فتح الباري لابن
رجب بسم الله الرحمن الرحيم
13 - أبواب العيدين
1 - باب
في العيدين والتجمل فيهما
(8/413)
948 - حدثنا أبو اليمان: انا شعيب، عن
الزهري، قالَ: أخبرني سالم بن
عبد الله، أن عبد الله بن عمر قالَ: أخذ عمر جبة من استبرق
تباع في السوق فأخذها فأتى رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ? فقال: يا رسول الله، ابتع هذه تجمل
بها للعيد والوفود. فقال لهُ رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إنما يلبس هذه من لا خلاق لهُ)) .
ثم ذكر بقية الحديث في إرسال النبي ??? - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجبة ديباج إلى عمر.
وقد سبق في ((كتاب الجمعة)) من طريق مالك، عن نافع، عن ابن
عمر، وفيه: ((لو اشتريت هذه للجمعة والوفود؟)) وهي قضية
واحدة والله أعلم.
وقد يكون أريد بالعيد جنس الأعياد، فيدخل فيهِ العيدان
والجمعة.
وقد دل هذا الحديث على التجمل للعيد، وأنه كان معتادا
بينهم.
وقد تقدم حديث لبس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - في العيدين برده الأحمر. وإلى
(8/413)
هذا ذهب الأكثرون، وهو قول مالك والشافعي
وأصحابنا وغيرهم.
وقال ابن المنذر: كان ابن عمر يصلي الفجر وعليه ثياب
العيد.
وقال مالك: سمعت أهل العلم يستحبون الزينة والطيب في كل
عيد.
واستحبه الشافعي.
وخرج البيهقي بإسناد صحيح، عن نافع، أن ابن عمر كان يلبس
في العيدين أحسن ثيابه.
والمنصوص عن أحمد في المعتكف: أنه يخرج إلى العيد في ثياب
اعتكافه، وحكاه عن أبي قلابة.
وأما غير المعتكف، فالمنصوص عن أحمد: أنه يخير بين التزين
وتركه.
قال المروذي: قلت لأحمد: أيما أحب إليك: أن تخرج يوم العيد
في ثياب جياد أو ثياب رثة؟ قالَ: أما طاوس فكان يأمر بزينة
الصبيان حتَّى يخضبوا، وأما عطاء فقالَ: لا، هوَ يوم تخشع.
فقلت لأحمد: فإلى ما تذهب؟ قالَ: قد روي هذا وهذا،
واستحسنهما جميعا.
ذكره أبو بكر ابن جعفر في كتابه ((الشافي)) ، عن الخلال،
عنه.
وحكاه القاضي في ((شرح المذهب)) مختصرا، وفيه: وقال عطاء:
لا، هو
(8/414)
يوم تخشع، وهذا أحسن.
ومما يتصل بذلك: الغسل للعيدين، وقد نص أحمد على استحبابه.
وحكى ابن عبد البر الإجماع عليهِ.
وكان ابن عمر يفعله، كذا رواه نافع، عنه، ورواه عن نافع:
مالك وعبيد الله بن عمر وموسى بن عقبة وابن عجلان وابن
إسحاق وغيرهم.
وروى أيوب، عن نافع، قالَ: ما رأيت ابن عمر اغتسل للعيد،
كان يبيت في المسجد ليلة الفطر، ثم يغدو منه إذا صلى الصبح
إلى المصلى.
ذكره عبد الرزاق، عن معمر، عنه.
وعجب ابن عبد البر من رواية أيوب، لمخالفتها رواية مالك
وغيره، عن نافع.
ولا عجب من ذلك، فقد يجمع بينهما: بأن ابن عمر كان إذا
اعتكف بات ليلة الفطر في المسجد، ثم يخرج إلى العيد على
هيئة اعتكافه، كما قاله أحمد ومن قبله من السلف، وهو قول
مالك - أيضا - وإن لم يكن معتكفا، اغتسل وخرج إلى المصلى.
(8/415)
وممن روي عنه الغسل للعيد - أيضا - من
الصحابة: علي بن أبي طالب، وابن عباس، وسلمة بن الأكوع،
والسائب بن يزيد.
وقال ابن المسيب: هو سنة الفطر.
وروى مالك، عن الزهري، عن عبيد بن السباق، أن رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في جمعة من الجمع:
((يا معشر المسلمين، إن هذا اليوم جعله الله عيدا،
فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم
بالسواك)) .
وهذا تنبيه على أن ذلك مأمور به في كل عيد للمسلمين.
رواه صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عبيد، عن ابن
عباس.
خرجه ابن ماجه.
ورواية مالك أصح.
ورواه بعضهم، عن مالك، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي
هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
خرجه كذلك الطبراني وغيره.
وهو وهم على مالك: قاله أبو حاتم الرازي والبيهقي
(8/416)
وغيرهما.
وروى صبيح أبو الوسيم: ثنا عقبة بن صهبان، عن أبي هريرة،
عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الغسل
واجب في هذه الأيام: يوم الجمعة، ويوم الفطر، ويوم النحر،
ويوم عرفة)) .
غريب جداً. وصبيح هذا، لايعرف.
وخرج ابن ماجه من رواية الفاكه بن سعد –وله صحبة -، أن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل يوم
الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الفطر، ويوم النحر، وكان الفاكه
يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام.
وفي إسناده: يوسف بن خالد السمتي، وهو ضعيف جداً.
(8/417)
وخرج ابن ماجه عن جبارة بن مغلس، عن حجاج
بن تميم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس: كان رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل يوم الفطر ويوم
الأضحى.
وحجاج بن تميم وجبارة بن مغلس، ضعيفان.
وروى مندل، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن
جده، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان
يغتسل للعيدين.
خرجه البزار.
ومحمد هذا، ضعيف جداً.
والغسل للعيد غير واجب. وقد حكى ابن عبد البر الإجماع
عليهِ، ولأصحابنا وجه ضعيف بوجوبه.
وروى الزهري، عن ابن المسيب، قال: الاغتسال للفطر والأضحى
قبل أن يخرج إلى الصلاة حقٌ.
وخرج أبوبكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب ((الشافي)) بإسناد
ضعيف، عن الحارث، عن علي، قال: كان بعضنا يغتسل وبعضنا
يتوضأ، فلا يصلي أحد منا قبلها ولا بعدها حتى يخرج النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ويستحب –أيضاً - التطيب والسواك في العيدين.
وكان ابن عمر
(8/418)
يتطيب للعيد.
وروى أبو صالح، عن الليث بن سعد، حدثني إسحاق بن بزرجٍ، عن
الحسن بن علي، قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نلبس أجود ما نجد، ونتطيب بأجود
ما نجد، وأن نضحي بأسمن ما نجد، وأن نظهر التكبير، وعلمنا
السكينة والوقار.
خرجه الطبراني والحاكم.
وقال: لولا جهالة إسحاق بن بزرج لحكمنا للحديث بالصحة.
قلت: ورويناه من وجه آخر، من طريق ابن لهيعة: حدثني عبد
الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عتبة بن حميد، عن عبادة بن
نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ، قالَ: كان رسول الله
? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا غدا إلي
(8/419)
المصلى أمرنا أن نلبس أجود ما نقدر عليه من
الثياب، وأن نخرج وعلينا السكينة، وأن نجهر بالتكبير.
وهذا منكر جداً.
ولعله مما وضعه المصلوب، وأسقط أسمه من الإسناد؛ فإنه يروى
بهذا الإسناد أحاديث عديدة منكرة ترجع إلى المصلوب، ويسقط
اسمه من إسنادها كحديث التنشف بعد الوضوء. والله سبحانه
وتعالى أعلم.
وهذا التزين في العيد يستوي فيه الخارج إلى الصلاة والجالس
في بيته، حتى النساء والأطفال.
وقد تقدم ذلك عن طاوس.
وقال الشافعي: تزين الصبيان بالمصبغ والحلي، ذكوراً كانوا
أو إناثاً؛ لأنه يوم
زينة، وليس على الصبيان تعبد، فلا يمنعون لبس الذهب.
قال بعض أصحابه: اتفق الأصحاب على إباحة زينة الصبيان يوم
العيد بالمصبغ وحلي الذهب والفضة، واختلفوا في غير يوم
العيد على وجهين.
وأما أصحابنا، فلم يفرقوا بين عيد وغيره، وحكوا في جواز
إلباس الولي الصبي الحرير والذهب روايتين.
(8/420)
2 - باب
الحرب والدرق يوم العيد
(8/421)
949 - حدثنا أحمد: نا ابن وهب: انا عمرو،
أن محمد بن عبد الرحمان الأسدي حدثه، عن عروة، عن عائشة،
قالت: دخل علي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول
وجهه، ودخل أبو بكر
فانتهرني، وقال: مزمارة الشيطان عند النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فأقبل عليهِ رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالَ: ((دعهما)) فلما غفل
غمزتهما فخرجتا.
(8/421)
950 - وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق
والحرب، فإما سألت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وإما قال: ((تشتهين تنظرين؟)) ، فقلت: نعم.
فأقامني وراء خدي على خده، وهو يقول: ((دونكم يابني
أرفدة)) ، حتَّى إذا مللت قالَ: ((حسبك؟)) ، قلت: نعم.
قال: ((فأذهبي)) .
((أحمد)) الراوي عن ابن وهب سبق الاختلاف فيه.
و ((عمرو)) ، هو: ابن الحارث.
وشيخه، هو: أبو الأسود يتيم عروة.
وقد سبق الحديث باختلاف طرقه وألفاظه في ((أبواب المساجد))
في ((باب: أصحاب الحراب في المسجد)) .
وذكرنا فيه: أن هذا العيد كان
(8/421)
أحد عيدي الإسلام، وأنه قد قيل: إنه كان
يوم عاشوراء. والظاهر: أن هذا كان قبل نزول الحجاب؛
لقولها: ((خدي عَلَى خده)) .
ويحتمل أنه كَانَ بعده؛ فإن البخاري خرجه في ((باب: أصحاب
الحراب في المسجد)) بزيادة: ((وهو يسترني بردائه)) .
واللعب بالحراب والدرق في الأعياد مما لاشبهة في جوازه، بل
واستحبابه؛ لأنه مما يتعلم به الفروسية، ويتمرن به على
الجهاد.
وقد رخص إسحاق وغيره من الأئمة باللعب بالصولجان والكرة،
للتمرن على
الجهاد.
وأما ذكر الغناء، فنذكره في الباب الآتي - إن شاء الله -
سبحانه وتعالى -.
(8/422)
3 - باب
سنة العيدين لأهل الإسلام
فيه حديثان:
الأول:
(8/423)
951 - حدثنا حجاج: انا شعبة: أخبرني زبيد:
سمعت الشعبي، عن البراء: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب، فقال: ((إن أول ما نبرأ في
يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل هذا فقد أصاب
سنتنا)) .
ومراده: الاستدلال بهذا الحديث على أن سنة أهل الإسلام
التي سنها لهم نبيهم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
في عيد النحر: الصلاة ثم النحر بعد رجوعهم من الصلاة.
وهذا مما اتفق المسلمون على أنه سنة في يوم النحر، وإنما
اختلفوا: هل هو واجب، أم لا؟
فأما النحر، فيأتي الكلام عليه في موضع آخر –إن شاء الله
سبحانه وتعالى.
وأما صلاة العيد، فاختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها سنة مسنونة، فلو تركها الناس لم يأثموا.
هذا قول
(8/423)
الثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأبي يوسف،
وحكي رواية عن أحمد.
واختلفوا: هل يقاتلون على تركها؟ وفيه وجهان للشافعية.
وقال أبويوسف: آمرهم وأضربهم؛ لأنها فوق النوافل، ولا
أقاتلهم؛ لأنها دون الفرائض.
وقد يتعلق لهذا القول بإخبار النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المصلي يوم العيد أنه أصاب السنة.
ولا دليل فيه؛ فإن السنة يراد بها الطريقة الملازمة
الدائمة، كقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ
مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}
[الفتح:23] .
والقول الثاني: أنها فرض كفاية فإذا أجمع أهل بلد على
تركها أثموا وقوتلوا على تركها.
وهو الظاهر مذهب أحمد، نص عليه في رواية المروذي وغيره.
وهو قول طائفة من الحنفية والشافعية.
والقول الثالث: أنها واجبة على الأعيان كالجمعة.
وهو قول أبي حنيفة، ولكنه لا يسميها فرضاً.
وحكى أبو الفرج الشيرازي – من أصحابنا - رواية عن أحمد:
أنها فرض عين.
وقال الشافعي –في ((مختصر المزني)) -: من وجب عليه حضور
الجمعة وجب عليه حضور العيدين.
وهذا صريح في أنها واجبة على الأعيان.
وليس ذلك خلافاً لإجماع
(8/424)
المسلمين، كما ظنه بعضهم.
وكثيرمن أصحابه تأولوا نصه بتأويلات بعيدة، حتى إن منهم من
حمله على أن الجمعة فرض كفاية كالعيد.
وأقرب ما يتأول به: أن يحمل على أن مراده: أن العيد فرض
كفاية؛ لأن فروض الكفاية كفروض الأعيان في أصل الوجوب،
ثُمَّ يسقط وجوب فرض الكفاية بفعل البعض دون فرض العين.
فقد يقال: إن الشافعي أراد أن يعلق الوجوب في العيد بمن
يتعلق به وجوب الجمعة وإن كانت العيد تسقط بحضور بعض الناس
دون الجمعة.
وهذا أشبه مما تأوله به أصحابه، مع مخالفته لظاهر كلامه
وبعده منه؛ فإنه صرح بوجوب الحضور في العيد كحضور الجمعة.
الحديث الثاني:
(8/425)
952 - نا عبيد بن اسماعيل: نا أبو اسامة،
عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: دخل أبو بكر وعندي
جاريتان من جواري الانصار، تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم
بعاث. قالت: وليستا بمغنيتين. فقال أبو بكر: مزامر الشيطان
في بيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا))
.
(8/425)
في هذا الحديث: الرخصة للجواري في يوم
العيد في اللعب والغناء بغناء الأعراب. وإن سمع ذلك النساء
والرجال، وإن كان معه دف مثل دف العرب، وهو يشبه الغربال.
وقد خرجه البخاري في آخر ((كتاب العيدين)) من رواية
الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن أبا بكر دخل عليها وعندها
جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان، والنبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متغش بثوبه، فانتهرهما أبو
بكر، فكشف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن
وجهه، فقال: ((دعهما يا أبا
بكر؛ فإنها أيام عيد)) ، وتلك [الأيام] أيام منى.
ولا ريب أن العرب كانَ لهم غناء يتغنون به، وكان لهم دفوف
يضربون بها، وكان غناؤهم بأشعار أهل الجاهلية من ذكر
الحروب وندب من قتل فيها، وكانت دفوفهم مثل الغرابيل، ليس
فيها جلاجل، كما في حديث عائشة، عن النَّبيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أعلنوا النكاح واضربوا
عليهِ بالغربال)) .
وخرجه الترمذي وابن ماجه، بإسناد فيه ضعفٌ.
(8/426)
فكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يرخص لهم في أوقات الأفراح، كالأعياد والنكاح
وقدوم الغياب في الضرب للجواري بالدفوف، والتغني مع ذلك
بهذه الأشعار، وما كان في معناها.
فلما فتحت بلاد فارس والروم ظهر للصحابة ما كان أهل فارس
والروم قد أعتادوه من الغناء الملحن بالإيقاعات الموزونة،
على طريقة الموسيقى بالأشعار التي توصف فيها المحرمات من
الخمور والصور الجميلة المثيرة للهوى الكامن في النفوس،
المجبول محبته فيها، بآلات اللهو المطربة، المخرج سماعها
عن الاعتدال، فحينئذ أنكر الصحابة الغناء واستماعه، ونهوا
عنه وغلظوا فيه.
حتى قال ابن مسعود: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت
الماء البقل. وروي عنه - مرفوعا.
(8/427)
وهذا يدل على أنهم فهموا أن الغناء الذي
رخص فيه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لأصحابه لم يكن هذا الغناء، ولا آلاته هي هذه الآلات، وأنه
إنما رخص فيما كان في عهده، مما يتعارفه العرب بآلاتهم.
فأما غناء الأعاجم بآلاتهم فلم تتناوله الرخصة، وإن سمي
غناءً، وسميت آلاته دفوفا، لكن بينهما من التباين ما لا
يخفى على عاقل، فإن غناء الأعاجم بآلاتها يثير الهوى،
ويغير الطباع، ويدعو إلى المعاصي، فهو رقية الزنا. وغناء
الأعراب المرخص به، ليس فيه شيء من هذه المفاسد بالكلية
البتة، فلا يدخل غناء الأعاجم في الرخصة لفظا ولا معنى،
فإنه ليس هنالك نص عن الشارع بإباحة ما يسمى غناء ولا دفا،
وإنما هي قضايا أعيان، وقع الإقرار عليها، وليس لها [من]
عموم.
وليس الغناء والدف المرخص فيهما في معنى ما في غناء
الأعاجم ودفوفها المصلصلة، لأن غنائهم ودفوفهم تحرك الطباع
وتهيجها إلى المحرمات، بخلاف غناء الأعراب، فمن قاس أحدهما
على الآخر فقد أخطأ أقبح الخطأ، وقاس مع ظهور الفرق بين
الفرع والأصل، فقياسه من أفسد القياس وأبعده عن الصواب.
وقد صحت الأخبار عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بذم من يستمع القينات في آخر الزمان، وهو
إشارة إلى تحريم سماع آلات الملاهي الماخوذة عن الأعاجم.
وقد خرج البخاري في ((الأشربة)) حديث عبد الرحمن بن غنم،
(8/431)
عن أبي مالك –أو أبي عامر - الأشعري، عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، كما
سياتي في موضعه - إن شاء الله سبحانه وتعالى.
فقال فيه: ((قال هشام بن عمار)) – فذكره.
والظاهر: أنه سمعه من هشام.
وقد رواه عن هشام الحسن بن سفيان النسوي.
وخرجه من طريقه البيهقي وغيره.
وخرجه الطبراني: نا محمد بن يزيد بن عبد الصمد: نا هشام بن
عمار.
فصح واتصل عن هشام.
وخرجه أبو داود من وجه آخر مختصرا.
وقد بينت عائشة أن الجاريتين إنما كانا يغنيان بغناء بعاث،
ويوم بعاث يوم من أيام حروب الجاهلية مشهور.
وباؤه مثلثة وعينه مهملة، ومنهم من حكى أنها معجمة، قال
الخطابي: هو يوم مشهور من أيام العرب، كانت فيه مقتلة
عظيمة للأوس على الخزرج، وبقيت الحرب قائمة مائة وعشرين
سنة إلى الإسلام، على ما ذكره ابن إسحاق وغيره.
قالَ: وكان الشعر الذي تغنيان به في وصف الشجاعة والحرب،
وهو إذا صرف إلى جهاد الكفار كان معونة في أمر الدين، فأما
الغناء بذكر
(8/432)
الفواحش والابتهار للحرم، فهو المحظور من
الغناء، حاشاه أن يجري بحضرته شيء من ذلك فيرضاه، أو يترك
النكير لهُ، وكل من جهر بشيء بصوته وصرح به فقد غنى به.
قالَ: وقول عائشة: ((ليستا بمغنيتين)) ، إنما بينت ذلك؛
لأن المغنية التي اتخذت الغناء صناعة وعادة، وذلك لا يليق
بحضرته، فأما الترنم بالبيت والتطريب للصوت إذا لم يكن
فيهِ فحش، فهوَ غير محظور ولا قادح في الشهادة.
وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - لا ينكر من الغناء
النصب والحداء
ونحوهما، وقد رخص فيه غير واحد من السلف.
قالَ: وقوله: ((هذا عيدنا)) يريد أن إظهار السرور في العيد
من شعار الدين، وحكم اليسير من الغناء خلاف الكثير. انتهى.
وفي الحديث ما يدل على تحريمه في غير أيام العيد؛ لأن
النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل بأنها
أيام عيد، فدل على أن المقتضي للمنع قائم، لكن عارضه معارض
وهو الفرح والسرور العارض بأيام العيد.
وقد أقر أبا بكر على تسمية الدف مزمور الشيطان، وهذا يدل
على وجود المقتضي للتحريم لولا وجود المانع.
(8/433)
وقد قال كثير من السلف، منهم: قتادة:
الشيطان قرآنه الشعر، ومؤذنه المزمار، ومصايده النساء.
وروي ذلك من حديث أبي أمامة – مرفوعا.
وقد وردت الشريعة بالرخصة للنساء لضعف عقولهن بما حرم على
الرجال من التحلي والتزين بالحرير والذهب، وإنما أبيح
للرجال منهم اليسير دون الكثير، فكذلك الغناء يرخص فيه
للنساء في أيام السرور، وإن سمع ذلك الرجال تبعا.
ولهذا كان جمهور العلماء على أن الضرب بالدف للغناء لا
يباح فعله للرجال؛ فإنه من التشبه بالنساء، وهو ممنوع منه،
هذا قول الأوزاعي وأحمد، وكذا ذكر الحليمي وغيره من
الشافعية.
وإنما كان يضرب بالدفوف في عهد النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النساء، أو من يشبه بهن من المخنثين،
وقد أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنفي
المخنثين وإخراجهم من البيوت.
وقد نص على نفيهم أحمد وإسحاق، عملا بهذه السنة الصحيحة.
وسئل أحمد عن مخنث مات ووصى أن يحج عنه، فقال: كسب المخنث
خبيث، كسبه بالغناء، نقله عنه المروذي.
وفي تحريم ضرب المخنث بالدف حديث مرفوع، خرجه ابن ماجه
بإسناد ضعيف. فأما الغناء بغير ضرب دف، فإن كان على وجه
الحداء والنصب فهو جائز. وقد رويت الرخصة فيه عن كثير من
الصحابة.
والنصب:
(8/434)
شبيه الحداء -: قاله الهروي وغيره.
وهذا من باب المباحات التي تفعل أحيانا للراحة.
فأما تغني المؤمن فإنما ينبغي أن يكون بالقرآن، كما قال
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ليس منا من
لم يتغن بالقرآن)) والمراد: أنه يجعله عوضا عن الغناء
فيطرب به ويلتذ، ويجد فيه راحة قلبه وغذاء روحه، كما يجد
غيره ذلك في الغناء بالشعر.
وقد روي هذا المعنى عن ابن مسعود - أيضاً.
وأما الغناء المهيج للطباع، المثير للهوى، فلا يباح لرجل
ولا لامرأة فعله ولا
استماعه؛ فإنه داع إلى الفسق والفتنة في الدين والفجور
فيحرم كما يحرم النظر بشهوة إلى الصور الجميلة [....] ؛
فإن الفتنة تحصل بالنظر وبالسماع؛ ولهذا جعل النبي ? -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زنا العينين النظر،
وزنا الأذن الاستماع.
ولا خلاف بين العلماء المعتبرين في كراهة الغناء وذمه وذم
استماعه، ولم يرخص فيه أحد يعتد به.
وقد حكيت الرخصة فيه على بعض المدنيين.
وقد روى الإمام أحمد، عن إسحاق الطباع، أنه سأل مالكا عما
يرخص فيه أهل المدينه من الغناء؟ فقالَ: إنما يفعله عندنا
الفساق.
(8/435)
وكذا قالَ إبراهيم بن المنذر الحزامي، وهو
من علماء أهل المدينة – أيضا.
وقد نص أحمد على مخالفة ما حكي عن المدنيين في ذَلِكَ.
وكذا نص هو وإسحاق على كراهة الشعر الرقيق الذي يشبب به
النساء.
وقال أحمد: الغناء الذي وردت فيه الرخصة هو غناء الراكب:
أتيناكم أتيناكم.
وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاة من وضع
الأعاجم، فمحرم مجمع على تحريمه، ولا يعلم عن أحد منه
الرخصة في شيء من ذَلِكَ، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد
به فقد كذب وافترى.
وأما دف الأعراب الخالي من الجلاجل المصوتة ونحوها فقد
اختلف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب:
أحدها: أنه يرخص فيه مطلقا للنساء.
وقد روي عن أحمد ما يشهد له، واختاره طائفة من المتأخرين
من أصحابنا، كصاحب ((المغني)) وغيره.
والثاني: إنما يرخص فيه في الاعراس ونحوها، وهو مروي عن
عمر بن عبد العزيز والأوزاعي، وهو قول كثير من أصحابنا أو
أكثرهم.
(8/436)
والثالث: أنه لا يرخص فيه بحال. وهو قول
النخعي وأبي عبيد.
وجماعة من أصحاب ابن مسعود كانوا يتبعون الدفوف مع الجواري
في الأزقة فيحرقونها.
وقال الحسن: ليس الدف من أمر المسلمين في شيء. ولعله أراد
بذلك دفوف الأعاجم المصلصلة المطربة.
وقد سئل أحمد على ذلك فتوقف، وكأنه حصل عنده تردد: هل كانت
كراهة من كره الدفوف لدفوف الأعراب أو لدفوف الاعاجم فيه
جرس؟ وقد قيل لأحمد: الدف فيهِ جرس؟ قال: لا.
وقد نص على منع الدف المصلصل.
وقال مالك في الدف: هو من اللهو الخفيف، فإذا دعي إلى
وليمة، فوجد فيها دفاً فلا أرى أن يرجع.
وقاله القاسم من أصحابه.
وقال أصبغ –منهم -: يرجع لذلك.
وفي الرخصة في الدف في العيد أحاديث أخر:
خرج ابن ماجه من رواية الشعبي، قال: شهد عياض الأشعري
عيداً بالأنبار، فقال: ما لي لا أراكم تقلسون كما يقلس
رسول الله ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن رواية الشعبي، عن قيس بن سعد، قال: ما كان شيء على عهد
(8/437)
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إلاّ وقد رأيته، إلاّ شيء واحد، فإن رسول الله
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقلس له يوم
الفطر.
قال يزيد بن هارون: التقليس: ضرب الدف.
وقال يوسف بن عدي: التقليس: أن يقعد الجواري والصبيان على
أفواه الطرق، يلعبون بالطبل وغير ذلك.
وقد بسطنا القول في حكم الغناء وآلات اللهو في كتاب مفرد،
سميناه: ((نزهة الأسماع في مسألة السماع)) ، وإنما أشرنا
إلى ذلك هاهنا إشارة لطيفة مختصرة.
ومما يدخل في هذا الباب: ما روى حماد بن سلمة، عن حميد، عن
أنس، قال: قدم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ((ما
هذان اليومان؟)) قالوا: نلعبهما في الجاهلية. فقالَ رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن الله قد
أبدلكم بهما خيرا منهما: يوم
الفطر، ويوم الأضحى)) .
خرجه أبو داود والنسائي.
(8/438)
4 - باب
الأكل يوم الفطر قبل الخروج
(8/439)
953 - حدثنا محمد بن عبد الرحيم: نا سعيد
بن سليمان، أنا هشيم: أنا عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس بن
مالك، قال: كان رسول الله ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى ياكل تمرات.
وقال مرجأ بن رجاء: حدثني عبيد الله بن أبي بكر: حدثني
أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وياكلهن وتراً.
هذا الحديث مما تفرد به البخاري، ولم يخرجه مسلم.
وإنما ذكر متابعة مرجى بن رجاء لثلاثة فوائد:
أحدها:
أنه حديث أنكره الإمام أحمد من حديث هشيم، وقال: إنما كان
هشيم يحدث به عن محمد بن إسحاق، عن حفص بن عبيد الله، عن
أنس. قَالَ: وإنما ثناه علي بن عاصم، عن عبيد الله بن أبي
بكر.
كذا نقله عن أحمد ابنه عبد الله.
وقد رواه [قتيبة] ، عن هشيم، عن ابن إسحاق، عن حفص، كما
قاله الإمام أحمد ومن هذه الطريق خرجه الترمذي، وصححه.
(8/439)
وقد رواه كذلك عن هشيم بهذا الإسناد الإمام
أحمد، ويحيى، وابن أبي شيبة
وغيرهم.
قال البيهقي: ورواه سعيد بن سليمان، عن هشيم بالإسنادين
معا.
وهذا يدل على أنهما محفوظان عن هشيم، فبين البخاري أنه قد
توبع عليه هشيم.
وقد خرجه الإمام أحمد من حديث مرجى ((ويأكلهن أفرادا)) .
وخرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) والدارقطني من حديثه،
وعندهما: ((ويأكلهن وترا)) .
ومرجى بن رجاء، مختلف في أمره. وثقه أبو زرعة، وضعفه غيره
وتابعه - أيضا -: علي بن عاصم، فرواه عن عبيد الله بن أبي
بكر: سمعت أنسا يقول: ((ما خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فطر قط حتى يأكل تمرات)) .
خرجه الإمام أحمد، عنه.
وخرجه ابن شاهين في ((كتاب العيدين)) ، وزاد: ((ثلاثا،
وكان أنس [يأكل] ثلاث تمرات أو
(8/440)
خمسا، وإن شاء زاد، إلاّ أنه يجعلهن وترا))
.
ورواه - أيضا - عتبة بن حميد: نا عبيد الله بن أبي بكر بن
أنس: سمعت أنسا قالَ: ما خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فطر حتى يأكل ثمرات، ثلاثا أو
خمسا أو سبعا، أو أقل من ذلك أو أكثر، وتراً.
خرجه الطبراني.
وخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) إلى قوله: ((سبعا)) .
ورواه - أيضا – أبو جزي نصر بن طريف، عن عبيد الله بن أبي
بكر، عن أنس.
فقد رواه جماعة، عن عبيد الله، عن أنس – كما ترى -، وإنما
استنكره أحمد من حديث هشيم.
الفائدة الثانية:
إن في رواية مرجى زيادة الوتر.
والثالثة:
إن فيها التصريح بسماع عبيد الله له من أنس.
وقد ذكرنا أنه توبع على هاتين الزيادتين.
وفي الباب أحاديث أخر، ليست على شرط البخاري.
وقد استحب أكثر العلماء الأكل يوم الفطر قبل الخروج إلى
المصلى، ومنهم علي وابن عباس.
وروي عنهما أنهما قالا: هو السنة.
وكان
(8/441)
ابن عمر يفعله.
وعن أم الدرداء، أنها قالت: خالفوا أهل الكتاب، فإنهم لا
يفطرون في أعيادهم حتى يرجعوا.
وعن ابن المسيب، قال: كان الناس يؤمرون بذلك.
وعن الشعبي، قال: هو السنة.
وعن عَكْرِمَة، قال: كَانَ الناس يفعلونه.
وهو قول أبي حنيفة والثوري ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
وروي عن النخعي، قالَ: إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل.
وروي عنه، أنه قال: كانوا لا يبالون بذلك.
وعن ابن مسعود: إن شاء لم ياكل.
ولعله أراد به بيان أن الأكل قبل الخروج ليس بواجب، وهذا
حق، وان أراد أنه ليس هو الأفضل فالجمهور على خلافه،
والسنة تدل عليهِ.
ونص الشافعي على أن تركه مكروه.
(8/442)
وقد علل الأكل يوم الفطر قبل الخروج
بالمبادرة إلى الفطر في يوم العيد، ليظهر مخالفته لرمضان
حيث كان تحريم الأكل في نهاره.
وقد تقدم، عن أبي الدرداء: تعليله بمخالفة أهل الكتاب.
وقد علل بأن السنة تأخير الصلاة يوم الفطر، فيكون الأكل
قبل الخروج اسكن للنفس، بخلاف صلاة النحر؛ فإن السنة
تعجيلها.
وقد رَوَى الإمام أحمد: ثنا عَبْد الرزاق، عَن ابن
جُرَيْج: أخبرني عَطَاء، أنه سَمِعَ ابن عَبَّاس يَقُول:
إن استطعتم أن لا يغدوا أحدكم يوم الفطر حَتَّى يطعم
فليفعل قَالَ: فَلَمْ أدع أن أكل قَبْلَ أن أغدو منذ
سَمِعْت ذَلِكَ من ابن عَبَّاس. قُلتُ: فعلى ماذا تأول
هَذَا؟ قال: أظن سمعه من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -. قال: كانوا لا يخرجون حتى يمتد الضحى،
فيقولون: نطعم حتى لا نعجل عن صلاتنا.
وذكر بعضهم معنى آخر، وهو أن يوم الفطر قبل الصلاة تشرع
الصدقة على المساكين بما يأكلونه خصوصا التمر، فشرع له أن
يأكل معهم ويشاركهم، وفي النحر لا تكون الصدقة على
المساكين إلاّ بعد الرجوع من الصلاة، فيؤخر الأكل إلى حال
الصدقة عليهم، ليشاركهم - أيضا.
ويشهد له: ما خرجه ابن ماجه، عن ابن عمر، قال: كان رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(8/443)
لا يغدو يوم الفطر حتى يغدي أصحابه من صدقة
الفطر.
وإسناده ضعيف جدا.
وقد قيل: إن صوابه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الإمام. ...
قاله العقيلي.
(8/444)
5 - باب
الأكل يوم النحر
(8/445)
954 - حدثنا مسدد: نا إسماعيل، عن أيوب، عن
محمد بن سيرين، عن انس بن مالك: قال النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((من ذبح قبل الصلاة فليعد)) . فقام
رجل، فقال: هذا يوم يشتهى فيه اللحم، وذكر من جيرانه، فكأن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقه، فقال:
وعندي جذعة أحب إلي من شاتي لحمٍ، فرخص له النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا أدري أبلغت الرخصة من
سواه، أم لا.
* * *
(8/445)
7 - باب
المشي والركوب إلى العيد بغير اذان ولا اقامة
(8/445)
957 - حدثنا إبراهيم بن المنذر: نا أنس، عن
عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، ان رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في الأضحى
والفطر، ثم يخطب بعد الصَّلاة.
(8/445)
958 - حدثنا إبراهيم بن موسى: أنا هشام، أن
ابن جريج أخبرهم، قال: أخبرني عطاء، عن جابر بن عبد الله،
قالَ: سمعته يقول: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - خرج يوم الفطر، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة.
(8/445)
959 - قال: وأخبرني عطاء، أن ابن عباس أرسل
إلى ابن الزبير في أول ما بويع لهُ: أنه لم يكن يؤذن
بالصلاة يوم الفطر، وإنما الخطبة بعد الصَّلاة.
(8/445)
960 - وأخبرني عطاء، عن ابن عباس، وعن جابر
بن عبد الله، قالا: لم يكن يؤذن يوم الفطر، ولا يوم
الأضحى.
(8/445)
961 - وعن جابر بن عبد الله، قال: سمعته
يقول: إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام
فبدأ بالصلاة ثم خطب الناس بعد، فلما فرغ نبي الله ? -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزل، فأتى النساء
فذكرهن، وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه، يلقي فيه
النساء صدقة0
قلت لعطاء: أترى حقا على الإمام الآن أن يأتي النساء
فيذكرهن حين يفرغ؟ قالَ: إن ذَلِكَ لحق عليهم، ومالهم أن
لا يفعلوا؟
(8/445)
[0000000000000000000000000000000]
ولا إقامة
وخرج - أيضا - من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء،
عن جابر، قال: شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان
ولا إقامة.
وخرج أبو داود من طريق الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن
عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى
العيد بلا أذان ولا إقامة وأبا بكر وعمر - أو عُثْمَان.
وخرجه ابن ماجة مختصرا.
وخرج أبو داود من حديث سفيان، عن عبد الرحمن بن عباس، قال:
[سأل رجل ابن عباس: أشهدت العيد مع رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: نَعَمْ، ولولا منزلتي
مِنْهُ مَا شهدته من الصغر، فـ] أتى رَسُول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العلم الَّذِي عِنْدَ [دار]
كثير بْن الصلت، فصلى ثُمَّ خَطَبَ، ولم يذكر إذانا ولا
إقامة - وذكر الحَدِيْث.
وفي الباب: عن ابن عُمَر.
(8/446)
خرجه الإمام أحمد والنسائي.
وفي إسناده مقال.
خرجه الإمام أحمد من رواية الزهري، عن سالم، عن أبيه -
وذكر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر
وعمر.
وهو من رواية عبد الرزاق بن عمر والنعمان بن راشد، عن
الزهري.
وقال أبو حاتم: هو حديث منكر.
وخرجه النسائي، من رواية الفضل بن عطية، عن سالم، عن أبيه
- ولم يذكر أبا بكر وعمر.
والفضل بن عطية، مختلف فيهِ.
وروي عنه عن عطاء عن جابر.
وخرج مسلم من حديث سماك، عن جابر بن سمرة، قال: صليت مع
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد غير مرة
بغير أذان ولا إقامة.
ولا خلاف بين أهل العلم في هذا، وأن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر كانوا يصلون العيد
بغير أذان ولا إقامة.
قال مالك: تلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا.
واتفق العلماء على أن الأذان والإقامة للعيدين بدعة ومحدث.
وممن قالَ: إنه بدعة: عبد الرحمن بن أبزى والشعبي والحكم.
وقال ابن سيرين: وهو محدث.
وقال سعيد بن المسيب والزهري: أول من أحدث الأذان في
العيدين معاوية.
وقال ابن سيرين: أول من
(8/447)
أحدثه آل مروان.
وعن الشعبي، قالَ: أول من أحدثه بالكوفة ابن دراج، وكان
المغيرة بن شعبة استخلفه.
وقال حصين: أول من أذن في العيدين زياد.
وروى ابن أبي شيبة: نا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء
بن يسار، أن ابن الزبير سأل ابن عباس - وكان الذي بينهما
حسنا يومئذ - فقال: لا تؤذن ولا تقم، فلما ساء الذي بينهما
أذن وأقام.
وقال الشافعي: قال الزهري: وكان النبي ? - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمر في العيدين المؤذن فيقول:
الصلاة جامعة.
واستحب ذلك الشافعي وأصحابنا.
واستدلوا بمرسل الزهري، وهو ضعيف، وبالقياس على صلاة
الكسوف؛ فإن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
صح عنه أنه أرسل مناديا ينادي: الصَّلاة جامعة.
وقد يفرق بين الكسوف والعيد، بأن الكسوف لم يكن الناس
مجتمعين لهُ، بل كانوا متفرقين في بيوتهم وأسواقهم، فنودوا
لذلك، وأما العيد، فالناس كلهم مجتمعون له قبل خروج
الإمام.
وقول جابر: ((ولا إقامة ولا نداء ولا شيء)) يدخل فيه نفي
النداء
(8/448)
بـ ((الصَّلاة جامعة)) .
وقد يقال: إن ((الصَّلاة جامعة)) هي بدل إقامة الصَّلاة
للمكتوبات عندَ خروج الإمام حتَّى يعلم الناس حضور
الصَّلاة؛ فيتهيئون لها بالقيام، وليس كلهم يشاهد الإمام
ودخوله وصلاته، فاحتيج إلى ما يعلم به ذلك.
والإقامة مكروهة لهذه الصَّلاة، فتعين إبدالها بـ
((الصَّلاة جامعة)) .
وفي كراهة: ((حي على الصَّلاة)) بدل ((الصَّلاة جامعة))
وجهان للشافعية.
والمنصوص عن الشافعي: أنه خلاف الأولى.
وفي الحديث: أن الإمام إذا رأى أنه لم يسمع الموعظة
النساء، فإنه يأتيهن بعد فراغه من موعظة الرجال، فيعظهن
ويذكرهن.
وقد قال عطاء: إن ذلك حق عليهِ.
ولعله أراد أنه مندوب إليه، متأكد الندب.
قال طائفة من أصحاب الشافعي: إذا علم الإمام أن قوما فاتهم
سماع الخطبة استحب أن يعيد لهم الخطبة، سواء كانوا رجالا
أو نساءً، واستدلوا بهذا الحديث.
(8/449)
8 - باب
الخطبة يوم العيد
فيه ثلاثة أحاديث:
الأول:
(8/450)
962 - نا أبو عاصم: أنا ابن جريج: أخبرني
الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: شهدت العيد مع
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر
وعمر وعثمان، فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة.
فيهِ: دليل على أنهم كانوا يخطبون للعيدين، وأنهم كانوا
يخطبون بعد الصَّلاة.
وخرجه فيما بعد من طريق عبد الرزاق، بسياق طويل.
الحديث الثاني:
(8/450)
963 - نا يعقوب بن إبراهيم: نا أبو اسامة:
نا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كانَ رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر يصلون
العيدين قبل الخطبة.
وقد خرجه مسلم بنحوه من حديث أبي أسامة وعبدة بن سليمان
(8/450)
كلاهما، عن عبيد الله.
وقد قال الإمام أحمد - في رواية ابنه عبد الله -: ما سمعت
من أحد يقول في هذا الحديث: ((أبو بكر وعمر)) إلا عبدة.
كذا قال، وكأنه لم يسمعه من أبي أسامة.
الحديث الثالث:
(8/451)
964 - نا سليمان بن حرب: نا شعبة، عن عدي
بن ثابت، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس، قالَ: إن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى يوم الفطر ركعتين، لم يصل قبلهما
ولا بعدهما، ثم أتى النساء ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة،
فجعلن يلقين، تلقي المرأة خرصها وسخابها.
ظاهره: أنه بعد الصلاة خطب النساء، وليس كذلك، وإنما خطب
الرجال ثم أتى النساء بعد الرجال، وسيأتي ذلك من حديث
طاوس.
و ((الخرص)) ، و ((القرط)) حلقة في الإذن، وربما كانت فيها
حبة.
و ((السخاب)) : قلادة تتخذ من أنواع الطيب.
وفي الحديث: دليل على جواز صدقة المرأة بدون إذن زوجها.
الحديث الرابع:
(8/451)
965 - نا آدم: نا شعبة: نا زبيد، قال: سمعت
الشعبي، عن البراء بن عازب، قالَ: قال النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن أول ما نبدأ في يومنا
هذا، أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا،
ومن نحر قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك
في شيء)) ، فقال رجل من الأنصار - يقال له: أبو بردة بن
نيار -: يا رسول الله، ذبحت، وعندي جذعة خير من مسنة؟
قالَ: ((اجعله مكانه، ولن توفي - أو تجزي - عن أحد بعدك))
.
في هذا الحديث: دليل على أن الخطبة كانت بعد الصَّلاة؛
لقوله: ((إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي)) ولو كانَ
يخطب قبل، لكان أول ما بدأ به الخطبة. وهذا القول قاله في
خطبته، كما خرجه البخاري فيما بعد، عن سليمان بن حرب، عن
شعبة، بهذا الإسناد.
وقد تقدم: أن الإمام أحمد خرجه من رواية أبي جناب الكلبي،
عن يزيد بن
البراء، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قاله قبل الصَّلاة، ثم صلى، ثم خطب، وذكر أنه
قال في خطبته: ((من كان منكم عجل ذبحا فإنما هي جزرة
اطعمها أهله)) - وذكر قصة أبي بردة -، ثم قال: ((يا بلال))
قال: فمشى، واتبعه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حتى أتى النساء، فقال: ((يا معشر النسوان،
تصدقن، الصدقة خير لكن)) . قال: فما رأيت يوما قط أكثر
خدمة مقطوعة، ولا قلادة، ولا قرطا من ذلك اليوم.
(8/452)
وقال الإمام أحمد - أيضا -: نا يحيى بن
آدم: نا أبو الأحوص، عن منصور، عن الشعبي، عن البراء بن
عازب، قال: خطبنارسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يوم النحر بعد الصلاة - ولم يزد على ذَلِكَ.
وأما ذكر الخطبتين في العيد، فخرجه ابن ماجه من رواية
إسماعيل بن مسلم: نا أبو الزبير، عن جابر، قال: خرج رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفطر - أو
أضحى - فخطب قائما، ثم قعد قعدة، ثم قام.
وإسماعيل، هو المكي. ضعيف جدا.
(8/453)
9 - باب
ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم
وقال الحسن: نهوا عن حمل السلاح يوم العيد، إلا أن يخافوا
عدواً.
هذا الذي ذكره عن الحسن، قد روي مرفوعاً:
فروى أبو داود في ((مراسيله)) بإسناده، عن الضحاك، أن رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يخرج يوم
العيد بالسلاح.
وبإسناده، عن مكحول، قال: إنما كانت الحربة تحمل مع رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم العيد لأنه
كانَ يصلي إليها.
وخرج ابن ماجه بإسناد ضعيف جداً، عن ابن عباس، أن رسول
الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يلبس
السلاح في بلاد الاسلام في العيدين، إلا أن يكونوا بحضرة
العدو.
وفي إسناده: إسماعيل بن زياد، متروك.
(8/454)
قال البخاري –رحمه الله -:
(8/455)
966 - حدثنا زكريا بن يحيى أبو السكين: نا
المحاربي: نا محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير، قال: كنت مع
ابن عمر حين أصابه سنان الرمح في أخمص قدمه، فلزقت قدمه
بالركاب، فنزلت فنزعتها، وذلك بمنى، فبلغ الحجاج فجاء
يعوده، فقال الحجاج: لو نعلم من أصابك؟ قالَ: أنت أصبتني.
قالَ: وكيف؟ قال: حملت السلاح في يوم لم يكن يحمل فيه،
وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم.
(8/455)
976 - حدثنا أحمد بن يعقوب: حدثني إسحاق بن
سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، عن أبيه، قال: دخل الحجاج
على ابن عمر وأنا عنده، فقال: كيف هو؟ قالَ: صالح. قالَ:
من أصابك؟ قال: أصابني من أمر بحمل السلاح في يوم لا يحل
فيه حمله –يعني: الحجاج.
زكريا بن يحيى أبو السكين الطائي الكوفي، روى عنه البخاري
هذا الحديث، ولم يرو عنه في ((كتابه)) ، ولم يخرج لهُ أحد
من أهل الكتب الستة سواه.
وكذلك أحمد بن يعقوب المسعودي الكوفي، لم يروعنه البخاري
من أهل
الكتب، لكنه روى عنه في موضوع أخر من ((كتابه)) .
وظاهر كلام ابن عمر: يقتضي أن حمل السلاح يوم النحر غير
جائز، سواء كان في الحرم أو غيره، وكذلك حمله في الحرم.
وفي ((صحيح مسلم)) من حديث معقل، عن أبي الزبير، عن جابر،
عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
(8/455)
قال: ((لايحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح))
.
وقول ابن عمر قالَ: ((لم يكن يحمل فيه)) ، في معنى رفعه؛
لأنه إشارة إلى أن ذلك كان عادة مستمرة من عهد النبي ? -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ذلك الزمان.
ولعل النهي إنما هو عن إشتهار السلاح لا عن حمله في
القراب، كما نهى عن ذلك في المساجد.
ويدل عليه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قاضى أهل مكة عام الحديبية على أن يدخلها من قابل، وأن لا
يدخلها إلا بجلبان السلاح، وهي السيوف في القراب.
ولكن ألفاظ الأحاديث عامة، وقد يكون دخوله مكة عام القضية
بالسلاح؛ لأنه كانَ خائفاً.
وقد حكي عن عطاء ومالك والشافعي، أنه يكره إدخال السلاح
إلى الحرم لغير حاجة إليه.
وأما حمل السلاح يوم العيد، فقد حكى البخاري عن الحسن، أنه
قال: نهوا
عنه، إلا أن يخافوا عدواً.
وقد روي عنه مرفوعاً.
خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافي)) ، من
طريق علي بن عياش: ثنا إسماعيل، عن ابن أبي نعم ٍ، عن
الحسن، عن جابر، قال: نهى رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخرج السلاح في العيدين.
(8/456)
إسماعيل: كأنه: ابن عياش.
والصحيح: الموقوف.
وبوب عليه أبو بكر: ((باب: القول في لبس السلاح في العيدين
وذكر
الثغور)) .
يشير إلى أنه في الثغور التي يخاف فيها من هجم العدو غير
منهي عنه.
(8/457)
10 - باب
التبكير إلى العيد
وقال عبد الله بن بسر: إن كنا قد فرغنا في هذه الساعة،
وذلك حين التسبيح.
(8/458)
968 - حدثنا سليمان بن حرب: نا شعبة، عن
زبيد، عن الشعبي، عن البراء، قال: خطبنا النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر، فقال: ((إن أول ما
نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر)) .
ثم ذكر بقية الحديث - يعني حديث آدم، عن شعبة -، وقد سبق
قريباً، إلا أنه قال: ((اجعلها مكانها)) - أو قال -:
((اذبحها، ولن تجزي جذعة عن أحد بعدك)) .
وجه الاستدلال بحديث البراء على التبكير بصلاة العيد: أن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر أن أول ما
يبدأ به في يوم النحر الصَّلاة، ثُمَّ النحر بعد رجوعه،
والمراد باليوم
ها هنا: ما بعد طلوع الشمس، فإنه لا يجوز صلاة العيد قبل
[ذَلِكَ] بالاتفاق.
وهذا مما يرد قول من قال من أصحابنا بجواز
(8/458)
صلاة الجمعة قبل طلوع الشمس.
وقد يستدل به من يرى أن صلاة العيد تجوز قبل زوال وقت
النهي 0
ويجاب عنه بان ذكره أول ما يبدأ به في وقت متسع، لا يلزم
منه أن يكون فعله له في أول الوقت 0
وقال الشافعي: أنا الثقة، أن الحسن كان يقول: إن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغدو إلى الأضحى
والفطر حين تطلع الشمس، فيتتام طلوعها.
وأما حديث عبد الله بن بسر الذي ذكره تعليقاً:
فخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث يزيد بن
خمير الرحبي، قال: خرج عبد الله بن بسر - صاحب النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع الناس في يوم عيد
فطر - أو أضحى -، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: أنا كنا قد
فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح.
والمراد بصلاة التسبيح: صلاة الضحى.
والمراد بحينها: وقتها المختار، وهو إذا اشتد الحر.
فهذا التأخير هو الذي أنكره عبد الله بن بسر، ولم ينكر
تأخيرها إلى أن يزول وقت النهي؛ فان ذَلِكَ هوَ الأفضل
بالاتفاق، فكيف ينكره.
وقد اختلف في أول وقت صلاة العيد:
فقال أبو حنيفة وأحمد: أول وقتها إذا ارتفعت الشمس، وزال
وقت النهي.
وهو أحد الوجهين
(8/459)
للشافعية.
والثاني - لهم -: أول وقتها إذا طلعت الشمس، وان لم يزل
وقت النهي.
وهو قول مالك.
ويتخرج لأصحابنا مثله، على قولهم: إن ذوات الأسباب كلها
تفعل في أوقات النهي.
وقد خرجه بعضهم في صلاة الاستسقاء، وصلاة العيد مثلها.
وعمل السلف يدل على الأول؛ فإنه قد روي عن ابن عمر ورافع
بن خديج وجماعة من التابعين، أنهم كانوا لا يخرجون إلى
العيد حتَّى تطلع الشمس، وكان بعضهم يصلي الضحى في المسجد
قبل أن يخرج إلى العيد.
وهذا يدل على أن صلاتها إنما كانت تفعل بعد زوال وقت
النهي.
واختلفوا: هل يستحب إقامة العيدين في وقت واحد بالسوية، أو
يعجل أحدهما عن آخر؟ على قولين.
أحدهما: انهما يصليان بالسوية، وهو قول مالك.
وقال ربيعة: إذا طلعت الشمس فالتعجيل بهما - يعني: الفطر
والأضحى - أحسن من التأخير.
قال الزهري: كانوا يؤخرون العيدين حتى يرتفع النهار جداً.
وروى عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يبكر بالخروج إلى
الصلاة؛ كيلا يصلي أحد قبلها.
(8/460)
خرجه كله جعفر الفريابي في ((كتاب
العيدين))
والثاني: يستحب أن يؤخر صلاة الفطر، وتقدم الأضحى، وهو قول
أبي حنيفة والشافعي وأحمد.
وفي حديث مرسل، خرجه الشافعي، أن النبي كتب إلى عمرو بن
حزم - وهو بنجران - أن عجل الأضحى، وأخر الفطر.
وفي إسناده: إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وهو ضعيف جداً.
والمعنى في ذلك: أنه بتأخير صلاة عيد الفطر يتسع وقت إخراج
الفطرة المستحب إخراجها فيه، وبتعجيل صلاة الأضحى يتسع وقت
التضحية، ولا يشق على الناس أن يمسكوا عن الأكل حتَّى
يأكلوا من ضحاياهم.
وقد تقدم في حديث ابن عباس المخرج في ((المسند)) : وكانوا
لا يخرجون حتى يمتد الضحى، فيقولون: نطعم حتى لا نعجل عن
صلاتنا.
وأظنه من قول عطاء.
ويكون تعجيل صلاة الأضحى بمقدار وصول الناس من المزدلفة
إلى منى ورميهم وذبحهم - نص عليه أحمد في رواية حنبل -؛
ليكون أهل الأمصار تبعاً للحاج في ذَلِكَ؛ فإن رمي الحاج
الجمرة بمنزلة صلاة العيد لأهل الأمصار.
وأما آخر وقت صلاة العيد فهو: زوال الشمس.
قال عطاء: كل عيد
(8/461)
في صدر النهار.
وقال مجاهد: كانوا يعدون العيد في صدر النهار.
وقال مجاهد: كل عيد للمسلمين فهو قبل نصف النهار.
وقال أحمد: لا يكون الخروج للعيدين إلا قبل الزوال.
وأما إن لم يعلم بالعيد إلا في أثناء النهار، فإن علم به
قبل زوال الشمس خرجوا من وقتهم، وصلوا صلاة العيد.
وإن شهدوا بعد الزوال في أثناء النهار، فقال أكثر العلماء:
يخرجون من الغد للصلاة، وهو قول عمر بن عبد العزيز والثوري
وأبي حنيفة والأوزاعي والليث وإسحاق وأحمد وابن المنذر 0
واستدلوا بما روى أبو عمير بن أنس، قال: حدثني عمومة لي من
الأنصار من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قالوا: غم علينا هلال شوال، فأصبحنا صياماً، فجاء ركب من
آخر النهار، فشهدوا عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر الناس أن
يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا لعيدهم من الغد.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
وصححه إسحاق بن راهويه والخطابي والبيهقي.
واحتج به أحمد.
وتوقف فيه الشافعي، وقال: لو ثبت قلنا به.
(8/462)
وقالت طائفة: تسقط ولا تصلي بعد ذلك، كما
لا تقضى الجمعة إذا فاتت، وهو قول مالك وأبي ثور والشافعي
- في قول له.
والقول المشهور، عنه: أنه إن أمكن جمع الناس في بقية يومهم
لصغر البلد
خرجوا، وصلوا في بقية اليوم، وإلا أخروه إلى الغد.
وبنى ذلك أصحابه على أن التأخير إلى الغد قضاء، أو أداء.
فإن قيل: إنه أداء، لم تصل بعد الزوال؛ لأن وقت أدائها قد
فات.
وإن قيل: إنَّهُ قضاء - وهو أصح عندهم -، قضيت في بقية
النهار، إذا أمكن جمع الناس فيهِ.
وهو أفضل - عندهم - من تأخيرها إلى الغد، في أصح الوجهين
عندهم. ولا خلاف عندهم، أنه إذا لم يعلم بالعيد إلاّ في
الليلة الثانية، أنه يصلي من الغد.
قالوا: ويكون أداء، بغير خلاف.
واتفقوا على أن هذه الشهادة لا تقبل بالنسبة إلى صلاة
العيد، بل تصلى من الغد أداء بغير خلاف.
قال في ((شرح المهذب)) : قال أصحابنا: ليس يوم الفطر أول
شوال مطلقا وإنما هو اليوم الذي يفطر فيه الناس؛ بدليل
حديث:
((فطركم يوم تفطرون)) وكذلك يوم النحر، وكذلك يوم عرفة هوَ
اليوم الذي يظهر للناس، أنه يوم عرفة، سواء كانَ التاسع أو
العاشر وقال الشافعي في ((الأم)) عقب هذا الحديث: فبهذا
نأخذ. قالَ: وإنما كلف العباد الظاهر، ولم يظهر الفطر إلا
يوم أفطروا. انتهى.
(8/463)
وقال أصحاب أبي حنيفة - فيمن شهد بيوم عرفة
بعرفة، على وجه لا يتمكن الناس فيه من تلافي الوقوف، على
تقدير صحة شهادتهم في ذلك العام -: إن شهادتهم غير مقبولة؛
لما يؤدى إليه قبولها من إيقاع الناس في الفتنه، بتفويت
حجهم.
ذكره صاحب ((الكافي)) - منهم.
(8/464)
11 - باب
فضل العمل في أيام التشريق
وقال ابن عباس ((واذكروا الله في أيام معلومات)) : أيام
العشر. والأيام المعدودات: أيام التشريق.
وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر،
ويكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وكبر محمد بن علي خلف النافلة.
بوب على فضل أيام التشريق والعمل فيها.
وذكر في الباب أيام التشريق وأيام العشر، وفضلهما جميعاً.
وذكر ابن عباس: أن الأيام المعلومات المذكورة في سورة الحج
هي أيام العشر، والأيام المعدودات المذكورة في سورة البقرة
هي أيام التشريق.
وفي كل منهما اختلاف بين العلماء:
فأما المعلومات:
فقد روي عن ابن عباس، أنها أيام عشر ذي الحجة، كما حكاه
عنه البخاري.
وروي - أيضاً - عن ابن عمر، وعن عطاء والحسن ومجاهد وعكرمة
وقتادة.
وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد - في المشهور، عنه.
وقالت طائفة: الأيام المعلومات: يوم النحر ويومان بعده،
روي عن ابن عمر وغيره من السلف. وقالوا: هي أيام الذبح.
وروي - أيضاً - عن علي وابن عباس، وعن عطاء الخراساني
والنخعي وهو قول
(9/5)
مالك وأبي يوسف ومحمد وأحمد - في رواية
عنه.
ومن قال: أيام الذبح أربعة، قال: هي يوم النحر وثلاثة أيام
بعده.
وقد روي عن أبي موسى الأشعري، أنه قال - في خطبته يوم
النحر -: هذا يوم الحج الأكبر، وهذه الأيام المعلومات
التسعة التي ذكر الله في القرآن، لا يرد فيهن
الدعاء، هذا يوم الحج الأكبر، وما بعده من الثلاثة اللائي
ذكر الله الأيام المعدودات، لا يرد فيهن الدعاء.
وهؤلاء جعلوا ذكر الله فيها هو ذكره على الذبائح.
وروي عن محمد بن كعب، أن المعلومات أيام التشريق خاصة.
والقول الأول أصح؛ فان الله سبحانه وتعالى قالَ – بعد ذكره
في هذه الأيام المعلومات: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ} [الحج:29] .
والتفث: هو ما يصيب الحاج من الشعث والغبار.
وقضاؤه: إكماله.
وذلك يحصل يوم النحر بالتحلل فيه من الإحرام، فقد جعل ذلك
بعد ذكره في الأيام المعلومات، فدل على أن الأيام
المعلومات قبل يوم النحر الذي يقضى فيه التفث ويطوف فيه
بالبيت العتيق.
فلو كانت الأيام المعلومات أيام الذبح لكان الذكر فيها بعد
قضاء التفث ووفاء النذور
(9/6)
والتطوف بالبيت العتيق، والقران يدل على أن
الذكر فيها قبل ذلك.
وأما قوله تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الأنعام} [الحج:28] .
فأما أن يقال: إن ذكره على الذبائح يحصل في يوم النحر، وهو
أفضل أوقات الذبح، وهو آخر العشر.
وإما أن يقال: إن ذكره على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، ليس
هو ذكره على الذبائح، بل ذكره في أيام العشر كلها، شكراً
على نعمة رزقه لنا من بهيمة الأنعام؛ فإن لله تعالى علينا
فيها نعماً كثيرة دنيوية ودينية.
وقد عدد بعض الدنيوية في سورة النحل، وتختص عشر ذي الحجة
منها بحمل أثقال الحاج، وإيصالهم إلى قضاء مناسكهم
والانتفاع بركوبها ودرها ونسلها وأصوافها وأشعارها.
وأما الدينية فكثيرة، مثل: إيجاب الهدي وإشعاره وتقليده،
وغالبا يكون ذلك في أيام العشر أو بعضها، وذبحه في آخر
العشر، والتقرب به إلى الله، والأكل من لحمه، وإطعام
القانع والمعتر.
فلذلك شرع ذكر الله في أيام العشر شكراً على هذه النعم
كلها، كما صرح به في قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا
لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج:
37] ، كما أمر بالتكبير عند قضاء صيام رمضان، وإكمال
العدة، شكراً على ما هدانا إليه من الصيام والقيام المقتضي
لمغفرة الذنوب السابقة.
وأما الأيام المعدودات:
فالجمهور على أنها أيام التشريق، وروي عن ابن عمر وابن
عباس وغيرهما.
واستدل ابن عمر يقوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ
فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] وإنما يكون
(9/7)
التعجيل في ثاني أيام التشريق.
قال الإمام أحمد: ما أحسن ما قال ابن عمر.
وقد روي عن ابن عباس وعطاء، أنها أربعة أيام: يوم النحر،
وثلاثة بعده.
وفي إسناد المروي عن ابن عباس ضعف.
وأما ما ذكره البخاري عن ابن عمر وأبي هريرة، فهو من رواية
سلام أبي المنذر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، أن ابن عمر
وأبا هريرة كانا يخرجان في العشر إلى السوق يكبران، لا
يخرجان إلاّ لذلك.
خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في ((كتاب الشافي)) وأبو
بكر المروزي القاضي في ((كتاب العيدين)) .
ورواه عفان: نا سلام أبو المنذر - فذكره، ولفظه: كان أبو
هريرة وابن عمر يأتيان السوق أيام العشر، فيكبران، ويكبر
الناس معهما، ولا يأتيان لشيء إلا لذلك.
وروى جعفر الفريابي، من رواية يزيد بن أبي زياد، قال: رأيت
سعيد بن جبير
وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهدا - أو اثنين من هؤلاء
الثلاثة - ومن رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر:
((الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر. الله
أكبر ولله الحمد)) .
(9/8)
وروى المروزي، عن ميمون بن مهران، قال:
أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر، حتى كنت أشبهه
بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم
التكبير.
وهو مذهب أحمد، ونص على أنه يجهر به.
وقال الشافعي: يكبر عند رؤية الأضاحي.
وكأنه أدخله في التكبير على بهيمة الأنعام المذكور في
القران، وهو وإن كان داخلا فيه، إلا أنه لا يختص به، بل هو
أعم من ذلك كما تقدم.
وهذا على اصل الشافعي وأحمد: في أن الأيام المعلومات هي
أيام العشر، كما
سبق.
فأما من قال: هي أيام الذبح، فمنهم من لم يستحب التكبير في
أيام العشر، وحكي عن مالك وأبي حنيفة.
ومن الناس من بالغ، وعده من البدع، ولم يبلغه ما في ذلك من
السنة.
وروى شعبة، قال: سالت الحكم وحماداً عن التكبير أيام
العشر؟ فقالا: لا؛ محدث.
خرّجه المروزي.
وخرّج الإمام أحمد من حديث ابن عمر، عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((ما من أيام اعظم عند
الله ولا أحب إليه العمل فيه من هذه الأيام العشر؛ فاكثروا
فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)) .
ويروي نحوه من حديث ابن عباس – مرفوعاً، وفيه: ((فاكثروا
فيهن
(9/9)
التهليل والتكبير؛ فإنها أيام تهليل وتكبير
وذكر الله عز وجل)) .
وأما ما ذكره عن محمد بن علي في التكبير خلف النافلة، فهوَ
في أيام التشريق.
ومراده: أن التكبير يشرع في أيام العشر وأيام التشريق
جميعاً، وسيأتي ذكر التكبير في أيام التشريق فيما بعد - إن
شاء الله سبحانه وتعالى.
قال البخاري - رحمه الله تعالى -:
(9/10)
969 - نا محمد بن عرعرة: نا شعبة، عن
سليمان، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((ما
العمل في أيام أفضل منها في هذه الأيام - يعني: أيام العشر
-)) قالوا: ولا الجهاد؟ قالَ: ((ولا الجهاد، إلاّ رجل يخرج
يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء)) . هكذا في أكثر النسخ
المعتمدة، وفي أكثر النسخ: ((ما العمل في العشر أفضل منه
في هذه الأيام)) –وكأنه يشير إلى أيام التشريق -، والحديث
بهذا اللفظ غير معروف.
وفيه: تفصيل العمل في أيام التشريق وأيام العشر جميعاً.
ولعل هذا من تصرف بعض الرواة، حيث أشكل عليه إدخال الحديث
باللفظ المشهور في ((باب: فضل العمل في أيام التشريق)) .
والبخاري اتبع عبد الرزاق؛ فانه خرج هذا الحديث في (مصنفه)
في ((باب: فضل أيام التشريق)) –أيضاً.
وقد ذكر أن البخاري وإن بوب
(9/10)
على أيام التشريق، لكنه ذكر في الباب فضل
أيام العشر وأيام التشريق جميعا، ولهذا ذكر عن ابن عباس
تفسير الأيام المعلومات، والأيام المعدودات. وعن ابن عمر
وأبي هريرة التكبير في أيام العشر. وعن محمد بن علي
التكبير في أيام التشريق خلف النوافل، فعلم انه أراد ذكر
فضائل هذه الأيام جميعها، وليس في فضل العمل في أيام
التشريق حديث مرفوع، فخرج فيه حديث فضل العمل في أيام
العشر.
وهذا الحديث حديث عظيم جليل.
وسليمان الذي رواه عنه شعبة هو الأعمش، وقد رواه جماعة عن
الأعمش بهذا الإسناد، وهو المحفوظ -: قاله الدارقطني
وغيره.
واختلف على الأعمش فيه:
ورواه عن مسلم البطين مع الأعمش: حبيب بن أبي عمرة ومخول
بن راشد.
ورواه عن سعيد بن جبير مع البطين: أبو صالح ومجاهد وسلمة
بن كهيل وأبو إسحاق والحكم وعدي بن ثابت وغيرهم، مع اختلاف
على بعضهم فيه.
(9/11)
ورواه عن ابن عباس مع سعيد بن جبير، عطاء
وطاوس ومجاهد وعكرمة
ومقسم، مع اختلاف على بعضهم يطول ذكره.
ولعل مسلماً لم يخرجه للاختلاف في إسناده. والله سبحانه
وتعالى أعلم.
وهذا الحديث نص في أن العمل المفضول يصير فاضلا إذا وقع في
زمان فاضل، حتى يصير أفضل من غيره من الأعمال الفاضلة؛
لفضل زمانه.
وفي أن العمل في عشر ذي الحجة أفضل من جميع الأعمال
الفاضلة في غيره.
ولا يستثنى من ذلك سوى أفضل أنواع الجهاد، وهو أن يخرج
الرجل بنفسه
وماله، ثم لا يرجع منهما بشيء.
وقد سئل: ((أي الجهاد أفضل؟)) ، قالَ: ((من عقر جواده،
وأهريق
دمه)) .
وسمع رجلا يقول: اللَّهُمَّ اعطني أفضل ما تعطي عبادك
الصالحين، فقالَ لهُ:
((إذن يعقر جوادك، وتستشهد)) .
فهذا الجهاد بخصوص يفضل على العمل في العشر، وأما سائر
أنواع الجهاد مع سائر الأعمال، فإن العمل في عشر ذي الحجة
أفضل منها.
وفي رواية: ((وأحب الله عز وجل)) .
فإن قيل: فإذا كان كذلك فينبغي أن يكون الحج أفضل من
الجهاد؛
(9/12)
لأن الحج يختص بهده العشر، وهو من أفضل
أعماله، ومع هذا فالجهاد أفضل منه؛ لما في ((الصحيحين)) ،
عن أبي هريرة، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنه قالَ: ((أفضل الأعمال الإيمان بالله
ورسوله، ثُمَّ الجهاد في سبيل الله، ثُمَّ حج مبرور)) .
قيل: للجمع بينهما وجهان:
أحدهما: بان يكون الحج أفضل من سائر أنواع الجهاد، إلاّ
الجهاد الذي لا يرجع صاحبه منه بشيء من نفسه وماله، فيكون
هذا الجهاد هو الذي يفضل على الحج
خاصة.
وقد روي عن طائفة من الصحابة تفضيل الحج على الجهاد،
ومنهم: عمر وابنه وأبو موسى وغيرهم، عن مجاهد وغيره.
فيحمل على تفضيله على ما عدا هذا الجهاد الخاص، ويجمع بذلك
بين النصوص كلها.
الوجه الثاني: أن الجهاد في نفسه أفضل من الحج، لكن قد
يقترن بالحج ما يصير به أفضل من الجهاد، وقد يتجرد عن ذلك
فيكون الجهاد أفضل منه حينئذ.
ولذلك أمثله:
منها: أن يكون الحج مفروضا، فيكون حينئذ أفضل من التطوع
بالجهاد، هذا قول جمهور العلماء.
وقد روي صريحاً، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
وروي - مرفوعاً - من وجوه متعددة، في أسانيدها لين.
(9/13)
ونص عليه الإمام أحمد وغيره.
وقد دل عليه: قول النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حكاية عن ربه عز وجل: ((ما تقرب إلي عبدي بمثل
أداء ما افترضت عليه)) .
وقد خرجه البخاري في ((كتابه)) هذا.
ومنها: أن يكون الحاج ليس من أهل الجهاد، فحجه أفضل من
جهاده،
كالمرأة.
وقد خرج البخاري حديث عائشة، أنها قالت: يا رسول الله نرى
الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قالَ: ((لكن أفضل الجهاد
حج مبرور))
ومنها: أن يستوعب عمل الحج جميع أيام العشر، ويؤتي به على
أكمل الوجوه، وجوه البر من أداء الواجبات وفعل المندوبات
واجتناب المحرمات والمكروهات، مع كثرة ذكر الله عز وجل
والإحسان إلى عباده، وكثرة العج والثج، فهذا الحج قد يفضل
على الجهاد.
وقد يحمل عليه ما روي عن الصحابة من تفضل الحج على الجهاد،
كما سبق.
وإن وقع عمل الحج في جزء يسير من العشر، ولم يؤت به على
الوجه الكامل من البر، فإن الجهاد حينئذ أفضل منه.
ويدل عليه - أيضاً -: أن النبي لما سئل عن عمل يعدل
الجهاد، فقال: ((هل تستطيع إذا خرج المجاهد، أن تقوم فلا
تفتر، وتصوم فلا
(9/14)
تفطر؟)) .
فدل على أن العمل من [فتور] في أي وقت كانَ يعدل الجهاد،
فإذا وقع هذا العمل الدائم في العشر بخصوصه في عدد أيامه
من سائر السنة، إلا من أفضل الجهاد بخصوصه كما تقدم.
ولهذا كان سعيد بن جبير - وهو راوي هذا الحديث، عن ابن
عباس - إذا دخل العشر اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر
عليه.
وروي عنه، أنه قال: لا تطفئوا مصابيحكم في العشر - يعجبه
العبادة.
فإن قيل: هل المراد: تفضيل العمل في هذه العشر على العمل
في كل عشر غيره من أيام الدنيا، فيدخل في ذلك عشر رمضان
وغيره، أم على العمل في أكثر من عشر أخر من الأيام، وإن
طالت المدة؟
قيل: أما تفضيل العمل فيهِ على العمل في كل عشر غيره، فلا
شك في ذَلِكَ.
ويدل عليه: ما خرجه ابن حبان في ((صحيحه)) ، من حديث جابر،
عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ((ما
من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة)) . فقال رجل:
يا رسول الله، هو أفضل أو عدتهن جهاد في سبيل الله؟ قالَ:
((هوَ أفضل من عدتهن جهاد في سبيل الله عز وجل)) .
فيدخل في ذلك تفضيل العمل في عشر ذي الحجة على العمل في
(9/15)
جميع أعشار الشهور كلها، ومن ذلك عشر
رمضان.
لكن فرائض عشر ذي الحجة أفضل من فرائض سائر الأعشار،
ونوافله أفضل من نوافلها، فأما نوافل العشر فليست أفضل من
فرائض غيره، كما سبق تقريره في الحج والجهاد.
وحينئذ؛ فصيام عشر رمضان أفضل من صيام عشر ذي الحجة؛ لأن
الفرض أفضل من النفل.
وأما نوافل عشر ذي الحجة فأفضل من نوافل عشر رمضان، وكذلك
فرائض عشر ذي الحجة تضاعف أكثر من مضاعفة فرائض غيره.
وقد كان عمر يستحب قضاء رمضان في عشر ذي الحجة؛ لفضل
أيامه، وخالفه في ذَلِكَ علي، وعلل قوله باستحباب تفريغ
أيامه للتطوع وبذلك علله أحمد وإسحاق، وعن أحمد في ذَلِكَ
روايتان.
وأما تفضيل العمل في عشر ذي الحجة على العمل في أكثر من
عشرة أيام من
غيره، ففيه نظر.
وقد روي ما يدل عليهِ:
فخرج الترمذي وابن ماجه من رواية النهاس بن قهم، عن قتادة،
عن ابن
المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي قالَ: ((ما من أيام احب
إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل
يوم منها بسنة، وكل ليلة منها بليلة القدر)) .
(9/16)
والنهاس، ضعفوه.
وذكر الترمذي عن البخاري، أن الحديث يروى عن قتادة، عن ابن
المسيب - مرسلا.
وروى ثوير بن أبي فاختة - وفيه ضعف -، عن مجاهد، عن ابن
عمر، قالَ: ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة، ليس
العشر؛ فإن العمل فيهِ يعدل عمل سنة.
وممن روي عنه: أن صيام كل يوم من العشر يعدل سنة: ابن
سيرين وقتادة وعن الحسن: صيام يوم منه يعدل شهرين.
وروى هارون بن موسى النحوي: سمعت الحسن يحدث، عن أنس،
قالَ: كان يقال في أيام العشر بكل ألف يوم، ويوم عرفة عشرة
الآف يوم.
وفي ((صحيح مسلم)) ، من حديث أبي قتادة - مرفوعا - ((إن
صيامه كفارة سنتين)) .
وهذه النصوص: تدل على أن كل عمل في العشر فإنه أفضل من
العمل في غيره، أما سنة أو أكثر من ذلك أو اقل. والله
سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك كله.
(9/17)
وحديث جابر الذي خرجه ابن حبان: يدل على أن
أيام العشر أفضل من الأيام مطلقا.
وقد خرجه أبو موسى المديني من الوجه الذي خرجه ابن حبان،
بزيادة فيهِ، وهي: ((ولا ليالي أفضل من لياليهن)) .
وفي ((مسند البزار)) من وجه آخر، عن جابر، عن النَّبيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((أفضل أيام
الدنيا العشر)) .
وروي مرسلاً.
وقيل: إنه أصح.
وقد سبق قول ابن عمر في تفضيل أيام العشر على يوم الجمعة،
الذي هوَ أفضل أيام الدنيا.
وقال مسروق في قوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} هي أفضل أيام
السنة.
وهذه العشر تشتمل على يوم عرفة.
وفي ((صحيح ابن حبان)) عن جابر - مرفوعا -: ((إنه أفضل
أيام الدنيا)) وفيه: يوم النحر.
وفي حديث عبد الله بن قرط، عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالَ: ((أعظم الأيام عند الله يوم
النحر، ثم يوم القر)) .
خرّجه أبو داود وغيره.
(9/18)
وقد سبق في الحديث المرفوع: أن صيام كل يوم
[منه] بسنة، وقيام كل ليلة منه يعدل ليلة القدر.
وهذا يدل على أن عشر ذي الحجة أفضل من عشر رمضان، لياليه
وأيامه.
وقد زعم طائفة من أصحابنا: أن ليلة الجمعة أفضل من ليلة
القدر.
وقد تقدم عن ابن عمر، أن أيام العشر أفضل من يوم الجمعة،
فلا يستنكر حينئذ تفضيل ليالي عشر ذي الحجة على ليلة
القدر.
وعلى تقدير أن لا يثبت ذلك، فقال بعض أعيان أصحابنا
المتأخرين: مجموع عشر ذي الحجة أفضل من مجموع عشر رمضان،
وإن كان في عشر رمضان ليلة لا تفضل عليها غيرها. والله
سبحانه وتعالى أعلم.
وروى سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن كعب: أحب الزمان إلى
الله الشهر الحرام، وأحب الأشهر الحرم إلى الله ذو الحجة،
وأحب ذي الحجة إلى الله العشر الأول.
وروي عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة – مرفوعا، ولا يصح،
وكذا قال سعيد بن جبير: ما من الشهور أعظم حرمة من ذي
الحجة.
وفي ((مسند البزار)) من حديث أبي سعيد - مرفوعا -: ((سيد
الشهور
(9/19)
رمضان، وأعظمها حرمة ذو الحجة)) .
وفي إسناده مقال.
وفي ((مسند الإمام أحمد)) ، عن أبي سعيد، أن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال - في خطبته في حجة
الوداع يوم النحر -: ((ألا إن أحرم الأيام يومكم هذا،
وأحرم الشهور شهركم هذا، وأحرم البلاد بلدكم هذا)) .
وروي هذا من حديث جابر، ووابصة، ونبيط بن شريط وغيرهم -
أيضاً.
وهذا كله يدل على أن شهر ذي الحجة أفضل الأشهر الحرم؛ حيث
كانَ أعظمها حرمة.
وروي عن الحسن: أن أفضلها المحرم.
وأما ما قاله بعض الفقهاء الشافعية: أن أفضلها رجب: فقوله
ساقط مردود. والله تعالى أعلم.
(9/20)
12 - باب
التكبير أيام منى، وإذا غدا إلى عرفة
وكان عمر يكبر في قبته بمنى فيسمع أهل المسجد فيكبرون،
ويكبر أهل الأسواق حتَّى ترتج منى تكبيرا.
وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام، وخلف الصلوات، وعلى
فراشه، وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه، تلك الأيام جمعا.
وكانت ميمونة تكبر يوم النحر.
وكان النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر عبد العزيز
ليالي التشريق مع الرجال في المسجد.
قد تقدم: أن الأيام المعدودات التي أمر الله بذكره فيها هي
أيام منى.
وهل هي الأربعة كلها، أو أيام الذبح منها؟ فيهِ خلاف سبق
ذكره.
وهو مبني على أن ذكر الله فيها: هل هوَ ذكره على الذبائح.
أو أعم من ذَلِكَ؟
والصحيح: أنه أعم من ذَلِكَ.
وفي ((صحيح مسلم)) ، أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قالَ في أيام منى: ((إنها أيام أكل وشرب وذكر
الله عز وجل)) .
وذكر الله في هذه الأيام نوعان:
أحدهما: مقيد عقيب الصلوات.
(9/21)
والثاني: مطلق في سائر الأوقات.
فأما النوع الأول:
فاتفق العلماء على أنه يشرع التكبير عقيب الصلوات في هذه
الأيام في الجملة، وليس فيهِ حديث مرفوع صحيح، بل إنما
فيهِ آثار عن الصحابة ومن بعدهم، وعمل المسلمين عليهِ.
وهذا مما يدل على أن بعض ما أجمعت الأمة عليهِ لم ينقل
إلينا فيهِ نص صريح عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، بل يكتفى بالعمل به.
وقد قالَ مالك في هذا التكبير: إنه واجب.
قالَ ابن عبد البر: يعني وجوب سنة.
وهو كما قالَ.
وقد اختلف العلماء في أول وقت هذا التكبير وآخره.
فقالت طائفة: يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر
من آخر أيام التشريق.
فإن هذه أيام العيد، كما في حديث عقبة بن عامر، عن
النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ:
((يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل
الإسلام)) .
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وصححه.
وقد حكى الإمام أحمد هذا القول إجماعاً من الصحابة، حكاه
عن عمر وعليّ وابن مسعود وابن عباس.
فقيل له: فابن عباس اختلف عنه؛ فقالَ: هذا هوَ الصحيح عنه،
وغيره لا يصح عنه.
نقله الحسن بن ثواب، عن أحمد.
(9/22)
وإلى هذا ذهب أحمد؛ لكنه يقول: إن هذا في
حق أهل الأمصار، فأما أهل الموسم فإنهم يكبرون من صلاة
الظهر يوم النحر؛ لأنهم قبل ذَلِكَ مشتغلون بالتلبية.
وحكاه عن سفيان بن عيينة، وقال: هوَ قول حسن.
ويمتد تكبيرهم إلى آخر أيام التشريق - أيضاً - على المشهور
عنه.
ونقل حرب، عنه، أنهم يكبرون إلى صلاة الغداة من آخر أيام
التشريق.
وممن فرق بين الخارج وأهل الأمصار: أبو ثور. وروى الخضر
الكندي، عن
عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، قال: إذا كان عليه
تكبير وتلبية بدأ بالتكبير، ثم التلبية.
قال أبو بكر بن جعفر: لم يروها غيره.
قلت: الخضر هذا، غير مشهور، وهو يروي عن عبد الله بن أحمد
المناكير التي تخالف روايات الثقات، عنه، والذي نقل
الثقات، عن أحمد، أن الحاج لا يكبر حتى يقطع التلبية، فكيف
يجتمعان عليهِ؟
وقد حملها أبو بكر إلى ما إذا اخر الحاج رمي جمرة العقبة
حتَّى صلى الظهر؛ فإنه يجتمع عليهِ في صلاة الظهر - حينئذ
- تلبية وتكبير.
ووجهه: بأن هذا الوقت وقت التكبير، وإنما
(9/23)
صار وقت تلبية في حق هذا لتأخيره الرمي،
وهو نوع تفريط منه، فلذلك بدأ بالتكبير قبل التلبية.
والاجماع الذي ذكره أحمد، إنما هو في ابتداء التكبير يوم
عرفة من صلاة الصبح.
أما اخر وقته، فقد اختلف فيه الصحابة الذين سماهم.
فأما علي، فكان يكبر من صبح يوم عرفة إلى العصر من آخر
أيام التشريق.
وهي الرواية التي صححها الإمام أحمد، عن ابن عباس.
وكذلك روي عن عمر.
وروي، عنه: إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق.
وأنكره يحيى القطان.
وإلى قول علي ذهب الثوري وابن أبي ليلى وشريك وإسحاق.
ولم يفرق بين أهل منى وغيرها.
وكذلك أكثر العلماء، وهو قول الثوري.
وكذلك قال: إذا أجتمع التكبير والتلبية بدأ بالتكبير.
وأما ابن مسعود، فإنه كان يكبر من صلاة الغداة يوم عرفة
إلى الصلاة العصر يوم النحر.
وهو قول أصحابه، كالأسود وعلقمة، وقول النخعي وأبي حنيفة.
وروى خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: التكبير من الصلاة
الظهر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق.
وهذه الرواية التي ضعفها أحمد، وذكر أنها مختلفة.
(9/24)
قال عبد الرزاق: وبلغني عن زيد بن ثابت -
مثله.
وعن الحسن، قال: يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة
الظهر من يوم النفر الأول.
وروى العمري، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يكبر من صلاة
الظهر يوم النحر إلى صلاة الفجر، من آخر أيام التشريق.
وروى الواقدي بأسانيده، عن عثمان وابن عمر وزيد بن ثابت
وأبي سعيد -
نحوه.
وعن عطاء، أن الأئمة كانوا يكبرون صلاة الظهر يوم النحر،
يبتدؤن بالتكبير كذلك إلى آخر أيام التشريق.
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز التكبير من صلاة الظهر يوم
النحر إلى صبح آخر أيام التشريق.
وإليه ذهب مالك والشافعي – في أشهر أقواله.
وله قول آخر كقول علي ومن وافقه.
وله قول ثالث: بيدأ من ليلة النحر إلى صلاة الفجر من آخر
أيام التشريق.
والمحققون من أصحابه على أن هذه الاقوال الثلاثه في حق أهل
الأ مصار، فأما أهل الموسم بمنى، فإنهم يبدءون بالتكبير
عقيب صلاة الظهر يوم النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق
بغير خلاف، ونقلوه عن الشافعي.
وهذا يوافق قول أحمد في ابتدائه.
وأختار جماعة من أصحابه القول بأن ابتداءه في الأمصار من
صبح
(9/25)
يوم عرفة وانتهاءه عصر آخر يوم من أيام
التشريق.
منهم المزني وأبن سريج وابن المنذر والبيهقي وغيرهم من
الفقهاء المحدثين منهم.
قالوا: وعليه عمل الناس في الأمصار.
وفي المسألة للسلف أقوال أخر.
وفي الباب حديث مرفوع، لايصح إسناده.
وخرجه الحاكم من حديث علي وعمار.
وضعفه البيهقي، وهو كما قال.
وقد أشار البخاري إلى مسألتين من مسائل هذا التكبير.
إحداهما:
أن التكبير يكون خلف الفرائض.
وهل يكبر خلف صلاة التطوع؟
فقد تقدم في باب الماضي، عن محمد بن علي –وهو: أبو جعفر -،
أنه كانَ يكبر خلف النوافل.
وإلى قوله ذهب الشافعي – في أشهر قوليه – وابن المنذر.
وقال أكثر العلماء: لايكبر عقب النوافل.
وأختلفوا في التكبير عقب صلاة عيد النحر:
فقال مجاهد: يكبر.
وقال أحمد: إن ذهب رجل إلى ذا فقد روي فيه عن بعض
التابعين، والمعروف في المكتوبة.
وقال أبو بكر ابن جعفر –من أصحابنا -: يكبر؛ لأن صلاة
العيد عندنا فرض كفاية، فهي ملحقة
(9/26)
بالفرائض، وهو قول إسحاق بن راهويه، وحكاه
عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز والشعبي وعطاء الخراساني
وغيرهم.
وللشافعي قولان.
واختلفوا: هل يكبر من صلى الفرض وحده؟ على قولين.
أحدهما: لايكبر، وهومروي عن ابن عمر.
وذكره سفيان الثوري، عن أبي جعفر، عن أنس.
وقال ابن مسعود: ليس بالتكبير في أيام التشريق على الواحد
والاثنين، التكبير على من صلى في جماعة.
وممن قال: لايكبر إذا صلى الفرض وحده: الثوري وأبو حنيفة
وأحمد - في
رواية.
والقول الثاني: وهو قول الشعبي والنخعي والأوزاعي والثوري
– في رواية
أخرى – والحسن بن صالح ومالك والشافعي وأحمد في رواية
أخرى.
وقال هؤلاء كلهم: يكبر في السفر والحضر.
وقال أبو حنيفة: لايكبر المسافر إلا إذا اقتدى بالمقيم،
تبعاً له، واتفقوا على أن الحاج يكبرون بمنى.
المسألة الثانية:
أن النساء كن يكبرن إذا صلين مع الرجال في المسجد خلف أبان
بن عثمان وعمر بن عبد العزيز – يعني: مسجد المدينة - في
ليالي أيام التشريق.
(9/27)
وهذا يدل على أن النساء إنما كن يشهدن
المساجد بالليل، كما سبق.
ولا خلاف في أن النساء يكبرن مع الرجال تبعاً، إذا صلين
معهم جماعة، ولكن المرأة تخفض صوتها بالتكبير.
وإن صلت منفردة، ففي تكبيرها الرجل المنفرد، بل هي أولى
بعدم التكبير.
وإن صلى النساء جماعة، ففي تكبيرهن قولان – أيضاً -، وهما
روايتان عن الثوري وأحمد.
ومذهب أبي حنيفة: لايكبرن.
ومذهب مالك والشافعي: يكبرن.
النوع الثاني:
التكبير المطلق، الذي لا يتقيد بوقت.
وقد ذكر البخاري عن عمر وابن عمر، أنهما كانا يكبران بمنى
– يعني: في غير إدبار الصلوات -، وأن الناس كانوا يكبرون
بتكبير عمر حتى ترتج منى.
وعن ميمونة، أنها كانت تكبر يوم النحر.
وقد روى أبو عبيد: حدثني يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن
عطاء، عن عبيد بن عمير، أن عمر كان يكبر في قبته بمنى،
فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، فيسمعه أهل السوق فيكبرون حتى
ترتج منى تكبيراً.
وخرجه عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمر بن دينار: سمعت
(9/28)
عبيد بن عمير - فذكره بمعناه.
وخرجه وكيع في ((كتابه)) ، عن طلحة، عن عطاء.
وخرجه - أيضاً -، عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، أن عمر
كان يكبر تلك الأيام بمنى، ويقول: التكبير واجب على الناس،
ويتأول هذه الآية: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أيام
مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] .
وذكر مالك في ((الموطأ)) ، انه بلغه، أن عمر بن الخطاب خرج
الغد من يوم النحر، حين ارتفع النهار شيئاً، فكبر الناس
بتكبيره، ثم خرج حين زاغت الشمس، فكبر، فكبر الناس
بتكبيره، حتى يتصل التكبير ويبلغ البيت، فيعلم أن عمر قد
خرج يرمي.
وهذا منصوص الشافعي، قال في المصلي: إذا سلم كبر خلف
الفرائض والنوافل وعلى كل حال.
وذكر في ((الأم)) من هذا الباب، أنه يكبر الحائض والجنب
وغير المتوضىء في جميع الساعات من الليل والنهار ومذهب
مالك، انه لا يكبر في أيام التشريق في غير دبر الصلوات.
قال: كذلك كان من يقتدي به يفعل.
ذكره صاحب ((تهذيب المدونة)) .
وتأول بعض أصحابه تكبير عمر بمنى على أنه كان عند رمي
الجمار وهو تأويل فاسد ولم يذكر أصحابنا التكبير في عيد
النحر إلا في أدبار الصلوات، غير
(9/29)
أنهم ذكروا إظهار التكبير في ليلة العيد،
وفي الخروج إلى المصلى إلى أن يخرج الإمام، والتكبير مع
الإمام إذا كبر في خطبته.
وحكى بعضهم خلافاً عن أحمد في التكبير في حال الرجوع من
المصلي إلى المنزل.
خرج البخاري في هذا الباب حديثين:
الأول:
(9/30)
970 - ثنا أبونعيم: ثنا مالك بن أنس، حدثني
محمد بن أبي بكر الثقفي، قال: سألت أنساً - ونحن غاديان من
منى إلى عرفات – عن التلبية: كيف كنتم تصنعون مع النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالَ: كانَ يلبي
الملبي، لاينكر عليهِ، ويكبر المكبر، لا ينكر عليهِ 0
وقد أعاده في ((كتاب الحج)) ، عن عبد الله بن يوسف، وفي
حديثه: كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله ? -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: كان يهل منا
المهل فلا ينكر
عليه، ويكبر منا المكبر، فلا ينكر عليه.
في هذا الحديث: دليل على أن إظهار التكبير يوم عرفة مشروع،
ولو كان صاحبه محرماً قاصداً عرفة للوقوف بها، مع أن شعار
الإحرام التلبية.
فإذا لم ينكر عليه إظهار التكبير للمحرم الذي وظيفته إظهار
التلبية، فلغير المحرم من أهل الأمصار أولى.
فهذا من أحسن ما
(9/30)
يستدل به على استحباب إظهار التكبير يوم
عرفة في الأمصار وغيرها؛ فإن يوم عرفة أول أيام العيد
الخمسة لأهل الإسلام؛ ولذلك يشرع إظهار التكبير في الخروج
إلى العيدين في الأمصار.
وقد روي ذلك عن عمر وعليّ وابن عمر وأبي قتادة، وعن خلق من
التابعين ومن بعدهم.
وهو إجماع من العلماء لايعلم بينهم فيه خلاف في عيد النحر،
إلا ما روى
الأثرم، عن أحمد، أنه لا يجهر به في عيد النحر، ويجهر به
في عيد الفطر.
ولعل مراده: أنه يجهر به في عيد النحر دون الجهر في عيد
الفطر؛ فإن تكبير عيد الفطر – عنده – آكد.
وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: كانوا في عيد الفطر أشد
منهم في الأضحى.
يعني: في التكبير.
وروي عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، انه سمع تكبير
الناس يوم
العيد، فقال: أيكبر الإمام؟ قالوا: لا. قالَ: ما شأن الناس
أمجانين؟ وشعبة هذا، متكلم فيه.
ولعله أراد التكبير في حال الخطبة.
وروي التكبير في الخروج يوم الفطر عن أبي أمامة وغيره من
الصحابة.
خرجه الجوزجاني بإسناد ضعيف.
(9/31)
وعن النخعي وأبي حنيفة، أنه لا يكبر في عيد
الفطر بالكلية.
وروي عنهما موافقة الجماعة.
وقال أحمد في التكبير في عيد الفطر: كأنه واجب؛ لقوله:
{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى
مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] .
وهذه الآية نظيرها قوله تعالى في سياق ذكر الهدايا:
{كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى
مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] ، فأستوى العيدان في ذلك. والله
سبحانه وتعالى أعلم.
الحديث الثاني:
(9/32)
971 - ثنا عمر بن حفص: ثنا أبي، عن عاصم،
عن حفصة، عن
(9/32)
أم عطية، قالت: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد
حتى نخرج البكر من خدرها، وحتى نخرج الحيض، فيكن خلف
الناس، فيكبرون بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك
اليوم وطهرته.
في هذا الحديث: دليل على أن إظهار التكبير للرجال مشروع في
يوم العيد، ولولا إظهاره من الرجال لما كبر النساء خلفهم
بتكبيرهم.
وإظهار التكبير يكون في حال انتظار الإمام قبل خروجه.
وهذا مما يستدل به على أن التكبير لا ينقطع ببلوغ المصلى،
كما هو قول طائفة.
ويكون في حال تكبير الإمام في خطبته؛ فإن الناس يكبرون
معه، كما كانَ ابن عمر يجيب الإمام بالتكبير إذا كبر على
المنبر.
وكان عطاء يأمر بذلك بقدر ما يسمعون أنفسهم.
خرجه الجوزجاني.
وفيه –أيضاً -: ما يدل على ان إظهار الدعاء مشروع في ذلك
اليوم، ولعل إظهار الدعاء حيث كان النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو في خطبته، ويؤمن الناس على
دعائه.
وروي عن أبي موسى الأشعري، أنه كان يقول في خطبتة في
العيدين: هذا يوم لا يرد فيه الدعاء، فارفعوا رغبتكم إلى
الله عز وجل، ثم يرفع يديه ويدعو.
خرجه الفريابي.
(9/33)
13 - باب
الصلاة إلى الحربة يوم العيد
(9/34)
972 - حدثنا محمد بن بشار: ثنا عبد الوهاب:
ثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان تركز له الحربة قدامه يوم
الفطر والنحر، ثم يصلي.
قد سبق هذا الحديث والكلام عليه في ((أبواب: سترة المصلي))
.
وذكرنا أن ابن ماجه خرجه من رواية الأوزاعي، عن نافع، وفي
أول حديثه زيادة: ((أن العنزة كانت تحمل بين يديه)) ، وفي
آخره: ((أن المصلىكان فضاءً، ليس شيء يستتر به)) .
ولعل هذه الزيادة في آخره مدرجة.
وقد خرجه البخاري بدونهما في الباب الآتي.
وتقدم –أيضاً - قول مكحول: إنما كانت تحمل الحربة مع النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم العيد؛ لأنه كانَ
يصلي إليها.
وفي هذا: إشارة إلى أنه لم يكن يفعل ذلك تعاظماً وتكبراً،
كما كان أمراء بني أمية ونحوهم يفعلونه.
وقد يريد به –أيضاً -: أن الحربة من السلاح، والسلاح يكره
حمله في
(9/34)
العيدين، إلا من حاجه، كما سبق ذكره،
والحاجه إلى الحربة الصلاة إليها في الفضاء.
فأما إن كان في المصلى سترة مبنيةٌ، فلا حاجه إلى حمل عنزة
مع الإمام.
وقد أشار إلى هذا جماعة من العلماء من أصحابنا وغيرهم،
منهم: أبو بكر
عبد العزيز بن جعفر.
ولا يقال: فقد يحتاج إليها الإمام ليعتمد عليها في حال
خطبته؛ لأن هذا لم ينقل عن النَّبيّ ? - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه كانَ يعتمد في خطبته للعيدين
على العنزة من وجه يعتمد عليهِ.
فقد رواه الشافعي، عن إبراهيم بن محمد –هو: ابن أبي يحيى
-، عن ليث، عن عطاء، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان إذاخطب يعتمد على عنزة إعتماداً.
وفي رواية: على عنزة أو عصاً. وهذا مرسل ضعيف.
وقد سبق من حديث البراء، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أعطي قوساً أو عصاً، فاتكأ عليه لما خطب.
(9/35)
14 - باب
حمل العنزة أو الحربة بين يدي الإمام يوم العيد
(9/36)
973 - حدثنا إبراهيم بن المنذر: ثنا
الوليد: ثنا أبو عمرو –هو: الأوزاعي -: حدثني نافع، عن ابن
عمر، قالَ: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يغدوإلى المصلى والعنزة بين يديه
تحمل، وتنصب بالمصلى بين يديه، فيصلي إليها.
قد ذكرنا في الباب الماضي معنى حمل العنزة بين يديه، فلا
حاجة إلى إعادته.
وسبق الفرق بين العنزة والحربة في ((أبواب السترة)) .
وفي هذه الرواية: التصريح بسماع الأوزاعي لهذا الحديث من
نافع.
وقد رواه الوليد بن مزيد، عن الأوزاعي: حدثني الزهري، عن
نافع - فذكره.
(9/36)
وقد ذكر غير واحد: أن الأوزاعي لم يصح له
سماع من نافع، منهم ابن معين ويحيى بن بكير.
وقيل: سمع منه حديثا واحداً.
وقد قيل: إن الشاميين كانوا يتسمحون في لفظة ((أنا)) ، و
((ثنا)) ، ويستعملونها في غير السماع.
ذكره الإسماعيلي وغيره.
(9/37)
15 - باب
خروج الحُيض إلى المُصلى
(9/38)
974 - حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب: ثنا
حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أم عطية،
قالت: أمرنا أن نخرج العواتق وذوات الخدور.
وعن أيوب، عن حفصة - بنحوه، وزاد في حديث حفصة: أو قالت:
العواتق وذوات الخدور ويعتزلن الحُيض المصلى.
قد سبق هذا الحديث بتمامه في ((كتاب الحيض)) في ((باب:
شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين)) ، وفيه: أن حفصة
قالت لأم عطية: الحيض؟ فقالت: أليست تشهد عرفة وكذا وكذا.
وتقدم هنالك الكلام عليه مستوفى.
وفي الحديث: أمر النساء بالخروج إلى العيدين حتى شوابهن
وذوات الخدور
منهن.
وقد تقدم تفسير ((العواتق)) وأنها جمع عاتق، وهي البكر
البالغ التي لم
(9/38)
تُزوج.
وفي خروج النساء إلي العيدين أحاديث كثيرة، قد سبق بعضها،
ويأتي بعضها - أيضاً.
وقد اختلف العلماء فيه على أقوال:
أحدها: أنه مستحب، وحكي عن طائفة من السلف، منهم علقمة.
وروي عن ابن عمر، أنه كان يخرج نساءه. وروى عنه، أنه كان
يحبسهن.
وروى الحارث، عن علي قال: حق على كل ذات نطاق أن تخرج في
العيدين.
ولم يكن يرخص لهن قي شيء من الخروج إلا في العيدين.
وهو قول إسحاق وابن حامد من أصحابنا.
وقال أحمد –في رواية ابن منصور -: لا أحب منعهن إذا أردن
الخروج.
والثاني: أنه مباح، غير مستحب ولا مكروه، حكى عن مالك،
وقاله طائفة من أصحابنا.
الثالث: أنه مكروه بعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، وهو قول النخعي ويحيى الأنصاري والثوري وابن
المبارك.
وأحمد –في رواية حرب -، قال: لايعجبني في زماننا؛ لانه
فتنةٌ واستدل هؤلاء بأن الحال تغير بعد النَّبيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد قالت عائشة: لو أدرك رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أحدث النساء بعده لمنعهن
المساجد، وقد سبق.
(9/39)
والرابع: أنه يرخص فيه للعجائز دون الشواب،
روي عن النخعي –أيضاً - وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، ونقله
حنبل عن أحمد.
وروي عن ابن عباس بإسناد فيه ضعف، أنه أفتى بذلك سعيد بن
العاص، فأمر مناديه أن لا تخرج يوم العيد شابة، وكل
العجائز يخرجن.
الخامس: - قول الشافعي -: يستحب الخروج للعجائز ومن ليست
من ذوات الهيئات.
وفسرأصحابه ذوات الهيئات بذوات الحسن والجمال، ومن تميل
النفوس إليها، فيكره لهن الخروج؛ لما فيهِ من الفتنة.
(9/40)
16 - باب
خروج الصبيان إلى المُصلى
(9/41)
975 - حدثنا عمرو بن عباس: ثنا عبد الرحمن:
ثنا سفيان، عن عبد الرحمن ابن عابس، قال: سمعت ابن عباس
يقول: خرجت مع النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- يوم فطر – أو أضحى -، فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء،
فوعظهن وذكرهن، وأمرهن بالصدقة.
(9/41)
977 - حدثنا مسدد: ثنا يحيى: قال سفيان:
حدثني عبد الرحمن بن عابس، قال: سمعت ابن عباس - وقيل له
-: أشهدت العيد مع رسول ألله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -؟ قالَ: نعم ' ولولا مكاني من الصغر ما شهدته'
خرج حتَّى اتى العلم الذي عندَ دار كثير بن
الصلت'فصلى'ثُمَّ خطب ثُمَّ أتى النساء ومعه بلال فوعظهن
وذكرهن وأمرهن بالصدقة فرأيتهن يهوين بايديهن يقذفنه في
ثوب بلال، ثُمَّ انطلق هوَ وبلال إلى بيته.
قد سبق هذا الحديث في ((باب: وضوء الصبيان وصلاتهم))
وذكرنا هنالك مايتعلق به من خروج الصبيان إلى العيد؛ وإن
هذا الحديث يدل على أن الأصاغر من الصبيان لم يكونوا
يشهدون العيد إلا من كانَ منهم أقارب الإمام فلهم خصوصية
على غيرهم.
وقد روي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان
يخرج إلى العيد ومعه من أهله كبارهم وصغارهم.
خرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) عن ابن أخي ابن وهب، عن عمه،
عن
عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان
(9/42)
يخرج في العيدين مع الفضل بن عباس وعبد
الله بن عباس وعلي وجعفر والحسن والحسين وأسامة بن زيد
وزيد بن حارثة وأيمن بن أم أيمن، رافعاً صوته بالتهليل
والتكبير، فيأخذ طريق الحدادين حتى يأتي المصلى، فإذا فرغ
رجع على الحذائين حتى يأتي منزله.
وقال: في القلب من هذا الخبر، وأحسب الحمل فيه على العمري،
إن لم يكن الغلط من ابن اخي ابن وهب. انتهى.
والحمل فيه على ابن أخي ابن وهب؛ فقد رواه جماعة عن ابن
وهب، وعن العمري ليس فيهِ شيء من هذه الألفاظ المستنكرة.
وروى حجاج بن أرطاة، عن عبد الرحمن بن عابس، أن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج نساءه وبناته
في العيدين.
واحتج به إسحاق بن راهويه.
وخرج الإمام أحمد من رواية حجاج - أيضاً -، عن عطاء عن
جابر قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يخرج في العيدين ويخرج أهله.
والعلم الذي عند دار كثير بن الصلت، ودار كثير بن الصلت،
الظاهر أن ذلك كله محدث، أحدث بعد النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكان المصلى.
وقد تقدم أن المصلى كان فضاء، ليس فيه سترة؛ فلذلك كانَ
النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحمل لهُ
الحربة؛ ليصلي إليها.
(9/43)
17 - باب
استقبال الإمام الناس [في خطبة العيد]
وقال أبو سعيد: قام النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مقابل الناس.
حديث أبي سعيد، قد خرجه فيما سبق.
(9/44)
976 - حدثنا أبو نعيم: ثنا محمد بن طلحة،
عن زبيد، عن الشعبي، عن
البراء، قال: خرج النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يوم الاضحى إلى البقيع، فصلى ركعتين، ثم أقبل
علينا بوجهه، وقال: ((إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ
بالصلاة، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد وافق سنتنا، ومن
ذبح قبل ذلك، فإنه شيء عجله لأهله، ليس من النسك في شيء))
. فقام رجل، فقال: يارسول الله، إني ذبحت، وعندي جذعة خير
من مسنة. قال: ((أذبحها، فلا تفي عن أحد بعدك)) .
في هذا الحديث: أن خروجه وصلاته كانت بالبقيع، وليس المراد
به: أنه صلى في المقبرة، وإنما المراد: أنه صلى في الفضاء
المتصل بها، واسم البقيع يشمل الجميع 0
وقد ذكر ابن زبالة، بإسناد له، أن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العيد خارج المدينة في خمسة
مواضع، حتَّى استقر من صلاته في الموضع الذي عرف به، وصلى
فيه الناس بعده.
(9/44)
وأما استقباله الناس، فالمراد به: بعد
الصلاة عند الخطبة.
وذكر استقباله الناس: يدل على أنه لم يرق منبراً، وأنه كان
على الأرض والله سبحانه وتعالى أعلم.
(9/45)
19 - باب
موعظة الإمام النساء يوم العيد
(9/46)
978 - حدثنا اسحاق: ثنا عبد الرزاق: ثنا
ابن جريج: أخبرني عطاء، عن جابر بن عبد الله، قالَ: سمعته
يقول: قام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم
الفطر فصلى، فبدأ بالصلاة، ثم خطب، فلما فرغ نزل فأتى
النساء فذكرهن، وهو يتوكأ على بلال، وبلال باسط
ثوبه، يلقي فيه النساء الصدقة.
قلت لعطاء: زكاة يوم الفطر؟ قالَ: لا. ولكن صدقة يتصدقن
حينئذ، تلقي فتخها ويلقين.
قلت: أترى حقا على الإمام ذلك، يأتيهن ويذكرهن؟ قالَ:
إنَّهُ لحق عليهم، وما لهم لا يفعلون؟
(9/46)
979 - قالَ ابن جريج: واخبرني حسن بن مسلم،
عن طاوس، عن ابن عباس، قالَ: شهدت الفطر مع رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان،
يصلونها قبل الخطبة، ثُمَّ يخطب بعد، خرج النَّبيّ -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ?كأني أنظر إليه حين
يجلس بيده، ثُمَّ أقبل يشقهم حتَّى جاء
(9/46)
النساء، معه بلال، فقالَ: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إذا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ}
[الممتحنة: 12] الآية، ثُمَّ قالَ - حين فرغ منها -:
((أأنتن على ذَلِكَ؟)) ، قالت امرأة واحدة منهن، لم يجبه
غيرها: نعم - لا يدري حسن من هي – قال: فتصدقن، فبسط بلال
ثوبه، ثم قال، هلم لكن فداء أبي وأمي، فيلقين الفتخ
والخواتيم في ثوب بلال.
قال عبد الرزاق: الفتخ: الخواتيم العظام، كانت في
الجاهلية.
قد تقدم الكلام على قوله: ((فلما فرغ نزل)) وأنه يشعر بانه
كان على موضع عالٍ.
وموعظته للنساء وهو يتوكأ على بلال: دليل على أن الإمام
إذا وعظ قائما على قدميه فله أن يتوكأ على إنسان معه، كما
يتوكأ على قوس أو عصا.
وفيه: أن النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما
انتقل من مكان خطبته للرجال، اشار اليهم بيده أن لا
يذهبوا.
وفيه: دليل على أن الأولى للرجال استماع خطبة النساء –
أيضاً - لينتفعوا بسماعها وفعلها، كما تنتفع النساء.
وقد تقدم: أن الإمام يفرد النساء بموعظة إذا لم يسمعوا
موعظة الرجال، وهو قول عطاء ومالك والشافعي وأصحابنا.
(9/47)
وقال النخعي: يخطب قدر ما ترجع النساء إلى
بيوتهن.
وهذا يخالف السنة، ولعله لم يبلغه ذلك.
وقد روي، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أنه خير الناس بين استماع الخطبة والذهاب.
فروى عطاء، عن عبد الله بن السائب، قال: شهدت مع النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد، فلما قضى الصلاة
قالَ: ((أنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب
أن يذهب فليذهب)) .
خرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة في ((صحيحه))
، من رواية الفضل بن موسى السيناني، عن ابن جريج، عن عطاء.
وقال أبو داود: ويروى – مرسلا - عن عطاء، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وروى عباس الدوري، عن ابن معين، قال: وصله خطأ من الفضل،
وإنما هو عن عطاء مرسلا.
وكذا قال أبو زرعة: المرسل هو الصحيح.
(9/48)
وكذا ذكر الإمام أحمد أنه مرسل.
وكان عطاء يقول به، ويقول: إن شاء فليذهب.
قال أحمد: لا نقول بقول عطاء، أرأيت لو ذهب الناس كلهم على
من كان يخطب؟
ولم يرخص بالانصراف قبل فراغ الخطبة، ولعله أراد انصراف
الناس كلهم، فيصير الإمام وحده فتتعطل الخطبة. والله اعلم.
واختلف قول الإمام أحمد في جواز الكلام والإمام يخطب في
العيد، على
روايتين، عنه.
وروى وكيع بإسناده، عن ابن عباس، أنه كره الكلام في أربع
مواطن: في الجمعة، والفطر، والأضحى، والاستسقاء، والإمام
يخطب.
وكرهه
(9/49)
الحسن وعطاء.
وقال مالك: من صلى مع الإمام فلا ينصرف حتى ينصرف الإمام.
وكذلك مذهبه فيمن حضر من النساء العيدين، فلا ينصرف إلا
بإنصراف
الإمام. ذكره في ((تهذيب المدونة)) .
ومذهب الشافعي [من أصحابنا] كقول عطاء: إن استماع الخطبة
مستحب غير لازم.
وظاهره: أنه يجوز للرجال كلهم الإنصراف وتعطيل الخطبة؛
لأنها مستحبة غير واجبة.
وقد رأيت كلام أحمد مصرحاً بخلاف ذلك.
وفي حديث ابن عباس، أنه يجوز للإمام أن يشق الناس ويتخطاهم
إذا كان له في ذلك مصلحة.
وفي اكتفائه? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأجابة
امراة واحدة بعد قوله للنساء: ((أأنتن على ذلك؟)) دليل على
أن إقرار واحد من الجماعة في الأمور الدينية كاف، إذا سمع
الباقون، وسكتوا عن الإنكار.
وقوله: ((لا يدري حسن من هي)) حسن، هو: ابن مسلم - صاحب
طاوس.
وفي رواية مسلم في ((صحيحه)) لهذا الحديث: ((لا يدرى حينئذ
من هي)) .
(9/50)
وقد قال بعض الحفاظ المتأخرين: إن رواية
البخاري هي الصحيحة.
وقد فسر عبد الرزاق في رواية البخاري ((الفتخ)) بالخواتيم
العظام.
وقيل: ((الفتخة)) حلقة من ذهب أو فضة لا فص لها، وربما
اتخذ لها فص.
وقيل: إنها تكون في أصابع اليدين والرجلين من النساء.
وهي بفتح الفاء والتاء والخاء المعجمة.
ويفرق بين مفردها وجمعها تاء التأنيث، كأسماء الجنس
الجمعي، وهو في المخلوقات كثير كتمرة وتمر، وفي المصنوعات
قليل كعمامة وعمام. ومنه: فتخة وفتخ.
وتجمع ((فتخة)) على فتخات وفتوخ - أيضاً.
وفي الحديث: التفدية بالأب والأم، ولبسط القول فيه موضع
آخر، يأتي - إن شاء الله سبحانه وتعالى.
(9/52)
وفيه جواز صدقة المرأة بدون إذن زوجها
تطوعاً.
ولعل ابن جريج استشكل ذلك فظن أن هذه الصدقة كانت صدقة
الفطر؛ لأن الصدقة الواجبة لا إشكال في إخراج المرأة لها
بدون إذن زوجها، فسأل عطاء عن ذَلِكَ، فأخبره عطاء أنها لم
تكن صدقة الفطر، وإنما هي صدقة تطوع.
ولم يستدل عطاء بأن صدقة الفطر لاتؤخذ فيها القيمة، فلعله
كان يرى جواز إخراج القيمة فيها.
وإنما أخذ النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
معه بلال ليتوكأ عليهِ، وليحمل الصدقة التي تلقيها النساء.
وفيه: دليل على أن الإمام يستصحب معه المؤذن في الصلوات
التي يجمع لها ويخطب، وإن لم يكن يؤذن لها ويقام، ويستعين
به.
(9/52)
20 - باب
إذا لم يكن لها جلبابٌ في العيد
(9/53)
980 - حدثنا أبو معمر: ثنا عبد الوارث: ثنا
أيوب، عن حفصة بنت سيرين، قالت: كنا نمنع جوارينا أن يخرجن
يوم العيد، فجاءت امرأة فنزلت قصر بني خلف، فأتيتها فحدثت
أن زوج أختها غزا مع النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ثنتي عشرة غزوة، فكانت أختها معه في ست غزوات.
قالت: وكنا نقوم على المرضى ونداوي الكلمى فقالت: يارسول
الله، أعلى إحدانا بأس إذا لم يكن لها جلباب أن لاتخرج؟
قالَ: ((لتلبسها صاحبتها من جلبابها، فليشهدن الخير ودعوة
المؤمنين)) .
قالت حفصة: فلما قدمت أم عطية أتيتها، فسألتها: أسمعت في
كذا؟ فقالت: نعم بأبي – وقلما ذكرت النَّبيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا قالت: بأبي – قالَ:
((ليخرج العواتق ذوات الخدور)) –أو قالَ: ((العواتق وذوات
الخدور)) –شك أيوب – ((والحُيض، فيعتزل الحُيض المصلى،
وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين)) .
فقلت لها: الحُيض؟ قالت: نعم، أليس الحائض
(9/53)
تشهد عرفات، وتشهد كذا
وكذا؟
((قصر بني خلف)) بالبصرة، منسوب إلى بني خلف الخزاعيين،
وخلف هذا جدُ طلحة الطلحات بن عبد الله بن خلف.
وفي هذه الرواية عن أيوب: بيان أن ذكر الجلباب إنما روته
حفصة بنت سيرين، عن امرأة غير مسماة، عن أختها عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن بقية الحديث ترويه
حفصة، عن أم عطية، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
وكذا رواه ابن علية، عن أيوب – أيضاً.
ونحوه رواه حماد بن زيد وابن عيينة، عن أيوب.
وهذا هو الصحيح عند أبي بكر الخطيب وغيره.
وروى حماد بن سلمة الحديث كله، عن أيوب ويونس بن حبيب
ويحيى بن عتيق وهشام في آخرين، عن محمد بن سيرين، عن أم
عطية – بتمامه.
وكذا رواه أبو جعفر الرازي، عن هشام بن حسان، عن محمد
وحفصة، كلاهما عن أم عطية – بتمامه.
وقد خرجه مسلم في ((صحيحه)) من حديث عيسى بن يونس، عن
هشام، عن حفصة، عن أم عطية –بتمامه، حتى ذكر فيه: قصة
الجلباب.
(9/54)
وكذا خرجه الترمذي من حديث منصور بن زاذان،
عن ابن سيرين، عن أم عطية –أيضاً.
وخرجه البخاري الحديث بتمامه، وفيه قصة الجلباب في ((كتاب
الحيض)) - كما تقدم - من طريق يزيد بن إبراهيم، عن ابن
سيرين، عن أم عطية –أيضاً.
وفي الحديث: تأكيد في خروج النساء في العيدين.
وقد ورد التصريح بوجوبه.
فخرج الإمام أحمد من رواية طلحة بن مصرف، عن امرأة من بني
عبد القيس، عن أخت عبد الله بن رواحة الانصاري، عن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((وجب الخروج على
كل ذات نطاق)) .
وفيه: امرأة لا تُعرف.
وخرج ابن شاهين في ((كتاب العيدين)) من حديث ابن عباس، عن
النبي
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ((العيدان
واجبان على كل حالم، من ذكر وأنثى)) .
وفي إسناده: عمرو بن شمر، ضعيف جدا.
(9/55)
وروى الحارث عن علي، قالَ: حق على كل ذات
نطاق أن تخرج في العيدين.
وهذا مما لا يعلم به قائل – أعني: وجوب الخروج على النساء
في العيد.
(9/56)
21 - باب
اعتزال الحيض المصلى
(9/57)
981 - حدثنا محمد بن المثنى: ثنا ابن أبي
عدي، عن ابن عون، عن محمد: قالت أم عطية: أمرنا أن نخرج،
فنخرج الحيَض والعواتق وذوات الخدور - وقال ابن عون: أو
العواتق ذوات الخدور - فأما الحيَض، فيشهدون جماعة
المسلمين ودعوتهم، ويعتزلن مصلاهم.
قد سبق الكلام على هذا الحديث في ((كتاب الحيض)) وذكرنا
وجه اعتزال الحيض المصلى: هل هو لأن حكم المصلى حكم
المساجد، أو خشية التضييق على من يصلي من النساء، فيكون
الاعتزال في حالة الصلاة خاصة؟
وهو الأظهر. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(9/57)
22 - باب
النحر والذبح بالمصلى
(9/58)
982 - حدثنا عبد الله بن يوسف: ثنا الليث:
حدثني كثير بن فرقد، عن نافع عن ابن عمر، أن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينحر - أو يذبح –
بالمصلى.
وخرجه في ((الأضاحي)) عن يحيى بن بكير، عن الليث، وقال
فيهِ: كان يذبح وينحر بالمصلى.
وخرج - أيضاً - من رواية عبيد الله، عن نافع، قال: كان عبد
الله ينحر في المنحر.
قال عبيد الله: يعني منحر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
وخرج أبو داود من رواية أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن
عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان
يذبح أضحيته بالمصلى، وكان ابن عمر يفعله.
وخرجه ابن ماجه - مختصرا.
وقال الإمام أحمد – في رواية حنبل - هو منكر.
وخرج ابن ماجه بإسناد فيه ضعف، عن سعد القرظ، أن النبي ? -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذبح
(9/58)
أضحيته عند طرف الزقاق طريق بني زريق بيده
بشفرة.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث المطلب، عن
جابر قال: شهدت مع النبي? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ?الأضحى بالمصلى، فلما قضى خطبته نزل من
منبره، فأتي بكبش فذبحه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بيده، وقال: ((بسم الله، وبالله، والله أكبر،
هذا عني وعمن لم يضحِ من أمتي)) .
وهذا لفظ الترمذي.
وقال: غريب، والمطلب يقال: إنه لم يسمع من جابر.
(9/59)
وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن محمد
بن عقيل، عن علي بن حسين، عن أبي رافع، أن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ضحى اشترى كبشين
سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب أتي بأحدهما وهو قائم
في مصلاه، فذبحه بنفسه بالمدية، - وذكر
الحديث.
وقد يعارض هذه الأحاديث حديث البراء بن عازب، وقول النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إن أول ما نبدأ به
في يومنا هذا نصلي، ثم نرجع فننحر)) .
وخرج النسائي من رواية عبد الله بن سليمان: حدثني نافع، عن
عبد الله بن
عمر، أن رسول الله ?? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
نحر يوم الأضحى بالمدينة. قال: وكان إذا لم ينحر ذبح
بالمصلى.
فهذه الرواية يجمع بها بين سائر
(9/60)
الروايات، وأنه كان إذا نحر ما ينحر نحره
بالمدينة، فإن ذبح الغنم ذبحها بالمصلى.
وعلى هذا، فتكون رواية البخاري الصحيحة لحديث ابن عمر:
((كان يذبح - أو ينحر – بالمصلى)) – بالشك.
وذبح ابن عمر بالمصلى يدل على أنه كان يرى استحباب ذلك
للإمام وغيره.
ومن العلماء [من] يستحب ذلك للإمام، منهم مالك. وقال: لا
نرى ذلك على غيره.
وفيه: إشارة إلى أن غيره لا يتأكد في حقه ذلك كالإمام.
وقال سفيان: للإمام أن يحضر أضحيته عند المصلى؛ ليذبح حين
يفرغ من الصَّلاة والخطبة؛ لئلا يذبح أحد قبله. قالَ: وذلك
من الأمر المعروف.
وروى الواقدي بأسانيد لهُ متعددة، أن النَّبيّ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانَ يذبح يوم النحر عندَ طرف
الزقاق، عندَ دار معاوية.
ثم قال الواقدي: وكذلك يصنع الأئمة عندنا بالمدينة.
وروى - أيضاً - عن عمرو بن عثمان، أنه رأى عمر بن عبد
العزيز - رحمه الله - خطب يوم النحر، ثم أتي بكبش في
مصلاه، فذبحه بيده، ثم أمر به فقسم على
المساكين، ولم يحمل إلى منزله منه شيئاً.
(9/61)
23 - باب
كلام الإمام والناس في خطبة العيد
فيه ثلاثة أحاديث.
الأول:
(9/62)
983 - ثنا مسدد: ثنا أبو الأحوص: ثنا
منصور، عن الشعبي، عن البراء بن عازب، قالَ: خطبنا رسول
الله ?? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر
بعد الصَّلاة، فقالَ: ((من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب
النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم)) .
فقام أبو بردة بن نيار، فقالَ: يا رسول الله، والله لقد
نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل
وشرب، فعجلت وأكلت وأطعمت أهلي وجيراني. فقال رسول الله ?
- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((تلك شاة لحم)) .
قال: فإن عندي عناقا جذعة، هي خير من شاتي لحم، فهل تجزي
عني؟ قالَ: ((نعم، ولن تجزي عن أحد بعدك)) .
مقصود البخاري بهذا الحديث: الاستدلال على جواز أن يكلم
الإمام أحدا من الناس أو يكلمه أحد، وهو يخطب للعيد.
(9/62)
وقد تقدم: أن الكلام في حالة خطبة العيد قد
كرهه الحسن وعطاء، وأباحه الشافعي وغيره.
وروى الشافعي بإسناد ضعيف، عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان
يترك المساكين يطوفون يسألون الناس في المصلى في خطبته
الأولى يوم الأضحى والفطر، فإذا خطب خطبته الأخيرة أمر بهم
فأجلسوا.
قال الشافعي: وسواء الأولى والآخرة، أكره لهم المسألة، وإن
فعلوا فلا شيء عليهم فيها، إلا ترك الفضل في الاستماع.
وعن أحمد - في تحريمه وإباحته - روايتان.
ويستثنى من ذلك – عنده -: كلام الإمام لمصلحة، وكلام من
يكلمه لمصلحة، كما قال في خطبة الجمعة.
وهذا الذي في هذا الحديث من هذا الجنس، فلا يستدل به على
إباحة الكلام مطلقا.
(9/63)
الحديث الثاني:
(9/64)
984 - ثنا حامد بن عمر، عن حماد، عن أيوب،
عن محمد، أن أنس بن مالك قالَ: إن رسول الله ? - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى يوم النحر، ثم خطب، فأمر
من ذبح قبل الصلاة أن يعيد ذبحه، فقام رجل من الأنصار،
فقالَ: يا رسول الله، جيران لي - إما قالَ: بهم
خصاصة، وإما قالَ: فقراء - وإني ذبحت قبل الصَّلاة، وعندي
عناق لي أحب [إلي] من شاتي لحم، فرخص له فيها.
وهذا الحديث، كالذي قبله في الدلالة.
الحديث الثالث:
(9/64)
985 - ثنا مسلم: ثنا شعبة، عن الأسود، عن
جندب، قالَ: صلى النبي ? - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يوم النحر، ثم خطب، ثم ذبح، فقال: ((من ذبح
قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم
الله)) .
في الاستدلال بهذا الحديث على الكلام في خطبة العيد نظر؛
لوجهين:
أحدهما: أنه ليس فيهِ التصريح بأن ذَلِكَ كانَ في الخطبة
فيحتمل أنه قاله قبلها، أو بعدها.
(9/64)
وقد وقع في رواية لمسلم في ((صحيحه)) من
هذا الحديث ما يدل على أنه قاله قبل الخطبة؛ فإنه قالَ:
فلم يعد إن صلى وفرغ من صلاته سلم، فإذا هوَ يرى لحم أضاحي
قد ذبحت قبل أن يفرغ من صلاته، فقالَ: ((من كانَ ذبح)) –
إلى آخره.
ولكن رواه غير واحد، عن شعبة، فذكروا فيهِ: أنه قاله في
خطبته.
والثاني: أن هذا لم يكن خطابا لأحد معين، ولا في الحديث أن
أحدا قام إليه فخاطبه، كما في حديث البراء وحديث أنس
المتقدمين.
وحينئذ؛ فيكون ذكره لهذا في الخطبة من جملة تعليم أحكام
الأضاحي، ولا شك في أن الإمام لهُ أن يعلم الناس في خطبة
عيد النحر أحكام الأضاحي، وما يحتاجونه إلى معرفته منها.
وحديث البراء وأنس يدلان على ذلك – أيضاً.
وهذا كله مستحب، وقد نص عليه الشافعي وأصحابنا.
وقالوا - أيضاً - يسن للإمام أن يعلم الناس في خطبة عيد
الفطر حكم إخراج الفطرة.
وقد روي عن ابن عباس، أنه خطب بالبصرة يوم الفطر، فعلم
الناس صدقة الفطر.
خرجه ابن شاهين في ((كتاب العيدين)) .
وفي إسناده: ضعف.
والصحيح: ما روى الحسن، قالَ: خطب ابن عباس في آخر رمضان
على منبر البصرة، فقالَ: أخرجوا صدقة صومكم. فكأن الناس لم
(9/65)
يعلموا، فقال: من هاهنا من أهل المدينة؟
قوموا إلى إخوانكم فعلموهم - وذكر بقية الحديث.
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
والحسن، لم يسمع من ابن عباس، ولم يكن بالبصرة يوم خطب ابن
عباس.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود، من رواية الزهري، قال: قال
عبد الله بن ثعلبة بن صعير: خطب رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الناس قبل الفطر بيومين، فقال:
((ادوا صاعاً من بر)) –الحديث.
وفي إسناده: اختلاف كثير على الزهري.
واختلف في عبد الله بن ثعلبة: هل له صحبة، أم لا؟
وقد روى عبد الله ابن الإمام أحمد في ((مسائله)) بإسناده،
عن الزهري عن ابن المسيب: كانَ النَّبيّ ?? - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قبل الفطر بيومين، ويأمرهم
بأداء زكاة الفطر، فيخرجونها قبل الصَّلاة.
وروى الواقدي بأسانيد له متعددة، عن عائشة وابن عمر وأبي
سعيد حديثاً طويلاً، فيه: أن النبي ? - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب قبل الفطر بيومين، فيأمر
بإخراج صدقة الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى.
دكره، عنه محمد بن سعد.
(9/66)
وذكر ابن سعد، عنه –أيضاً -: ثنا عمرو بن
عثمان بن هانئ، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز بخناصرة،
وهوخليفة، خطب الناس قبل يوم الفطر بيوم، وذلك يوم الجمعة،
فذكر الزكاة فحض عليها، وقال:
على كل انسان صاع تمراً ومدان من حنطة. وقال: انه لا صلاة
لمن لازكاة له، ثم قسمها يوم الفطر.
ويدل على أن الإمام إنما يعلم الناس حكم صدقة الفطر قبل
يوم الفطر:
حديث ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة.
وقد خرجه البخاري في موضع آخر.
وفيه: دليل واضح على انه كان يامر بذلك قبل يوم الفطر،
والافكيف كان يأمر بعد الصلاة بأن تؤدى قبل الصلاة؟
وبقية ما دل عليهِ هذه الأحاديث، من الذبح قبل الصَّلاة،
ومن الأمر لمن ذبح قبلها بالاعادة، ومن أحكام الجذع من
الضأن والمعز موضعه غيرهذا، ويأتي فيهِ – إن شاء الله
سبحانه وتعالى.
(9/67)
24 - باب
من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد
(9/68)
986 - حدثنا محمد: ثنا أبو تميلة يحيى بن
واضح، عن فليح بن سلمان، عن سعيد بن الحارث، عن جابر بن
عبد الله، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إذا كان يوم عيد خالف الطريق.
تابعه: يونس بن محمد، عن فليح، عن سعيد، عن أبي هريرة.
وحديث جابر أصح.
كذا في بعض النسخ: ((تابعه: يونس، عن فليح، عن سعيد، عن
أبي
هريرة)) وهي رواية ابن السكن.
ويقال: إن ذلك من إصلاحه.
وفي أكثر النسخ: ((تابعه: يونس بن محمد، عن فليح، وحديث
جابر
أصح)) .
وذكر أبو مسعود الدمشقي: أن البخاري قالَ: ((تابعه يونس بن
محمد، عن فليح. قال: وقال: محمد بن الصلت: عن فليح، عن
سعيد، عن أبي هريرة، وحديث جابر أصح)) .
ثم ذكر أن ذلك وهم منه - يعني: متابعة يونس لأبي تميلة -،
وإنما رواه يونس ومحمد بن الصلت، كلاهما عن فليح، عن سعيد،
عن أبي هريرة.
وكذا رواه الهيثم بن جميل، عن فليح، وأن
(9/68)
البخاري أراد أن يونس قال فيهِ: ((عن
جابر)) .
وفيه: إشارة إلى أن غيرهما خالف في ذكر جابر، وإن ذكره
أصح، وما ذكره أبو مسعود تصريح بذلك.
وقوله: ((وحديث جابر)) يدل عليه، والله أعلم.
وحاصل الأمر: أنه اختلف في إسناده على فليح:
فرواه، عنه الأ كثرون، منهم: محمد بن الصلت والهيثم بن
جميل وسريج، فقالوا: عن سعيد بن الحارث، عن أبي هريرة.
وخالفهم أبو تميلة يحيى بن واضح، فرواه عن سعيد بن الحارث،
عن جابر.
وعند البخاري، أن هذا أصح.
وأما يونس بن محمد، فرواه عن فليح، واختلف عنه:
فذكر البخاري والترمذي في ((جامعه)) : أنه رواه عن فليح عن
سعيد، عن
جابر، متابعة لأبي تميلة.
وكذا رواه ابن خزيمة وابن حبان في ((صحيحيهما)) .
وكذلك خرجه البيهقي من رواية محمد بن عبيد الله المنادي،
(9/69)
عن يونس.
وقد قال مهنا: قلت لأحمد: هل سمع سعيد بن الحارث من أبي
هريرة؟ فلم يقل شيئاً.
وقد ذكر البيهقي: أن أبا تميلة روي عنه، عن فليح، عن سعيد،
عن أبي هريرة –أيضاً.
ثم خرجه من طريق أحمد بن عمرو الحرشي، عن أبي تميلة كذلك.
فتبين بهذا: أن ابا تميلة ويونس اختلف عليهما في ذكر:
((أبي هريرة وجابر)) ، وأن اكثر الرواة قال فيه: ((عن أبي
هريرة)) ، ومنهم من اختلف عليه في ذكر ((أبي هريرة وجابر))
.
وقد ذكر الإمام أحمد، أنه حديث أبي هريرة، وهذا يدل على أن
المحفوظ قول من قالَ: ((عن أبي هريرة)) ، كما قاله أبو
مسعود، خلاف ما قاله البخاري.
وفي الباب: أحاديث أخر، ليست على شرط البخاري.
ومن أجودها: حديث عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن
عمر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ يوم
العيد في طريق، ثم رجع من طريق آخر.
خرجه أبو داود.
وخرجه ابن ماجه، وعنده: أن ابن عمر كان يخرج إلى العيد في
طريق، ويرجع في أخرى، ويزعم أن رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان
(9/70)
يفعله.
وقد استغربه الإمام أحمد، وقال: لم أسمع هذا قط.
وقال –أيضاً -: العمري يرفعه، ومالك وابن عيينة لا
يرفعانه.
يعني: يقفانه على ابن عمر من فعله.
قيل له: قد رواه عبيد الله –يعني: أخا العمري، عن نافع، عن
ابن عمر؟
فأنكره، وقال: من رواه؟ قيل لهُ: عبد العزيز بن محمد –
يعني: الدراوردي.
- قالَ: عبد العزيز يروي مناكير.
(9/71)
وقال البرقاني: سألت الدارقطني: هل رواه عن
نافع غير العمري؟ قَالَ: من وجه يثبت، لا. ثُمَّ قالَ: روي
عن مالك، عن نافع، ولكن لايثبت. انتهى.
والصحيح عن مالك وغيره: وقفه دون رفعه.
وكذا رواه وكيع عن العمري - موقوفا.
وقد استحب كثير من أهل العلم للإمام وغيره إذا ذهبوا في
طريق إلى العيد أن يرجعوا في غيره، وهو قول مالك والثوري
والشافعي وأحمد.
وألحق الجمعة بالعيد في ذلك.
ولو رجع من الطريق الذي خرج منه لم يكره.
وفي ((سنن أبي داود)) حديث، فيه: أن أصحاب رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يفعلون ذلك في
زمانه..
وتكلم الناس في المعنى الذي لأجله يسحب مخالفة الطريق،
وكثر قولهم في ذلك، وأكثره ليس بقوي.
وقد روي في حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، عن أبيه،
عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يغدو من طريق ويرجع من اخر؛ ليتسع الناس
في الطريق.
وعبد الرحمن هذا، ضعيف جداً.
(9/72)
ومعنى الاتساع في الطريق: أنه يخشى كثرة
الزحام في الطريق الأول.
وهذا أحد ما قيل في معناه.
وقيل: ليشهد به الطريقان.
وقيل: ليتصدق على من كان فيهما من السؤال.
وقيل: ليكثر التقاء المسلمين بعضهم ببعض للسلام والتودد.
وقيل: للتفاؤل بتغير الحال إلى الرضى والمغفرة؛ فإنه يرجى
لمن شهد العيد أن يرجع مغفوراً لهُ.
وقيل: كان يغدو في أطول الطريقين ويرجع في أقصرهما؛ لتكثر
خطاه في المشي إلى الصَّلاة.
وهذا هو الذي رجحه كثير من الشافعية.
وقد روي في حديث عكس هذا:
فرواه سليمان بن أرقم، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي
هريرة: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وأبو بكر وعثمان إذا خرجوا إلى العيد من طريق رجعوا في
طريق آخر أبعد منه.
وسليمان بن أرقم، متروك.
ولا أصل لحديثه هذا بهذا الإسناد.
وعلى تقدير أن يكون له أصل، فيمكن توجيهه بأن القاصد لصلاة
العيد ينبغي له قصدها من أقرب الطرق؛ لأنه إن كانَ أماماً
فلئلا يطول انتظاره، وان كانَ مأموماً فخشية أن يسبق
بالصلاة أو بعضها، أو أن يتمكن من صلاتها في مكان يمكنه
الاقتداء فيهِ بالإمام؛ ولهذا شرع له التبكير؛ ليقرب من
الإمام.
والراجع من الصَّلاة قد أمن ذَلِكَ كله،
(9/73)
فيمشي حيث شاء، ويسلك أبعد الطرق، ويقف
فيها لحاجته وللقاء الناس والسلام عليهم والدعاء لهم، وغير
ذَلِكَ من المصالح.
وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين، أنهم كانوا
يتلاقون يوم العيد، ويدعو بعضهم لبعض بالقبول.
ورخص فيه الإمام أحمد، وقال: لا أبتدئ به أحداً، فإن قاله
لي، رددت عليه.
وقال - مرة -: ما أحسنه، إلا أن يخاف الشهرة.
كأنه يشير إلى أنه يخشى أن يشتهر المعروف بالدين والعلم
بذلك، فيقصد لدعائه، فيكره لما فيه من الشهرة.
وقد خرج الإمام أحمد من حديث المنكدر بن محمد، عن أبيه، عن
عبد الرحمن بن عثمان التيمي، قال: رأيت رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائماً في السوق يوم العيد،
ينظر والناس
يمرون.
ورواه الشافعي، عن إبراهيم بن محمد: حدثني معاذ بن عبد
الرحمن التيمي، عن أبيه، عن جده، أنه رأى رسول الله -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع من المصلى في يوم
عيد، فسلك على التمارين أسفل السوق، حتى إذا كان عند موضع
البركة التي بالسوق قام فاستقبل فج
أسلم، فدعا ثم انصرف.
قال الشافعي: فأحب أن يصنع الإمام مثل هذا، وأن يقف في
موضع يدعو الله - عز وجل -، مستقبل القبلة.
(9/74)
25 - باب
إذا فاته العيد يصلي ركعتين، وكذلك النساء، ومن كان في
البيوت والقرى؛ لقول النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ((هذا عيدنا أهل الإسلام)) .
وأمر أنس بن مالك مولاهم ابن أبي عتبة بالزاوية، فجمع أهله
وبنيه، فصلى بهم كصلاة أهل المصر وتكبيرهم.
وقال عكرمة: أهل السواد يجتمعون في العيد، يصلون ركعتين،
كما يصنع الإمام 0
وكان عطاء إذا فاته العيد صلى ركعتين.
ذكر البخاري في هذا الباب مسائل.
أحدها:
من فاته صلاة العيد مع الإمام من أهل المصر، فإنه يصلي
ركعتين.
وحكاه عن عطاء.
وحكي - أيضا - عن أبي حنيفة والحسن وابن سيرين ومجاهد
وعكرمة والنخعي، وهو قول مالك والليث والأوزاعي والشافعي
وأحمد - في رواية، عنه.
ثم اختلفوا: هل يصلي ركعتين بتكبيركتكبيرالإمام، أم يصلي
بغير تكبير؟
(9/75)
فقالَ الحسن والنخعي ومالك والشافعي وأحمد
–في رواية -: يصلي بتكبير، كما يصلي الإمام.
واستدلوا بالمروي عن أنس، وأنس لم يفته في المصر بل كان
ساكناً خارجاً من المصر بعيداً منه، فهوفي حكم أهل القرى.
وقد أشار إلى ذلك الإمام أحمد –في رواية عنه.
والقول بانه يصلي كما يصلي الإمام قول أبي حنيفة وأبي بكر
بن أبي شيبة، حتى قالَ: لايكبر إلا كما يكبر الإمام، لا
يزيد عليه ولا ينقص.
وكذا قاله الإمام أحمد –في رواية أبي طالب.
وعن ابن سيرين، قال: كانوا يستحبون إذا فات الرجل العيدان
أن يمضي إلى الجبان، فيصنع كما يصنع الإمام.
وقال أحمد –في رواية الأثرم -: أن صليت ذهب إلى الجبان
فصلى، وإن شاء صلى مكانه.
وقال - في رواية إسماعيل بن سعيد -: إذا صلى وحده لم
يجهربالقراءة، وإن جهر جاز.
وهذا عنده حكم المصلي الصلاة الجهرية مفرداً، فلو صلاها في
جماعة جهر بها بغير إشكال، كما فعله الليث بن سعد.
وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن الإمام لايجهر بالقرأة في
(9/76)
صلاة العيدين إلا بمقدار ما يسمع من يليه،
روي ذلك عن علي، وهو قول الحسن والنخعي والثوري.
وذكر الحسن، عن أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر كانوا يسمعون القراءة في
العيدين والجمعة من يليهم.
خرجه المروزي في ((كتاب العيدين)) .
وهو قول الثوري في الجمعة والعيدين جميعاً.
وقال عطاء والأوزاعي وأحمد –في الرواية الأخرى -: يصلي من
فاته العيد ركعتين بغير تكبير.
هذه الرواية، حكاها أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب
((الشافي)) .
وقال أحمد: إنما التكبير مع الجماعة.
وجعله أبو بكر عبد العزيز كالتكبير خلف المكتوبة في أيام
التشريق.
وروى حنبل، عن أحمد، أنه مخير، إن شاء صلى بتكبير، وإن شاء
صلى بغير تكبير.
وقالت طائفة: من فاتته صلاة العيد مع الإمام صلى أربع
ركعات.
روي ذلك عن ابن مسعود من غير وجه.
وسوى ابن مسعود بين من فاتته الجمعة، ومن فاته العيد، فقال
- في كل منهما -: يصلي أربعاً.
واحتج به الإمام أحمد.
ولا عبرة بتضعيف ابن المنذر له؛ فإنه روي بأسانيد صحيحة.
(9/77)
وهذا قول الشعبي والثوري وأحمد –في رواية
أخرى، عنه -، وهي اختيار أبي بكر عبد العزيز بن جعفر من
أصحابنا، بناءً على اختيارهم اشتراط الجماعة للعيد
والاستيطان، ويكون الأربع عيداً.
نص عليه أحمد في رواية الميموني.
وهذا يشبه قول ابن شاقلا: إن أدرك تشهد الجمعة يصلي
أربعاً، وهي جمعة له، كما سبق ذلك.
وعلى هذا، فيصلي وحده من غير جماعة، نص عليه أحمد في رواية
محمد بن
الحكم، وكذا ذكره أبو بكر عبد العزيز.
وإنما يصلي في جماعة إذا قلنا: يصلي صلاة العيد على صفتها.
وهل يصلي الأربع بسلام واحد، أو يخير بين ذلك وبين صلاتها
بسلامين؟
فيهِ عن أحمد روايتان.
واختار أبو بكر صلاتها بسلام واحد، تشبيهاً لصلاتها بصلاة
من تفوته الجمعة.
وعن أحمد: يخير بين أن يصلي ركعتين أو أربعاً.
وهذا مذهب الثوري الذي حكاه أصحابه، عنه.
واستدل أحمد، بأنه روي عن أنس، أنه صلى ركعتين، وعن ابن
مسعود أنه صلى أربعاً.
وكذلك روي عن علي، أنه أمر من يصلي بضعفة الناس في المسجد
أربعاً، ولا يخطب بهم.
وروي أحمد بن القاسم، عن أحمد الجمع بين فعل أنس وقول ابن
مسعود على وجه آخر، وهو: إن صلى من فاته العيد جماعة صلى
(9/78)
كصلاة الإمام ركعتين، كما فعل أنس، وإن صلى
وحده صلى أربعاً، كما قال ابن مسعود.
وقال إسحاق: إن صلاها في بيته صلاها أربعاً كالظهر، وإن
صلاها في المصلى صلاها ركعتين بالتكبير؛ لأن علياً أمر
الذي يصلي بضعفة الناس في المسجد أن يصلي
أربعا، ركعتين مكان صلاة العيد، وركعتين مكان خروجهم إلى
الجبان، كذا رواه حنش بن المعتمر عن علي.
واعلم؛ أن الاختلاف في هذه المسألة ينبني على أصل، وهو: أن
صلاة العيد: هل يشترط لها العدد والاستيطان وإذن الإمام؟
فيهِ قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد.
وأكثر العلماء، على أنه لايشترط لها ذَلِكَ، وهو قول مالك
والشافعي.
ومذهب أبي حنيفة وإسحاق: أنه يشترط لها ذلك.
فعلى قول الأولين: يصليها المنفرد لنفسه في السفر والحضر
والمرأة والعبد ومن
فاتته، جماعة وفرادى.
لكن لا يخطب لها خطبة الإمام؛ لأن فيهِ افتئاتاً عليهِ،
وتفريقاً للكلمة.
وعلى قول الآخرين: لايصليها إلا الإمام أو من أذن لهُ، ولا
تصلى إلا كما تصلى الجمعة، ومن فاتته، فإنه لايقضيها على
صفتها، كما لايقضي الجمعة على صفتها.
ثم اختلفوا:
فقال أبو حنيفة وأصحابه: لاتقضى بالكلية، بل
(9/79)
تسقط، ولا يصلي من فاتته مع الإمام عيدا
أصلا، وإنما يصلي تطوعاً مطلقاً، إن شاء صلى ركعتين، وإن
شاء صلى
أربعاً.
وقال أحمد وإسحاق: بل تقضى كما قال ابن مسعود وغيره من
الصحابة.
وليست العيد كالجمعة؛ ولهذا يصليها الإمام والناس معه إذا
لم يعلموا بالعيد إلا من آخر النهار من غد يوم الفطر،
والجمعة لا تقضى بعد خروج وقتها، ولأن الخطبة ليست شرطاً
لها، فهي كسائر الصلوات، بخلاف الجمعة.
والذين قالوا: تقضى إذا فاتت مع الإمام، لم يختلفوا أنها
تقضى ما دام وقتها باقياً 0
فإن خرج وقتها، فهل تقضى؟
قالَ مالك: لاتقضى.
وعن الشافعي قولان.
والمشهور عندنا: إنما تقضى.
وخرجوا فيها رواية اخرى: أنها لاتقضى.
وأصل ذلك: أن السنن الرواتب: هل تقضى في غير وقتها، أم لا؟
وفيه قولان، وروايتان عن أحمد؛ فإن فرض العيد يسقط بفعل
الإمام، فيصير في حق من فاتته سنة.
ولو أدرك الإمام وقد صلى وهو يخطب للعيد ففيه أقوال:
أحدها: أنه يجلس فيسمع الخطبة، ثم إذا فرغ الإمام صلى
قضاءً، وهو قول الأوزاعي والشافعي وأبي ثور، ونص عليه أحمد
–أيضا.
(9/80)
والثاني: أنه يصلي والإمام يخطب، كما يصلي
الداخل في خطبة الجمعة والإمام يخطب، وهو قول الليث؛ لكن
الليث صلى العيد بأصحابه والإمام يخطب.
وقال الشافعية: إن كانَ الإمام يخطب في المصلى، جلس
واستمع؛ لأنه مالم يفرغ من الخطبة فهو في شعار اقامة
العيد، فيتابع فيما بقي منه، ولا يشغل عنه بالصلاة، وإن
كان يخطب في المسجد؛ فإنه يصلي قبل أن يجلس.
ثم لهم وجهان:
أحدهما: يصلي تحية المسجد، كالداخل يوم الجمعة، وهو قول
بعض أصحابنا –أيضا.
والثاني: يصلي العيد؛ لأنها آكد، وتدخل التحية ضمنا
وتبعاً، كمن دخل المسجد يوم الجمعة وعليه صلاة الفجر؛ فإنه
يقضيها وتدخل التحية تبعاً.
ووجه قول الأوزاعي وأحمد: أن استماع الخطبة من كمال متابعة
الإمام في هذا اليوم، فإذا فاتت الصَّلاة معه لم يفوت
استماع الخطبة، وليس كذلك الداخل في خطبة الجمعة؛ لأن
المقصود الاعظم الصلاة، وهي لاتفوت بالتحية.
المسألة الثانية:
صلاة النساء في بيوتهن في المصر، وكذلك المريض ونحوه.
وهذا مبني على أن صلاة العيد: هل يشترط لها العدد
والاستيطان
(9/81)
وإذن الإمام، أم لا؟
فمن قالَ: لا يشترط ذَلِكَ جوز للمرأة أن تصلي صلاة العيد
في بيتها على وجهها، وكذلك المريض، بل يجيز ذَلِكَ لكل من
تخلف في بيته، أن يصلي كما يصلي الإمام، ولا سيما إن كانَ
يقول مع ذَلِكَ أن صلاة العيدين سنة، كما يقوله الشافعي
وغيره.
وقال الحسن – في المسافر يدركه الأضحى -: فإذا طلعت الشمس
صلى ركعتين، ويضحي إن شاء.
وأما من يشترط لها العدد وإذن الإمام، فلا يرى لمن تخلف في
بيته أن يصلي صلاة العيد على وجهها، بل يصلي ركعتين بغير
تكبير –أو أربعاً -، على ما سبق.
قال الثوري وإسحاق –في النساء -: يصلين في بيوتهن أربعاً.
وعند أبي حنيفة وأصحابه: لاتقضي بحال، كما تقدم.
المسألة الثالثة:
أهل القرى: هل يصلون العيد في قراهم كما يصلي الإمام في
المصر ونوابه في الأمصار؟
وقد حكى عن عكرمة، أنهم يصلونها كصلاة أهل الأمصار.
قال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر: ثنا شعبة، عن قتادة،
عن عكرمة، في القوم يكونون في السواد في سفرتهم عيد فطر أو
أضحى، قال: فيجتمعون، فيصلون، يؤمهم أحدهم.
وقد تقدم أن جمهور العلماء على أن الجمعة تقام في القرى،
فالعيد أولى.
لكن من يشترط العدد لصلاة العيد، كأحمد –في رواية -
وإسحاق، يقول: لابد أن يكون في القرية أربعون رجلا
كالجمعة.
قال إسحاق:
(9/82)
وإن لم يخطب بهم صلوا أربعا - أيضا - قال:
وإذا لم تكن خطبة فليس بعيد.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لاعيد إلا في مصر جامع،
كقولهم في الجمعة.
ولا خلاف أنه يجب على أهل القرى والمسافرين، وإنما الخلاف
في صحة فعلها منهم، والأكثرون على صحته وجوازه.
ويستدل لذلك بفعل أنس بن مالك؛ فإنه كانَ يسكن خارجا من
البصرة على أميال منها.
فروى الإمام أحمد –فيما رواه عنه ابنه عبد الله في
((مسائله)) -: ثناهشيم: أنا
عبيد الله بن أبي بكر، عن جده أنس بن مالك، أنه كان إذا لم
يشهد العيد مع الناس بالبصرة، وكان منزله بالطف جمع أهله
وولده ومواليه، ثم يامر مولاه عبد الله بن أبي عتبة أن
يصلي بهم. قال: يكبر بهم تسع تكبيرات، خمس في الأولى،
وأربع في الآخرة، ويوالي بين القراءتين.
وروى محمد بن الحكم، عن أحمد –فيمن تفوته صلاة العيد -:
يجمع أهله
وولده، كما فعل أنس، ويكبر تسع تكبيرات في الركعتين،
ويوالي بين القراءتين.
وهذا يدل على أنه أخذ بجميع ما روي عن أنس فيمن تفوته صلاة
العيد مع
الإمام، سواء كان لبعده عن الإمام أو لغير ذَلِكَ، وأنه
يكبر تسع تكبيرات في الركعتين، ويوالي بين القراءتين.
وهذا خلاف مذهبه في
(9/83)
تكبير الإمام ونوابه في الامصار، فإنه يرى
أنهم يكبرون في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس
تكبيرات.
وفي موالاته بين القراءتين روايتان عنه:
أشهرهما: أنه يكبر قبل القراءة في الركعتين.
والثانية: أنه يوالي بينهما. واختارها أبو بكر بن جعفر.
فأما التكبير في الاولى سبعاً وفي الثانية خمساً، وهو قول
جمهور العلماء، وقد روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر وابن
عباس وأبي هريرة، عن عمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير
ومجاهد والزهري، وقال: مضت السنة به.
وحكاه ابن أبي الزناد عن فقهاء المدينة السبعة.
وهو قول مكحول وربيعة والليث والأوزاعي ومالك والشافعي
وأحمد وإسحاق وداود.
وأكثر أهل الحديث، منهم: ابن المديني وابن أبي شيبة وأبو
خثيمة وسليمان بن داود الهاشمي وغيرهم.
ولكن اختلفوا: هل يكبر في الأولى سبعاً غير تكبيرة افتتاح
الصلاة، أم بها؟
فقالَ مالك وأحمد: يحسب منها تكبيرة الافتتاح.
وروي ذلك عن ابن عباس صريحاً.
وقال الشافعي: لا يحسب منها.
وعن الليث والأوزاعي قولان، كالمذهبين.
وقالت طائفة: يكبر في الأولى خمساً بتكبيرة الافتتاح، وفي
الثانية أربعاً
(9/84)
بعد
القراءة، بتكبيرة الركوع.
روى ذلك عن ابن مسعود وإسحاق، وهو قول سفيان وأهل الكوفة.
وروي عن ابن عباس –في رواية عنه.
وفي عدد التكبير أقوال متعددة للسلف، فيه احاديث مرفوعة
معددة - أيضا -، لم يخرج منها البخاري شيئاً، وليس منها
على شرطه شيء.
وقد روى هارون بن عبد الله، عن أحمد، أنه قالَ: ليس يروى
في التكبير في العيدين حديث صحيح عن النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ذكره الخلال.
وروى حرب، عن أحمد قريباً من ذلك.
قال حرب: وسألت ابن المديني: هل صح فيه عن النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالَ: حديث عمرو بن شعيب، عن
أبيه، عن جده، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قالَ: ويروى عن أبي هريرة –من قوله - صحيح.
انتهى.
وحكى الترمذي في ((علله)) ، عن البخاري، أنه صحح هذا
الحديث.
وقال أحمد –في رواية -: أنا اذهب إليه.
وقد خرجه في ((المسند)) وأبو داود وابن ماجة بألفاظ
مختلفة،
(9/85)
ومعناها واحد: أن التكبير في الأولى سبع،
وفي الثانية خمس.
وفي رواية أحمد وأبي داود: أن القراءة بعدهما.
وقد استوفينا الأحاديث في ذَلِكَ، والكلام عليها في ((شرح
الترمذي)) بحمد
الله ومنه.
ونقل الميموني، عن أحمد، قال: التكبير في العيدين سبعاً في
الأولى وخمساً، وقد اختلف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التكبير، وكله جائز.
وهذا نص منه على أنه يجوز التكبير على كل صفة رويت عن
الصحابة من غير كراهة، وإن كانَ الافضل عنده سبعاً في
الأولى وخمساً في الثانية.
ورجح هذا ابن عبد البر، وجعله من الاختلاف المباح، كأنواع
الأذان والتشهدات ونحوها.
ثم خرج البخاري في هذا الباب:
(9/86)
987 - حديث عائشة في الجاريتين اللتين
كانتا عندها تدففان وتغنيان.
وقد ذكرنا لفظه في ((باب: سنة العيدين لأهل الإسلام)) إلى
قوله: ((دعهما يا أبا بكر؛ فإنها أيام عيد)) وتلك الأيام
أيام منى.
وزاد فيه:
(9/86)
988 - وقالت عائشة: رأيت النبي - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسترني، وأنا أنظر إلى الحبشة،
(9/86)
وهم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر، فقال
النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((دعهم،
أمنا بني أرفدة)) –يعني: من الأمن.
خرجه عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن
عروة، عن عائشة.
ولكن؛ ليس فيهِ اللفظ الذي احتج به في أول الباب، وهو
قوله: ((هذا عيدنا أهل الإسلام)) ، إنما خرجه بهذا اللفظ
في ((باب: سنة العيدين)) كما تقدم.
وليس فيه لفظة: ((أهل الإسلام)) ، ولم أجده بهذه الزيادة
في شيء من الكتب الستة، وإنما تعرف هذه اللفظة في حديث
عقبة بن عامر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: ((يوم عرفة، ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام))
.
ووجه الاستدلال به على ما بوب عليه البخاري: أن النبي -
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل العيد عاما لأهل
الإسلام كلهم، فدل على أنهم يشتركون فيمايشرع فيه جميعهم،
رجالهم
ونساؤهم، أهل أمصارهم، وأهل قراهم فتكون صلاة العيد مشروعة
لجميعهم من غير تخصيص لأحد منهم.
والمنازع في ذلك قد يقول: أنا لا أمنع ذلك، ولا أن يشهد
العيد جميع المسلمين إذا صلاها الإمام أو نائبه في المصلى،
فأما الإنفراد بصلاتها لآحاد الناس في بيوتهم، فهذا لم
ينقل عن أحد من السلف فعله، ولو كان مشروعاً لما تركوه،
ولو فعلوه لنقل.
(9/87)
وأيضا؛ فمما يدل عَلَى أن الاستيطان يعتبر
لها: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لَمْ يفعلها قط فِي اسفاره مَعَ كثرة أسفاره، وقد ادركه
عيد النحر بمنى، وأدركه عيد الفطر فِي غزوة الفتح وَهُوَ
مسافر، ولم ينقل أنهُ صلى العيدين فِي شيء من أسفاره، ولو
فعل ذَلِكَ لما أهمل
نقله؛ لتوفر الدواعي على نقله، وكثرة الحاجة إليه. والله -
سبحانه وتعالى - أعلم.
وأيضا؛ فالحديث إنما ورد في ايام منى، وظاهره: أنها أيام
التشريق.
ولو قيل: إن يوم النحر يدخل فيها، فلا يلزم من كونها عيداً
للمسلمين جميعاً أن يشترك المسلمون جميعهم في كل ما يشرع
فيها؛ فإنه يشرع فيها للحاج ما لا يشرع لغيرهم من أهل
الأمصار، فلا يمتنع أن يشرع لأهل الأمصار الاجتماع على
مالا يشرع لغيرهم بإنفرادهم، كالنساء والمسافرين. والله -
سبحانه وتعالى - أعلم.
(9/88)
26 - باب
الصلاة قبل العيد وبعدها
وقال أبو المعلى: سمعت سعيداً، عن ابن عباس: كره الصلاة
قبل العيد.
(9/89)
989 - حدثنا أبو الوليد: ثنا شعبة: أخبرني
عدي بن ثابت، قالَ: سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوم عيد
الفطر، فصلى ركعتين، ولم يصل قبلها ولا بعدها، ومعه بلال.
((أبو المعلى)) ، هو: يحيى بن ميمون الكوفي، ثقة مشهور.
وقد اختلف الناس في معنى ترك النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة يوم العيد قبلها وبعدها:
فمنهم من قال: لأنه كان إماماً، والإمام لايتطوع موضع صلاة
العيد قبلها ولا بعدها؛ لأن حضوره كاقامة الصَّلاة، فلا
يتطوع بعده، وإذا خطب انصرف وانصرف الناس معه، فلو صلى
فلربما احتبس الناس لهُ، وفيه مشقة.
وهذا تأويل جماعة، منهم: سليمان بن حرب وطائفة من الشافعية
وغيرهم.
وأنكر ذلك الإمام أحمد، وقال: إنما لم يصل قبلها ولا
بعدها؛ لأنه لا صلاة قبلها ولا بعدها.
واستدل بأن ابن عباس وابن عمر
(9/89)
رويا أن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لم يصل قبلها ولا بعدها وكرها الصلاة قبلها
وبعدها استدلالاً بما روياه، فعلهم أنهما فهما مما روياه
كراهة الصلاة قبلها وبعدها، وهما أعلم بما رويا.
فأما كراهة ابن عباس، فقد ذكره البخاري تعليقاً، وروي عنه
من وجوه أخرَ.
وأما حديث ابن عمر، فمن رواية أبان بن عبد الله البجلي، عن
أبي بكر بن
حفص، عن ابن عمر، أنه خرج يوم عيد فطر، ولم يصل قبلها
ولابعدها، وذكر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فعله.
خرجه الإمام أحمد والترمذي.
وقال: حسن صحيح.
وحكى في ((علله)) عن البخاري، أنه قال: هو حديث صحيح،
وأبان البجلي صدوق.
وأبان هذا، وثقه ابن معين، وقال أحمد: صدوق صالح الحديث.
وروى مالك وغيره، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان لا يصلي
قبل العيد ولا بعدها – ولم يرفعه.
وكذا رواه عبد الله بن دينار، عن ابن عمر.
قال الإمام أحمد: روي عن ابن عمر وابن عباس وسلمة بن
(9/90)
الأكوع وبريدة، أنهم لم يصلوا قبلها ولا
بعدها. انتهى.
وروي –أيضا - عن علي وجابر وابن أبي أوفى.
وقال الزهري: ما علمنا أحداً كانَ يصلي قبل خروج الإمام
يوم العيد ولا بعده.
ذكره عبد الرزاق، عن معمر، عنه.
وخرجه جعفر الفريابي من رواية يونس، عن الزهري، قال: لم
يبلغنا أن احداً من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يسبح يوم الفطر والأضحى قبل الصلاة ولا
بعدها، إلا أن يمر منهم مار بمسجد رسول الله - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيسبح فيه.
وخرجه الأثرم من رواية الزبيدي، عن الزهري، قال: لم أسمع
أحدا من علمائنا يذكر عن أحد من سلف هذه الأمة، أنه كان
يصلي قبلها ولا بعدها.
وكان عمر بن عبد العزيز لا يسبح قبلها ولا بعدها، ويبكر
بالخروج إلى الخطبة والصلاة، كما لا يصلي أحد قبلها.
وحكى الإمام أحمد هذا القول عن أهل المدينة.
وروي عن الشعبي،
(9/91)
قالَ: أتيت المدينة وهم متوافرون، فلم أر
أحداً من الفقهاء يصلي قبلها ولا بعدها.
خرجه الفريابي.
وهو قول مالك وأحمد وإسحاق.
وحكاه الترمذي عن الشافعي.
وهؤلاء، منهم من كان ينهى عن الصلاة قبلها، ويزجر عنه،
وروي عن أبي قتادة الأنصاري وحذيفة وغيرهما.
ومنهم من كان يخبر بأنه ليس من السنة، ولا ينهى عنه، ومنهم
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
وحكى الإمام أحمد عن أهل البصرة، أنهم رجعوا في الصلاة
قبلها وبعدها، روي عن أنس وأبي برزة الاسلمي والحسن وأخيه
سعيد وجابر بن زيد وأبي بردة بن أبي موسى، وهو المشهور عن
الشافعي.
وقد حكاه الإمام أحمد –في رواية الأثرم - عن أنس وأبي
برزة.
وروى الإمام أحمد –في رواية ابنه عبد الله -: نا محمد بن
جعفر: نا سعيد، عن
قتادة، أن أبا برزة الأسلمي وأنس بن مالك والحسن وعطاء بن
يسار، كانوا لا يرون بالصلاة قبل الإمام ولا بعده بأساً.
(9/92)
وقد خرج البيهقي من رواية الداناج، أنه رأى
أبا بردة يصلي يوم العيد قبل الإمام.
فظن صاحب ((شرح المهذب)) ، أن من حكاه عنة أبي برزة
الأسلمي فقد وهم وصحف، وليس كما قال.
ورخصت طائفة أخرى في الصلاة بعدها دون ما قبلها، وحكاه
الإمام أحمد عن أهل الكوفة.
وقد روي عن علي من وجه ضعيف.
وعن ابن مسعود وأصحابه.
وعن ابن أبي ليلى والنخعي والثوري وأبي حنيفة والأوزاعي.
وفرقت طائفة بين أن يصلي العيد في المصلى، فلا يصلي قبلها
ولا بعدها، وبين أن يصلي في المسجد فيصلي قبلها وبعدها،
وهو قول الليث، ورواية عن مالك.
ولم يذكر في ((تهذيب المدونة)) سواها.
وعنه، الرخصة أن يصلي قبلها في المسجد خاصة.
وهذا كله في حق غير الإمام، فأما الإمام فلا نعلم في كراهة
الصلاة له خلافاً قبلها وبعدها.
وكل هذا في الصلاة في موضع صلاة العيد، فأما الصلاة في غير
موضع صلاة
العيد، كالصلاة في البيت أو في المسجد، إذا صليت العيد في
المصلى، فقال أكثرهم: لا تكره الصلاة فيه قبلها وبعدها.
روي ذلك عن بريدة ورافع بن خديج.
وذكره عباس بن سهل، عن أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنهم كانوا يفعلونه.
وكان عروة
(9/93)
يفعله.
وروي عن ابن مسعود، أنه كان يصلي بعد العيد في بيته.
وهو مذهب أحمد وإسحاق.
وروى عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عطاء بن يسار، عن أبي
سعيد، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان
لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين.
خرجه الإمام أحمد وابن ماجه وابن خزيمة في ((صحيحه))
والحاكم.
وقال: سنة عزيزة، بإسناد صحيح.
كذا قال؛ وابن عقيل مختلف فيهِ.
وقالت طائفة: لا صلاة يوم العيد حتَّى تزول الشمس.
وصح عن ابن عمر، أنه كان يفعله.
وعن كعب بن عجرة، أنه أنكر على من صلى بعد العيد في
المسجد، وذكر أنه خلاف السنة، وقال: هاتان الركعتان سبحة
هذا اليوم حتى تكون الصلاة تدعوك.
واختار هذا القول أبو بكر الآجري، وأنه تكره الصلاة يوم
العيد حتى تزول الشمس، وحكاه عن أحمد.
وحكايته عن أحمد غريبة.
وعند أحمد وأكثر أصحابه: لاتصلي قبل العيد، ولو صليت في
(9/94)
المسجد ودخل إليه بعد زوال وقت النهي.
وسئل أحمد - في رواية أحمد بن القاسم -: لو كان على رجل
صلاة في ذلك الوقت: هل يصلي؟ قالَ: أخاف أن يقتدي به بعض
من يراه. قيل لهُ: فإن يكن ممن يقتدى به؟ قال: لا أكرهه،
وسهل فيه.
(9/95)
|