية لا تنافيه. وإن كان ظاهرها لا يدل عليه. والله سبحانه وتعالى

(8/343)


أعلم.
وقيل: إن قوله: {وَإذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} نزلت بسبب القصر في السفر من غير خوف، وإن بقية الآية مع الآيتين بعدها نزلت بسبب صلاة الخوف 0
روي ذلك عن عَلِيّ - رضي الله عنه -.
خرجه ابن جرير، عنه بإسناد ضعيف جداً، لايصح. والله - سبحانه وتعالى - أعلم.
وقد روي ما يدل على أن الآية الأولى المذكور فيها قصر الصلاة إنما نزلت في صلاة الخوف.
فروى منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي، قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعُسفان - وعلى المشركين خالد بن الوليد - فصلينا الظهر، فقال المشركونَ: لقد أصبنا غرةً، لقدأصبنا غفلةً، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حضرت العصر قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستقبل القبلة والمشركون
أمامه، فصف خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صف، وصف بعد ذلك الصف صف آخر، فركع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركعوا جميعاً، ثم سجدوا وسجد الصف الذين يلونه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما صلى هؤلاء سجدتين وقاموا، سجد الآخرون الذين كانوا خلفه، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف

(8/344)


الآخر إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركعوا جميعاً، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الاخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصف الذي يليه سجد الآخرون، ثم جلسوا جميعاً فسلم عليهم جميعاً، فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سليم.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود - وهذا لفظه - والنسائي وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم.
وقال: على شرطهما.
وفي رواية للنسائي وابن حبان، عن مجاهد: نا أبو عياش الزرقي،

(8/345)


قال: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - فذكره.
ورد ابن حبان بذلك على من زعم: أن مجاهداً لم يسمعه من أبي عياش، وأن أبا عياش لا صحبة له.
كأنه يشير إلى ما نقله الترمذي في ((علله)) عن البخاري، أنه قال: كل الروايات عندي صحيحٌ في صلاة الخوف، إلاحديث مجاهد، عن أبي عياش الزرقي، فأني أراه مرسلاً.
وابن حبان لم يفهم ما أراده البخاري، فإن البخاري لم ينكر أن يكون أبو عياش له صحبةٌ، وقد عدَة في ((تاريخه)) من الصحابة، ولا أنكر سماع مجاهد من أبي عياش، وإنما مراده: أن هذا الحديث الصواب: عن مجاهد إرساله عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير ذكر أبي عياش؛ كذلك رواه أصحاب مجاهد، عنه بخلاف رواية منصور، عنه، فرواه عكرمة بن خالد وعمر بن ذر وأيوب بن موسى ثلاثتهم، عن مجاهد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلاً من غير ذكر أبي عياش.

(8/346)


وهذا أصح عند البخاري، وكذلك صحح إرساله عبد العزيز النخشبي وغيره من الحفاظ.
وأما أبو حاتم الرازي، فإنه قال - في حديث منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش -: إنه صحيح. قيل له: فهذه الزيادة ((فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر)) محفوظةٌ هي؟ قال: نعم.
وقال الإمام أحمد: كل حديث روي في صلاة الخوف فهو صحيح.
وقد جاء في رواية: فنزلت {وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} وهذا لاينافي رواية: ((فنزلت آية القصر)) بل تبين أنه لم تنزل آية القصر بانفرادها في هذا اليوم، بل نزل معها الآيتان بعدها في صلاة الخوف. وهذا كله مما يشهد لان آية القصر أريد بها قصر الخوف في السفر، وإن دلت على قصر السفر بغير خوف بوجه من الدلالة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال البخاري - رحمه الله -:

(8/347)


942 - نا أبو اليمان: ثنا شعيب، عن الزهري، قال: سألته: هل صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف؟ فقالَ أخبرني سالم، أن عبد الله بن عمر قالَ: غزوت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل نجد، فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي لنا، فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمن معه وسجد سجدتين، ثُمَّ انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاءوا فركع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهم ركعة وسجد سجدتين، ((ثُمَّ سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين)) .
وخرجه في موضع آخر من رواية معمر.
وخرجه مسلم من رواية معمر وفليح كلاهما، عن الزهري، به - بمعناه. وقد روي عن حذيفة نحو رواية ابن عمر - أيضا.
وخرجه الطبراني من رواية حكام بن سلم، عن أبي جعفر الرازي، عن قتادة، عن أبي العالية، قال: صلى بنا أبو موسى الأشعري بأصبهان صلاة الخوف.
وما كان كبير خوفٍ؛ ليرينا صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقام فكبر، وكبر معه طائفة من القوم، وطائفة بإزاءالعدو، فصلى بهم ركعة

(8/348)


فانصرفوا، وقاموا مقام اخوانهم، فجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعة أخرى، ثُمَّ سلم، فصلى كل واحد منهم الركعة الثانية وحدانا.
ورواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي العالية، أن أبا موسى كان بالدار من أرض اصبهان، وما بها كبير خوف، ولكن أحب أن يعلمهم دينهم وسنة نبيهم، فجعلهم صفين: طائفة معها السلاح مقبلة على عدوها، وطائفة من ورائها، فصلى بالذين بإزائه ركعة، ثم نكصوا على أدبارهم حتى قاموا مقام الأخرى، وجاءوا يتخللونهم حتى قاموا وراءه فصلى بهم ركعة أخرى، ثم سلم، فقام الذين يلونه والآخرون فصلوا ركعة ركعة، ثم سلم بعضهم على بعض، فتمت للإمام ركعتان في جماعة، وللناس ركعة ركعة. يعني في جماعة.
خرجه ابن أبي شيبة، وعنه بقي بن مخلد في مسنده.
وهو إسناد جيد. وهو في حكم المرفوع؛ لما ذكر فيه من تعليمهم بسنة نبيهم.
ورواه أبو داود الطيالسي، عن أبي حرة، عن الحسن، عن أبي موسى، أن رسول الله ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بأصحابه –فذكر نحوه، وفيه زيادة على حديث ابن عمر: أن الطائفة الأولى لما صلت ركعة وذهبت لم تستدبر

(8/349)


القبلة، بل نكصت على أدبارها.
وروي - أيضا - عن ابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحو ذلك، من رواية خصيف، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف، فقاموا صفين، فقام صف خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصف مستقبل العدو، فصلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصف الذين يلونه ركعة، ثم قاموا فذهبوا، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، وجاءوا أولئك فقاموا مقامهم، فصلى بهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعة، ثم سلم، ثم قاموا فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا ثم ذهبوا، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، ورجع أولئك إلى مقامهم، فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا.
خرجه الإمام أحمد –وهذا لفظه - وأبو داود – بمعناه.
وخصيف، مختلف في أمره. وأبو عبيدة، لم يسمع من أبيه، لكن رواياته عنه أخذها عن أهل بيته، فهي صحيحة عندهم. وهذه الصفة توافق حديث ابن عمر وحذيفة، إلاّ في تقدم الطائفة

(8/350)


الثانية بقضاء ركعة.
وذهابهم إلى مقام أولئك مستقبلي العدو، ثُمَّ مجيء الطائفة الأولى إلى مقامهم فقضوا ركعة.
وحديث ابن عمر وحذيفة فيهما: قيام الطائفتين يقضون لأنفسهم، وظاهره: أنهم قاموا جملة وقضوا ركعة ركعة واحدانا.
وقد رواه جماعة، عن خصيف، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود، وزادوا فيه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر وكبرالصفان معه جميعاً. وقد خرجه كذلك الإمام أحمد وأبو داود.
وزاد الإمام أحمد: ((وهم في صلاة كلهم)) واختلف العلماء في صلاة الخوف على الصفة المذكورة في حديث ابن عمر، وما وافقه: فذهب الأكثرون إلى أنها جائزة وحسنة، وإن كان غيرها أفضل منها، هذا قول الشافعي –في أصح قوليه - وأحمد وإسحاق وغيرهم.
وقالت طائفة: هي غير جائزة على هذه الصفة؛ لكثرة ما فيها من الأعمال المباينة للصلاة من استدبار القبلة والمشي الكثير، والتخلف عن الإمام، وادعوا أنها منسوخة، وهو أحد القولين للشافعي.
ودعوى النسخ هاهنا لا دليل عليها.

(8/351)


وقالت طائفة: هي جائزة كغيرها من أنواع صلاة الخوف الواردة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا فضل لبعضها على بعض، وهو قول إسحاق: نقله عن ابن منصور ونقل حرب، عن إسحاق، أن حديث ابن عمر وابن مسعود يعمل به إذا كان العدو في غير جهة القبلة.
وكذلك حكى بعض أصحاب سفيان كلام سفيان في العمل بحديث ابن عمر على ذلك.
وقالت طائفة: هي افضل انواع صلاة الخوف، هذا قول النخعي، واهل الكوفة وأبي حنيفة وأصحابه، ورواية عن سفيان، وحكي عن الأوزاعي واشهب المالكي.
وروى نافع، ان ابن عمر كان يعلم الناس صلاة الخوف على هذا الوجه. وحكي عن الحسن بن صالح، أنه ذهب إلى حديث ابن مسعود، وفيه: أن الطائفة الثانية تصلي مع الإمام الركعة الثانية، ثم إذا سلم قضت ركعة، ثم ذهبت إلى مكان الطائفة الأولى، ثم قضت الطائفة الأولى ركعة، ثم تسلم وقد قيل: إن هذا هو قول أشهب.
وحكى ابن عبد البر، عن أحمد، أنه ذهب إلى هذا –أيضا.
وقال بعض أصحابنا: هو أحسن من الصلاة على حديث ابن عمر؛

(8/352)


لأن صلاة الطائفة الثانية خلت عن مفسد بالكلية.
وحكي عن أبي يوسف ومحمد والحسن بن زياد والمزني: أن صلاة الخوف لا تجوز بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لظاهر قول الله تعالى: {وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] الآية. قالوا: وإنما يصلي الناس صلاة الخوف بعده بإمامين، كل إمام يصلي بطائفة صلاة تامة، ويسلم بهم.
وهذا مردود باجتماع الصحابة على صلاتها في حروبهم بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد صلاها بعده: علي بن أبي طالب، وحذيفة بن اليمان، وأبو موسى الاشعري، مع حضور غيرهم من الصحابة، ولم ينكره أحد منهم.
وكان ابن عمر وغيره يعلمون الناس صلاة الخوف، وجابر، وابن عباس وغيرهما يروونها للناس تعليما لهم، ولم يقل أحد منهم: أن ذلك من خصائص النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخطابه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? لا يمنع مشاركة أمته له في الأحكام، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِم} [التوبة: 103]
وحكي عن مالك، أنها تجوز في السفر دون الحضر، وهو قول

(8/353)


عبد الملك بن الماجشون من أصحابه.
ويحتج له بحمل اية القصر على صلاة الخوف، وقد شرط لها شرطان: السفر والخوف، كما سبق؛ ولأن النَّبيّ ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كانَ يصلي صلاة الخوف في أسفاره، ولم يصلها في الحضر مع أنه حوصر بالمدينة عام الخندق، وطالت مدة الحصار، واشتد الخوف، ولم يصل فيها صلاة الخوف. وقد قيل: إن صلاة الخوف إنما شرعت بعد غزوة الأحزاب في السنة السابعة.
وقد ذكر البخاري في ((المغازي)) من كتابه هذا - تعليقا - من حديث عمران القطان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر، قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأصحابه في الخوف في غزوة السابعة: غزوة ذات الرقاع.
وخرجه الإمام أحمد من رواية ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: غزا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ست مرار قبل صلاة الخوف، وكانت صلاة الخوف في السابعة.
وقد تقدم في حديث أبي عياش، أن أول صلاة الخوف كانت بعسفان وعلى المشركين خالد.
وقد روى الواقدي بإسناد له، عن خالد بن الوليد، أن ذلك كان في مخرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عمرة الحديبية.

(8/354)


وقد تقدم أن أبا موسى صلى بأصبهان هذه الصلاة، ولم يكن هناك كبير خوف، وإنما صلى بهم ليعلمهم سنة صلاة الخوف.
وهذا قد يحمل على أنه كان ثم خوف يبيح هذه الصلاة، ولم يكن وجد خوف شديد يبيح بالإيماء.
وقد قال أصحابنا وأصحاب الشافعي: لو صلى صلاة الخوف على ما في حديث ابن عمر في غير خوف لم تصح صلاة المأمومين كلهم؛ لإتيانهم بما لا تصح معه الصلاة في غير حالة الخوف من المشي والتخلف عن الإمام.
فأما الإمام، فلأصحابنا في صلاته وجهان، بناء على أن الإمام إذا بطلت صلاة من خلفه، فهل تبطل صلاته لنيته الإمامة وهو منفرد، أو يتمها منفردا وتصح؟ وفيه وجهان للأصحاب.

(8/355)


2 - باب
صلاة الخوف رجالاً وركباناً
راجلٌ: قائمٌ.

(8/356)


943 – حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد القرشي: أنا أبي: نا ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر - نحوا من قول مجاهد: إذا اختلطوا قياما.
وزاد ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وإن كانوا أكثر من ذلك فليصلوا قياما
وركبانا)) .
وخرج مسلم من حديث سفيان عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعة، ركعة. قالَ: وقال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر من ذلك فصل راكبا أو قائما تومىء إيماء.
فجعل هذا الوجه من قول ابن عمر، ولم يرفعه.
وروى أبو إسحاق الفزاري، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر الحديث مرفوعا، ولم يذكر في آخره: ((فإذا كان خوف أكثر من ذلك)) – إلى
آخره.

(8/356)


وخرج ابن ماجه وابن حبان في ((صحيحه)) من حديث جرير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الخوف فذكر صفتها بمعنى حديث موسى بن عقبة، وقال في آخر الحديث: فإن كان خوفا أشد من ذلك فرجالا أو ركبانا.
وقد خالف جريرا يحيى القطان وعبد الله بن نمير ومحمد بن بشر وغيرهم، رووه عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر – موقوفا كله.
ورواه مالك في ((الموطإ)) ، عن نافع عن ابن عمر – في صفة صلاة الخوف بطوله – وفي آخره: فإن كان خوفا هو أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم، أو ركبانا، مستقبلي القبلة، أو غير مستقبليها.
قال مالك: قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلاّ عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه البخاري في ((التفسير)) من طريق مالك كذلك.
قال ابن عبد البر: رواه مالك، عن نافع على الشك في رفعه، ورواه عن نافع جماعة لم يشكوا في رفعه، منهم: ابن أبي ذئب وموسى بن عقبة وأيوب بن موسى.

(8/357)


وذكرالدارقطني: أن إسحاق الطباع رواه عن مالك ورفعه من غير شك.
وهذا الحديث ينبغي أن يضاف إلى الأحاديث التي اختلف في رفعها نافع وسالم، وهي أربعة سبق ذكرها بهذا الاختلاف في رفع أصل الحديث في صلاة الخوف عن نافع.
وبقي اختلاف آخر، وهو: في قوله في آخر الحديث: ((فإن كان [خوفا] أكثر من ذَلِكَ)) إلى آخره؛ فإن هذا قد وقفه بعض من رفع أصل الحديث، كما وقفه
سفيان، عن موسىبن عقبة، وجعله مدرجاً في الحديث.
وقد ذكر البخاري: أن ابن جريج رفعه عن موسى، وخرجه من طريقه كذلك.
وأما قول مجاهد المشار إليه في رواية البخاري: روى ابن أبي نجيح، عن مجاهد:
{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانا} [البقرة: 239] إذا وقع الخوف صلى على كل وجهةٍ، قائما أو راكبا أو ما قدر، ويومئ برأسه، ويتكلم بلسانه.

(8/358)


وروى أبو إسحاق الفزاري، عن ابن أبي أنيسة، عن أبي الزبير، قال: سمعت جابرا سُئل عن الصلاة عند المسايفة؟ قالَ: ركعتين ركعتين، حيث توجهت على دابتك تومئ إيماء.
ابن أبي أنيسة، أظنه: يحيى، وهو ضعيف.
وخرجه الإسماعيلي في ((صحيحه)) ، وخرجه من طريقه البيهقي، من رواية حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن ابن كثير، عن مجاهد، قالَ: إذا اختلطوا، فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس.
قال ابن جريج: حدثني موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثل قول مجاهد: إذا اختلطوا، فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس.
وزاد: عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((فإن كثروا فليصلوا ركبانا أو قياما على أقدامهم)) يعني: صلاة الخوف.
وخرجه - أيضا – من رواية سعيد بن يحيى الأموي، عن أبيه، عن ابن جريج، ولفظه: عن ابن عمر – نحواً من قول مجاهد: إذا اختلطوا، فإنما هو الذكر وإشارة بالرأس.
وزاد ابن عمر: عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وإن كانوا

(8/359)


أكثرمن ذلك فليصلوا قياما
وركبانا)) .
كذا قرأته بخط البيهقي.
وخرجه أبو نعيم في ((مستخرجه على صحيح البخاري)) من هذا الوجه، وعنده: ((قياما وركبانا)) وهو أصح.
وهذه الرواية أتم من رواية البخاري.
ومقصود البخاري بهذا: أن صلاة الخوف تجوز على ظهور الدواب للركبان، كما قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} ويعني: ((رجالا)) : قياما على أرجلهم، فهو جمع راجل، لا جمع رجل، و ((الركبان)) على الدواب. وقد خرج فيه حديثا مرفوعاً.
وقد روي عن ابن عمر وجابر، كما سبق.
وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المطلوب يصلي على دابته - كذلك قال عطاء بن أبي رباح، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور - وإذا كان طالبا نزل فصلى بالأرض.
قال الشافعي: إلا في حالة واحدة، وذلك أن يقل الطالبون عن المطلوبين، ويقطع الطالبون عن أصحابهم، فيخافون عودة المطلوبين عليهم، فإذا كانوا هكذا كان لهم أن يصلوا يومئون إيماءً. انتهى.
وممن قال: يصلي إلى دابته ويومئ: الحسن والنخعي

(8/360)


والضحاك، وزاد: أنه يصلي على دابته طالبا كان أو مطلوباً.
وكذا قال الأوزاعي.
واخلفت الرواية عن أحمد: هل يصلي الطالب على دابته، أم لا يصلي إلا على الأرض؟ على روايتين عنه، إلا أن يخاف الطالب المطلوب، كما قال الشافعي، وهوقول أكثر العلماء.
قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر: أما المطلوب، فلا يختلف القول فيه، أنه يصلي على ظهر الدابة، واختلف قوله في الطالب فقالوا عنه: ينزل فيصلي على الأرض، وإن خاف على نفسه صلى وأعاد، وإن أخر فلا بأس، والقول الآخر: أنه إذا خاف أن ينقطع عن أصحابه أن يعود العدو عليه، فإنه يصلي على ظهر دابته، فإنه مثل المطلوب لخوفه، وبه أقول. انتهى.
وما حكاه عن أحمد من أن الطالب إذا خاف فإنه يصلي ويعيد، فلم يذكر به نصا عنه، بل قد نص على أنه مثل المطلوب.
قال –في رواية أبي الحارث -: إذا كان طالبا وهو لا يخالف العدو، فما علمت أحدا رخص له في الصلاة على ظهر الدابة، فإن خاف إن نزل أن ينقطع من الناس، ولا يأمن العدو فليصل على ظهر دابته ويلحق بالناس، فإنه في هذه الحال مثل المطلوب.
ونقل هذا المعنى عنه جماعة، منهم: أبو طالب والأثرم.
وله أن يصلي مستقبل القبلة وغير مستقبلها على حسب القدرة.

(8/361)


وفي وجوب استفتاح الصلاة إلى القبلة روايتان عن أحمد: فمن أصحابنا من قال: الروايتان مع القدرة، فأما مع العجز فلا يجب رواية واحدة.
وقال أبو بكر عبد العزيز عكس ذلك، قالَ: يجب مع القدرة، ومع عدم الإمكان، روايتان. وهذا بعيد جدا – أعني: وجوب الاستفتاح إلى القبلة مع العجز، ولعل فائدة إيجاب الإعادة بدونه.
ولهم أن يصلوا صلاة شدة الخوف رجالا وركبانا في جماعة، نص عليه أحمد، وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن.
وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: لا يصلون جماعة بل فرادى؛ لأن المحافظة على الموقف والمتابعة لا تمكن.
وقال أصحابنا ومن وافقهم: يعفى عن ذلك هاهنا، كما يعفى عن استدبار القبلة والمشي في صلوات الخوف، وإن كان مع الانفراد يمكن ترك ذَلِكَ.
قالوا: ومتى تعذرت المتابعة لم تصح الجماعة بلا خلاف.

(8/362)


3 - باب
يحرس بعضهم بعضا في صلاة الخوف

(8/363)


944 - حدثنا حيوة بن شريح: نا محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قالَ: قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقام الناس معه، فكبر وكبروا معه، وركع وركع ناس منهم، ثم سجد وسجدوامعه، ثم قام للثانية، فقام الذين سجدوا وحرسوا اخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه، والناس كلهم في صلاة، ولكن يحرس بعضهم بعضا.
وخرجه النسائي عن عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير، عن محمد بن حرب بهذا الإسناد، وزاد فيه الفاظا بعد قوله: ((ثم قام إلى الركعة فتاخر الذين سجدوا معه وحرسوا أخوانهم)) .
ورواه النعمان بن راشد، عن الزهري بهذا الإسناد، وزاد فيه زيادات كثيرة، ولفظه: ((قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقمنا خلفه صفين، فكبر وركع وركعنا جميعا، الصفان كلاهما، ثم رفع رأسه، ثم خر ساجدا، وسجد الصف الذي يليه وثبت الآخرون قياما

(8/363)


يحرسون أخوانهم، فلما فرغ من سجوده وقام خر الصف المؤخر سجودا، فسجد سجدتين، ثم قاموا فتأخر الصف المقدم الذي بين يديه، وتقدم الصف المؤخر، فركع وركعوا جميعا، وسجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصف الذي يليه، وثبت الآخرون قياما يحرسون أخوانهم، فلما قعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خر الصف المؤخر سجودا، ثم سلم النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه الدارقطني، ومن طريقه البيهقي.
وفي هذه الرواية: أن الصفين ركعوا معه، ورواية الزبيدي تدل على أن بعضهم ركع معه، وبعضهم لم يركع.
ورواه أبو بكر بن أبي الجهم، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بذي قرد، فصف الناس خلفه صفين، صف خلفه، موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة، ولم يقضوا.
خرجه النسائي من طريق سفيان، عنه.
وخرجه الإمام أحمد، ولفظه: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف بذي قرد - أرض من أرض بني سليم -، فصف الناس خلفه صفين، صفا موازي العدو، وصفا
خلفه، فصلى بالذي يليه ركعة، ثم نكص هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وهؤلاء إلى مصاف هؤلاء، فصلى بهم ركعة أخرى.

(8/364)


وفي رواية أخرى لهُ: ثم سلم، فكانت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين، ولكل طائفة ركعة وهذه الزيادة مدرجة من قول سفيان؛ كذلك هوَ في رواية البيهقي.
وخرجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) .
وقال البخاري في ((المغازي)) : ((وقال ابن عباس: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخوف بذي قرد)) – ولم يزد على ذَلِكَ.
وقال الشافعي: هو حديث لا يثبت أهل العلم بالحديث مثله. قالَ: وإنما تركناه لاجتماع الأحاديث على خلافه، ولأنه لا يثبت عندنا مثله لشيء في بعض إسناده. انتهى.
وإذا اختلف أبو بكر بن أبي الجهم والزهري، فالقول قول الزهري، ولعل مسلما ترك تخريج هذا الحديث للاختلاف في متنه، وقد صحح الإمام أحمد إسناده.
قال - في رواية علي بن سعيد في صلاة

(8/365)


الخوف -: قد روي ركعة وركعتان، ابن عباس يقول: ركعة ركعة، إلاّ أنه كان للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان وللقوم ركعة، وما يروى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلها صحاح.
وقال – في رواية حرب -: كل حديث روي في صلاة الخوف فهو صحيح الإسناد، وكل ما فعلت منه فهو جائز.
وقد حمل بعضهم معنى رواية أبي بكر أبي الجهم على معنى رواية الزهري، وقال: إنما المراد أن الصفين صلوا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم حرس أحد الصفين في الركعة الأولى، والآخر في الثانية، وإنما لم يقضوا بعد سلام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنهم قضوا ما تخلفوا به عنه قبل سلامه، كما في رواية النعمان بن راشد، عن الزهري.
وأما قوله: ((فكانت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان وللقوم ركعة)) ، فهو من قول سفيان، كما هو مصرح به في رواية البيهقي، وذلك ظن ظنه، قد خالفه غيره فيهِ.
ويشهد لهذا التأويل: أنه قد روي عن ابن عباس التصريح بهذا المعنى من وجه.
خرجه الإمام أحمد والنسائي من رواية ابن إسحاق: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قالَ: ما كانت صلاة الخوف إلا كصلاة أحراسكم هؤلاء اليوم خلف أئمتكم هؤلاء إلاّ أنها كانت عقبا، قامت طائفة منهم وهم جميعا مع
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسجدت معه طائفة، ثم قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسجد الذين كانوا قياما لأنفسهم، ثم قام الرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقاموا معه جميعاً، ثم ركع وركعوا معه جميعاً، ثم سجد فسجد معه الذين كانوا قياما أول مرة، فلما جلس رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والذين سجدوا معه في آخر صلاتهم سجد الذين كانوا

(8/366)


قياما لأنفسهم، ثم جلسوا فجمعهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتسليم.
وخرج الإمام أحمد من رواية النضر أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قالَ: خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? في غزاة فلقي المشركين بعسفان فأنزل الله {وَإذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} الآية، فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر وكانوا في القبلة صلى المسلمون خلفه صفين فكبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكبروا معه - فذكر صلاة الخوف - وفيه: تأخر الصف الذين يلونه في الركعة الثانية وتقدم الآخرين - وقال في آخر الحديث: فلما نظر إليهم المشركون يسجد بعضهم ويقوم بعضهم ينظر إليهم، قالوا: لقد أخبروا بما أردناهم.
وقال: صحيح على شرط البخاري.
وليس كما قال؛ والنضر أبو عمر، ضعيف جدا.
وخرجه البزار - أيضا.
وقد تقدم حديث أبي عياش الزرقي في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعسفان بهذا المعنى.
وروي - أيضا - من حديث جابر، من رواية عبد الملك بن أبي سليمان، عن
عطاء، عن جابر، قالَ: شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة

(8/367)


الخوف، وصفنا صفين، صف خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? وكبرنا جميعا، ثم ركع وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود، وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع رسول الله ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحور العدو، فلما قضى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلمنا جميعا.
قال جابر: كما يصنع حرسكم هؤلاء [بأمرائهم] .
خرجه مسلم.
وخرجه - أيضا - من رواية أبي الزبير، عن جابر، قالَ: غزونا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوما من جهينة، فقاتلونا قتالا شديدا - ثم ذكره بمعناه.
وروي - أيضا - من حديث حذيفة.
خرجه الإمام أحمد من رواية أبي إسحاق، عن سليم بن عبد السلولي، قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان، فقال: أيكم صلى مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف؟ فقالَ حذيفة: أنا، فأخر أصحابك يقومون طائفتين، طائفة خلفك وطائفة بازاء العدو، فتكبر فيكبرون جميعا، ثُمَّ تركع فيركعون جميعا، ثُمَّ ترفع

(8/368)


فيرفعون جميعا، ثُمَّ تسجد ويسجد معك الطائفة التي تليك، والطائف التي بازاء العدو قيام بازاء العدو، فإذا رفعت رأسك من السجود [يسجدون] ، ثُمَّ يتأخر هؤلاء ويتقدم الآخرون، فقاموا مقامهم، فتركع ويركعون جميعا، ثُمَّ ترفع ويرفعون جميعا، ثُمَّ تسجد فتسجد الطائفة التي تليك، والطائفة الأخرى قائمة بازاء العدو، فإذا رفعت رأسك من السجود سجدوا، ثُمَّ سلمت ويسلم بعضهم على بعض، وتأمر أصحابك أن هاجهم هيج من العدو، فقد حل لهم القتال والكلام.
وسليم بن عبد، ذكره ابن حبان في ((ثقاته)) .
وقد روي حديث حذيفة بالفاظ محتملة، وهذه الرواية مفسرة لما أجمل في تلك.
كما روى الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زهدم، قالَ: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان، فقام، فقال: إيكم صلى مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف؟ فقالَ حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة، وبهؤلاء ركعة، وانفضوا.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود، وهذا لفظه.
وخرجه النسائي، ولفظه: فقام حذيفة، فصف الناس خلفه صفين، صفا
خلفه، وصفا موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا.

(8/369)


وفي رواية: قال له حذيفة: صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف بطائفة ركعة، صف خلفه، وأخرى بينه وبين العدو، فصلى بالطائفة التي تليه ركعة، ثم نكص هؤلاء إلى مصاف أولئك، فصلى بهم ركعة.
وروى أبو روق، عن مخمل بن دماث، قال: غزونا مع سعيد بن الحارث، فقال: من شهد منكم صلاة الخوف مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقالَ حذيفة: أنا، صلى بإحدى الطائفتين ركعة؛ والأخرى مستقبلة العدو، ثُمَّ ذهبت هذه الطائفة فقامت مقام
أصحابهم، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعة، فصار رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة. وقد خرجه الإمام أحمد وغيره - أيضا.
فهذا الإختلاف في حديث حذيفة يشبه الاختلاف في حديث ابن عباس، وبعضه محتمل، وبعضه مفسر، فيرد المحتمل إلى المفسر المبين، كما قلنا في حديث ابن عباس. والله –سبحانه وتعالى - أعلم. وقد ذهب أكثر العلماء إلى صحة الصلاة على وجه
الحرس، على ما

(8/370)


في حديث أبي عياش الزرقي وما وافقه من رواية جابر وابن عباس وحذيفة، وقد أمر بها حذيفة كما سبق.
وروى حطان بن عبد الله، أن أبا موسى صلاها في بعض حروبه، واستحبها طائفة منهم إذا كان العدو في جهة القبلة، منهم: سفيان وإسحاق وأبويوسف.
وروي عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز الصلاة بها، ولا يجوز إلا على حديث ابن مسعود وما وافقه، كما سبق.
والصلاة بهذه الصفة والعدو في جهة القبلة إذا لم يخش لهم كمين حسن؛ فإن أكثر ما فيها تأخر كل صف عن متابعة الإمام في السجدتين وقضاؤهما في الحال قبل سلامه، وتكون الحراسة في السجود خاصة، وهذا قول الشافعي وأصحابه.
وللشافعية وجه آخر: أنهم يحرسون في الركوع مع السجود، وقد سبق في رواية البخاري لحديث ابن عباس ما يدل عليهِ.
وأعلم؛ أن البخاري لم يخرج في ((أبواب صلاة الخوف)) مما ورد عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أنواع صلاة الخوف سوى حديث ابن عمر، وابن عباس، وخرج في ((المغازي)) حديث جابر وسهل بن أبي حثمة، وذكر حديث أبي هريرة – تعليقاً.

(8/371)


فأما حديث جابر، فقال: ((وقال أبان: نا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر، قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذات الرقاع –فذكر الحديث إلى أن قال -: وأقيمت الصَّلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، وكان للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع ركعات وللقوم ركعتين)) .
هكذا ذكره تعليقاً. وخرجه مسلم مسنداً من حديث أبان، ولفظه: قالَ: فنودي بالصلاة –وذكره.
في الحديث: دليل على أن صلاة الخوف ينادي لها بالإذان والإقامة كصلاة
الأمن، ولا أعلم في هذا خلافاً، إلا ما حكاه أصحاب سفيان الثوري في كتبهم، عنه، أنه قالَ: ليس في صلاة الخوف إذان ولا إقامة في حضر ولا سفر.
وخرج الدارقطني من حديث الحسن، عن جابر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحاصر بني محارب بنخل، ثم نودي في الناس: أن الصلاة جامعة – وذكر معنى حديث أبي سلمة، وصرح فيه بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم بين كل ركعتين.
وقد خرجه النسائي - مختصراً - من رواية حماد بن سلمة، عن قتادة، عن
الحسن، عن جابر - بذكر السلام - أيضا، وليس فيه: ذكر

(8/372)


الصلاة جامعة.
ورواه قتادة –أيضا - عن سليمان اليشكري، عن جابر –بذكر السلام بين كل ركعتين، وفيه: أن يومئذٍ أنزل الله في إقصار الصلاة، وأمر المؤمنين بأخذ السلاح، وفي الحديث أن ذلك كان بنخلٍ.
والحسن، لم يسمع من جابر، وقتادة، لم يسمع من سليمان اليشكري.
وقد رواه أشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه صلى في خوف ثقيف ركعتين، ثم سلم، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين، ثم سلم، فكانت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعاً، ولأصحابه ركعتين ركعتين.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في

(8/373)


((صحيحه)) .
وعند أبي داود: وبذلك كان يفتي الحسن.
وصلاة الخوف على هذه الصفة: أن يصلي الإمام أربع ركعات ويصلي كل طائفة خلفه ركعتين، لها صورتان:
إحداهما: أن يسلم الإمام من كل ركعتين، فهو جائز عن الشافعي وأصحابه.
واختلفوا: هل هي أفضل من صلاة ذات الرقاع - التي يأتي ذكرها؟ على وجهين لهم.
وكذلك اختار الجوزجاني هذه الصلاة على غيرها من أنواع صلوات الخوف؛ لما فيها من تكميل الجماعة لكل طائفة.
واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من أجازها في صلاة الخوف دون غيرها، وهو منصوص أحمد، وهو قول الحسن البصري - أيضا - واختاره طائفة من أصحابنا.
ومن أصحابنا من قال: هي مُخرجة على الاختلاف عن أحمد في صحة ائتمام المفترض بالمتنفل، كما سبق ذكره.
ومنع منها أصحاب أبي حنيفة؛ لذلك.
والصورة الثانية: أن لايسلم الإمام، ويكون ذلك في سفر، فينبني

(8/374)


على أنه: هل يصح أن يقتدي القاصر بالمتم في السفر؟
والأكثرون على أنه إذا اقتدى المسافر بمن يتم الصلاة فأدرك معه ركعة فصاعداً، فإنه يلزمه الإتمام.
فإن أدرك معه دون ركعة، فهل يلزمه الإتمام؟
قالَ الزهري وقتادة والنخعي ومالك: لا يلزمه، وهو رواية أحمد. والمشهور، عنه: أنه يلزمه الإتمام بكل حال، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه والأوزاعي والليث والشافعي وأبي ثور.
وقالت طائفة: لا يلزمه الإتمام، وله القصر بكل حال وهو قول الشعبي وطاوس وإسحاق.
فعلى قول هؤلاء: لاتردد في جواز أن يصلي الإمام أربع ركعات في السفر، وتصلي معه كل طائفة ركعتين.
وعلى قول الأولين: فهل يجوز ذلك في صلاة الخوف خاصة؟ فيه لأصحابنا وجهان.
ومن منع ذلك قال: ليس في حديث جابر تصريح بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسلم بين كل ركعتين بل قد ورد ذلك صريحاً في روايات متعددة، فتحمل الروايات المحتملة على الروايات المفسرة المبينة.
ثم قال البخاري: ((وقال أبو الزبير، عن جابر: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنخل،

(8/375)


فصلى الخوف)) . وقال –أيضا -: ((وقال معاذ: ثنا هشام، عن أبي الزبير، عن جابر: كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنخل - فذكر صلاة الخوف)) .
وقد خرجه النسائي من رواية سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، قالَ: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنخل، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكبروا جميعاً، ثم ركع فركعوا جميعاً، ثم سجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما قاموا سجد الآخرون مكانهم الذي كانوا فيهِ، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ثم ركع فركعوا جميعاً، ثم رفع فرفعوا جميعاً، ثم سجد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصف الذين يلونه، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وجلسوا سجد الآخرون مكانهم، ثم سلم.
قال جابر: كما يفعل أُمراؤكم.
وخرجه مسلم - بمعناه - من رواية زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، وليس عنده: ((بنخلٍ)) .
وذكر البخاري – أيضاً - تعليقاً، عن جابر من طريقين آخرين، فقال: ((وقال بكر بن سوادة: حدثني زياد بن نافع، عن أبي موسى، أن جابراً حدثهم: صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهم يوم محارب وثعلبة.
وقال ابن إسحاق: سمعت وهب بن كيسان: سمعت جابراً: خرج

(8/376)


النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ذات الرقاع من نخل، فلقي جمعاً من غطفان، فلم يكن قتال، وأخاف الناس بعضهم بعضاً، فصلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتي الخوف)) . انتهى.
وأبو موسى، ليس هو الأشعري، بل تابعي، ذكره أبو داود، وذكر في حديثه: أنه كان للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان، ولكل طائفة ركعة.
وقد رواه ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة بهذا الإسناد، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الخوف يوم محارب وثعلبة، بكل طائفة ركعة وسجدتين.
وذكر أبو مسعود الدمشقي وغيره: أن أبا موسى هذا هو علي بن رباح
اللخمي، وقيل: إنه أبو موسى الغافقي، واسمه: مالك بن عبادة، وله صحبةٌ.
قال صاحب ((التهذيب)) : والقول الأول أولى. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(8/377)


وأما حديث سهل بن أبي حثمة: فقال البخاري: ((ثنا قتيبة، عن مالك، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن شهد مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم.
قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف.

(8/378)


حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، قال: يقوم الإمام مستقبل القبلة، وطائفة منهم معه، وطائفة من قبل العدو، ووجوههم إلى العدو، فيصلي بالذين معه ركعة، ثم يقومون فيركعون لأنفسهم ركعة ويسجدون سجدتين في مكانهم، ثم يذهب هؤلاء إلى مقام أولئك، فيجيء أولئك فيركع بهم ركعة، فله ثنتان، ثم يركعون ويسجدون سجدتين.
حدثنا مسدد: ثنا يحيى، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
حدثنا محمد بن عبيد الله: ثنا ابن أبي حازم، عن يحيى: سمع القاسم: أخبرني صالح بن خوات، عن سهل، حدثه - قوله)) .
حاصل الاختلاف في إسناد هذا الحديث الذي خرجه البخاري هاهنا: أن يزيد بن رومان رواه عن صالح بن خوات، عمن شهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم ذات الرقاع، ولم
يسمه.
ورواه القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، واختلف عليه في رفعه ووقفه:
فرواه يحيى بن سعيد الانصاري، عن القاسم، فوقفه على سهل.
وقد خرجه البخاري هاهنا من طريق يحيى

(8/379)


القطان وابن أبي حازم، عن يحيى الأنصاري.
كذلك رواه شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، فرفعه إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال الإمام أحمد: رفعه عبد الرحمن، ويحيى لم يرفعه. ثم قالَ: حسبك
بعبد الرحمن، هو ثقة ثقة ثقة. قيل له: فرواه عن عبد الرحمن غير شعبة؟ قالَ: ما علمت.
ثم قال: قد رواه يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فهذا يشد ذاك.
يريد: أنه يقوي رفعه.
ونقل الترمذي في ((العلل)) عن البخاري، أنه قال: حديث سهل بن أبي حثمة هوحديث حسن، وهومرفوع، رفعه شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم. انتهى.
ولكن رواه حرب الكرماني، عن إسحاق بن راهويه، عن الثقفي، عن يحيى الأنصاري، وقال في حديثه: ((من السنة)) .
وهذا –أيضا - رفعٌ له.
وهو غريب عن الأنصاري.
ورواه عبد الله العمري، عن أخيه عبيد الله، عن القاسم بن محمد،

(8/380)


عن صالح بن خوات، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأخطأَ في قوله: ((عن أبيه)) ، إنما هو: ((عن سهل)) : قاله أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان.
وقالا –أيضا - رواه أبو أويس، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عن أبيه - أيضا -، وأخطأ –أيضاً - في قوله: ((عن أبيه)) .
وقد ذكر أبو حاتم الرازي وغيره: أن الذي قال صالح بن خوات في رواية يزيد بن رومان، عنه: ((حدثني من شهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) ، هو سهل بن أبي حثمة، كما قاله القاسم، عن صالح.
قال أبو حاتم: وسهل بن أبي حثمة بايع تحت الشجرة، وكان دليل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة أحد، وشهد المشاهد كلها إلا بدراً.
قالَ عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت رجلاً من ولده، سأله أبي عن ذلك، فأخبره به.
ولكن ذكر أكثر أهل السير كالواقدي والطبري وغيرهما: أن سهل بن أبي حثمة توفي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو ابن ثمان سنين.
قال الواقدي

(8/381)


والطبري: وقد حفظ عنه، وقيل: إن الذي كان دليل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أحد وشهد معه المشاهد هو أبو حثمة والد سهل. والله سبحانه أعلم.
وقد ذكر الإمام أحمد وأبو داود أن رواية يحيى بن سعيد، عن القاسم تخالف رواية يزيد بن رومان في السلام؛ فإن في رواية يزيد بن رومان: أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? سلم بالطائفة الثانية، وفي رواية يحيى بن سعيد: أنهم قضوا الركعة بعد سلامه.
وقد خرجه أبو داود من رواية مالك، عن يحيى بن سعيد كذلك، وفي حديثه: فركع بهم وسجد بهم ويسلم، فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية، ثم يسلمون.
وقد روى يحيى القطان الحديث، عن يحيى الأنصاري، ورواه عن شعبة عن
عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، وقال: لا أحفظ حديثه، ولكنه مثل حديث يحيى.
كذا خرجه الترمذي وابن ماجه.
وكذلك في رواية البخاري: أن

(8/382)


يحيى القطان رواه عن شعبة مثل حديث يحيى بن سعيد.
ولكن بينهما فرق في السلام:
فقد رواه معاذ بن معاذ، عن شعبة، عن عبد الرحمن بهذا الإسناد، وقال فيه: وتأخر الذين كانوا قدامهم، فصلى بهم ركعة، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم.
كذلك خرجه مسلم من طريقه.
ورجح ابن عبد البر رواية يحيى القطان، عن شعبة، على رواية معاذ بن معاذ، عنه، وقال في القطان: هو أثبت الناس في شعبة. وخالفه البيهقي، ورجح رواية معاذ بن معاذ؛ لان يحيى القطان لم يحفظ حديث شعبة.
وقال: رواه –أيضا - روح بن عبادة، عن شعبة، كما رواه عنه معاذ. قالَ: وكذلك رواه الثوري، عن يحيى الأنصاري بخلاف رواية مالك، عنه. قالَ: وهذا أولى أن يكون محفوظاً؛ لموافقته رواية عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، ورواية مالك. عن يزيد بن رومان.
قلت: فقد رواه أحمد، عن غندر، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن القاسم، وقال: أما عبد الرحمن فرفعه، وساق الحديث، وفي آخره: ثم يقعد حتى يقضوا ركعة أخرى، ثم يسلم عليهم.
وهذا يوافق رواية معاذ،

(8/383)


وغندر مقدم في أصحاب شعبة.
وقد ذهب كثير من العلماء إلى استحباب صلاة الخوف على ما صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذات الرقاع في هذا الحديث.
قال القاسم بن محمد: ما سمعت في صلاة الخوف أحب إلي منه.
وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وداود والثوري - في رواية - وحكاه إسحاق عن أهل المدينة وأهل الحجاز، وهو قول عبد الرحمن بن مهدي، وحكاه الترمذي، عن إسحاق.
وصرح إسحاق في رواية ابن منصور على أنه يجوز العمل به، ولا يختاره على غيره من الوجوه. إلاّ أنهم اختلفوا: هل تقضي الطائفة الركعة الثانية قبل سلام الإمام، أو بعده؟
فعند الشافعي وأحمد وداود: تقضي قبل سلام الإمام، ثُمَّ يسلم بهم وهو رواية عن مالك، ثُمَّ رجع عنها، وقال: إنما يقضون بعد سلام الإمام، وهو قول أبي ثور وأبي بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا، ذكره في كتابه ((الشافي)) .
ونص أحمد على أن هذه الصلاة تصلى وأن كان العدو

(8/384)


في جهة القبلة. وقال القاضي أبو يعلى: إنما تصلى إذا كان العدو في غير جهة القبلة، وكذلك حمل بعض أصحاب سفيان قوله على ذلك.
قال بعض أصحابنا: نص أحمد محمول على ما إذا لم يمكن صلاة عسفان لاستتار العدو، وقول القاضي محمول على ما إذا أمكن أن يصلوا صلاة عسفان لظهور العدو.
وكذا قال أصحاب الشافعي، لكنهم جعلوا ذلك شرطا لاستحباب صلاة ذات الرقاع، لا لجوازها.
قال البخاري:
((وقال أبو هريرة: صليت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة نجد صلاة الخوف)) وهذا الحديث خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من رواية حيوة وابن لهيعة - إلا أن النسائي كنى عنه برجل آخر – كلاهما، عن أبي الاسود، أنه سمع عروة بن الزبير
يحدث، عن مروان بن الحكم، أنه سأل أبا هريرة: هل صليت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف؟ قالَ أبو

(8/385)


هريرة: نعم. قالَ مروان: متى؟ قالَ أبو هريرة: عام غزوة
نجد، قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى صلاة العصر، فقامت طائفة معه، وطائفة أخرى مقابل العدو، وظهورهم إلى الكعبة، فكبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكبروا جميعا: الذين معه والذين مقابلو العدو، ثُمَّ ركع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعة واحدة، وركعت الطائفة الذين معه، ثُمَّ سجد فسجدت الطائفة التي تليه، والآخرون قيام مقابل العدو، ثُمَّ قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقامت الطائفة التي معه، فذهبوا إلى العدو فقابلوه، واقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائم كما هوَ، ثُمَّ قاموا فركع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعة أخرى وركعوا معه، وسجد وسجدوا معه، ثُمَّ أقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو، فركعوا وسجدوا ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاعد، ومن كان معه، ثم كان السلام، فسلم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلموا جميعا، فكان لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان، ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة.
واللفظ لأبي داود.
ولفظ النسائي: فكان لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان، ولكل رجل من الطائفتين ركعتان ركعتان. فتحمل - حينئذ - رواية أبي داود على أنه كان لكل واحد من الطائفتين

(8/386)


ركعة مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والركعة الأخرى هو صلاها لنفسه، وعلى مثل ذلك تحمل كثير من أحاديث صلاة الركعة في الخوف.
ورواية ابن إسحاق، عن أبي الاسود، عن عروة أنه سمع أبا هريرة ومروان بن الحكم يسأله - فذكر الحديث بمعناه.
خرجه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) .
ورواية من روى عن عروة، عن مروان، عن أبي هريرة أشبه بالصواب -: قاله الدارقطني.
ونقل الترمذي في ((علله)) عن البخاري، أنه قال: حديث عروة، عن أبي
هريرة، حسن.
وقد روي هذا الحديث عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن أبي هريرة.
خرجه الأثرم.
وليس في حديثه: أن الطائفتين كبَرت مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أول صلاته.

(8/387)


وروي عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن عروة، عن عائشة.
خرجه أبو داود.
ولفظ حديثه: قالت: كبَر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكبرت الطائفة الذين صفوا معه، ثم ركع فركعوا، ثم سجد فسجدوا، ثم رفع فرفعوا، ثم مكث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالسا، ثم سجدوا هم لأنفسهم الثانية، ثم قاموا فنكصوا على أعقابهم يمشون القهقري حتى قاموا من ورائهم، وجاءت الطائف [الأخرى فقاموا] فكبروا، ثُمَّ ركعوا لأنفسهم، ثم سجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسجدوا معه، ثم قام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم سجدوا لأنفسهم الثانية، ثم قامت الطائفتان جميعا فصلوا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فركع فركعوا، ثم سجد فسجدوا جميعا، ثم عاد فسجد الثانية فسجدوا معه سريعا كأسرع الإسراع جاهدا، لا يألون إسراعا، ثم سلم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسلموا، فقام رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد شاركه الناس في الصلاة كلها.
فقد اضطرب ابن إسحاق في لفظ الحديث وإسناده.
وقد رواه هشام بن عروة، عن أبيه - مرسلا -، بنحو حديث أبي عياش الزرقي.
ذكره أبو داود - تعليقا.
وقد أجاز الإمام أحمد وإسحاق وأبو خيثمة وابن أبي شيبة وابن جرير وجماعة من الشافعية صلاة الخوف على كل وجه صح عن

(8/388)


النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن رجحوا بعض الوجوه على بعض.
وأما صلاة الخوف ركعة، فيأتي الكلام عليه فيما بعد - إن شاء الله - سبحانه وتعالى -.
وظاهر كلام البخاري: أنه يجوز.
وقد نقل الترمذي عنه في ((العلل)) ، أنه قال: كل الروايات في صلاة الخوف عندي صحيح، وكل يستعمل، وإنما هو على قدر الخوف، إلا حديث مجاهد، عن أبي عياش، فإني أراه مرسلا.
وهذا يدل على أنه يستعمل كل وجه من وجوه صلاة الخوف على قدر ما تقتضيه حال الخوف، ويكون ذلك الوجه أصلح له.
وروي نحو ذلك عن سليمان بن داود الهاشمي، وحكي عن إسحاق - أيضا -، وقاله بعض أصحابنا.

(8/389)


4 - باب
الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو
وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح، ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء، كل امرىء لنفسه، فإن لم يقدروا على الايماء أخروا [الصلاة] حتى ينكشف القتال أو يأمنوا، فيصلوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير. ويؤخرونها حتى يامنوا.
وبه قال مكحول.
إنما يقول مكحول بتأخير الصلاة للمطلوب دون الطالب.
قال الفزاري، عن يزيد بن السمط، عن مكحول، قال: إذا حضر القتال فلزم بعضهم بعضا، لم يطيقوا أن يصلوا، أخروا الصلاة حتى يصلوا علىالأرض، وقال: صلاة الطالب: أن ينزل فيصلي، فيؤثر صلاته على ما سواها، وصلاة الهارب: أن يصلي حيث كان ركعة.
قال أبو إسحاق، وقال الأوزاعي: الصلاة حيث وجهوا على كل

(8/390)


حال، لأن الحديث جاء أن البصر لا يرفع ما دام الطلب، وصلاة الخوف: أن يصلي القوم كما صلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن كان خوف أكثر من ذلك صلوا فرادى، مستقبلي القبلة، يركعون ويسجدون، فإن كان خوف أكثر من ذلك أخروا الصلاة حتى يقدروا، فيقضوها.
قالَ: وقال الأوزاعي: إن ثلموا في الحصن ثلمة، وحضرت الصلاة فإن قدروا أن يصلوا جلوسا أو يومئون إيماءً أو يتعاقبون فعلوا وإلاّ أخروا الصلاة إن خافوا إن صلّوا أن يغلبوا عليهِ، وقد طمعوا في فتحه، صلوا حيث كانت وجوههم، ويتمموا أن خافوا.
وقد تضمن ما حكاه البخاري عن الأوزاعي مسائل.
منها:
أن الطالب يصلي صلاة شدة الخوف راكبا وماشيا كالمطلوب، وهو رواية عن أحمد.
وقال إسحاق - فيما نقله عن حرب -: يصلي بالأرض ويومىء إيماءً.
وفي صلاة الطالب ماشيا بالإيماء حديث، خرجه أبو داود من حديث عبد الله بن أنيس، وهو مما تفرد به ابن إسحاق.

(8/391)


وذهب الجمهور إلى أن الطالب لا يصلي إلاّ بالأرض صلاة الأمن، إلاّ أن يخاف، منهم: الحسن ومكحول ومالك والثوري والشافعي وأحمد - في رواية عنه - وقد سبق ذكر ذَلِكَ.
ومنها:
أن صلاة شدة الخوف لا تكون جماعة، بل فرادى، وقد سبق أن الجمهور على خلاف ذَلِكَ.
ومنها:
أنهم إذا لم يقدروا على الإيماء في حال شدة الخوف أخروا الصلاة حتى يأمنوا.
وممن قال بتأخير الصلاة مكحول كما سبق عنه، وهو قال أبي حنيفة وأصحابه.
وحكى ابن عبد البر، عن ابن أبي ليلى وأبي حنيفة وأصحابه أنه لا يصلي أحد في الخوف إلاّ إلى القبلة، ولا يصلي في حال المسايفة، بل يؤخر الصلاة.
وعن أحمد رواية: أنه يخير بين الصلاة بالإيماء وبين التأخير.
قال أبو داود: سألت أبا عبد الله عن الصلاة صبيحة المغار، فيؤخرون الصلاة

(8/392)


حتى تطلع الشمس، أو يصلون على دوابهم؟ قَالَ: كلٌ أرجوا.
واستدل أصحابنا لهذه الرواية بصلاة العصر فِي بني قريظة وفي الطريق، وأنه لم يعنف واحد منهما، وسيأتي ذكره والكلام على معناه قريبا – إن شاء الله - سبحانه وتعالى -.
وجمهور أهل العلم على أنه لا يجوز تأخير الصلاة في حال القتال، وتصلى على حسب حاله، فإنه لا يأمن هجوم الموت في تلك الحال.
فكيف يجوز لأحد أن يؤخر فرضاً عن وقته، مع أنه يخاف على نفسه مداركة الموت له في الحال، وهذا في تأخير الصلاة عن وقتها التي لا يجوز تأخيرها للجمع. فأما صلاة يجوز تأخيرها للجمع فيجوز تأخيرها للخوف، ولو كان في الحضر عند أصحابنا وغيرهم من العلماء.
وقول ابن عباس: جمع رسول الله ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة من غير خوف، يدل بمفهومه على جواز الجمع للخوف؛ فإن الخوف عذر ظاهر، فالجمع له أولى من الجمع للمطر والمرض ونحوهما.
فأما قصر الصلاة في حال الخوف في الحضر، فالجمهور على منعه. وحكى القاضي أبو يعلى رواية عن أحمد بجوازه، مخرجة عن رواية حنبل عنه، بجواز الفطر في رمضان لقتال العدو.
وروي عن عثمان بن عفإن، أنه قالَ: لايقصر الصلاة إلاّ من كان

(8/393)


شاخصاً أو بحضرة العدو.
وظاهره: أنه يجوز القصر بحضرة العدو في غير السفر - أيضاً - وبذلك فسره أبو عبيدة في ((غريبه)) .
وذكر ابن المنذر عن عمران بن حصين مثل قول عثمان –أيضاً.
وقد يفسر بأنه لايجوز القصر إلاّ في حال السفر أو الإقامة في دار الحرب لقتال
العدو، وهذا قول كثير من العلماء، ويأتي بيانه في ((كتاب قصر الصَّلاة)) إن شاء الله
- سبحانه وتعالى -.
وسيذكر البخاري في هذا الباب ما يستدل به على جواز التأخير في حال شدة
الخوف.
ومنها:
أنهم إذا عجزوا عن صلاة ركعتين جاز لهم أن يصلوا ركعة واحدة تامةً.
وهذا قول كثير من العلماء، منهم: ابنُ عباس.
ففي ((صحيح مسلم)) ، عنه، قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر ركعتين، وفي الحضر أربعاً، وفي الخوف ركعة.
وقد روي نحو ذلك عن جابر وابن عمر، وقد سبق ذكر قولهما.
ورواه الحسن، عن حطان الرقاشي، عن أبي موسى - أيضاً - أنه فعله.

(8/394)


وهو مروي - أيضاً - عن الحسن وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي والضحاك والحكم وقتادة وحماد، وقول إسحاق ومحمد بن نصر المروزي.
حتى قاله في صلاة الصبح، مع أن ابن حزم وغيره حكوا الإجماع على أن الفجر والمغرب لاينقص عن ركعتين وثلاث، في خوف ولا أمن، في حضر ولا سفرٍ.
ولم يفرق هؤلاء بين حضر ولاسفر، وهذا يدل على أنهم رأوا قصر الصَّلاة في الحضر للخوف أشد القصر وأبلغه، وهو عود الصلوات كلها إلى ركعةٍ واحدةٍ.
وحكي رواية عن أحمد، وهوظاهر كلامه في رواية جماعة، ورجحه بعض المتأخرين من أصحابنا، والمشهورعنه: المنع.
وقد نقل جماعة عنه، أنه قال: لايعجبني ذلك. وهو قول [....] أصحابنا.
والمنع منه قول النخعي والثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي.
وتقدم من حديث ابن عباس، أن كل طائفة من الناس صلوا خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعة ركعة وأنهم لم يقضوا. ومن حديث حذيفة - أيضاً - وما

(8/395)


في ذلك من التأويل.
وروى يزيد الفقير، عن جابر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم صلاة الخوف، فقام صف بين يديه، وصف خلفه، صلى بالذي خلفه ركعة وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم، وجاء أولئك فقاموا مقام هؤلاء، فصلى لهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعة وسجدتين، ثم سلم، فكانت للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? ركعتان، ولهم ركعة.
خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحهما)) .
وفي رواية النسائي: ثم إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم فسلم الذين خلفه، وسلم أولئك.
وذكر أبو داود في ((سننه)) : أن بعضهم قال في حديث يزيد الفقير: أنهم قضوا ركعة أخرى.
وروى عبد الله بن شقيق: نا أبوهريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل بين ضجنان
وعسفان، فقال المشركون: أن لهؤلاء صلاةً هي أحب إليهم من آباهم وأبنائهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم، فميلوا عليهم ميلةً واحدة، وأن جبريل أتى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمره أن يقيم أصحابه شطرين، فيصلي بهم،

(8/396)


وتقوم طائفة أخرى وراءهم، وليأخذوا ... حذرهم وأسلحتهم، ثم يأتي الأخرون ويصلون معه ركعة، ثم يأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم، فيكون لهم ركعة ركعة، ولرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان.
خرجه الترمذي والنسائي وابن حبان في ((صحيحه)) .
وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ.
ونقل الترمذي في ((العلل)) عن البخاري، أنه قال: هوحديثٌ حسنٌ.
وقد حمله بعضهم على أن كل واحدة من الطائفتين كانت لهم ركعة مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأما الأخرى فإنها صلتها مفردة.
وخرجه النسائي عنده: يكون لهم مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان.
وخرج ابن حبان في ((صحيحه)) هذا المعنى من حديث زيد بن ثابت، عن النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأصله في ((سنن النسائي)) .

(8/397)


وقد أجاب بعضهم بأن الروايات إذا اختلفت، وكان في بعضها عدم القضاء، وفي بعضها القضاء، فالحكم للإثبات؛ لأن المثبت قد حفظ ما خفي على الباقي وهذا صحيح أن لو كانت الروايات كلها حكاية عن واقعة واحدة، فأما مع التعدد فيمكن أن القضاء وجد في واقعة ولم يوجد في الأخرى.
وقد زعم مجاهد: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل صلاة الخوف إلاّ مرتين، مرة بذات الرقاع، ومرة بعسفان.
واختلاف الروايات في صفة صلاة الخوف يدل على أن ذلك وقع أكثر من مرتين.
واستدل بعض من رأى أن صلاة الخوف ركعة بأن ظاهر القرآن يدل عليهِ؛ فإن الله تعالى ذكر أن الطائفة الأولى تصلي معه حتَّى يسجد، فتكون من وراء الناس، وأن الطائفة الثانية التي لم تصل تأتي وتصلي معه، فظاهره: أن الطائفة الأولى تجتزئ بما صلت معه من تلك الركعة، وأن الثانية تكتفي بما أدركت معه، ولم يذكر قضاء على واحدة من
الطائفتين.
ومنها:
أنهم إذا عجزوا عن الصلاة بأركانها في حال الخوف، فقال الأوزاعي: لا يجزئهم التكبير بمجرده.
وإلى هذا ذهب الأكثرون، وهو: أنه لا يجزئ في حال شدة الخوف الاقتصار على التكبير، وهوقول أبي

(8/398)


حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
ونقل ابن منصور، عن أحمد وإسحاق، قإلاّ: لابد من القراءة، ولا يجزئهم
التكبير.
ونقل جماعة عن أحمد، أنه قال: لابد في صلاة الخوف من القراءة والتشهد
والسلام.
وذهب آخرون إلى أنهم يجزئهم التكبير.
روي عن جابر وابن عمر: تجزئهم تكبيرةٌ واحدة، وعن مجاهد والسدي.
وكذا قال عبد الوهاب بن بخت، وزاد: وإن لم يقدر على التكبير، فلا يتركها في نفسه.
يعني: النية.
وروي عن عبد الله بن الزبير، أنه ارتث يوم الجمل قبل غروب الشمس، فقيل له: الصلاة. فقال: لا استطيع أن أصلي، ولكني أكبر.
وعن الضحاك: إن لم يستطع أن يومئ كبر تكبيرة أو تكبيرتن.
وقال الثوري: إن لم يستطع أن يقرأ يجزئه التكبير في كل خفض ورفع، وإن لم يستطع أن يتوضأ تيمم بغبار سرجه.
وكذلك مذهب الثوري في المريض المدنف: إذا لم يستطع أن يصلي على جنبه، فإنه يكبر لكل ركعة تكبيرة، مستقبل القبلة، وتجزئه.

(8/399)


ونقل حرب، عن إسحاق، قال: إن لم يقدروا على ركعة فسجدة واحدة، فإن لم يقدروا فتكبيرةٌ واحدة، واستدل بقولِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
فإذا قدر على الإتيان بشيء من الصلاة، وعجز عن الباقي لزمه أن يأتي به في وقته ويجزئه، ولا يجوز له تأخيره عن الوقت.
وذكر ابن جرير بإسناده، أن هرم بن حيان كان معه أصحابه يقاتلون العدو مستقبلي المشرق، فحضرت الصلاة، فقالوا: الصلاة الصلاة، فسجد الرجل حيث كان وجهه سجدة، وهم مستقبلوا المشرق.
ويستدل للجمهور بأن ما دون الركعة ليس بصلاة، فلا يكون مأموراً به من عجز عن الصلاة، وأقل ما ورد في صلاة الخوف أنها ركعة، فما دون الركعة ليس بصلاة، ولا يؤمر به في خوف ولا غيره، ولا يسقط به فرض الصلاة.
ثم قال البخاري - رحمه الله -:
وقال أنس بن مالك: حضرت مناهضة حصن تستر عند صلاة الفجر - واشتد اشتعال القتال -، فلم يقدروا على الصلاة، فلم نُصل إلاّ بعد ارتفاع النهار، فصليناها ونحن مع أبي موسى، ففتح لنا.
قال أنس: وما

(8/400)


يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها.
هذه الواقعة كانت في زمن عمر –رضي الله عنه - سنة عشرين.
قال خليفة بن خياط في ((تاريخه)) : نا ابن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن
أنس، قالَ: لم نصل يومئذ صلاة الغداة حتى انتصف النهار، فما يسرني بتلك الصلاة الدنيا كلها.
قال خليفة: وذلك سنة عشرين.

ثم قال البخاري:

(8/401)


945 - حدثني يحيى: ثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله، قال جاء عمر يوم الخندق، فجعل يسب كفار قريش، ويقول: يارسول الله، ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغيب. فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وأنا ما صليتها بعد)) . قال: فنزل إلى بطحان، فتوضأ وصلى العصر بعدما غابت الشمس، ثم صلى

(8/401)


المغرب بعدها.
((يحيى)) شيخ البخاري، قيل: إنه ابن جعفر بن أعين البيكندي. وقيل: إنه ابن موسى بن عبد ربه ابن ختّ البخلي، وكلاهما يروي عن وكيع.
وقد خرجه البخاري في آخر ((المواقيت)) من غير وجهٍ، عن يحيى بن أبي كثير.
وسبق الكلام على وجه تأخير النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة في ذلك اليوم: هل كان نسياناً، أو اشتغإلاّ بالحرب؟
وعلى هذا التقدير: فهل هوَ منسوخ بنزول آيات صلاة الخوف، كما روي ذَلِكَ عن أبي سعيد الخدري، أو هو محكم باقٍ؟
والبخاري يشير إلى بقاء حكمه من غير نسخ.
وقال كثير من العلماء: إنه نسخ بصلاة الخوف، وحديث أبي سعيد

(8/402)


يدل عليه، وقد ذكرناه هنالك، وممن ذكر ذلك: الشافعي، وكثير من أصحابنا وغيرهم.
وأما قول ابن إسحاق: إن صلاة عسفان وذات الرقاع كانت قبل الخندق، ففيه
نظر. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكذلك ذكر ابن سعد: أن غزوة ذات الرقاع كانت على رأس سبعة وأربعين شهراً من الهجرة، وفيها صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أول ما صلاها.
وقد رد البخاري في ((المغازي)) من ((صحيحه)) هذا بوجهين:
أحدهما: أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع، وأبو موسى إنما جاء بعد خيبر، وذلك بعد الخندق.
والثاني: أن جابراً ذكر أن صلاة الخوف إنما كانت في السنة السابعة، وقد ذكرنا حديثه هذا في الباب الأول من ((أبواب صلاة الخوف)) .
وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث –أعني: حديث جابر في تأخير الصلاة يوم الخندق - على جواز تأخير الصلاة في حال الخوف لمن لم يقدر على الوضوء إلاّ بعد الوقت –في رواية جماعة من أصحابه.
وعنه رواية أخرى: أنه يتيمم ويصلي في الوقت، وقد سبق ذلك في ((التيمم)) .
فحمل الإمام أحمد تأخير الصلاة يوم الخندق على أنه كان للاشتغال

(8/403)


بالحرب، كما حمله البخاري.
قال الإمام أحمد: وقد قيل: إن ذلك كان قبل نزول هذه الآية: {فإن خِفْتُمْ فَرِجَإلاّ أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة:239] يعني: حديث أبي سعيد.
وحديث أبي سعيد إنما يدل على أن ذلك قبل نزول صلاة شدة الخوف بالإيماء رجإلاّ وركبانا، لم يدل على أن صلاة الخوف لم تكن نزلت.
والبخاري قد قرر في ((كتاب المغازي)) أن صلاة [الخوف] إنما شرعت في السنة السابعة، وذلك بعد الخندق بلا ريب، ومع هذا فجعل التأخير يوم الخندق محكما غير منسوخ بصلاة الخوف، ويكون الجمع بينهما بأنه مخير حال شدة الخوف بين التأخير وبين الصلاة بالإيماء، كما يقوله الإمام أحمد - في رواية عنه.
واجتماع الصحابة كلهم على النسيان يوم الخندق بعيد جدا، إلاّ أن يقال: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الناسي، وأن الصحابة اتبعوه على التأخير من غير سؤال له عن سببه.
ويشهد لهُ: أنه جاء في رواية للإمام أحمد: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

(8/404)


قال: ((هل علم أحد منكم أني صليت العصر؟)) قالوا: لا، فصلاهما.
وفيه: دليل على رجوع الشاك في أصل صلاته: هل صلاها، أو لا؟ إلى قول غيره، كما يرجع إلى قوله في الشك في عدد ما صلى.
وقد قال الحسن - في الرجل يشك: هل صلى، أم لا؟ -: يعيد ما كانَ في وقت تلك الصَّلاة، فإذا ذهب الوقت فلا إعادة عليهِ.
ذكره عبد الرزاق، بإسناده عنه.

(8/405)


5 - باب
صلاة الطالب والمطلوب راكبا وايماء او قائما

وقال الوليد: ذكرت للأوزاعي صلاة شرحبيل بن السمط وأصحابه على ظهر
الدابة، فقال: ذلك الأمر عندنا، إذا تخوفت الفوت.
واحتج الوليد بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لا يصلين أحد العصر إلاّ في بني قريظة)) .

(8/406)


946 - حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء: نا جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال لنا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما رجع من الأحزاب: ((لا يصلين أحد العصر إلاّ في بني قريظة)) فأدرك بعضهم العصر في الطريق، وقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذَلِكَ. فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يعنف واحدا منهم.
وقد تقدم أن الأوزاعي وأصحابه - ومنهم: الوليد بن مسلم - يرون جواز صلاة شدة الخوف للطالب، كما يجوز للمطلوب 0 وهو رواية عن أحمد، وأنهم يرون تأخير الصلاة عن وقتها إذا لم يقدروا على فعلها في وقتها على

(8/406)


وجه تام، كما تقدم - أيضا.
وقد استدل الوليد بن مسلم لذلك بحديث ابن عمر في البعث إلى قريظة.
وأما صلاة شرحبيل بن السمط التي استدل بها الأوزاعي [....] . ومما يتفرع على جواز صلاة الطالب صلاة شدة الخوف: أن من كان ليلة النحر قاصدا لعرفة، وخشي أن تفوته عرفة قبل طلوع الفجر، فإنه يصلي صلاة شدة الخوف وهو ذاهب إلى عرفة، وهو أحد الوجهين لأصحابنا، ولأصحاب الشافعي –أيضا.
وضعفه بعض أصحابهم، بأنه ليس بخائف بل طالب.
والصحيح: أنا إن قلنا: تجوز صلاة الطالب جازت صلاته، وإلاّ فلا تجوز، أو يكون فيه وجهان.
وهل يجوز تأخير العشاء إلى بعد طلوع الفجر؟ فيهِ – أيضا – وجهان للشافعية ولأصحابنا.
وأما استدلال الوليد بحديث ابن عمر في ذكر بني قريظة، فإنما يتم ذلك إذا كان الذين لم يصلوا العصر حتى بلغوا بني قريظة لم يصلوها إلاّ بعد غروب الشمس، وليس ذلك في هذا الحديث، فإن حديث ابن عمر إنما يدل على ان بعضهم أخر العصر إلى بني قريظة، فقد يكونوا صلوها

(8/407)


في آخر وقتها، وهذا لا إشكال في جوازه.
وممن ذهب إلى ذلك: الخطابي، وردَ به على من استدل بالحديث على أن كل مجتهد مصيب.
وذهب آخرون إلى أن الذين صلوا في بني قريظة صلوا بعد غروب الشمس. واستدلوا بأن مسلما خرج الحديث، ولفظه: عن ابن عمر، قالَ: نادى [فينا] رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم انصرف من الأحزاب: أن ((لا يصلي أحد العصر إلاّ في بني قريظة)) فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلاّ حيث أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأن فاتنا الوقت. قال: فما عنف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدا من الفريقين.
وخرج البيهقي، بإسناد فيه نظر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عمه عبد الله أخبره، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عزم على الناس لما رجع من الأحزاب أن لا يصلوا صلاة العصر إلاّ في بني قريظة. قالَ: فلبس الناس السلاح، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس، فاختصم الناس عند غروب الشمس، فقال بعضهم: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عزم علينا إلاّ نصلي حتى نأتي بني قريظة، فإنما نحن في عزيمة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فليس علينا إثم، وصلى طائفة من الناس احتسابا، وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس، فصلوها حين جازوا بني قريظة احتسابا، فلم يعنف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدا من الفريقين.
وهذا مرسل.
وقد ذكره موسى بن عقبة في ((مغازيه)) عن الزهري – مرسلا -، بغير إسناد للزهري بالكلية، وهو أشبه.
وخرج البيهقي نحوه - أيضا - من طريق عبد الله بن عمر العمري، عن أخيه
عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة، وفي حديثها: ((فغربت الشمس قبل أن يأتوهم، فصلت طائفة إيمانا واحتسابا، وتركت طائفة إيمانا واحتسابا، ولم يعنف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدا من

(8/408)


الفريقين)) .
والاستدلال بهذا الحديث على تأخير الصلاة للاشتغال بالحرب، استدلال ضعيف، وكذلك الاستدلال به على تأخير الصلاة لطالب العدو؛ فإن يوم ذهابهم إلى بني قريظة لم تكن هناك حرب تشغل عن صلاة، ولا كانوا يخافون فوات العصر ببني قريظة بالاشتغال بالصلاة بالكلية، وإنما وقع التنازع بين الصحابة في صلاة العصر في الطريق، إلتفاتا إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإلى معنى كلامه ومراده ومقصوده:
فمنهم من تمسك بظاهر اللفظ، ورأى أنه ينبفي أن يصلي العصر إلاّ في بني قريظة، وإن فات وقتها، وتكون هذه الصلاة مخصوصة من عموم أحاديث المواقيت بخصوص هذا، وهو النهي عن الصلاة إلاّ في بني قريظة.
ومنهم من نظر إلى المعنى، وقال لم يرد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك،

(8/409)


وإنما أراد منا تعجيل الذهاب إلى بني قريظة في بقية النهار، ولم يرد تأخير الصلاة عن وقتها، ولا غير وقت صلاة العصر في هذا اليوم، بل هو باق على ما كان عليه في سائر الأيام.
وهذا هو الأظهر. والله أعلم.
ولا دلالة في ذلك على أن كل مجتهد مصيب، بل فيه دلالة على أن المجتهد سواء أصاب أو أخطأ فإنه غير ملوم على اجتهاده، بل إن أصاب كان له أجران، وإن أخطأ فخطؤه موضوع عنه، وله أجر على اجتهاده.
ومن استدل بالحديث على أن تارك الصلاة عمداً يقضي بعد الوقت فقد وهم؛ فإن من أخر الصَّلاة في ذَلِكَ كانَ باجتهاد سائغ، فهوَ في معنى النائم والناسي، وأولى؛ فإن التأخير بالتأويل السائغ أولى بأن يكون صاحبه معذوراً.

(8/410)


6 - باب
التبكير والتغليس بالصبح والصلاة عند الإغارة والحرب

(8/411)


947 - حدثنا مسدد: ثنا حماد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب
وثابت، عن أنس، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الصبح بغلس، ثم ركب، فقال: ((الله
أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم ٍ، فساء صباح المنذرين)) .
وذكر بقية الحديث، وفي آخره قصة صفية، وتزوج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها، وجعل عتقها صداقها.
وقد تقدم أول الحديث في ((أبواب الأذان)) من حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس.
والمقصود منه هاهنا: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أراد الإغارة على أهل خيبر، ولم يكن عندهم علم من قدوم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصبح، وصلاها بغلس، ثم أغار عليهم.
فيستفاد من ذلك: أنه يستحب لمن أراد الإغارة على المشركين أن يعجل بصلاة الصبح في أول وقتها، ثم يغير بعد ذلك:

(8/411)


وروى وكيع في ((كتابه)) ، عن عمران بن حدير، عن أبي عمران، قال: صليت مع أبي موسى الغداة ثلاث مرات في غداة واحدة، كأنه أراد أن يغير على قوم.
ومعنى هذا: أن أبا موسى الأشعري لما أراد الإغارة عجل بصلاة الصبح، ثم تبين أنه صلاها قبل طلوع الفجر، فأعادها، فعل ذلك ثلاث مرات في يوم واحد.

(8/412)