فيض القدير شرح
الجامع الصغير حرف الهمزة
(1/35)
أي هذا باب الأحاديث المبدوءة بحرف الهمزة
وابتدأه بحرف الهمزة مع الألف وجعل مطلعه حديث إتيان باب
الجنة إشارة إلى أن الغاية المطلوبة من تأليفه هذا الكتاب
التقرب إلى الله الموصل إلى الفوز بإتيان باب الجنة تفاؤلا
بكون أول ما يقرع الأسماع منه ذكر الجنة وإتيانها ولأن
جميع ما يأتي بعده في أحكام العبادة ومتعلقاتها ودخول
الجنة أفضل من جميع العبادات كما أفتى به السبكي أي أشرف
وأرفع. ووجهه الولي العراقي بأن ثواب الله تعالى أشرف من
أفعالنا فقال:
(1/35)
2 - (آتي) بالمد (باب الجنة) أي أجيء بعد
الانصراف من الحشر للحساب إلى أعظم المنافذ التي يتوصل
منها إلى دار الثواب وهو باب الرحمة أو هو باب التوبة كما
في النوادر: فإن قلت هل لتعبيره بالإتيان دون المجيء من
[ص:36] نكتة؟ قلت: نعم وهي الإشارة إلى أن مجيئه يكون بصفة
من ألبس خلع الرضوان فجاء على تمهل وأمان من غير نصب في
الإتيان إذ الإتيان كما قال الراغب مجيء بسهولة. قال:
والمجيء أعم ففي إيثاره عليه مزية زهية. وفي الكشاف وغيره:
إن أهل الجنة لا يذهب بهم إليها إلا راكبين فإذا كان هذا
في آحاد المؤمنين فما بالك بإمام المرسلين؟ قال الراغب:
والباب يقال لمدخل الشيء وأصله مداخل الأمكنة كباب الدار
والمدينة ومنه يقال في العلم باب كذا وهذا العلم باب إلى
كذا أي منه يتوصل إليه ومنه خبر: " أنا مدينة العلم وعلي
بابها " أي به يتوصل وقد يقال أبواب الجنة وأبواب جهنم
للأسباب الموصلة إليها انتهى. والجنة في الأصل المرة من
الجن مصدر جنه ستره ومدار التركيب على ذلك سمي به الشجر
المظلل لالتفاف أغصانه وسترها ما تحته ثم البستان لما فيه
من الأشجار المتكاثفة المظللة ثم دار الثواب لما فيها من
الجنان مع أن فيها ما لا يوصف من القصور لأنها مناط نعيمها
ومعظم ملاذها. وقال الزمخشري: الجنة اسم لدار الثواب كلها
وهي مشتملة على جنات كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاق
العاملين لكل طبقة منهم جنة منها قال ابن القيم: ولها سبعة
عشر اسما وكثرة الأسماء آية شرف المسمى أولها هذا اللفظ
العام المتناول لتلك الدار وما اشتملت عليه من أنواع
النعيم والبهجة والسرور وقرة العين ثم دار السلام: أي
السلامة من كل بلية ودار الله ودار الخلد ودار الإقامة
وجنة المأوى وجنة عدن والفردوس وهو يطلق تارة على جميع
الجنان وأخرى على أعلاها وجنة النعيم والمقام الأمين ومقعد
صدق وقدم صدق وغير ذلك مما ورد به القرآن (يوم القيامة)
فعالة تقحم فيها التاء للمبالغة والغلبة وهي قيام مستعظم
والقيام هو الاستقلال بأعباء ثقيلة ذكره الحراني (فأستفتح)
السين للطلب وآثر التعبير بها إيماء إلى القطع بوقوع
مدخولها وتحققه أي أطلب انفراجه وإزالة غلقه يعني بالقرع
لا بالصوت كما يرشد إليه خبر أحمد: " آخذ بحلقة الباب
فأقرع " وخبر البخاري عن أنس: " أنا أول من يقرع باب الجنة
" والفاء سببية أي يتسبب عن الإتيان الاستفتاح ويحتمل
جعلها للتعقيب بل هو القريب. فإن قلت ما وجهه؟ قلت:
الإشارة إلى أنه قد أذن له من ربه بغير واسطة أحد لا خازن
ولا غيره وذلك أن من ورد باب كبير فالعادة أن يقف حتى
ينتهي خبره إليه ويستأمر فإن أذن في إدخاله فتح له.
فالتعقيب إشارة إلى أنه قد صانه ربه عن ذل الوقوف وأذن له
في الدخول قبل الوصول بحيث صار الخازن مأموره منتظرا
لقدومه (فيقول الخازن) أي الحافظ وهو المؤتمن على الشيء
الذي استحفظه والخزن حفظ الشيء في الخزانة ثم عبر به عن كل
حفظ ذكره الراغب سمي الموكل بحفظ الجنة خازنا لأنها خزانة
الله تعالى أعدها لعباده وأل فيه عهدية والمعهود رضوان
وظاهره أن الخازن واحد وهو غير مراد بدليل خبر أبي هريرة:
" من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب
هلم " فهو صريح في تعدد الخزنة إلا أن رضوان أعظمهم
ومقدمهم وعظيم الرسل إنما يتلقاه عظيم الحفظة (من أنت)
أجاب بالاستفهام وأكده بالخطاب تلذذا بمناجاته وإلا فأبواب
الجنة شفافة وهو العلم الذي لا يشتبه والمتميز الذي لا
يلتبس وقد رآه رضوان قبل ذلك وعرفه ومن ثم اكتفى بقوله
(فأقول محمد) وإن كان المسمى به كثيرا. فإن قلت ينافي كون
أبواب الجنة شفافة خبر أبي يعلى عن أنس " أقرع باب الجنة
فيفتح لي باب من ذهب وحلقه من فضة " قلت: ما في الجنة لا
يشبه ما في الدنيا إلا في مجرد الاسم كما في خبر يأتي فلا
مانع من كون ذهب الجنة شفافا فتدبر. ثم إنه لم يقل أنا
لإيهامه مع ما فيه من الإشعار بتعظيم المرء نفسه وهو سيد
المتواضعين وهذه الكلمة جارية على ألسنة الطغاة المتجبرين
إذا ذكروا مفاخرهم وزهوا بأنفسهم قال في المطامح: وعادة
العارفين المتقين أن يذكر أحدهم اسمه بدل قوله: " أنا "
إلا في نحو إقرار بحق فالضمير أولى
وقال ابن الجوزي: أنا لا يخلو عن نوع تكبر كأنه يقول أنا
لا أحتاج إلى ذكر اسمي ولا نسبي لسمو مقامي. وقال بعض
المحققين: ذهب طائفة من العلماء وفرقة من الصوفية إلى
كراهة إخبار الرجل عن نفسه بقوله أنا تمسكا بظاهر الحديث
حتى قالوا كلمة أنا لم تزل مشئومة على أصحابها وأرادوا أن
إبليس اللعين إنما لعن [ص:37] بقولها وليس كما أطلقوا بل
المنهي عنه ما صحبه النظر إلى نفسه بالخيرية كما نقرر. ولا
ننكر إصابة الصوفية في دقائق علومهم وإشاراتهم في التبرئ
من الدعاوى الوجودية لكنا نقول إن الذي أشاروا إليه بهذا
راجع إلى معان تتعلق بأحوالهم دون ما فيه التعلق بالقول
كيف وقد ناقض قولهم نصوص كثيرة وهم أشد الناس فرارا عن
مخالفتها كقوله تعالى حكاية عنه عليه الصلاة والسلام: "
إنما أنا بشر مثلكم " " وأنا أول المسلمين " " وما أنا من
المتكلفين " وخبر " أنا سيد ولد آدم ": قال بعض العارفين
والحاصل أن ذلك يتفاوت بتفاوت المقامات والأحوال فالمتردد
في الأحوال المتجول في الفناء والتكوين ينافي حاله أن يقول
أنا ومن رقى إلى مقام البقاء بالله وتصاعد إلى درجات
التمكين فلا يضره. انتهى. وأما من ليس من هذه الطائفة فقد
قال النووي: لا بأس بقوله أنا الشيخ فلان أو القاضي فلان
إذا لم يحصل التمييز إلا به وخلا عن الخيلاء والكبر والزهو
والقول عبارة عن جملة ما يتكلم به المتكلم على وجه
الحكاية. ذكره جمع. وقال القاضي: هو التلفظ بما يفيد ويقال
للمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ ويقال للمذهب
والرأي مجازا وأصله قول الزمخشري من المجاز هذا قول فلان
أي ورأيه ومذهبه
(فيقول بك) قيل الباء متعلقة بالفعل بعدها ثم هي سببية
قدمت للتخصيص أي بسببك (أمرت) بالبناء للمفعول والفاعل هو
الله (أن لا أفتح) كذا في نسخة المؤلف بخطه وهكذا ذكره في
جامعه الكبير والذي وقفت عليه في نسخ مسلم الصحيحة
المقروءة " لا أفتح " بإسقاط أن (لأحد) من الخلائق (قبلك)
لا بسبب آخر وقبل الباء صلة للفعل: " وأن لا أفتح " بدل من
الضمير المجرور أي أمرت بفتح الباب لك قبل غيرك من
الأنبياء وفي رواية: " ولا أقوم لأحد بعدك " وذلك لآن
قيامه إليه خاصة إظهارا لمرتبته ومزيته ولا يقوم في خدمة
أحد غيره بل خزنة الجنة يقومون في خدمته وهو كالملك عليهم
وقد أقامه الله في خدمته صلى الله عليه وسلم حتى مشى إليه
وفتح له " وأحد " يستعمل في النفي فيكون لاستغراق جنس
الناطقين وتناول القليل والكثير على طريق الاجتماع
والافتراق. وعلم من السياق أن طلب الفتح إنما هو من الخازن
وإلا لما كان هو المجيب. فإن قلت ورد عن الحسن وقتادة
وغيرهما أن أبواب الجنة يرى ظاهرها من باطنها وعكسه وتتكلم
وتعقل ما يقال لها انفتحي انغلقي كما نقله ابن القيم وغيره
فلم طلب الفتح من الخازن ولم يطلبه منها بلا واسطة؟ قلت:
الظاهر أنها مأمورة بعدم الاستقلال بالفتح والغلق وأنها لا
تستطيع ذلك إلا بأمر عريفها المالك لأمرها بإذن ربها وإنما
يطالب بما يراد من القوم عرفاؤهم. فإن قلت: ما فائدة جعل
الخازن للجنات مع أن الخزن إنما يكون في المتعارف حفظا لما
يخاف ضياعه أو تلفه أو تطرق النقص إليه فيفوت كله أو بعضه
على صاحبه والجنة لا يمكن فيها ذلك؟ قلت: إن خزن ملائكة
الجنة نعيمها إنما يكون لأهلها فكل منهم يجعل إليه مراعاة
قسط معلوم من تلك النعم لمن أعد له حتى إذا وافى الجنة كان
الخازن هو الممكن له منه فخزنه إياه قبل التسليم هو مقامه
على ملاحظة ما جعل سبيله وانتظار من أهل له وإيصاله إليه
فهذا هو المراد لا حفظها من أحد يخاف منه عليها ذكره
الحليمي
فإن قلت: ما ذكر من أن رضوان هو متولي الفتح يعارضه خبر
أبي نعيم والديلمي: " أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة
فيفتحها الله عز وجل لي " قلت: لا معارضة فإن الله تعالى
هو الفاتح الحقيقي وتولي رضوان ذلك إنما هو بإقداره
وتمكينه. ثم إن ظاهر الحديث استشكل بأن الزمخشري والقاضي
ذكرا أن أبواب الجنة تفتح لأهلها قبل مجيئهم بدليل: {جنات
عدن مفتحة لهم الأبواب} ووجهه الإمام الرازي بأنه يوجب
السرور والفرح حيث نظروا الأبواب مفتحة من بعد وبأنه يوجب
الخلاص من ذل الوقوف للاستفتاح. وأجيب أولا بخروج المصطفى
ومن تبعه عن سياق الآية. واعترض بأنه خلاف الظاهر بلا
ضرورة وثانيا بأن الجملة الحالية قيد لمجيء المجموع فيكون
مقتضاها تحقق الفتح قبل مجيء الكل فلا ينافي تأخره عن مجيء
إنسان واحد أو زمرة واحدة. ونوزع بأن فعل الجمع إذا قيد
بزمن فالمفهوم المتبادر منه أنه زمن لصدور الفعل عنهم فإنا
إذا قلنا زيد وعمرو وبكر ضربوا بعد الطلوع لم يفهم منه إلا
صدور الضرب عنهم في ذلك الزمن حتى لو ضرب واحد منهم قبله
رمى بالكذب وثالثا بأن المراد بالأبواب في الآية أبواب
المنازل التي في الجنة لا أبواب الجنة المحيطة بالكل
والمراد في الحديث باب نفس الجنة المحيطة ونوقش بأن الجنة
والنار حيث وقعا في القرآن معا مفردين أو متقابلين فالمراد
منهما أصلهما ورابعا بأنا لا نسلم دلالة الآية على تقدم
الفتح إذ لو فتح عند إتيانهم صح. إذ [ص:38] الجنان مفتحة
لهم أبوابها غايته أن المدح في الأول أبلغ وبأن اسم
المفعول العامل إذ كان بمعنى الاستقبال فعدم الدلالة ظاهر
إذ المعنى ستفتح لهم وكذا إن كان هو بمعنى الحال مريدا به
حال الدخول وإن أريد به حال التكلم ففيه بعد. وخامسا قال
بعض المحققين وهو أحسنها إن أبوابها تفتح أولا بعد
الاستفتاح من جمع ويكون مقدما بالنسبة إلى البعض كما
يقتضيه خبر: " إن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمس
مئة عام " والظاهر أنها بعد الفتح للفقراء لا تغلق وسادسا
بأن الجنة لكونها دار الله ومحل كرامته ومعدن خواصه إذا
انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة فيرغبون إلى مالكها أن
يفتحها لهم ويستشفعون إليه بأولي العزم فكلهم يحجم حتى تقع
الدلالة على أفضلهم فيأتي إلى العرش ويخر ساجدا لربه فيدعه
ما شاء الله أن يدعه ثم يأذن له في الرفع وأن يسأل حاجته
فيشفع في فتحها فيشفعه تعظيما لخطرها وإظهارا لمنزلته عنده
ودفعا لتوهم الغبي أنها كالجنان التي يدخلها من شاء ولا
يعارضه: " مفتحة لهم الأبواب " لدلالة السياق على أن
المعنى أنهم إذا دخلوها لم تغلق أبوابها عليهم بل تبقى
مفتحة إشارة إلى تصرفهم وذهابهم وإيابهم ودخول الملائكة
عليهم من كل باب بالتحف والألطاف من ربهم وإلى أنها دار
أمن لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب كما كانوا في الدنيا
فلا تدافع بين الآية والخبر
ثم إن الأولية في الحديث لا تشكل بإدريس حيث أدخل الجنة
بعد موته وهو فيها كما ورد لآن المراد الدخول التام يوم
القيامة وإدريس يحضر الموقف للسؤال عن التبليغ ولا بأن
السبعين ألفا الداخلين بغير حساب يدخلون قبله لأن دخولهم
بشفاعته فينسب إليه واعترض بأن التعبير بسبعين ألفا فيه
قصور لثبوت الزيادة هو القصور لأن العرب تريد به المبالغة
في التكثير ومثله غير كثير ألا ترى إلى ما ذكره المفسرون:
{في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا} ولا بخبر أحمد أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال لبلال: " بم سبقتني فما دخلت الجنة إلا
سمعت خشخشتك أمامي " لأنها رؤية منام ولا يقدح فيه أن رؤيا
الأنبياء حق إذ معناه أنها ليست من الشيطان وبلال مثل له
ماشيا أمامه إشارة إلى أنه استوجب الدخول لسبقه للإسلام
وتعذيبه في الله وأن ذلك صار أمرا محققا وقد أشار إلى ذلك
السمهودي فقال في حديث بلال إنه يدخل الجنة قبل المصطفى
وإنما رآه أمامه في منامه والمراد منه سريان الروح في حالة
النوم في تلك الحالة تنبيها على فضيلة عمله وأما الجواب
بأن دخوله كالحاجب به إظهارا لشرفه فلا يلائم السياق إذ لو
كان كذلك لما قال له " بم سبقتني " وليت شعري ما يصنع من
أجاب به بخبر أبي يعلى وغيره: " أول من يفتح له باب الجنة
أنا إلا أن امرأة تبادرني فأقول مالك أو من أنت؟ فتقول أنا
امرأة قعدت على يتامى " وخبر البيهقي " أول من يقرع باب
الجنة عبد أدى حق الله وحق مواليه " وأقول هذه أجوبة كلها
لا ظهور لها ولا حاجة إليها إذ ليس في هذا الخبر إلا أنه
أول من يفتح له الباب وليس فيه أنه أول داخل بل يحتمل أنه
يستفتح لهم ويقدم من شاء من أمته في الدخول كما هو
المتعارف في الدنيا فإن أبيت إلا جوابا على فرض أنه أول
داخل وهو ما ورد في أحاديث أخرى فدونك جوابا يثلج الفؤاد
بعون الرؤوف الجواد وهو أنه قد ثبت في خبر مسدد أن دخول
المصطفى يتعدد فالدخول الأول لا يتقدم ولا يشاركه فيه أحد
ويتخلل بينه وبين ما بعده دخول غيره فقد روى الحافظ ابن
منده بسنده عن أنس رفعه: " أنا أول الناس تنشق الأرض عن
جمجمتي يوم القيامة ولا فخر وأعطى لواء الحمد ولا فخر وأنا
سيد الناس يوم القيامة ولا فخر وأنا أول من يدخل الجنة ولا
فخر أجيء باب الجنة فآخذ بحلقتها فيقولون من؟ فأقول أنا
محمد فيفتحون لي فأجد الجبار مستقبلي فأسجد له فيقول ارفع
رأسك وقل يسمع لك واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول: أمتي أمتي
فيقول اذهب إلى أمتك فمن وجدت في قلبه مقال حبة من شعير من
الإيمان فأدخله الجنة فأقبل فمن وجدت في قلبه ذلك فأدخله
الجنة فإذا الجبار مستقبلي فأسجد له " الحديث وكرر فيه
الدخول أربعا وفي البخاري نحوه وبه تندفع الاشكالات
ويستغنى عن تلك التكلفات وفي أبي داود أن أبا بكر أول من
يدخل من هذه الأمة ولعله أول داخل من الرجال بعده وإلا فقد
جزم المؤلف وغيره بأن أول من يدخل بعد النبي صلى الله عليه
وسلم بنته فاطمة لخبر أبي نعيم: " أنا أول من يدخل الجنة
ولا فخر وأول من يدخل علي الجنة ابنتي فاطمة " وقد انبسط
الكلام في هذا الخبر وما كان لنا باختيار لكن تضمن أسرارا
جرنا حبها إلى إبداء بعضها وبعد ففي الزوايا خبايا
(حم م) في كتاب الإيمان (عن أنس) بن مالك
(1/35)
[ص:39] 3 - (آخر من يدخل الجنة) أي من
الموحدين لأن الكفار مخلدون لا يخرجون من النار أبدا ولم
يصب من قال من أمة محمد إذ الموحدون الذين يعذبون ثم
يدخلونها لا ينحصرون في أمة محمد. وفي عدة أخبار إن هذه
الأمة يخفف عن عصاتها ويخرجون قبل عصاة غيرها كخبر
الدارقطني: " إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها
وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي " قال ابن القيم فهذه
الأمة أسبق الأمم خروجا من الأرض وأسبقهم إلى أعلى مكان في
الموقف وأسبقهم إلى ظل العرش وأسبقهم إلى فصل القضاء
وأسبقهم إلى الجواز على الصراط وأسبقهم إلى دخول الجنة.
ووقع في النوادر للحكيم من حديث أبي هريرة " إن أطول أهل
النار فيها مكثا من يمكث سبعة آلاف سنة " قال ابن حجر
وسنده واه (رجل) يختص بالذكر من الناس ويقال الرجلة للمرأة
إذا كانت متشبهة به في بعض الأحوال ذكره الراغب (يقال له)
أي يدعى (جهينة) بالتصغير: اسم قبيلة سمي به الرجل (فيقول
أهل الجنة) أي يقول بعضهم لبعض والمراد بأهلها سكانها من
البشر والملائكة والحور العين وغيرهم لكن في السياق إيماء
إلى أن القائل من البشر (عند) بتثليث العين (جهينة) بجيم
ثم هاء ووقع في التذكرة الحمدونية أنه روى أيضا حنيفة
بالفاء ولم أقف على هذه الرواية (الخبر اليقين) أي الجازم
الثابت المطابق للواقع من أنه هل بقي أحد في النار يعذب أو
لا. وهذه الآخرية لا يعارضها حديث مسلم: " آخر من يدخل
الجنة رجل يمشي على الصراط فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه
النار مرة فإذا جاوزها التفت إليها فقال تبارك الذي نجاني
منك " الحديث لإمكان الجمع بأن جهينة آخر من يدخل الجنة
ممن دخل النار وعذب فيها مدة ثم أخرج وهذا آخر من يدخل
الجنة ممن ينصرف فيمر على الصراط في ذهابه إلى الجنة ولم
يقض بدخوله النار أصلا ولا ينافيه قوله وتسفعه النار مرة
لأن المراد أنه يصل إليه لهبها وهو خارج عن حدودها. ثم
رأيت ابن أبي جمرة جمع بنحوه فقال: هذا آخر من يخرج منها
بعد أن يدخلها حقيقة وذاك آخر من يدخل ممن يمر على الصراط
فيكون التعبير بأنه خرج من النار بطريق المجاز لأنه أصابه
من حرها وكربها ما يشاركه فيه بعض من دخلها. وما ذكر من أن
اسمه جهينة هو ما وقع في هذا الخبر. قال القرطبي والسهيلي:
وجاء أن اسمه هناد وجمع بأن أحد الاسمين لأحد المذكورين
والآخر للآخر. ومن الأمثال عند العرب قبل الإسلام: عند
جهينة الخبر اليقين. قال ابن حمدون: ولذلك خبر مشهور
متداول وهو رجل كان اسمه جهينة عنده خبر من قتيل قد خفي
أمره فذكروا ذلك فصار مثلا مستعملا بينهم قال الراغب وآخر:
يقابل الأول وآخر يقابل به الواحد والتأخير يقابل التقديم
والدخول ضد الخروج ويستعمل في الزمان والمكان والأعمال
والاستخبار والسؤال عن الخبر <تنبيه> ما ذكرته آنفا من أن
عذاب الكفار في جهنم دائم أبدا هو ما دلت عليه الآيات
والأحاديث وأطبق عليه جمهور الأئمة سلفا وخلفا. ووراء ذلك
أقوال يجب تأويلها. فمنها ما ذهب إليه الشيخ محي الدين بن
العربي أنهم يعذبون فيها مدة ثم تنقلب عليهم وتبقى طبيعة
نارية لهم يتلذذون بها لموافقتها لطبيعتهم فإن الثناء بصدق
الوعد لا بصدق الوعيد والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود
بالذات فيثنى عليها بصدق الوعد لا بصدق الوعيد بل بالتجاوز
{فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله} لم يقل وعيده بل قال
ويتجاوز عن سيئاتهم مع أنه توعد على ذلك وأثنى على إسماعيل
بأنه كان صادق الوعد وقد زال الإمكان في حق الحق لما فيه
من طلب المرجح:
فلم يبق إلا صادق الوعد وحده. . . وما لوعيد الحق عين
تعاين. . . وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم
على لذة فيها نعيم مباين. . . نعيم جنان الخلد والأمر
واحد. . . وبينهما عند التجلي تباين
يسمى عذابا من عذوبة طعمه. . . وذاك له كالقشر والقشر صاين
وقال في موضع آخر: إن أهل النار إذا دخلوها لا يزالون
خائفين مترقبين أن يخرجوا منها فإذا أغلقت عليهم أبوابها
اطمأنوا لأنها خلقت على وفق طباعهم. قال ابن القيم: وهذا
في طرف والمعتزلة القائلون بأنه يجب على الله تعذيب [ص:40]
من توعده بالعذاب في طرف فأولئك عندهم لا ينجو من النار من
دخلها أصلا وهذا عنده لا يعذب بها أصلا والقولان مخالفان
لما علم بالاضطرار أن الرسول جاء به وأخبر به عن الله
انتهى. وما ذكره من أن ابن العربي يقول إنه لا يعذب بها
أصلا ممنوع فإن حاصل كلامه ومتابعيه أن لأهل النار
الخالدين فيها حالات ثلاث الأولى أنهم إذا دخلوها سلط
العذاب على ظواهرهم وبواطنهم وملكهم الجزع والاضطراب
فطلبوا أن يخفف عنهم العذاب أو أن يقضى عليهم أو أن يرجعوا
إلى الدنيا فلم يجابوا والثانية أنهم إذا لم يجابوا وطنوا
أنفسهم على العذاب فعند ذلك رفع الله العذاب عن بواطنهم
وخبت نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة. والثالثة
أنهم بعد مضي الأحقاب ألفوا العذاب واعتادوه ولم يتعذبوا
بشدته بعد طول مدته ولم يتألموا به وإن عظم إلى أن آل
أمرهم إلى أن يتلذذوا به ويستعذبوه حتى لو هبت عليهم نسيم
من الجنة استكرهوه وعذبوا به كالجعل وتأذيه برائحة الورد:
عافانا الله من ذلك. ومنها قول جمع إن النار تفنى فإن الله
تعالى جعل لها أمدا تنتهي إليه ثم يزول عذابها لقوله تعالى
{خالدين فيها إلا ما شاء ربك} {خالدين فيها مادامت
السماوات والأرض} {لابثين فيها أحقابا} قال هؤلاء: وليس في
القرآن دلالة على بقاء النار وعدم فنائها إنما الذي فيه أن
الكفار خالدون فيها وأنهم غير خارجين منها وأنهم لا يفتر
عنهم العذاب وأنهم لا يموتون فيها وأن عذابهم فيها مقيم
وأنه غرام لازم. وهذا لا نزاع فيه بين الصحابة والتابعين
إنما النزاع في أمر آخر وهو أن النار أبدية أو مما كتب
عليه الفناء وأما كون الكفار لا يخرجون منها ولا يدخلون
الجنة فلم يختلف فيه أحد من أهل السنة. وقد نقل ابن تيمية
القول بفنائها عن ابن عمر وابن عمرو وابن مسعود وأبي سعيد
وابن عباس وأنس والحسن البصري وحماد بن سلمة وغيرهم روى
عبد بن حميد بإسناد رجاله ثقات عن عمر: لو لبث أهل النار
في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه. وروى أحمد
عن ابن عمرو بن العاص: " ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه
أبوابها ليس فيها أحد " وحكاه البغوي وغيره عن أبي هريرة
وغيره. وقد نصر هذا القول ابن القيم كشيخه ابن تيمية وهو
مذهب متروك وقول مهجور لا يصار إليه ولا يعول عليه. وقد
أول ذلك كله الجمهور وأجابوا عن الآيات المذكورة بنحو
عشرين وجها وعما نقل عن أولئك الصحب بأن معناه ليس فيها
أحد من عصاة المؤمنين أما مواضع الكفار فهي ممتلئة منهم لا
يخرجون منها أبدا كما ذكره الله تعالى في آيات كثيرة. وقد
قال الإمام الرازي: قال قوم إن عذاب الله منقطع وله نهاية
واستدلوا بآية: {لابثين فيها أحقابا} وبأن معصية الظلم
متناهية فالعقاب عليها بما لا يتناهى ظلم والجواب أن قوله
" أحقابا " لا يقتضي أن له نهاية لأن العرب يعبرون به
وبنحوه عن الدوام. ولا ظلم في ذلك لأن الكافر كان عازما
على الكفر ما دام حيا فعوقب دائما فهو لم يعاقب بالدائم
إلا على دائم فلم يكن عذابه إلا جزاء وفاقا
(حط في) كتاب (رواه مالك) أي في كتاب أسماه من روى عن مالك
من وجهين من حديث عبد الله بن الحكم عن مالك عن نافع (عن)
عبد الله (ابن عمر) بن الخطاب ومن حديث جامع ابن سوار عن
زهير بن عباد عن أحمد بن الحسين اللهبي عن عبد الملك ابن
الحكم ورواه الدارقطني من هذين الوجهين في غرائب مالك. ثم
قال: هذا حديث باطل وجامع ضعيف وكذا عبد الملك انتهى.
وأقره عليه في اللسان. وقال في الفتح فيه عبد الملك وهو
واه ورواه العقيلي من طريق ضعيف عن أنس. وما جرى عليه
المؤلف من أن سياق الحديث هكذا هو ما وقفت عليه من خطه من
نسخ هذا الكتاب. والثابت في رواية الخطيب خلافه ولفظه: آخر
من يدخل الجنة رجل من جهينة يقال له جهينة فيقول أهل
الجنة: عند جهينة الخبر اليقين سلوه هل بقي أحد من الخلائق
يعذب؟ فيقول لا. انتهى. ومثله الدارقطني وهكذا أورده عنه
المصنف في جامعه الكبير. ثم قال: قال الدارقطني باطل وأقره
عليه. وقد أكثر المؤلف في هذا الجامع من الأحاديث الضعيفة.
قال ابن مهدي. لا ينبغي الاشتغال بكتابة أحاديث الضعفاء
فإن أقل ما يفوته أن يفوته بقدر ما كتب من حديث أهل الضعف
من حديث الثقات. وقال ابن المبارك: لنا في صحيح الحديث شغل
عن سقيمه اه. على أنه كان ينبغي له - أي المؤلف - أن يعقب
كل حديث بالإشارة بحاله بلفظ [ص:41] صحيح أو حسن أو ضعيف
في كل حديث فلو فعل ذلك كان أنفع وأصنع ولم يزد الكتاب به
إلا وريقات لا يطول بها. وأما ما يوجد في بعض النسخ من
الرمز إلى الصحيح والحسن والضعيف بصورة رأس صاد وحاء وضاد
فلا ينبغي الوثوق به لغلبة تحريف النساخ على أنه وقع له
ذلك في بعض دون بعض كما رأيته بخطه فكان المتعين ذكر كتابه
صحيح أو حسن أو ضعيف في كل حديث قال الحافظ العلائي على من
ذكر حديثا اشتمل سنده على من فيه ضعف أن يوضح حاله خروجا
عن عهدته وبراءة من ضعفه انتهى وابن عمر هو العلم الفرد
أحد العبادلة الأربعة. قال جابر: ما منا أحد إلا مالت به
الدنيا ومال بها إلا هو وذكر الخلافة يوم موت أبيه فقال
بشرط أن لا يجري فيها محجم دم مات سنة ثلاث أو أربع وسبعين
رضي الله عنه
(1/39)
4 - (آخر قرية) بفتح القاف وكسرها كما في
تاريخ السمهودي من القرى وهو الجمع سميت به لاجتماع الناس
فيها (من قرى الإسلام خرابا: المدينة) النبوية علم لها
بالغلبة فلا يستعمل معرفا إلا فيها والنكرة اسم لكل مدينة
من مدن بالمكان أقام به أو من دان إذا أطاع إذ يطاع
السلطان فيها وهي أبيات كثيرة تجاوز حد القرى ولم تبلغ حد
الأمصار ونسبوا للكل مديني وللمدينة النبوية مدني للفرق
كذا قرره جمع. فإن قلت: ما ذكروه من أنها تجاوز حد القرى
بينه وبين هذا الحديث تعارض حيث جعلها من القرى؟ قلت: كلا
فإنها كانت في صدر الإسلام قبل الهجرة لا تجاوز حد القرى
وكان إذ ذاك الإسلام إنما في في القرى ولم ينتشر في المدن
والأمصار فلما هاجر المسلمون إليها واتسع الإسلام تجاوزت
حد القرى فغلب عليها حينئذ اسم المدينة والخراب ذهاب
العمارة والعمارة إحياء المحل وشغله بما وضع له ذكره
الحراني. وفي الكشاف التخريب والإخراب الإفساد بالنقص
والهدم قيل وفيه أن بلاده لا تزال عامرة إلى آخر وقت وأنت
تعلم أنه لا دلالة في هذا الخبر إذ لا تعرض فيه بكون ديار
الكفر تخرب قبل خراب قرى الإسلام التي آخرها خرابا المدينة
نعم يؤخذ منه ذلك بضميمة الخبر الآتي بعده ومن ثم حسن
تعقيبه به وبه يعلم أن ذكر الإسلام لا مفهوم له على أن
عيسى بعد نزوله يرفع الجزية ويقتل الكفرة فتصير الكل دار
إسلام
(ت) في أواخر جامعة (عن أبي هريرة) وقال: حسن غريب لا
نعرفه إلا من حديث جنادة بن مسلم وقد رمز المصنف لضعفه وهو
كما قال فإن الترمذي ذكر في العلل أنه سأل عنه البخاري فلم
يعرفه وجعل يتعجب منه. وقال: كنت أرى أن جنادة هذا مقارب
الحديث انتهى. وقد جزم بضعف جنادة المذكور جمع منهم المزني
وغيره. قال السبكي كغيره: وإذا ضعف الرجل في السند ضعف
الحديث من أجله ولم يكن فيه دلالة على بطلانه من أصله ثم
قد يصح من طريق أخرى وقد يكون هذا الضعيف صادقا ثبتا في
تلك الرواية فلا يدل مجرد تضعيفه والحمل عليه على بطلان ما
جاء في نفس الأمر انتهى. قالوا: وإذا قوي الضعف لا ينجبر
بوروده من وجه آخر وإن كثرت طرقه ومن ثم اتفقوا على ضعف
حديث " من حفظ على أمتي أربعين حديثا " مع كثرة طرقه لقوة
ضعفه وقصورها عن الجبر بخلاف ما خف ضعفه ولم يقصر الجابر
عن جبره فإنه ينجبر ويعتضد
(1/41)
5 - (آخر من يحشر) بالبناء للمجهول أي
يموت. قال عكرمة في قوله تعالى: {وإذا الوحوش حشرت} حشرها
موتها أو المراد آخر من يساق إلى المدينة كما في لفظ رواية
مسلم والحشر. كما قال القاضي: السوق من جهات مختلفة إلى
مكان واحد وأصله الجمع والضم المتفرق. وقال الزمخشري:
الحشر سوق الناس إلى المحشر. وقال الحراني: الجمع وغيره.
وقال الراغب: إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم (راعيان)
تثنية راع وهو حافظ الماشية. قال الراغب: والرعي في الأصل
حفظ الحيوان إما بغذائه الحافظ لحياته أو بذب العدو عنه
يقال رعيته أي حفظته فسمي كل سائس لنفسه أو لغيره [ص:42]
(راعيا من مزينة) بالتصغير قبيلة من مضر معروفة وفي رواية
" رجل من جهينة وآخر من مزينة " وفي رواية أنهما كانا
ينزلان بجبل ورقان (يريدان) أي يقصدان (المدينة) الشريفة
أي المدينة الكاملة التي تستحق أن يقال لها مدينة على
الإطلاق كالبيت للكعبة ولها نحو مئة اسم منهما طابة وطيبة
مشددة ومخففة وطايب ككاتب ودار الأخيار ودار الأبرار ودار
الإيمان ودار السنة ودار السلامة ودار الفتح ودار الهجرة.
وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى. قال النووي: لا يعرف في
البلاد أكثر أسماء منها ومن مكة (ينعقان) بفتح المثناة تحت
وسكون النون وكسر العين المهملة. قال الكشاف: النعيق
التصويت يقال نعق المؤذن ونعق الراعي صوت (بغنمهما)
يزجرانها بأصواتهما ويسوقانها يطلبان الكلأ وفيه إشارة إلى
طول أملهما وأن ما وقع من أشراط الساعة لم يشغلهما عن
الشغل بالمعاش والاهتمام بالأمور الدنيوية ويحتمل أنهما
قصداها بماشيتهما للإقامة بها مع أهل الإيمان للحماية من
أهل الطغيان ولعل الغنم مشتركة فلذلك لم يثنها (فيجدانها)
أي الغنم والفاء تعقيبية (وحوشا) بضم أوله بأن ينقلب
ذواتها أو بأن تتوحش فتنفر من صياحهما أو الضمير للمدينة
والواو مفتوحة روايتان أي يجدان المدينة خالية ليس فيها
أحد. والوحش الخلاء أو سكنها الوحش لانقراض سكانها. قال
النووي: وهو الصحيح والأول غلط وتعقبه ابن حجر بأن قوله
(حتى إذا بلغا) أي الراعيان (ثنية الوداع) أي انتهيا إليها
يؤيد الأول لأن وقوع ذلك قبل دخول المدينة. وأقول: هذا غير
دافع لترجيح النووي إذ إحاطهما بخلو المدينة من سكانها
ومصيرها مسكن الوحوش لا يتوقف على دخولها بل يحصل العلم به
بالقرب منها والإشراف على حريمها وهذا أمر كالمحسوس
وإنكاره مكابرة والبلاغ والإبلاغ الانتهاء إلى المقصد.
وثنية الوداع بمثلثة وفتح الواو: ومحل عقبة عند حرم
المدينة سمي به لأن المودعين يمشون مع المسافر من المدينة
إليها وهو اسم قديم جاهلي كذا ذكره القاضي تبعا لعياض
وغيره. وفي تاريخ السمهودي: هي معروفة بباب المدينة خلف
سوقها القديم بين مسجد الراية ومسجد النفس الزكية قرب سلع
ووهم من قال هي من جهة مكة سميت به لتوديع النساء اللاتي
استمتعوا بهن فيها عند رجوعهم من خيبر أو خروجهم إلى تبوك
وفي رواية " ما كان أحد يدخل المدينة إلا منها " فإن لم
يعبر منها مات قبل أن يخرج لوبائها كما زعمت اليهود فإذا
وقف عليها قيل قد ودع فسميت به وقيل لوداع النبي صلى الله
عليه وسلم بعض المسلمين بالمدينة في بعض خرجاته وقيل ودع
فيها بعض سراياه وقيل غير ذلك (خرا على وجوههما) ميتين أي
أخذتهما الصعقة حين النفخة الأولى وهذا ظاهر في أن ذلك
يكون لإدراكهما الساعة ففيه رد لقول البعض أنه وقع في بعض
الفتن حين خلت المدينة وبقيت ثمارها للعوافي وذلك في وقعة
الحرة حين وجه يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة في جيش إلى
المدينة فقتل من فيها من بقايا المهاجرين والأنصار وخيار
التابعين وهم ألف وسبع مئة ومن الأخلاط عشرة آلاف. قال
السمهودي: قال القرطبي وجالت الخيل في المسجد النبوي وبالت
وراثت بين القبر والمنبر وخلت المدينة من أهلها وبقيت
ثمارها للعوافي انتهى. وذكر نحوه ابن حزم والخر السقوط
يقال خر سقط سقوطا يسمع منه خرير ذكره الراغب وغيره. فإن
قلت: هل لإيثاره " خر " على سقط من فائدة؟ قلت: أجل وهي
التنبيه على اجتماع أمرين السقوط وحصول الصوت منه إشارة
إلى أن فراق روحيهما لبدنيهما بعنف وشدة وسرعة خطفة من أثر
تلك الصعقة التي لم تأت على مخلوق إلا جعلته كالرميم
ونظيره قوله تعالى: {يخرون للأذقان سجدا} والوجه مجتمع
حواس الحيوان وأحسن ما في الإنسان وموقع الفتنة من الشيء
الفتان وهو أول ما يحاول ابتداؤه من الأشياء ذكره الحراني.
فإن قلت: المناسب لقوله " خرا " وما قبله تثنية الوجه فما
وجه جمعه؟ قلت: لعله أراد بالوجوه مقدم الأعضاء المقدمة
فكل عضو له وجه وظهر فالسقوط يكون على كل مقدم من الأعضاء
والوجه كما يراد به ما هو المتبادر يطلق ويراد به أشرف ما
ظهر من الإنسان أو غيره كما تقرر
(ك) في الفتن (عن أبي هريرة) وقال: على شرطهما وأقره
الذهبي لكن رمز المؤلف لحسنه [ص:43] فقط وهو قطعة من حديث
رواه الشيخان لفظ برواية البخاري: " ستكون المدينة على خير
ما كانت لا يغشاها إلا العوافي وآخر من يحشر " إلى آخر ما
هنا بنصه وقال القسطلاني وغيره: وقوله " وآخر " إلى آخره
يحتمل كونه حديثا غير الأول لا تعلق له به وكونه من بقيته
انتهى وسواء كان كلا أو بعضا فهو في الصحيح فاستدراك
الحاكم له غير قويم كرمز المؤلف لحسنه فقط
(1/41)
6 - (آخر ما أدرك الناس) من النوس وهو
التحرك أو الأنس لأن بعضهم يأنس ببعض. قال ابن الكمال:
والإدراك إحاطة الشيء بكماله " والناس " بالرفع في جميع
الطرق كما في الفتح قال ويجوز نصبه أي مما بلغ الناس (من
كلام النبوة الأولى) أي مما اتفق عليه الأنبياء لأنه جاء
في زمن النبوة الأولى وهي عهد آدم واستمر إلى شرعنا إلى
آخر ما وجدوا مأمورا به في زمن النبوة الأولى إلى أن
أدركناه في شرعنا ولم ينسخ في ملة من الملل بل ما من نبي
إلا وقد ندب إليه وحث عليه ولم يبدل فيما بدل من شرائعهم
ففائدة إضافة الكلام إلى النبوة الأولى الإشعار بأن ذلك من
نتائج الوحي ثم تطابقت عليه العقول وتلقته جميع الأمم
بالقبول. ذكره جمع. وقال القاضي: معناه أن مما بقي فأدركوه
من كلام الأنبياء المتقدمين أن الحياء هو المانع من اقتراف
القبائح والاشتغال بمنهيات الشرع ومستهجنات العقل وذلك أمر
قد علم صوابه وظهر فضله واتفقت الشرائع والعقول على حسنه
وما هذه صفته لم يجر عليه النسخ والتبديل وقيد النبوة
الأولى إيذانا باتفاق كلمة الأنبياء على استحسانه من أولهم
إلى آخرهم (إذا لم تستح) أيها الإنسان وهو بمثناة تحتية
واحدة آخره (فاصنع ما شئت) أمر بمعنى الخبر أي إذا لم تخش
من العار عملت ما شئت لم يردعك عن مواقعة المحرمات رادع
وسيكافئك الله على فعلك ويجازيك على عدم مبالاتك بما حرمه
عليك. وهذا توبيخ شديد فإن من لم يعظم ربه ليس من الإيمان
في شيء أو هو للتهديد من قبيل: " اعملوا ما شئتم " أي اصنع
ما شئت فسوف ترى غيه كأنه يقول إذ قد أبيت لزوم الحياء
فأنت أهل لأن يقال لك افعل ما شئت وتبعث عليه ويتبين لك
فساد حالك أو هو على حقيقته ومعناه إذا كنت في أمورك آمنا
من الحياء في فعلها لكونها على القانون الشرعي الذي لا
يستحي منه أهله فاصنع ما شئت ولا عليك من متكبر يلومك ولا
من متصلف يستعيبك فإن ما أباحه الشرع لا حياء في فعله.
وعلى هذا الحديث مدار الإسلام من حيث إن الفعل إما أن
يستحيا منه وهو الحرام والمكروه وخلاف الأولى واجتنابها
مشروع أولا وهو الواجب والمندوب والمباح وفعلها مشروع
وكيفما كان أفاد أن الحياء كان مندوبا إليه في الأولين كما
أنه محثوث عليه في الآخرين وقد ثبت أنه شعبة من الإيمان أي
من حيث كونه باعثا على امتثال المأمور وتجنب المنهي لا من
حيث كونه خلقا فإنه غريزة طبيعية لا يحتاج في كونها شعبة
منه إلى قصد. قال الطبراني: وقد ذكر النووي أن قانون الشرع
في معنى الحياء لا يحتاج إلى اكتساب ونية فينبغي حمل
الحديث على هذا المعنى والقانون فيه أنك إذا أردت أمرا أو
اكتساب فعل وأنت بين الإقدام والإحجام فيه فانظر إلى ما
تريد أن تفعله فإن كان مما لا يستحيا منه من الله ولا من
أنبيائه قديما وحديثا فافعله ولا تبالي من الخلق وإن
استحيت منهم وإلا فدعه. فدخل الحديث إذا في جوامع الكلم
التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد عده
العسكري وغيره من الأمثال وقد نظم بعضهم معنى الحديث فقال:
إذا لم تخش عاقبة الليالي. . . ولم تستحي فاصنع ما تشاء
والحياء انقباض يجده الإنسان في نفسه يحمله على عدم ملابسة
ما يعاب به ويستقبح منه ونقيضه التصلف في الأمور وعدم
المبالاة بما يستقبح ويعاب وكلاهما جبلي ومكتسب لكن الناس
ينقسمون في القدر الحاصل منهما على أقسام فمنهم من جبل على
الكثير من الحياء ومنهم من جبل على القليل ومنهم من جبل
على الكثير من التصلف ومنهم من جبل على القليل ثم إن أهل
الكثير من النوعين على مراتب وأهل القليل كذلك فقد يكثر
أهل النوعين حتى يصير نقيضه كالمعدوم ثم هذا الجبلي سبب في
تحصيل المكتسب فمن أخذ نفسه بالحياء واستعمله فاز بالحظ
الأوفر ومن تركه فعل ما شاء وحرم [ص:44] خيري الدنيا
والآخرة
(ابن عساكر في تاريخه) تاريخ الشام (عن ابن مسعود) عقبة بن
عمرو بن ثعلبة (البدري) الأنصاري قال البخاري وإسناده ضعيف
لضعف فتح المصري لكن يشهد له ما رواه البيهقي في الشعب عن
أبي مسعود المذكور بلفظ إن آخر ما بقي من النبوة الأولى
والباقي سواء بل رواه البخاري عن ابن مسعود بلفظ إن مما
أدرك الناس إلى آخر ما هنا
(1/43)
7 - (آخر ما تكلم به إبراهيم) أعجمي معرب
أصله إبراهام على ما نقل عن سيبويه لكن في القاموس إبراهيم
وإبراهام وإبراهوم مثله الهاء وإبرهم بفتح الهاء بلا ألف
اسم أعجمي. قال ابن الكمال: وعليه لا يكون إبراهيم معربا.
وقال المحقق في شرح المختصر: إجماع أهل العربية على منع
صرف إبراهيم ونحوه للعلمية والعجمة يوضح ما ذكرناه من وقوع
المعرب فيه يعني القرآن (حين ألقي) بالبناء للمفعول أي
ألقاه نمروذ (في النار) التي أعدها له ليحترق وكان عمره
ستة عشر سنة على ما في الكشاف وتاريخ ابن عساكر. والإلقاء
كما قال الراغب طرح الشيء حيث يلقاه ثم صار في التعارف
اسما لكل طرح والنار جوهر لطيف مضيء حار محرق من نار ينور
إذا نفر لأن فيها حركة واضطرابا والنور ضوءها وضوء كل نير
والإضاءة الإنارة ذكره الزمخشري (حسبي الله) مبتدأ وخبر أي
كافيني وكافلني هو الله من أحسبه الشيء كفاه (ونعم) كلمة
مبالغة تجمع المدح كله ذكره الحراني. وقال الراغب: كلمة
تستعمل في المدح بإزاء بئس (الوكيل) أي نعم الموكول إليه
الله تعالى وذلك لأن الخليل لعلو منصبه وسمو مقامه وشموخ
همته لم يشخص أمله لشيء سوى ربه ولم يرض بإسعاف أحد غيره
بل قصر نظره عليه وأعرض عن الأسباب والعدد ضاربا عنها صفحا
واغتنى بمسببها كافيا وحسيبا فإنه تعالى جعل لكل شيء عدة
يدفع بها فللبغي التحرز والتحفظ وللمكر الحزم والتيقظ
وللحسد التواضع للحاسد ومداراته وللكائد سد الأبواب التي
يجد منها السبيل إليه فرأى هذا النبي الجليل السيد الخليل
أن الله أكبر من تلك العدد والأسباب فاغتنى به كافيا
وحسيبا فكان له حافظا ورقيبا فشمله بالإسعاد والإسعاف فلم
يحترق منه إلا موضع الكتاف وفيه ندب إلى اعتقاد العجز
واستشعار الافتقار والاعتصام بحول الله وقوته وأن الحازم
لا يكل أمره إذا ابتلي ببلاء إلا إلى ربه ولا يعتضد إلا به
وفي الخبر أنه إنما نجي بذلك <فائدة> من كرامة هذه الأمة
على ربها أنه أوجد فيها من وقع له كما وقع للخليل من عدم
تأثير النار فيه. روى ابن وهب عن ابن لهيعة أن الأسود
العنسي لما ادعى النبوة وغلب على صنعاء أخذ ذؤيب بن كليب
الخولاني - وكان أسلم في عهد المصطفى - فألقاه في النار
فلم تضره النار فذكر المصطفى ذلك لأصحابه فقال عمر: الحمد
لله الذي جعل في أمتنا مثل إبراهيم الخليل. ووقع عند ابن
الكلبي أنه ذؤيب بن وهب. وقال في سياقه طرحه في النار
فوجده حيا
(خط) في ترجمة محمد بن يزداد (عن أبي هريرة) الدوسي (وقال)
أي الخطيب حديث (غريب) أي تفرد به حافظ ولم يذكره غيره
ورواه عنه أيضا الديلمي هكذا (والمحفوظ) عند المحدثين (عن)
أبي العباس عبد الله (ابن عباس) ترجمان القرآن الذي قال
فيه علي كرم الله وجهه كأنما ينظر إلى الغيب من وراء ستر
رقيق وأخرج ابن عساكر أنه كان يسمى حكيم المعضلات ولم يرو
عن أحد من الصحابة في الفتوى أكثر منه وعمي آخر عمره كأبيه
وجده (موقوف) عليه غير مرفوع لكن مثله لا يقال من قبل
الرأي فهو في حكمه وهذا الموقوف صحيح فقد أخرجه البخاري في
صحيحه عنه بلفظ: كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار
حسبنا الله ونعم الوكيل. وفي رواية له عنه أيضا: حسبنا
الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها
محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم
فاخشوهم
(1/44)
[ص:45] 8 - (آخر أربعاء) بالمد وكسر
الموحدة على الأشهر. قال في المصباح: ولا نظير له في
المفردات وإنما يأتي وزنه في الجموع وبعض بني أسد يفتح
الباء والضم لغة قليلة انتهى. وبه عرف أن من تعقب النووي
والرضي في قولهما أنه مثلث الباء فقد وهم. وسمي أربعاء لأن
الرابع واحد من أربعة وهو رابع الأيام من الأحد الذي هو
أول الأسبوع على الأرجح أشار إليه الراغب قال: ويسمى في
الجاهلية دبار لتشاؤمهم به والدبار الهلاك. قال والألف فيه
وفي الثلاثاء بدل من الهاء نحو حسن وحسنة وحسناء فخص اللفظ
باليوم (في الشهر) لفظ رواية الخطيب من الشهر والشهر من
الشهرة يقال أشهر الشهر إذا طلع هلاله وأشهرنا دخلنا في
الشهر سمي به لشهرته وظهوره. قال الراغب الشهر مدة مشهورة
بإهلال الهلال أو باعتبار جزء من اثني عشر جزءا من دوران
الشمس من نقطة إلى تلك النقطة وقال الإمام الرازي كالحكماء
هو عبارة عن حركة القمر من نقطة معينة من فلكه الخاص به
إلى أن يعود إلى تلك النقطة بعينها (يوم نحس) بالإضافة على
الأجود أي شؤم وبلاء (مستمر) مطرد شؤمه أو دائم الشؤم أو
مستحكمه وروي " يوم نحس " بالرفع والتنوين فيهما ومستمر
نعت لنحس أو ليوم أو عطف بيان أو بدل. واليوم لغة عبارة
عما بين طلوع الشمس وغروبها من الزمن وشرعا ما بين طلوع
الفجر الثاني والغروب قال محقق: وفاؤه ياء وعينه واو. وقال
في البحر: وليس قوله " نحس " على جهة الطيرة وكيف يريد ذلك
والأيام كلها لله. وقد جاء في تفضيل بعض الأيام على بعض
أخبار كثيرة وهو من الفأل الذي كان يحبه. وأما الطيرة
فيكرهها وليست من الدين بل من فعل الجاهلية وقول الكهان
والمنجمين فانهم يقولون يوم الأربعاء يوم عطارد وعطارد نحس
مع النحوس سعد مع السعود وقولهم خارج عن الدين ويجوز كون
ذكر الأربعاء نحس على طريق التخويف والتحذير أي احذروا ذلك
اليوم لما نزل فيه من العذاب وكان فيه من الهلاك وجددوا
لله توبة خوفا أن يلحقكم فيه بؤس كما وقع لمن قبلكم وكان
صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة فزع إلى الصلاة حتى إذا
نزل المطر سري عنه ويقول ما يؤمنني أن يكون فيها عذاب كما
وقع لبعض الأمم السابقة فكان يحذر أمته من مثل ما قال
أولئك: {هذا عارض ممطرنا} فأتاهم بخلاف ما ظنوا قال تعالى:
{بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم} وكما قال حين
أتى الحجر: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا
باكين " وكما رغب في يوم عاشوراء لما جعل الله فيه من نجاة
موسى وبني إسرائيل من فرعون حذر من يوم الأربعاء لما كان
فيه انتهى. وقال السهيلي نحوسته على من تشاءم وتطير بأن
كان عادته التطير وترك الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم
في تركه وتلك صفة من قل توكله فذلك الذي تضره نحوسته في
تصرفه فيه. وقال بعضهم: التطير مكروه كراهة شرعية إلا أن
الشرع أباح لمن أصابه في آخر أربعاء شيء من نحو جائحة أن
يدع التصرف فيه لا على جهة الطيرة واعتقاد أنه يضره أو
يصيبه فيه فقر أو بؤس بل على جهة اعتقاد إباحة الإمساك فيه
لما كرهته النفس لا ابتغاء التطير ولكن إثباتا للرخصة في
التوقي فيه لمن شاء مع وجوب اعتقاد أن شيئا لا يضر شيئا.
وقال الحليمي: علمنا ببيان الشريعة أن من الأيام نحسا
والذي يقابل النحس السعد فإذا ثبت أن بعض الأيام نحس ثبت
أن بعضها سعد والأيام في هذا كالأشخاص منها مسعودة ومنها
منحوسة ومن الناس شقي وسعيد فإذا أضاف أحد إلى الأيام أو
الكواكب أنها تسعد باختيارها أوقاتا أو أشخاصا أو تنحسها
فذلك باطل وإن قال: إن الكواكب طبائع وأمزجة مختلفة وتلك
تتغير منها باتصال بعضها ببعض وانفصال بعضها عن بعض فطرة
فطرها الله تعالى عليها تتأدى بتوسط النيرين إلى الأرض وما
فيها فأي شيء منها كان هو المتأدى إلى الأجسام الأرضية
كانت الآثار التي تحدث فيها عنه بحسبها فقد يكون منها ما
هو سبب للاغتنام ما هو سبب للصحة والسلامة وما هو سبب لحسن
الخلق وبذل المعروف والإنصاف والرغبة في الخير وما هو سبب
للقبائح والظلم والإقدام على [ص:46] الشر فهذا يكون لكنه
بفعل الله وحده انتهى
وأخرج الخطيب في التاريخ في ترجمة ابن مجاشع المدائني أن
عليا كرم الله وجهه كره أن يتزوج الرجل أو يسافر في المحاق
أو إذا نزل القمر العقرب. قال: والمحاق إذا بقي من الشهر
يوم أو يومان وفي الفردوس عن عائشة رضي الله تعالى عنها
مرفوعا: " لولا أن تكره أمتي لأمرتها أن لا يسافروا يوم
الأربعاء وأحب الأيام إلي الشخوص فيها يوم الخميس ". وبيض
ولده لسنده. وأما حمل الحديث على الأربعاء الذي أرسل فيه
الريح على عاد بخصوصه فمناف للسياق مع أنه لا يلزم من
تعذيب قوم فيه كونه نحسا على غيرهم وحمله على أنه نحس على
المفسدين لا المصلحين هلهل بالمرة إذ لا اختصاص للأربعاء
به وأخرج أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما وابن عدي
وتمام في فوائده عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه مرفوعا: "
يوم السبت يوم مكر وخديعة ويوم الأحد يوم غرس وبناء ويوم
الاثنين يوم سفر وطلب رزق ويوم الثلاثاء يوم حديد وبأس
ويوم الأربعاء لا أخذ ولا عطاء ويوم الخميس يوم طلب
الحوائج والدخول على السلاطين ويوم الجمعة يوم خطبة ونكاح
". قال السخاوي: وسنده ضعيف وذكر الزمخشري أن يزيدا قال
لأخيه: اخرج معي في حاجة فقال: هو الأربعاء. قال: فيه ولد
يونس. قال: لا جرم قد بانت به بركته في اتساع موضعه وحسن
كسوته حتى خلصه الله. قال: وفيه ولد يوسف. قال: فما أحسن
ما فعل به إخوته حتى طال حبسه وغربته. قال: وفيه نصر
المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب. قال: أجل ولكن
بعد أن زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر. وفي بعض الآثار
النهي عن قص الأظافر يوم الأربعاء وأنه يورث البرص قال في
المطامح: وأخبر ثقة من أصحابنا عن ابن الحاج وكان من
العلماء المتقين أنه هم بقص أظافره يوم الأربعاء فتذاكر
الحديث الوارد في كراهته فتركه ثم رأى أنها سنة حاضرة
فقصها فلحقه برص فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه
فقال له: ألم تسمع نهيي عن ذلك: فقال: يا رسول الله لم يصح
عندي الحديث عنك. قال: يكفيك أن تسمع ثم مسح بيده على بدنه
فزال البرص جميعا. قال ابن الحاج: فجددت مع الله سبحانه
وتعالى توبة أن لا أخالف ما سمعت عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أبدا. والحاصل أن توقي يوم الأربعاء على جهة
الطيرة وطن اعتقاد المنجمين حرام شديد التحريم إذ الأيام
كلها لله تعالى لا تضر ولا تنفع بذاتها وبدون ذلك لا ضير
ولا محذور ومن تطير حاقت به نحوسته ومن أيقن بأنه لا يضر
ولا ينفع إلا الله لم يؤثر فيه شيء من ذلك قال:
تعلم أنه لا طير إلا. . . على متطير وهو الشرور
وفي حديث رواه ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعا وخرجه الحاكم من
طريقين آخرين: " لا يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء "
وكره بعضهم العيادة يوم الأربعاء. وعليه - قيل: لم يؤت في
الأربعاء مريض إلا دفناه في الخميس. وفي منهاج الحليمي
وشعب البيهقي أن الدعاء يستجاب يوم الأربعاء بعد الزوال.
وذكر برهان الإسلام في تعليم المتعلم عن صاحب الهداية أن
ما بدئ شيء يوم الأربعاء إلا وتم فلذلك كان جمع من الشيوخ
يتحرون ابتداء الجلوس للتدريس فيه وذلك لأن العلم نور
فبدايته يوم خلق النور فيه تناسب معنى على التمام واستحب
بعضهم غرس الأشجار فيه لخبر ابن حبان والديلمي عن جابر
مرفوعا: " من غرس يوم الأربعاء فقال: سبحان الباعث الوارث
أتته بأكلها " قالوا: ولما أرسل ملك الروم كتابه إلى
المعتصم يتهدده كتب على ظهر الجواب ما تراه لا ما تسمعه
وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار وقام فخرج من فوره في وقته
يوم الأربعاء ولم يدخل بيته فمنعه المنجمون وقالوا: الطالع
نحس فقال: عليهم لا علينا وسار فيه فأسر ستين ألفا وقتل
ستين ألفا وكانت وقعة أعز الله فيها الإسلام وأهله: قال
الحافظ ابن حجر: غضب السلطان على الكمال البارزي كاتم السر
ثم رضي عنه وخلع عليه يوم الأربعاء رابع عشر ربيع الأول
سنة أربع وأربعين وثمان مئة وركب في موكب لم ير مثله
فاجتمع فيه خمس أربعات والثمان مئة تشتمل على أربعمائتين
انتهى. واعلم أنهم كما كانوا ينفرون من يوم الأربعاء كانوا
ينفرون من يوم الأحد. قال الزمخشري: صبح ثمود العذاب يوم
الأحد. قال: وفي الأثر نعوذ بالله من يوم الأحد فإن له حدا
كحد السيف. وكتب يزيد إلى عبيد الله بن زياد أن يوجه عبد
الله بن حازم إلى خراسان لمعونة مسلم بن زياد فقال عبيد
الله أخرجوه يوم الأحد إذا ضرب الناقوس حتى لا يرجع للأبد
فأحس ابن حازم فتعلل حتى لم يخرج إلا حتى زاغت الشمس.
وقال: قولوا له ذهب حد الأحد وكما ورد في يوم الأربعاء
النحوسة [ص:47] ورد في الثلاثاء أنه مكروه ففي الفردوس من
حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: " خلق الله الأمراض
يوم الثلاثاء. وفيه أنزل إبليس إلى الأرض وفيه خلق الله
جهنم وفيه سلط الله ملك الموت على أرواح بني آدم وفيه قتل
قابيل هابيل وفيه توفي موسى وهارون وفيه ابتلي أيوب "
الحديث بطوله وفي ترجمة العلم للبلقيني عن بعضهم أن من
المجرب الذي لم يخطئ قط أنه متى كان اليوم الرابع عشر من
الشهر القمري يوم الأحد وفعل فيه شيء لم يتم وكذا للسفر
وغيره وأن ذلك وقع للناصر فرج وغيره. وقد أخر بعضهم السفر
في أول السنة وقال إن سافرت في المحرم فجدير أن أحرم أو في
صفر خشيت على يدي أن تصفر فأخره إلى ربيع فسافر فمرض ولم
يظفر بطائل فقال ظننته ربيع الرياض فإذا هو ربيع الأمراض
وفي المثل السائر: " لا تعادي الأيام فتعاديك " قال:
ومن غالب الأيام فاعلم بأنه. . . سينكص عنها لاهيا غير
غالب
<فائدة> وقفت على أبيات بخط الحافظ الدمياطي وقال إنها
تعزى لعلي رضي الله تعالى عنه وهي:
فنعم اليوم السبت حقا. . . لصيد إن أردت بلا امتراء. . .
وفي الأحد البناء لأن فيه
تبدى الله في خلق السماء. . . وفي الاثنين إن سافرت فيه. .
. سترجع بالنجاح وبالثراء
وإن ترد الحجامة في الثلاثا. . . ففي ساعاته هرق الدماء. .
. وإن شرب امرئ يوما دواء
فنعم اليوم يوم الأربعاء. . . وفي يوم الخميس قضاء حاج. .
. فإن الله يأذن بالقضاء
وفي الجمعات تزويج وعرس. . . ولذات الرجال مع النساء. . .
وهذا العلم لا يدريه إلا. . . نبي أو وصي الأنبياء
(وكيع) أي القاضي أبو بكر محمد بن الخلف المعروف بوكيع
بفتح الواو وكسر الكاف وعين مهملة (في الغرر) أي في كتاب
الغرر من الأخبار (وابن مردويه) أبو بكر أحمد بن موسى (في
التفسير) المسند من عدة طرق عن ابن عباس وعن عائشة وعن علي
وعن أنس وغيرهم. (خط) في ترجمة ابن الوزير صاحب ديوان
المهدي (عن ابن عباس) وفيه سلمة بن الصلت قال أبو حاتم
متروك وجزم ابن الجوزي بوضعه وحكاه في الكبير ولم يتعقبه
وقال ابن رجب: حديث لا يصح ورواه الطبراني من طريق آخر عن
ابن عباس موقوفا. قال السخاوي: وطرقه كلها واهية. وروى
الطبراني بسند ضعيف: " يوم الأربعاء يوم نحس مستمر "
والحديث المشروح يفيده
(1/45)
9 - (آدم) أبو البشر من أديم الأرض أي ظاهر
وجهها سمي به لخلقه منه أو من الأدمة وهي السمرة ولا يشكل
ببراعة جماله وأن حسن يوسف ثلث حسنه لأن سمرته بين البياض
والحمرة قيل اشتقاقه يؤيد أنه عربي ومنع بأن توافق اللغتين
غير ممتنع وبأنه لا دلالة على أن الاشتقاق من خواص كلام
العرب ورد بأن الأصل عدم التوافق واطراد الاشتقاق وهو وإن
صح تكلمه بكل لسان لكن الغالب بالسرياني كما تدل عليه
أسامي أولاده (في السماء الدنيا) أي القريبة بروحه وزعم
أنه بجسمه يأتي رده والسماء اسم جنس يطلق على الواحد
والمتعدد ويشمل سائر الأجسام العلوية والمراد هنا هذه
المظلة وهي كما قال الحراني وجمع: أشرف من الأرض (قال صاحب
الكشف: الأكثرون على تفضيل الأرض على السماء لأن الأنبياء
خلقوا منها وعبدوا الله فيها اه) من جهة العلو الذي لا
يرام والجوهر البالغ في الأحكام والزينة البديعة النظام
المنبثة عن المصالح الجسام وكثرة المنافع والأعلام (تعرض
عليه أعمال) جمع عمل. قال الحراني: " هو فعل بني على علم
أو زعم (ذريته) أي نسله فعيلة من الذر بمعنى التفريق أو
فعولة أو فعيلة من الذرء بمعنى الخلق ولا مانع من عرض
المعاني وإن كانت أعراضا لأنها في عالم الملكوت متشكلة
بأشكال تخصها بحيث ترى وتنطق وإنما تمتنع رؤيتها في هذا
العالم فلا ضرورة لتأويل الأعمال بصحفها ومعنى العرض أنه
يراهم بمواضعهم لكنه يرى السعداء من الجانب الأيمن وغيرهم
من الجانب الأيسر فالتقييد للنظر لا للمنظور فلا يلزم من
رؤيته لأرواح [ص:48] الكفار وهو في السماء أن تفتح لهم
أبوابها ولا لأرواح المؤمنين وفيهم الأحياء أن تنزع من
أجسادها وتصعد ثم تعاد للأبدان. ومن فوائد العرض الشفاعة
فيمن أذن له ولكونه أول الأنبياء كان في أول السماوات وفي
رواية: " إذا نظر إلى جهة يمينه ضحك وإذا نظر إلى جهة
شماله بكى " (ويوسف في السماء الثانية) قال في الكشاف: اسم
عبراني. وقيل: عربي وليس بصحيح لأنه لو كان عربيا لانصرف
لخلوه عن سبب آخر سوى التعريف انتهى. قال ابن الكمال: ومن
اللطائف الاتفاقية أن الأسف لغة الحزن والأسيف العبد وقد
اتفق اجتماعهما في يوسف (وابنا الخالة يحيى) اسم أعجمي على
الأظهر في الكشاف أو عربي ومنع صرفه للعلمية والوزن
قال الحراني: سمي بصفة الدوام مع أنه قتل إشعارا بوفاء
حقيقة الروحانية الحياتية دائما لا يطرقه طارق موت الظاهر
حيث قتل شهيدا (وعيسى) اسم معرب أصله بالعبرية يسوع وهو
غير مشتق وزعم أنه من العيس وهو بياض يخالطه صفرة منع بأن
الاشتقاق العربي لا يدخل المعجم عند الأكثر وفيه ما مر.
قال ابن السكيت: ويقال ابنا خالة لا ابنا عمة وابنا عم لا
ابنا خال لأن ابني الخالة أم كل منهما خالة الآخر لزوما
بخلاف ابنا العمة. واعلم أنه قد يشكل جعل عيسى ويحيى ابني
خالة بأن امرأة عمران وهي حنة جدة عيسى إنما هي أخت إيشاع
أم يحيى. وأجيب بأن الأخت كثيرا ما تطلق على بنت الأخت
فبهذا الاعتبار جعلهما ابني خالة وقيل كانت إيشاع أخت حنة
من الأم وأخت مريم من الأب على أن عمران نكح أولا أم حنة
فولدت له أيشاع ثم نكح حنة بناء على حل نكاح الربائب في
شرعهم فولدت مريم فكانت إيشاع أخت مريم من الأب لأب
وخالتها من الأم لأنها أخت حنة من أمها (في السماء الثالثة
وإدريس في السماء الرابعة) اسم أعجمي غير مشتق ولا منصرف
وزعم أنه سمي به لكثرة دراسته أبطله في الكشاف بأنه لو كان
إفعيلا من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية وكان
منصرفا فمنع صرفه دليل العجمة واسمه خنوخ أو اخنوخ كما في
القاموس وغيره (وهارون في السماء الخامسة وموسى في السماء
السادسة) غير منصرف للعجمة والعلمية وموسى بالعبري ماء
وشجر سمي به لأنه وجد بين ماء وشجر لما ألقته أمه فيه فهو
اسم اقتضاه حاله وقيل هو من ماس إذا تبختر في مشيته ولا
منافاة بين هذا وبين خبر أنه رأى موسى قائما يصلي في قبره
فقد يكون رآه في مسيره قائما ثم عرج به كالمصطفى فرآه ثم
وسرعة الانتقال لهؤلاء كلمح البصر بل هو أقرب وسيجيء لهذا
مزيد تنبيه. ولا بينه وبين خبر الشيخين أنه رأى يحيى وعيسى
في الثانية لاحتمال الانتقال وأما الجواب بالتعدد فرد
بتوقفه على توقيف
(وإبراهيم في السماء السابعة) زاد في رواية: مسندا ظهره
إلى البيت المعمور. وذكر في رواية أنه رآهم كذلك في السماء
وفي أخرى أنه لقيهم فيها كذلك. وخص هؤلاء الأنبياء بالذكر
واللقاء لما ذكروه أن من رأى نبيا في النوم فإن رؤياه تؤذن
بما يشبه حال النبي المرئي من شدة أو رخاء أو غيرهما فأول
من لقي آدم الذي أخرجه عدوه إبليس من الجنة وذلك شبيه بأول
أحوال المصطفى حين أخرجه أعداؤه من حرم الله وجواره
والجامع المشقة وكراهة فراق الوطن ثم رجوعه لما منه خرج ثم
يوسف في الثانية المؤذن بحالة ثانية تشبه حالة يوسف لأن
يوسف ظفر بإخوته لعد ما أخرجوه فصفح عنهم والمصطفى ظفر يوم
بدر بأقاربه كالعباس وعقيل فعفا عنهم ثم يحيى وعيسى في
الثالثة وهما الممتحنان باليهود فصار نبينا صلى الله عليه
وسلم إلى حالة ثالثة كحالهما في الامتحان باليهود فكذبوه
وآذوه وظاهروا عليه بعد سكنه بالمدينة ثم سموه بالشاه فلم
تزل تلك الأكلة تعاوده حتى قطعت أبهره ثم إدريس في الرابعة
وهو المكان الذي سماه الله عليا وهو أول من خط بالعلم فكان
مؤذنا بحالة رابعة لنبينا من علو الشأن ورفعة المكان حتى
كتب بالقلم إلى الملوك بما أخافهم وأزعجهم فهذا مقام علي
وخط بالقلم كنحو ما أوتي إدريس وهارون في الخامسة وهو
المحبب في قومه فآذن بحب قريش وقاطبة [ص:49] العرب له بعد
بغضهم وموسى في السادسة لأن حاله يشبه حاله حين أمر بغزو
الشام فظهر على الجبابرة التي فيها وإبراهيم في السابعة
إشارة إلى دخوله مكة في السابعة من الهجرة وأن آخر أحوال
نبينا حجه إلى البيت وإبراهيم هو الداعي إلى الحج والرافع
لقواعد الكعبة المحجوجة ذكره السهيلي وغيره
وقال ابن أبي جمرة: حكمة رؤية آدم في السماء الدنيا أنه
أول الأنبياء وأول الآباء فكان الأول في الأولى لتأنيس
البنوة بالأبوة ويوسف في الثانية لأن هذه الأمة تدخل الجنة
على صورته ويحيى وعيسى في الثالثة لأنهما أقرب الأنبياء
عهدا به وإدريس في الرابعة لقوله تعالى: {ورفعناه مكانا
عليا} والرابعة من السبع وسط معتدل وهارون لقربه من أخيه
وموسى أرفع منه لكونه الكليم وإبراهيم في السابعة لأن
منزلة الخليل أرفع المنازل. وقال القونوي: العالم السفلي
مرآة للآثار والقوى والخواص المودعة في العالم العلوي وكذا
العالم العلوي على اختلاف طبقاته مرآة تتعين في كل طبقة
منه نتائج القوى والآثار السلفية التي تركبت منه وانعجنت
في نشأة أهل هذا العالم ثم انفصلت وعادت إليه بصورة غير
صورتها الأولى سيما نتائج الصفات والأفعال والتوجهات
الصادرة من الإنسان الذي هو نسخة الكل ومرآة تنطبع فيها
قوى كل عالم وآثار كل فلك وتوجه كل ملك وتتفاوت نسبته إلى
كل فلك وعالم بحسب غلبة ما نعجن من القوى والخواص فيه من
ذلك الفلك في أول تكوينه في أثناء توجهه وترقياته بعلمه
وعمله وأخلاقه واستعداداته المستفادة بواسطة نشأته وبحسب
حظه من الاعتدال الخصيص بالكمل وإلى ذلك أشار المصطفى
بقوله: " آدم في السماء الدنيا " الذي هو ملك القمر ويوسف
في الثانية إلى آخره فهو إخبار عن صور مناسباتهم بذلك
الفلك وتعريف مراتب مظاهرهم الناتجة من أعمالهم وأخلاقهم
وصفاتهم المكتسبة مما انعجن فيهم من قوى الأفلاك وتوجهات
الأملاك وحصلت الغلبة لبعض تلك القوى والآثار على بعض في
كل منهم حال اجتماعهما فيه وحيازة نشأته لها وإلا فمن
البين أن الأرواح غير متحيزة فكيف يوصف سكانها في السماوات
(ابن مردويه) في تفسيره (عن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان
بن عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر واسمه خدرة الأنصاري
(الخدري) بضم الخاء المعجمة نسبة إلى خدرة المذكور. وزعم
بعضهم أن خدرة أم الأبجر استصغر يوم أحد وغزا مع المصطفى
غزوة بايعه على أن لا تأخذه في الله لومة لائم وإسناده
ضعيف لكن المتن صحيح فإنه قطعة من حديث الإسراء الذي خرجه
الشيخان عن أنس لكن فيه خلف في الترتيب
(1/47)
10 - (آفة الظرف الصلف) أي عاهة براعة
اللسان وذكاء الجنان التيه والتكبر على الأقران والتمدح
بما ليس في الإنسان إذ الآفة بالمد العاهة أو عرض يفسد ما
يصيبه أو نقص أو خلل يلحق الشيء فيفسده والكل متقارب
والظرف كفلس الكيس والبراعة والذكاء. قال الزمخشري: ومنه
قول عمر إذا كان اللص ظريفا لم يقطع أي كيسا يدرأ الحد
باحتجاجه. قال بعضهم: والمراد هنا الاتصاف بالحسن والأدب
والفصاحة والفهم. وقال الراغب: الظرف بالفتح اسم لحالة
نجمع عامة الفضائل النفسية والبدنية والخارجية تشبيها
بالظرف الذي هو الوعاء ولكونه واقعا على ذلك قيل لمن حصل
له علم وشجاعة ظريف ولمن حسن لباسه ورياشه وأثاثه ظريف
فالظرف أعم من الحرية والكرم انتهى. والصلف محركا مجاوزة
قدر الظرف والادعاء فوق ذلك تكبرا ذكره الخليل وتفسير ابن
العربي الظرف هنا بالفعل لا يلائم السياق (وآفة الشجاعة)
بشين معجمة (البغي) أي وعاهة شدة القلب عند البأس تجاوز
الحد وطلب الإنسان ما ليس له. والشجاعة: قوة القلب
والاستهانة بالحرب. وقال الراغب: إن اعتبرت في النفس
فصرامة القلب على الأهوال وربط الجأش وإن اعتبرت بالفعل
فالإقدام على موضع الفرصة وهي فضيلة بين التهور والجبن ومن
ثم عرفت بأنها ملكة متوسطة بين الجبن والتهور ويتفرع عنها
علو الهمة والصبر والنجدة والبغي: طلب التطاول بالظلم
والإفساد من بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد ذكره
الزمخشري: وقال الراغب: البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما
يتحرى تجاوزه وإلا فتارة تعتبر في القدر الذي هو الكمية
وتارة في الوصف الذي هو الكيفية ويكون [ص:50] محمودا وهو
تجاوز العدل إلى الإحسان والفرض إلى التطوع ومذموما وهو
تجاوز الحق إلى الباطل وهو أكثر استعمالاته ومنه هنا
(وآفة السماحة) بفتح السين المهملة وخفة الميم (المن) أي
وعاهة الجود والكرم تعديد النعمة على المنعم عليه والسماحة
المساهلة والجود والاتساع فيه يقال عليك بالحق فإن في الحق
مسمحا أي متسعا ومندوحة عن الباطل ذكره الزمخشري. والمن
الإنعام أو تزيين الفعل وإظهار المعروف وهو منا مذموم ومن
الله محمود لأن غيره لا يملك المعطى والعطاء وليس في عطائه
شرف بل إهانة والله مالك للكل وعطاؤه تشريف فمنه تشريف
وهداية للشكر الجالب للمزيد ومن غيره تكدير وتعيير تنكسر
منه الخواطر وتحبط العطايا وإن كانت خواطر. قال بعضهم:
والتحقيق أنها لما لم تمش من غيره تعالى واعتادت أنفس
الكرام النفرة عنها لا يفعلها وإن حسنت منه للتحرز عن
المنفر انتهى. ويرده أنه تعالى من صريحا في مواضع من كتابه
فإنكاره مكابرة. قال ابن عربي: والمن هنا من أمراض النفس
التي يجب التداوي منها ودواؤه أنه لا يرى أنه أوصل إليه
إلا ما هو له في علم الله وأنه أمانة عنده كانت بيده لم
يعرف صاحبها فلما أخرجها بالعطاء لمن عين له عرفا فشكر
الله على أدائها فمن استحضر ذلك عند الإعطاء نفعه انتهى.
وأما من المصطفى على الأنصار في قصة الحديبية فليس من ذلك
فإنه من بالهداية إلى الإسلام فهو راجع إلى الله والمصطفى
مبلغ وواسطة بدليل قوله لهم في المنة ألم تكونوا ضلالا
فهداكم الله بي؟
(وآفة الجمال الخيلاء) أي وعاهة حسن الصور أو المعاني
العجب والكبر ومن ثم كره نكاح ذات الجمال البارع لما ينشأ
عنه من شدة التيه والإدلال والعجب والتحكم في المقال وقد
قيل من بسطه الإدلال قبضه الإذلال. قال الراغب: والجمال
الحسن الكثير واعتبر فيه معنى الكثرة ولا بد والخيلاء
التكبر عن تخيل فضيلة تتراءى للمرء في نفسه. وقال الراغب:
أن يظن بنفسه ما ليس فيها من قولهم خلت الشيء ظننته ولقصور
هذا المعنى قال حكيم: إعجاب المرء بنفسه أن يظن بها ما ليس
فيها مع ضعف قوة فيظهر فرحه بها والزهو الاستخفاف من الفرح
بنفسه (وآفة العبادة الفترة) بفتح فسكون أي وعاهة الطاعة
التواني والتكاسل بعد كمال النشاط والاجتهاد فيها.
والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل ومنه طريق معبد أي مذلل
بالأقدام وثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة ولذلك لا
يستعمل إلا في الخضوع لله فمن وفق لألف العبادة ولزومها
فليحذر من فترة الإخلال بها فان طرقته فترة فليفزع إلى ربه
في دفعها
(وآفة الحديث) أي ما يتحدث به وينقل. قال الراغب: كل كلام
الإنسان يقال له حديث. والفترة كما قال الزمخشري: السكون
بعد الحدة واللين بعد الشدة ومن المجاز فتر البرد وكان
الماء حارا ففترته وفتر العامل من عمله قصر فيه وفتر
السحاب إذا تحير لا يسير (الكذب) أي الإخبار عن الشيء
بخلاف ما هو عليه فمن أدخل حديثه الكذب عرضه للإعراض عنه
وعطل النفع به وهو حرام لتعليقه تعالى استحقاق العذاب به
حيث رتب عليه في قوله تعالى {لهم عذاب أليم بما كانوا
يكذبون} لكن قد يعرض ما يصيره مباحا بل واجبا إن ترتب على
عدمه لحوق ضرر بمحترم. فقول القاضي كالزمخشري: هو حرام كله
أي أصله ذلك وخروجه عن الحرمة إنما هو العارض كقول الفقهاء
العارية سنة مع أنها قد تجب لدفع مؤذ أو ستر وقول النبي: "
إنما البيع عن تراض " مع أنه قد يجب لنحو مضطر وكم له من
نظير وبه يعرف سقوط اعتراض المؤلف عليهما (وآفة العلم
النسيان) أي وعاهة العلم أن يهمله العالم حتى يذهب عن ذهنه
ومن ثم قال الحكماء: لا تخل قلبك من المذاكرة فيعود عقيما
ولا تعف طبعك عن المناظرة فيعود سقيما وأعظم آفات العلم
النسيان الحادث عن غفلة التقصير وأعمال التواني فعلى من
ابتلى به أن يستدرك تقصيره بكثرة الدرس ويوقظ غفلته بإدامة
النظر فقد قالوا لن يدرك العلم من لا يطيل درسه ويكد نفسه
وكثرة الدرس كدود لا يصبر عليه إلا من يرى العلم مغنما
والجهالة مغرما فيحتمل تعب الدرس ليدرك راحة العلم وتنتفي
عنه معرة الجهل وعلى قدر الرغبة يكون الطلب وبحسب الراحة
يكون التعب وربما استثقل المتعلم الدرس والحفظ اعتمادا
واتكل بعد فهم المعاني على الرجوع إلى الكتب ومطالعتها عند
الحاجة [ص:51] فما هو إلا كمن أطلق ما صاده ثقة بالقدرة
عليه بعد الامتناع منه فلا تعقبه الثقة إلا خجلا والتفريط
إلا ندما وكان الزهري يسمع على مشايخه إلى الليل ثم يأتي
جاريته فيوقظها فيقول لها حدثني فلان بكذا وفلان بكذا
فتقول: ومالي ولهذا؟ فيقول: إنك لا تنتفعي لكني سمعت الآن
فأردت أن أستذكره. وكان ابن رجاء يأتي صبيان الكتاب فيجمع
الغلمان فيحدثهم لئلا ينسى. قال النخعي: من سره أن يحفظ
العلم فليحدث حتى يسمعه ولو ممن لا يشتهيه فإذا فعل كان
كالكتاب في صدره ولا ينافي ذلك الحديث الآتي إن إضاعة
العلم أن تحدث به غير أهله لأن محله إذا كان لغير مصلحة
كالتذكر هنا. والنسيان ذهول ينتهي إلى زوال المدرك من
القوة المدركة والحافظة وحيث يحتاج في حصوله إلى سبب جديد
والسهو ذهول عن المدركة بحيث لا ينتهي إلى زواله منها بل
ينتبه له بأدنى تنبيه. والتذكر استعادة ما أثبته القلب مما
تنحى عنه بنسيان أو غفلة
(وآفة الحلم) بكسر المهملة فسكون اللام (السفه) بالتحريك
أي وعاهة الأناة والتثبت وعدم العجلة الخفة والطيش والحلم
ملكة ورزانة في البدن توجب الصبر على الأذى يورثها وفور
العقل. والسفه خفة في البدن أو في المعاني يقتضيها نقصان
العقل. وقال الحراني: هو خفة الرأي في مقابلة ما يراد منه
من المتانة والرزانة. وقال الراغب: التسرع إلى القول
القبيح والفعل القبيح (وآفة الحسب) بفتح المهملتين (الفخر)
بفتح فسكون وتحرك أي وعاهة الشرف بالآباء إدعاء العظم
والتمدح بالخصال. قيل لبعض الحكماء: ما الذي لا يحسن وإن
كان حقا؟ قال: مدح الرجل نفسه وإن كان محقا. قال الزمخشري:
الحسب ما يعده الشخص من مآثره ومآثر آبائه ومنه قولهم من
فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب أبيه. والفخر كما في المصباح:
المباهاة بالمكارم والمناقب. وقال الراغب: المباهاة
بالأشياء الخارجة عن الإنسان وذلك نهاية الحمق فمن نظر
بعين عقله وانحسر عنه قناع جهله عرف أن أعراض الدنيا عارية
مستردة لا يأمن في كل ساعة أن يسترجع. قال بعض الحكماء
لمفتخر: إن افتخرت بفرسك فالحسن له دونك أو بثيابك ومتاعك
فالجمال لهما دونك أو بآبائك فالفخر فيهم لا فيك ولو تكلمت
هذه الأشياء لقالت هذه محاسننا فأين محاسنك
(وآفة الجود) بضم الجيم (السرف) بالتحريك أي وعاهة السخاء
التبذير والإنفاق في غير طاعة وتجاوز المقاصد الشرعية.
والجود إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي وهو أعم من الصدقة.
والسرف صرف الشيء فيما ينبغي زائدا على ما ينبغي. والتبذير
صرفه فيما لا ينبغي. ذكره جمع. وقال الماوردي: الإسراف
تجاوز في الكمية وهو جهل بمقادير الحقوق. والتبذير تجاوز
في موضع الحق فهو جهل بمواقعها وكلاهما مذموم والثاني أدخل
في الذم إذ المسرف مخطئ بالزيادة والمبذر مخطئ بالكل ومن
جهل مواقع الحقوق ومقاديرها بماله وأخطأها فهو كمن جهلها
بفعاله. وقال الراغب: التبذير التفريق أصله إلقاء البذر
وطرحه فاستعير لكل مضيع ماله فتبذير البذر تضييع في الظاهر
لمن لم يعرف مآل ما يلقيه. ثم القصد بهذه الجملة الحث على
تجنب هذه الأخلاق والتنفير عنها والتحذير منها وأنه ما من
خلق كريم إلا وله آفة تنشأ من طمع لئيم فنبه على أن
الإنسان يكون بالمرصاد لدفع ما يرد عليه من هذه الآفات "
تنبيه " قد ذكر الحكماء آفات من هذا الجنس فقالوا: آفة
العلم الملل وآفة العمل رؤية النفس وآفة العقل الحذر وآفة
العارف الظهور من غير وارد من جهة الحق وآفة المحبة الشهوة
وآفة التواضع الذلة وآفة الصبر الشكوى وآفة التسليم
التفريط في جنب الله وآفة الغنى الطمع وآفة العز البطر
وآفة البطالة فقد الدنيا والآخرة وآفة الكشف التكليم به
وآفة الصحبة المنازعة وآفة الجهل الجدل وآفة الطالب التسلل
دون الإقدام على المكاره وآفة الفتح الالتفات للعمل وآفة
الفقير الكشف وآفة السالك الوهم وآفة الدنيا الطلب وآفة
الآخرة الإعراض وطلب الأعواض وآفة الكرامات الميل إليها
وآفة العدل الانتقام وآفة التعبد الوسوسة وآفة الاطلاق
الخروج عن المراسم وآفة الوجود رؤية الكمال. وذكروا آفات
أخر وفي هذا الكفاية
(هب) وكذا ابن لال في المكارم وزاد: " وآفة الدين الهوى "
(وضعفه) قال السخاوي: وفيه مع ضعفه انقطاع (عن) باب مدينة
العلم ربان سفينة الفهم سيد الحنفاء زين الخلفاء ذي القلب
العقول [ص:52] واللسان والسؤال بشهادة الرسول أمير
المؤمنين (علي) بن أبي طالب القائل فيه المصطفى: " من كنت
مولاه فعلي مولاه " والقائل هو لو شئت لأوقرت لكم من تفسير
سورة الفاتحة سبعين وقرا. والقائل: أنا عبد الله وأخو
رسوله والصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذب. قتل
بالكوفة شهيدا وعمر كالنبي وصاحبيه. ثم إن اقتصار المؤلف
على عزو تضعيفه للبيهقي يؤذن بأنه غير موضوع وقد رواه
الطبراني بتقديم وتأخير عازيا لعلي أيضا وتعقبه الهيتمي
بأن فيه أبا رجاء الحبطي وهو كذاب وبما تقرر عرف خطأ من
زعم كبعض شراح الشهاب أنه حسن
(1/49)
11 - (آفة) أهل (الدين) أو المرا الدين
نفسه لأن شؤم كل منهم يعود على الشريعة بالوهن (ثلاثة) من
الرجال أحدهم (فقيه) أي عالم (فاجر) أي مائل عن الحق هاتك
ستر الديانة. والفجور هو الانبعاث في المعاصي. وفي المغرب:
الفجر الشق ومنه الفجور والفسوق والعصيان لأن الفاجر ينفتح
له طريق المعصية ويتسع فيها. وفي غيره أصل الفجر الشق
ومنه: {وفجرنا خلالهما نهرا} والفجور شق ستر الديانة (و)
الثاني (إمام) أي سلطان سمي به لأنه يتقدم على غيره
والمراد هنا حاكم (جائر) أي ظالم والإمام من يؤتم أي يقتدى
به والجمع إمام أيضا. قال المولى حسن الرومي: فعلم أن ما
ذكره القاضي كالزمخشري في: {واجعلنا للمتقين إماما} تمحل
لا ضرورة إليه وكثيرا ما يجتمع على أئمة (و) الثالث
(مجتهد) أي عابد مجد في العبادة (جاهل) بأحكام الدين. قال
الحراني: والجهل التقدم في الأمور المبهمة بغير علم
والمراد هنا عدم العلم بالواجب عليه من الشرائع الظاهرة
والتنكير للتحقير. وخص هؤلاء لعظم الضرر بهم إذ بهم تزل
الأقدام فالعالم يقتدى به والإمام تعتقد العامة وجوب طاعته
حتى في غير طاعة والمتعبد يعظم الاعتقاد فيه. وقدم الفقيه
لأن ضرره أعظم إذ بتساهله وتهوره تنقلب الأحكام وتضل
الأنام ويعود الوهن على الإسلام. قال علي كرم الله وجهه
كفى بالجهل ذما أن يتبرأ منه من هو فيه. وقال بعضهم: خير
المواهب العقل وشر المصائب الجهل
(فر) من حديث نهشل عن الضحاك (عن) عبد الله (ابن عباس)
ورواه عنه أبو نعيم ومن طريقه وعنه تلقاه الديلمي ونهشل.
قال الذهبي في الضعفاء. قال ابن راهويه كان كاذبا والضحاك
لم يلق ابن عباس ومن ثم قال المؤلف في درر البحار سنده واه
اه
(1/52)
12 - (آفة العلم النسيان) قال التوربشتي:
النسيان ترك ضبط ما استودع إما لضعف قلبه أو عن غفلة أو
قصد. قال الماوردي: النسيان نوعان أحدهما ينشأ عن ضعف
القوة المتخيلة عن حفظ ما يغفل عنه الذهن ومن هذا حاله قل
على الأضداد احتجاجه وكثر إلى الكتب احتياجه وليس لمن بلي
به إلا الصبر أو الإقلال لأنه على القليل أقدر وبالصبر
أحرى وأن ينال ويظفر. وقال الحكماء: اتعب قدميك فكم تعب
قدمك. وقالوا: إذا اشتد الكلف هانت الكلف والثاني يحدث عن
غفلة التقصير وإعمال التواني فينبغي لمن ابتلي به استدراك
تقصيره بكثرة الدرس وإيقاظ غفلته بإدامة النظر ومن ثم قيل
أكمل الراحة ما كان عن كد التعب وأعز العلم ما كان عن ذل
الطلب (وإضاعته) أي إهماله وإتلافه وإهلاكه (أن تحدث به
غير أهله) ممن لا يفهمه أو لا يعمل به فتحديثك له به إهمال
له أي جعلته بحيث صار مهملا أو إتلاف وإهلاك لعدم معرفته
بما تحدثه به أو لعدم الانتفاع به وكذا من هو لاه أو
متغافل أو مستخف به وهذا على الثاني استعارة بالكناية.
وأخرج البيهقي عن وهب أن ذا القرنين لما بلغ مطلع الشمس
قال له ملكها صف لي الناس قال: محادثتك من لا يعقل كلامك
بمنزلة من يضع الموائد لأهل القبور وكمن يطبخ الحديد يلتمس
أدمة. قال لقمان نقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من
لا يفهم. وأخرج البيهقي عن كثير الحضرمي لا تحدث بالحكمة
عند السفهاء فيكذبوك ولا بالباطل عند الحكماء فيمقتوك ولا
تمنع العلم أهله فيأثم ولا تحدث به غير أهله فيحمقك إن
عليك في علمك حقا كما أن عليك في مالك حقا
(ش) وكذا ابن عبد البر في كتاب العلم (عن) أبي محمد سليمان
بن مهران [ص:53] (الأعمش) الكوفي الكاهلي تابعي ثقة جليل
رأى بعض الصحابة ولم يثبت له منهم سماع وكان أكثر أهل عصره
حديثا وأعلمهم بالفرائض وكان يسمى بالمصحف لصدقه (مرفوعا)
إلى النبي (معضلا) وهو ما سقط من إسناده اثنان على التوالي
وهو بفتح الضاد من أعضله أعياه فهو معضل فكأن المحدث الذي
حدث به أعياه فلم ينتفع به من يرويه عنه (وأخرج) ابن أبي
شيبة (صدره فقط) وهو: " آفة العلم النسيان " (عن) أبي عبد
الرحمن عبد الله (ابن مسعود موقوفا) أي مقصورا عليه فلم
يتجاوز به إلى النبي وظاهر اقتصار المؤلف على عزوه لابن
أبي شيبة من طريقه أنه لا يعرف لغيره وإلا لذكره تقوية له
لكونه معلولا والأمر بخلافه فقد رواه بتمامه من هذا الوجه
الدارمي في مسنده والعسكري في الأمثال عن الأعمش معضلا
ورواه عنه ابن عدي من عدة طرق بلفظ: " آفة العلم النسيان
وإضاعته أن تحدث به من ليس له بأهل " ورواه من طريق عن قيس
بن الربيع بلفظ: " وإضاعته أن تضعه عند غير أهله " وروى
صدره عن ابن مسعود أيضا موقوفا البيهقي في المدخل قال
الحافظ العراقي ورواه بطين في مسنده من حديث علي بلفظ: "
آفة العلم النسيان وآفة الجمال الخيلاء ورواه ابن عدي عن
علي مرفوعا بلفظ: " آفة الحديث الكذب وآفة العلم النسيان "
فكان ينبغي للمؤلف الإكثار من مخرجيه إشارة إلى تقويته
(1/52)
13 - (آكل) بكسر الكاف اسم فاعل وزعم أنه
بسكونها وهم (الربا) أي متناوله بأي وجه كان وعبر عنه
بالأكل مجازا. قال الزمخشري: من المجاز فلان أكل غنمي
وشربها وأكل مالي وشربه أي أطعمه الناس وأكلت أطفالي
الحجارة انتهى. وبه يستغنى عن قولهم عبر بالأكل لأنه يأخذه
ليأكله أو لأنه المقصد الأعظم من المال وهو بكسر الراء
والقصر وألفه بدل من واو ويكتب بها وبياء وينسب إليه فيقال
ربوي بالكسر. قال المطرزي: وفتح الراء خطأ. وهو لغة
الزيادة وشرعا عقد على عوض معلوم مخصوص غير معلوم التماثل
في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في البدلين أو
أحدهما. وفي شرح المصابيح للقاضي: الربا في الأصل الزيادة
ثم نقل إلى ما يؤخذ زائدا علي ما بذل في المعاملات وإلى
العقد المشتمل عليه والمراد به ههنا القدر الزائد أي الذي
تحقق وجوده من العقد المشتمل عليه وبهذا التأويل يردان معا
ولكونه منهيا عنه لما فيه من أكل المال بالباطل على وجه
مخصوص مع العلم والتعمد بعد ما أنزل الله فيه جازي آكله
بلغته تنفيرا عنه وعليه يحمل خبر " لعن الله الربا وآكله "
إذ اللعنة وإن كانت فيه واقعة على العقد باعتبار اشتماله
على الزيادة لكن المراد العاقد لتحقق وقوع اللعنة على من
تلبس بمحرم بتلبسه به إذ الربا معنى والمعاني لا تلعن
حقيقة وإن عبر بها عن فاعل ذلك مجازا لكونها سببا انتهى.
وهو كبيرة إجماعا ولم يحل في شريعة قط ولم يؤذن الله عاصيا
بالحرب غير آكله. قال الحراني: يقع الإيثار فيه قهرا وذلك
الجور الذي يقابله العدل الذي غايته الفضل فأجور الجور في
الأموال الربا كالذي يقتل بقتيل قتيلين وبهذا اشتد الجور
بين العبيد الذين حظهم التساوي في أمر بلغة الدنيا انتهى.
وبه استبان أن تحريمه معقول المعنى خلافا لبعض الأعاجم لا
تعبدي محض وزعم أن ما ذكر إنما يصلح حكمة لا علة ممنوع
ولما كان تحريمه فيما بين العبد والرب كان فيه الوعيد
بالإيذان بالحرب من الله ورسوله ولذلك حمى جميع ذرائعه أشد
الحماية وأشدهم في ذلك عالم المدينة حتى إنه حمى من صورته
مع الثقة بسلامة الباطن منه وعمل بضد ذلك في محرمات ما بين
العبد ونفسه وكل من طفف في ميزان فتطفيفه ربا بوجه ما
فلذلك تعددت أبوابه وتكثرت أسبابه (وموكله) مطعمه
قال الخطيب: سوى بينهما في الوعيد لاشتراكهما في الفعل
وتعاونهما عليه وإن كان أحدهما مغتبطا والآخر مهتضما ولله
سبحانه وتعالى حدود فلا تتجاور عند الوجود والعدم والعسر
واليسر فضرورة الموكل لا تبيح له أن يوكله الربا لإمكان
إزالتها بوجه من وجوه المعاملة والمبايعة فإن فرض تعذره
فعليه أن يتجوز عن صريح الربا بضرب من ضروب الحيل المعروفة
انتهى. وحينئذ يظهر أنه لا كراهة فيها عند القائل [ص:54]
بأنها تنزيهية كالشافعية ولا حرمة عند غيرهم لأن الضرورات
تبيح المحظورات (وكاتبه) الذي يكتب الوثيقة بين المترابين
(وشاهداه) أي اللذان يتحملان الشهادة عليهما وإن لم يؤديا
كما قاله بعض شراح مسلم وفي معناهما من حضر وأقره. قال:
وإنما سوى بينهم في اللعن لأن العقد لا يتم إلا بالمجموع
ولم يذكر في نسخ: " وشاهداه " وهي رواية النسائي وعليها
فالمراد بالكاتب ما يشمل الشاهد لأنه شاهد وزيادة (إذا
علموا ذلك) أي علم كل منهم أنه ربا وأن الربا حرام وهذا
الشرط معتبر فيمن بعد هؤلاء أيضا. وإنما لم يؤخره لأنه إذا
اشترط العلم في الربا مع اشتهار ذمة وإطباق الملل على
تحريمه ففي غيره أولى ولو أخره ربما توهم عود الشرط لما
وليه فقط وأطنب بتعدد المذكورين وتفصيلهم ليستوعب مزاولته
مزاولة ما بأي وجه كان. ذكره الطيبي. قال: وهذا تصريح
بتحريم الكتابة للمترابين والشهادة عليهما وتحريم الإعانة
على الباطل (والواشمة) التي تغرز الجلد بنحو إبرة وتذر
عليه نحو نيلة ليخضر أو يزرق وتأنيثه على إرادة التسمية
فيشمل الرجل أو خص الأنثى لأنها الفاعلة لذلك غالبا لا
لإخراج غيرها (والموشومة) المفعول بها ذلك (للحسن) أي لأجل
التحسين ولو لحليل ولا مفهوم له لأن الوشم قبيح شرعا مطلقا
لأنه تغيير لخلق الله وتجب إزالته حيث لم يخف مبيح تيمم
(ولاوى) بكسر الواو (الصدقة) أي المماطل بدفع الزكاة بعد
التمكن وحضور المستحق أو الذي لا يدفعها إلا بإكراه يقال
لوى مدينه مطله ورجل لوى عسر يلتوي على خصمه (والمرتد) حال
كونه (أعرابيا) بفتح وبياء النسبة إلى الجمع (بعد الهجرة)
أي والعائد إلى البادية ليقيم مع الأعراب بعد ما هاجر
مسلما والمراد أنه هاجر إذا وقع سهمه في الفيء ولزمه
الجهاد خلع ذلك من عنقه فرجع بعد هجرته أعرابيا كما كان
وكان من رجع بعد هجرته بلا عذر يعد كالمرتد لوجوب الإقامة
مع النبي صلى الله عليه وسلم لنصرته وورد في خبر أنه كبيرة
قال القاضي والحكمة في الهجرة أن يتمكن المؤمن من الطاعة
بلا مانع ولا وازع ويتبرأ عن صحبة الأشرار المؤثرة بدوامها
في اكتساب الأخلاق الذميمة والأفعال الشنيعة فهي في
الحقيقة التحرز عن ذلك والمهاجر الحقيقي من يتحاشى عنها
والأعرابي ساكن البادية والأعراب أهل البدو والأصح نسبتهم
إلى عربة بفتحتين وهي من تهامة لأن أباهم إسماعيل نشأ بها
كذا في المغرب. وفي المصباح: واحد الأعراب أعرابي بالفتح
وهو من يكون ذو نجعة وارتياد للكلأ. زاد الأزهري هبه من
الأعراب أو مواليهم (ملعونون) مطرودون عن مواطن الأبرار
لما اجترحوه من ارتكاب هذا الفعل الشنيع الذي هو من كبار
الآصار لأن اللعن إبعاد في المعنى والمكانة والمكان إلى أن
يصير الملعون بمنزلة السفل في أسفل القامة يلاقى به ضرر
الوطء ذكره الحراني. وأصل اللعن من الله تعالى إبعاد العبد
من رحمته بسخطه ومن الآدمي الدعاء عليه بالسخط واللعن
بالوصف جائز حتى لطائفة من عصاة المؤمنين كما هنا لكن ليس
المراد به في حقهم الطرد عن رحمة الله بالكلية بل الإهانة
والخذلان. ولهذا قال النووي: اتفق العلماء على تحريم اللعن
فإن معناه الإبعاد عن الرحمة ولا يجوز أن يبعد منها من لا
تعرف خاتمة أمره معرفة قطعية مسلما أو كافرا إلا من علم
بنص أنه مات أو يموت كافرا كأبي جهل وإبليس. قال: وأما
اللعن بالوصف كآكل الربا وموكله والفاسقين وغيرهم مما جاءت
النصوص بإطلاقه على الأوصاف لا على الأعيان فجائز. وفي شرح
الهداية: اللعن نوعان:
أحدهما الطرد عن رحمة الله وهذا ليس إلا للكافرين والثاني
الإبعاد عن درجات الأبرار ومقام الأخيار وهو المراد في هذه
الأخبار. والحاصل أن الطرد والإبعاد على مراتب في حق
العباد وأن اللعن بالشخص بمعنى اليأس من الرحمة لا يجوز
حتى لكافر إلا من علم بالنص أنه مات أو يموت كافرا ولا حجة
للمجوز في خبر: " إذا دعى الرجل زوجته إلى فراشه فأبت
لعنتها الملائكة " لأنه كما قيل يحتمل كونه من خصائص
المعصوم لأن الخصوصية لا تثبت بالاحتمال بل لأن ذلك ليس من
لعن المعين إذ التعيين إنما يحصل باسم أو إشارة ولعن
الملائكة ليس من ذلك بل من اللعن بالوصف كأن يقول: اللهم
العن من باتت هاجرة فراش زوجها (على لسان محمد) صلى الله
عليه وسلم أي لعنا واردا على لسانه مما أوحى الله إليه أو
بقوله (يوم [ص:55] القيامة) أي يقول في الموقف إن الله
أمرنا بإبعاد من اتصف بهذه الكبائر ومات مصرا عليها عن
مواطن الأبرار ودرجات الأخيار ثم بعد ذلك قد يدركهم العفو
بشفاعة أو دونها وقد يعذبون ومصير من مات مسلما إلى الجنة
وإن فعل ما فعل وزاد في رواية (صلى الله عليه وسلم) وهي من
الراوي لا من لفظ الرسول: وفيه أن هذه المذكورات من
الكبائر ومن صرح بأن التعرب بعد الهجرة من الكبائر
العلائي. وليوم القيامة أسماء كثيرة جمعها الغزالي ثم
القرطبي فبلغت نحو ثمانين وهذا الترتيب مقصود فأعظم هؤلاء
السبعة إثما آكل
الربا لأنه مغتبط ثم مطعمه لأنه مضطر لذلك غالبا ثم كاتبه
لأن إثمه إنما هو لإعانته على باطل ثم الشهود إقرارهما
عليه
(ن) في السير وغيرها وكذا أحمد والبيهقي (عن) أبي عبد
الرحمن عبد الله (ابن مسعود) وفيه الحارث الأعور. قال
الهيتمي بعد عزوه لأحمد ولأبي يعلى والطبراني. وفيه الحارث
الأعور ضعيف وقد وثق وعزاه المنذري لابن خزيمة وابن حبان
وأحمد. ثم قال: رووه كلهم عن الحارث الأعور عن ابن مسعود
إلا ابن خزيمة فعن مسروق عن ابن مسعود وإسناد ابن خزيمة
صحيح انتهى. فأهمل المصنف الطريق الصحيح وذكر الضعيف ورمز
لصحته فانعكس عليه. والحاصل أنه روي بإستادين أحدهما صحيح
والآخر ضعيف فالمتن صحيح
(1/53)
14 - (آكل) بالمد وضم الكاف قال الزمخشري
وحقيقة الأكل تناول الطعام. وقال الكرماني: بلع الطعام بعد
مضغه (كما يأكل العبد) أي في القعود له وهيئة التناول
والرضا بما حضر تواضعا لله تعالى وأدبا معه فلا أتمكن عند
جلوسي له ولا أتكئ كما يفعله أهل الرفاهية ولا أنبسط فيه
فالمراد بالعبد هنا الإنسان المتذلل المتواضع لربه (وأجلس)
في حالة الأكل وغيرها (كما يجلس العبد) لا كما يجلس الملك
فإن التخلق بأخلاق العبودية أشرف الأوصاف البشرية. وقد
شارك نبينا في ذلك التشريف بعض الأنبياء واختصاصه إنما هو
بالعبد المطلق فإنه لم يسم غيره إلا بالعبد المقيد باسمه:
{واذكر عبدنا داود} وعبدنا أيوب فكمال العبودية لم يتهيأ
لأحد من العالمين سواه وكمالها في الحرية عما سوى الله
بالكلية. وقال الحراني: ومقصود الحديث الاغتباط بالرق
والعياذ من العتق فذلك هو أول الاختصاص ومبدأ الاصطفاء
والتحقق بالعبودية ثمرة ما قبله وأساس ما بعده وهذا أورده
على منهج التربية لأمته فانه المربي الأكبر فإخباره عن
نفسه بذلك في ضمن الإرشاد إلى مثل ذلك الفعل وأما في حد
ذاته فيخالف الناس في العبادة والعادة تمكن للأكل أم لا
أما في عبادته فلأنه يعبد ربه على مرأى منه ومسمع وأما في
عادته فإنه سالك مسلك المراقبة فلو وقع لغيره في العبادات
ما يقع له في العادات كان ذلك الإنسان سالكا مقام الإحسان
وفيه أنه يكره الجلوس للأكل متكئا
(ابن سعد) في الطبقات (ع حب) وكذا الحاكم في تاريخه (عن)
أم المؤمنين (عائشة) بالهمز قال الزركشي: وعوام المحدثين
يقرؤنه بياء صريحة وهو لحن وهي الصديقة بنت الصديق المبرأة
من كل عيب الفقيهة العالمة العاملة حبيبة المصطفى قالت:
قال لي يا عائشة لو شئت لسارت معي جبال الذهب أتاني ملك
إلى حجرة الكعبة. فقال: إن ربك يقرئك السلام ويقول لك إن
شئت كنت نبيا ملكا وإن شئت نبيا عبدا فأشار إلى جبريل: أن
ضع نفسك فقلت: نبيا عبدا فكان بعد لا يأكل متكئا ويقول: "
آكل كما يأكل العبد " إلى آخره. ورواه البيهقي عن يحيى بن
أبي كثير مرسلا وزاد " فإنما أنا عبد " ورواه هناد عن عمرو
بن مرة وزاد: " فوا الذي نفسي بيده لو كانت الدنيا تزن عند
الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا كأسا " ولتعدد هذه
الطرق رمز المؤلف لحسنه
(1/55)
15 - (آل محمد كل تقي) أي من قرابته كما
بينه الحليمي لقيام الأدلة على أن آله من حرمت عليهم
الصدقة أو المراد آله بالنسبة لمقام نحو الدعاء ورجحه
النووي رحمه الله في شرح مسلم فالإضافة للإختصاص أي هم
مختصون به اختصاص أهل الرجل به وعليه فيدخل أهل البيت
دخولا أوليا كذا حرره بعض المتأخرين أخذا من قول الراغب:
آل النبي صلى الله عليه وسلم أقاربه وقيل المختصون به من
حيث العلم وذلك أن أهل الدين ضربان ضرب مختص بالعلم [ص:56]
المتقن والعمل النافع المحكم فيقال لهم آل النبي وأمته
وضرب يختصون بالعلم على سبيل التقليد ويقال لهم أمة محمد
ولا يقال آله وكل آل النبي أمته ولا عكس. وقيل لجعفر
الصادق: الناس يقولون: المسلمون كلهم آل النبي. قال: صدقوا
وكذبوا. قيل: كيف؟ قال كذبوا في أن الأمة كافتهم آله
وصدقوا أنهم إذا قاموا بشرائط شريعته آله والمتقي من يقي
نفسه عما يضره في العقبى أو من سلك سبيل المصطفى ونبذ
الدنيا وراء القفا وكلف نفسه الإخلاص والوفا واجتنب الحرام
والجفا ولو لم يكن له فضل إلا قوله تقدس: {هدى للمتقين}
لكفى لأنه تعالى بين في غير موضع أن القرآن هدى للناس وقال
{هدى للمتقين} فكأنه قال: المتقون هم الناس وغير المتقي
ليس من الناس. وقال الحراني: المتقي المتوقف عن الإقدام
على كل أمر لشعوره بتقصيره عن الاستبداد وعلمه بأنه غير
غني بنفسه فهو متق لوصفه وحسن فطرته. والتقوى تجنب القبيح
خوفا من الله وهي أصل كل عبادة ووصية الله لأهل الكتب
بأسرها
(طس) وكذا في الصغير وكذا ابن لال وتمام والعقيلي والحاكم
في تاريخه والبيهقي (عن أنس) قال سئل رسول الله صلى الله
عليه وسلم من آل محمد؟ فذكره. قال الهيتمي: وفيه نوح بن
أبي مريم وهو ضعيف جدا. وقال البيهقي: هو حديث لا يحل
الاحتجاج به. وقال ابن حجر: رواه الطبراني عن أنس وسنده
واه جدا وأخرجه البيهقي عن جابر من قوله وإسناده واه ضعيف.
وقال السخاوي: أسانيده كلها ضعيفة
(1/55)
16 - (آل القرآن) أي حفظته العاملون به (آل
الله) أي أولياؤه. وأضيفوا إلى القرآن لشدة اعتنائهم به
وأضيفوا إلى الله تشريفا. قال ابن عربي آل القرآن هم الذين
يقرؤن حروفه من عجم وعرب ويعلمون معانيه وليس الخصوصية من
حيث القرآن بل من حيث العلم بمعانيه فإن انضاف إلى حفظه
والعلم بمعانيه العمل به فنور على نور. قال في الفائق:
وأصل آل أهل ويختص على الأشهر بالإشراف كما هنا فلا يقال
آل الخياط. وقال الراغب الآل مقلوب أهل وتصغيره أهيل لكنه
خص بالإضافة إلى إعلام الناطقين دون النكرات والأزمنة
والأمكنة
(خط في) كتاب (رواه) الإمام (مالك) بن أنس من رواية محمد
بن بزيع عن مالك عن الزهري (عن أنس) ابن مالك ثم قال مخرجه
الخطيب وبزيع مجهول وفي الميزان خبر باطل وأقره عليه
المؤلف في الأصل وقال غيره موضوع
(1/56)
17 - (آمروا) بالمد وميم مخففة مكسورة هكذا
الرواية فمن شدد الميم لم يصب وإن صح معناه (النساء) اسم
لجماعة إناث الأناسي الواحدة امرأة من غير لفظ الجمع (في
بناتهن) أي شاوروهن في تزويجهن لأنه أدعى للألفة وأطيب
للنفس. إذ البنات للأمهات أميل وقد يكون عند أمها رأي صدر
عن علم بباطن حالها أو بالزوج. قال البيهقي: قال الشافعي:
لم يختلف الناس أنه ليس للأمهات أمر لكنه على معنى استطابة
النفس. وقال ابن العربي: هذا غير لازم إجماعا وإنما هو
مستحب والمراد هنا الأم والجدات من جهة الأب ومن جهة الأم
فإنها وإن استؤذنت قد تأذن حياء. قال في الكشاف: والائتمار
والتشاور يقال الرجلان يتآمران ويأتمران لأن كلا منهما
يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر. وقال الراغب: الائتمار
قبول الأمر ويقال للتشاور ائتمارا لقبول بعضهم أمر بعض
فيما أشار به والأمر طلب الفعل من الدون وبه سمي الأمر
الذي هو واحد الأمور تسمية المفعول به بالمصدر قال
الزمخشري وهذا وما قبله خطاب مشافهة وهو كما قال القاضي
وغيره شامل للموجودين وقت الخطاب ومن سيوجد إلى قيام
الساعة إلا ما خص بدليل
(د) في النكاح (هق) فيه كلاهما (عن ابن عمر) بن الخطاب وفي
رواية إسماعيل بن أمية عن [ص:57] الثقة عن ابن عمر في
شأنهن بدل بناتهن ورمز المؤلف لحسنه
(1/56)
18 - (آمروا) بضبط ما قبله (النساء) أي
البالغات (في أنفسهن) جمع نفس من النفاسة ونفس الشيء ذاته
وحقيقته ويقال للروح لأن أنفس الحي به وللقلب لأنه محل
الروح أو متعلقه وللدم لأن به قوامها وللماء لشدة حاجتها
له وللرأي في قولهم فلان يؤامر نفسه ذكره الزمخشري والمراد
هنا الأول يعني شاوروهن في تزويجهن (فإن الثيب) فعيل من
ثاب رجع لمعاودتها التزوج غالبا أو لأن الخطاب يثاوبونها
أي يراسلونها ويعاودونها. قال الزمخشري: ويقال للرجل
والمرأة ثيب وفي الصحاح رجل ثيب وامرأة ثيب. قال ابن
السكيت: وهو الذي دخل بامرأته وهي التي دخل بها (تعرب)
تبين وتوضح (عن نفسها) من أعربت عنه وعربته بالتنقيل بينته
وأوضحته. قال في المصباح: يروى في المهموز ومن المثقل.
وقال الزمخشري: أعربت عن حاجته تكلم بها واحتج لها (وإذن
البكر) أي العذراء. قال في الصحاح: الذكر والأنثى فيه
سواء. وفي المصباح: البكر خلاف الثيب رجلا أو إمرأة. قال
القاضي: وتركيب البكر للأولية ومنه البكرة والباكورة. وقال
الراغب: البكرة أول النهار وتصور منها معنى التعجيل
لتقدمها على سائر أوقات النهار فقيل لكل متعجل بكر وسمى
التي تفتض بكرا اعتبارا بالثيب لتقدمها عليها فيما يراد له
النساء (صمتها) أي سكوتها والأصل وصماتها كإذنها فشبه
الصمات بالإذن شرعا ثم جعل إذنا مجازا ثم قدم مبالغة
والمعنى هو كاف في الإذن وهذا كقوله " ذكاة الجنين ذكاة
أمه " إذ أصله ذكاة أم الجنين ذكاة. وإنما قلنا أصله
صماتها كإذنها لأنه لا يخبر عن الشيء إلا بما يصح كونه
وصفا له حقيقة أو مجازا فلا يصح أن يكون إذنها مبتدأ لعدم
صحة وصف الإذن بالسكوت لأنه يكون نفيا له فيصير المعنى
إذنها مثل سكوتها وقبل الشرع كان سكوتها غير كاف فكذا
إذنها فينعكس المعنى ذكره في المصباح وأفاد الخبر أن الولي
لا يزوج موليته إلا بإذنها لكن الثيب يشترط نطقها والبكر
يكفي سكوتها لما قام بها من شدة الحياء. وهذا عند الشافعي
في غير المجبر أما هو فيزوج البكر بغير إذن مطلقا. وقال
الأئمة الثلاثة: عقد الولي بغير إذن موقوف على إجازتها.
والثيب عند الشافعي من وطئت في قبلها مطلقا وغيرها بكر
فالثيب بغير وطء بكر عنده وعند أبي حنيفة وكذا بزنا ظاهر
عندهما وطرده الشافعي في الخفي وجعل سبب الإجبار البكارة
لا الصغر وعكس أبو حنيفة ومحل التفصيل كتب الفروع
(طب هق) وكذا الحاكم في تاريخه (عن العرس) بضم العين
المهملة وسكون الراء بعدها مهملة (ابن عميرة) بفتح العين
بضبط المؤلف كغيره الكندي روى عن ابن أخيه عدي وزهدم قيل
مات في فتنة ابن الزبير ورمز المؤلف لحسنه وقضيته أنه لا
يبلغ درجة الصحة وليس كذلك فقد قال الحافظ الهيتمي بعد
عزوه للطبراني رجاله ثقات هكذا جزم به
(1/57)
19 - (آمن) بالمد وفتح الميم (شعر أمية)
بضم الهمزة وفتح الميم وشد المثناة تحت تصغير أمة عبد الله
(بن أبي الصلت) بفتح المهملة وسكون اللام ومثناة فوق وهو
ربيعة بن وهب بن عوف ثقفي من شعراء الجاهلية مبرهن غواص
على المعاني معتن بالحقائق متعبد في الجاهلية يلبس المسوح
ويطمع في النبوة ويؤمن بالبعث وهو أول من كتب باسمك اللهم.
وزعم الكلاباذي أنه كان يهوديا ويقال إنه دخل في النصرانية
وأكثر في شعره من ذكر التوحيد وأحوال القيامة والزهد
والرقائق والحكم والمواعظ والأمثال. قال الزمخشري: كان
داهية من دواهي ثقيف وثقيف دهاة العرب ومن دهائه ما هم به
من ادعاء النبوة وكان جلابة للعلوم جوالا في البلاد (وكفر
قلبه) أي اعتقد ما ينافي شعره المشحون بالإيمان والحكمة
والتذكير بآلاء الله وأيامه فلم ينفعه ما تلفظ به مع جحود
قلبه. روى مسلم عن عمرو بن الشريد قال: " ردفت النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: هل معك من شعر أمية؟ قلت: نعم
فأنشدته مئة بيت فقال: لقد كاد أن يسلم في شعره " وروى ابن
مردويه بإسناد قال ابن حجر قوي عن ابن عمر وفي قوله تعالى:
{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} قال:
نزلت في أمية بن أبي الصلت. وقال غيره في بلعام وعاش أمية
حتى أدرك وقعة بدر ورثا من قتل بها من الكفار ومات أيام
حصار الطائف كافرا ومن نظمه: [ص:58]
مليك على عرش السماء مهيمن. . . لعزته تعثو الوجوه وتسجد
ومنه قصيدة أخرى
كل دين يوم القيامة عند الله إلا دين الحنيفة بور
ومنه أيضا
مجدوا الله فهو للمجد أهل. . . ربنا في السماء أمسى كبيرا
ومنه من أخرى
يا رب لا تجعلني كافرا أبدا. . . واجعل سريرة قلبي الدهر
إيمانا
قال ابن حجر: فلذلك قال: آمن شعره. ومن نظمه أيضا يمدح ابن
جدعان يطلب نائلة:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني؟ . . . حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما. . . كفاه من تعرضك الثناء
كريم لا يغيره صباح. . . عن الخلق الجميل ولا مساء
يباري الريح مكرمة وجودا. . . إذا ما الضب أجحره الشتاء
وأخرج ابن عساكر وأبو حذيفة في المبتدأ عن أبي إسحاق عن
الزهري عن سعيد بن المسيب قال: قدمت الفارعة أخت أمية بن
أبي الصلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها
وكانت ذات لب وكمال: هل تحفظين من شعر أخيك شيئا؟ قالت:
نعم وأعجب ما رأيته كان أخي في سفر فلما انصرف دخل علي
فرقد على السرير وأنا أحلق أديما في يدي إذ أقبل طائران أو
كالطائرين فوقع على الكوة أحدهما ودخل الأخر فوقع عليه فشق
ما بين ناصيته إلى عانته ثم أدخل يده في جوفه فأخرج قلبه
فوضعه في كفه ثم شمه فقال له الطائر الأعلى: أوعى؟ قال:
وعى ثم رده مكانه فالتأم الجرح أسرع من طرفة عين ثم ذهب
فنبهته فقال: مالي أراك مرتاعة؟ فأخبرته فقال: خير ثم أنشأ
يقول:
باتت همومي تسري طوارقها. . . أكفكف عيني والدمع سابقها. .
. مما أتاني من اليقين ولم
أوت برأة يقص ناطقها. . . أو من تلظى عليه واقدة االنا. .
. ر محيط بهم سرادقها
أم أسكن الجنة التي وعد الأب. . . رار مصفوفة نمارقها. . .
لا يستوي المنزلان ثم ولا ال
أعمال لا تستوي طرائقها. . . هما فريقان فرقة تدخل الجن. .
. ة حفت بهم حدائقها
وفرقة منهم قد أدخلت النا. . . ر فساءت بهم مرافقها. . .
تعاهدت هذه القلوب إذا
همت بخير عاقت عوائقها. . . إن لم تمت غبطة تمت هرما. . .
للموت كأس والمرء ذائقها
وصدها الشقاء عن طلب الجن. . . ة دنيا الله ما حقها. . .
عبد دعا نفسه فعاتبها
يعلم أن المصير رامقها. . . ما رغبة النفس في الحياة وإن.
. . تحيا قليلا فالموت لاحقها
يوشك من فر من منيته. . . يوما على غرة يوافقها
قالت: ثم انصرف إلى رحله فلم يلبث إلا قليلا حتى طعن في
خاصرته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن مثل أخيك كمثل
الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها. وأخرج الدينوري في
المجالسة عن محمد بن إسماعيل بن طريح الثقفي عن أبيه عن
جده عن جد أبيه قال: سمعت ابن أبي الصلت عند وفاته وأغمي
عليه قليلا ثم أفاق فرفع رأسه إلى سقف البيت فقال: لبيكما
لبيكما. . . ها أنا ذا لديكما. . . لا عشيرتي تحميني ولا
مالي يفديني ثم أغمي عليه ثم أفاق فقال:
كل عيش وإن تطاول دهرا. . . صائرا أمره إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي. . . في رؤس الجبال أرعى
الوعولا
ثم فاضت نفسه. وأخرج ابن عساكر عن الزهري قال: قال أمية:
ألا رسول لنا منا يخبرنا. . . ما بعد غايتنا من رأس مجرانا
ثم خرج إلى البحرين فأقام مدة ثم قدم الطائف فقال: ما
محمد؟ قالوا يزعم أنه نبي. فقدم عليه فقال: يا ابن عبد
المطلب [ص:59] أريد أن أكلمك فموعدك غدا فأتاه في نفر من
أصحابه وأمية في جماعة من قريش فجلسوا في ظل البيت فبدأ
أمية فخطب ثم سجع ثم أنشد الشعر ثم قال: أجبني فقال: {بسم
الله الرحمن الرحيم يس والقرآن الحكيم} حتى إذا فرغ منها
وثب أمية فتبعته قريش تقول: ما تقول يا أمية قال: أشهد أنه
على الحق. قالوا: فهل نتبعه؟ قال: حتى أنظر. ثم خرج إلى
الشام وقدم رسول الله المدينة فلما قتل أهل بدر أقبل أمية
حتى نزل بدرا ثم ترحل يريد رسول الله فقيل له: ما تريد
قال: محمدا قيل: وما تصنع به؟ قال: أومن به وألقي إليه
مقاليد هذا الأمر قال: تدري من في القليب؟ قال: لا قال:
فيه عتبة وشيبة وهما ابنا خلف فجدع أذني ناقته وقطع ذنبها
فرجع إلى مكة وترك الإسلام فقدم الطائف على أخته فنام
عندها فإذا طائران فذكر نحو قصة أخته عنه وأنه مات عقب ذلك
<تنبيه> هذا الحديث قد يعارضه الحديث الآتي: " عند الله
علم أمية بن أبي الصلت " وقد يقال قال ذلك أولا ثم أوحي
إليه بعد ذلك بأنه مات كافرا. وأراد بالقلب محل القوة
العاقلة من الفؤاد سمي قلبا للتقلب والتقليب وللطيف معناه
في ذلك كان أكثر قسم النبي بمقلب القلوب. قال الغزالي:
وحيث ورد في القرآن أو السنة لفظ القلب فالمراد به المعنى
الذي يفقه من الإنسان ويعرف حقيقة الأشياء وقد يكنى عنه
بالقلب الذي في الصدر لأن بين تلك اللطيفة وبين جسم القلب
علاقة خاصة فإنها وإن كانت متعلقة بسائر البدن لكنها تتعلق
به بواسطة القلب فتعلقها الأول بالقلب. والشعر النظم
الموزون وحده ما تركب تركيبا متقاصدا وكان مقفى موزونا
مقصودا به ذلك فما خلا من هذه القيود أو بعضها لا يسماه
ولا يسمى قائله شاعرا لأخذه من شعرت إذا فطنت وعلمت وسمي
شاعرا لفطنته وعلمه فإذا لم يقصده فكأنه لم يشعر به ذكره
في المصباح (أبو بكر) محمد بن القاسم (بن) محمد بن بشار
(الأنباري) بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الموحدة نسبة إلى
بلدة قديمة على الفرات على عشرة فراسخ من بغداد وكان علامة
في النحو واللغة والأدب قال (في) كتاب (المصاحف) حدثنا أبي
حدثنا عبد الرحمن بن حمزة البلخي حدثنا محمد بن عمرو
الشيباني عن أبي عمرو الشيباني عن أبي بكر الهذلي عن عكرمة
قلت لابن عباس: أرأيت ما جاء عن النبي في أمية بن أبي
الصلت؟ آمن شعره وكفر قلبه؟ فقال هو حق فما أنكرتم منه ذلك
قلت قوله في الشمس: إلا معذبة وإلا تجلد من قوله:
والشمس تطلع كل آخر ليلة. . . حمراء يصبح لونها يتورد
تأنى فما تطلع لنا في رسلها. . . إلا معذبة وإلا تجلد
فقال: والذي نفسي بيده ما طلعت الشمس قط حتى ينخسها سبعون
ألف ملك فيقولون لها اطلعي فتقول لا أطلع على قوم يعبدونني
من دون الله فيأتيها ملك فتشعل لضياء بني آدم فيأتيها
شيطان يريد أن يصدها عن الطلوع فتطلع بين قرنيه فيحرقه
الله تحتها
(خط وابن عساكر) في تاريخه (عن ابن عباس) بإسناد ضعيف.
ورواه عنه أيضا الفاكهي وابن منده وسببه أن الفارعة بنت
أبي الصلت أخت أمية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأنشدته من شعر أمية فذكره
(1/57)
20 - (آمين) صوت سمي به الفعل الذي هو
استجب مبني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين يمد ويقصر
وأصله القصر ومد ليرتفع الصوت بالدعاء ذكره ابن خالويه
وزعم ابن داستويه أن القصر غير معروف وإنما قصر الشاعر في
قوله:
تباعد عنا فطحل إذ سألته. . . أمين فزاد الله ما بيننا بعد
للضرورة. قال ابن الكمال: وهو وهم إذ لا ضرورة فإنه لو قدم
الفاء
وقيل:. . . فآمين زاد الله ما بيننا بعدا. . . اندفعت
الضرورة وتشديد ميمه لحن وربما فعله العامة وأما {ولا آمين
البيت الحرام} فمعناه قاصدين (خاتم) بفتح التاء وكسرها
وفيه عشر لغات ذكر منها خمسة ابن مالك في بيت واحد (رب
العالمين) أي هو خاتم دعاء رب العالمين بمعنى أنه يمنع
الدعاء من فساد الخيبة والرد كما أن الطابع على الكتاب
يمنع فساد ظهور ما فيه على الغير ذكره التفتازاني. وفي خبر
أبي داود أن المصطفى [ص:60] صلى الله عليه وسلم سمع رجلا
يدعو فقال: " أوجب إن ختم بآمين " والرب مصدر بمعنى
التربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا وصف به
الفاعل مبالغة وصف بالعدل وقيل صفة مشبهة سمي به المالك
لكونه يحفظ ما يملكه ويربيه ولا يطلق على غيره تعالى إلا
مقيدا كرب الدار. ثم إن ربوبيته تعالى بمعنى الخالقية
والمالكية والمعبودية عامة وبمعنى التربية والإصلاح خاصة
تتفاوت بسبب أنواع الموجودات فهو مربي الأجساد بأنواع نعته
ومربي الأرواح بأصناف كرمه ومربي نفوس العابدين بأحكام
الشريعة ومربي قلوب العارفين بآداب الطريقة ومربي أسرار
الأبرار بأنواع الحقيقة. والعالمين جمع عالم وهو من كلام
أهل اللسان اسم لنوع من المخلوقين فيه علامة يمتاز بها عن
خلافه من الأنواع كملك وإنس وجن وهو جمع لا واحد له من
لفظه. قال الشريف: ويطلق على كل جنس لا فرد فهو للقدر
المشترك بين الأجناس (على لسان عباده المؤمنين) أي هو طابع
الله على نطق ألسنة عباده لأن العاهات والبلايا تندفع به
إذ الختم الطبع أي الأثر الحاصل عن نفس ويتجوز به عن
الاستيثاق من الشيء والمنع منه نظرا إلى ما يحصل بالختم
على الكتب والأبواب من المنع فالختم جار مجرى الكتابة عن
حفظه وإضافة المؤمنين إليه للتشريف. وذكر ابن المنير عن
الضحاك أن آمين أربعة أحرف مقتطعة من أسماء الله تعالى وهو
خاتم رب العالمين يختم به براءة أهل الجنة وأهل النار وهي
الجائزة التي تجيز أهل الجنة والنار وخرج بالمؤمنين
الكافرون فختمهم إياه بآمين لا يمنعه من الخيبة والحرمان
بل ذهب جمع إلى عدم استجابته تمسكا بظاهر قوله تعالى {وما
دعاء الكافرين إلا في ضلال} لكن الجمهور على خلافه
(عد طب في) كتاب (الدعاء) وكذا الديلمي وابن مردويه (عن
أبي هريرة) وفيه مؤمل الثقفي أورده الذهبي في الضعفاء عن
أبي أمية ابن يعلى الثقفي لا شيء. ومن ثم قال المؤلف في
حاشية الشفاء: إسناده ضعيف ولم يرمز له هنا بشيء
(1/59)
21 - (آية الكرسي) أي الآية التي ذكر فيها
الكرسي فلذكره فيها سميت به وضم كافه أشهر من كسرها (ربع
القرآن) لاشتماله على التوحيد والنبوات وأحكام الدارين
وآية الكرسي ذكر فيها التوحيد فهي ربعه بهذا الاعتبار
والقول بأن المراد أن ثواب قراءتها يعدل ثواب قراءة ربعه
بغير تضعيف أو به متعقب بالرد ويأتي في حديث أنها سيدة آي
القرآن أي باعتبار آخر والآية في الأصل العلامة الظاهرة
قال:
توهمت آيات لها فعرفتها. . . لستة أعوام وذا العام سابع
وتقال للمصنوعات من حيث دلالتها على الصانع تعالى وعلمه
وقدرته ولكل طائفة من كلمات القرآن المميزة عن غيرها بفصل.
سميت به لأنها علامة اقتطاع كلام عن كلام وتستعمل في
المحسوس كعلامة الطريق والمعقول كالحكم الواضح ويقال لكل
جملة دلت على حكم من الأحكام آية ولكل كلام منفصل بفصل
لفظي آية وللمعجزة آية لدلالتها على صدق من ظهرت بسببه
والقرآن لغة الجمع نقل إلى المجموع المتواتر المفتتح
بالفاتحة المختتم بالمعوذتين ويطلق على القدر المشترك بينه
وبين بعض أجزائه وعلى الكلام النفسي القائم بأنه الأقدس
المدلول عليه بالألفاظ
(أبو الشيخ [ابن حبان] ) ابن حبان بمهملة فمثناة تحتية
مشددة وكذا الطبراني (في) كتاب (الثواب) أي ثواب الأعمال
والديلمي (عن أنس) وفيه ابن أبي فديك عن سلمة ابن وردان
وسلمة أورده الذهبي في الضعفاء والمتروكين وقد حسنه المؤلف
ولعله لاعتضاده
(1/60)
22 - (آية ما بيننا) لفظ رواية الحاكم
بإسقاط ما وتنوين آية أي علامة التمييز بيننا أيها
المؤمنون (وبين المنافقين) الذين أمنوا بأفواههم ولم تؤمن
قلوبهم والمنافق أصله من يظهر ما يبطن خلافه لكنه غلب على
من يظهر الإسلام ويبطن الكفر (أنهم لا يتضلعون) لا يكثرون
(من) شرب (ماء) بئر (زمزم) حتى تتمدد جنوبهم وضلوعهم
[ص:61] كراهة له بعد ما علموا ندب الشارع إلى شربه
والإكثار منه. والرغبة في الاستكثار منه عنوان الغرام
وكمال الشوق فإن الطباع تحن إلى مناهل الأحبة ومواطن أهل
المودة وزمزم منهل المصطفى صلى الله عليه وسلم وأهل بيته
ومحل تنزل الرحمات وفيض البركات فالمتعطش إليها والممتلئ
منها قد أقام شعار المحبة وأحسن العهد إلى الأحبة فلذلك
جعل التضلع منها علامة فارقة بين النفاق والإيمان. ولله در
القائل:
وما شغفي بالماء إلا تذكرا. . . لماء به أهل الحبيب نزول
ثم إن ما أوهمه ظاهر اللفظ من أن من لم يشرب منها مع تمكنه
يكون منافقا وإن صدق بقلبه غير مراد بل خرج ذلك مخرج
الترغيب فيه والزجر والتنفير عن الزهادة فيه على أن
العلامة تطرد ولا تنعكس فلا يلزم من عدم العلامة عدم ما هي
له والبين البعد. وقال الحراني: حد فاصل في حس أو معنى.
والنفاق اسم إسلامي لا تعرفه العرب بالمعنى المقرر.
والتضلع الإكثار والامتلاء شبعا وريا وزمزم معروفة سميت به
لكثرة مائها أو لضم هاجر لمائها حين انفجرت أو لزمزمة
جبريل أي تكلمه عند فجره لها أو لأنها زمت بالتراب لئلا
تأخذ يمينا أو شمالا أو لغير ذلك ولها أسماء كثيرة وماؤها
أشرف مياه الدنيا والكوثر أشرف مياه الآخرة
(تخ هـ ك) من حديث إسماعيل بن زكريا عن عثمان ابن الأسود
عن ابن (عباس) قال عثمان: جاء رجل إلى ابن عباس. قال: من
أين جئت؟ قال: من مكة. قال: شربت من ماء زمزم؟ قال: شربت.
قال: شربت منها كما ينبغي؟ قال: وكيف؟ قال: إذا أردت أن
تشرب منها فاستقبل البيت واذكر اسم الله واشرب وتنفس ثلاثا
وتضلع منها فإذا فرغت فاحمد الله. فإن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال فذكره. ثم قال الحاكم إن كان عثمان سمع من
ابن عباس فهو على شرطهما وتعقبه الذهبي فقال: والله ما
لحقه. مات عام خمسين ومئة وأكبر مشيخته ابن جبير. وقال ابن
حجر حديث حسن انتهى. ورواه الطبراني عن الحبر باللفظ
المزبور. قال الهيتمي بإسنادين رجال أحدهما ثقات انتهى.
والحاصل أن بعض أسانيده رجاله ثقات لكن فيه انقطاع
(1/60)
23 - (آية العز) أي القوة والشدة والصلابة
فمنة {فعززنا بثالث} أو الأنفة ومنه {وإذا قيل له اتق الله
أخذته العزة} أو الغلبة والمنعة ومنه {بل الذين كفروا في
عزة} أي ممانعة {أيبتغون عندهم العزة} أي المنعة والمراد
هنا من العلامات الدالة على قوة إيمان الإنسان وشدته في
دين الله ملازمته لتلاوة هذه الآية مع الإذعان لمدلولها
وأنه بذلك يصير قويا شديدا وقيل المراد أن هذه الآية تسمى
أية العز لتضمن قوله فيها {ولم يكن له ولي من الذل} لذلك
أي لم يذل فيحتاج إلى ناصر لأنه العزيز المعز {وقل الحمد
لله} أي الوصف بالجميل لله (الآية) كما ذكره في هذا الكتاب
والظاهر أنه من تصرفه فأتى بلفظ الآية اختصارا أو اتكالا
على حفظ الناس لها فإن الآية بكمالها ثابتة في الحديث كما
يحيط به من سبر الروايات ووقف على الأصول ويشهد لكونه إنما
حمله على حذفها رعاية الإيجاز أنه أتى بها في جامعه الكبير
ولم يذكر لفظ الآية. " فقال وآية العز وقل الحمد لله "
(الذي) قال الحراني اسم مبهم مدلوله ذات موصوفة بوصف يعقب
به وهي الصلة اللازمة (لم يتخذ ولدا) أي لم يسم أحد له
ولدا وأما التولد فمما لا يتصوره عقل ومعنى الحمد لله لعدم
الولد احمدوه حيث برئ من الأولاد فتكون منافعه كلها للعباد
(ولم يكن له شريك) أي مشارك (في الملك) أي الألوهية وهذا
كالرد على اليهود والمشركين (ولم يكن له ولي) ناصر يواليه
(من) أجل (الذل) أي المذلة ليدفعها بمناصرته ومعاونته فلم
يحالف أحدا ولا ابتغى نصرة أحد لأن من احتاج إلى نصرة غيره
فقد ذل له وهو الغالب القاهر فوق عباده وهذا رد على
النصارى والمجوس القائلين لولا أولياء الله لذل فنفى عنه
أن يكون له ما يشاركه من جنسه ومن غير جنسه اختيارا أو
اضطرارا أو ما يعاونه ويقويه ورتب الحمد عليه للدلالة على
أنه الذي يستحق جنس الحمد لأنه الكامل الذات المنفرد
بالإيجاد المنعم على الإطلاق وما عداه ناقص مملوك ولهذا
عطف عليه قوله (وكبره) أي عظمه عن كل ما لا يليق به
(تكبيرا) تعظيما تاما عارفا أو اعرف وصفه بأنه أكبر من أن
يكون له ولد أو شريك أو ولي من الذل. وفيه تنبيه على أن
[ص:62] العبد وإن بالغ في التزيه والتحميد واجتهد في
العبادة والتمجيد ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقه تعالى في
ذلك ولعظمة هذه الآية ختمت بها التوراة كما رواه ابن جرير
وغيره عن كعب قال المؤلف وتسن قراءتها عند النوم وتعليمها
للأهل والعيال لأثر فيه
(حم طب عن معاذ) بضم الميم وفتح المهملة فمعجمة (ابن أنس)
الجهني صحابي سكن مصر روى عنه ابنه سهل أحاديث كثيرة. قال
الحافظ العراقي: وسنده ضعيف: وقال الهيتمي: رواه أحمد
والطبراني من طريقين في أحدهما رشدين بن سعد وهو ضعيف وفي
الأخرى ابن لهيعة وهو أصلح منه وقد رمز المؤلف لحسنه
(1/61)
24 - (آية) وفي رواية الطبراني في الأوسط
من حديث أبي بكر " آيات " وهي مبينة لكون المراد الجنس
(الإيمان) كلام إضافي مرفوع بالابتداء وخبره (حب) بضم
المهملة (الأنصار) أي علامات كمال إيمان الإنسان أو نفس
إيمانه حب مؤمني الأوس والخزرج لحسن وفائهم بما عاهدوا
الله عليه من إيواء نبيه ونصره على أعدائه زمن الضعف
والعسرة وحسن جواره ورسوخ صداقتهم وخلوص مودتهم ولا يلزم
منه ترجيحهم على المهاجرين الذين فارقوا أوطانهم وأهليهم
وحرموا أموالهم حبا له وروما لرضاه كما يعرف مما يجيء
وقوله " آية " بهمزة ممدودة ومثناة تحتية مفتوحة وتاء
تأنيث " والإيمان " مجرور بالإضافة. قال ابن حجر: هذا هو
المعتمد في جميع الروايات وقول الكعبري بهمزة مكسورة ونون
مشددة وهاء والإيمان بالرفع تصحيف فاحش والمحبة لغة ميل
القلب إلى الشيء لتصور كماله فيه لكن ليس المراد بالميل
هنا ما يستلذه بحواسه كحسن الصورة بل الميل لما يستلذه
بعقله إما لإحسانه كجلب نفع ودفع ضر أو لذاته كمحبة الفضل
والكمال. ومن ثم قال القاضي المراد بالحب هنا العقلي وهو
إيثار ما يقتضي العقل رجحانه وإن كان على خلاف هوى النفس
كالمريض يعاف الداء بطبعه فينفر عنه ويميل له بعقله واللام
للعهد أي أنصار الرسول سماهم أنصارا أخذا من قوله تعالى
{والذين آووا ونصروا} فصار علما بالغلبة وهم وإن كانوا
ألوفا لكن استعمل فيهم جمع القلة لأن اللام للعموم
والتفرقة إنما هي في النكرات (وآية النفاق) بالمعنى الخاص
(بغض الأنصار) صرح به مع فهمه مما قبله لاقتضاء المقام
التأكيد ولم يقابل الإيمان بالكفر الذي هو ضده لأن الكلام
فيمن ظاهره الإيمان وباطنه الكفر فميزه عن ذوي الإيمان
الحقيقي فلم يقل آية الكفر لكونه غير كافرا ظاهرا وخص
الأنصار بهذه المنقبة العظمى لما امتازوا به من الفضائل
المارة فكان اختصاصهم بها مظنة الحسد الموجب للبغض فوجب
التحذير من بغضهم والترغيب في حبهم وأبرز ذلك في هذين
التركيبين للحصر لأن المبتدأ والخبر فيهما معرفتان فجعل
ذلك آية الإيمان والنفاق على منهج القصر الادعائي حتى كأنه
لا علامة للإيمان إلا حبهم وليس حبهم إلا علامته ولا علامة
للنفاق إلا بغضهم وليس بغضهم إلا علامته تنويها بعظيم
فضلهم وتنبيها على كريم فعلهم وإن كان من شاركهم في المعنى
مشاركا لهم في الفضل كل بقسطه ثم إنه لا دلالة في الخبر
على أن من لم يحبهم غير مؤمن إذ العلامة - ويعبر عنها
بالخاصة - تطرد ولا تنعكس فلا يلزم من عدم العلامة عدم من
هي له أو المراد الإيمان الكامل أو يحمل البغض على التقييد
بالجهة فبغضهم من جهة كونهم أنصار المصطفى صلى الله عليه
وسلم لا يجامعه التصديق فيكون من أبغضهم منافقا حقيقيا أو
اللفظ خرج مخرج الزجر والتحذير كما يشهد له ما مر من
مقابلة الإيمان بالنفاق دون ضده إرشادا إلى أن المخاطب
بالترغيب والترهيب مظهر الإيمان لا الكفر لارتكابه أقبح من
ذلك. وقول ابن المنير المراد حب جميعهم وبغض جميعهم لأن
ذلك إنما يكون للدين وأما من أبغض بعضهم لمعنى يسوغ البعض
له فغير داخل في ذلك تعقبه المؤلف <تنبيه> قال الذهبي:
أبناء الأنصار ليسوا من الأنصار كما أن أبناء المهاجرين
ليسوا من المهاجرين ولا أولاد الأنبياء بأنبياء ويوضحه
حديث " اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء
الأنصار " قال: وبغض الأنصار من الكبائر
(حم ق) في الإيمان (ن) كلهم (عن أنس) بن مالك
(1/62)
[ص:63] 25 - (آية المنافق) أي علامته
(ثلاث) من الخصال أخبر عن آية بثلاث باعتبار إرادة الجنس
أي كل واحد منها أو لأن مجموع الثلاث هو الآية. قال ابن
حجر: ويرجح الأول رواية أبي عوانة بلفظ علامات المنافق
ثلاث الأولى (إذا حدث كذب) أي أخبر بخلاف الواقع (و)
الثانية (إذا وعد) أحدا بخير في المستقبل (أخلف) أي جعل
الوعد خلافا بأن لا يفي به لكن لو كان عازما على الوفاء
فعرض مانع فلا إثم عليه كما يجيء في خبر أما الشر فيندب
إخلافه بل قد يجب ما لم يترتب على ترك إخلافه مفسدة (و)
الثالثة (إذا ائتمن) بصيغة المجهول أي جعل أمينا وفي رواية
بتشديد التاء بقلب الهمزة الثانية واوا وإبدال تاء
والإدغام (خان) في أمانته أي تصرف فيها على خلاف الشرع
ونقص ما ائتمن عليه ولم يؤده كما هو وصح عطف الوعد على ما
قبله لأن إخلاف الوعد قد يكون بالفعل وهو غير الكذب الذي
هو لازم التحديث فتغايرا أو جعل الوعد حقيقة أخرى خارجة عن
التحديث على وجه الادعاء لزيادة قبحه كما في عطف جبريل على
الملائكة بادعاء بأنه نوع آخر لزيادة شرفه قال:
فإن تفق الأنام وأنت منهم. . . فإن المسك بعض دم الغزال
وخص هذه الثلاث لاشتمالها على المخالفة في القول والفعل
والنية التي هي أصول الديانات فنبه على فساد القول بالكذب
وفساد الفعل بالخيانة وفساد النية بالخلف وليس يتجه عليه
أن يقال هذه الخصال قد توجد في المسلم والإجماع على نفي
نفاقه الذي يصيره في الدرك الأسفل لأن اللام إن كانت للجنس
فهو إما على منهج التشبيه والمراد أن صاحبها شبيه بالمنافق
متخلق بأخلاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه أو الإنذار
والتخويف أو الاعتياد والاضطرار ومصيره ديدنا وخلقا كما
يؤذن به حذف المفعول من حدث لدلالته على العموم فكأنه قال
إذا حدث في كل شيء كذب فيه وإن كانت للعهد فذلك في منافقي
زمن النبي صلى الله عليه وسلم عموما حدثوا بإيمانهم فكذبوا
ووعدوا في نصر الدين فأخلفوا وائتمنوا في المال فخانوا أو
منافق خاص وذلك أن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان لا
يواجه أحدا بما يكره بل يستر فيقول: " ما بال أقوام يفعلون
كذا " ونحو ذلك أو يقال النفاق ضربان شرعي وهو إبطان الكفر
وإظهار الإيمان وعرفي وهو أن يكون سره خلاف علانيته وهو
المراد هنا. قال الكرماني وتبعه ابن حجر. وأحسن الأجوبة
حمله على النفاق العملي (حكى) أن رجلا من البصرة حج فجلس
بمجلس عطاء بن أبي رباح فقال: سمعت الحسن يقول: من كان فيه
ثلاث خصال لم أنحرج أن أقول إنه منافق. فقال له عطاء: إذا
رجعت إليه فقل له: عطاء يقرئك السلام ويقول لك: ما تقول في
أخوة يوسف إذ حدثوا فكذبوا ووعدوا فأخلفوا وائتمنوا فخانوا
أكانوا منافقين؟ ففعل فسر الحسن وقال: جزاه الله خيرا.
وقال لأصحابه: إذا سمعتم مني حديثا فاصنعوا كما صنع أخوكم.
حدثوا به العلماء فما كان صوابا فحسن وإذا كان غير ذلك
فردوه علي. ثم إنه لا منافاة بين قوله: " ثلاث " وقوله في
خبر يجيء: " أربع " بزيادة: " إذا عاهد غدر " فرب شيء واحد
له علامات كل منها تحصل بها صفته شيئا وقد تكون العلامة
واحدا وقد تكون أشياء أو أن الأربع ترجع إلى ثلاثة بإدخال
" إذا عاهد غدر " في " إذا ائتمن خان "
(ق) وكذا أحمد (ت ن) كلهم في باب الإيمان (عن أبي هريرة)
زاد مسلم في روايته عنه عقب ثلاث: " وإن صام وصلى وزعم أنه
مسلم " أي وإن عمل أعمال المسلمين من صوم وصلاة وغيرهما من
العبادات
(1/63)
26 - (آية) بالتنوين (بيننا وبين
المنافقين) نفاقا عمليا وأطلق عليهم اسم النفاق مبالغة في
التهديد على ترك حضور الجماعة (شهود) أي حضور أي ترك حضور
جماعة (العشاء) بكسر العين والمد لغة أول الظلام سميت به
الصلاة لفعلها حينئذ (والصبح) بضم الصاد لغة أول النهار
سميت به الصلاة [ص:64] لمثل ما ذكر ثم وجه ذلك بقوله (لا
يستطيعونهما) أي فإنما نحن نستطيع فعلهما بنشاط وانبساط
فلا كلفة علينا في حضور المسجد لصلاتهما جماعة وأما هم
فثقيلتان عليهم فلا يستطيعون فعلهما بخفة ونشاط كما يوضحه
حديث الشيخين: " أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء
والصبح " وذلك لأن العشاء وقت استراحة والصبح وقت لذة
النوم صيفا وشدة البرد شتاء وأما المتمكنون في إيمانهم
فتطيب لهم هذه المشقات لنيل الدرجات لأن نفوسهم مرتاضة
بأمثالهما متوقعة في مقابلة ذلك ما تستخف لأجله المشاق
وتستلذ بسببه المتاعب لما تعتقده في ذلك من الفوز العظيم
بالنعيم المقيم والخلاص من العذاب الأليم ومن ثم كانت قرة
عين المصطفى صلى الله عليه وسلم في الصلاة ومن طاب له شيء
ورغب فيه حق رغبته احتمل شدته بل تصير لذته ولم يبال بما
يلقى من مؤنته. ومن أحب شيئا حق محبته أحب احتمال محنته
حتى إنه ليجد بتلك المحنة ضروبا من اللذة. ألا ترى جاني
العسل لا يبالي بلسع النحل لما يتذكر من حلاوة العسل؟
والأجير لا يعبأ بارتقاء السلم الطويل مع الحمل الثقيل طول
النهار لما يتذكر من أخذ الأجرة بالعشي؟ والفلاح لا يتكدر
بمقاساة الحر والبرد ومباشرة المشاق والكد طول السنة لما
يتذكر من أوان الغلة فكذا المؤمن المخلص إذا تذكر الجنة في
طيب مقيلها وأنواع نعيمها هان عليه ما يتحمله من مشقة
هاتين الصلاتين وحرص عليهما بخلاف المنافق. وأفاد قوله في
حديث الشيخين: " أثقل " أن الصلوات كلها ثقيلة على
المنافقين قال تعالى: {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى}
وأن بعضها أثقل من بعض. واعلم أن المنافق يصلي: لكن من حيث
العادة لا القيام بالعبادة فهو لما أضمره في نفسه من كراهة
الصلاة لا يرائي بها بل يصليها في بيته <تنبيه> قال بعض
العارفين لزوم الصبح في جماعة يسهل أسباب الدنيا الصعبة
والعصر والعشاء فيها يورث الزهد ويقمع النفس عن الشهوات
ويصحح الاعتقاد مع ما فيه من سلوك الأدب مع الله حال قسمته
أرزاق العباد فإنهم تقسم أرزاقهم المحسوسة بعد الصبح
والمعنوية بعد العصر والعشاء
(ص) وكذا البيهقي في الشعب (عن) أبي محمد (سعيد بن المسيب
مرسلا) بفتح المثناة تحت ويجوز كسرها كما في الديباج
والأول أشهر وهو رأس التابعين ورئيسهم وعالمهم وفردهم
وفقيههم. قال مكحول: طفت الأرض فما لقيت أعلم منه وقد
أفردت مناقبه بالتأليف وهذا الحديث إسناده صحيح
(1/63)
27 - (آيتان) تثنية آية وهو مبتدأ والخبر
قوله (هما قرآن) أي من القرآن (وهما يشفيان) المؤمن من
الأمراض الجسمانية والنفسانية بمعنى أن قراءتهما على
المريض بإخلاص وهمة صادقة وقوة يقين تزيل مرضه أو تخففه.
قال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء} (وهما مما يحبهما
الله) القياس وهما مما يحبه الله ولعل التثنية من بعض
الرواة وهما (الآيتان) فهو خبر مبتدأ محذوف ويجوز جعله
بدلا مما قبله (من آخر) سورة (البقرة) ومن بيانية أو
للتأكيد ولجلالتهما ومحبته لهما أنزلهما من كنز تحت العرش.
وروى ابن الضريس وغيره عن ابن المنكدر مرفوعا أنهما " قرآن
ودعاء ويدخلن الجنة ويرضين الرحمن " وسميت البقرة لأن
مقصودها إقامة الدليل على أن الكتاب هدى وأعظم ما يهدي
إليه الإيمان بالغيب ويجمعه الأيمان بالآخرة ومداره على
الإيمان بالبعث الذي أعربت عنه قصة البقرة فسميت بها وكانت
بذلك أحرى من قصة إبراهيم لأنها في نوع البشر وما تقدمها
في قصة بني إسرائيل من الإحياء بعد الإماتة بالصعق لأن
الإحياء في قصة البقرة عن سبب ضعيف في الظاهر وقد ورد في
فضل الآيتين نصوص كثيرة وفيه رد على من كره أن يقال البقرة
أو سورة البقرة بل السورة التي تذكر فيها البقرة. وقول ابن
الكمال لا حجة فيه لأن ما يكره من الأمة قد لا يكره من
النبي صلى الله عليه وسلم غير سديد لأنا مأمورون بالإقتداء
به في أقواله وأفعاله حتى يقوم دليل التخصيص
(فر عن أبي هريرة) وفيه محمد بن إبراهيم بن جعفر الجرجاني
فإن كان البردى فصدوق أو الكيال فوضاع كما في الميزان
(1/64)
[ص:65] 28 - (ائت) يا إنسان فهو خطاب عام
من باب قوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته. . . وإن أنت أكرمت اللئيم
تمردا
فهذا وأمثاله خطاب لجميع الأمة بحيث لا يختص به أحد دون
أحد وقس عليه نظائره (المعروف) أي افعله (واجتنب المنكر)
لا تقربه. قال القاضي: والمعروف ما عرفه الشرع أو العقل
بالحسن والمنكر ما أنكره أحدهما لقبحه عنده. قال الراغب:
والإتيان يقال للمجيء بالذات وبالأمر وبالتدبير وفي الخير
وفي الشر وفي الأعيان والأعراض ومنه: {إنه كان وعده مأتيا}
وقولهم ائت المروءة من بابها (وانظر) أي تأمل يا إنسان (ما
يعجب أذنك) أي الشيء الذي يسرك سماعه ويعظم في قلبك وقعه
من أعجب بكذا إذا سره. فإن قلت هلا اقتصر على قوله " يعجبك
" وما فائدة ذكر الأذن والنفس هي المعجبة لا الأذن؟ قلت:
لما كان الاستحسان مقترنا بالسماع أسند إليه لأن إسناد
الفعل إلى الخارجة التي يعمل بها أبلغ. ألا تراك تقول: إذا
أردت التوكيد هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني وعرفه قلبي.
قال الراغب: والأذن الجارحة المعروفة وتستعار لمن أكثر
استماعه وقبوله لمن يسمع نحو: {ويقولون هو أذن} (أن يقول
لك القوم) أي فيك وعبر عنه بذلك نظرا إلى أنه إذا بلغه
فكأنه خوطب به وهذا بيان لما أو بدل منه (إذا أقمت من
عندهم) أي فارقتهم أو فارقوك يعني انظر إلى ما يسرك أن
يقال عنك وفيك من ثناء حسن وفعل جميل ذكروك به حال غيبتك
(فأته) أي افعله والزمه. قال في الكشاف: والقوم مؤنثة
وتصغيرها قويمة (وانظر الذي) أي وتأمل الشيء الذي (تكره أن
يقول لك القوم) أي فيك (إذا قمت من عندهم) من وصف ذميم
كظلم وشح وسوء خلق (فاجتنبه) لقبحه ونبه بذلك على ما
يستلزمه من كف الأذى والمكروه عن الناس وأنه كما يحب أن
ينتصف من حقه ومظلمته ينبغي له إذا كانت لأخيه عنده مظلمة
أن يبادر لانتصافه من نفسه وإن كانت عليه فيها صعوبة ومن
ثم قيل للأحنف: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من نفسي كنت إذا
كرهت شيئا من غيري لا أفعل مثله بأحد ومصداقه في كلام الله
القديم ففي الإنجيل: كلما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوه
أنتم بهم هذا هو الناموس الذي أنزل على عيسى. وأخرج
البيهقي عن الحسن أن موسى سأل ربه جماعا من الخير فقال:
اصحب الناس بما تحب أن تصحب به. وأخرج عن ابن مسعود من أحب
أن ينصف الناس من نفسه فليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى
إليه. وقال الأحنف: من أسرع الناس بما يكرهون قالوا فيه ما
لا يعلمون. وقال الحكماء: من قل توقيه كثرت مساويه.
والحاصل أن المنهج القويم الموصل إلى الصراط المستقيم
والثناء العظيم أن يستعمل الإنسان فكره وقريحته فيما تنتج
عنه الأخلاق المحمودة منه ومن غيره ويأخذ نفسه بما حسن
منها واستملح ويصرفها عمن استهجن واستقبح فقد قيل كفاك
تهذيبا وتأديبا لنفسك وترك ما كرهه الناس منك ومن غيرك.
قيل لروح الله عيسى: من أدبك. قال: ما أدبني أحد رأيت جهل
الجاهل فتجنبته. وقال الشاعر:
إذا أعجبتك خلال امرئ. . . فكنه تكن مثل من يعجبك
وليس على المجد والمكرما. . . ت إذا جئتها حاجب يحجبك
وقالوا: من نظر في عيوب الناس فأنكرها ثم رضيها لنفسه فذاك
الأحمق حقا وقال الشاعر:
لا تلم المرء على فعله. . . وأنت منسوب إلى مثله
من ذم شيئا وأتى مثله. . . فإنما دل على جهله
(خد وابن سعيد) في طبقاته (و) أبو القاسم (البغوي) نسبة
إلى قصبة بن مرو وهراة يقال لها بغ وبعثور (في معجمه) أي
معجم الصحابة (و) أبو منصور (الباوردي) بفتح الموحدة وآخره
دال مهملة نسبة إلى بلد بنواحي خراسان يقال لها أيبورد
وخرج منها جماعة من الفضلاء والمحدثين منهم هذا (في
المعرفة) أي كتاب معرفة الصحابة (هب عن حرملة) بفتح
المهملة وسكون الراء وفتح الميم (ابن عبد الله بن أوس)
بفتح الهمزة وسكون الواو وربما نسب إلى جده [ص:66] فظن أنه
غيره وليس كذلك كما نبه ابن حجر كغيره وهو التميمي العنبري
الصحابي كان من أهل الصفة ونزل البصرة. قال: " قلت يا رسول
الله ما تأمرني به أعمل؟ فقال: ائت " إلى آخره وكرر ذلك
فكرر وكان من العباد قال البغوي كان له مقام قد غاصت فيه
قدماه لطول المقام (وماله) أي لحرملة (غيره) أي لم يرو غير
هذا الحديث يعني لا تعرف له رواية غيره ولو عبر بذلك كان
أولى على أن ظاهر كلام ابن حجر خلاف ذلك وفيه عبد الله بن
رجاء أورده الذهبي في ذيل الضعفاء. وقال: قال الفلاس كثير
الغلط والتصحيف ليس بحجة. وقال أبو حاتم ثقة انتهى لكن
كلام الحافظ ابن حجر مصرح بحسن الحديث فإنه قال: حديثه
يعني حرملة في الأدب المفرد للبخاري ومسند الطيالسي
وغيرهما بإسناد حسن وما جرى عليه المؤلف من أن اسم جده أوس
ومن تبع فيه ابن منده وأبا نعيم لكن قال ابن عبد البر
وغيره إنما هو إياس وقضية كلام ابن حجر ترجيحه فإنه جزم به
ابن إياس أولا ثم قال وقيل ابن أوس
(1/65)
29 - (ائت حرثك) أي محل الحرث من حليلتك
وهو قبلها إذ هو لك بمنزلة أرض تزرع قال الزمخشري: شبهن
بالمحارث لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل
وقوله {فأتوا حرثكم} معناه ائتوهن كما تأتون أراضيكم التي
تريدون حرثها؟ قال: ومن المجاز كيف حرثك؟ أي امرأتك قال:
إذا أكل الجراد حروث قوم. . . فحرثي همه أكل الجراد (أنى
شئت) أي كيف ومتى وحيث شئت ومن أي جهة شئت لا يخطر عليك
جهة دون جهة عمم جميع الكيفيات الموصلة إليه إيماء إلى
تحريم مجاورة ما سوى محل البذر لما فيه من العبث بعدم
المنفعة فوسع الأمر إزاحة للعلة في إتيان المحل المنهي
عنه. وهذا من الكنايات اللطيفة والتعريضات البديعة قال
الطيبي: وذلك أنه يبيح لهم أن يأتوهن من أي جهة شاؤا
كالأراضي المملوكة وبذلك عرف سر تعبيره بأنى المفيدة
لتعميم الأحوال والأمكنة والأزمنة. وما ذكر من أن الدبر
حرام هو ما استقر عليه الحال وعليه الإجماع الآن في
الجملة. وذهب شرذمة من السلف إلى حله تمسكا بأن هذا الحديث
وما أشبهه من أحاديث باب ورد على سبب وهو كما في معجم
الطبراني عن ابن عمر أن رجلا أصاب امرأته في دبرها فأنكر
ذلك الناس فأنزل الله {نساؤكم حرث لكم} الآية. قال
الهيثمي: فيه يعقوب بن حميد وثقه ابن حبان وضعفه غيره
وبقية رجاله ثقات ثم هذا عام مخصوص بغير حال نحو حيض وصوم
وإحرام (وأطعمها) بفتح الهمزة أي الزوجة المعلومة من مرجع
الضمير المعبر عنه بالحرث (إذا طعمت) بتاء الخطاب وكذا
قوله (واكسها) بوصل الهمزة وسكون الكاف وضم المهملة وكسرها
(إذا اكتسيت) قال القاضي وبتاء التأنيث فيهما غلط. والكسوة
بالكسر اللباس والضم لغة يقال كسوته إذا ألبسته ثوبا. قال
الحراني الكسوة رياش الآدمي الذي يستر ما ينبغي ستره من
ذكر وأنثى وعبر " بإذا طعمت " إشارة إلى أنه يبدأ بنفسه
للخبر الآتي: " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " وفيه وجوب نفقة
الزوجة وكسوتها وهو إجماع والواجب في النفقة عند الشافعي
مدان على الموسر ومد ونصف على المتوسط ومد على المعسر حبا
سليما من غالب قوت بلدها مع الأدم من غالب أدم البلد وفي
الكسوة قميص وسروال وإزار وخمار ونعل ويزاد في الشتاء جبة
أو أكثر بحسب الحاجة ومحل بسطه كتب الفقه وفيه ندب مؤاكلة
الزوجة خلافا لما يفعله الأعاجم ترفعا وتكبرا وإنه إن أكل
بحضرتها بعد دفع الواجب لها ينبغي أن يطعمها مما يأكل جبرا
وإيناسا (ولا تقبح) بفوقية مضمومة وقاف مفتوحة وموحدة
مشددة (الوجه) أي لا تقل إنه قبيح. ذكره الزمخشري: وقال
القاضي: عبر بالوجه عن الذات فالنهي عن الأقوال والأفعال
القبيحة في الوجه وغيره من ذاتها وصفاتها فشمل نحو لعن
وشتم وهجر وسوء عشرة وغير ذلك (ولا تضرب) ضربا مبرحا مطلقا
ولا غير مبرح لغير نشوز. وقال الحراني: وفيه إشارة بما
يجري في أثناء ذلك من الأحكام التي لا تصل إليها أحكام
حكام الأنام مما لا يقع الفصل فيه إلا يوم القيام من حيث
إن ما يجري بين الزوجين سر لا يفشى وفي إشعاره إبقاء
للمروءة في الوصية بالزوجة بحيث لا يحتكم الزوجان عند حاكم
في الدنيا وفيه تهديد على ما يقع في البواطن من المضارة
والمضاجرة بين الزوجين في أمور لا تأخذها الأحكام ولا يصل
[ص:67] إلى علمها الحكام وفيه أنه يحرم ضرب الزوجة إلا
النشوز فإذا تحققه فله ضربها ضربا غير مبرح ولا مدم فإن لم
تنزجر به حرم المبرح وغيره وترك الضرب مطلقا أولى. وقضية
صنيع المؤلف أن مخرجه أبا داود رواه هكذا من غير زيادة ولا
نقص ولا كذلك بل لفظه: " قال - أي معاوية بن حيدة - نساؤنا
ما نأتي منها وما نذر؟ قال: هي حرثك فأت حرثك أنى شئت غير
أن لا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في المبيت وأطعمها
إذا طعمت واكسها إذا اكتسيت كيف وقد أفضى بعضكم إلى بعض
إلا بما حل عليها " أي جاز وفيه حسن الأدب في السؤال
والتعظيم بالكناية عما يستحيا من ذكره صريحا والسعي فيما
يديم العشرة ويطيب النفس
(د عن) أبي عبد الملك (بهز) بفتح الموحدة وسكون الهاء وزاي
معجمة (ابن حكيم) بفتح المهملة وكسر الكاف ابن معاوية (عن
أبيه عن جده) معاوية بن حيدة الصحابي القشيري من أهل
البصرة: " قال قلنا يا رسول الله نساؤنا ما نأتي منها وما
نذر؟ فذكره وبهمز أورده الذهبي في الضعفاء وقال صدوق فيه
لين وفي اللسان ضعيف وحكيم قال في التقريب صدوق وسئل ابن
معين عن بهز عن أبيه عن جده فقال: إسناد صحيح إذا كان من
دون بهز ثقة ولذلك رمز المصنف لحسنه
(1/66)
30 - (ائتوا) أمر من الإتيان وزعم ابن
الأثير أنه " ابنوا " من البناء ومعناه ابنوا المساجد
مكشوفة الجدر - وهم. قال المؤلف: ولعله تصحيف عليه
(المساجد) جمع مسجد قال في المصباح وهو بيت الصلاة حال
كونكم (حسرا) بمهملات بوزن سكر جمع حاسر أي كاشف يعني بغير
عمائم. قال الراغب: والحسر كشف البدن مما عليه. وقال
الزمخشري: حسر عمامته عن رأسه كشف وحسر كمه عن ذراعيه وكل
شيء كشف فقد حسر وامرأة حسنة المحاسر ورجل حاسر مكشوف
الرأس (ومعصبين) أي ساترين رؤسكم بالعصابة أي بالعمامة وهو
بضم الميم وفتح العين وكسر الصاد مشددة. قال الزمخشري:
المعصب المتوج ويقال للتاج والعمامة عصابة: يعني ائتوا
المساجد كيف أمكن بنحو قلنسوة فقط أو بتعمم وتقنع ولا
تتخلفوا عن الجمعة التي هي فرض عين ولا الجماعة التي هي
فرض كفاية والتعمم عند الإمكان أفضل (فإن العمائم) جمع
عمامة بكسر العين سميت به لأنها تعم جميع الرأس بالتغطية
(تيجان المسلمين) مجاز على التشبيه أي كتيجان الملوك وفي
رواية: " من سيما المسلمين " أي علامتهم كما أن التاج سيما
الملوك. وما اقتضاه الحديث من كون فقد العمامة غير عذر في
ترك الجمعة والجماعة محله فيمن يليق به ذلك أما لو كان
خروجه إلى المسجد بدون العمامة لا يليق به فلا يؤمر
بالإتيان حاسرا عند فقدها. " والتاج " الإكليل تجعله ملوك
العجم على رؤسها مرصعا بجوهر كالعمامة للعرب. قال
الزمخشري: تقول ملك متوج وتوجوه فتتوج وفي صفة العرب
العمائم تيجانها والسيوف سيجانها
(عد) من رواية ميسرة بن عبيد عن الحكم بن عيينة عن ابن أبي
يعلى (عن علي) أمير المؤمنين قال جدنا الأعلى من قبل الأم
الزين العراقي في شرح الترمذي وميسرة بن عبيد متروك ومن ثم
رمز المؤلف لضعفه لكن يشهد له ما رواه ابن عساكر بلفظ: "
ائتوا المساجد حسرا ومقنعين فإن ذلك من سيما المسلمين "
(1/67)
31 - (ائتوا) وجوبا (الدعوة) بالفتح وتضم
على ما في القاموس لكن نوزع بتغليطهم لقطرب وتغلب في
دعواهما جوازه كما حكاه النووي وغيره. قال: ودعوة النسب
بكسر الدال وعكس بنو تيم الرباب ففتحوا دال دعوة النسب
وكسروا دال دعوة الطعام انتهى. وما نسبه لتيم الرباب نسبه
صاحب الصحاح والمحكم لبني عدي الرباب والمراد بها هنا
وليمة العرس لأنها المعهودة عندهم عند الإطلاق (إذا دعيتم
إليها) وتوفرت شروط الإجابة وهي عند الشافعية نحو عشرين
وخص الإتيان بالأمر ليفيد عدم وجوب الأكل أما وليمة غير
العرس من الولائم العشرة المشهورة فإتيانها عند الدعاء
إليها [ص:68] مندوب حيث لا عذر. قال بعض حكماء الإسلام:
وإنما شرعت الإجابة لأن أصل الدعوة ابتغاء الألفة والمودة
ففي النفس هنات وفي الصدر منها سخائم والآدمي مركب على
طبائع شتى والنفوس جبلت على حب من أكرمها لحبها للشهوات
وأعظمها حب التعظيم وقضاء المنى ففي بر النفوس تقويمها
وذلك عون لها على دينها فحث النبي الإجابة لتتأكد الألفة
وتصفوا المودة وينتفي وغر الصدر. وفي ترك الإجابة مفاسد لا
تكاد تحصى
(م عن ابن عمر) بن الخطاب
(1/67)
32 - (ائتدموا بالزيت) إرشادا وندبا أي
كلوا الخبز (بالزيت) المعتصر من الزيتون والباء للإلصاق أو
الاستعانة أو المصاحبة والإدام بالكسر والأدم بضم فسكون ما
يؤتدم به قال الزمخشري: أدم الطعام إصلاحه بالأدم وجعله
موافقا للطاعم. وقال المطرزي: مدار التركيب على الموافقة
والملائمة وهو يعم المائع وغيره (وادهنوا به) أي اطلوا به
بدنكم بشرا وشعرا. قال في الصحاح وغيره: ادهن على وزن
افتعل تطلي بالدهن (فإنه يخرج) أي يتفصل ويظهر والخروج في
الأصل الانفصال من المحيط إلى الخارج ويلزمه الظهور
والمراد هنا أنه يعصر (من شجرة) أي من ثمرة شجرة (مباركة)
لكثرة ما فيها من القوى النافعة أو لأنها لا تكاد تنبت إلا
في شريف البقاع التي بورك فيها ويلزم من بركتها بركة ما
يخرج منها والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء ولما كان
الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس ولا يدرك قيل لكل ما
يشاهد فيه زيادة هو مبارك وفيه بركة. ذكره الراغب قال
الغزالي: والزيت يختص من سائر الادهان بخاصية زيادة
الإشراق مع قلة الدخان. واعلم أن المخصوص المخاطب بهذا
الحديث أهل قطر مخصوص وهو الحجاز ونحوه. قال ابن القيم:
الدهن في البلاد الحارة الحجاز من أسباب حفظ الصحة وإصلاح
البدن وهو كالضروري لهم وأما بالبلاد الباردة فضار وكثرة
دهن الرأس به فيه خطر بالبصر. وأنفع الأدهان البسيطة الزيت
فالسمن فالشيريج. قال: والزيت رطب حار في الأولى وغلط من
قال يابس انتهى. وكلا الإطلاقين غلط وإنما هو بحسب زيتونه
فالمعتصر من نضيج أسود حار رطب باعتدال وهو أعدله وأجدوه
ومن فج خام بارد يابس ومن زيتون أحمر متوسط والزيت ينفع من
السم ويطلق البطن وعتيقه أشد إسخانا وتحليلا والمستخرج
بالماء أبلغ نقعا وهذا أنموذج من منافعه التي لا تكاد تحصى
والشجر لغة ما بقي أصله بالأرض ويخلف إذا قطع وعرفا ماله
ساق
(هـ ك) وقال على شرطهما وأقره الذهبي (هب) وكذا الدارقطني
في الأفراد وأبو يعلى وعبد بن حميد كلهم من حديث معمر عن
زيد بن أسلم عن أبيه (عن عمر) بن الخطاب ورواه الترمذي
باللفظ المذكور عن عمر في العلل وذكر أنه سأل عنه البخاري
فقال: هو حديث مرسل. قال: قلت له رواه أحمد عن زيد بن أسلم
عن عمر؟ قال: لا أعلمه
(1/68)
33 - (ائتدموا) أي أصلحوا الخبز بالإدام
فإن أكل الخبز بدون إدام وعكسه قد يورث أمراضا يعسر
استخراجها فينبغي الائتدام (ولو) كنتم إنما تأتدمون
(بالماء) القراح بأن تثردوا الخبز فكأنه خشي توهم خروج
الماء عما يؤتدم به فأكد دخوله فيه بلو المدخلة لما بعدها
فيما قبلها وذلك لأنه مادة الحياة وسيد الشراب وأحد أركان
العالم بل ركنه الأصلي فإن السماوات السبع خلقت من بخاره
والأرض من زبده وظاهر الحديث أن الماء يتغذى به البدن وهو
ما عليه جمع من الأطباء بناء على ما يشاهد من النمو
والزيادة والقوة في البدن سيما عند شدة الحاجة له وأنكر
قوم منهم حصول التغذية واحتجوا بأمور يرجع حاصلها إلى عدم
الاكتفاء به وأنه لا يزيد في نمو الأعضاء ولا يخلف عليها
ما حللته الحرارة وغير ذلك. وعليه فالمراد بالغاية
المبالغة " والماء " جوهر سيال يضاد النار برطويته وبرده
وعرفه إشارة إلى حصول المقصود بأي نوع كان منه. هبه نزل من
السماء أو حدث في الأرض بطريق الانقلاب من الهواء أو غيره
وهو شفاف لا لون له على القول المنصور لا يقال: نحن نراه
أو نشاهده فلا يكون شفافا لأنا نقول ذاك لتركبه من أجزاء
[ص:69] أرضية ومن ثم لو بولغ في تصفيته وتقطيره في أواني
صلبة ضيقة صار لا يكاد يرى. ذكره الشريف في حواشي التجريد
وغيرها وعرفه بعضهم أيضا بأنه جسم لطيف يبرد غلة العطش به
حياة كل نار. قال الحراني: وهو أول ظاهر للعين من أشباح
الخلق. قال الزمخشري: وعينه واو ولامه هاء ولذلك صغر وكسر
بمويهة وقد جاء أمواه. قال: ومن المجاز ما أحسن موهة وجهه
أي ماءه ورونقه ورجل ماه القلب كثير ماء القلب أحمق
(طس) وكذا أبو نعيم والخطيب وتمام (عن ابن عمرو) بن العاص.
قال الهيتمي: وفيه عريك ين سنان لم أعرفه وبقية رجاله ثقات
وقال ابن الجوزي: حديث لا يصح فيه مجهول وآخر ضعيف
(1/68)
34 - (ائتدموا من) عصارة (هذه الشجرة) شجرة
الزيتونة لما تقرر من عموم منافعها وقوله (يعني الزيت)
مدرج من بعض رواته بيانا لما وقعت الإشارة عليه. قال ابن
العربي وللشجر قسمان طيب ومبارك فالطيب النخلة والمبارك
الزيتون ومن بركة شجر الزيتون إنارتها بدهنها وهي تكشف به
الأسرار للأبصار وتقلب البواطن ظواهر ولذلك ضربه الله مثلا
(ومن عرض عليه) أن أظهر وقدم إليه يقال عرضته أي أظهرته
وبرزته لع ليأخذه وعرضت المتاع للبيع أظهرته لذوي الرغبة
ليشتروه (طيب) بكسر فسكون أي شيء من طيب كمسك وعنبر وغالية
أي قدم إليه في نحو ضيافة أو وليمة أو هدية فلا يرده كما
يأتي في خبر وإذا قبله (فليصب) أي فليتطيب يقال أصاب بغيته
نالها وصاب السهم نحو الرمية وأصاب من امرأته كناية عن
استمتاعه بها (منه) ندبا فإن المنة فيه قليلة وهو غذاء
الروح التي هي مطية القوى والقوى تتضاعف وتزيد به كما تزيد
بالغذاء والسرور ومعاشرة الأحبة وحدوث الأمور المحبوبة
وغيبة من تسر غيبته ويثقل على الروح مشهده ولهذا كان من
أحب الأشياء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وله تأثير
كبير في حفظ الصحة ودفع كثير من الأسقام وأسبابها بسبب قوة
الطبيعة. وقد تتبع بعضهم ما ينبغي قبوله لخفة المنة فيه
فبلغ سبعة ونظمها في قوله:
عن المصطفى سبع يسن قبولها. . . إذا ما بها قد أنحف المرء
خلان
دهان وحلوى ثم در وسادة. . . وآلة تنظيف وطيب وريحان
(طس عن ابن عباس) قال الحافظ العراقي في شرح الترمذي وتبعه
الهيتمي: فيه النضر بن طاهر وهو ضعيف. وبه يعرف ما في قول
المؤلف في الكبير حسن
(1/69)
35 - (ائتزروا) أي البسوا الإزار كخمار
يذكر ويؤنث من الأزر وهو الشدة لأن المؤتزر يشد به وسطه
وأصله إئتزر افتعل بهمزتين الأولى للوصل والثانية فاء
افتعل. قال في الفائق: واتزر عامي حرفه بعض الرواة وتأزير
الحائط أن تصلح أسفله فتجعل له ذلك كالإزار (كما رأيت) أي
أبصرت وشاهدت (الملائكة) ليلة الإسراء أو غيرها فرأى بصرية
ولا يتعين جعلها علمية (تأتزر عند) مثلث العين (ربها) أي
عند عرشه قالوا يا رسول الله كيف رأيتها تأتزر؟ قال: (إلى
أنصاف) جمع نصف (سوقها) بضم فسكون جمع ساق. قال في
المصباح: والساق من الأعضاء أنثى وهو ما بين الركبة
والقدم. فإن قلت: ما سر اقتصاره على بيان محل انتهاء
الإزار من أسفل وعدم تعرضه لمبدئه من أعلى؟ قلت: من
المعروف أن معقد الإزار هو الوسط بإزاء السرة. والغرض
المسوق له الحديث بيان أن إسبال الإزار منهي عنه وأنه ليس
من شأن الملأ الأعلى وأن المطلوب المحبوب تقصيره معتدلا
بحيث يكون سابغا سبوغا لا إسبال فيه وذلك بأن يكون إلى نصف
الساق والملائكة جمع ملك تخفيف ملاك والتاء لتأنيث الجمع
من الألوكة بمعنى الرسالة. وقول الراغب: الملائكة يقع على
الواحد والجمع فيه تأمل غلبت على الجواهر العلوية
النورانية المبرأة عن الكدورات البشرية الجسمانية التي هي
وسائط بين الله تعالى والبشر فإن قلت: إذا كانت الملائكة
نورانية فكيف وصفها بأن لها سوقا؟ قلت: لا مانع من تشكل
النور كالإنسان في بعض [ص:70] الأحيان فهذا الشكل المخصوص
مثال تمثل به الملك له وإن كانت له صورة حقيقية مشتملة على
أجنحة وغيرها والملائكة والجن ترى بصور مختلفة كما بينه
الغزالي قال: والملائكة تنكشف لأرباب القلوب تارة بطريق
التمثل والمحاكاة وتارة بطريق الحقيقة والأكثر هو التمثيل
بصورة محاكية للمعنى هو مثال المعنى لا عين المعنى إلا أنه
يشاهد بالعين مشاهدة محققة وينفرد بمشاهدته المكاشف دون من
حوله كالنائم ولا تدرك حقيقة صورة الملك بالمشاهدة إلا
بأنوار النبوة انتهى. وبه يعلم أن تمثلهم له بهيئة
الائتزار إرشاد له إلى الدوام عليه وأمر أمته به وإلا
فالملك لا عورة له يطلب سترها بالإزار. قال التفتاراني:
والملائكة لا ذكور ولا إناث وقال بعض شراح الشفاء: إطلاق
الأنوثة عليهم كفر بخلاف الذكورة وفي تذكرة ابن عبد الهادي
عن يحيى بن أبي كثير أنهم صمد لا أجواف لهم. ومقصود الحديث
النهي عن إرسال الإزار
(فر) من حديث عمران القطان عن المثنى بن صباح (عن عمرو بن
شعيب) بن محمد بن عبد الله ابن عمرو السهمي قال يحيى
القطان: إذا روى عن عمرو ثقة فهو حجة. وقال أحمد: ربما
احتججنا به مات سنة ثمان عشر ومئة بالطائف (عن أبيه) شعيب
قال الذهبي: سماعه عن أبيه متيقن (عن جده) عبد الله بن
عمرو بن العاص أحد العبادلة الأربعة أسلم قبل أبيه وكان من
علماء الصحابة العباد مات بالطائف أو بمصر سنة خمس وستين
ثم إن عمران القطان أورده الذهبي في الضعفاء وقال ضعفه
يحيى والنسائي والمثنى ضعفه ابن معين وقال النسائي: متروك
وقال الزين العراقي في شرح الترمذي: فيه المثنى بن الصباح
ضعيف عند الجمهور وقال ابن حجر في زهر الفردوس المثنى ضعيف
وكرره والحديث رواه الطبراني في الأوسط باللفظ المذكور عن
صحابيه المزبور قال الهيتمي عقبه وفيه المثنى بن الصباح
ويحيى بن يشكر ضعيفان وعنه ومن طريقه خرجه الديلمي فلو
عزاه المؤلف إليه كان أولى
(1/69)
36 - (إئذنوا) بكسر الهمزة الأولى وسكون
الثانية من الأذن وهو لغة الإعلام وشرعا فك الحجر وإطلاق
التصرف في شيء لمن كان ممنوعا منه شرعا (للنساء) اللاتي لا
يخاف عليهن ولا منهن فتنة أو ريبة (أن يصلين بالليل في
المسجد) لامه للجنس والأمر للندب إذ لو كان للوجوب لكان
الخطاب لهن كما في نحو: " وأقمن الصلاة " ولانتفى معنى
الاستئذان ولما قال في الرواية الأخرى " وبيوتهن خير لهن "
قال ابن جرير: وإذا شرع الآذن لها فيما يندب شهوده كجماعة
ففيما هو فرض كأداة شهادة وتعلم ديني أو مندوب مؤكد كشهود
جنازة أحد أبويها أولى قال الراغب والآذن يعبر به عن العلم
لأنه مبدأ كثير من العلم فتناول الآذن في الشيء إعلام
بإجازته والرخصة فيه لكن بين الآذن والعلم فرق فإن الآذن
أخص ولا يكاد يستعمل إلا فيما فيه مشتبه ضامه أمر أم لا
(الطيالسي) أبو داود وهو بفتح الطاء ومثناه تحت وكسر اللام
نسبة إلى الطيالسة التي تجعل على العمائم كذا قاله
السمعاني واسمه سليمان بن داود ابن الجارود أصله من فارس
وسكن بالبصرة ثقة حافظ غلط في أحاديث (عن ابن عمر) بن
الخطاب رمز لحسنه وفيه إبراهيم بن مهاجر فإن كان البجلي
الكوفي فقد أورده الذهبي في الضعفاء أو المدني فقد ضعفه
النسائي أو الأزدي الكوفي فقد تركه الدارقطني
(1/70)
37 - (إئذنوا للنساء) أن يذهبن (بالليل إلى
المساجد) عام في كلهن وعلم منه ومما قبله بمفهوم الموافقة
على أنهم يأذنون لهن نهارا أيضا لأنه أذن لهن ليلا مع أن
الليل مظنة الفتنة فالنهار أولى فلذلك قدم مفهوم الموافقة
مفهوم المخالفة إذ شرط اعتباره أن لا يعارضه مفهوم
الموافقة على أن مفهوم الموافقة إذا كان للقب لا لنحو صفة
لا اعتبار به أصلا كما قاله الكرماني كغيره ولهذا قال بعض
أكابر الشافعية الليل هنا لقب لا مفهوم له وعكس بعض
الحنفية فوقف مع التقييد بالليل محتجا بأن الفساق فيه في
شغل بنومهم أو فسقهم وينتشرون نهارا ورده ابن حجر بأن مظنة
الريبة في الليل أشد وليس لكلهم فيه ما يشغلهم وأما النهار
فيفضحهم غالبا ويصدهم عن التعرض لهن ظاهرا لكثرة [ص:71]
انتشار الناس وخوف إنكارهم عليهم ثم هذا الأمر الندبي إنما
هو باعتبار ما كان في الصدر الأول من عدم المفسدة ببركة
وجود حضرة النبوة ومنصب الرسالة كما يفيده وخبر الشيخين عن
عائشة: " لو أدرك النبي ما أحدث النساء بعده لمنعنهن
الخروج إلى المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل " أما الآن
فالإذن لهن مشروط بأمن الفتنة بهن أو عليهن أن تكون عجوزا
غير متطيبة في ثياب بذلة وفيه منع خروج المرأة إلا بإذن
حليل لتوجه الأمر إلى الزوج بالإذن ذكره النووي ونازعه ابن
دقيق العيد بأنه إذا أخذ من المفهوم فهو مفهوم لقب وهو
ضعيف لكن يقويه أن منع الرجال نساءهم أمر مقرر معروف
(حم م د ت عن ابن عمر) بن الخطاب ظاهره أن هذا مما انفرد
به مسلم عن صاحبه والأمر بخلافه. وقد قال العراقي في
المعنى: متفق عليه من حديث ابن عمر باللفظ المذكور
(1/70)
38 - (أبى الله) أي لم يرد. قال في الكشاف
في قوله تعالى {ويأبى الله إلا أن يتم نوره} أجرى أبى مجرى
لم يرد ألا ترى كيف قوبل: {يريدون أن يطفئوا} بقوله {ويأبى
الله} وأوقعه موقع لم يرد. وقال الراغب: الإباء شدة
الامتناع فكل إباء امتناع ولا عكس والأول هو المناسب هنا
(أن يجعل) قال الحراني من الجعل وهو إظهار أمر عن سبب
وتصيير. وقال الراغب: جعل لفظ عام في الأفعال كلها وهو أعم
من فعل وصنع وسائر أخواتها (لقاتل المؤمن) بغير حق (توبة)
إن استحل وإلا فهو زجر وتخويف أما كافر غير ذمي فيحل بل
يجب قتله ومذهب أهل السنة أنه لا يموت أحد إلا بأجله وأن
القانل لا يكفر ولا يخلد في النار وإن مات مصرا وأن له
توبة. والقتل ظلما أكبر الكبائر بعد الكفر وبالقود أو
العفو لا تبقى مطالبة أخروية ومن أطلق بقاءها أراد بقاء حق
الله إذ لا يسقط إلا بتوبة صحيحة والتمكين من القود لا
يؤثر إلا إن صحبه ندم من حيث الفعل وعزم أن لا يعود
(طب والضياء) الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد
المقدسي (في) كتاب الأحاديث (المختارة) مما ليس في
الصحيحين (عن أنس) قال في الفردوس صحيح ورواه جمع عن عقبة
بن مالك الليثي وسببه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث
سرية فأغاروا على قوم فشذ رجل منهم فاتبعه رجل من السرية
شاهرا سيفه فقال: إني مسلم فقتله فنهى إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال قولا شديدا ثم ذكره
(1/71)
39 - (أبى الله أن يرزق عبده المؤمن)
المتقي المتوكل على ربه كما تؤذن به إضافته إليه وهو من
انقطع إلى الله ومحص قصده للالتجاء إليه فلم يلتفت للأسباب
وثوقا بالمسبب بدليل خبر الطبراني. " من انقطع إلى الله
كفاه الله كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب ومن انقطع إلى
الدنيا وكله الله إليها ". والحديث يفسر بعضه بعضا ولهذا
قال بعضهم هذا لا يكون إلا لخواص عباده لأنه تعالى يغار
عليهم أن يعتمدوا أو يلتفتوا لأحد سواه فيصير رزقهم في
الدنيا كحالهم في الجنة ليس لأحد من الخلق فيه منة (إلا)
قال الحراني مركبة من أن ولا مدلولها نفي حقيقة ذات عن حكم
ما قبلها (من حيث لا يحتسب) أي من جهة لا تخطر بباله ولا
تختلج بآماله: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث
لا يحتسب} والرزق إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أهنأ وأمرأ
كما أن الخبر السار إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسر والشر
إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم وأشر فالتقوى تصير رزقه
من غير محتسبه فبسقوط المحتسبية عن قلبه يعلم أنه متق. قال
سفيان الثوري: اتق الله فما رأيت تقيا محتاجا. والمحسبة
مظان الرزق ومصادره وأسبابه. قال الحراني: وفيه إشعار بأنه
عطاء متصل لا يتجدد ولا يتعدد لأن كل محسوب في الابتداء
محاسب عليه في الإعادة فكان في الرزق بغير محسبة بشرى برفع
الحساب عنه فالمؤمن الكامل يشهد الرزق بيد الرازق يخرج من
خزائن الغيب فيجريه بالأسباب فإذا شهد ذلك كان قلبه مراقبا
لما يصنع مولاه وعينه ناظرة لمختاره له معرضة عن النظر
للأسباب فالساقط عن قلبه محسبة الرزق من أين وكيف ومتى
بحيث لا يتهم ربه في قضائه يؤتى رزقه صفوا عفوا وتقواه معه
وعلى رزقه طابع الإيمان والمتعلق بالأسباب قلبه جوال فإن
لم يدركه لطف فهو كالهمج في [ص:72] المزابل يطير من مزبلة
إلى مزبلة حتى يجمع أوساخ الدنيا ثم يتركها وراء ظهره
وينزع ملك الموت مخالبه التي اقتنص بها الحطام ويلقى الله
بإيمان سقيم دنس وينادى عليه يوم القيامة هذا جزاء من أعرض
عن الله وإحسانه واتهم مولاه فلم يرض بضمانه. فتح الله لنا
طريق الهداية إليه ويسر لنا منهج التوكل عليه <تنبيه>
الحصر المذكور في هذا الحديث غير مراد بل المراد أن هذا هو
الغالب فلا ينافي احتراف بعض الأصفياء وقد كان زكريا نجارا
وإدريس خياطا وداود زرديا وفي حديث سيجئ: " وجعل رزقي تحت
ظل رمحي " وكان أبو بكر تاجرا قال بعض الصوفية المراد
بالرزق هنا ما يشمل المعنوي كالعلوم والمعارف
(فر عن أبي هريرة) لكنه قال من حيث لا يعلم وفيه عمر بن
راشد عن عبد الرحمن بن حرملة. قال الذهبي: قال ابن عدي:
مجهول منكر الحديث وابن حرملة ضعفه القطان وغيره (هب) وكذا
الحاكم في تاريخه (عن علي) أمير المؤمنين وقضية صنيع
المؤلف أن البيهقي خرجه وسلمه ولا كذلك بل تعقبه بقوله لا
أحفظه إلا بهذا الإسناد وهو ضعيف بمرة انتهى. وقد رواه
العسكري بلفظ: " أبى الله أن لا يجعل أرزاق عباده المؤمنين
من حيث لا يحتسبون " وسنده واه. وقال الحافظ العراقي: رواه
عن علي أيضا ابن حبان في الضعفاء وإسناده واه جدا انتهى.
وفي الميزان: متنه منكر بل قال ابن الجوزي: موضوع لكن نوزع
(1/71)
40 - (أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة)
بكسر الموحدة التحتية وسكون الدال أي مذمومة قبيحة وهي
الأهواء والضلالة كما يأتي بمعنى أنه لا يثنيه على ما عمله
ما دام متلبسا بها (حتى) أي إلى أن (يدع) أي يترك (بدعته)
بأن يتوب منها ويرجع إلى اعتقاد ما عليه أهل الحق ونفي
القبول قد يؤذن بانتفاء الصحة كما في خبر: " لا يقبل الله
صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " ويفسر القبول حينئذ بأنه
ترتب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء وقد لا - كما هنا -
ونحوه الآبق والناشزة وشارب الخمر ويفسر بأنه الثواب ومنه
خبر أحمد الآتي " من صلى في ثوب قيمته عشرة دراهم فيه درهم
حرام لم يقبل الله له صلاة مادام عليه " ويميز بين
الاستعمالين بالأدلة الخارجية. وأما القبول من حيث ذاته
فلا يلزم من نفيه نفي الصحة وإن لزم من إثباته إثباتها
وكما أن عمل المبتدع غير مقبول فذنبه غير مغفور. قال حجة
الإسلام: الجاني على الدين بابتداع ما خالف السنة بالنسبة
لمن يذنب كمن عصى الملك في قلب دولته بالنسبة لمن خالف
أمره في خدمة معينة وذلك قد يغفر فأما قلب الدولة فلا فلا
فلا انتهى. ولم أر من تعرض للعمل المنفي قبوله في هذا
الحديث ما المراد به العمل المشوب بالبدعة فقط أو حتى
الموافق للسنة فظاهر الخبر التعميم أما المشوب بها فظاهر
لأنه إذا عمل عملا على قانون بدعته عدة سنة وهو لا يشعر
ولا ثواب فيما خالف السنة وأما غيره فلأنه إذا عمل السنة
فهو حال عمله يعتقد كونه بدعة فهو بمعزل عن قصد التقرب
والامتثال. وقد قال ابن القاسم: لا نجد مبتدعا إلا وهو
منتقص للرسول وإن زعم أنه يعظمه بتلك البدعة فإنه يزعم
أنها هي السنة إن كان جاهلا مقلدا وإن كان مستبصرا فيها
فهو مشاق لله ولرسوله انتهى. وقد ذم الله قوما رأوا الخير
شرا وعكسه ولم يعذرهم فقال {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}
{أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا} ثم هذه الجملة توطئة
وتأسيس إلى ما هو المقصود من السياق وهو الحث على سلامة
العقيدة والتنفير من ملازمة البدعة ومجالسة أهلها. والبدعة
كما قال في القاموس: الحديث في الدين بعد الإكمال وما
استحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الأهواء. وقال
غيره: اسم من ابتدع الشيء اخترعه وأحدثه ثم غلبت على ما لم
يشهد الشرع لحسنه وعلى ما خالف أصول أهل السنة والجماعة في
العقائد وذلك هو المراد بالحديث لإيراده في حيز التحذير
منها والذم لها والتوبيخ عليها وأما ما يحمده العقل ولا
تأباه أصول الشريعة فحسن والكلام كله في مبتدع لا يكفر
ببدعته أما من كفر بها كمنكر العلم بالجزئيات وزاعم
التجسيم أو الجهة أو الكون أو الاتصال بالعالم أو الانفصال
عنه فلا يوصف عمله بقبول ولا رد لأنه أحقر من ذلك
(هـ وابن أبي عاصم في) كتاب محاسن (السنة) وكذا الديلمي
والخطيب والسجزي في الابانة وابن النجار (عن ابن عباس) وهو
عند ابن ماجه من حديث عبد الله بن سعيد عن بشر بن منصور
الحافظ عن أبي زيد عن المغيرة عن ابن [ص:73] عباس قال في
الميزان: وأبو زيد وأبو المغيرة لا يدرى من هما نعم يقويه
ما رواه ابن ماجه أيضا عن حذيفة مرفوعا " لا يقبل الله
لصاحب بدعة صلاة ولا صدقة ولا حجا ولا عمرة ولا جهادا ولا
صرفا ولا عدلا يخرج من الدين كما تخرج الشعرة من العجين "
(1/72)
41 - (أبى الله أن يجعل للبلا) بالكسر
والقصر ويجوز فتحها الألم والسقم. قال الراغب: سمي به لأنه
يبلي الجسم (سلطانا) سلاطة وشدة ضنك (على بدن عبده)
الإضافة للتشريف (المؤمن) أي على الدوام فلا ينافي وقوعه
أحيانا لتطهيره وتمحيص ذنوبه. فلا يعارضه الخبر الآتي "
إذا أحب الله عبدا ابتلاه " أو المراد هناك المؤمن الكامل
بدليل خبر " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل "
أو يقال المؤمن إذا ابتلي فإنه محمول عنه بحسب طاعته
وإخلاصه ووجود حقائق الإيمان في قلبه حتى يحمل عنه من
البلاء ما لو جعل شيء منه على غيره عجز عن حمله أو أن شدة
محبته لربه الذي ابتلاه تدفع سلطان البلاء عنه حتى يصير
عنده البلاء مستعذبا غير مسخوط بل يعده من أجل النعم أو
المراد بالبلاء الذنوب وهو شؤم عواقبها فأهل البلاء هم أهل
المعاصي وإن صحت أبدانهم وأهل العافية أهل السلامة وإن
مرضوا. ثم هذا كله سوق الكلام على ما هو المتبادر للأفهام
ببادئ النظر من أن المقصود عدم الجعل حال الحياة وذهب
بعضهم إلى تنزيله على ما بعد الموت وعليه فالمراد أن الأرض
لا تأكل بدنه ولا ينافيه خبر " كل ابن آدم يأكله التراب "
لأنه خص منه عشرة أصناف كما يأتي وأراد هنا واحدا منها.
قال الراغب: والبدن الجسد لكن البدن يقال اعتبارا بعظم
الجثة والجسد اعتبارا باللون ومنه قيل امرأة بادن وبدين
عظيمة الجسم
(فر عن أنس) وفيه القاسم بن إبراهيم الملطي كذاب لا يطاق
قال في اللسان له عجائب من الأباطيل
(1/73)
42 - (إبتدروا) بكسر الهمزة والدال
(الأذان) أي سابقوا إلى التأذين للصلاة وسارعوا إليه ندبا
والبدار المسارعة (ولا تبتدروا الإمامة) بالكسر ككتابة أي
لا تسابقوا إليها ولا تزاحموا عليها لأن المؤذن أمين
والإمام ضمين كما في خبر والإمامة أعلى من الضمان ولدعائه
له في خبر بالمغفرة والامام بالإرشاد والمفغرة أعلى ومن ثم
ذهب النووي إلى تفضيله عليها وإنما لم يواظب النبي صلى
الله عليه وسلم وخلفاؤه عليه لاحتياج رعاية المواقيت إلى
فراغ وهو مشغولون بشأن الأمة ولهذا قال عمر لولا الخلافة
لأذنت وهذا وأشباهه خطاب للصحب الحاضرين وحكمه عام في أمة
الإجابة لأن حكم الشارع على الواحد حكمه على الجماعة إلا
لدليل
(ش عن يحيى بن أبي كثير) أبي منصور اليمامي أحد الأعلام من
العلماء العباد (مرسلا) بفتح السين وتكسر كما في الديباج
أرسل عن أنس وغيره وله شواهد
(1/73)
43 - (ابتغوا) بكسر الهمزة اطلبوا بجد
واجتهاد. قال الراغب الابتغاء مخصوص بالاجتهاد في الطلب.
وقال الحراني الابتغاء افتعال تكلف البغي وهو أشد الطلب
(الرفعة) بكسر الراء الشرف وعلو المنزلة (عند الله) أي في
دار كرامته. قال الراغب: عند لفظ موضوع للقرب يستعمل تارة
في المكان وتارة في الاعتقاد وتارة في الزلفى والمنزلة نحو
{أحياء عند ربهم يرزقون} وعليه قوله: {هو الحق من عندك}
قال بعض الصحب وما هي يا رسول الله أي وما يحصلها قال
(تحلم) بضم اللام (عمن جهل) أي سفه (عليك) أي تضبط نفسك عن
هيجان الغضب من سفهه. قال الزمخشري: فلان يجهل على قومه
يتسافه عليهم قيل
ألا لا يجهلن أحد علينا. . . فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال الراغب: الحلم ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب
(وتعطي من حرمك) منعك ما هو لك أو معروفه ورفده لأن مقام
الإحسان إلى المسيء ومقابلة إساءته بالصلة من كمال الإيمان
الموجب للرفعة وفيه من الفوائد والمصالح ما ينبئ عنه نطاق
الحصر فإذا بلغ العبد ذروة هاتين الخصلتين فقد فاز بالقدح
المعلى وحل في مقام الرفعة عند [ص:74] المولى وقد اتفقت
الملل والنحل على أن الحلم والسخاء يرفعان العبد وإن كان
وضيعا وأنهما أصل الخصال الموصلة إلى السعادة العظمى وما
سواهما فرع عنهما
(عد عن) أبي عبد الرحمن (بن عمر) بن الخطاب وفيه كما في
الأصل الوازع بن نافع متروك وقال الحاكم وغيره يروي أحاديث
موضوعة وأطال في اللسان القدح فيه. توهين ما يرويه
(1/73)
44 - (ابتغوا الخير) كلمة جامعة تعم كل
طاعة ومباح دنيوي وأخروي والمراد هنا الحاجة الأخروية أو
الدنيوية كما يفسره رواية أبي يعلى والبيهقي والخرائطي "
اطلبوا الحوائج " ورواية ابن عدي " اطلبوا الحاجات " (عند
حسان) جمع حسن محركا والحسن بالضم الجمال. وقال الراغب
الحسن عبارة عن كل بهيج مرغوب فيه وهو ثلاثة أضرب مستحسن
من جهة العقل ومستحسن من جهة الهوى ومستحسن من جهة الحسن.
والحسن أكثر ما يقال في تعارف العامة في المستحسن بالبصر
وفي القرآن للمستحسن من جهة البصيرة (الوجوه) لأن حسن
الوجه وصباحته يدل على الحياء والجود والمروءة غالبا لكن
قد يتخلف كما يشير إليه تعبيره في بعض الروايات " برب " أو
المعنى اطلبوا حوائجكم من وجوه الناس أي أكابرهم ويؤيده
خبر " إن سألت فاسأل الصالحين " قال بعضهم: الرؤساء
والأكابر يحتقرون ما أعطوه والصلحاء لا يشهدون لهم ملكا مع
الله أو المراد بحسن الوجه بشاشته عند السؤال وبذل المسؤل
عند الوجدان وحسن الاعتذار عند الفقد والعدم
(قط في) كتاب (الأفراد) عن علي بن عبد الله بن ميسرة عن
محمد بن جعفر بن عبد الله الغفاري عن يزيد بن عبد الملك
النوفلي عن عمران بن إياس (عن أبي هريرة) قال ابن الجوزي
موضوع الغفاري يضع انتهى. وتعقبه المؤلف في مختصر
الموضوعات بأن ابن أبي الدنيا خرجه عن مجاهد بن موسى عن
سفيان عن يزيد بن عبد الملك به فزالت تهمة الغفاري فكان
ينبغي له أعني المؤلف أن يعزوه لابن أبي الدنيا الذي ذكر
أن طريقه قد خلت عن الوضاع وأن لا يعزوه للدارقطني لأنه
سلم أن في طريقه رضاعا. وقد ذكر السخاوي الحديث من عدة طرق
عن نحو عشرة من الصحب. ثم قال طرقه كلها ضعيفة لكن المتن
غير موضوع انتهى وسبقه لنحوه ابن حجر فقال: طرقه كلها
ضعيفة وبعضها أشد ضعفا من بعض
(1/74)
45 - (أبد) بفتح الهمزة وكسر الدال فعل أمر
(المودة لمن وادك) أي أظهر ندبا المحبة الشديدة لمن أخلص
حبه لك (فإنها) أي هذه الخصلة وفي رواية " فإنه " أي هذا
الفعل (أثبت) أي أدوم وأرسخ والود خالص الحب وهو منه
بمنزلة الرأفة من الرحمة والمعنى إذا أحببت إنسانا لغير
منهي عنه شرعا فاظهر له ذلك أي أعلمه بأنك تحبه ويأتي
تعليله في خبر بأنه يجد لك مثل ما تجد له. قال القاضي:
وبذلك يتأكد الحب وتدوم الألفة والألفة إحدى فرائض الإسلام
وأركان الشريعة ونظام شمل الدين. ومما يجلب المودة
المحافظة على الابتداء بالسلام مراعاة لأخوة الإسلام
وتعظيما لشعار الشريعة. قال: والود محبة الشيء مع تمنيه
ولذلك يستعمل في كل منهما. وقال الحراني: الود صحة نزوع
النفس للشيء المستحق نزوعها له. وقال الزمخشري: تقول
ووددته ودا ومودة ووددت لو كان كذا وبودي لو كان كذا. وقال
الراغب: الود محبة الشيء وتمني كونه قاله والثبات فيه ضد
الزوال
(الحارث) بن محمد (بن أبي أسامة) التميمي صاحب المسند
المشهور كان حافظا عارفا بالحديث تكلم فيه بلا حجة (طب)
وابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان وأبو الشيخ [ابن حبان] في
الثواب كلهم (عن أبي حميد) بالتصغير (الساعدي) عبد الرحمن
وقيل المنذر بن سعيد شهد أحدا وما بعدها وعاش إلى خلافة
يزيد قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول فذكره. قال
الهيتمي: وفيه من لم أعرفهم انتهى. وحينئذ فرمز المؤلف
لحسنه عليل
(1/74)
46 - (ابدأ) بالهمزة وبدونه فيه وفيما بعده
كما ذكره الزركشي (بنفسك) أي بما تحتاجه من مؤنة وغيرها.
والنفس ما به ينفس المرء على غيره [ص:75] استبدادا منه
واكتفاء بوجود نفاسته على من سواه ذكره الحراني والمراد
هنا الذات أي قدم ذاتك فيما تحتاج إليه من نحو نفقة وكسوة
(فتصدق عليها) لأنك المخصوص بالنعمة المنعم عليك بها
فتلقاها بالقبول وقدم مهجتك وحاجتك على من تعول وسمى
الانفاق عليها صدقة لأنه قربة إذا كان من حلال وكفافا وقد
ينتهي إلى الوجوب وذلك عند الاضطرار (فإن) وفي رواية: " ثم
إن " (فضل) بفتح الضاد ومضارعه بضمها وبكسر الضاد فمضارعه
بفتحها وفضل بالكسر يفضل بالضم شاذ (شيء فلأهلك) أي زوجتك.
قال الراغب: يعبر عن امرأة الرجل بأهله وذلك لأن نفقتها
معاوضة وما بعدها مواساة (فإن فضل عن أهلك شيء فلذي
قرابتك) لأنهم في الحقيقة منك فيحصل بذلك الجبر التام
بالمواساة وصلة الأرحام ثم إن حمل على التطوع شمل كل قريب
أو الواجب اختص بمن تجب نفقته من أصل وفرع عند الشافعي
وغيرهما أيضا عند غيره وله تفاريع في الفروع. قال الزين
العراقي: وسكت عن القن ولعله لأن أكثر الناس لا أرقاء لهم
أو لأن المخاطب لا قن له وزعم دخوله في الأهل للمناقشة فيه
مجال وقدم الحنابلة القن على القريب عند التزاحم وسكت عنه
الشافعية. قال الولي العراقي: وكأنه لأن له جهة ينفق منها
وهي كسبه فإن تعذر بيع أو جزء منه لنفقته (فإن فضل عن ذوي
قرابتك شيء فهكذا وهكذا) أي بين يديك وعن يمينك وشمالك كما
فسره به في رواية مسلم والنسائي وكنى به عن تكثير الصدقة
وتنويع جهاتها وليس المراد حقيقة هذه الجهات المخصوصة.
وفيه الابتداء بالنفقة على الترتيب المذكور. قال المحقق
أبو زرعة: ومحل تقديم النفس فيمن لا يصبر على الإضافة فمن
صبر عليها فايثاره محبوب محمود في القرآن وفعله أكابر
الأعيان. وفيه أن الإنسان إذا وجد بعض الصيعان في الفطرة
قدم نفسه وإن وجدها كلها لأن في تأخيرها غرر لاحتمال أن
المال يتلف قبل إخراجها. وفيه أن الحقوق والفضائل إذا
تزاحمت قدم الآكد وأن الأفضل في صدقة النفل تنويعها في
وجوه البر بالمصلحة ولا يحصرها في جهة ونظر الإمام في
مصلحة رعيته وأمرهم بما فيه مراشدهم والعمل بالإشارة وأنها
قائمة مقام النطق إذا فهم المراد بها إلا أن الشافعية لم
يكتفوا بإشارة الناطق إلا في الأمور الخفية لا كالعقود
والفسوخ
(ن عن جابر) بن عبد الله الأنصاري قال: " أعتق رجل عبدا له
عن دبر فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألك مال غيره؟
قال: لا فقال: فمن يشتريه مني فاشتراه نعيم العدوي بثمان
مئة درهم فجاء بها النبي صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه
ثم ذكره وإسناده صحيح
(1/74)
47 - (إبدأ) بكسرة الهمزة وفتح المهملة
(بمن تعول) أي تمون يعني بمن تلزمك مؤنته من نفسك وزوجك
وقريبك وذي روح ملكته فإن اجتمعوا وله ما ينفق على الكل
لزمه وإلا قدم نفسه فزوجته فولده الصغير أو المجنون فأمه
فأباه فولده المكلف فجده فأبا جده وإن علا ذكره الشافعي.
قال السمهودي: والحديث وإن ورد في الإنفاق فالمحققون
يستعملونه في أمور الآخرة كالعالم يبدأ بعياله في التعليم
ويؤيده قوله تعالى: {قوا أنفسكم وأهليكم نارا} الآية. وأخذ
بعض الصوفية منه أنه يقصد بتعلم العلم نفسه أولا ثم
المسلمين ثانيا: الأقرب فالأقرب. فلا يقصد نفع غيره إلا
تبعا ليحوز أجر النية والعمل
(وطب) والقضاعي (عن حكيم بن حزام) بفتح الحاء والزاي كذا
ضبطه ابن رسلان ومن خطه نقلت لكن ضبطه ابن حجر كالكرماني
بكسر أوله وهو الظاهر وهو ابن خويلد الأسدي من المؤلفة
الأشراف الذين حسن إسلامهم عاش مئة وعشرين سنة نصفها في
الجاهلية ونصفها في الإسلام قال سألت رسول الله صلى الله
عليه وسلم أي الصدقة أفضل فذكره رمز المؤلف لصحته وليس كما
قال فقد قال الهيتمي: فيه أبو صالح مولى حكيم ولم أجد من
ترجمه
(1/75)
48 - (إبدؤا) بكسر الهمزة أيها الأمة في
أعمالكم القولية والفعلية (بما) أي بالشيء الذي (بدأ الله
به) في التزيل فيجب عليكم [ص:76] الابتداء في السعي بالصفا
لابتدائه به في قوله تعالى: {إن الصفا والمروة} وفيه وجوب
السعي. قال الكمال ابن الهمام: ورد بصيغتي الخبر والأمر
وهو يفيد الوجوب خصوصا مع ضم خبر: " خذوا عني مناسككم "
انتهى. فهو عند الحنفية واجب وعند الشافعي ركن وهذا وإن
ورد على سبب وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ثم سعى
فبدأ بالصفا وقرأ {إن الصفا والمروة من شعائر الله} . ثم
ذكره فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد كان الرسول
يحافظ على تقديم كل مقدم فقدم غسل الوجه في الوضوء ثم فثم
وزكاة الفطر على صلاة العيد تقديما للمقدم في آية: {قد
أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} وبذلك اتضح استدلال
الشافعية به على وجوب ترتيب الوضوء. وأخرج الحاكم عن ابن
عباس وصححه: " أنه أتاه رجل فقال أأبدأ بالمروة قبل الصفا
أو بالصفا؟ وأصلي قبل أن أطوف أو أطوف قبل؟ وأحلق قبل أن
أذبح أو أذبح قبل؟ فقال خذه من كتاب الله فإنه أجدر أن
يحفظ قال تعالى {إن الصفا والمروة} الآية فالصفا قبل وقال:
{وطهر بيتي للطائفين} الآية فالطواف قبل وقال: {لا تحلقوا
رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله} فالذبح قبل ". انتهى. وما ذكره
في غير الصفا محمول على الأكمل لأن المصطفى صلى الله عليه
وسلم ما سئل يوم النحر عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل
ولا حرج
(قط) من عدة طرق (عن) أبي عبد الله (جابر) بن عبد الله
الخزرجي المدني ورواه عنه أيضا النسائي بإسناد صحيح باللفظ
المزبور في حديث طويل وكذا البيهقي وصححه ابن حزم فاقتفاه
المؤلف فرمز لتصحيحه ورواه مسلم بلفظ: " ابدؤا " بصيغة
المضارع للمتكلم وأحمد ومالك وابن الجارود وأبو داود
والترمذي وابن ماجه وابن حبان والنسائي أيضا بلفظ: " نبدأ
" بالنون. وقال ابن دقيق العيد مخرج الحديث عندهم واحد وقد
أجمع مالك وسفيان والقطان على رواية: " نبدأ " بنون الجمع.
قال ابن حجر: وهو أحفظ من الباقين وهو يؤيد ضبط مسلم
(1/75)
49 - (أبردوا) بقطع الهمزة وكسر الراء
(بالظهر) وفي رواية للبخاري: " بالصلاة " أي بصلاة الظهر
كما بينته هذه الرواية أي أدخلوها في البرد بأن تؤخروها
ندبا عن أول وقتها إلى أن يصير للحيطان ظل يمشي فيه قاصد
الجماعة من محل بعيد بشرط عدم وجود ظل يمشي فيه وأن لا
يجاوز به نصف الوقت وأن يكون بقطر حار كما يشير إليه قوله
(فإن شدة الحر) أي قوته (من) بعض أو ابتداء (فيح) بفتح
الفاء وسكون المثناة تحت (جهنم) أي هيجانها وغليانها
وانتشار لهبها فعلم أن من تبعيضية أو ابتدائية وقال بعضهم
جنسية بناء على ما قيل من أن كون شدة الحر من فيح جهنم
تشبيه لا حقيقة وحكمته دفع المشقة لسلب الخشوع أو كماله
كما في من حضره طعام يتوق إليه أو يدافعه الخبث والأخبار
الآمرة بالتعجيل عامة أو مطلقة والأمر بالإبراد خاص فهو
مقدم وزعم أن التعجيل أكثر مشقة فيكون أفضل منع بأن
الأفضلية لا تنحصر في الأشق فقد يكون غير الشاق أفضل
كالقصر في الصلاة. وأما خبر مسلم عن خباب بن الأرت " شكونا
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا "
أي لم يزل شكوانا فمنسوخ بالنسبة إلى الإبراد أو محمول على
أنهم طلبوا تأخير زائدا على قدر الإبراد وظاهر الخبر وجوب
الإبراد لكن لما قام الإجماع على عدمه حمل على الندب وإنما
لم نؤمر بالتأخير لشدة البرد مع أنه أيضا من جهنم لأنه
إنما يكون وقت الصبح ولا يزول إلا بطلوع الشمس فيخرج الوقت
وخرج بالظهر غيرها حتى الجمعة للأمر بالتبكير إليها وإبراد
النبي بها لبيان الجواز والأذان وأمره بالإبراد حمل على
الإقامة بدليل التصريح بها في رواية الترمذي وجهنم اسم
لنار الآخرة عربي لا معرب من الجهامة وهي كراهة المنظر غير
منصرف للتعريف والتأنيث
(خ هـ) وكذا أحمد (عن أبي سعيد) الخدري (حم ك) وقال صحيح
وكذا الطبراني وابن قانع والضياء (عن صفوان بن مخرمة) بفتح
الميم وسكون المعجمة وفتح الراء والميم الزهري وهو أخو
المسور (ن عن أبي موسى) الأشعري عبد الله بن قيس أمير زبيد
وعدن للنبي صلى الله عليه وسلم وأمير البصرة والكوفة لعمر.
قال الواقدي: كان حليفا لسعيد بن العاص وأسلم بمكة وهاجر
الحبشة (طب عن) أبي [ص:77] عبد الرحمن (ابن مسعود) عبدا
(عد عن جابر) بن عبد الله (هـ) وكذا البيهقي والطبراني (عن
المغيرة) بضم الميم على المشهور وتكسر (ابن شعبة) أحد دهاة
العرب أسلم عام الخندق ومات سنة خمسين وأحصن في الإسلام
ثلاث مئة امرأة وقيل ألفا. قال المؤلف: حديث متواتر رواه
بضعة عشر صحابيا
(1/76)
50 - (أبردوا) ندبا (بالطعام) أي أخروا
أكله إلى أن يبرد فتناولوه باردا يقال أبرد إذا دخل في
البرد وأظهر إذا دخل في الظهيرة وباؤه للتعدية أو زائدة ثم
علل الأمر بالتأخير بقوله (فإن الحار لا بركة فيه) أي
الطعام الحار أو مطلقا فيفيد الأمر بالابراد بالشراب في
الشرب وفي الطهارة وفي رواية بدله " فإن الطعام الحار غير
ذي بركة " وفي رواية: " فإنه أعظم للبركة " والمراد هنا
نفي ثبوت الخير الإلهي فيكره استعمال الحار لخلوه عن
البركة ومخالفته للسنة بل إن غلب على ظنه ضرره حرم
(فر عن ابن عمر) بن الخطاب وفيه إسحاق بن كعب. قال الذهبي:
ضعف عن عبد الصمد بن سليمان قال الدارقطني: متروك عن قزعة
ابن سويد. قال أحمد: مضطرب الحديث وأبو حاتم لا يحتج به عن
عبد الله بن دينار غير قوي (ك عن جابر) بن عبد الله لكن
بلفظ: " فإن الطعام الحار غير ذي بركة " (وعن أسماء) بفتح
الهمزة وبالمد بنت الصديق أخت عائشة وأم أمير المؤمنين ابن
الزبير من المهاجرات عمرت نحو مئة وعاشت بعد صلب ابنها عشر
ليال (مسدد) في مسنده المشهور وهو أين مسرهد الأسدي البصري
الحافظ من شيوخ البخاري (عن أبي يحيى) جد أبي هريرة الكوفي
واسمه شيبان صحابي له هذا الحديث الواحد (طس عن أبي هريرة)
. قال الهيتمي: وفيه عبد الله بن يزيد البكري ضعفه أبو
حاتم (حل عن أنس) قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقصعة
تفور فرفع يده منها وقال. إن الله لم يطعمنا نارا ثم ذكره
(1/77)
51 - (أبشروا) بفتح الهمزة وكسر المعجمة
(وبشروا) أي أخبركم بما يسركم وأخبروا (من وراءكم) بفتح
الميم في رواية وكسرها في أخرى يعني أخبروا من قدامكم ممن
سيوجد في المستقبل أو يقدم عليكم في الآتي كذا قرره شارحون
وهو وإن كان صحيحا في نفسه لا يلائم قوله الآتي: " فخرجنا
من عنده نبشر " والمناسب له أخبروا من لقيتم وهو وراء كلمة
تكون خلفا وتكون قداما وأكثر ما تكون في المواقيت من
الأيام والليالي لأن الوقت يأتي بعد مضي الإنسان فيكون
وراءه وإن أدركه الإنسان كان قدامه ويجوز أن يكون المعني
أخبروا من سواكم فإن وراء أيضا تأتي يمعنى سوى كقوله
تعالى: {فمن ابتغى وراء ذلك} أي سواه والمراد أخبروهم بما
يسرهم وهو (أنه) أي بأنه (من شهد أن) أي أنه (لا إله) أي
لا معبود بحق في الوجود (إلا الله) الواجب الوجود لذاته
(صادقا) نصب على الحال (بها) أي الشهادة أي مخلصا في
إتيانه بها بأن يصدق قلبه لسانه (دخل الجنة) إن مات على
ذلك ولو بعد دخوله النار فمآله إلى الجنة ولا بد فالميت
فاسقا تحت المشيئة إن شاء عذبه كما يريد ثم مصيره إلى أن
يعفى عنه فيخرج من النار وقد اسود فينغمس في نهر الحياة ثم
يعود له أمر عظيم من الحال والنضارة ثم يدخل الجنة ويعطى
ما أعد له بسابق إيمانه وما قدمه من العمل الصالح وإن شاء
عفا عنه ابتداء فسامحه وأرضى عنه خصماءه ثم يدخله الجنة مع
الناجين. وقول الخوارج: مرتكب الكبيرة كافر وقول المعتزلة
مخلد في النار حتما ولا يجوز العفو عنه كما لا يجوز عقاب
المطيع - من تقولهم وافترائهم على الله تعالى الله عما
يقول الظالمون. والبشارة الخبر السار الذي يظهر بأوله أثر
السرور على البشرة ذكره القاضي. وقال الراغب: الخبر بما
يسر فتنبسط بشرة الوجه وذلك أن النفس إذ سرت انتشر الدم
انتشار الماء في الشجر. والصدق: الإخبار المطابق وقيل مع
اعتقاد المخبر أنه كذلك عن دلالة أو أمارة واقتصر على أحد
الركنين لأنهم كانوا عبدة أوثان فقصد به نفي ألوهية ما
سواه تعالى مع اشتهاره عندهم بأنه رسول الله واستبانته
منهم الإيمان بشهادة قدوم كبرائهم عليه مؤمنين [ص:78]
(حم طب عن أبي موسى) الأشعري قال: " أتيت النبي صلى الله
عليه وسلم ومعي نفر من قومي فقال أبشروا " إلى آخره: "
فخرجنا من عنده نبشر الناس فاستقبلنا عمر فرجع بنا إلى
المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إذن يتكلوا
فسكت " قال الهيتمي رجاله ثقات وله طرق كثيرة انتهى ولذلك
رمز المؤلف لصحته هنا وقال في الأصل صحيح
(1/77)
52 - (أبعد الناس من الله) أي من كرامته
ومزيد رحمته من البعد. قال الحراني: وهو انقطاع الوصلة في
حس أو معنى (يوم القيامة القاص) بالتشديد أي الذي يأتي
بالقصة من قص أثره اتبعه لأن الذي يقص الحديث يتبع ما حفظ
منه شيئا فشيئا كما يقال تلى القرآن إذا قرأه لأنه يتلو أي
يتبع ما حفظ آية بعد آية كما في الكشاف. وقال الحراني:
القص تتبع أثر الوقائع والأخبار يبينها شيئا بعد شيء على
ترتيبها في معنى قص الأثر وهو اتباعه حتى ينتهي إلى محل ذي
أثر (الذي يخالف إلى غير ما أمر به) ببناء أمر للفاعل أي
الذي يخالف قوله فعله ويعدل إلى غير ما أمر به الناس من
التقوى والاستقامة ويمكن بناؤه للمفعول والفاعل الله أي
الذي يخالف ما أمر الله به من مطابقة فعله لقوله وذلك
لجرأته على الله بتكذيب فعله لقوله كبني إسرائيل لما قصوا
أهلكوا أي تكلموا على القول وتركوا العمل فأهلكوا والمراد
هنا من يعلم الناس العلم ولا يعمل به ومن خصه بالواعظ فقد
وهم ومن هو كذلك لا ينتفع بعلمه غالبا ولا بوعظه إذ مثل
المرشد من المسترشد كمل العود من الظل فمتى يستوي الظل
والعود أعوج؟
لا تنه عن خلق وتأتي مثله. . . عار عليك إذا فعلت عظيم
{أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} {كبر مقتا عند الله
أن تقولوا ما لا تفعلون} أوحى الله تعالى إلى عيسى ابن
مريم: عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني. وقال
مالك بن دينار. إذا لم يعمل العالم بعلمه زلت موعظته من
القلوب كما يزل القطر من الصفا:
يا واعظ الناس قد أصبحت متهما. . . إذ عبت منهم أمورا أنت
تأتيها
وقال عمر لمن سأله عن القص: " اخش أن تقص فترتفع في نفسك
ثم تقص فترتفع حتى يخيل إليك أنك فوقهم بمنزلة الثريا
فيضعك الله تحت أقدامهم يوم القيامة " رواه أحمد بسند
رجاله موثقون. فحق الواعظ أن يتعظ بما يعظ ويبصر ثم يبصر
ويهتدي ثم يهدي ولا يكون دفترا يفيد ولا يستفيد ومسنا يشحذ
ولا يقطع بل يكون كالشمس التي تفيد القمر الضوء ولها أفضل
مما تفيده وكالنار التي تحمي الحديد ولها من الحمى أكثر
ويجب أن لا يجرح مقاله بفعله ولا يكذب لسانه بحاله فيكون
ممن وصفه الله تعالى بقوله: {ومن الناس من يعجبك قوله}
الآية. فالواعظ ما لم يكن مع مقاله فعال لم ينتفع به إذ
عمله مدرك بالبصر وعلمه مدرك بالبصيرة وأكثر الناس أهل
أبصار لا بصائر فيجب كون عنايته بإظهار ما يدركه جماعتهم
أكثر ومنزلة الواعظ من الموعوظ كالمداوي من المداوى فكما
أن الطبيب إذا قال للناس لا تأكلوا كذا فإنه سم ثم رأوه
يأكله عد سخرية وهزوا كذا الواعظ إذا أمر بما لم يعمله ومن
ثم قيل يا طبيب طبب نفسك فالواعظ من الموعوظ يجري مجرى
الطابع من المطبوع فكما يستحيل انطباع الطين من الطابع بما
ليس منتقشا فيه فمحال أن يحصل في نفس الموعوظ ما ليس في
نفس الواعظ. وقيل من وعظ بقوله ضاع كلامه ومن وعظ بفعله
نفذت سهامه. وقيل: عمل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل
في رجل. قال ابن قتيبة والحديث ورد سدا لباب الفساد من
الزنادقة احتيالا على الطعن في الدين فإن القاص يروي
مناكير وغرائب يميل بها وجوه الناس إليه وشأن العامة
القعود عند من كان حديثه عجيبا انتهى. وبذلك عرف أن القص
منه ما هو مذموم وهو ما اشتمل على محذور مما ذكر وما هو
محمود وهو التذكير بآلاء الله وآياته وأفعاله مع العمل
بقضية ذلك. قال الغزالي أخرج علي رضي الله تعالى عنه
القصاص من مسجد البصرة إلا الحسن لكونه سمعه يتكلم
بالتذكير بالموت والتنبيه على عيوب النفس وآفات الإهمال
وخواطر الشيطان ويذكر بآلاء الله ونعمائه وتقصير العبد في
شكره ويعرف بحقارة الدنيا [ص:79] وعيوبها وتصرمها وخطر
الآخرة وأهوالها فهذا القص محمود إجماعا وهذا القاص محله
عند الله عظيم. روي أن يزيد ابن هارون مات وكان واعظا
زاهدا فقيل له ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأول ما قال لي
منكر ونكير من ربك قلت لهما أما تستحيان من شيخ دعى إلى
الله كذا وكذا سنة قالوا وأول من قص تميم الداري في زمن
عمر بإذنه وهذه الأولية بالنسبة إلى الأمة المحمدية. روي
أن موسى قص في بني إسرائيل فمزق بعضهم ثوبه فأوحى الله
إليه قل له مزق قلبك ولا تمزق ثوبك. وإنما قال في الحديث "
أبعد الناس " لم يقل الخلق لظهور معنى النوس على أفعاله
لاضطرابه في مخالفة قوله فعله والنوس حركة الشيء الخفيف
المعلق في الهواء <تنبيه> أخذ جمع من هذا الحديث وما في
معناه أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر
والجمهور على أنه له بل عليه ذلك لأنه مأمور بأمرين ترك
المعصية والمنع للغير من فعلها والإخلال بأحد التكليفين لا
يقتضي الإخلال بالآخر ولذلك أدلة من الكتاب والسنة
(فر عن أبي هريرة) رمز المؤلف لضعفه وسببه أن فيه عمر بن
بكر السكسكي أورده الذهبي في الضعفاء وقال ابن عدي له
مناكير واتهمه ابن حبان بالوضع
(1/78)
53 - (أبغض) أفعل تفضيل بمعنى المفعول من
البغض وهو شاذ ومثله أعدم من العدم إذا افتقر (الحلال) أي
الشيء الجائز الفعل (إلى الله الطلاق) من حيث إنه يؤدي إلى
قطع الوصلة وحل قيد العصمة المؤدي لقلة التناسل الذي به
تكثر الأمة لا من حيث حقيقته في نفسه فإنه ليس بحرام ولا
مكروه أصالة وإنما يحرم أو يكره لعارض وقد صح أن النبي صلى
الله تعالى عليه وعلى آله وسلم آلى وطلق وهو لا يفعل
مكروها ذكره في المطامح وغيرها. وهذا كما ترى أولى من
تنزيل الذهبي تبعا للبيهقي البغض على إيقاعه في كل وقت من
غير رعاية لوقته المسنون واستظهر عليه بخبر: " ما بال
أقوام يلعبون بحدود الله طلقتك راجعتك طلقتك راجعتك " وخبر
" لم يقول أحدكم لامرأته قد طلقتك قد راجعتك؟ ليس هذا
بطلاق المسلمين طلقوا المرأة في طهرها ". وقال الطيبي: فيه
أن بغض بعض الحلال مشروع وهو عند الله مبغوض كصلاة الفرد
في البيت بلا عذر والصلاة في مغصوب. وقال العراقي: فيه أن
بغض الله للشيء لا يدل على تحريمه لكونه وصفه بالحل على
إثبات بغضه له فدل على جواز اجتماع الأمرين بغضه تعالى
للشيء وكونه حلالا وأنه لا تنافي بينهما وأحب الأشياء إلى
الشيطان التفريق بين الزوجين كما يأتي في خبر والمراد
بالبغض هنا غايته لا مبدؤه فإنه من صفات المخلوقين والبارئ
منزه عنها والقانون في أمثاله أن جميع الأعراض النفسانية
كغضب ورحمة وفرح وسرور وحياء وتكبر واستهزاء لها أوائل
ونهايات وهي في حقه تعالى محمولة على الغايات لا على
المبادئ التي هي من خواص الأجسام فليكن على ذكر منك أي
استحضار له بقلبك فإنه ينفع فيما سيلقاك كثيرا
(د هـ ك) في كتاب الطلاق وكذا الطبراني وابن عدي (عن) عبد
الله (بن عمر) بن الخطاب ورواه البيهقي مرسلا بدون ابن عمر
وقال الفضل غير محفوظ. قال ابن حجر: ورجح أبو حاتم
والدارقطني المرسل وأورده ابن الجوزي في العلل بسند أبي
داود وابن ماجه وضعفه بعبد الله الرصافي. وقال: قال يحيى
ليس بشيء والنسائي متروك الحديث وبه عرف أن رمز المؤلف
لصحته غير صواب
(1/79)
54 - (أبغض الخلق) أي الخلائق يقال هم
خليقة الله وهم خلق الله. قال الزمخشري ومن المجاز خلق
الله الخلق أوجده على تقدير أوجبته الحكمة وهو رب الخليقة
والخلائق (إلى الله من) أي مكلف ولفظ رواية تمام لمن
باللام (آمن) أي صدق وأذعن وانقاد لأحكامه (ثم كفر) أي
ارتد خصه من بين أصناف الكفار بهذه المبالغة والتشديد
وأبرز ذمه في هذا النظم العجيب حيث أبهمه غاية الإبهام
نعيا عليه وتعجبا من شأنه حيث فعل ما فعل يعني انظروا إلى
هذا الخبيث اللعين وقبيح ما ارتكبه حيث فعل ما لم يرض
العاقل أن ينسب [ص:80] إليه وهو أنه اشترى الضلالة بالهدى
فهو جدير بكونه أبغض الكفرة إلى ربه وأمقتهم عنده
لاستعداده للاهتداء وقبوله له ثم نكوصه على عقبيه. والقصد
بذلك التوبيخ والتعيير فعسى أن يرتدع بالتشنيع عليه وتفظيع
شأنه وتهجين سيرته وتقبيح سريرته ويظهر أن من قتل نبيا
مثله أو أبغض وكذا من شهد المصطفى فيه بأنه أشقى الناس
وعليه فالمراد أنه من أبغض
(تمام) في فوائده من حديث أحمد البرقي عن عمرو بن أبي سلمة
عن صدقة بن عبد الله عن نصر ابن علقمة عن ابن عائذ عن عمرو
بن الأسود (عن معاذ) بضم الميم وفتح المهملة وبمعجمة (ابن
جبل) ضد السهل ابن عمرو بن أوس الأنصاري من نجباء الصحابة.
قال أنس: جمع معاذ القرآن في حياة الرسول وكان أمة قانتا.
وقضية تصرف المؤلف أن هذا لم يخرجه أحد من المشاهير الذين
وضع لهم الرموز والأمر بخلافه فقد خرجه الطبراني باللفظ
المزبور من هذا الوجه. قال الهيتمي: وفيه صدقة بن عبد الله
السمين وثقه أبو حاتم وضعفه أحمد وبقية رجاله ثقات وبه
يتجه رمز المؤلف لحسنه
(1/79)
55 - (أبغض الرجال) المخاصمين وكذا الخنائي
والنساء وإنما خص الرجال لأن اللدد فيهم أغلب ولأن غيرهم
لهم تبع في جميع المواطن. ألا ترى إلى قول الزمخشري: اكتفى
الله بذكر توبة آدم دون حواء لأنها كانت تبعا له كما طوى
ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة لذلك (إلى الله الألد)
بفتح الهمزة واللام وشد الدال أي الشديد الخصومة بالباطل
الآخذ في كل لدد أي في كل شيء من المراء والجدال لفرط
لجاجه كذا قرره الزمخشري. قال الزركشي: ومنه {لتنذر به
قوما لدا} (الخصم) بفتح المعجمة وكسر المهملة أي المولع
بها الماهر فيها الحريص عليها المتمادي في الخصام بالباطل
لا ينقطع جداله وهو يظهر أنه على الحسن الجميل ويوجه لكل
شيء من خصامه وجها ليصرفه عن إرادته من القباحة إلى
الملاحة ويزين بشقشقته الباطل بصورة الحق وعكسه بحيث صار
ذلك عادته وديدنه فالأول ينبئ عن الشدة والثاني عن الكثرة
وسمي ألد لاستعماله لدديه أي جانبي فمه وعتقه وذهب بعضهم
إلى أن أل في: " الرجال " للجنس وفي: " الألد " للعهد
والمراد به الخصم الذي خصامه ومجادلته مع الله. والذم وصف
للمخاصم والصفة وهو كونه منشأ من موات وهو المني: {أولم ير
الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين} وقصة أبي
بن خلف في قوله لأصيرن إلى محمد ولأخصمنه مشهورة وذلك لأن
الخصومة في ذلك كفر والكافر أبغض الخلق إلى الله قال ولو
جعلت أل فيه جنسية لاستلزم كون الألد المؤمن أبغض إلى الله
من حيث جنس الرجال وفيهم الكافر ورجح ابن حجر ما تقرر أولا
من تنزيل الرجال على المخاصمين أو أن المراد الألد في
الباطل المستحل له أو أن ذلك ورد على منهج الزجر لمن هذه
صفته وتنبيها على قبح حاله وتفضيحه بتهجين عادته وتفظيع
طريقته فعسى أن ينجع فيه هذا التشنيع فيلين قلبه وتنقاد
نفسه وتضمحل رذائله فيرجع عما هو عليه من الشرور فيحصل له
السرور بدخوله في قوله تعالى: {إلا الذين تابوا} (تتمة)
قال الغزالي: إذا خاصمت فتوقر وتحفظ من جهلك وعجلتك وتفكر
في حجتك ولا تكثر الإشارة بيدك ولا الالتفات إلى من وراءك
ولكن اجث على ركبتيك وإذا هدأ غضبك فتكلم وإن قربك الشيطان
فكن منه على حذر. فهذه آداب المخاصمة
(ق حم ت عن عائشة) رضي الله عنها ورواه أيضا عنها أحمد
(1/80)
56 - (أبغض العباد) بكسر العين والتخفيف
جمع عبد ويحتمل ضمها والتشديد جمع عابد ويشبه أنه أولى لما
في إجراء أفعل التفضيل على حقيقته من العموم والصعوبة
المحوجة إلى التأويل (إلى الله من) أي إنسان (كان ثوباه)
أي إزاره ورداؤه وأصل الثوب رجوع الشيء إلى حالته الأولى
التي كان عليها أو إلى حالته المقدرة المقصودة بالفكرة فمن
الثاني الثوب سمي به لرجوع الغزل إلى الحالة التي قدر لها.
ذكره الراغب (خيرا من عمله) يعني من تزيا بزي الأبرار
وعمله كعمل الفجار كما فسره بقوله (أن تكون ثيابه ثياب
الأنبياء) أي كثيابهم الدالة على التنسك [ص:81] والتزهد
(وعمله عمل الجبارين) أي كعملهم في البطش بالخلائق ونسيان
نقمة الخالق وعدم التخلق بالرحمة والتهافت على جمع الحطام.
والجبار المتكبر المتمرد العاني. وقال القاضي: فعال من
جبره على الأمر بمعنى أجبره وهو من يجبر الناس على ما
يريده. وقال الزمخشري: الجبار الذي يفعل ما يريد من ضرب
وقتل فيظلم لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن
وقيل المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله تعالى انتهى. وذلك
لأن أحب الخلق إلى الله تعالى الأنبياء والصديقون فأبغض
الخلق إليه من يتشبه بهم وليس منهم فمن تشبه بأهل الصدق
والإخلاص وهو مرائي كمن تشبه بالأنبياء وهو كاذب. وفيه أن
من ظهر من جهال الطريق وبرز بالعدول عن التحقيق وتقشف تقشف
أهل التجريد وتمزق حتى أوقع عقول العامة في الحرج الشديد
فهو من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم قي الحياة الدنيا
وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
(عق) وقال في الأصل إنه منكر وأقره عليه (فر) كلاهما من
حديث يحيى ابن عثمان عن أبي صالح كاتب الليث عن سليم بن
عيسى عن النوري عن جعفر بن برقان عن ميمون (عن عائشة)
ويحيى جرحه ابن حبان وكاتب الليث فيه مقال وسليم متروك
مجهول وابن برقان لا يحتج به. ولهذا قال ابن الجوزي: موضوع
وأقره عليه في الأصل. وقال العقيلي: منكر وفي الميزان
باطل. وبه علم أن عزو المؤلف الحديث للعقيلي وسكونه عما
عقبه به من الرد غير صواب وممن جزم بوضعه ابن عراق والهندي
(1/80)
57 - (أبغض الناس إلى الله) أي أبغض عصاة
المؤمنين إليه كما أفاده القاضي: المراد بالناس المقول
عليهم جميع عصاة الأمة وأن الكافر أبغض من هؤلاء المعدودين
وقول الطيبي: أراد بالناس المسلمين بدليل قوله " ومبتغ في
الإسلام " (ثلاثة) أحدهم إنسان (ملحد) بالضم أي مائل عن
الاستقامة (في) حق (الحرم) المكي بأن هتك حرمته بفعل محرم
فيه من الإلحاد وهو الميل عن الصواب أو من اللحد وهو
الحفرة المائلة عن الوسط ومصداقه {ومن يرد فيه بإلحاد
بظلم} ذكره القاضي. قال الزمخشري: ومن المجاز لحد السهم عن
الهدف ولحد عن القصد عدل عند والحد في دين الله والحد في
الحرم ولحد إليه مال إليه انتهى. وقال الراغب: ألحد بلسانه
إلى كذا مال ومنه {الذين يلحدون في آياتنا} واحد مال عن
الحق والإلحاد ضربان إلحاد إلى الشرك بالله وإلحاد إلى
الشرك بالأسباب فالأول ينافي الإيمان ويبطله والثاني يوهن
عراه ولا يبطله وذلك لهتك حرمته مع مخالفته أمر ربه فهو
عاص من وجهين فهو بالبغض جدير. واستشكل بأن ظاهره أن فعل
الصغيرة في الحرم المكي أشد به من فعل الكبيرة في غيره
واجيب بأن الإلحاد عرفا يستعمل في الخارج عن الدين فإذا
وصف به من ارتكب محرما كان إشارة إلى عظمه ويدل عليه آية
{ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} الآية فإن الإتيان بالجملة
الاسمية يفيد ثبوت الإلحاد ودوامه والتنوين للتعظيم فهو
إشارة إلى عظم الذنب. قالوا وهذا من خصائص الحرم فإنه
يعاقب الناوي للشر فيه إذا عزم عليه ولم يفعله. وذهب بعض
الصحابة إلى أن السيئات تتضاعف فيه كالحسنات (و) ثاني
الثلاثة (مبتغ) بضم الميم وسكون الموحدة وفتح الفوقية وعين
معجمة طالب (في الإسلام) أي في دينه (سنة الجاهلية) أي
إحياء طريقة أهل زمن الفترة سمي به لكثرة الجهالة فيه كقتل
البنات والطيرة والكهانة والنياحة والميسر والنيروز ومنع
القود عن مستحقه وطلب الحق ممن ليس عليه كأصله وفرعه
فإطلاق السنة على فعل الجاهلية ورد على أصل اللغة أو
للتهكم (و) الثالث (مطلب) بالضم وشد الطاء وكسر اللام
مفتعل من الطلب أي متطلب فأبدلت التاء طاء وأدغم أي التكلف
للطلب المبالغ فيه (دم) أي إراقة دم (امرئ) مثلث الراء أي
رجل وهو للذكر وخص بالذكر هنا وفي نظائره لشرفه وأصالته
وغلبة دوران الأحكام عليه كما مر في الخنثى والأنثى مثله
في الحكم وما ذكر من أن المرء يختص بالذكر هو ما عليه كثير
لكن قال الحراني: المرء اسم سن من سنان الضبع يشارك [ص:82]
الرجل فيه المرأة ويكون له فيه فضل ما " والدم " رزق البدن
والأقرب إليه المحيط به ولم يقيد هنا بالمسلم اكتقاء بقوله
(بغير الحق) وقيده به في رواية زيادة للبيان فخرج نحو حربي
ومرتد وقاطع طريق ومهدر بأي سبب كان والقود (ليهريق) بضم
أوله وهاء مفتوحة قد تسكن أي يصب (دمه) أي يقتله بنحو ذبح
أو ضرب عنق بنحو سيف فيسيل دمه وخص هذه الكيفية المشتملة
على إسالة الدم لكونها أغلب طرق القتل والمراد إزهاق روحه
بمحدد أو مثقل أو غيرهما كنحو سم ولما كان المنع من إراقة
الدم أعظم المقاصد أو هو أعظمها أعاده صريحا ولم يكتف
بيهريقه وإن كفى والمراد الطلب المترتب عليه المطلوب أو
ذكر الطلب ليلزم في الإهراق بالأولى ففيه مبالغة ذكره
الكرماني. وإنما كان هؤلاء الثلاثة أبغض المؤمنين إليه
لأنهم جمعوا بين الذنب وما يزيد به قبحا من الإلحاد وكونه
في الحرم وإحداث البدعة في الإسلام وكونها من أمر الجاهلية
وقتل نفس لا لغرض بل بمجرد كونه قتلا ويزيد القبح في الأول
باعتبار المحل وفي الثاني باعتبار الفاعل وفي الثالث
باعتبار الفعل. قال القاضي: القاتل بغير حق يقصد ما كرهه
الله من وجهين من حيث كونه ظلما والظلم على الإطلاق مكروه
مبغوض ومن حيث كونه يتضمن موت العبد ومساءته والله يكره
مساءته فلذلك استحق مزيد المقت وفي كل من لفظتي المبتغى
والمطلب مبالغة أخرى وذلك لأن هذا الوعيد إذا ترتب على
الطالب والمتمني فكيف بالمباشر
(خ) في الديات وكذا في البيهقي والطبراني (عن ابن عباس)
ولم يخرجه مسلم
(1/81)
58 - (ابغوني) بالوصل من الثلاثي فهو مكسور
الهمز أي اطلبوا لي طلبا حثيثا يقال ابغني مطالبي اطلبها
لي وفي رواية بالقطع من الرباعي فهو مفتوح الهمزة أي
أعينوني على الطلب يقال أبغيتك الشيء أي أعنتك على طلبه
قال رؤية:. . . فاذكر بخير وابغني ما ينبغي. . . أي اصنع
بي ما ينبغي أن يصنع. ذكره الزمخشري. قال ابن حجر: والأول
أليق بالقياس وأوفق في المذاق وقال الزركشي الأول هو
المراد بالحديث قال تعالى {يبغونكم الفتنة} أي يطلبونها
لكم (الضعفاء) من يستضعفهم الناس لفقرهم ورثاثتهم. قال
القاضي: أي اطلبوا لي وتقربوا إلي بالتقرب إليهم وتفقد
حالهم وحفظ حقوقهم والإحسان إليهم قولا وفعلا واستنصارا
بهم. قال الراغب: والضعف يكون في البدن وفي النفس وفي
الحال وهو المراد هنا (فإنما ترزقون) تمكنون من الانتفاع
بما أخرجنا لكم (وتنصرون) تعانون على عدوكم ويدفع عنكم
البلاء والأذى. قال القاضي: والنصرة أخص من المعونة
لاختصاصها بدفع الضر. قال الحراني والنصر لا يكون إلا لمحق
وإنما لغير المحق الظفر والانتقام (بضعفائكم) بسبب كونهم
بين أظهركم أو بسبب رعايتكم ذمامهم أو ببركة دعائهم
والضعيف إذا رأى عجزه وعدم قوته تبرأ عن الحول والقوة
بإخلاص واستعان بالله فكانت له الغلبة وكم من فئة قليلة
غلبت فئة كثيرة بإذن الله بخلاف القوي فإنه يظن أنه إنما
يغلب الرجال بقوته فتعجبه نفسه غالبا وذلك سبب للخذلان كما
أخبر الله تعالى عن بعض من شهد وقعة حنين وفي رواية (في
ضعفائكم) وفي أخرى (في الضعفاء) بزيادة في. قال الزين
العراقي: والذي وقع في أصول سماعنا من كتاب الترمذي:
(أبغوني في ضعفائكم) وهو عند أبي داود والنسائي بإسقاط حرف
الجر: ابغوني الضعفاء وفي مسند أحمد (ابغوني ضعفاءكم) وكذا
رواه الطبراني قال وهو أصح من الرواية المتقدمة والمعنى
اطلبوا لي ضعفاءكم انتهى. وفي طيه إعلام بإسقاط كلمة النصر
بالأسباب والعدة والعدد والآلات المتعبة الشاقة والاستغناء
بتعلق القلوب بالله تعالى فنصرة هذه الأمة إنما هي
بضعفائها لا بمدافعة الأجسام فلذلك افتتح المصطفى المدينة
بالقرآن ويفتح خاتمة هذه الأمة القسطنطينية بالتسبيح
والتكبير. قال بعض العارفين: ومن حكمته تعالى أنه أمر
بالعدة للعدو وأخذه بالقوة وأخبر أن النصر بعد ذلك يكون
بالضعفاء ليعلم الخلق فيما أمروا به من الاستعداد وأخذ
الحذر أن يرجعوا للحقيقة ويعلموا أن النصر من عند الله
يلقيه على يد الأضعف فالاستعداد [ص:83] للعادة والعلم بجهة
النصر في الضعيف للتوحيد وأن الأمر كله لله عادة وحقيقة
يدبره كيف شاء. قال الطيبي: وفيه نهي عن مخالطة الأغنياء
وتحذير من التكبر على الفقراء والمحافظة على جبر خواطرهم
ولهذا قال لقمان لابنه: لا تحقرن أحدا لخلقان ثيابه فإن
ربك وربه واحد. وقال ابن معاذ: حبك الفقراء من أخلاق
المرسلين وإيثارك مجالستهم من علامات الصالحين وفرارك منهم
من علامات المنافقين. وفي بعض الكتب الإلهية أوحى الله إلى
بعض أنبيائه احذر أن أمقتك فتسقط من عيني فأصب عليك الدنيا
صبا قالوا: خرج موسى يستسقي لبني إسرائيل في سبعين ألفا
بعد أن أقحطوا سبع سنين فأوحى الله إليه كيف أستجيب لهم
وقد أظلمت عليهم ذنوبهم سرائرهم ارجع إلى عبد من عبادي
يقال له برخ وقل له يخرج حتى أستجيب له فسأل عنه موسى فلم
يعرفه فبينا هو ذات يوم يمشي إذا بعبد أسود يمشي بين عينيه
أثر السجود في شملة عقدها على عنقه فعرفه بنور الله فسلم
عليه وقال: إنك طلبتنا منذ حين استسق لنا فخرج فقال في
كلامه: ما هذا فعالك وما هذا من حلمك وما الذي بدا لك
أنقصت غيوثك أم عاندت الرياح طاعتك أم نفد ما عندك أم اشتد
غضبك على المذنبين ألست كنت غفارا قبل خلق الخاطئين خلقت
الرحمة وأمرت بالعطف ترينا أنك ممتنع أو تخشى الفوت فتعجل
بالعقوبة فما برح حتى أخصبت بنو إسرائيل بالقطر وأنبت الله
العشب في نصف يوم قال حجة الإسلام فهذا عبد غلب عليه الأنس
فلم ينغصه خوف التغير والحجاب فأثمر نوعا من الانبساط وذلك
محتمل في مقام الأنس ومن لم يكن في مقامه وتشبه به هلك
فالله الله في نفسك <تنبيه> هذا الحديث وما على منواله: "
هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم " قد وقع التعارض ظاهرا
بينه وبين خبر مسلم " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من
المؤمن الضعيف وفي كل خير " وعند التأمل لا تدافع إذ
المراد بمدح القوة القوة في ذات الله وشدة العزيمة وبمدح
الضعف لين الجانب ورقة القلب والانكسار بمشاهدة جلال
الجبار أو المراد بذم القوة التجبر والاستكبار وبذم الضعف
ضعف العزيمة في القيام بحق الواحد القهار على أنه لم يقل
هنا أنهم ينصرون بقوة الضعفاء وإنما مراده بدعائهم أو
بإخلاصهم أو نحو ذلك مما مر
(حم م حب ك) كلهم في الجهاد وكذا ابن حبان والطبراني
والبيهقي (عن) حكيم هذه الأمة بنص المصطفى (أبي الدرداء)
بفتح المهملتين وسكون الراء واسمه عويمر مصغر عامر بن مالك
أو ابن عامر أو ابن ثعلبة أو غير ذلك قال الترمذي والحاكم
صحيح وأقره الذهبي. وفي الرياض إسناده جيد
(1/82)
59 - (أبلغوا) أوصلوا. قال القاضي البلوغ
الوصول إلى الشيء ويقال للدنو منه على الاتساع ومنه قوله
تعالى {فبلغن أجلهن} (حاجة من لا يستطيع) أي يطيق (إبلاغ
حاجته) بنفسه لي أو إلى ذي سلطان وهذا أمر ظاهره الوجوب
والترغيب فيه بالوعد بالثواب لا يصلح صارفا للندب. قال
جمع: ولا شك في الوجوب في زمنه لأن عدم ضجره وكثرة صبره
محقق وأما بعده فشرطه سلامة العاقبة. قال الراغب والحاجة
إلى الشيء الفقر إليه مع محبته قال الزمخشري: ما يحتاج
إليه ويطلب (فمن أبلغ سلطانا) أي إنسانا ذا قوة واقتدار
على إنفاذ ما يبلغه ولو غير ملك وأمير (حاجة من لا يستطيع
إبلاغها) دينية أو دنيوية (ثبت الله) دعاء أو خبر (قدميه)
أقرهما وقواهما (على الصراط) الجسر المضروب على متن جهنم
(يوم القيامة) لأنه لما حركهما في إبلاغ حاجة هذا العاجز
جوزي بمثلها وهي ثباتهما على الصراط يوم تزل الأقدام وبه
يخرج الجواب عما قيل الجزاء من جنس العمل وفعل المبلغ
التبليغ فالمناسب أن يقال بلغت عنه وأصل الصراط الطريق
الخطر السلوك وهو كالطريق في التذكير والتأنيث وبينهما في
المعنى فرق لطيف هو أن الطريق كل ما يطرقه طارق معتادا كان
أو لا والسبيل من الطريق ما اعتيد سلوكه والصراط من السبيل
ما لا التواء فيه ولا اعوجاج فهو أخص الثلاثة والمراد به
هنا ما ينصب بين ظهراني جهنم يوم الجزاء وتحفه خطاطيف
وكلاليب [ص:84] تجري أحوال الناس معها في يوم القرار على
حسب مجراهم مع حقائقها ابتداء في هذه الدار ثم المراد
بالأفعال الواقعة في هذا الخبر وما قبله وبعده إيجاد
حقائقها على الدوام
(طب) وكذا أبو الشيخ [ابن حبان] (عن أبي الدرداء) وفيه
إدريس بن يوسف الحراني. قال في اللسان عن ذيل الميزان: لا
يعرف حاله. ثم إن المؤلف تبع في عزوه للطبراني الديلمي.
قال السخاوي: وهو وهم والذي فيه عنه بلفظ " رفعه الله في
الدرجات العلى في الجنة " وأما لفظ الترجمة فرواه البيهقي
في الدلائل عن علي وفيه من لم يسم انتهى. فكان الصواب عزوه
للبيهقي عن علي
(1/83)
60 - (ابنوا المساجد) ندبا (واتخذوها) أي
اجعلوها قال الحراني من الاتخاذ افتعال مما منه المؤاخذة
كأنه الوخذ وهو تصير في المعنى نحو الأخذ في الحس (جما)
بضم الجيم وشد الميم أي اجعلوها ندبا بلا شرف جمع أجم وهو
ثور أو كبش بلا قرن فأطلق القرون على الشرف مجازا. قال
الزمخشري: من المجاز حصن أجم لا شرف له وقرية جماء وابنوا
المساجد جما فيكره اتخاذ الشرف لأنه من الزينة المنهي عنها
ومن المحدث: قال المقريزي في تذكرته: مات عثمان والمسجد
بلا شرافات وأول من أحدثها عمر بن عبد العزيز. قال
الشافعية: وتكره الصلاة في مسجد بشرف لما في سنن البيهقي
عن ابن عمر نهانا أو نهينا أن نصلي في مسجد مشرف وأخذ منه
كراهتها في المزوق والمنقوش بالأولى لما فيه من شغل قلب
المصلي ويحرم نقشه واتخاذ شرافات له من غلة ما وقف على
عمارته أو مصالحه
(ش هق) من حديث زهدم عن ليث بن أبي سليم عن أيوب (عن أنس)
بن مالك رمز المؤلف لحسنه هنا وصرح به في أصله فقال حسن
وليس كما ذكر فقد جزم الذهبي وغيره بأن فيه ضعفا وانقطاعا
فإنه لما ساقه البيهقي من سنن أبي داود بسنده استدرك عليه
فقال قلت هذا منقطع وتقدمه لذلك ابن القطان فقال ليث ضعيف
وفيه انقطاع وأطال في بيانه وأقره مغلطاي
(1/84)
61 - (ابنوا مساجدكم) أيها المسلمون (جما)
أي مجممة بلا شرف ولا يستقيم جعل المعنى غير مرتفعة نظرا
إلى أن المشرف يطلق أيضا على المطول لأنه إن أريد بالطول
الامتداد في الجهات الأربع فلا يقول به عاقل لأنه يرجع إلى
السعة وتوسيع المسجد مطلوب لا ينهى عنه وإن أريد الارتفاع
فهو مأذون فيه بنص الخبر الآتي " ارفع البنيان إلى السماء
وسل الله السعة " وأما ما قارنه قصد مباهاة فلا فرق في
منعه بين طويل وقصير (وابنوا مدائنكم) بالهمز وتركه قال
الكرماني والهمز أفصح جمع مدينة من مدن أقام وهي المصر
الجامع وقيل مفعلة من مدنت أي ملكت قال الجوهري سألت أبا
علي الفسوى عن همز مدائن فقال من جعله فعيلة همز ومن جعله
مفعلة لم يهمز (مشرفة) كمعظمة أي اجعلوها لمساكنها شرافات
أو اجعلوا لسورها ذلك أو اجعلوها مرتفعة ارتفاعا حسنا
مقتصدا محكما تحصينا لها من العدو وذلك لأن الزينة إنما
تليق بالمدن دون المساجد التي هي بيوت الله
(ش عن ابن عباس) رمز لحسنه
(1/84)
62 - (ابنوا المساجد) التي هي بيوت الله
قال الراغب: المسجد الموضع المعد للصلاة. وقال غيره: لما
كان السجود أشرف أفعال الصلاة لقرب العبد من ربه اشتق منه
اسم المكان فقيل مسجد ولم يقل مركع ثم إن العرف خصه
بالمكان المهيأ للصلوات الخمس فخرج نحو مصلي العيد ومدرسة
ورباط فلا يعطى حكمه لاعدادها لغير ذلك (وأخرجوا القمامة
منها) بضم القاف الكناسة. قال الزمخشري تقول بيت مقموم
وقممته بالمقمة أي المكنسة وينادى بمكة على المكانس المقام
(فمن بنى لله تعالى) أي لأجله ابتغاء لوجهه (بيتا) مكانا
يصلى فيه وتقييد البعض بالجماعة غير معتبر (بنى الله له
بيتا في الجنة) سعته كسعة المسجد عشر مرات فأكثر كما يفيده
التنكير الدال على التعظيم: {من جاء بالحسنة [ص:85] فله
عشر أمثالها} وإسناد البناء إليه سبحانه مجاز. قال الحافظ
العراقي: ولا بد لحصول هذا الثواب من اسم البناء فلا يكفي
جعل الأرض مسجدا بدونه ولا نحو تحويطه بطين أو تراب ولا
يتوقف حصوله على بنائه بنفسه بل أمره كاف والأوجه عدم دخول
الباني لغيره بأجرة وقضية إناطة الحكم بالبناء عدم حصوله
لمن اشترى بناء ووقفه مسجدا والظاهر خلافه اعتبارا بالمعنى
انتهى. وتبعه تلميذه ابن حجر. قال الراغب: والبناء اسم لما
يبنى. وقال الزمخشري: مصدر سمى به المبني بيتا أو قبة أو
خباء ومنه بنى على امرأته لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا
عليها خباء جديدا والبيت مأوى الإنسان بالليل ثم قيل من
غير اعتبار الليل فيه وجمعه أبيات وبيوت لكن البيوت
بالمسكن أخص والأبيات بالشعر أخص ويقع على المتخذ من حجر
ومدر وصوف ووبر وبه شبه بيت الشعر ويعبر عن مكان الشيء
بأنه بيته. ولما قال المصطفى ذلك قالوا: يا رسول الله وهذه
المساجد التي تبنى في الطريق؟ قال: " نعم " هكذا هو ثابت
في رواية من عزى المؤلف له الحديث ثم لما ذكر جزاء البناء
عقبه بذكر جزاء إخراج القمامة على طريق اللف والنشر فقال
(وإخراج القمامة) أي الزبالة (منها مهور الحور العين) أي
نساء الجنة النجل العيون السود الحدق سمين به لأنهن يشبهن
الظباء يعني له بكل مرة من كنسها حوراء في الجنة فمن كثر
كثر له ومن قلل قلل له وهل يدخل الكناس بأجرة أو بمعلوم
قياس ما تكرر فيما قبله عدم دخوله والظاهر أنه يشترط لحصول
ذلك قصد الامتثال. " والحور " جمع حوراء قال الزمخشري
الحور البياض " والعين " جمع عيناء وهي النجلاء العين في
حسن وسعة وفيه ندب بناء المساجد. قال النووي: ويدخل فيه من
عمره إذا استهدم فيتأكد بناءه وعمارته وإصلاح ما تشعب منه
ويسن بناؤه في الدور والمراد بها كما قال ابن دقيق العيد
القبائل. وفيه ندب كنسه وتنظيفه وتحريم تقذيره حتى بطاهر
لأنه استهانة به <فائدة> أخرج أبو الشيخ [ابن حبان] من
مسند عبيدة بن مرزوق كانت امرأة بالمدينة تقم المسجد فماتت
فلم يعلم بها المصطفى فمر على قبرها فقال: ما هذا؟ قالوا
أم محجن. قال: التي كانت تقم المسجد؟ قالوا: نعم فصف الناس
فصلى عليها ثم قال: أي العمل وجدت أفضل؟ قالوا: يا رسول
الله أتسمع؟ فقال: ما أنتم بأسمع منها. ثم ذكر أنها
أجابته: قم المسجد
(طب) وكذا ابن النجار (والضياء) المقدسي (في) كتاب
الأحاديث (المختارة) مما ليس في الصحيحين (عن أبي قرصافة)
بكسر القاف وفاء مخففة الكناني واسمه جندرة بن خيشنة نزل
عسقلان روت عنه ابنته. رمز المؤلف لصحته. وإن تعجب فعجب
رمزه مع حكم الحافظ المنذري بضعفه وإعلال زين الحفاظ
العراقي في شرح الترمذي له بأن في إسناده جهالة وقول
الحافظ الهيتمي وغيره في إسناده لكن المؤلف اغتر بتصحيح
الضياء
(1/84)
63 - (أبن) بفتح فكسر أمر من الإبانة أي
أبعد (القدح) بالتحريك الإناء الذي تشرب منه (عن فيك) عند
الشرب ندبا ولا تشرب كشرب البعير فإنه يتنفس عند الشرب فيه
(ثم تنفس) فإنه أحفظ للحرمة وأبعد عن تغير الماء وأصون عن
سقوط الريق فيه وأنفى عن التشبه بالبهائم في كرعها فالتشبه
بها مكروه شرعا وطبا لكن هنا شيء ينبغي التفطن له وهو أن
الأمر بالإبانة إنما هو فيمن لم يرو من نفس واحد بغير عب
ذكره في المطلب والمفهم
(هـ سموية) بفتح المهملة وشد الميم مضمومة ومثناة تحت
مفتوحة وهو أبو بشر العبدي الفقيه الأصبهاني. قال ابن أبي
حاتم ثقة مأمون وأبو نعيم من الحفاظ الفقهاء (في فوائده)
الحديثية (هب) كلاهما (عن أبي سعيد) الخدري. رمز المؤلف
لحسنه وفيه أمران: الأول أنه يوهم أنه لا يوجد مخرجا في
أحد دواوين الإسلام الستة وإلا لما عدل لعزوه لسمويه لما
مر عنه ولقول مغلطاي كغيره لا يجوز لحديثي أن يعدل عن
الستة ويعزو حديثا لغيرها مع وجوده في شيء منها إلا إن كان
فيه زيادة أو نحو ذلك مع أن هذا الحديث رواه مالك في
الموطأ والترمذي في الأشربة عن أبي سعيد المذكور وصححه
ولفظهما: " نهى عن [ص:86] النفخ في الشراب فقال رجل:
القذاة أراها في الإناء؟ قال: أهرقها قال: فإني لا أروى في
نفس واحد؟ قال: أبن القدح عن فيك ثم تنفس " انتهى. ورواه
أيضا كذلك البيهقي في الشعب. الثاني أن رمزه لحسنه يوهم
أنه غير صحيح وهو غير صحيح بل صحيح كيف هو من أحاديث
الموطأ الذي ليس بعد الصحيحين أصح منه. وقال الترمذي: حسن
صحيح وأقره عليه النووي وغيره من الحفاظ
(1/85)
64 - (ابن آدم) منادى محذوف الأداة والابن
من البناء لأنه مبني من أبيه ولذلك ينسب المصنوع لصانعه
فيقال ابن حرب وبنت فكر وآدم أبو البشر قال القاضي والمراد
من ابن آدم آدم وأولاده فكأنه صار اسما للنوع كالإنسان
والبشر وصدر به تنبيها للمنادى ليقبل بكليته على ما يلقى
إليه (أطع ربك) مالكك الذي رباك بأنواع نعمه وصنوف كرمه
ففي ذكره دون غيره تقريع للمكلف وتذكير بآلاء الله عليه
(تسمى) أي تستحق أن تسمى (عاقلا) كامل العقل (ولا تعصه
فتسمى جاهلا) لأن ارتكاب المعاصي مما يدعو إليه السفه
والجهل لا مما تدعو إليه الحكمة والعقل ومن ركب متن
العصيان هو الجاهل السفيه عند أهل الإيمان. العاقل من أطاع
الله وإن كان دميم المنظر رث الهيئة. والجاهل من عصاه وإن
كان جميل المنظر شريف المنزلة حسن الزي فصوحا نطوقا. روى
الحكيم الترمذي عن أبي الدرداء قال: قال لي رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: يا عويمر ازدد عقلا تزدد من ربك
قربا. قلت: من لي بالعقل؟ قال: اجتنب مساخط الله وأد
فرائضه تكن عاقلا. ثم تنفل بصالحات الأعمال تزدد في الدنيا
عقلا ومن ربك قربا وغلبة وعزا " قال الحكيم: وإنما سمي
العقل عقلا لأن الجهل ظلمة وعمله على القلب فإذا غلب نوره
العقل وبصره في تلك الظلمة وأبصر صار عقالا للجهل. قال
الغزالي فالقردة والخنازير أعظم عند الله ممن عصاه. فلا
تغتر بتعظيم أهل الدنيا إياهم فإنهم من الخاسرين. وقال
الزمخشري: من تضرر من مشقة صرف ساعة للطاعة فوقع بسبب ذلك
التضرر في مشقة الأبد كان من أجهل الجاهلين فإن العاقل من
قاده عقله إلى طاعة مولاه ولم يتابع نفسه وهواه:
ما تبلغ الأعداء من جاهل. . . ما يبلغ الجاهل من نفسه
وقال ابن القيم: مخالفة الرب تفسد العقل فإن للعقل نورا
والمعصية تطفئه وإذا طفئ نوره ضعف ونقص. ولهذا قال حكيم:
ما عصى الله أحد حتى يغيب عقله إذ لو حضره عقله حجزه عن
العصيان وهو في قبضة الرب وتحت قهره وهو مطلع عليه وفي
داره وعلى بساطه وملائكته شهود عليه ناظرون إليه وواعظ
القرآن ينهاه وواعظ الإيمان بالموت والنار ينهاه فهل يقدم
على الاستخفاف بذلك والاستهانة به ذو عقل؟ وأخذ أقضى
القضاة الماوردي من الخبر أن من صرف فضل عقله إلى المكر
والدهاء والشر كزياد وأضرابه من دهاة العرب أن الداهية
منهم لا يسمى عاقلا لأن الخير والدين من موجبات العقل
وإنما هذا يسمى صاحب رواية ومكر ومن ثم لما عزله عمر قيل
له أعن موجدة أو جناية؟ قال: لا عن واحدة منهما إنما خفت
أن أحمل الناس على فضل عقله. أرأيت أن الشجاع إذا زاد على
حد الشجاعة نسب إلى التهور؟ والسخي إذا زاد على حد السخاء
نسب إلى التبذير؟ والعقل نور روحاني تدرك به النفس العلوم
وقيل قوة يتميز بها الحسن عن القبيح وقيل العلم بالمدركات
الضرورية وقيل غيرها ومحله القلب أو الدماغ
(حل) من حديث علي بن زياد المتوتى عن عبد العزيز بن أبي
رجاء عن سهل عن أبيه (عن أبي هريرة وأبي سعيد) الخدري. ثم
قال: غريب انتهى. وعبد العزيز قال في الميزان عن الدارقطني
متروك له مصنف موضوع. ثم ساق له منه هذا قال عقبة في
الميزان: هذا باطل وقد اقتصر المؤلف على الرمز لتضعيفه
وكان الأولى حذفه
(1/86)
65 - (ابن آدم عندك ما يكفيك) أي يسد حاجتك
(وأنت تطلب) أي تحاول أخذ (ما يطغيك) أي يحملك على الظلم
ومجاوزة الحدود الشرعية: {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى}
فإذا كان عندك ما يكفيك حالا فاشكر نعمة ربك ولا تطلب
[ص:87] زيادة تطغيك (ابن آدم لا بقليل تقنع) أي ترضى لفقر
نفسك إلى الزيادة. " والقناعة " الرضا بما قسم وتطلق على
الاكتفاء بقدر الضرورة وهو معنى قولهم القناعة الرضا
باليسير. ولعل المراد هنا بقوله: " تقنع " لا بقيد القلة
وإلا لكفى أن يقول لا تقنع ونكتة قصر القناعة على الرضا
والنص على لفظ القلة معه رعاية الطباق بين القلة والكثرة
المذكورة بقوله (ولا من كثير تشبع) وهو من أنواع البديع
المستحسنة والباء في " بقليل " للمصاحبة ومن في " من كثير
" بمعنى الباء ثم لما نعى عليه حاله وذم إليه خصاله حثه
على الزهادة وبين له أن الكفاف مع الصحة والأمن محصل للغرض
وزيادة فقال: (ابن آدم إذا أصبحت) أي دخلت في الصباح
(معافى) أي سالما من الأسقام والآثام ومن قصره على الأول
فقد قصر. والعافية السلامة ودفع البلاء والمكروه (في جسدك)
بدنك. قال الراغب: والجسد كالجسم لكنه أخص فلا يقال الجسد
لغير الإنسان أو الجسد يقال لما له لون والجسم لما لا يبين
له لون كالماء والهواء (آمنا) بالمد وكسر الميم (في شربك)
بكسر فسكون نفسك أو بفتح فسكون مذهبك ومسلكك أو بفتحتين
بيتك (عندك قوت يومك) ما يقوم بكفايتك في يومك وليلتك وخص
اليوم لأنه يستتبعها أو لأن الليل غير محل للاقتيات. قال
في الصحاح: القوت ما يقوم به البدن وفي المفردات ما يمسك
الرمق (فعلى الدنيا العفا) بفتح المهملة والفاء كسماء
الهلاك والدروس وذهاب الأثر. قال الزمخشري: ومنه قولهم
عليه العفاء إذا دعا عليه لعفو أثره. والمعنى إذا كنت كذلك
فقد جمع الله لك ما تحتاجه من الدنيا فدع عنك ما عداه
واشتغل بما يقربك إلى الله. قال الغزالي: مهما تأملت الناس
كلهم وجدتهم يشكون ويتألمون من أمور وراء هذه الثلاث مع
أنه وبال عليهم ولا يشكرون نعمة الله فيها. ومر سليمان
عليه السلام على بلبل بشجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه. فقال:
أتدرون ما يقول. قالوا: الله ونبيه أعلم. قال: يقول: أكلت
نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء. وصاحت فاخية فأخبر أنها
تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا. وقال صالح بن جناح لابنه:
إذا مر بك يوم وليلة وقد سلم فيهما دينك ومالك وبدنك
وعيالك فأكثر الشكر لله. فكم من مسلوب دينه ومنزوع ملكه
ومهتوك ستره ذلك اليوم وأنت في عافية ومن هنا نشأ زهد
الزاهدين فاستراحت قلوبهم بالزهد وانكفوا بالورع عن الكد
وتفرغت قلوبهم وأعمالهم لبذل الجد في سبيل الحمد وميز
القريب من البعيد والشقي من السعيد والسادة من العبيد وهذا
هو المهيع الذي قبض بسطة وجوه القلوب فلم يبق للعاقل حظ
فيما زاد على كسرة تكسر شهوته وسترة تواري عورته وما زاد
متجر إن أنفقه ربحه وإن ادخره خسره. وفيه حجة لمن فضل
الفقر على الغنى. وقد أفاد مطلع الحديث أن الصحة نعمة عظيم
وقعها جزيل نفعها بل هي أجل النعم على الإطلاق وفي إشعاره
إعلام بأن العالم ينبغي له أن لا يغفل عن وعظ الناس إذ
الإنسان لما جبل عليه من الغفلات لا بد له من ترغيب يشده
وترهيب يرده ومواعظ ترققه وأعمال تصدقه وإخلاص يحققه
لترتفع أستار الغفلة عن عيون القلوب وتكتسب الأخلاق
الفاضلة لتصقل الصداء عن مرائي النفوس ولقد هز القلوب بحسن
هذا النظم وبلاغة تناسبه وبداعة ربطه وبراعة تلاحمه: {إن
في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}
(عد هب) وكذا الخطيب وأبو نعيم وابن عساكر وابن النجار (عن
ابن عمر) بن الخطاب ونقله عن ابن عدي وسكوته عليه يوهم أنه
خرجه وسلمه والأمر بخلافه. بل قال أبو بكر الداهري أحد
رجاله كذاب متروك. وقال الذهبي: متهم بالوضع وهكذا هو في
مسند البيهقي وذكر نحوه الحافظ ابن حجر فكان ينبغي حذفه
(1/86)
66 - (ابن أخت القوم منهم) لأنه ينسب إلى
بعضهم وهي أمه فهو متصل بأقربائه في كل ما يجب أن يتصل به
[ص:88] كنصرة ومشورة ومودة وإفشاء سر ومعونة وبر وشفقة
وإكرام ونحو ذلك. قال الطيبي: فمن اتصالية. ومن هذا
التقرير تبين أنه لا حجة فيه لمن قال بتوريث ذوي الأرحام.
قال ابن أبي جمرة: وحكمة ذكر ذلك إبطال ما كان عليه أهل
الجاهلية من عدم الالتفات إلى أولاد البنات فضلا عن أولاد
الأخوات حتى قال قائلهم:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا. . . بنوهن أبناء الرجال
الأباعد
فقصد بالحديث التحريض على الألفة بين الأقارب. قال بعض
الأعاظم: ومما يدل على أن الحديث ليس على عمومه أنه لو كان
عاما جاز أن ينسب إلى خاله مثلا وكان معارضا للحديث
الصحيح: " من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه
فالجنة عليه حرام " إلى غير ذلك من الأحاديث المصححة
المصرحة بالوعيد الشديد على ذلك فعلم أنه خاص وأن المراد
به أنه منهم في الصلة والمعونة والمدافعة عنه. والابن من
البناء لأنه مبنى أبيه كما مر. والأخت تأنيث الأخ وجعل
التاء فيها كالعوض من المحذوف منه وهو الواو إذ أصله أخو
(حم ق ت ن عن أنس) بن مالك (د) وكذا أحمد والطبراني (عن
أبي موسى) الأشعري (طب) وكذا الضياء في المختارة (عن جبير)
بضم الجيم مصغرا (ابن مطعم) بضم الميم وسكون الطاء وكسر
العين وبكسر الميم وكسر المهملة الثانية حكاه الكرماني وهو
ابن عدي ابن نوفل القرشي من سادات قريش وأعاظمها. أسلم يوم
حنين أو يوم الفتح وحسن إسلامه وكان حليما وقورا سيدا سندا
(وعن ابن عباس) ترجمان القرآن (وعن أبي مالك) كعب بن عاصم
أو عبيد أو عمرو أو الحارث (الأشعري) صحابي مشهور يعد في
الشاميين ورواه أيضا أبو يعلى والحاكم وزاد بيان السبب وهو
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: " اجمع لي من هنا
من قريش فجمعهم ثم قال: أتخرج إليهم أم يدخلون؟ قال: أخرج
فخرج فقال: يا معشر قريش هل فيكم من غيركم قالوا: لا إلا
ابن أختنا فذكره. ثم قال: يا معشر قريش إن أولى الناس بي
المتقون فانظروا لا يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة
وتأتون بالدنيا تحملونها فأصد عنكم بوجهي " قال أبو
البقاء: في من وجهان أحدهما زائدة والتقدير هل فيكم غيركم.
الثاني صفة لموصوف محذوف أي أحد من غيركم كقوله تعالى:
{ومن أهل المدينة مردوا على النفاق} أي قوم مردوا على كل
فالكلام تام وقولهم في الجواب إلا ابن أختنا يجوز رفعه على
البدل ونصبه على الاستثناء
(1/87)
67 - (ابن السبيل) أي المسافر والسبيل
الطريق. قال في الكشاف: يذكران ويؤنثان سمي به للزومه له
(أول شارب) من الشرب. قال الراغب: هو تناول كل مائع أو
غيره قال مخرجه الطبراني وتبعه المؤلف (يعني) هو مقدم على
المقيم من شربه (من) ماء بئر (زمزم) أي عند الازدحام
لمقاساة المشاق وضعفه بالاغتراب واحتياجه إلى إبراد حر
فراق الأحباب وظاهر قوله " من زمزم " أن هذه الأولية من
خصائصها ولا كذلك ففي خبر البيهقي " ابن السبيل أحق بالماء
والظل من الباني عليه " قال ابن الأثير: أراد أن ابن
السبيل إذا مر بركية عليها قوم مقيمون فهو أحق بالماء منهم
لأنه مجتاز وهم مقيمون. وأخرج البيهقي عن الحسن أن رجلا
أتى أهل ماء فاستسقاهم فلم يسقوه حتى مات عطشا فأغرمهم عمر
ديته
(طس عن أبي هريرة) قال الهيتمي: رجاله ثقات وحينئذ فرمز
المؤلف لحسنه تقصير وحقه الرمز لصحته
(1/88)
68 - (أبو بكر) عبد الله أمير الشاكرين
أفضل من طلعت عليه الشمس بعد الأنبياء وفاقا من أهل السنة
وإلزاما للشيعة بما في الصحيح عن علي كرم الله وجهه أنه
خير الناس. أسلم وأبوه وابنه وحفدته ولم يسجد لصنم قط ولا
شرب خمرا [ص:89] وحديث أنه شربها قبل تحريمها وقعد ينوح
على قتلى بدر فنزلت آية التحريم باطل ولهذا كانت عائشة
تدعو على من ينسبه إليه:
تحيا بالسلامة أم بكر. . . فهل لي بعد قومي من سلام
وتقول: والله ما قاله. ومن ثم قال الأشعري: لم يزل بعين
الرضا وإنما ذكره بكنيته لأن اشتهاره بها أكثر (وعمر)
الفاروق ذو المقام الثابت المأنوق الذي أعز الله به دعوة
الصادق المصدوق وفرق به بين الفصل والهزل وأظهر نواميس
الفضل والعدل وأيد بما قواه به من لوامع الطول المديد
شواهق التوحيد فظهرت الدعوة ورسخت الكلمة بما منحه الله من
الصولة حتى شيدت الدولة (سيدا كهول أهل الجنة) يعني الكهول
عند الموت لأنه ليس في الجنة كهل إذ هو من ناهز الأربعين
وخطه الشيب وأهل الجنة في سن ثلاث وثلاثين فاعتبر ما كانا
عليه عند فراق الدنيا ودخول الآخرة كذا قرره القرطبي وغيره
وهو غير قويم إذ لو اعتبر ما كانا عليه عند الموت لما قال
كهول بل شيوخ لأنهما ماتا شيخين لا كهلين فالأولى ما صار
إليه بعضهم من أن المراد بالكهل هنا الحليم الرئيس العاقل
المعتمد عليه يقال فلان كهل بني فلان وكاهلهم أي عمدتهم في
المهمات وسيدهم في الملمات على أن ما صار إليه أولئك من أن
الكهل من ناهز الأربعين غير متفق عليه ففي النهاية الكهل
من زاد عن ثلاثين إلى أربعين وقيل من ثلاث وثلاثين إلى
خمسين وفي الصحاح من جاوز الثلاثين وخطه الشيب نعم ذكر
الحراني أن الكهولة من نيف وأربعين إلى نيف وستين وعليه
يصح اعتبار ما كانا عليه قبل الموت (من الأولين والآخرين)
أي الناس أجمعين. وهذا إطناب أتي به لقصد التعميم ودخول
الكافة تحت حيطته إلا ما أخرجه بقوله (إلا) وفي رواية
لكثيرين ما خلا (النبيين والمرسلين) زاد في رواية " يا علي
لا يخبرهما " أي قبلي ليكون إخباري لهما أسر لهما لا أن
ذلك لخوف الفتنة عليهما فقد أخبرهما بما هو أعظم ولم
يفتتنا
(حم ق) في المناقب (هـ عن علي) قال الصدر المناوي سنده سند
البخاري (هـ عن أبي جحيفة) بضم الجيم وفتح المهملة وسكون
المثناة تحت وبالفاء السوائي بضم المهملة وخفة الواو
وبالمد واسمه وهب بن عبد الله أو وهب بن وهب بن سواء بن
عامر بن صعصعة ويقال له وهب الخير كان علي يحبه وولاه بيت
المال (ع والضياء) المقدسي (في المختارة عن أنس) بن مالك
(طس) وكذا الحاكم في تاريخه (عن جابر) بن عبد الله. قال
الهيتمي رواه عن شيخه المقدام بن داود وقد ضعفه النسائي
وبقية رجاله رجال الصحيح (وعن أبي سعيد) الخدري. قال
الهيتمي: فيه علي بن عابس وهو ضعيف. فرمز المؤلف لصحته
ينزل على الطريق الأول أو مراده المتن
(1/88)
69 - (أبو بكر وعمر مني بمنزلة السمع
والبصر من الرأس) أي هما مني في العزة كذلك أو هما من
المسلمين بمنزلة السمع والبصر من البدن أو منزلتهما في
الدين بمنزلتهما في البدن ويرجح الأخير بل تعينه رواية أبي
نعيم: " أبو بكر وعمر من هذا الدين كمنزلة السمع والبصر من
الرأس " قال القاضي: وإنما وصفهما بذلك لشدة حرصهما على
استماع الحق واتباعهما وشدة حرصهما على النظر في الآيات في
الأنفس والآفاق والتأمل فيها والاعتبار بها انتهى. وذلك
منه إشارة إلى وجه حكمة تخصيص السمع والبصر دون غيرهما من
الحواس والجوارح وقد عمل أبو بكر في الردة ما لم يلحقه فيه
أحد ولم يكن بعده ردة مثلها إلى الآن فبعلمه رد الله
الإسلام إلى الأمة فيا لها من فعلة توازي عمل الأمة. ومن
ثم وزن بهم فرجحهم أما علمت أن من سن سنة حسنة فله أجرها
وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ثم لم يجد مهلة حتى يمهد
الإسلام ويجلى غريبه ويوضع المعالم ويمصر الأمصار ففعل ذلك
عمر حتى ضرب الناس بعطن وأوسع منهل الدين وذلك ليس لأحد
إلى مثله من سبيل. وعثمان وإن كان أحيى الأمة وعلي وإن كان
أقضى الصحابة والأقضى كما قال السمهودي وغيره أعلم لكنهما
وجدا الأمر مفروغا منه فلم يبق إلا التمسك به فبذلك اتضح
قول الخبر هما مني بمنزلة السمع والبصر. " والبصر " إدراك
العين ويطلق على القوة الباصرة وعلى العضو وكذا السمع
(ع) وكذا الحاكم في تاريخه (عن [ص:90] المطلب) بفتح الطاء
المشددة (ابن عبد المطلب بن حنطب) بفتح المهملة وسكون
النون وطاء مهملة مفتوحة المخزومي روى عن أبيه وأبي هريرة.
وعنه ابناه. قال أبو زرعة: ثقة. وفي التقريب: صدوق كثير
التدليس (عن أبيه) عبد الله قال الذهبي: قيل له صحبة
ونفاها الترمذي. وقال في التقريب: مختلف في صحبته وله حديث
مختلف في إسناده وهو هذا (عن جده) حنطب بن الحارث بن عبيد
المخزومي أسلم يوم الفتح (قال) الحافظ أبو عمرو (بن عبد
البر) النمري في الاستيعاب: (وماله) حديث (غيره) . قال في
الإصابة: واختلف في إسناده اختلافا كثيرا انتهى. وفي أسد
الغابة حنطب هذا له حديث واحد إسناده ضعيف وهو هذا (حل)
وكذا ابن النجار (عن ابن عباس) وفيه الوليد بن الفضل عن
عبد الله بن إدريس. قال الذهبي في الضعفاء: مجهول واه (خط
عن جابر) ابن عبد الله لكن بلفظ " أبو بكر وعمر من هذا
الدين كمنزلة السمع والبصر من الرأس " ورواه الطبراني أيضا
قال الهيتمي ورجاله ثقات انتهى. فكان ينبغي للمؤلف عزوه
إليه
(1/89)
70 - (أبو بكر خير الناس) لفظ رواية من
عزاه له المؤلف: " أبو بكر خير الناس بعدي " وهكذا حكاه
عنهم في الكبير فسقط من قلم المؤلف لفظ بعدي وفي رواية: "
خير أهل الأرض " (إلا أن يكون) أي يوجد (نبي) فلا يكون خير
الناس يعني هو أفضل الناس إلا نبي والمراد الجنس. ويكون
هنا تامة ونبي مرفوع بها وجواب أن محذوف كما تقرر وهذه
البعدية رتبية ويمكن جعلها زمانية والاستثناء لإخراج عيسى
وكذا الخضر إن قلنا بما عليه الجمهور أنه نبي
(طب عد) وكذا الديلمي والخطيب عن عكرمة بن عمار بن إياس بن
سلمة (عن سلمة) بفتح المهملة واللام بن عمرو (بن الأكوع)
بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح الواو ومهملة واسم الأكوع
سنان أحد من بايع تحت الشجرة كان راميا مجيدا يسبق الفرس.
ثم قال مخرجه ابن عدي: هذا الحديث أحد ما أنكر على عكرمة.
وقال الهيتمي بعد عزوه للطبراني: فيه إسماعيل بن زياد
الأبلي ضعيف انتهى. وفي الميزان: تفرد به إسماعيل هذا فإن
لم يكن هو وضعه فالآفة ممن دونه
(1/90)
71 - (أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار) أي
الكهف الذي بجبل ثور حين الهجرة كما قال الله تعالى: {ثاني
اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله
معنا} قالوا: من أنكر صحبة الصديق كفر لإنكاره النص الجلي.
وفيه وما قبله جواز التكني بأبي فلان وإن لم يكن اسم ابنه
إذ لم يكن لأبي بكر ابن اسمه بكر ولا يشترط للجواز كونه ذا
ولد فقد كنيت عائشة بأم عبد الله ولم تلد وكنى المصطفى صلى
الله عليه وسلم الصغير فقال يا أبا عمير ما فعل النغير.
قال النووي في تهذيبه: ويستحب أن يكنى أهل الفضل من
العلماء وغيرهم والتكنية نوع تفخيم للمكنى وإكرام له ومن
ثم اختلف في حل كنية الكافر على أقوال ثالثها يجوز للذمي
لا الحربي. قال: ويحرم تكنية الإنسان بما يكرهه سواء كان
صفة له أو لأحد أصوله أو غير ذلك إلا إن تعين للتعريف وهل
الأفضل الاسم أو الكنية قولان في المطامح عن مالك. قال
الراغب: والصاحب الملازم إنسانا أو غيره زلا فرق بين كون
مصاحبته بالبدن وهو الأصل أو بالعناية والهمة ولا يقال
عرفا إلا لمن كثرت ملازمته <تنبيه> قضية تصرف المؤلف أن
سياق الحديث هكذا فحسب والأمر بخلافه بل سقط من قلمه بعضه
ولفظه عند مخرجه الذي عزاه إليه: " أبو بكر صاحبي ومؤنسي
في الغار فاعرفوا ذلك كله فلو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا
بكر خليلا " ثم قال: (سدوا كل خوخة) باب صغير (في المسجد)
النبوي صيانة له عن التطرق. وقال الزمخشري: الخوخة مخترق
بيتين ينصب عليهما باب. وقال مرة [ص:91] أخرى: الباب
الصغير على الباب الكبير. وقال ابن حجر: الخوخة طاقة في
الجدار تفتح للضوء ولا يشترط علوها وحيث تكون سفلى يمكن
الاستطراق منها لاستقراب الوصول إلى محل مطلوب وهو المقصود
هنا ولهذا أطلق عليها باب في بعض الروايات (غير) وفي رواية
البخاري " إلا " (خوخة أبي بكر) فلا تسد تكريما له وإظهارا
لتميزه بين الملأ. ثم هذه الكلمة إن أريد بها الحقيقة فذلك
لأن أهل المنازل الملاصقة للمسجد قد جعلوا لبيوتهم مخترقا
يمرون فيه إلى المسجد أو كوة ينظرون منها إليه فأمر بسدها
وترك خوخة أبي بكر إعظاما له ثم رمز للناس في ضمن ذلك إلى
شأن الخلافة وإن أريد بها المجاز فهو كناية عن الخلافة وسد
أبواب القالة دون التطرق إليها والتطلع نحوها. قال بعضهم:
والمجاز أقوى إذ لم يصح أن أبا بكر كان منزله بلصق المسجد
بل بعوالي المدينة فالقصد بالأمر بالسد سد طرق منازعته في
الخلافة على طريق الاستعارة. وتعقبه المحب الطبري بأنه كان
له أيضا دار بلصق المسجد كما رواه عمر بن شيبة في تاريخ
المدينة ثم إن ما ذكر عورض بما في عدة أخبار. قال ابن حجر
في موضع بأسانيد قوية وفي آخر برجال ثقات من الأمر بسد كل
باب في المسجد إلا باب علي وفي بعضها للطبراني: " قالوا:
يا رسول الله سددت أبوابنا فقال: ما أنا سددتها ولكن الله
سدها " ولأحمد والنسائي والحاكم: " سدوا هذه الأبواب إلا
باب علي فتكلم ناس في ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: إني والله ما سددت شيئا ولا فتحته ولكن أمرت بشيء
فاتبعته " قال ابن حجر: ورجال الكل ثقات وللطبراني عن ابن
سمرة " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب
كلها غير باب علي فربما مر فيه وهو جنب: وللنسائي من طريق
العلاء بن عرار قلت لابن عمر أخبرني عن علي وعثمان فذكر
الحديث وفيه: " وأما علي فلا تسأل عنه أحدا وانظر إلى
منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سد أبوابنا في
المسجد وأقر بابه " قال ابن حجر: ورجاله رجال الصحيح إلا
العلاء. وقد وثقه ابن معين وغيره قال: فهذه أحاديث كل طريق
منها صالح للاحتجاج فضلا عن مجموعها. وقد أورد ابن الجوزي
الحديث في الموضوعات بتوهمه معارضتها لحديث أبي بكر مع أنه
قد جمع منهم البزار والكلاباذي والطحاوي بأن سد الأبواب
وقع مرتين ففي الأولى استثنى باب علي لأن بابه كان إلى جهة
المسجد ولم يكن لبيته غيره فلما أمروا بسدها سدوها وأحدثوا
خوخا يستقربون الدخول للمسجد منها فأمروا بعد بسدها غير
خوخة أبي بكر
(عم) وكذا الديلمي وابن مردويه (عن ابن عباس) . قال في
الفتح: رجاله ثقات
(1/90)
72 - (أبو بكر مني وأنا منه) أي هو متصل بي
وأنا متصل به فهو كبعضي في المحبة والشفقة والطريقة أو هو
عندي بمكان جليل أو هو بمكان مني في المودة وأنا منه بمكان
فيها (وأبو بكر أخي) أي هو في القرب مني واللصوق بي كالأخ
من النسب وزاد قوله (في الدنيا والآخرة) إشارة إلى كمال
الارتباط وعدم الافتراق إلى الأبد وأصل الأخ المشارك في
الولادة والرضاع ويستعار لكل مشارك لغيره في فضيلة أو دين
أو صنعة أو معاملة أو مودة أو غير ذلك من المناسبات ذكره
الراغب. " والدنيا " تأنيث الأدنى " والآخرة " تأنيث الآخر
غلبتا على الدارين فجريا مجرى الأسماء
(فر عن عائشة) رمز لضعفه وليس يكفي منه ذلك بل كان ينبغي
حذفه إذ فيه عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة. قال الذهبي في
الضعفاء: كذبوه. وفي الميزان عن أبي حاتم: كان يكذب وعن
الدارقطني: يضع الحديث. ثم رأيت المؤلف نفسه تعقبه بذلك في
الأصل فقال فيه عبد الرحمن بن جبلة كذبوه
(1/91)
73 - (أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة
وعثمان) بن عفان (في الجنة) أمير المؤمنين وأمه بنت عمة
النبي صلى الله عليه وسلم وهو أصغر من النبي بست سنين. قال
ابن سيرين: كثر المال في زمنه حتى يبعث جارية بوزنها وفرس
بمئة ألف ونحلة بألف درهم ذبح صبرا في ذي الحجة سنة خمس
وثلاثين وله نيف وثمانون سنة وفضائله كثيرة (وعلي) بن أبي
طالب (في الجنة [ص:92] وطلحة) بن عبد الله التيمي (في
الجنة) قتل يوم الجمل ومناقبه ستجيء (والزبير) بن العوام
حواري رسول الله وابن عمته (في الجنة) كيف لا وهو أول من
سل سيفا في سبيل الله قبل بوم الجمل (وعبد الرحمن بن عوف)
ابن عبد عوف بن عبد الحارث (في الجنة) بدري ذو هجرتين صلى
النبي صلى الله عليه وسلم خلفه في غزوة تبوك. قال الزهري:
تصدق بأربعين ألف دينار وحمل على خمس مئة فرس في سبيل الله
وكان عامة ماله من المتجر ومرض عثمان فعهد له بالخلافة
فمات قبله عن خمس وسبعين سنة ونسبه ومن بعده إلى الأب دون
من قبله لأن لأولئك من كمال الشهرة ومزيد الرفعة ما يزيد
على غيرهم ولهذا كان أفضل العشرة الأربعة ثم طلحة والزبير
ثم بقية العشرة (وسعد بن أبي وقاص) مالك بن أهيب بن عيد
مناف بن زهرة (في الجنة) كيف لا وهو فارس الإسلام أسلم
سابع سبعة مات سنة خمس وسبعين (وسعيد بن زيد في الجنة) هو
العدوي من السابقين الأولين أسلم هو وزوجته فاطمة بنت
الخطاب قبل عمر مات سنة إحدى وخمسين (وأبو عبيدة) عامر بن
عبد الله (بن الجراح في الجنة) وهو أمين هذه الأمة قتل
أباه كافرا غضبا لله ولرسوله وقد سلك المصطفى صلى الله
عليه وسلم مسلك الإطناب حيث لم يقتصر على ذكر الجنة آخرا "
قصدا " للكشف بعد الكشف والإيضاح غب الإيضاح ردا على الفرق
الزائغة الطاغية الطاعنة في بعضهم. وكما يجب علي التبليغ
في مكان الإجمال والإيجاز أن يحمل ويوجز فكذا الواجب في
موارد التفصيل والإشباع أن يفصل ويشبع
يرمون بالخطب الطوال وتارة. . . وحي الملاحظ خفية الرقباء
قال بعض المحققين: والتبشير بالجنة لا يلزم منه الأمن من
البعد عن كمال القرب وإنما اللازم الأمن من النار على أن
الوعد لا يمنع الدهشة والحيرة والخوف عند الصدمة الأولى
ومن ثم كانوا باكين خاشعين خائفين من سوء العاقبة سائلين
العافية لاحتمالات باقية. فإن قلت: ينافي هذا الحديث ما في
مسلم في الفضائل عن سعد ما سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول لحي يمشي أنه في الجنة إلا لعبد الله بن سلام؟
قلت: لا منافاة لاحتمال أن حديثنا مما لم يسمعه سعد وسمعه
غيره. قال ابن جرير: وفيه جواز الشهادة بالجنة لغير نبي
وفساد قول من أنكر جوازها لأحد بعد النبي وما ورد في آثار
من النهي عنه إنما هو في غير من شهد الله ورسوله له بها.
قال: وقد ورد نص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بالبشارة والشهادة بالجنة لغير العشرة أيضا كالحسنين
وأمهما وجدتهما وجمع من الصحب أكثر من أن يحصوا انتهى.
فتبين أنه لا تدافع بين هذا وبين تبشير العشرة لأن العدد
لا ينفي الزائد ولأن العشرة خصوا بأنهم بشروا بها دفعة
واحدة وغيرهم وقع مفرقا وقد شهد الله لأهل بيعة الرضوان
بأنه رضي عنهم وهو بشارة بالجنة
(حم والضياء) المقدسي في المختارة وأبو نعيم وابن أبي شيبة
وغيرهم (عن سعيد بن زيد) بن عمرو بن نفيل (ت) وكذا أحمد
ولعله أغفله سهوا وأبو نعيم في المعرفة كلهم من حديث عبد
الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه (عن) جده
(عبد الرحمن بن عوف) الزهري وعبد الرحمن هذا تابعي ثقة
إمام وأبوه حميد أحد سادات التابعين ومشاهيرهم خرج لهما
الجماعة. قال ابن حجر: يكفي من مناقبه هذا الحديث الحسن
وحده فكيف مع كثرتها؟ ومن لطائف إسناده أنه من رواية الرجل
عن أبيه عن جده
74 - (أبو سفيان) بتثليث السين واسمه المغيرة (بن الحارث)
ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة وأكبر
ولد عبد المطلب كان يألف النبي صلى الله عليه وسلم قبل
البعثة فلما بعث عاداه وهجاه وصار من أشد الناس عليه ثم
أسلم عام الفتح وحسن إسلامه (سيد فتيان أهل [ص:93] الجنة)
أي شبابها الأسخياء الكرماء وهذا عام مخصوص بغير الحسنين
ونحوهما لأدلة أخرى توفي بالمدينة سنة عشرين وحفر قبره قبل
موته بثلاث سنين بنفسه (ابن سعد) في طبقاته (ك) في المناقب
(عن عروة) بضم أوله ابن الزبير ابن العوام تابعي كبير فقيه
مجمع على جلالته وإمامته وهو أحد الفقهاء السبعة صام الدهر
ومات وهو صائم سنة ثلاث أو أربع وتسعين (مرسلا) رواه ابن
سعد باللفظ المذكور بلفظ: " سيد فتيان أهل الجنة " فلعل
عروة سمعه مرتين ورواه الحاكم والطبراني موصولا بلفظ: "
أبو سفيان بن الحارث خير أهل الجنة " قال الحاكم على شرط
مسلم وأقره الذهبي
(1/91)
75 - (أتاكم) جاءكم أيها الصحابة وفي رواية
لمسلم " جاء " (أهل اليمن) أي طائفة منهم وهو وفد
الأشعريين ثم وفد حمير قدموا عليه بتبوك واليمن اسم لما عن
يمين القبلة من بلاد الغور (هم أضعف قلوبا) أعطفها وأشفقها
وفي رواية للشافعي: " ألين قلوبا " جمع قلب وهو القوة
المدركة أو العقل أو العضو يعني اللحم الصنوبري النابت
بالجنب الأيسر بناء على مذهب المتكلمين من أنه محل العلم
والقوة المدركة قائمة به لا بالدماغ (وأرق أفئدة) ألينها
وأسرعها قبولا للحق واستجابة للداعي لأنهم أجابوا إلى
الإسلام بدون محاربة للين قلوبهم بخلاف أهل المشرق فهو وصف
لهم بسلامة الفطرة إذ القلب القاسي لا يقبل الحق وإن كثرت
دلائله: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد
قسوة} ولا يقبل الآيات إلا من لان قلبه فهو إلى نظر ما في
الغيوب أقرب فهما في تفتيق خلال الحجب عن معرفة المراد "
والفؤاد " وسط القلب أو غشاؤه أو عينه وصفه بوصفين إشارة
إلى أن بناء الإيمان على الشفقة والرأفة على الخلق فمن كان
في هذه الصفة أصفى قلبا كان للحكمة أهلا والمراد باللين
خفض الجناح والاحتمال وترك الترفع إذ لا يظهر هذا الجلال
إلا فيمن لان قلبه وقد قال صلى الله عليه وسلم " أكمل
المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا " فنتج أن أهل اليمن أكمل
الناس إيمانا وأن الحكمة من أوصاف من كمل إيمانه. قال بعض
العارفين: وهذا مدح رفيع اختص به أهل اليمن وإنما يلين
القلب لرطوبة الرحمة لأن المعرفة لا ينالها عبد إلا برحمة
الله فإذا لان القلب برطوبة الرحمة ورق الفؤاد بحرارة
النور ضعف القلب وذبلت النفس فمن لان قلبه أجاب داعي
الإيمان بنور الرحمة الذي ناله ومن لم ينله قسا قلبه وعسر
انقياده كغصن شجرة يابسة إذا مددته تكسر انتهى. وهذه صفة
خواصهم دون عوامهم الذين أجابوا الأسود العنسي وطليحة
الأسدي لما ادعيا النبوة على أن أراد به في خصوص هذه
الرواية قوما بأعيانهم فأشار إلى من جاء منهم إلى بلدهم
كما ذكره ابن حجر. قال: وأبعد الحكيم الترمذي حيث زعم أن
المراد به واحد هو أويس القرني. ولما وصفهم بالعطف والشفقة
والرقة المقتضية لكمال الإيمان أشار إلى أن ثمرة ذلك الفهم
والحكمة بقوله (الفقه) أي الفهم في الدين أو أعم. قال
الراغب: " الفقه " التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص
من العلم: {ذلك بأنهم قوم لا يفقهون} (يمان) أي يمني
فالألف فيه عوض عن ياء النسبة (والحكمة) قال القاضي: هي
اشتغال النفس الإنسانية باقتباس النظريات وكسب الملكة
التامة والمداومة على الأفعال الفاضلة بقدر الطاقة البشرية
ولما لم يشمل تعريفه حكمة الله. قال بعض المحققين: الحكمة
العلم بالأشياء كما هي والعمل بها كما ينبغي. قال ابن حجر
أخذا من كلام النووي: والمراد بها هنا العلم المشتمل على
المعرفة بالله. وقال في موضع آخر: أصح ما قيل فيها أنها
وضع الشيء في محله (يمانية) بتخفيف الياء وتشدد كما قيل في
الاقتضاب وحكاه المبرد وغيره لغة نادرة فلما كانت قلوبهم
معادن الإيمان وينابيع الحكمة وكانت الخلتان منتهى هممهم
نسب الإيمان والحكمة إلى معادن نفوسهم ومساقط رؤسهم كنسبة
الشيء إلى مقره ومن اتصف بشيء نسب إليه إشعارا بكماله فيه
وإن شاركه غيره في ذلك الكمال. وقال ابن حجر: يحتمل أن
المراد أن الإيمان يتأخر باليمن بعد فقده من جميع الأرض
[ص:94] حتى تقبض الريح الطيبة أرواح المؤمنين وزعم أن
المراد هنا الأنصار لأنهم يمانية أصالة فنسب الإيمان
والحكمة إليهم رد بأن المخاطب بقوله: " أتاكم الصحب " كما
تقرر وجمهورهم أهل الحرمين وما حولهما فعلم أن المبشر بهم
غير المخاطبين
(ق ت عن أبي هريرة) وروياه عنه أيضا من وجه آخر بلفظ: " هم
أرق أفئدة وألين قلوبا الإيمان يمان والحكمة يمانية والفخر
والخيلاء في أصحاب الإبل والسكينة والوقار في أهل الغنم "
(1/93)
76 - (أتاني جبريل) كفعيل بالكسر وفيه نحو
عشرين وجها وهو سرياني معناه عبد الرحمن أو عبد العزيز كما
صح عن الحبر وإيل اسم الله عند الأكثر. قال البيهقي: واسمه
وإن كان أعجميا لكنه موافق لمعناه العربي إذ الجبر إصلاح
ما وهي وهو موكل بالوحي المصلح لما وهي من الدين (بالحمى)
باؤه للتعدية وهي حرارة بين الجلد واللحم والعظم أنواعها
متكثرة (والطاعون) بثرة مع لهب واسوداد من مادة سمية من
وخز الجن. قال الزمخشري: هو من الطعن لأنهم يسمون الطواعين
رماح الجن (فأمسكت) حبست (الحمى بالمدينة) النبوية لكونها
لا تقتل غالبا بل قد تنفع كما بينه ابن القيم. وهذا كان
أولا ثم لما رأى ما أصاب أصحابه حين هاجروا إليها من حماها
من البلاء والسقم دعى الله فنقلها إلى الجحفة حتى صارت لا
يمر بها طائر إلا حم وسقط كما يجيء لكن بقيت منها البقية
للتكفير كما يدل له خبر ابن ذبالة مرفوعا فإنه يؤذن كما
قال السمهودي ببقاء شيء منها بها كما هو الآن فالذي نقل
سلطانا أو أعيد الخفيف منها للتكفير (وأرسلت الطاعون إلا
الشأم) كالرأس همزا وتخفيفا وأنكر ابن الأثير المد يذكر
ويؤنث إقليم معروف عن شمال القبلة يشتمل على بلاد قاعدتها
دمشق سميت به لأن بأرضها شامات ملونة أو لكونها عن شمال
القبلة وزعم أنها سميت بسام بن نوح لكونه أول من اختطها
رده ابن جماعة بتصريح جمع بأنه لم يدخلها والله قادر على
تصوير المعاني المعقولة بهيئة الأجسام المشخصة وخص الشام
بإرساله لأنه كان بها في قصة الجبابرة مع موسى ولأنها أخصب
الأرض والخصب مظنة الآشر والنظر فجعل بها ليزجرهم عن
المنهيات ويقودهم للمأمورات وهذا لم يزل به سلطانها ومن ثم
قالوا لا طواعين كطواعين الشام (فالطاعون شهادة) أخروية
(لأمتي) أمة الإجابة (ورحمة لهم) أي مغفرة لذنوبهم ورفع
لدرجاتهم بشروط تأتي (ورجز) وفي رواية " رجس " أي عذاب نشأ
عن غضب. قال الزمخشري: من ارتجز اضطرب لما يلحق المعذب من
القلق والاضطراب (على الكافرين) وفي رواية " الكافر "
والمراد به الجنس ولكون هذا كالتتمة والرديف لما قبله لم
يراع تمام المقابلة بقوله " ونقمة لهم " قال ابن حجر: هذا
يدل على أنه اختارها على الطاعون وأقرها بالمدينة ثم دعا
الله فنقلها بالجحفة كما في الصحيحين وبقي منها بقية ولا
يعارضه الدعاء برفع الوباء عنها لندرة وقوعه فيها بخلاف
الطاعون لم ينقل قط أنه دخلها انتهى. وخص الجحفة بنقلها
إليها لأنها كانت مساجد اليهود واستشكل نقل الحمى إليها مع
جعلها ميقاتا للحج وأجيب بأنه لما علم من قواعد الشرع أنه
لا يأمر بما فيه ضرر وجب حمل ذلك على أنها انتقلت إليها
مدة مقام اليهود بها ثم زالت بزوالهم من الحجاز أو قبله
حين التوقيت بها
(حم وابن سعد) في الطبقات والطبراني والحاكم في الكنى
والبغوي والماوردي وأبو نعيم وابن عساكر (عن أبي عسيب)
بمهملتين كعظيم ويقال عصيب بصاد مهملة مولى المصطفى له
صحبة وسماع ورواية واسمه أحمد. قال الهيتمي: رجال أحمد
ثقات ولذلك رمز المؤلف لصحته
(1/94)
77 - (أتاني جبريل) لم يقل قال لي جبريل
إيذانا بأنه أمر يهتم به بحيث أتاه تلك المرة خصوص ذلك
القول اهتماما بشأنه فلم يكن ذكره له بطريق العرض في أثناء
حديث فاوضه فيه وفي رواية للبخاري: " عرض لي في جانب
[ص:95] الحرة (فقال: بشر أمتك) أمة الإجابة بقرينة ذكره
البشارة ولو قال قل لأمتك لصلح لإرادة العموم (أنه) أي
الشأن (من مات لا يشرك بالله شيئا) أي غير مشرك به شيئا
فهو نصب على الحال من ضمير مات واقتصر على نفي الشرك
لظهوره في ذلك الزمن والمراد مصدقا لما جاء به الشرع من كل
ما يجب الإيمان به إجمالا في الإجمالي وتفصيلا في التفصيلي
وجواب الشرط (دخل الجنة) أي عاقبة أمره دخولها وإن مات
مصرا على الكبائر ودخل النار (قلت يا جبريل) ناداه ليقبل
على استماع سؤاله فيجيبه ويتلذذ بذكر اسم الجبيب (وإن سرق
وإن زنى) أي أيدخل الجنة وإن سرق وإن زنى؟ ففيه استفهام
مقدر ووجه الاستفهام ما تقرر عنده قبل ذلك من الآيات
الواردة في وعيد أهل الكبائر بالنار فلما سمع أن من مات لا
يشرك بالله شيئا دخل الجنة أستفهم عن ذلك بقوله " وإن "
إلى آخره (قال نعم) يدخلها وإن فعل ذلك وإنما بشره جبريل
بذلك بأمر تلقاه عن ربه فكأنه تعالى قال له بشر محمدا أن
من مات من أمته لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة وإن وقع منه
ذلك ولهذا ترجم البخاري على هذا الحديث. باب كلام الرب مع
جبريل ثم أورده (قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم. قلت: وإن
سرق وإن زنى؟ قال: نعم) كرر الاستفهام استثباتا واشتياقا
واستعظاما لشأن الدخول مع مباشرة الكبائر أو تعجبا منه
واقتصر من الكبائر على ذينك لأن الحق إما لله أو للعباد
فأشار بالزنا إلى الأول وبالسرقة إلى الثاني وبين أن دخول
الجنة لا يتوقف على تجنبهما. قال السكي: وآثر ذكر السرقة
على القتل مع كونه أقبح لكثرة وقوعها وقلة وقوع القتل فآثر
ما يكثر وقوعه لشدة الحاجة للسؤال عنه على ما يندر. قال:
والأحاديث الدالة على دخول من مات غير مشرك الجنة يبلغ
القدر المشترك منها مبلغ التواتر وهي قاصمة لظهور المعتزلة
الزاعمين خلود أرباب الكبائر في النار ثم أكد جبريل ما
ذكره تتميما للمبالغة بقوله: (وإن شرب الخمر) فإن شربها لا
يمنعه من دخولها ونص عليه إشارة إلى نحوسة هذه الكبيرة
وفظاعتها لأنها تؤدي إلى خلل العقل الذي شرف به الإنسان
على غيره من الحيوان وبوقوع الخلل فيه يزول التوقي الحاجز
عن ارتكاب بقية الكبائر فأعظم به من مفسدة ومع ذلك يدخل
شاربه الجنة وفيه إشعار بأن مجيء جبريل وإخباره بذلك كان
بعد تحريمها
(حم ت) وقال صحيح (ن جب عن أبي ذر) الغفاري جندب بن جنادة
أو يزيد بن عبد الله أو زيد بن جنادة أو جندب بن عبد الله
أو جندب بن يشكر أو غير ذلك والأصح الأول من أكابر الصحابة
وأفاضلهم وقدمائهم
(1/94)
78 - (أتاني جبريل) وفي رواية عرض لي الظهر
(فبشرني) أخبرني بما يسرني بأن قال لي (من مات من أمتك لا
يشرك بالله شيئا) أي وشهد بأنك رسوله ولم يذكره اكتفاء
بأحد الجزأين عن الآخر لما مر (دخل الجنة) وإن لم يتب ولم
يعف عنه (فقلت: وإن زنى وإن سرق قال: وإن زنى وإن سرق)
وارتكب كل كبيرة واقتحم كل فجور فلا بد من دخوله إياها إما
ابتداء إن عفي عنه أو بعد دخوله النار حسبما نطقت به
الأخبار الدالة على أنه لا يبقى في النار موحد فالكبائر لا
تسلب الإيمان ولا تحبط الطاعة إذ لو كانت محبطة موازنة أو
غيرها لزم أن لا تبقى لبعض الزناة أو السراق طاعة والقائل
بالاحباط يحيل دخول الجنة وبما تقرر آنفا علم أن جواب أن
محذوف لدلالة الواو عليه لأنها ترد الكلام على أوله ولو
سقطت الواو لكان الزنا والسرقة شرطا في دخول الجنة فالمعنى
وإن زنى وإن سرق لم يمنعه ذلك من دخولها ثم إن في اختلاف
هذا الحديث وما قبله زيادة ونقصانا وتقديما وتأخيرا مع
اتحاد الصحابي إما لأنه سمعه من المصطفى مرتين كذلك [ص:96]
أو حكاه بلفظه مرة وبمعناه أخرى وسكت عن الخمر في إحدى
الروايتين سهوا أو لعروض شاغل (تتمة) سئل شيخ الطائفة
الجنيد: هل يسرق العارف؟ قال: لا قيل: فهل يزني؟ فأطرق
مليا ثم قال: {وكان أمر الله قدرا مقدورا} . <تنبيه> قال
بعض المحققين: قد تتخذ البطلة أمثال هذه الأخبار ذريعة إلى
طرح التكاليف وإبطال العمل ظنا أن ترك الشرك كاف وهذا
يستلزم طي بساط الشريعة وإبطال الحدود وأن الترغيب في
الطاعة والترهيب من المعصية لا أثر له فتفضي إلى الانخلاع
من الدين وانفكاك قيد الشريعة والخروج عن الضبط والولوج في
الخبط وترك الناس سدى هملا وذلك مفض إلى خراب الدنيا
والآخرة مع أن قوله في بعض طرق الحديث " أن تعبدوه ولا
تشركوا به شيئا " يتضمن اشترط العمل فيجب ضم بعض الأحاديث
إلى بعض فإنها كالحديث الواحد فيحمل مطلقها على مقيدها
انتهى. وهذه قعقعة لا حاجة إليها مع ما قررناه أنفا أن كل
من مات مؤمنا دخل الجنة فإن كان تائبا أو سليما من المعاصي
دخلها وحرم على النار وإلا فيقطع بدخوله الجنة آخرا وحاله
قبل ذلك في خطر المشيئة إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه كما
قال النووي أنه مذهب أهل السنة قال الطيبي: وهو قانون عظيم
في الدين وعليه مبني قواعد الجماعة أن الحسن والقبح شرعيان
وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
(ق عن أبي ذر) قال: واللفظ للبخاري. سببه " كنت أمشي مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرة بالمدينة فاستقبلنا
أحدا فقال: يا أبا ذر ما يسرني أن عندي مثل هذا ذهبا يمضي
علي ثلاث وعندي منه دينار إلا شيء أرصده لدين إلا أن أقول
به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وشماله وخلفه
ثم قال: مكانك لا تبرح حتى آتيك ثم انطلق في سواد الليل
حتى توارى فسمعت صوتا قد ارتفع فتخوفت أن يكون أحد عرض له
فأردت أن أتبعه فذكرت قوله لا تبرح فلم أبرح حتى أتاني
فقلت: سمعت صوتا تخوفت منه قال: وهل سمعته قلت: نعم قال:
ذاك جبريل أتاني " فذكره
(1/95)
79 - (أتاني جبريل) في حجة الوداع (فقال يا
محمد كن عجاجا) رافعا صوتك بالتلبية (ثجاجا) بالتشديد
فيهما سيالا لدماء الهدي بأن تنحرها أو المراد الأمر بالحج
نفسه أي حج الحج الذي فيه العج الثج وأراد بهما الاستيعاب
فابتدأ بالإحرام الذي هو الإهلال وختم بالتحلل الذي هو
إهراق دماء الهدي فاقتصر بالمبدأ والمنتهى عن جميع
الأعمال. والمعنى كن حاجا حجا تستوعب فيه جميع أعماله من
أركان وشروط وآداب. أفاده بعض الأعاظم
(حم والضياء) المقدسي وكذا الطبراني وابن لال والديلمي (عن
السائب بن خلاد) ابن سويد الخزرجي الكعبي المدني له صحبة
ولي إمارة اليمن لمعاوية. قال الهيتمي: فيه ابن اسحاق ثقة
لكنه مدلس
(1/96)
80 - (أتاني جبريل فقال يا محمد) صرح باسمه
تلذذا بذكره وتيمنا وإشعارا بكونه محمودا في الملأ الأعلى
(كن عجاجا بالتلبية) أي رافعا صوتك بقول لبيك اللهم لبيك
أي إجابة بعد إجابة ولزوما لطاعتك بعد لزوم فالتثنية
للتأكيد لا تثنية حقيقية وأصل التلبية إجابة النداء. وهي
من آداب الخطاب تدل على تعظيم الداعي في إجابته (ثجاجا
بنحر البدن) المهداة أو المجعولة أضحية " والعج " بفتح
المهملة وشد الجيم رفع الصوت بالدعاء أو غيره " والثج "
بفتح المثلثة وشد الجيم إراقة دم الذبيحة " والبدنة " من
الإبل والبقر كالأضحية من الغنم تهدى إلى مكة للذكر
والأنثى. وفيه كالذي قبله ندب رفع الصوت بالتلبية في النسك
للرجل لكن بحيث لا يتأذى ولا يؤذي وإلا كره لخبر: " اربعوا
(1) على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا " ويكثر منها
مادام محرما وتتأكد لتغاير الأحوال كصعود وهبوط واجتماع
وافتراق وبعد كل صلاة ولو نفلا وإقبال ليل أو نهار وتقتصر
المرأة والخنثى على إسماع نفسها فإن جهرت كره ولا يزيد على
تلبية المصطفى وهي: " لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك
لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " فإن زاد لم
[ص:97] يكره عند الشافعي (القاضي عبد الجبار) بن أحمد
الهمداني. قال الرافعي: ولي قضاء قزوين وغيرها واعتنى به
الصاحب ابن عباد وسأله تقليدا أطنب فيه كعادته وكان شافعيا
في الفروع معتزليا في الأصول وأملى عدة أحاديث وصنف كثيرا
في التفسير والكلام. قال الخليل: كنيت عنه وكان ثقة في
حديثه لكنه داع إلى البدعة لا تحل الرواية عنه. وقال
التوحيدي: خبيث المعتقد قليل اليقين انتهى. وبه ضعف الحديث
(في أماليه) الحديثية
(عن ابن عمر) بن الخطاب وكذا رواه عنه الإمام الرافعي في
تاريخ قزوين بإسناده ولو عزاه المؤلف إليه لكان أولى
_________
(1) [اربعوا: بهمزة وصل وفتح الباء كما في شرح مسلم
للنووي. دار الحديث]
(1/96)
81 - (أتاني جبريل فأمرني) عن الله تعالى
بدليل الرواية الآتية أمر ندب (أن آمر أصحابي ومن معي)
عطفه على أصحابه دفعا لتوهم أن مراده بهم من صحبه وعرف به
لطول ملازمته وخدمته دون من رافقه واتبعه وقتا ما فجمع
بينهما ليفيد أن مراده بهم من صحبه ولو في وقت حتى من لم
يره إلا مرة فالعطف لزيادة الاهتمام بشأن تعليمهم إذ من
قرب عهده بالإسلام أو بالهجرة أحق بتأكيد الوصية والتعريف
بالسنة والإعلام بالأحكام وأما الخواص فمظنة الإطلاع على
خفايا الشريعة ودقائقها واحتمال إرادة المعية في الدين
ساقط وفي رواية لمالك والشافعي أو من معي بأو بدل الواو شك
من الراوي وتجوز ابن الأثير كون الشك من النبي صلى الله
عليه وسلم لأنه نوع سهو ولا يعصم عنه ركيك متعسف (أن
يرفعوا أصواتهم بالتلبية) إظهارا لشعائر الإسلام وتعليما
للجاهل ما هو مندوب في ذلك المقام. قال ابن العربي: وذلك
أنهم كانوا يوقرون المصطفى ويمتثلون ما أمروا به من خفض
الصوت في التكبير والتسبيح في السفر فاستثنى لهم التلبية
من ذلك فصاروا يرفعون أصواتهم بها جدا روى ابن أبي شيبة
بإسناد صحيح كما في الفتح كان أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم وأخرج
أيضا بإسناد صحيح عن بكر المزني كنت مع ابن عمر فلبى حتى
أسمع ما بين الجبلين قالوا: ومعنى التلبية كما في حديث ابن
عباس وغيره إجابة دعوة إبراهيم حين أذن في الناس بالحج
فأجابوه وهم في الأصلاب والأرحام ومن لم يجبه لم يحج وفيه
مشروعية التلبية تنبيها على إكرام الله لعباده بأن وفودهم
على بيته إنما كان باستدعاء منه وقوله بالتلبية هي رواية
النسائي وفي رواية الترمذي وابن ماجه بدله بالإهلال ولأبي
داود بالتلبية أو بالإهلال يريد أحدهما
(حم 4 حب ك) وصححه (هق) وكذا مالك والشافعي والضياء في
الحج (عن السائب بن خلاد) بن سويد الخزرجي قيل بدري واعترض
قال الترمذي: حسن صحيح قال ابن العربي: هذا مع أنه رواه
موسى بن عقبة عن المطلب فربك أعلم فلذلك لم يدخله البخاري
في صحيحه وأدخل حديث أبي قلابة عن أنس وقال ابن حجر: رجاله
ثقات لكن اختلف على التابعي صحابيه
(1/97)
82 - (أتاني جبريل فقال لي: إن الله يأمرك
أن تأمر أصحابك) ندبا (أن) أي بأن (يرفعوا أصواتهم
بالتلبية فإنها من شعار الحج) أي من أعلامه وعلاماته
وأعماله الواحدة شعيرة أو شعارة بالكسر والمشاعر مواضع
النسك وقال الزمخشري أعلام الحج وأعماله وكما أنها من شعار
الحج هي من شعار العمرة واقتصر عليه لأنه قاله عند إحرامه
بحجة الوداع وأخذ أبو حنيفة بظاهر هذا الخبر وما قبله أن
الحج لا ينعقد بدون تلبية وسوق هدي وقياسا على الصلاة ورد
الشافعية الأول بأن الأمر للندب وإلا لزم الصوت والثاني
بأنه قياس مع وجود الفارق إذ القصد من الصلاة الذكر
(حم هـ حب ك) وكذا أبو يعلى وابن خزيمة والطبراني والبيهقي
والضياء (عن زيد بن خالد) الجهني
(1/97)
[ص:98] 83 - (أتاني جبريل فقال: إن ربي
وربك) المحسن إلي وإليك بجليل التربية المزكي لي ولك بجميل
التزكية وفي الإضافة تشريف أي تشريف وكما تفيد إضافة العبد
إليه سبحانه تشريفه فكذا إضافته إليه تعالى تفيده بل ذلك
أقوى إفادة (يقول لك) أطنب بزيادة لك لينبه على كمال
العناية ومزيد الوجاهة عنده والرعاية. وفي المعالم أن
النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن معنى ورفعنا لك
ذكرك فقال: قال الله لا أذكر إلا ذكرت معي فكأنه بعد
السؤال جاء وقال إن ربي وربك إلى آخره (تدري) مستفهم عنه
حذفت همزته تخفيفا لكثرة وقوعها في الاستفهام أي أتدري
(كيف رفعت ذكرك) أي على أي حال وكيفية رفعته إذ كيف اسم
مبهم يستفهم به عن الحال والرفع من الرفعة وهي الشرف
وارتفاع القدر والذكر إجراء اللفظ المعرب عن الشيء على
لسان المتكلم وهو بكسر الذال وهذا الكلام بعد السؤال عنها
من قبيل الانبساط مع المحبوب ولأجل زيادة التوجه والانتظار
قال: (قلت) في رواية فقلت: (الله أعلم) أي من كل عالم وفيه
رد على من كره أن يقال: والله أعلم مطلقا أو عقب ختم نحو
الدرس ولا إبهام فيه خلافا لزاعمه بل هو في غاية التفويض
المطلوب وحسبك في الرد عليه قوله سبحانه {الله أعلم حيث
يجعل رسالته} وقد قال الإمام علي كرم الله وجهه: وأبردها
على كبدي إذا سئلت عما لا أعلم أن أقول الله أعلم ولا
يعارضه ما في البخاري أن عمر سأل الصحب عن سورة النصر
فقالوا الله أعلم فغضب وقال قولوا نعلم أو لا نعلم لأنه
فيمن جعل الجواب له ذريعة إلى عدم إخباره عما سئل عنه وهو
يعلم (قال لا أذكر) مجهول المتكلم (إلا ذكرت) مجهول
المخاطب (معي) أي كثيرا أو عادة أو في مواطن معروفة كالخطب
والتشهد والتأذين فلا يصح شيء منها من أحد حتى يشهد أنه
رسوله شهادة تيقن وأي رفع أعظم من ذلك؟ وبتأمله يعرف
اندفاع الاستيعاب بأن الشهادة الثانية قد لا تذكر فتدبر
(ع حب) وابن عساكر والرهاوي في الأربعين (والضياء) المقدسي
(في) كتاب (المختارة) مما ليس في الصحيحين (عن أبي سعيد)
الخدري ورواه عنه الطبراني باللفظ المذكور قال الهيتمي:
وإسناده حسن
(1/98)
84 - (أتاني جبريل) قال في الربيع ويقال له
طاوس الملائكة وكان هذا الإتيان في المدينة كما ذكره ابن
الأثير (في خضر) بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين لباس
أخضر وروي بسكون الضاد ممدودا ذكره الهروي كالقاضي (تعلق)
بمثناة فوقية فمهملة فلام مشددة فقاف مفتوحات (به) أي
الخضر (الدر) بضم المهملة اللؤلؤ العظام أي جاءني في لباس
أخضر تعلق به اللؤلؤ العظام بأن تمثل له بتلك الهيئة
الحسنة وذلك المنظر البهيج البهي فكان يأتيه على هيئات
كثيرة ورآه مرتين بصورته الأصلية بست مئة جناح كل جناح يسد
ما بين الخافقين وكان يأتيه بصورة دحية وتمثل بمكة بصورة
فحل من الإبل فاتحا فاه ليلتقم أبا جهل. واختلف في هذه
التطورات فقيل إن الله يفني الزائد من خلقه وقيل مجرد
تخلييل للرائي وقيل بالتداخل وقال الراغب: والخضرة أحد
الألوان بين البياض والسواد إلى السواد أقرب فلهذا سمي
الأسود أخضر وعكسه وقيل سواد العراق للموضع الذي تكثر فيه
الخضرة فإن قلت: هل لتمثله له في لباس أخضر دون غيره من
الألوان من حكمة؟ قلت: أجل وهي الإشارة إلى أنه كثير الخير
والبركة وأن بينه وبينه مودة متأكدة وصداقة ثابتة وهي في
كل وقت متجددة وإن ذلك العام خصب وربيع ألا ترى إلى قول
الزمخشري من المجاز فلان أخضر كثير الخير والأمر بيننا
أخضر جديد لم يخلق والمودة بيننا خضراء؟ انتهى
(قط في) كتاب (الإفراد) وكذا أبو الشيخ [ابن حبان] في
العظمة (عن ابن مسعود) وضعفه
(1/98)
[ص:99] 85 - (أتاني جبريل فقال إذا توضأت)
من الوضاءة وهي الحسن والنضارة والوضوء بالضم الفعل
وبالفتح الماء الذي يتوضأ به وهل المراد أنه اسم للماء
مطلقا أو للمعد للوضوء أو لما استعمل في أعضائه؟ خلاف
(فخلل) ندبا مؤكدا (لحيتك) من التخليل وهو تفريق الشعر
ونحوه وأصله إدخال الشيء في خلال الشيء وهو وسطه فيندب
تخليل لحية الذكر الكثة والأفضل كونه بأصابع يمناه ومن
أسفل ونبه بذكر اللحية على ندب تخليل كل شعر يجب غسل ظاهره
فقط لكن يستثنى المحرم فلا يخلل إلا إن أمن انتتاف شيء من
شعره يقينا ويأتي إن شاء الله تعالى في عدة أحاديث ندب
تخليل أصابع اليدين والرجلين أيضا ويظهر أن تخليل اللحية
آكد لاختصاره عليها هنا
(ش) وكذا ابن عدي وغيره (عن أنس) رمز لحسنه وهو زلل فقد
قال ابن حجر بعد عزوه لابن أبي شيبة وابن ماجه وابن عدي في
إسناده ضعف شديد هذه عبارته وقال ابن الهمام وهو معلول لكن
يقويه بعض قوة ما رواه ابن منيع والديلمي عن أنس أيضا
أتاني جبريل فأمرني أن أخلل لحيتي عند الطهور وفيه الهيثم
بن حماد عن الرقاشي قال النسائي وغيره وهما متروكان قال
الكمال وللتخلل طرق منكرة عن أكثر من عشرة من الصحابة وبها
يتقوى
(1/99)
86 - (أتاني جبريل بقدر) أي بطعام في قدر
ويأتي في خبر أنه هريسة وهي لحم وقمح يطبخان معا كما في
الوشاح وزاد في رواية ذكرها في الأصل كغيره يقال لها
الكفيت بالتصغير والقدر بكسر فسكون إناء يطبخ فيه وهي
مؤنثة وتصغيرها قدير بلا هاء على غير قياس (فأكلت) أي فقال
كل فأكلت (منها) أي مما فيها وكان من طعام الجنة لما رواه
أبو نعيم في الطب بإسناد رواه عن معاذ قيل يا رسول الله هل
أتيت من طعام الجنة بشيء قال نعم أتاني جبريل بهريسة
فأكلتها فزادت قوتي قوة أربعين رجلا في النكاح (فأعطيت
قوة) أي قدرة (أربعين) فهي صدقة الاقتدار على الشيء والقوة
من أعلى صفات الكمال قال تعالى في صفة جبريل {ذي قوة} .
(رجلا) في بعض الروايات حذف المميز وهذه الرواية تفسره وفي
رواية زيادة من أهل الجنة والرجل الذكر من بني آدم وقد
يقال للجن أيضا بخلاف الملك فقد قال ابن حجر كبعض
المتقدمين الملائكة ليسوا ذكورا ولا إناثا فلا يقال لهم
رجال وأما الجن فيتوالدون فلا يمتنع أن يقال لهم رجال (في
الجماع) زاد أبو نعيم عن مجاهد وكل رجل من أهل الجنة يعطى
قوة مئة وصححه الترمذي وقال غريب وأربعون في مئة بأربعة
آلاف (فإن قلت) هل للتمدح بكثرة الجماع للنبي صلى الله
عليه وسلم من فائدة دينية أو عقلية لا يشاركه فيها غير
الأنبياء من البرية؟ قلت: نعم بل هي معجزة من معجزاته
السنية إذ قد تواتر تواترا معنويا أنه كان قليل الأكل إذ
الرحم يجذب قوة الرجل ولا يجبر ذلك النقص إلا كثرة الغذاء
فكثرة الجماع لا تجامع قلة الغذاء عقلا ولا طبا ولا عرفا
إلا أن يقع على وجه خرق العادة فكان من قبيل الجمع بين
الضدين وذلك من أعظم المعجزات فتدبر ثم رأيت بعضهم قال كان
النبي صلى الله عليه وسلم القوة الظاهرة على الخلق في
الوطء وكان له في الأكل القناعة ليجمع الله له الفضلين في
الأمور الاعتيادية كما جمع له الفضيلتين في الأمور الشرعية
ليكون كاملا في الدارين حائزا للفخرين (فإن قلت) إذا كان
الجماع مما يمتدح بكثرته فكان القياس أن لا يقتصر منهن على
تسع وقد كان لسليمان ألف حليلة وما من فضيلة أوتيها نبي
إلا وقد أوتي جامع الرسل مثلها أو أعلى؟ قلت: قلة عدد
النسوة مع كثرة الجماع أظهر في المعجزة لأن كثرته في
قليلهن أقوى من الكثير في الكثير بشهادة الوجدان قيل: وفيه
أن له الزيادة على تسع لأنه لما أعطي قوة ما ذكر من العدد
فله التزوج بقدر ما أعطي من القوة وليس في محله إذ العدد
القليل منهن يكفي العدد الكثير من الرجال ثم إنه لم يبين
هذا المأكول الذي في القدر وبينه في خبر الدارقطني عن جابر
وابن عباس [ص:100] مرفوعا: أطعمني جبريل الهريسة أشد بها
على ظهري وأتقوى بها على الصلاة انتهى قال الذهبي: وهو
واه. وقال بعضهم: ضعيف جدا بل ألف الحافظ ابن ناصر الدين
فيه جزءا ذكر فيه أنه موضوع سماه رفع الدسيسة عن أخبار
الهريسة <تنبيه> أخذ بعضهم من هذا الحديث أنه يندب للرجل
تناول ما يقوي شهوته للوقاع كالأدوية المقوية للمعدة لتعظم
شهوتها للطعام وكالأدوية المثيرة للشهوة ورده الغزالي بأن
المصطفى إنما فعل ذلك لأنه كان عنده منهن العدد الكثير
ويحرم على غيره نكاحهن إن طلقهن فكان طلبه القوة لهذا
المعنى لا للتلذذ والتنعم وبأنه لا يشتغل قلبه عن ربه بشيء
فلا تقاس الملائكة بالحدادين قال وما مثال من يفعل ما يعظم
شهوته إلا كمن بلي بسباع ضارية وبهائم عادية فينام عنه
أحيانا فيحتال لإثارتها وتهييجها ثم يشتغل بعلاجها
وإصلاحها فإن شهوة الطعام والوقاع على التحقيق آلام يراد
التخلص منها والتداوي لدفعها عند كمل المؤمنين وأساطين
المتقين ووجوه العارفين
(ابن سعد) في طبقاته (عن صفوان بن سليم) الزهري التابعي
(مرسلا) هو الإمام القدوة ممن يستشفى بذكره قيل لم يضع
جنبه الأرض منذ أربعين سنة ومناقبه سائرة والحديث وصله أبو
نعيم والديلمي من حديث صفوان عن عطاء عن أبي هريرة يرفعه
ورواه الخطيب وابن السني في الطب عن حذيفة مرفوعا ثم إن
فيه سفيان بن وكيع قال الذهبي عن أبي زرعة متهم بالكذب
وأورده ابن الجوزي في الموضوعات ونازعه المؤلف بما حاصله
أن له شواهد
(1/99)
87 - (أتاني جبريل في أول ما أوحي إلي)
وذلك عند انصرافه من غار حراء كما في الدلائل وغيرها
(فعلمني الوضوء) بالضم استعمال الماء في الأعضاء الأربعة
بالنية عند الشافعية وكذا بدونها عند الحنفية (والصلاة)
الأذكار المعروفة والأفعال المشهورة المفتتحة بالتكبير
المختتمة بالتسليم وأصلها الدعاء قال الله تعالى {وصل
عليهم} أي ادع لهم وفيما نقله الشرع إليه باشتمال على
الدعاء قال في الوفاء لم يذكر كيفية الصلاة في هذا الحديث
وقد ذكر في حديث البراء أنها ركعتان وهذه الصلاة كانت نفلا
لأن الخمس لم تفرض إلا ليلة الإسراء وقيل بل فرضت الصلاة
قبله ركعتين قبل غروب الشمس وركعتين قبل طلوعها ثم فرضت
الخمس ليلة الإسراء وهو مروي عن عائشة وغيرها وقيل بل
المراد بالصلاة هنا التهجد فإنه فرض عليه ثم نسخ قال
السهيلي: فالوضوء على هذا الحديث مكي بالفرض مدني بالتلاوة
لأن آية الوضوء كانت قبل فرض الصلاة يعني الصلوات ليلة
الإسراء قال: ويقويه قوله في خبر فيه لين أن جبريل علمه
إياه حين نزول الوحي عليه في غار حراء وقال: ويؤيده ما في
أخبار صحاح أن من قبلنا كانوا يتوضؤن للصلاة كما في قصة
سارة والراهب (فلما فرغ الوضوء) أي أتمه (أخذ غرفة من
الماء) قال ابن حجر في المختصر: وهي قدر ما يغرف من الماء
بالكف (فنضح) وفي رواية فرش (بها فرجه) يعني رش بالماء
الإزار الذي يلي محل الفرح من الآدمي لأن جبريل ليس له فرج
إذ الملائكة ليسوا بذكور ولا إناث كما مر فيندب رش الفرج
عقب الوضوء لدفع الوسوسة وفي رواية ذكرها ابن سيد الناس
وجهه بدل فرجه وفي رواية الفرج والنضح الرش والفرج أصله
فرجة بين شيئين ثم كنى به عن السوأة وكثر حتى صار كالصريح
فيه
(حم قط ك) وكذا الحارث بن أبي أسامة (عن أسامة) بضم الهمزة
(ابن زيد) حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه (عن
أبيه زيد) بن حارثة الكلبي مولى الرسول من السابقين
الأولين استشهد يوم مؤتة سنة ثمان رمز المؤلف لصحته وليس
كما ظن فقد أورده ابن الجوزي في العلل عن أسامة عن أبيه من
طريقين في أحدهما ابن لهيعة والأخرى رشدين وقال ضعيفان قال
والحديث باطل وقال مخرجه الدارقطني فيه ابن لهيعة ضعفوه
وتابعه رشدين وهو ضعيف لكن يقويه كما قال بعض الحفاظ أورده
من طريق ابن ماجه بمعناه وروى نحوه عن البراء وابن عباس
أما الصحة فلا فلا
(1/100)
[ص:101] 88 - (أتاني جبريل في ثلاث) أي
ثلاث ليال (بقين) هي لغة عدي بن رباب فجعلوا كل يوم ليلة
إذ التاريخ بالليالي فإن أول الشهر ليلته قالوا: وليس في
العربية محل غلب فيه المؤنث على المذكر إلا في التاريخ (من
ذي القعدة) بفتح القاف وتكسر سمي به لأن العرب قعدت فيه عن
القتال تعظيما له قال ابن حجر: وفيه استعمال الفصيح في
التاريخ وهو أنه ما دام في النصف الأول من الشهر يؤرخ بما
خلا وإذا دخل النصف الثاني يؤرخ بما بقي (فقال دخلت
العمرة) أي أعمالها (في) أعمال (الحج) لمن قرن فكيفية
أعمال الحج عنها أو دخلت في وقته وأشهره بمعنى أنه يجوز
فعلها فيها وأهل الجاهلية كانوا يرون أن فعلها فيها من
أفجر الفجور فأبطله الشرع هذا هو الظاهر المتبادر من فحوى
الخبر وتأوله المالكية كالحنفية على معنى سقوط وجوب العمرة
بوجوب الحج كما سقط عاشوراء برمضان أي أن الحج أغنى عما
دونه فلا يجب وعرض بأن ذلك وإن كان محتملا لكنه محتمل أيضا
لأن يكون إشارة إلى القرآن وإلى جواز إيقاعها في أشهر الحج
وأنه لا يقبل النسخ ويرشحه ختمه بالتأييد الآتي فحيث تطرق
الاحتمال سقط الاستدلال وبقيت أدلة أخرى تدل للوجوب كآية
{وأتموا الحج والعمرة لله} ويستمر هذا (إلى يوم القيامة)
أول خراب الدنيا وانقراض المؤمنين بالريح الطيبة أي ليس
هذا الحكم مختصا بهذا العام بل عام في جميع الأعوام ويلوح
من فحواه أن يوم القيامة من الدنيا بمعنى أنه خاتمها ولا
يعارضه خبر أشفع يوم القيامة لأن صدره من الدنيا وآخره من
الآخرة كما صرح به ما رواه المزني في التهذيب أن الحجاج
سأل عكرمة عن يوم القيامة أمن الدنيا أم من الآخرة فقال
صدره من الدنيا وآخره من الآخرة
(طب عن ابن عباس) رمز المؤلف لحسنه (قلت) كما قال بعضهم
(هذا) أي قوله ثلاث إلى آخره (أصل) يستدل به (في) مشروعية
(التاريخ) وهو تعريف الوقت من حيث هو وقت والإرخ بكسر
الهمزة الوقت يقال أرخت الكتاب يوم كذا وقته به وأرخه
وورخه بمعنى ذكره في الصحاح وقيل هو قلب التأخير وقيل معرب
لا عربي وقال الصولي: تاريخ كل شيء غايته ووقته الذي ينتهي
إليه ومنه قيل فلان تاريخ قومه أي إليه ينتهي شرفهم وعرف
عرفا بأنه توقيت الفعل بالزمان ليعرف ما بين قدر ابتدائه
وأي غاية فرضت له وقيل هو عبارة عن يوم ينسب إليه ما يأتي
بعده وقيل عبارة عن مدة معلومة تعد من أول زمن مفروض لتعرف
الأوقات المحددة فلا غنى عن التاريخ في جميع الأحوال
الدنيوية والأخروية ثم إن ما ذكره من أن هذا أصله مراده به
من أصوله وإلا فقد وقع الاستدلال بالتاريخ في النص القرآني
{قل يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة
والإنجيل إلا من بعده} وتفردت العرب بأنها تؤرخ بالسنة
القمرية لا الشمسية فلذلك تقدم الليالي لأن الهلال إنما
يظهر ليلا قال ابن الجوزي: ولما كثر بنو آدم أرخوا بهبوطه
فكان التاريخ إلى الطوفان ثم إلى نار الخليل ثم إلى زمن
يوسف ثم إلى خروج موسى من مصر ببني إسرائيل ثم إلى زمن
داود ثم سليمان ثم عيسى وقيل أرخت اليهود بخراب بيت المقدس
والنصارى برفع المسيح وأما تاريخ الإسلام فروى الحاكم في
الإكليل عن الزهري معضلا أن المصطفى صلى الله عليه وسلم
لما قدم المدينة أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأول وروى
أيضا الحاكم وغيره أن عمر جمع الناس في خلافته سنة سبع
عشرة فقال بعضهم أرخ بالبعث وقال بعضهم بالهجرة فقال
الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها فاتفقوا عليه ولم
يؤرخوا بالبعث لأن في وقته خلافا ولا من وفاته لما في
تذكره من التألم لفراقه ولا من وقت قدومه المدينة وإنما
جعلوه من أول المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان فيه
إذ البيعة كانت في ذي الحجة وهي مقدمة لها وأول هلال هل
بعدها المحرم ولأنه منصرف الناس من حجهم فناسب جعله مبتدأ
وفوائد التاريخ لا تحصى منها أنه وقع في زمن الخطيب
البغدادي أن يهوديا أظهر كتابا فيه أن المصطفى صلى الله
عليه وسلم أسقط الجزية عن أهل خيبر وفيه شهادة جمع منهم
على ذلك فوقع التنازع فيه فعرض على الخطيب فتأمله ثم قال:
هذا زور [ص:102] لأن فيه شهادة معاوية وإنما أسلم عام
الفتح وفتح خيبر سنة سبع وشهادة سعد بن معاذ وكان مات عقب
قريظة ففرح الناس بذلك
(1/101)
89 - (أتاني جبريل فقال) لي (يا محمد)
خاطبه به دون رسول الله أو النبي صلى الله عليه وسلم لأنه
المناسب لمقام الوعظ والتذكير والإيذان بفراق الأحباب
والخروج من الدنيا ودخول الآخرة والحساب والجزاء وبدأ بذكر
الموت لأنه أفظع ما يلقاه الإنسان وأبشعه فقال (عش ما شئت
فإنك ميت) بالتشديد والتخفيف أي آيل إلى الموت عن قرب فهو
مجاز باعتبار ما يكون في المستقبل قريبا قطعا (وأحبب) بفتح
الهمزة وكسر الموحدة الأولى (من شئت) من الخلق (فإنك
مفارقه) بموت أو غيره وما من أحد في الدنيا إلا وهو ضعيف
وما بيده عارية فالضيف مرتحل والعارية مردودة قال الغزالي
للقصد بهذا تأديب النفس عن البطر والأشر والفرح بنعيم
الدنيا بل بكل ما يزايله بالموت فإنه إذا علم أن من أحب
شيئا يلزمه فراقه ويشقى لا محالة بفراقه شغل قلبه بحب من
لا يفارقه وهو ذكر الله فإن ذلك يصحبه في القبر فلا يفارقه
وكل ذلك يتم بالصبر أياما قلائل فالعمر قليل بالإضافة إلى
حياة الآخرة وعند الصباح يحمد القوم السرى فلا بد لكل
إنسان من مجاهدة فراق ما يحبه وما فيه فرحه من أسباب
الدنيا وذلك يختلف باختلاف الناس فمن يفرح بمال أو جاه أو
بقبول في الوعظ أو بالعز في القضاء والولاية أو بكثرة
الإتباع في التدريس والإفادة يترك أولا ما به فرحه ثم
يراقب الله حتى لا يشتغل إلا بذكر الله والفكر فيه ويكف عن
شهواته ووساوسه حتى يقمع مادتها ويلزم ذلك بقية العمر فليس
للجهاد آخر إلا الموت. قيل صاح طوطي بحضرة سليمان فقال
تدرون ما يقول قالوا الله ورسوله أعلم قال يقول كل حي ميت
وكل جديد بال. وقال النسر يقول في صياحه يا ابن آدم اعمل
ما شئت آخرك الموت (واعمل ما شئت) من خير (فإنك مجزي به)
بفتح الميم وسكون الجيم وكسر الزاي وشد المثناة تحت أي
مقضى عليك بما يقتضيه عملك وبضم الميم وفتح الزاي منونا أي
مكافأ عليه. ولما ذكر الموت والمجازاة وخوف بما علم منه أن
من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
أردفه ببيان أعظم نافع من تلك الأهوال فقال (واعلم) بصيغة
الأمر إفادة لغير ما علم للدلالة على أنه تعلم وعلم لأن
العلم لا يتم حتى يصل إلى الغير فيجمع فضل العلم والتعليم
ذكره الحراني (أن شرف المؤمن) رفعته قال الزمخشري من
المجاز لفلان شرف وهو علو المنزلة (قيامه بالليل) أي علاه
ورفعته إحياء الليل بدوام التهجد فيه والذكر والتلاوة وهذا
بيان لشيء من العمل المشار إليه بقوله اعمل ما شئت ولما
كان الشرف والعز أخوين استطرد ذكر ما يحصل به العز فقال
(وعزه) قوته وعظمته وغلبته على غيره (استغناؤه) اكتفاؤه
بما قسم له (عن الناس) أي عما في أيديهم ولهذا قال حاتم
لأحمد وقد سأله: ما السلامة من الدنيا وأهلها؟ قال: أن
تغفر لهم جهلهم وتمنع جهلك عنهم وتبذل لهم ما في يدك وتكون
مما في أيديهم آيسا قال الغزالي: ومن لا يؤثر عز النفس على
شهوة البطن فهو ركيك العقل ناقص الإيمان ففي القناعة العز
والحرية ولذلك قيل استغن عمن شئت فأنت نظيره واحتج إلى من
شئت فأنت أسيره وأحسن إلى من شئت فأنت أميره وقال بعضهم:
الفقر لباس الأحرار والغنى بالله لباس الأبرار والقيام
انتصاب القامة ولما كانت هيئة الانتصاب أكمل هيآت من له
القامة وأحسنها استعير ذلك للمحافظة على استعمال الإنسان
نفسه في الصلاة ليلا فمعنى قيام الليل المحافظة على الصلاة
فيه وعدم تعطيله باستغراقه بالنوم أو اللهو قال الزمخشري:
قام على الأمر دام وثبت. وقد تضمن الحديث التنبيه على قصر
الأمل والتذكير بالموت واغتنام العبادة وعدم الاغترار
بالاجتماع والحث على التهجد وبيان جلالة علم جبريل وغير
ذلك قال الغزالي: جمعت هذه الكلمات حكم الأولين والآخرين
وهي كافية للمتأمل فيها طول العمر إذ لو وقف على معانيها
وغلبت على قلبه غلبة يقين استغرقته وحالت بينه وبين النظر
إلى الدنيا بالكلية والتلذذ بشهواتها وقد أوتي المصطفى صلى
الله عليه وسلم جوامع الكلم وكل كلمة من كلماته بحر من
بحور الحكمة
(الشيرازي في) [ص:103] كتاب معرفة (الألقاب) والكنى عن
إسماعيل عن زافر بن سليمان عن محمد بن عيينة عن أبي حازم
عن سهل بن سعد
(ك) في الرقاق من طريق عيسى بن صبح عن زافر (هب) من طريق
محمد بن حميد عن عيسى بن صبح عن زافر عن ابن عيينة عن أبي
حازم (عن سهل بن سعد) بن مالك الخزرجي الساعدي قال الحاكم
صحيح وأقره الذهبي في التلخيص مع أن زافر أورده هو وغيره
في الضعفاء ولهذا جزم الحافظ العراقي في المغني بضعف
الحديث قال: وجعله بعضهم من كلام سهل ومراد القضاعي (هب)
من طريق أبي داود الطيالسي عن الحسن بن أبي جعفر عن أبي
الزبير (عن جابر) ابن عبد الله (حل) عن محمد بن عمر عن
محمد بن الحسن وعلي بن الوليد قالا: حدثنا علي بن حفص بن
عمر عن الحسن ابن الحسين بن زيد بن علي عن أبيه عن علي بن
الحسين عن الحسن (عن علي) أمير المؤمنين وزاد في هذه
الرواية فقال صلى الله عليه وسلم لقد أوجز لي جبريل في
الخطبة قال ابن حجر في أماليه أخرجه الحاكم من طريق عيسى
بن صبح عن زافر وصححه والبيهقي من طريق ابن حميد عن زافر
قال: أعني ابن حجر تفرد به بهذا الإسناد زافر وماله طريق
غيره وهو صدوق كثير الوهم والراوي عنه فيه مقال لكن توبع
قال: وقد اختلف فيه نظر حافظين فسلكا طريقين متناقضين
فصححه الحاكم ووهاه ابن الجوزي والصواب أنه لا يحكم عليه
بصحة ولا وضع ولو توبع زافر لكان حسنا لكن جزم العراقي في
الرد على الصنعاني والمنذري في ترغيبه بحسنه
(1/102)
90 - (أتاني آت) أي ملك أو هو النفث وهو ما
يلقيه الله إلى نبيه إلهاما كشفيا بمشاهدة عين اليقين (من
عند ربي) أي برسالة بأمره وأطنب بزيادة العندية إيذانا
بتأكد القضية (فخيرني) في الآتي عن الله وعبر بالرب المشعر
بالتربية والإحسان والامتنان وتبليغ الشيء إلى كماله لأنه
أنسب بالمقام (بين أن يدخل) بضم أوله يعني الله (نصف أمتي)
أمة الإجابة (الجنة وبين الشفاعة) أي شفاعتي فيهم يوم
القيامة (فاخترت الشفاعة) لعمومها إذ بها يدخلها ولو بعد
دخول النار كل من مات مؤمنا كما قال (وهي) أي والحال أنها
كائنة أو حاصلة ويحتمل جعل الواو للقسم أي والله هي حاصلة
(لمن مات) من هذه الأمة ولو مع إصراره على جميع الكبائر
لكنه (لا يشرك بالله شيئا) أي ويشهد أني رسوله ولم يذكره
اكتفاء بأحد الجزأين عن الآخر لعلمهم بأنه لابد من الإتيان
بهما لصحة الإسلام فالمراد أنه يكون مؤمنا بكل ما يجب
الإيمان به وهذا متضمن لكرامة المصطفى على ربه وأفضاله على
أمته ووفور شفقة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم قال
الحراني: وحقيقة الشفاعة وصلة بين الشفيع والمشفوع له
لمزيد وصلة بين الشفيع والمشفوع عنده وقال القاضي: الشفاعة
من الشفع كأن المشفوع له كان فردا فجعله الشفيع شفعا بضم
نفسه إليه والشيء على ما قال سيبويه يقع على كل ما أخبر
عنه وهو أعم العام كما أن الله أخص الخاص ويجري على الجسم
والعرض والقديم والمعدوم والمحال وقول الأشاعرة المعدوم
ليس بشيء معناه ليس يتميز في الأعيان. ثم إنه ليس لك أن
تقول هذا يناقضه ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله
قال ليس ذلك ولكن وعزتي وكبريائي لأخرجن من النار من قال
لا إله إلا الله والمراد بالقائل لا إله إلا الله من مات
معتقدا لها فهو الذي مات لا يشرك بالله شيئا فإذا لم يكن
ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فكيف قال: إن هؤلاء تنالهم
شفاعة لأنا نقول قد قيد المصطفى صلى الله عليه وسلم من
تناله شفاعته مع كونه مات غير مشرك بكونه من أمته والذي
جاء فيه أنه ليس إليه غير مقيد بها فحصل التوفيق بأن الذين
تنالهم شفاعته هم موحدو أمته والذي استأثر الله به موحدو
غيرها كما حرره المحقق أبو زرعة
(حم عن أبي موسى) عبد الله بن قيس (الأشعري) قال: غزونا مع
النبي صلى الله عليه وسلم فعرس بنا فانتهيت ليلا لمناخه
فلم أجده [ص:104] فطلبته بارزا فإذا رجل من أصحابي يطلب ما
أطلب فطلع علينا فقلنا: أنت بأرض حرب فلو إذ بدت لك حاجة
فقلت لبعض صحبك فقام معك فقال: سمعت هزيزا كهزيز الرحى
وحنينا كحنين النحل وأتاني آت إلى آخره فكان ينبغي للمؤلف
ذكره بتمامه في حرف السين قال الهيتمي: رجال أحمد ثقات (ت
حب عن) أبي حماد (عوف) بفتح فسكون (ابن مالك) بن عوف
الغطفاني (الأشجعي) نسبة إلى أشجع قبيلة مشهورة صحابي كانت
معه راية أشجع يوم الفتح نزل حمص وبقي إلى أول خلافة عبد
الملك
(1/103)
91 - (أتاني آت من عند ربي عز وجل فقال من
صلى عليك من أمتك) الإضافة للتشريف قال الحراني: الصلاة
الإقبال بالكلية على أمر فيكون من الأعلى عطفا شاملا ومن
الأدنى وفاء بانحاء التذلل والإقبال بالكلية على التلقي
(صلاة) أي طلب لك من الله دوام التشريف ومزيد التعظيم
ونكرها ليفيد حصولها بأي لفظ كان لكن الأفضل ما في الصحيح
قولوا اللهم صل على محمد وقال من صلى دون من ترحم إيذانا
بأنه لا يدعى له بالرحمة كما في الاستذكار وإن كانت بمعنى
الصلاة عند كثيرين لأنه خص بلفظها تعظيما فلا ينبغي
إطلاقها عليه إلا تبعا للصلاة أو السلام كما في التشهد
(كتب الله) قدر أو أوجب أو في اللوح أو في جبينه أو في
صحيفته وعلى ما عدا الأولين فإضافة الكتابة للذات
المتعالية للتشريف إذ الكاتب الملائكة (له بها عشر حسنات)
أي ثوابها مضاعفا إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة لأن
الصلاة ليست حسنة واحدة بل حسنات إذ بها تجديد الإيمان
بالله أولا ثم بالرسالة ثم بتعظيمه ثم العناية بطلب
الكرامة له ثم بتجديد الإيمان باليوم الآخر ثم بذكر الله
ثم بتعظيمه بنسبتهم إليه ثم بإظهار المودة ثم بالابتهال
والتضرع في الدعاء ثم بالاعتراف بأن الأمر كله لله وأن
النبي صلى الله عليه وسلم مع جلالة قدره مفتقر إلى رحمة
ربه فهذه عشر حسنات قال الراغب: والحسنة يعبر بها عن كل ما
يسر من نعمة ينالها الإنسان في نفسه وبدنه ومتعلقاته سميت
به لحسنها والسيئة تضادها وهما من الألفاظ المشتركة
كالحيوان الواقع على أنواع مختلفة قال الحراني: والعشرة
بعدها الآحاد في أوله وقال القاضي: أول عدد كامل إذ به
تنتهي الآحاد (ومحا) أزال يقال محوته محوا ومحيته محيا
أزلته وذلك بأن يمحوها من صحف الحفظة وأفكارهم (عنه عشر
سيئات) جمع سيئة أي قبيحة سميت به لسوئها لصاحبها والفرق
بينها وبين الخطيئة أنها قد تقال فيما يقصد بالذات
والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض لأنها من الخطأ ذكره
القاضي (ورفع له) في الجنة (عشر درجات) رتبا عالية فيها
والدرجات الطبقات من المراتب قال الزمخشري: من المجاز
لفلان درجة رفيعة (ورد عليه مثلها) أي رحمة وضاعف أجره
نقله النووي عن عياض ثم قال: وقد تكون الصلاة على وجهها
وظاهرها كلاما تسمعه الملائكة تشريفا وقال ابن القيم: ليست
الصلاة مرادفة للرحمة لعطفها عليها ولأن صلاته خاصة بخواصه
ورحمته وسعت كل شيء نعم الرحمة من لوازمها فمن فسرها بها
فقد فسرها ببعض لوازمها وما ذكر في هذا الخبر يدل عليه إذ
صلاة العبد على النبي صلى الله عليه وسلم ليست هي رحمة من
العبد لتكون صلاة الله عليه من جنسها بل ثناء عليه والجزاء
من جنس العمل فمن أثنى على رسوله جازاه بمثل عمله بأن يثني
عليه فصح ارتباط الجزاء بالعمل ومشاكلته له فيا لها من
بشارة ما أسناها. وظاهره حصول الثواب الموعود وإن لم تقترن
الصلاة بسلامة فيشكل على نقل النووي كراهة الإفراد وحصوله
مع قرب المصلى عليه وبعده وأنه لا مزية للصلاة عند قبره
عليها من بعد لكن ذهب بعضهم إلى أنها عند قبره أفضل
(حم) وابن أبي شيبة (عن أبي طلحة) زيد بن سهل الأنصاري
قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وأسارير وجهه تبرق
فقلت: ما رأيتك بأطيب نفسا ولا أظهر بشرا من يومك قال:
ومالي لا تطيب نفسي ويظهر بشري ثم ذكره رمز المصنف لصحته
(1/104)
[ص:105] 92 - (أتاني ملك برسالة) أي بشيء
مرسل به (من الله) وفي رواية من ربي (عز وجل) يقال حملته
رسالة إذا أرسلته للمرسل إليه بكلام وراسله في كذا وبينهما
مكاتبات ومراسلات وتراسلوا وأرسلته برسالة وأرسلت إليه أن
افعل كذا ذكره الزمخشري والمراد هنا الوحي ولعله مما لم
يؤمر بتبليغه وقد جاءه بالوحي جبريل وغيره لكن جبريل أكثر
(ثم رفع رجله) بكسر فسكون العضو المخصوص بأكثر الحيوانات
ويفهم منه أنه أتاه في صورة إنسان والرفع الاعتلاء ذكره
الراغب (فوضعها فوق السماء) وفي رواية السماء الدنيا
(والأخرى في الأرض) قال الراغب: الأرض الحرم المقابل
للسماء ويعبر بها عن أسفل الشيء كما يعبر بالسماء عن أعلاه
(لم يرفعها) تأكيد وتحقيق لما قبله ودفع لتوهم إرادة
التجوز لبعده عن الأفهام واستعظامه بين الأنام والقصد بذلك
بيان عظم خطوته المستلزم لعظم جثته وأن مسافة خطوته كما
بين السماء والأرض والملائكة عند عامة المتكلمين أجسام
لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة وعند الحكماء جواهر
مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة وهو قسمان قسم
شأنهم الاستغراق في معرفة الحق والتنزه عن الشغل بغيره
وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء
وجرى به القدر لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
كما مر وقد جاء في عظم الملائكة ما هو فوق ذلك فقد ورد: إن
لله ملكا يملأ ثلث الكون وملكا يملأ ثلثيه وملكا يملأ
الكون كله لا يقال إذا كان يملأ الكون كله فأين يكون
الآخران لأنا نقول الأنوار لا تتزاحم ألا ترى أنه لو وضع
سراج في بيت ملأه نورا فلو أتينا بعده بألف سراج وسع البيت
أنوارها ذكره العارف ابن عطاء الله عن شيخه المرسي وقد قصر
نظر من عزاه لجامع هذا الجامع <تنبيه> ما ذكره من أن سياق
الحديث هكذا هو ما في نسخ الكتاب لكن لفظ الكبير أتاني ملك
لم ينزل إلى الأرض قبلها قط برسالة من ربي فوضع رجله فوق
السماء الدنيا ورجله الأخرى ثابتة في الأرض لم يرفعها
انتهى بنصه والمخرج والصحابي متحد
(طس) وكذا أبو الشيخ [ابن حبان] في العظمة (عن أبي هريرة)
رمز المصنف لضعفه وهو تقصير بل حقه الرمز لحسنه فإنه وإن
كان فيه صدقة بن عبد الله الدمشقي وضعفه جمع لكن وثقه ابن
معين ودحيم وغيرهما وهو أرفع من كثير من أحاديث رمز لحسنها
(1/105)
93 - (أتاني ملك فسلم علي) فيه أن السلام
متعارف بين الملائكة (نزل من السماء) من النزول وهو
الإهواء من علو إلى أسفل (لم ينزل قبلها) صريح في أنه غير
جبريل ولا يعارضه رواية المستدرك أتاني جبريل لإمكان تعدد
المجيء للبشارة فمرة جبريل وأخرى غيره (فبشرني أن) أي بأن
(الحسن والحسين) لم يسم بهما أحد قبلهما ففي طبقات ابن سعد
عن عمران بن سليمان أنهما اسمان من أسماء أهل الجنة لم
يكونا في الجاهلية لكن في الكشاف ما يخالفه (سيدا شباب أهل
الجنة) أي من مات شابا في سبيل الله من أهل الجنة ولم يرد
سن الشباب حقيقة لموتهما وقد اكتهلا وهذا مخصوص بغير عيسى
ويحيى لاستثنائهما في حديث الحاكم بقوله إلا ابني الخالة
وقيل أراد أن لهما السؤدد على أهل الجنة وعليه فيخص بغير
الأنبياء والخلفاء الأربعة (وأن فاطمة) أمهما (سيدة نساء
أهل الجنة) قال المصنف فيه دلالة على فضلها على مريم سيما
إن قلنا بالأصح أنها غير نبية وكانت فاطمة من فضلاء
الصحابة وبلغاء الشعراء وكانت أحب أولاده إليه وإذا قدمت
عليه قام إليها وقبلها في فمها زاد أبو داود بسند ضعيف
ويمص لسانها. وفضائلها وفضائل ابنيها جمة ومحبة النبي صلى
الله عليه وسلم لهم وثناؤه عليهم ونشره لغرر مآثرهم
[ص:106] وباهر مناقبهم ومفاخرهم من الشهرة بالمحل الأرفع
وقد بسط ذلك خلق في عدة مؤلفات مفردة
(ابن عساكر) في تاريخه (عن حذيفة) بضم المهملة مصغرا (ابن
اليمان) بفتح التحتية والميم واسم اليمان حسل بكسر الحاء
المهملة الأولى وسكون الثانية ويقال حسيل بن جابر العبسي
بموحدة تحتية ثم الأشهلي حليفهم صاحب السر منعه وأباه شهود
بدر استخلاف المشركين لهم ورواه عنه أيضا النسائي خلافا
لما أوهمه صنيع المؤلف من أنه لم يخرجه أحد من السنة ورواه
بمعناه الحاكم وقال صحيح وأقره الذهبي
(1/105)
94 - (اتبعوا) بتقديم المثناة الفوقية أمر
بالإتباع (العلماء) العاملين يعني اهتدوا بهديهم واقتدوا
بقولهم وفعلهم وما ذكر من أن الرواية اتبعوا بعين مهملة هو
ما وقفت عليه في أصول قديمة من الفردوس مصححة بخط الحافظ
ابن حجر ورأيت في نسخ من هذا الكتاب ابتغوا بالغين المعجمة
وهو تصحيف من النساخ (فإنهم سرج الدنيا) بضمنين جمع سراج
أي يستضاء بهم من ظلمات الجهل كما ينجلي ظلام الليل
بالسراج المنير. يهتدي به فيه فمن اقتدى بهم اهتدى بنورهم
قال الزمخشري من المجاز سرج الله وجهه حسنه وبهجه ووجه
مسرج والشمس سراج النهار والهدى سراج المؤمنين ومحمد رسول
الله صلى الله عليه وسلم السراج الوهاج انتهى. وشبه العالم
بالسراج لأنه تقتبس منه الأنوار بسهولة وتبقى فروعه بعده
وكذا العالم ولأن البيت إذا كان فيه سراج لم يتجاسر اللص
على دخوله مخافة أن يفتضح وكذا العلماء إذا كانوا بين
الناس اهتدوا بهم إلى طلب الحق والسنة وإزاحة ظلم الجهل
والبدعة ولأنه إذا كان في البيت سراج موضوع في كوة مسدودة
بزجاجة أضاء داخل البيت وخارجه وكذا سراج العلم يضيء في
القلب وخارج القلب حتى يرق نوره على الأذنين والعينين
واللسان فتظهر فنون الطاعات من هذه الأعضاء ولأن البيت
الذي فيه سراج صاحبه مستأنس مسرور فإذا طفئ استوحش فكذا
العلماء ما داموا في الناس فهم مستأنسون مسرورون فإذا
ماتوا صار الناس في غم وحزن (فإن قلت) ما الحكمة في
التشبيه بخصوص السراج وما المناسبة التامة بينهما (قلت)
المصباح تضره الرياح والعلم يضره الوسواس والشبهات والسراج
لا يبقى بغير دهن والعلم لا يبقى بغير توفيق ولا بد للسراج
من حافظ يتعهده ولا بد لمصباح العلم من متعهد وهو فضل الله
وهدايته ولأن السراج يحتاج إلى سبعة أشياء زناد وحجر وحراق
وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن فالعبد إذا طلب إيقاد سراج
العلم لا بد له من قدح زناد الفكر قال الله تعالى {والذين
جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وحجر التضرع قال تعالى {ادعوا
ربكم تضرعا} وإحراق النفس بمنعها من شهواتها قال تعالى
{ونهى النفس عن الهوى} وكبريت الإنابة قال الله عز وجل
{وأنيبوا إلى ربكم} ومسرجة الصبر {إن الله مع الصابرين}
وفتيلة الشكر قال تعالى {اشكروا لله} ودهن الرضا بالقضاء
المشار إليه بقوله {واصبر لحكم ربك} (فإن قلت) لم لم
يشبههم بالقمرين والنجوم مع أنها أرفع وأنور في المشارق
والمغارب (قلت) آثره عليها لأنها يحجبها الغمام ونور العلم
لا يحجبه سبع سماوات والشمس تغيب ليلا والقمر يختفي نهارا
والعلم لا يغيب ليلا ولا نهارا بل هو هو وهو في الليل آكد
{إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا} والقمران يفنيان
والعلم لا يفنى والقمران ينكسفان والعلم لا ينكسف والقمران
تارة يضران وتارة ينفعان والعلم ينفع ولا يضر بشرطه
والقمران في السماء زينة لأهل الأرض والعلم في الأرض زينة
لأهل السماء وهما في الفوق ويضيآن ما تحت والعلم في قلب
المؤمن وهو في التحت ويضيء ما فوقه وتحته وبهما بنكشف وجود
الخالق وبالعلم ينكشف وجود الخالق وضوؤهما يقع على الولي
والعدو والعلم ليس إلا للولي وشعاع الكواكب إلى أسفل وشعاع
العلم يصعد إلى العلو والكواكب تطلع من خزانة الفلك والعلم
يطلع من خزانة الملك والكواكب علامة والعلم كرامة والكواكب
موضع نظر المخلوقين والعلم موضع نظر رب العالمين " إن الله
لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أقوالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم
وأعمالكم " الكواكب نفعها في الدنيا والعلم نفعه في الدنيا
والآخرة والشمس تسود الأشياء والعلم يبيضها والشمس تحرق
[ص:107] والعلم ينجي من الحرق والقمر يبلي الثياب والعلم
يجدد المعارف لأولي الألباب (ومصابيح الآخرة) جمع مصباح
وهو السراج فمغايرة التعبير مع اتحاد المعنى للتفنن وقد
يدعى أن المصباح أعظم فإن من السرج ما يضعف ضوؤه إذا قل
سليطه ودقت فتيلته ومن كلامهم ثلاثة تضني: رسول بطئ وسراج
لا يضيء ومائدة ينتظر لها من يجيء وهذا على طريق المجاز
قال الزمخشري: من المجاز رأيت المصابيح تزهو في وجهه وإنما
كانوا كالمصابيح في الآخرة لأن الناس يحتاجون إلى العلماء
في الموقف للشفاعة بل وبعد الدخول كما يجيء في خبر فينتفع
بهم فيها كما ينتفع بالمصابيح ولذا يقال: إن ذات العالم
تكسى نورا يضيء كالمصباح حقيقة. ألا ترى أن هذه الأمة تدعى
غرا محجلين من آثار الوضوء فالعالم يتميز على آحاد
المؤمنين بأن تصير جثته كلها مضيئة وأشار بالترغيب في
اتباع العلماء إلى الترهيب من مصادقة الجهلاء وفيه دليل
على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله وأن نعمة
العلم من أفخر النعم وأجزل القسم وأن من أوتيه فقد أوتي
خيرا كثيرا إن صحبه عمل وإلا فقد ضل سعي صاحبه وبطل
(فر عن أنس) بن مالك وفيه القاسم بن إبراهيم الملطي قال
الذهبي قال الدارقطني كذاب وأقره ابن حجر وجزم المؤلف في
زيادات الموضوعات بوضعه فإيراده له هنا إخلال بشرطه
(1/106)
95 - (أتتكم المنية) جاءكم الموت قال في
الصحاح: المنية الموت من منى له أي قدر لأنها مقدرة وفي
المفردات الأجل المقدر للحيوان (راتبة) أي حال كونها ثابتة
مستقرة (لازمة) أي لا تفارق أي ثابتة في الأزل وإذا وقعت
لا تنفك. {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر} (إما) بكسر فتشديد
مركبة من إن وما (بشقاوة) أي مصاحبة لسوء عاقبة (وإما
بسعادة) ضد الشقاوة أي كأنكم بالموت وقد حضرتم والميت لا
محالة صائر إما إلى النار وإما إلى الجنة فالزموا العمل
الصالح وذلك أن الإنسان إذا بلغ حد التكليف تعلقت به
الأحكام وجرت عليه الأقلام وحكم له بالكفر أو الإسلام وأخذ
في التأهب لمنازل السعداء أو الأشقياء فتطوى له مراحل
الأيام بجد واجتهاد واهتمام إلى الدار التي كتب من أهلها
فإذا أتته المنية أشرف منها على المسكن الذي أعد له قبل
إيجاده إما وإما فهناك يضع عصى السفر عن عاتقه وتستقر قواه
وتصير دار العدل مأواه أو دار السعادة مثواه وبهذا التقرير
انكشف لك أن الحديث من جوامع الكلم (ابن أبي الدنيا) أبو
بكر القرشي (في) كتاب (ذكر الموت) أي فيما جاء به
(هب عن زيد) بن عطية (السلمي) الخثعمي (مرسلا) قال: كان
النبي صلى الله عليه وسلم إذا آنس من أصحابه غفلة أو غرة
نادى فيهم بصوت رفيع أتتكم المنية إلى آخره. وقد رمز
المصنف لضعفه وهو كما قال إلا أن في مرسل آخر ما يقويه
ويرقيه إلى درجة أحسن وهو ما رواه البيهقي عن الوضين بن
عطاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحس من الناس
بغفلة عن الموت جاء فأخذ بعضادتي الباب وهتف ثلاثا وقال:
يا أيها الناس يا أهل الإسلام أتتكم المنية راتبة لازمة
جاء الموت بما جاء به جاء بالروح والراحة والكرة المباركة
لأولياء الرحمن من أهل دار الخلود الذين كان سعيهم ورغبتهم
فيها لها ألا إن لكل ساع غاية وغاية كل ساع الموت سابق
ومسبوق انتهى
(1/107)
96 - (اتجروا) بكسر الهمزة والجيم أمر من
التجارة وهي تقليب المال للربح. قال الزمخشري: التجارة
صناعة التاجر وهو الذي يبيع ويشتري للربح (في أموال
اليتامى) قال الطيبي: أصله اتجروا بها نحو كتبت بالقلم
لأنه عدة للتجارة ومستقرها كقوله تعالى {وأصلح لي في
ذريتي} أي أوقع لي الصلاح فيهم وفائدة جعل المال مقرا
للتجارة أن لا ينفق من أصله بل يخرج الصدقة من الربح وإليه
ينظر قوله تعالى {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} إلى قوله
{وارزقوهم فيها} (لا تأكلها) أي لئلا تأكلها (الزكاة) أي
تفنيها لأن الأكل سبب للفناء أو استعارة حيث جعل الصدقة
مشابهة للطاعم [ص:108] ونسب إليها ما هو من لوازم المشبه
به وهو الأكل مبالغة في كمال الافناء. قال الزمخشري: من
المجاز أكلت النار الحطب وائتكلت النار اشتد التهابها
كأنما يأكل بعضها بعضا وأخذ بقضية هذا الحديث المؤكد لعموم
الأخبار الصحيحة الصريحة في إيجاب الزكاة مطلقا بقول خمسة
من الصحابة الشافعي كمالك وأحمد فأوجبوها في مالهم وخالف
أبو حنيفة والقياس على فطرة بدنه الموافق عليها حجة عليه
وأما فرق بعض أصحابه بأن الفطرة فيها معنى المؤنة ففيه
تعسف وفيه أن على الولي استنماء المال المولى عليه قدر
الزكاة والنفقة والمؤن إن أمكنه لا المبالغة فيه
(طس عن أنس) بن مالك قال الهيتمي: أخبرني شيخي يعني الزين
العراقي أن سنده صحيح انتهى وإليه أشار في الأصل بقوله
وصحح وأما هنا فرمز لحسنه وهو فيه متابع للحافظ ابن حجر
فإنه انتصر لمن اقتصر على تحسينه فقط وقال: إن الصحيح خبر
البيهقي عن ابن المسيب عن عمر موقوفا مثله وقال: أعني
البيهقي سنده صحيح
(1/107)
97 - (أتحب) استفهام فيه معنى الشرط أي إن
أحببت أيها الرجل الذي شكى إلينا قسوة قلبه (أن يلين قلبك)
يترطب ويتسهل قال الزمخشري: من المجاز رجل لين الجانب ولان
لقومه وألان لهم جناحه {فبما رحمة من الله لنت لهم} وهو
لين الأعطاف وطئ الأكتاف (وتدرك حاجتك) أي تظفر بمطلوبك
فقال الرجل بلى يا رسول الله قال (ارحم اليتيم) أي الذي
مات أبوه فانفرد عنه واليتم الانفراد ومنه الدرة اليتيمة
للمنفردة في صفائها والرملة اليتيمة ذكره في الكشاف وذلك
بأن تعطف عليه وتحنو حنوا يقتضي التفضل عليه والإحسان إليه
كناية عن مزيد الشفقة والتلطف به. ولما لم تكن الكناية
منافية لإرادة الحقيقة لإمكان الجمع بينهما كما تقول فلان
طويل النجاد وتريد طول قامته مع طول علاقة سيفه قال (وامسح
رأسه) تلطفا وإيناسا أي بالدهن إصلاحا لشعره أو باليد لما
جاء في حديث آخر يشعر بإرادة مسح رأسه مع ذلك باليد وهو ما
رواه أحمد والترمذي عن أبي أمامة مرفوعا من مسح على رأس
اليتيم لم يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة تمر عليها يده
حسنة وإسناده كما قال ابن حجر ضعيف وإطلاق الأخبار شامل
لأيتام الكفار ولم أر من خصها بالمسلم وفي حديث سيأتي عن
الحبر أن اليتيم يمسح رأسه من أعلاه إلى مقدمه وغيره بعكسه
قال زين الحافظ العراقي: وورد في حديث ابن أبي أوفى أنه
يقال عند مسح رأسه جبر الله يتمك وجعلك خلفا من أبيك
(وأطعمه من طعامك) أي مما تملكه من الطعام أو لا تؤثر نفسك
عليه بنفيس الطعام وتطعمه دونه بل أطعمه مما تأكل منه
(يلين قلبك) بالرفع على الاستئناف وبالجزم جوابا للأمر
(وتدرك حاجتك) أي فإنك إن أحسنت إليه وفعلت ما ذكر يحصل لك
لين القلب وتظفر بالبغية وفيه حث على الإحسان إلى اليتيم
ومعاملته بمزيد الرعاية والتعظيم وإكرامه لله تعالى خالصا
قال الطيبي وهو عام في كل يتيم سواء كان عنده أو لا فيكرمه
وهو كافله أما إذا كان عنده فيلزمه أن يربيه تربية أبيه
ولا يقتصر على الشفقة عليه والتلطف به ويؤدبه أحسن تأديب
ويعلمه أحسن تعليم ويراعي غبطته في ماله وتزويجه وفيه أن
مسح رأسه سبب مخلص من قسوة القلب المبعدة عن الرب فإن أبعد
القلوب من الله القلب القاسي كما ورد في عدة أخبار قال
الزين العراقي لكن قيده في حديث أبي أمامة المار بأن لا
يمسحه إلا لله قال ولا شك في تقييد إطلاق المسح به لأنه قد
يقع مسحه لريبة كأمرد جميل يريد مؤانسته بذلك لريبة كشهوة
وإن لم يكن مسح الشعر مفضيا إلى الشهوة فربما دعى إلى ذلك
انتهى وفيه أن من ابتلي بداء من الأخلاق الذميمة يكون
تداركه بما يضاده من الدواء فالتكبر يداوى بالتواضع والبخل
بالسماحة وقسوة القلب بالتعطف والرقة قال في الكشاف وحق
هذا الاسم أعني اليتيم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء
معنى الانفراد عن الآباء إلا أنه غلب أن يسموه به قبل أن
يبلغوا مبلغ الرجال فإذا استغنوا عن كافل وقائم وانتصبوا
كفاة يكفلون غيرهم زال عنهم وكانت قريش تقول [ص:109] لرسول
الله صلى الله عليه وسلم يتيم آل أبي طالب على القياس أو
حكاية حال كان عليها صغيرا توصيفا له وأما خبر " لا يتم
بعد احتلام " فما هو إلا تعليم شريعة لا لغة يعني أنه إذا
احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار انتهى
(طب عن أبي الدرداء) قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم
رجل يشكو قسوة قلبه فذكره قال المنذري رواه الطبراني من
رواية بقية وفيه راو لم يسم وبقية مدلس وروى أحمد بسند قال
الهيتمي تبعا لشيخه الزين العراقي صحيح أن رجلا شكى إلى
المصطفى قسوة قلبه فقال له امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين
(1/108)
98 - (اتخذ الله إبراهيم خليلا) اصطفاه
وخصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله من تردد الرسل
بالرحمة بينه وبينه وإجابة الدعوة وإظهار الخوارق عليه
وعلى آله والنصر على أعدائه وغير ذلك من المزايا والمواهب
والخليل المخالل وهو الذي يخاللك أي يوافقك في خلالك أو
يسايرك في طريقك من الخل الطريق في الرمل أو يسد خللك كما
تسد خلله أو يدخلك خلال منزله ذكره الزمخشري وقال القاضي
سمي خليلا من الخلة بالفتح الخصلة فإنه وافقه في خصاله أو
من الخلة بالفتح أيضا الحاجة لانقطاعه إلى ربه وقصره حاجته
عليه أو من الخلة بالضم وهي التخلل فإن الحب تخلل شغاف
قلبه بحيث لم يدع به خلالا إلا ملأه لما خالله من أسرار
الهيبة ومكنون الغيوب والمعرفة لاصطفائه عن أن يطرقه نظر
لغيره قال الراغب: الخلة تنسب إلى العبد لا إليه تعالى
فيقال إبراهيم خليل الله ولا يقال الله خليله وهو وإن كان
من الأسماء المتضايفة التي يقتضي وجود أحدهما وجود الآخر
وارتفاعه ارتفاعه لكن ليس المراد بقولهم إبراهيم خليل الله
مجرد الصداقة بل الفقر إليه وخص إبراهيم وإن شاركه كل
موجود في افتقاره إليه لأنه لما استغنى عن المقتنيات من
أعراض الدنيا واعتمد على الله حقا وصار بحيث إنه لما قال
له جبريل ألك حاجة قال أما إليك فلا فصبر على إلقائه في
النار وعرض ابنه للذبح لاستغنائه عما سواه فخص بهذا الاسم
(وموسى) بن عمران (نجيا) خصه بالنجوى أي الخطاب والنجي
المناجي الواحد وهو الذي يخاطب الإنسان ويحدثه سرا وهو من
قوله تعالى {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا}
والتناجي التساور (واتخذني حبيبا) فعيل بمعنى مفعول وقضية
السياق أنه أعلى درجة من الأوصاف المثبتة لغيره ممن ذكر من
الأنبياء (ثم قال وعزتي) قوتي وغلبتي (وجلالي) عظمتي
والجلالة عظم القدر والجلال بغير هاء التناهي في ذلك وخص
بالله فلا يطلق على غيره كما سيجيء (لأوثرن) بلام القسم
وضم الهمزة وشد النون لأفضلن (حبيبي على خليلي) إبراهيم
(ونجيي) أي مناجي موسى نبه به على أنه أفضل الرسل وأكملهم
وجامع لما تفرق فيهم فالحبيب خليل ومكلم ومشرف وقيل من قاس
الحبيب بالخليل فقد أبعد لأن الحبيب من جهة القلب يقال
حببته أي أصبت حبه قلبه كما يقال كبدته ورأسته وفأدته أي
أصبت كبده ورأسه وفؤاده والخليل من الخلة وهي الحاجة كما
مر وقد آثره أيضا بالنظر روى الطبراني في الأوسط عن ابن
عباس بإسناد حسن جعل الله الخلة لإبراهيم والكلام لموسى
والنظر لمحمد صلى الله عليه وسلم قال الراغب يستعار الأثر
للفضل والإيثار للتفضيل والاستئثار للتفرد بالشيء دون غيره
والأكثر على أن درجة المحبة أرفع وقيل عكسه لأن النبي صلى
الله عليه وسلم نفى ثبوت الخلة لغير ربه وأثبت المحبة
لفاطمة وابنيها وغيرهم وقيل هما سواء
(هب) في كتاب البعث والحكم والديلمي وابن عساكر (عن أبي
هريرة) وضعفه مخرجه البيهقي وحكم ابن الجوزي بوضعه وقال
تفرد به مسلمة الخشني وهو متروك والحمل فيه عليه ونوزع بأن
مجرد الضعف أو الترك لا يوجب الحكم بالوضع
(1/109)
99 - (اتخذوا) خذوا أخذ معتن بالشيء مجتهد
فيه والأمر للندب المؤكد (السراويلات) التي ليست بواسعة
ولا طويلة جمع [ص:110] سراويل أعجمي عرب جاء بلفظ الجمع
وهو مفرد يذكر ويؤنث والسراوين بنون والشراويل بشين معجمة
لغة (فإنها من أستر ثيابكم) أي أكثرها سترا ومن مزيدة
لسترها للعورة التي يسيء صاحبها كشفها وفيه ندب لبس
السراويل لكن إذا لم تكن واسعة ولا طويلة فإنها مكروهة كما
جاء في خبر آخر وفي تفسير ابن وكيع أن إبراهيم أول من
تسرول قال الداراني: لما اتخذ الله إبراهيم خليلا أوحى
إليه أن وار عورتك من الأرض فكان لا يتخذ من كل شيء إلا
واحدا سوى السراويل فيتخذ اثنين فإذا غسل أحدهما لبس الآخر
حتى لا يأتي عليه حال إلا وعورته مستورة به وروى أبو يعلى
أن عثمان لما حوصر أعتق عشرين رقبة ثم دعا بسراويل فشدها
عليه ولم يلبسها في الجاهلية ولا في الإسلام ثم قال: إني
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة في المنام وأبا
بكر وعمر وقالوا: اصبر فإنك تفطر عندنا الليلة القابلة ثم
دعا بالمصحف فنشره بين يديه فقتل وهو بين يديه فدل هذا على
أنه أبلغ ما تستر به العورة لأنه لم يلبسه إلا عند تحققه
أنه مقتول فآثره لأنه أبلغ في صون عورته عن أن يطلع عليها
أحد عند قتله (وحصنوا) استروا (بها نساءكم) أي صونوا بها
عورات نسائكم يقال حصن نفسه وماله ومدينة حصينة وتحصن اتخذ
الحصن مسكنا ثم يتجوز به في كل تحرز ومنه درع حصين لكونه
حصنا للبدن (إذا خرجن) من بيوتهن لما فيها من الأمن من
انكشاف العورة بنحو سقوط أو ريح فهو كحصن مانع وكالخروج
وجود أجنبي مع المرأة بالبيت ذكره جمع. قالوا: ولم يثبت أن
نبيا لبسها لكن روى أحمد والأربعة أنه اشتراها وقول ابن
القيم الظاهر أنه إنما اشتراها ليلبسها وهم فقد يكون
اشتراها لبعض نسائه وقول ابن حجر في شرائه لغيره بعد غير
مرضى إذ لا استبعاد في شرائه لعياله وما رواه أبو يعلى
وغيره أنه أخبر عن نفسه بأنه لبسه فسيجيء أنه موضوع فلا
يتجه القول بندب لبس السراويل حينئذ لأنه حكم شرعي لا يثبت
إلا بحديث صحيح أو حسن ومن وهم أن في خبر لا يلبس المحرم
السراويل دليل لسن لبسه للرجل فقد وهم إذ لا يلزم من نهي
المحرم عن لبسه لكونه مخيطا ندب لبسه لغيره
(عق عد والبيهقي في) كتاب (الأدب) كلهم (عن علي) أمير
المؤمنين قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم بالبقيع
في يوم دجن أي غيم ومطر فمرت امرأة على حمار فسقطت فأعرض
عنها فقالوا: إنها متسرولة فذكره في حديث طويل ثم أعله
مخرجاه العقيلي وابن عدي بمحمد بن زكريا العجلي فقال
العقيلي: لا يعرف إلا به ولا يتابع إلا عليه وقال أبو
حاتم: حديثه منكر وقال ابن عدي: حدث بالبواطيل ومن ثم حكم
ابن الجوزي بوضعه لكن تعقبه ابن حجر بأن البزار والمحاملي
والدارقطني رووه من طريق آخر قال: فهو ضعيف لا موضوع وذكر
نحوه المؤلف في مختصر الموضوعات
(1/109)
100 - (اتخذوا) إرشادا (السودان) جمع أسود
وهو اسم جنس (فإن ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة) أي من
أشرافهم وكبرائهم ولا ينافي الأمر بمطلق الاتخاذ هنا خبر
من اتخذ من الخدم غير ما ينكح ثم بغين كان عليه مثل لثامهن
لأن ما هنا في الذكور وما في الخبر في الإناث اللاتي يطؤهن
فقط أو أن هذا فيه معنى الشرط أي إن كنت متخذا ولا بد
فاتخذ السودان (لقمان) بن باعوراء (الحكيم) عبد حبشي لداود
عليه السلام أو لرجل من بني إسرائيل أعطاه الله الحكمة لا
النبوة عند الجمهور وكان نجارا وقيل خياطا وقيل ابن أخت
أيوب النبي غليه الصلاة والسلام وقيل ابن خالته وقيل كان
قاضيا وكان عظيم الشفتين مشقق القدمين فقيل له: ما أقبح
وجهك قال: تعيب النقش أو النقاش روى ابن الجوزي عن إبراهيم
بن أدهم أن قبر لقمان بين مسجد الرملة ومحل سوقها الآن
وفيها قبور سبعين نيبا أخرجهم بنو إسرائيل فماتوا كلهم في
يوم جوعا (و) الثاني (النجاشي) بفتح النون وتكسر من النجش
وهو الإنارة واسمه أصحمة كأربعة بمهملات وقيل بخاء معجمة
حكاه الإسماعيلي وقيل مكحول قال في الكشاف: ومعناه
بالعربية عطية (و) [ص:111] الثالث (بلال) ككتاب الحبشي وما
قيل من أنه ولقمان نوبيان لم يثبت (المؤذن) للنبي من
السابقين الأولين الذين عذبوا في الله تعالى. فإن قلت: هذا
يعارضه خبر إياكم والزنج وخبر اجتنبوا هذا السواد فإنه خلق
مشوه وخبر إنما الأسود لبطنه وفرجه. قلت: كلا لأن الأسود
ينقسم إلى زنجي وحبشي فالمرهوب منه الزنجي والمرغوب فيه
الحبشي وهؤلاء من الحبشان ثم رأيت راوي الخبر وهو الطبراني
قال: أراد الحبش هذا لفظه وروى الديلمي بسند ضعيف عن ابن
عمر مرفوعا من أدخل بيته حبشيا أو حبشية أدخل الله بيته
بركة وقد صنف المؤلف كتابا في فضل الحبشان سماه رفع شأن
الحبشان استوعب فيه الأحاديث الواردة في ذلك قال: وروى
البيهقي عن الشافعي ما نقص من أثمان السودان إلا لضعف
عقولهم ولولا ذلك لكان لونا من الألوان ومن الناس من يفضله
على غيره قال ابن الجوزي: والسواد لون أصلي لكنا روينا أن
بني نوح اقتسموا الأرض فنزل بنو سام سرة الأرة فكانت فيهم
الأدمة والبياض وبنو يافث الشمال والصبا فكانت فيهم الحمرة
والشقرة وبنو حام مجرى الجنوب والدبور فتغيرت ألوانهم وما
روي أن نوحا انكشفت عورته فلم يغطها حام فدعا عليه فاسود
لم يثبت
(حب في) كتاب (الضعفاء) والمتروكين (طب عن ابن عباس) قال
الهيتمي بعد عزوه الطبراني فيه أبين بن سفيان وهو ضعيف
وقال غيره فيه أيضا أحمد بن عبد الرحمن الحراني أورده
الذهبي في الضعفاء وقال قال أبو عروبة ليس بمؤتمن على دينه
عن أبين بن سفيان المقدسي قال في اللسان عن الدارقطني ضعيف
له مناكير وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات وأقره عليه
المؤلف في الكبير لكن نازعه في مختصر الموضوعات على عادته
وبالجملة فإن سلم عدم وضعه فهو شديد الضعف جدا
(1/110)
101 - (اتخذوا) ندبا (الديك) بكسر الدال
ذكر الدجاج وجمعه ديوك وديكه كعنب وعنبة وله أسماء وكنى
كثيرة مستوفاة في حياة الحيوان (الأبيض) أي اقتنوه في
بيوتكم فإن له خواص كثيرة ذكر منها ابن البيطار في مفرداته
جملة ومن خواصه طرد الشيطان والسحر كما قال (فإن دارا فيها
ديك أبيض لا يقربها شيطان) فيعال من شطن بعد لبعده عن الحق
أو فعلان من شاط بطل أو احترق غضبا (ولا ساحر) يسحر بمعنى
أنه لا يؤثر في أهلها سحر ساحر (ولا الدويرات) بالتصغير
جمع دار (حولها) أي المحلات حول تلك الدار والدار اسم جامع
للبناء والعرصة والمحلة ذكره القاضي. وقال الراغب: الدار
المنزلة اعتبارا بدورانها الذي لها بالحائط قال التوربشتي:
الدار لغة العامر المسكون والعامر المنزول من الاستدارة
لأنهم كانوا يخطون بطرف رمحهم قدر ما يريدون إحياءه مسكنا
وقال الحراني: أصلها ما أرادته العرب من البيوت كالحلقة
استحفاظا لما حوته من أموالها
(طس عن أنس) بن مالك قال الهيتمي: فيه محمد بن محصن
العكاشي كذاب انتهى
(1/111)
102 - (اتخذوا) ندبا وارشادا (هذه الحمام)
كسحاب ما عب وهدر أي شرب الماء بلا مص وصوت يقع على الذكر
والأنثى ودخول الهاء لإفادة الوحدة لا للتأنيث قال ابن
العماد: ويقع على الذي يألف البيوت واليمام والقماري وساق
حر والفاختة والقطا والورشان والعصفور والفتح والحجل
والدراج (المقاصيص) جمع مقصوصة أي مقطوعة ريش الأجنحة لئلا
تطير. يقال: قصصت الشعر أي قطعته وقصصته بالتثقيل مبالغة
(في بيوتكم) بضم الباء وتكسر أي أماكن سكنكم (فإنها تلهي)
من لها يلهو لعب (الجن عن) عبثهم بنحو (صبيانكم) وأذاهم
قيل وللأحمر في ذلك مزيد خصوصية [ص:112] ولعل وجهه أن الجن
تحب من الألوان الحمرة كما ورد في خبر فإذا كان الحمام
باللون المحبوب لهم كانوا أكثر إقبالا على اللهو به
والإشتغال به عن العبث بالأطفال قال في القاموس: ومجاورتها
أمان من الخدر والفالج والسكتة والجمود والثبات ومن فوائد
اتخاذ الحمام أنه يطرد الوحشة فقد أخرج الخطيب في التاريخ
عن ابن عباس قال: شكا رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
الوحشة فقال: اتخذ زوج حمام يؤنسك في الليل لكن فيه محمد
بن زياد كذاب وأخرج ابن السني عن معاذ أن عليا شكا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم الوحشة فأمره أن يتخذ زوج حمام
ويذكر الله تعالى عند هديره وأشار المصطفى صلى الله عليه
وسلم بقوله المقاصيص إلى عدم اتخاذ غيرها فإنه يجر إلى
اللعب به بالتطير أو المسابقة وذلك مكروه بل ترد الشهادة
بإدامته وفيه جواز حبس الطير في القفص مع القيام بمؤنته
قال في شرح المقاصد: والجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل
بأشكال مختلفة ويظهر منها أحوال عجيبة والشياطين أجسام
نارية شأنها إلقاء الناس في الفساد والغواية انتهى.
والظاهر أن المراد هنا كل منهما كما يدل عليه السياق
(الشيرازي) أبو بكر أحمد بن عبدان الملقب بالباز الأبيض
منسوب إلى شيراز بكسر المعجمة فمثناة تحتية وآخره زاي:
قصبة بلاد فارس ودار الملك خرج منها جماعة من أهل التصوف
والفقه والحديث منهم هذا الحافظ (في) كتاب (الألقاب) أي
ألقاب الرواة
(خط) في ترجمة محمد بن زياد اليشكري (فر عن ابن عباس)
قضبته أن مخرجه الخطيب خرجه ساكتا عليه والأمر بخلافه فإنه
عقبه بنقله عن أحمد وابن معين وغيرهما أن محمد بن زياد كان
كذابا يضع الحديث انتهى. وقال ابن حجر: فيه محمد بن زياد
اليشكري كذبوه وفي الميزان كذاب وضاع ثم أورد له هذا الخبر
يروي الموضوعات عن الأثبات ومن ثم حكم ابن الجوزي بوضعه
وتبعه المؤلف في مختصر الموضوعات ساكتا عليه وحكاه عنه في
الكبير وأقره فكان ينبغي حذفه من هذا الكتاب وفاء بشرطه
وممن جزم بوضعه ابن عراق والهندي وغيرهما وما في الأدب
المفرد للبخاري عن الحسن سمعت عثمان يأمر في خطبته بقتل
الكلاب وذبح الحمام فلا دلالة فيه على وضع هذا الحديث ولا
عدمه كما وهم
(1/111)
103 - (اتخذوا) ندبا وإرشادا (الغنم) محركة
الشاء لا واحد لها من لفظها الواحدة شاه اسم مؤنث للجنس
يقع على الذكر والأنثى (فإنها بركة) أي خير ونماء لسرعة
نتاجها وكثرته لأنها تنتج في العام مرتين وتولد الواحد
والاثنين ويؤكل منها ما شاء الله ويمتلئ منها وجه الأرض
والسباع تلد ستا وسبعا ولا يرى منها إلا الواحد في الأطراف
ومن ثم ورد ما من نبي إلا ورعى الغنم زاد البخاري قالوا:
وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا رعيتها لأهل مكة على قراريط
أي كل شاة بدينار وقيل موضع بقرب مكة وقد كان التفاخر
بالغنم بين أهل اللسان معروفا من قديم الزمان حسبما يشهد
بذلك قصائد فحول قدماء الشعراء كامرئ القيس <تنبيه> في
فتاوى المؤلف عن مقتضى المذاهب الأربعة أن من عير برعي
الغنم فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعاها قبل
النبوة أنه يعزر <فائدة> حكى في الوحيد أنه ورد في بعض
الآثار أن الخليل صلى الله عليه وسلم كان له أربعة آلاف
كلب في غنمه في عنق كل كلب طوق من الذهب الأحمر زنته ألف
مثقال فقيل له في ذلك فقال: إنما فعلت ذلك لأن الدنيا جيفة
وطلابها كلاب فدفعتها لطلابها
(طب خط عن أم هانئ) بنون مكسورة وهمزة فاختة أو هند بنت
أبي طالب أخت علي لها صحبة ورواية أسلمت يوم الفتح وهرب
زوجها هبيرة بن عمرو المخزومي إلى نجران ورواه الإمام
الرافعي عن عائشة باللفظ المزبور (ورواه هـ) عنها أيضا
ووافقه ابن جرير والطبراني والبيهقي (بلفظ اتخذي) يا أم
هانئ (غنما فإن فيها بركة) رمز المصنف لحسنه وهو كما قال
أو أعلى فإن رواة ابن ماجه ثقات ورواه أحمد قال الهيتمي:
بعد ما عزاه لأحمد وفيه موسى بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة
لم أعرفه
(1/112)
[ص:113] 104 - (اتخذوا عند الفقراء) جمع
فقير فعيل بمعنى فاعل يقال فقر يفقر إذا قل ماله وغلب
استعماله في الصوفية وأهل السلوك (أيادي) أي اصنعوا معهم
معروفا واليد كما تطلق على الجارحة تطلق على النعمة
والإحسان والقوة والسلطان قال الزمخشري: من المجاز لفلان
عندي يد وأيديت عنده ويديت أنعمت (فإن لهم دولة) انقلابا
من الشدة إلى الرخاء ومن العسر إلى اليسر فلو عرف الغني ما
للفقير عند الله لاتخذه صاحبا وترك الأغنياء جانيا قال أبو
عثمان المغربي: من آثر صحبة الأغنياء على مجالسة الفقراء
ابتلاه الله بموت القلب. قال في الكشاف: والدولة بالفتح
والضم ما يدول للإنسان أي يدور من الجد يقال دالت له
الدولة وأديل لفلان وقيل الدولة بالضم ما يتداول وبالفتح
بمعنى التداول وفي الأساس دالت به الدولة ودالت الأيام
بكذا وأدال الله بني فلان من عدوهم جعل الكرة لهم عليهم
(يوم القيامة) نصب على الظرفية وقد تأدب السلف في هذا بأدب
المصطفى تأدبا حسنا حتى حكي عن سفيان الثوري أن الفقراء في
مجلسه كانوا أمراء قال اليافعي: وكان بعض الفقراء الواجدين
يغني ويبكي ويقول في غنائه: قال لنا حبيبنا اليوم لهم وغدا
لنا. وظاهر صنيع المصنف أن هذا الحديث هو بتمامه والأمر
بخلافه بل بقيته عند مخرجه فإذا كان يوم القيامة نادى مناد
سيروا إلى الفقراء فاعتذروا إليهم كما يعتذر أحدكم إلى
أخيه في الدنيا انتهى بنصه <فائدة> رأى بعض العارفين عليا
كرم الله وجهه في النوم فقال له: ما أحسن الأعمال قال: عطف
الأغنياء على الفقراء وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء
ثقة بالله تعالى
(حل عن الحسين بن علي) أمير المؤمنين قال الحافظ العراقي:
سنده ضعيف جدا انتهى ورمز المصنف لضعفه لكن ظاهر كلام
الحافظ ابن حجر أنه موضوع فإنه قال: لا أصل له وتبعه
تلميذه السخاوي فقال بعد ما ساقه وساق أخبارا متعددة من
هذا الباب وكل هذا باطل كما بينته في بعض الأجوبة وسيق إلى
ذلك الذهبي وابن تيمية وغيرهما قالوا: ومن المقطوع بوضعه
حديث اتخذوا مع الفقراء أيادي قبل أن تجيء دولتهم ذكره
المؤلف وغيره عنه
(1/113)
105 - (اتخذه من ورق) بفتح الواو وتثليث
الراء فضة قال في الكشاف: الورق فضة مضروبة أو غير مضروبة
(ولا تتمه) بضم فكسر تكمله من أتم الشيء أكمله قال الراغب:
وتمام الشيء انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه
والناقص ما يحتاج إلى شيء خارج عنه ويقال ذلك للمعدود
والممسوح (مثقالا) بكسر فسكون معروف وهو درهم وثلاثة أسباع
درهم فإن بلغ مثقالا كره كراهة تنزيه فإن زاد عليه ففي
تحريمه وجهان والأصح أنه إن لم يعد إسرافا عرفا جاز وإلا
فلا وفي رواية لأبي داود ولا تتمه مثقالا ولا قيمة مثقال.
قال الحافظ الزين العراقي: ومعنى هذه الزيادة أنه ريما وصل
الخاتم بالنفاسة في صنعته إلى أن يكون قيمته مثقالا فهو
داخل في النهي أيضا وقوله (يعني الخاتم) تفسير من الراوي
لما أشير إليه بضمير اتخذه ولبس الخاتم سنة قال ابن
العربي: الخاتم عادة في الأمم ماضية وسنة في الإسلام قائمة
وفي المواهب القسطلانية وشرح الشمائل للهيتمي وغيرهما عن
جدي الشرف المناوي رحمه الله تعالى تحصل السنة بلبسه مطلقا
ولو مستعار أو مستأجرا لكن الأفضل لبسه بالملك واستدامته
انتهى
(3) وكذا ابن حبان وصححه (عن بريدة) بضم الباء الموحدة
وفتح الراء المهملة ابن الحصيب بضم المهملة وفتح المهملة
الثانية فتحتية فموحدة ابن عبد الله الأسلمي قال: جاء رجل
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من حديد
فقال: مالي أرى عليك حلية أهل النار فطرحه ثم جاء وعليه
خاتم من صفر فقال: مالي أجد منك ريح الأصنام فطرحه ثم أتاه
وعليه خاتم من ذهب فقال: مالي أرى عليك حلية أهل الجنة
قال: يا رسول الله فمن أي شيء أتخذه قال: اتخذه من ورق إلى
آخره قال الترمذي: حديث غريب قال ابن حجر: وفيه عبد الرحمن
ابن مسلم أبو طيبة قال أبو حاتم لا يحتج به وقال ابن حبان:
يخطئ ومع ذلك صححه فدل على قبوله له وأقل درجاته الحسن
انتهى. [ص:114] ولذلك رمز المؤلف لحسنه لكن ضعفه النووي في
المجموع وشرح مسلم وتبعه جمع من الفقهاء
(1/113)
106 - (أتدرون) أتعلمون أو أتعرفون قال
الراغب: الدراية المعرفة المدركة بضرب من ضروب الحيل وهو
تقديم المقدمة واجالة الخاطر واستعمال الروية ولا يجوز أن
يوصف بذلك البارئ لأن معنى الحيل لا يصح عليه ولم يرد به
سمع فيتبع وقول الشاعر:
لا هم لا أدري وأنت تدري. . . من تعجرف أجلاف الأعراب
(ما العضه) بفتح المهملة وسكون المعجمة وضم الهاء البهتان
الذي يحير قال في الصحاح: العضه الرمي بالبهتان وقال في
القاموس: عضه كمنع كذب وجاء بالإفك والبهتان وفلانا أبهته
وقال فيه ما لم يكن وسخر ونم انتهى. وعنون بالاستفهام
تنبيها على فخامة ما يلقيه من الكلام وإشارة إلى أنه يتعين
معرفته ويقبح الجهل به ولما قال ذلك قالوا: الله ورسوله
أعلم قال (نقل الحديث) أي ما يتحدث به (من بعض الناس إلى
بعض ليفسدوا بينهم) أي لأجل أن يفسد الناقلون المفهومون من
نقل بين المنقول إليهم والمنقول عنهم وعبر بالجمع إشارة
لاعتياده واطراده بينهم والمراد التحذير من نقل كلام قوم
لآخرين لإلقاء العداوة والبغضاء بينهم وهذا هو النميمة
التي هي كما قال جمع: نقل الحديث على وجه الإفساد وهو من
الكبائر وقال الغزالي: حد النميمة كشف ما يكره كشفه سواء
كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو ثالث سواء كان بقول
أو كتابة أو رمز أو إيماء سواء كان عيبا أو نقصا على
المنقول عنه أو لا بل حقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر
عما يكره كشفه (تتمة) تبع رجل حكيما سبع مئة فرسخ لأجل سبع
كلمات قال: أخبرني عن السماء وما أثقل منها وعن الأرض وما
أوسع منها وعن الحجر وما أقسى منه وعن النار وما أحر منها
وعن الزمهرير وما أبرد منه وعن البحر وما أغنى منه وعن
اليتيم وما أذل منه فقال: البهتان على البريء أثقل من
السماء والحق أوسع من الأرض والقلب القانع أغنى من البحر
والحرص والحسد أحر من النار والحاجة إلى الغير إذا لم تنجح
أبرد من الزمهرير وقلب الكافر أقسى من الحجر والنمام إذا
بان للناس أمره أذل من اليتيم
(خد هق) كلاهما معا من حديث سنان بن سعد (عن أنس) بن مالك
رمز المؤلف لحسنه وليس كما قال فقد أعله الذهبي في المذهب
متعقبا على البيهقي فقال: فيه سنان بن سعد وهو ضعيف
(1/114)
107 - (أترعوا) بفتح الهمزة وسكون المثناة
فوق وكسر الراء: املؤا إرشادا. قال الزمخشري وغيره: أترع
الكأس ملأها وجفان مترعات وسد الترعة وهو منفتح الماء ومن
المجاز فتح ترعة الدار بابها وحجبني التراع البواب يقولون
جاءه القراع فرده التراع (الطسوس) بضم الطاء وسينين
مهملتين جمع طس وهو لغة في الطست (وخالفوا المجوس) بفتح
الميم فإنهم لا يفعلون ذلك وهم عبدة النار القائلون بأن
العالم نور وظلمة. ومعنى الحديث اجمعوا الماء الذي تغسلون
به أيديكم في إناء واحد حتى يمتلئ فإن ذلك مستحب ولا
تريقوه قبل امتلائه كما تفعله المجوس. وقد جرى على ندب ذلك
الغزالي في مختصر الإحياء فقال: يستحب أن يجمع ماء الكل في
طست واحد ما أمكن لهذا الحديث وهذا بناء على أن المراد من
الحديث غسل الأيدي من الطعام عقب الأكل وحمله بعضهم على
الوضوء الشرعي فقال: يسن جمع ماء الوضوء في طست حتى يمتلئ
ويطف ولا يبادر باهراقه قبل الامتلاء مخالفة للمجوس ولكل
من الحملين وجه أما كون ذلك من سنن الأكل فلأن فيه صون
الماء عن التزلق الذي قد يقع فيه بعض الحاضرين فيؤذيه وأما
كونه من سنن الوضوء فلأن فيه التحرز عن الرشاش الذي قد
يصيب ثوبه بعد إصابته الأرض فيؤدي إلى الوسواس المضر
ويوافق ذلك أنه يسن عندنا للمتوضئ أن يتوقى الرشاش المؤدي
إلى الوسواس وينضم إلى ذلك مخالفة المجوس. الحديث وإن كان
ضعيفا لكن يعمل به في الفضائل وهذا منها وفي الشعب أن عمر
بن عبد العزيز كتب إلى عامله [ص:115] بواسط بلغني أن الرجل
يتوضأ في طست ثم يأمر بها فتهراق وهذا من زي العجم فتوضؤا
فيها فإذا امتلأت فاهريقوها
(هب خط فر عن ابن عمر) بن الخطاب وضعفه البيهقي وقال: في
إسناده من يجهل وقال ابن الجوزي: حديث لا يصح وأكثر رواته
ضعفاء ومجاهيل لكنه ورد بمعناه في خبر جيد رواه القضاعي في
مسند الشهاب عن أبي هريرة بلفظ اجمعوا وضوءكم جمع الله
شملكم وقال الحافظ العراقي: إسناده لا بأس به. وروى
البيهقي عن أبي هريرة مرفوعا لا ترفعوا الطسوس حتى تطف
اجمعوا وضوءكم جمع الله شملكم
(1/114)
108 - (أترعون) بفتح همزة الاستفهام
والمثناة فوق وكسر الراء أي أتتحرجون وتكفون وتتورعون (عن
ذكر) بكسر فسكون (الفاجر) المتظاهر بنحو تخنث وزنا ولواط
وشرب خمر وجور غير مبال بما ارتكبه من ذلك وتمتنعون (أن
تذكروه) أي تجروا جرائمه على ألسنتكم بين الناس (فاذكروه)
بما فيه ولهذا قال الحسن: ثلاثة لا غيبة لهم صاحب هوى
والفاسق المعلن والإمام الجائر. وقال الغزالي: وهؤلاء
يجمعهم أنهم يتظاهرون به وربما يتفاخرون وكيف يكرهونه وهم
يقصدون إظهاره (يعرفه الناس) أي ليعرفوا حاله فيحذروه فليس
ذكره حينئذ منهيا عنه بل مأمور به للمصلحة ومن ذلك قول
الحسن في الحجاج أخرج البنا بنانا قصيرة قلما عرفت فيها
اللعنة في سبيل الله ثم جعل يطبطب شعيرات له ويقول: يا أبا
سعيد يا أبا سعيد وقال: لما مات اللهم أنت أمته فاقطع سنته
فإنه أتانا خيفش أعيمش يخطر في مشيه لا يصعد المنبر حتى
تفوته الصلاة لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي فوقه
الله وصحبه مئة ألف أو يزيدون لا يقول له قائل الصلاة
هيهات دون ذلك السيف. والغيبة تباح في نحو أربعين موضعا
ذكرها ابن العماد وغيره والكلام في غير نحو راو وشاهد
وأمين صدقة وناظر وقف ويتيم أما هم فيجب جرحهم إجماعا على
من علم فيهم قادحا وإن لم يتجاهروا بالفجور ولا أبرزوا
الخيانة إلى حين الظهور <تنبيه> هذا الحديث وما بعده شامل
للفاجر الميت ولا ينافيه النهي عن سب الأموات في الخبر
الآتي لأن السب غير الذكر بالشر وبفرض عدم المغايرة
فالجائز سب الأشرار والمنهي سب الأخيار ذكره الكرماني
وغيره
(خط في) كتاب (رواه مالك) بن أنس (عن أبي هريرة) وأخرجه
البيهقي في الشعب من حديث الجارود عن بهز بن حكيم عن أبيه
عن جده مرفوعا ثم قال: هذا يعد من أفراد الجارود وليس بشيء
وقضية تصرف المصنف أن مخرجه الخطيب خرجه ساكتا عليه والأمر
بخلافه بل قال: تفرد به الجارود وهو كما قال البخاري منكر
الحديث وكان أبو أسامة يرميه بالكذب هذا كلام الخطيب
فنسبته لمخرجه واقتطاعه من كلامه ما عقبه به من بيان حاله
غير مرضي وقد قال في الميزان إنه موضوع ونقله عنه في
الكبير وأقره عليه لكن نقل الزركشي عن الهروي في كتاب ذم
الكلام أنه حسن باعتبار شواهده التي منها ما ذكره المؤلف
بقوله:
(1/115)
109 - (أترعون عن ذكر الفاجر) أي الذي يفجر
الحدود أي يخرقها ويتعداها معلنا غير مبال ولا مستتر
فالإسلام كحظيرة حظرها الله على أهله فمن ثلم تلك الحظيرة
بالخروج منها متخطيا ما وراءها فقد فجرها وذا يكون من
المؤمن والكافر لكن الحديث إنما ورد في المؤمن فيكون غيره
أولى بدليل ما ذكر في سبب الحديث أنه لما حث على ستر
المسلم وتوعد على هتكه تورعوا عن ذكره لحرمة التوحيد فبين
لهم أن الستر إنما هو لأهل الستر فمن لزمه هذا الاسم لغلبة
الفجور عليه وقلة مبالاته فلا حرمة له فلا يكتم أمره بل قد
يجب ذكره ويكون الكف عنه خيانة. ألا ترى إلى قوله (متى)
بفتح الميم مخففا (يعرفه الناس) أي وقت يعرفه الناس إن لم
تعرفوهم به (اذكروا الفاجر) الفاسق (بما فيه) من الفجور
وهتك ستر الديانة فذكره بذلك من النصيحة الواجبة لئلا يغتر
به مسلم فيقتدي به في فعلته أو يضله ببدعته أو يسترسل له
فيؤذيه بخدعته وبين قوله بما فيه أنه [ص:116] لا يجوز ذكره
بغير ما فيه ولا بما لا يعلن به قال ابن عون: دخلت على ابن
سيرين فذكرت الحجاج أي بما لم يتظاهر به فقال: إن الله
ينتقم للحجاج كما ينتقم منه وإنك إذا لقيت الله غدا كان
أصغر ذنب أصبته أشد عليك من أعظم ذنب أصابه الحجاج وأشار
بقوله (يحذره) أي لكي يحذره (الناس) إلى أن مشروعية ذكره
بذلك مشروطة بقصد الاحتساب وإرادة النصيحة دفعا للاغترار
ونحوه مما ذكر فمن ذكر واحدا من هذا الصنف تشفيا لغيظه أو
انتقاما لنفسه أو احتقارا أو ازدراء ونحو ذلك من الحظوظ
النفسانية فهو آثم كما ذكره الغزالي ثم السبكي فيما نقله
عنه ولده قال: كنت جالسا بدهليز دارنا فأقبل كلب فقلت له:
اخسأ كلب بن كلب فزجرني والدي فقلت له: أليس هو كلب ابن
كلب قال: شرط الجواز عدم قصد التحقير فقلت هذه فائدة وأخذ
الغزالي من هذا الخبر وما قبله أن من استشير في خاطب فله
أن يصرح بذكر مساويه إذا علم أن مجرد قوله لا يصلح لك لا
يفيد قال الراغب: والحذر احتراز عن مخيف (ابن أبي الدنيا)
أبو بكر القرشي (في) كتاب (ذم الغيبة) أي ذكر الناس بما
يكرهون (والحكيم) محمد بن علي الترمذي المؤذن الصوفي
الشافعي صاحب التصانيف (في) كتابه (نوادر الأصول) سمع
الكثير من الحديث بالعراق ونحوه وحدث عن قتيبة بن سعيد
وغيره وهو من القرن الثالث من طبقة البخاري قال السلمي:
نفوه من ترمذ وشهدوا عليه بالكفر بسبب تفضيله الولاية على
النبوة وإنما مراده ولاية النبي صلى الله تعالى عليه وعلى
آله وسلم وقال ابن عطاء الله: كان العارفان الشاذلي
والمرسي يعظمانه جدا ولكلامه عندهما الحظوة التامة ويقولان
هو أحد الأوتاد الأربعة وقال ابن أبي جمرة في كتاب الختان
وابن القيم في كتاب اللمحة في الرد على ابن طلحة أنه لم
يكن من أهل الحديث ورواته ولا علم له بطرقه وصناعته وإنما
فيه الكلام على إشارات الصوفية حتى خرج عن قاعدة الفقهاء
واستحق الطعن عليه وطعن عليه أئمة الفقهاء والصوفية وقالوا
أدخل في الشريعة ما فارق به الجماعة وملأ كتبه الفظيعة
بالأحاديث الموضوعة وحشاها بأخبار لا مروية ولا مسموعة إلى
آخر ما قال من الهذيان والبهتان كما لا يخفى على أهل
الشأن. كيف وقد قال الحافظ ابن النجار في تاريخه كان إماما
من أئمة المسلمين له المصنفات الكبار في أصول الدين ومعاني
الحديث لقي الأئمة الكبار وأخذ عنهم وفي شيوخه كثرة ثم
أطال في بيانه وقال السلمي في الطبقات له اللسان العالي
والكتب المشهورة وقال القشيري في الرسالة: هو من كبار
الشيوخ وأطال في الثناء عليه وقال الحافظ أبو نعيم في
الحلية: له التصانيف الكثيرة في الحديث وهو مستقيم الطريقة
تابع للأثر يرد على المرجئة وغيرهم وله حكم عليه الشأن
منها قوله كفى بالمرء عيبا أن يسره ما يضره وقوله وقد سئل
عن الخلق فقال: ضعف ظاهر ودعوى عويضة وقال الكلاباذي في
التعرف هو من أئمة الصوفية إلى غير ذلك من الكلام في شأن
هذا الإمام وإنما أطلت فيه دفعا لذلك الافتراء فلا تكن من
أهل المراء (والحاكم) أبو عبد الله (في) كتاب (الكنى)
والألقاب وقال هذا غير صحيح ولا معتمد (والشيرازي) أبو بكر
(في) كتاب (الألقاب) وهو أجل كتاب ألف في هذا الباب قبل
ظهور تأليف الحافظ ابن حجر
(عد طب هق) وقال أعني البيهقي ليس بشيء (خط) في ترجمة محمد
بن القاسم المؤدب من حديث الجارود (عن بهز) بفتح الموحدة
وسكون الهاء ثم زاي معجمة (ابن حكيم عن أبيه عن جده) قال
الجارود لقيت بهز بن حكيم في الطواف فذكره لي فيه قال
الحكيم والخطيب تفرد به الجارود عنه وقال في المهذب كأصله
الجارود واه وقد سرقه منه جمع ورووه عن بهز ولم يصح فيه
شيء وقال أحمد: حديثه منكر وقال ابن عدي: لا أصل له قال:
وكل من روى هذا الحديث فهو ضعيف وقال الدارقطني في علله:
هو من وضع الجارود ثم سرقه منه جمع وفي الميزان عن أسامة
وأبي حاتم أن الجارود كذاب وأن أبا بكر بن الجارود كان إذا
مر بقبر جده قال: يا أبت لو لم تحدث بحديث بهز لزرتك وقد
نقل المؤلف في الكبير عن الحكيم أن الجارود تفرد به وأن
أبا حاتم وأبا أسامة كذباه وأقر ذلك
(1/115)
[ص:117] 110 - (اتركوا) من الترك قال
الراغب: وهو رفض الشيء قصدا واختيارا أو قهرا واضطرارا
(الترك) بضم فسكون جيل من الناس والجمع أتراك الواحد تركي
كرومي وأروام قاله في القاموس. والمصباح ولا يعارضه قول
ابن الأثير: الترك جمع تركي لأن الجمع قد يجمع وهو وإن كان
مفردا في الأصل اسم الأب فالأب مسماه جمع كثير فالمصباح
والقاموس نظرا إلى أنه اسم مفرد في الأصل وابن الأثير نظر
إلى مدلوله الآن قال الزمخشري: تقول العرب تراك تراك صحبة
الأتراك وفيه جناس الاشتقاق (ما تركوكم) أي لا تتعرضوا لهم
مدة تركهم لكم وخصوا لشدة بأسهم وبرد بلادهم ففي غزوهم
مشقة فإن لم يتركونا بأن دخلوا دارنا فقتالهم فرض عين وفيه
من أنواع البديع جناس الاشتقاق (فإن أول من يسلب أمتي) أي
أمة النسب وهو العرب لا أمة الدعوة (ملكهم) أي أول من
ينتزع منهم بلادهم التي ملكوها (وما خولهم الله) فيه أي
أعطاهم من النعم والسلب بالسكون الأخذ والاستلاب الاختلاس.
السلب بالتحريك المسلوب والتخول الإعطاء والتعهد وأراد
بالأمة بعضها إذ المسلوب البعض كما تقرر فهو عام أريد به
الخصوص. (بنو قنطوراء) بفتح القاف وسكون النون وبالمد على
ما في المغرب الجواليقي لكن في البارع بالقصر جارية
إبراهيم الخليل وقيل امرأته من الكنعانيين تزوجها بعد موت
سارة وأم إسماعيل. ومن نسلها الترك والديلم والغز وقيل هم
بنو عم يأجوج ومأجوج لما بني السد كانوا غائبين فتركوا لم
يدخلوا معهم فسموا الترك قال القرطبي: ومع ذلك خرج من
الترك أمم لا يحصيها إلا الله تعالى وقال ابن دحية: خرج
سنة سبع عشرة وست مئة جيش منهم وهم التتر عظم منهم الخطب
والخطر وعم الضرر وقضى لهم من قتل الأنفس المؤمنة الوطر
فقتلوا من رواء النهر وما دونه من جميع بلاد خراسان ومحوا
آثار ملك بني ساسان وهذا الجيش ممن يكفر بالرحمن ويرى أن
الخالق المصور هو النيران وملكهم يعرف بجنكزخان ومن
أمثالهم اترك الترك إن أحبوك أكلوك وإن أبغضوك قتلوك وقال
ابن حجر: قد ظهر مصداق الخبر وروى أبو يعلى عن معاوية بن
خديج قال: كنت عند معاوية فأتاه كتاب عامله أنه وقع بالترك
فهزمهم فغضب ثم كتب إليه لا تقاتلهم حتى يأتيك أمري فإني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الترك تجلي
العرب حتى تلحقها بمنابت الشيح فأنا أكره قتالهم لذلك
وقاتل المسلمون الترك في خلافة بني أمية وكان ما بينهم
وبين المسلمين مسدودا إلى أن فتح شيئا فشيئا وكثر السبي
منهم وتنافس فيهم الملوك لما فيهم من الشدة والبأس حتى كان
أكثر عسكر المعتصم منهم ثم غلب الأتراك على الملك فقتلوا
ابنه المتوكل ثم أولاده واحدا بعد واحد إلى أن استولى على
الملك الأتراك طائفة بعد طائفة إلى آل سلجوق فخرج عليهم في
المئة الخامسة الغز فخربوا البلاد وقتلوا العباد ثم جاءت
الطامة الكبرى بالتتار فكان خروج جنكزخان بعد الست مئة
فاسعرت بهم الدنيا نارا سيما المشرق حتى لم يبق بلد منه
حتى دخله شرهم ثم كان خراب بغداد وقتل المعتصم آخر الخلفاء
بأيديهم سنة ست وخمسين وست مئة ثم لم تزل بقاياهم يخربون
إلى أن كان آخرهم التمرلنك فطرق الديار الشامية وخرب دمشق
حتى صارت خاوية على عروشها ودخل الروم والهند وما بين ذلك
وطالت مدته حتى أخذه الله وتفرق بنوه في البلاد وظهر بجميع
ذلك مصداق الحديث
(طب) وكذا في الأوسط والصغير (عن) أبي عبد الرحمن عبد الله
(بن مسعود) قال الهيتمي: فيه مروان بن سالم متروك وذكره في
موضع آخر وقال: فيه عثمان بن يحيى الفرقسابي لم أعرفه
وبقية رجاله رجال الصحيح انتهى. وقال السمهودي: المقال
إنما هو في سند الكبير أما الأوسط والصغير فإسنادهما حسن
ورجالهما موثوقون انتهى. وبه يعرف أن اقتصار المؤلف على
العزو الكبير غير جيد وكيفما كان لم يصب ابن الجوزي حيث
حكم بوضعه وقد جمع الضياء فيه جزءا
(1/117)
[ص:118] 111 - (اتركوا) بضم الهمزة وسكون
الفوقية وضم الراء (الحبشة) بالتحريك جيل من السودان معروف
والواحد حبشي والحبش بضم فسكون اسم جنس ولهذا صغر على حبيش
قال ابن حجر: ويقال إنهم من ولد حبش بن كوش بن حام بن نوح
وهم مجاورون لأهل اليمن يقطع بينهم البحر وقد غلبوا على
اليمن قبل الإسلام وملكوها وغزا أبرهة من ملوكهم الكعبة
ومعه الفيل (ما تركوكم) أي مدة دوام تركهم لكم لما يخاف من
شرهم كما يشير إليه قوله (فإنه لا يستخرج) أي لا يستنبط
والاستخراج الاستنباط وهو ما أظهر بعد خفاء (كنز الكعبة)
أي المال المدفون فيها حين يهدمها حجرا حجرا ويلقي حجارتها
في البحر كما جاء في خبر آخر والكعبة اسم للبيت الحرام سمي
به لتكعبه وهو تربيعه وكل بناء مربع مرتفع كعبة وقيل
لاستدارتها وعلوها وقيل لكونها على صورة الكعب (إلا ذو
السويقتين من الحبشة) تثنية سويقة مصغرا قال الطيبي: وسر
التصغير الإشارة إلى أن مثل هذه الكعبة المعظمة يهتك
حرمتها مثل هذا الحقير الذميم الخلقة ويحتمل أن يكون الرجل
اسمه ذلك أو أنه وصف له أي رجل من الحبشة دقيق الساقين
رقيقهما جدا والحبشة وإن كان شأنهم دقة السوق لكن هذا
يتميز بمزيد من ذلك ولا يعارضه قوله تعالى {حرما آمنا} لأن
معناه آمنا إلى قرب يوم القيامة فإن هذا التخريب يكون في
زمن عيسى عليه الصلاة والسلام على ما ذكره بعضهم فيأتي
إليه الصريخ فيبعث إليه. وقال الحليمي: بل بعد موته وبعد
رفع القرآن ورجحه بعض الأعيان وجمع بحمل الأول على أنه
يهدم بعضه في زمن عيسى فيبعث إليه فيهرب ثم بعد موته ورفع
القرآن يعود ويكمل هدمه إشارة إلى رفع معالم الدين من
أصلها
(د ك) في الفتن وكذا البيهقي (عن ابن عمرو) بن العاص رمز
المصنف لصحته اغترارا بتصحيح الحاكم وهو وهم فقد أعله
الحافظ عبد الحق بأن فيه زهير بن محمد شيخ أبي داود كان
سيء الحفظ لا يحتج بحديثه
(1/118)
112 - (اتركوا الدنيا لأهلها) أي صيروها من
قبيل المتروك الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال ولا تذهب
النفس إليه لخسته والمراد بالدنيا الدنانير والدراهم أو
المطعم والمشرب والملبس ومتعلقات ذلك أي التوسع في ذلك
والتهافت على أخذ ما فوق الكفاية وأما تفسيره بحب الجياة
فلا يلائم السوق كما لا يخفى على أهل الذوق قال الفاكهي:
ودنيا كل إنسان بحسب حاله فكلام الشيخ بين طلبته والأمير
بين جنده دنيا بالنسبة لهم إلا أن يقصدوا به أمرا أخرويا
وذا لا يكاد يكون إلا من موفق لاح له من علم الآخرة لائح
فاشتاق لمولاه وغلب شيطانه وهواه وذكر الغزالي أن عيسى ابن
مريم عليه الصلاة والسلام مر برجل نائم ملتف بعباءة فقال:
يا نائم قم فاذكر الله تعالى قال: ما تريد مني وقد تركت
الدنيا لأهلها فقال: نم إذا يا حبيبي نم (فإنه) أي الشأن
(من أخذ منها) مقدارا (فوق ما) أي القدر الذي (يكفيه) أي
زائدا على الذي يحتاجه لنفسه والممونة من نحو مأكل ومشرب
وملبس ومسكن وخادم ومركب وآنية تليق به وبهم (أخذ من حتفه)
أي أخذ في أسباب هلاكه والحتف الهلاك قال الزمخشري: قالوا
المرء يسعى ويطوف وعاقبته الحتوف قيل هو مصدر بمعنى الحتف
وهو القضاء وفي الصحاح الحتف الموت يقال مات حتف أنفه إذا
مات بغير قتل ولا ضرب وفي النهاية هو أن يموت على فراشه
كأن سقط فمات والحتف الهلاك وخص الأنف لأنه أراد أن روحه
تخرج من أنفه بتتابع نفسه (وهو لا يشعر) أي والحال أنه لا
يدري ولا يحس بذلك ولا يتوقعه لتمادي غفلته. والشعور
الإحساس ومشاعر الإنسان حواسه ومنه الشعار وما شعرت به ما
فطنت له وما علمته وليت شعري ما كان منه وما يشعركم وما
يدريكم ذكره الزمخشري فهلاك هذا الدين وسلوك سبيل الناجين
الزهد فيها والإعراض عنها والاقتصار على الكفاف قال
الغزالي: وإنما كانت الزيادة على قدر الكفاية مهلكة لأن
ذلك يدعو إلى المعاصي فإنها تمكن منها [ص:119] ومن العصمة
أن لا يقدر ولأنه يدعو إلى التنعم بالمباحات وهو أقل
الدرجات فينبت على التنعيم جسده ولا يمكنه للصبر عنه وذلك
لا يمكن استدامته إلا بالاستعانة بالخلق والالتجاء إلى
الظلمة وهو يدعو إلى النفاق والكذب والرياء والعداوة
والبغضاء ولأنه ينهى عن ذكر الله تعالى الذي هو أساس
السعادة الأخروية انتهى. ولهذا كان محط نظر السلف الصالح
التجرد المطلق عن علائقها أما الأخذ منها بقدر الكفاية لمن
ذكر فلا ضير فيه بل قد يجب بل له أخذ ما زاد على كفايته
بقصد صرف الفاضل في وجوه البر إن وثق من نفسه بالوفاء بذلك
القصد فمثال المال كحية فيها ترياق نافع وسم ناقع فإن
أصابها من يعرف وجه التحرز عن سمها وطريق استخراج ترياقها
النافع كانت عليه نعمة وإن أصابها من لم يعرف ذلك فهي عليه
نقمة وهي كبحر تحته صنوف الجواهر فمن كان عارفا بالسباحة
وطرق الغوص والتحرز عن مهلكات البحر فقد ظفر بنعمة وإن
غاصه جاهل بذلك تورط في المهالك هذا غاية البيان وليس قربة
وراء عمان
(فر عن أنس) رمز المصنف لضعفه وذلك لأن فيه من لا يعرف لكن
فيه شواهد تصيره حسنا لغيره
(1/118)
113 - (اتق) بكسر الهمزة وشد المثناة فوق
(الله) أمر من التقوى فعلى من الوقاية ما يتقى به مما يخاف
فتقوى العبد لله أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وقاية
تقيه منه وهي هنا الحذر (فيما تعلم) أي تحذره وخفه في
العمل أو في ترك العمل بالذي تعلمه وحذف المفعول للتعميم
وذلك بأن تجتنب المنهي وتفعل المأمور وخاطب العالم لأن
الجاهل لا يعرف كيف يتقي لا من جانب الأمر ولا من جانب
النهي والمراد أصالة العلم العيني الذي لا رخصة للمكلف في
تركه وما عداه من كمال التقوى قال ابن القيم وللمعاصي من
الآثار القبيحة ما لا يعلمه إلا الله فمنها حرمان العلم
فإن العلم نور يقذف في القلب والمعصية تطفئه وكتب رجل إلى
أخيه أنك أوتيت علما فلا تطفئن نوره بظلمة الذنوب فتبقى في
الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم وأوحى الله تعالى
إلى داود عليه الصلاة والسلام يا داود أدنى ما أصنع
بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي
وقال بشر: التلذذ بجاه الإفادة ومنصب الإرشاد أعظم من كل
تنعم في الدنيا فمن أجاب شهوته فيه فما اتقى فيما علم
(تخ ت) وكذا الطبراني من حديث أنس بن أشوع (عن زيد بن
سلمة) بن يزيد بن مشجعة (الجعفي) بضم الجيم وسكون المهملة
نسبة إلى جعفي بن سعد العشيرة قبيلة كبيرة قال قلت يا رسول
الله سمعت منك حديثا كثيرا فإني أخاف أن ينسيني آخره أوله
فمرني بكلمة جامعة فذكره قال الترمذي في العلل سألت عنه
محمدا يعني البخاري فقال سعيد بن أشوع لم يسمع من يزيد فهو
عندي مرسل وقال المؤلف في الكبير منقطع
(1/119)
114 - (اتق الله) خفه واحذره (في عسرك) بضم
فسكون وبضمتين وبالتحريك كما في القاموس: الضيق والصعوبة
والشدة (ويسرك) بالضم وبضمتين وبالفتح وبفتحتين الغنى
والسهولة يعني إذا كنت في ضيق وشدة وفقر فخف الله أن تفعل
ما نهى عنه أو تهمل ما أمر به وإن كنت في سرور وغنى فاحذره
أن تطغى وتقتحم ما لا يرضاه فإن نعمته إذا زالت عن إنسان
قلما تعود إليه وقدم العسر على اليسر لأن اليسر يعقبه كما
دل عليه قوله تعالى {إن مع العسر يسرا} أو اهتماما بشأن
التقوى فيه. قال بعض العارفين: من علامات التحقق بالتقوى
أن يأتي المتقي رزقه من حيث لا يحتسب وإذا أتاه من حيث
يحتسب ما تحقق بالتقوى ولا اعتمد على الله فإن معنى التقوى
أن تتخذ الله وقاية من تأثير الأسباب في قلبك باعتمادك
عليها والإنسان أبصر بنفسه وهو يعلم من نفسه بمن هو أوثق
وبما تسكن إليه نفسه ولا تقل إن الله أمرني بالسعي على
العيال وأوجب مؤنتهم فلا بد من الكد في السبب الذي جرت
العادة أن يرزقه فيه فإنا ما قلنا لك لا تعمل فيها بل
نهيناك عن الاعتماد عليها والسكون عندها فإن وجدت القلب
يسكن إليها فاتهم إيمانك وإن وجدت قلبك ساكنا مع الله
تعالى واستوى عندك وجود السبب المعين وفقده فأنت الذي لم
تشرك بالله شيئا فإن أتى [ص:120] رزقك من حيث لا تحتسب
فذلك بشرى أنك من المتقين (قال العارفون يثبتونها ولا
يشهدونها ويعطونها حقها ولا يعبدونها وما سوى العارفين
يعاملونها بالعكس يعبدونها ولا يعطونها حقها بل يعصونها
فيما تستحقه من العبودية التي هي حقها ويشهدونها ولا
يثبتونها. قاله شيخنا المحيوي في فتوحاته أه.)
<تنبيه> قال ابن عربي: طريق الوصول إلى علم القوم التقوى
{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم} أي طالعناهم
على العلوم المتعلقة بالعلويات والسفليات وأسرار الجبروت
وأنوار الملك والملكوت وقال الله تعالى {ومن يتق الله يجعل
له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} والرزق روحاني وجسماني
وقال {اتقوا الله ويعلمكم الله} أي يعلمكم ما لم تكونوا
تعلمونه بالوسائط من العلوم الإلهية
(أبو قرة) بضم القاف وشد الراء (الزبيدي في سننه) بفتح
الزاء نسبة إلى زبيد البلد المعروف المشهور باليمن واسمه
موسى بن طارق (عن طليب) بالتصغير (بن عرفة) له وفادة ولم
يرو عنه إلا ابنه كليب وهما مجهولان ذكره الذهبي كابن
الأثير وبه يعرف ما في رمز المؤلف لحسنه
(1/119)
115 - (اتق الله) بامتثال أمره وتجنب نهيه
(حيثما كنت) أي وحدك أو في جمع فإن كانوا أهل بغي أو فجور
فعليك بخويصة نفسك أو المراد في أي زمان ومكان كنت فيه رآك
الناس أم لا فإن الله مطلع عليك واتقوا الله إن الله كان
عليكم رقيبا والخطاب لكل من يتوجه إليه الأمر فيعم كل
مأمور وأفراد الضمير باعتبار كل فرد وما زائدة بشهادة
رواية حذفها وهذا من جوامع الكلم فإن التقوى وإن قل لفظها
كلمة جامعة فحقه تقدس أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى
ويشكر فلا يكفر بقدر الإمكان ومن ثم شملت خير الدارين إذ
هي تجنب كل منهي عنه وفعل كل مأمور به فمن فعل ذلك فهو من
المتقين الذين أثنى عليهم في كتابه المبين ثم نبه على
تدارك ما عساه يفرط من تقصيره في بعض الأوامر والتورط في
بعض النواهي فقال (واتبع) بفتح الهمزة وسكون المثناة فوق
وكسر الموحدة ألحق (السيئة) الصادرة منك صغيرة وكذا كبيرة
كما اقتضاه ظاهر الخبر والحسنة بالنسبة إليها التوبة منها
فلا ملجئ لقصره على الصغيرة كما ظن وأيا ما كان فالحسنات
تؤثر في السيئات بالتخفيف منها يعني ألحق (الحسنة) إياها
صلاة أو صدقة أو استغفارا أو تسبيحا أو غيرها (تمحها) أي
السيئة المثبتة في صحيفة الكاتبين وذلك لأن المرض يعالج
بضده كالبياض يزال بالسواد وعكسه {إن الحسنات يذهبن
السيئات} يعني فلا يعجزك إذا فرطت منك سيئة أن تتبعها حسنة
كصلاة قال ابن عربي: والحسنة تمحو السيئة سواء كانت قبلها
أو بعدها وكونها بعدها أولى إذ الأفعال تصدر عن القلوب
وتتأثر بها فإذا فعل سيئة فقد تمكن في القلب اختيارها فإذا
أتبعها حسنة نشأت عن اختيار في القلب فتمحو ذلك وظاهر قوله
تمحها أنها تزال حقيقة من الصحيفة وقيل عبر يه عن ترك
المؤاخذة ثم إن ذا يخص من عمومه السيئة المتعلقة بآدمي فلا
يمحها إلا الاستحلال مع بيان جهة الظلامة إن أمكن ولم
يترتب عليه مفسدة وإلا فالمرجو كفاية الاستغفار والدعاء
(وخالق الناس بخلق) بضمتين (حسن) بالتحريك أي تكلف
معاشرتهم بالمجاملة من نحو طلاقة وجه وحلم وشفقة وخفض جانب
وعدم ظن السوء بهم وتودد إلى كل كبير وصغير وتلطف في
سياستهم مع تباين طباعهم يقال فلان يتخلق بغير خلقه أي
يتكلف وجمع هذا بعضهم في قوله: وأن تفعل معهم ما تحب أن
يفعلوه معك فتجتمع القلوب وتتفق الكلمة وتنتظم الأحوال
وذلك جماع الخير وملاك الأمر والخلق بالضم الطبع والسجية
وعرفا ملكة نفسانية تحمل على فعل الجميل وتجنب القبيح كذا
ذكره البعض هنا وليس بصواب فإنه تفسير لمطلق الخلق بالخلق
الحسن وهو فاسد وقد تكفل حجة الإسلام بتعريفه على طرف
التمام فقال: الخلق هيئة للنفس تصدر عنها الأفعال بسهولة
وسر من غير حاجة إلى فكر وروية فإن كانت الهيئة بحيث تصدر
عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلا وشرعا سميت الهيئة
التي هي المصدر خلقا حسنا وإن كان الصادر عنها الأفعال
القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقا سيئا وحسن
[ص:121] الخلق وإن كان جليا لكن في الحديث رمز إلى إمكان
اكتسابه وإلا لما صح الأمر به كما سيجيء إيضاحه والأمر به
عام خص بمستحقه فخرج الكفرة والظلمة فأغلظ عليهم ثم هذا
الحديث من القواعد المهمة لإبانته لخير الدارين وتضمنه لما
يلزم المكلف من رعاية حق الحق والخلق. وقال بعضهم: وهو
جامع لجميع أحكام الشريعة إذ لا يخرج عنه شيء وقال آخر فصل
فيه تفصيلا بديعا فإنه اشتمل على ثلاثة أحكام كل منها جامع
في بابه ومترتب على ما قبله <تنبيه> قال الراغب: الفرق بين
الخلق والتخلق أن التخلق معه استثقال واكتساب ويحتاج إلى
بعث وتنشيط من خارج والخلق معه استخفاف وارتياح ولا يحتاج
إلى بعث من خارج
(حم ت) في الزهد (ك) في الإيمان وقال على شرطهما وأيده
وأقره الذهبي واعترض (هب) وكذا الضياء في المختارة
والدارمي (عن أبي ذر) الغفاري وقال الترمذي حسن صحيح (ابن
عساكر) في تاريخه (عن أنس) بن مالك بسند ضعيف ورواه عنه
أيضا الطبراني وغيره فالإسناد الأول صحيح والثاني حسن
والثالث ضعيف وأكثر المصنف من مخرجيه إشارة إلى رد الطعن
فيه
(1/120)
116 - (اتق الله) قال القيصري: قد أكثر
الناس القول في التقوى وحقيقتها تنزيه القلب عن الأدناس
وطهارة البدن من الآثام وإن شئت قلت: الحذر من موافقة
المخالفات. وقال الحرني: عبر هنا وفيما سبق بالاسم الأعظم
ليكون أزجر للمأمور (ولا تحقرن) بفتح المثناة فوق وكسر
القاف وفتح الراء وشد النون أي لا تستصغرن يقال حقره
واحتقره واستصغره قال الزمخشري: تقول أي العرب هو حقير
فقير هو حاقر ناقر وفي المثل من حقر حرم وفلان خطير غير
حقير (من المعروف) أي ما عرفه الشرع والعقل بالحسن (شيئا)
أي كثيرا كان أو حقيرا (ولو) قال الطيبي: هذا شرط يعقب به
الكلام تتميما ومبالغة وقال أبو حيان: هذه الواو لعطف حال
على حال محذوفة بتضمنها السابق تقديره لا تحقرن من المعروف
شيئا على كل حال كائنا ما كان ولو (أن تفرغ) بضم الفوقية
وكسر الراء تصب يقال أفرغت الشيء صببته إذا كان يسيل (من
دلوك) إنائك الذي تستسقي به من البئر (في إناء) أي وعاء
(المستسقي) طالب السقيا يعني ولو أن تعطي مريد الماء ما
حزته أنت في إنائك رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف وتقدم
الأحوج فالأحوج والدلو معروف ويستعار للتوصل إلى الشيء بأي
سبب كان قال:
وليس الرزق في طلب حثيث. . . ولكن ألق دلوك في الدلاء
(وأن تلقى) أي ولو أن تلقى (أخاك) أي تراه وتجتمع به وفي
رواية لأبي داود بدله وإن تكلم أخاك قال الطيبي: مصدر
وعامله محذوف تقديره كلم أخاك تكليما فلما حذف الفعل أضيف
المصدر إلى الفاعل وأراد بالأخ المسلم وإن لم يكن ابن أحد
أبويه وقيل له أخوه لأنه لابسه من قبل أن دينه كما تقول
للرجل قل لصاحبك كذا لمن بينه وبينه أدنى ملابسة وذكره
بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت
بينهما من الجنسية والإسلام ذكره الزمخشري وأصله للراغب
حيث قال: هو المشارك لآخر في الولادة من الطرفين أو أحدهما
أو الرضاع ويستعار في كل مشارك لغيره في قبيلة أو دين أو
صنعة أو معاملة أو مودة أو غيرها من المناسبات {ولا تكونوا
كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم} أي لمشاركيهم في الكفر
وقوله {يا أخت هارون} يعني في الصلاح لا النسبة وقولهم أخا
تميم وقولهم أخا عاد وسماه أخا تنبيها على إشفاقه عليهم
شفقة الأخ على أخيه (ووجهك) أي والحال أن وجهك (إليه
منبسط) أي منطلق بالسرور والانشراح قال حبيب بن ثابت: من
حسن خلق الرجل أن يحدث صاحبه وهو مقبل عليه بوجهه. ونظم
هذا الحديث كنظم الجمان وروض الجنان وفيه كما قال الغزالي
رد على كل عالم أو عابد عبس وجهه وقطب جبينه كأنه [ص:122]
مستقذر للناس أو غضبان عليهم أو منزه عنهم ولا يعلم
المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تقطب ولا في الخد حتى
يصعر ولا في الظهر حتى ينحني ولا في الرقبة حتى تطأطأ ولا
في الذيل حتى يضم إنما الورع في القلب أما الذي تلقاه ببشر
ويلقاك بعبوس يمن عليك بعلمه فلا أكثر الله في المسلمين
مثله ولو كان الله يرضى بذلك ما قال لنبيه صلى الله عليه
وسلم {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} (وإياك (إياك
فعل أمر بمعنى باعد نفسك ما يكره وباعد إسبال الإزار فهو
عطف على المحذوف من إياك: أي إياك ما يكره وإسبال الإزار.
أه) وإسبال) بالنصب (الإزار) أي إرخاءه إلى أسفل الكعبين
(الكعبين) (هما العظمان الناتئان فوق القدم من جانبها بين
مفصل الساق والقدم وذلك لإبعاد الإزار عن المستقذر
ولمخالفة المتكبرين وللتشبه بالصالحين. أه) أي احذر ذلك
يقال أسبل الإزار أرسله ذكره الزمخشري (فإن إسبال الإزار
من المخيلة) كعظيمة الكبر والخيلاء التكبر عن تخيل فضيلة
تتراءى للإنسان من نفسه ذكره الراغب. وقال الزمخشري: تقول
إياك والمخيلة وخايله فاخره وتخايلوا تفاخروا (ولا يحبها
الله) أي لا يرضاها ويعذب عليها إن لم يعف وكالإزار سائر
ما يلبس فيحرم على الرجل إنزال نحو إزاره عن الكعبين بقصد
الخيلاء ويكره بدونه أما المرأة فتسبله قدر ما يستر قدميها
(وإن امرؤ) أي إنسان (شتمك) أي سبك (وعيرك) بالتشديد قال
فيك ما يعيبك (بأمر) أي بشيء (ليس هو فيك) أي لست متصفا به
(فلا تعيره) أنت (بأمر هو فيه) لأن التنزه عن ذلك من مكارم
الأخلاق ومن ذم الناس ولو بحق ذموه ولو بباطل ومن ثم قال
بعضهم:
ومن دعى الناس إلى ذمه. . . ذموه بالحق وبالباطل
(ودعه) أي اتركه (يكون وباله) أي سوء عاقبته وشؤم وزره
(عليه) قال الزمخشري: الوبال سوء العاقبة (وأجره) أي ثوابه
(لك) قال الراغب: الأجر ما يعود من ثواب العمل دنيويا كان
أو أخرويا والأجرة في الثواب الدنيوي ولا يقال الأجر إلا
في النفع دون الضر والجزاء يقال في النافع والضار انتهى
والإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة والمقاولة مستحسن في
الأدب والمروءة والشريعة والحقيقة وأسلم للعرض والورع ذكره
الكشاف ولما كان التعبير يهيج الغضب ويحمل على المقابلة
بالسب عقبه بقوله (ولا تسبن) بفتح الفوقية وشد الموحدة
ونون التوكيد أي لا تشتمن (أحدا) وإن كان مهينا والشتم
توصيف الشيء بما هو إزراء أو نقص فيه ذكره القاضي وفيه
تحذير من الاحتقار لا سيما للمسلم المعصوم لأن الله تعالى
أحسن تقويم خلقه وخلق ما في السماء والأرض لأجله ومشاركة
غيره له فيه إنما هي بطريق التبع وفيه كراهة مجادلة
السفهاء ومقاولتهم ومناقلتهم وأن السكوت عن السفيه من
المطالب الشرعية قال في الكشاف: ومن أذل نفسه لم يجد
مشافها وفيه تنبيه عظيم على كظم الغيظ والحلم على أهل
الجهل والترفع عمن أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي
ولهذا قال البيهقي عن ذي النون: العز الذي لا ذل فيه سكوتك
عن السفيه وفيه أنشد الأصمعي:
وما شيء أحب إلى لئيم. . . إذا شتم الكريم من الجواب
متاركة اللئيم بلا جواب. . . أشد على اللئيم من السباب
ومن ثم قال الأعمش جواب الأحمق السكوت والتغافل يطفئ شرا
كثيرا ورضا المتجني غاية لا تدرك والاستعطاف عون للظفر ومن
غضب على من لا يقدر عليه طال حزنه وقال حكيم ثلاثة لا
ينتصفون من ثلاثة حليم من أحمق وبر من فاجر وشريف من دنيء
وفيه أنه لا ينبغي للعبد أن يحقر شيئا من المعروف في
الإحسان إلى الناس بل إلى خلق الله ولا يحتقر ما يتصدق به
وإن قل وندب لقاء الأخ المؤمن بالبشر وطلاقة الوجه وأنه
يقوم مقام فعل المعروف إذا لم يمكنه فعل المعروف معه وغير
ذلك
(الطيالسي) وأبو داود (عن جابر بن سليم) ويقال سليم بن
جابر قال البخاري: والأول أصح (الهجيمي) من بني هجيم بن
عمرو بن تميم سكن البصرة وروى عنه ابن سيرين وغيره قال
[ص:123] قلت يا رسول الله إنا قوم من أهل البادية فعلمنا
شيئا ينفعنا الله به فذكره وقضية المؤلف تدل على أن الحديث
لم يخرجه أحد أشهر من الطيالسي وأنه تفرد به والأمر بخلافه
فقد خرجه بمخالفة في الترتيب عن جابر المذكور أئمة أجلاء
مشاهير منهم أحمد وأبو داود والنسائي والبغوي والباوردي
وابن حبان والطبراني وأبو نعيم والبيهقي والضياء في
المختارة وغيرهم بلفظ اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئا
ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه ولو أن تفرغ من دلوك في
إناء المستسقي ولا تسبن أحدا وإن امرؤ شتمك بما يعلم فيك
فلا تشتمه بما تعلم فيه فإنه يكون لك أجره وعليه وزره
واتزر إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين وإياك وإسبال
الإزار فإنه من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة انتهى.
وفي بعض طرقه رأيت رجلا والناس يصدرون عن رأيه فقلت: من
هذا قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك
السلام يا رسول الله فقال: عليك السلام تحية الموتى ولكن
قل السلام عليك فقلت: السلام عليك أنت رسول الله قال: نعم
فقلت: يا رسول الله علمني مما علمك الله فذكره قال النووي
في رياضه رواه أبو داود والترمذي بالإسناد الصحيح ورمز
المصنف لصحته
(1/121)
117 - (اتق الله) أي احذره (يا أبا الوليد)
كنية عبادة بن الصامت قال ذلك له لما بعثه على الصدقة وفيه
تكنية الصاحب والأمير ووعظه (لا تأتي) قال الزمخشري: لا
مزيدة أو أصله لئلا تأتي فحذف اللام (وفيه حذف تقديره ما
تستحقه فتأتي) (يوم القيامة) يوم الجزاء الأعظم (ببعير)
معروف يقع على الذكر والأنثى كالإنسان في وقوعه عليهما
وجمعه أبعره وأباعير وبعران (تحمله) في رواية على رقبتك
قال الزمخشري: وهو ظرف وقع حالا من الضمير في تأتي تقديره
مستعليا رقبتك بعيرة وقال الراغب: الحمل معنى واحد اعتبر
في أشياء كثيرة فسوى بين لفظه في فعل وفرق بين كثير منها
في مصادر فقيل في الأثقال المحمولة في الظاهر على الشيء
حمل وفي الأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن
والثمرة في الشجر تشبيها بحمل المرأة ويقال حملت الثقيل
والرسالة والوزن حملا (له رغاء) بضم الراء وبالمعجمة والمد
أي تصويت والرغاء صوت الإبل تقول رغا البعير رغاء ورغوة
واحدة فالغالب في الأصوات فعال كبكاء وقد يجيء على فعيل
كصهيل وعلى فعلة كحمحمة (أو بقرة لها خوار) بخاء معجمة
مضمومة وواو خفيفة أي تصويت والخوار صوت البقر قال الراغب:
مختص بالبقر وقد يستعار للبعير والبقر واحدة بقرة ويقال في
جمعه باقر كحامل وبقير كحكيم ويقال للذكر ثور كجمل وناقة
ورجل وامرأة انتهى (أو شاة لها ثواج) بمثلثة مضمومة وفتح
الهمزة فألف فجيم صياح الغنم فقال عبادة: يا رسول الله إن
ذلك كذلك فقال: أي والذي نفسي بيده إلا من رحم الله قال:
والذي بعثك بالحق لا أعمل على اثنين أبدا أي لا إلى الحكم
على اثنين ولا أتأمر على أحد (أو لا أكون عاملا لحاكمين أو
لا يكون فعلي مخالفا لاعتقادي أه)
وهذا دليل على كراهة الأمارة في ذلك العصر الذي كان فيه
مثل عبادة ونحوه من صالحي الأنصار وأشراف المهاجرين الكبار
فإذا كان هذا حال هؤلاء الذين ارتضاهم المصطفى للولاية
وخصهم بها فما الظن بالولاة بعد ذلك الطراز الأول
والمتنافسين في الولايات الباذلين الأموال في تحصيل
الأعمال السلطانية <تنبيه> قال حجة الإسلام هذا الحمل
حقيقي قيأتي به حاملا له معذبا بحمله وثقله يعدل الجبل
العظيم مرعوبا بصوته وموبخا بإظهار خيانته على رؤوس
الأشهاد والملائكة تنادي هذا ما أغله فلان بن فلانة رغبة
فيه وشحا (أي أن الشخص يحشر يوم القيامة وهو حامل على عتقه
ما أخذه بغير حق. قال تعالى: {ومن يغلل يأت بما غل يوم
القيامة} وفي الصحيحين وغيرهما ما هو صريح في ذلك أه) وذهب
بعضهم إلى أن الحمل عبارة عن وزر ذلك وشهرة الأمر أي يأتي
يوم القيامة وقد شهر الله أمره كما يشهر لو حمل بعيرا له
رغاء أو بقرة لها خوار إلى آخره ورده القرطبي بأنه عدول عن
الحقيقة إلى المجاز والتشبيه وقد أخبر المصطفى بالحقيقة
فهو أولى إذ لا مانع وعورض بوجود المانع وهو أنه إذا غل
ألف دينار مثلا فهي أخف من البعير وهو بالنسبة إليها حقير
فكيف يعاقب الأخف جناية بالأثقل وعكسه وأجيب بأن المراد
بالعقوبة بذلك فضيحته على رؤوس الأشهاد في ذلك الموقف
العظيم لا بالثقل والخفة قال [ص:124] ابن المنير أظن أن
الحكام أخذوا تجريس السارق ونحوه من هذا الحديث ونحوه
(تتمة) أجمعوا على أن الغال يجب عليه إعادة ما غل قبل
القسمة وكذا بعدها عند الشافعي رحمه الله تعالى فيحفظه
الإمام كالمال الضائع وقول مالك يدفع الإمام خمسه ويتصدق
بالباقي فيه أنه لم يملكه فكيف يتصدق بمال غيره
(طب) وكذا ابن عساكر (عن عبادة) بضم العين المهملة وفتح
الموحدة (ابن الصامت) الخزرجي من بني عمرو بن عوف بدري
نقيب فاضل عالم جليل ممن جمع القرآن وولاه عمر قضاء فلسطين
رمز المصنف لحسنه وهو تقصير إذ هو أعلى فقد قال الحافظ
الهيتمي رجاله رجال الصحيح ورواه الشافعي والبيهقي عن طاوس
مرسلا
(1/123)
118 - (اتق المحارم) أي احذر الوقوع في
جميع ما حرم الله عليك (تكن أعبد الناس) أي من أعبدهم لما
أنه يلزم من ترك المحارم فعل الفرائض فباتقاء المحارم تبقى
الصحيفة نقية من التبعات فالقليل من التطوع مع ذلك ينمو
وتعظم بركته فيصير ذلك المتقي من أكابر العباد وقال الذهبي
هنا والله تكسب العبرات فيريد أن يكون يسيرا بكل واجب
فيقوم به وعارفا بكل محرم فيجتنبه (وارض) أي اقنع (بما قسم
الله لك) أي أعطاك وجعله حظك من الرزق (تكن أغنى الناس)
فإن من قنع استغنى ليس الغنى بكثرة العرض ولكن الغنى غنى
النفس والقناعة غنى وعز بالله وضدها فقر وذل للغير ومن لم
يقنع لم يشبع أبدا ففي القناعة العز والغنى والحرية وفي
فقدها الذل والتعبد للغير تعس عبد الدنيا تعس عبد الدينار
فيتعين على كل عاقل أن يعلم أن الرزق بالقسم والحظ لا
بالعلم والعقل ولا فائدة للجد حكمة بالغة دل بها على قدرته
وإجراء الأمور على مشيئته قال الحكماء: ولو جرت الأقسام
على قدر العقول لم تعش البهائم ونظمه أبو تمام فقال:
ينال الفتى من عيشه وهو جاهل. . . ويكدى الفتى في دهره وهو
عالم
ولو كانت الأقسام تجري على الحجا. . . هلكن إذن من جهلن
البهائم
ومن كلامهم كم رأيت أعرج في المعالي عرج (وأحسن إلى جارك)
بالقول والفعل والجار المجاور لك وما قرب من منزلك عرفا
(تكن مؤمنا) أي كامل الإيمان فإذا لم تقدر على الإحسان
إليه فكف عن أذاه وإن كان مؤذيا لك فيلزمك الصبر حتى يجعل
الله لك فرجا قال الراغب: والإحسان يقال للإنعام على الغير
وللإحسان في فعله وذلك إذا علم علما حسنا أو عمل عملا حسنا
وعليه قول علي كرم الله وجهه " الناس أبناء ما يحسنون أي
منسوبون إلى ما يعلمون ويعملون من الأفعال الحسنة والإحسان
أعم من الإنعام والعدل إذ العدل أن يعطي ما عليه ويأخذ
ماله والإحسان أن يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له
(وأحب) أي ارض (للناس ما تحب لنفسك) من الخير (تكن مسلما)
كامل الإسلام بأن تحب لهم حصول ما تحبه لنفسك من جهة لا
يزاحمونك فيها فإن انتفت المحبة لنحو حقد أو غل أو حسد
انتفى عنه كمال الإيمان وغاير في ما بين لفظي الإيمان
والإسلام تفننا إذ المراد بهما هنا واحد قال السدي لي
ثلاثون سنة في الاستغفار عن قولي الحمد لله وذلك أنه وقع
ببغداد حريق فاستقبلني رجل فقال نجا حانوتك فقلت الحمد لله
فمذ قلتها فأنا نادم حيث أردت لنفسي خيرا دون المسلمين
(ولا تكثر الضحك) بفتح وكسر وهو كيفية يحصل منها انبساط في
القلب مما يعجب الإنسان من السرور ويظهر ذلك في الوجه
والإكثار منه مضر بالقلب منهي عنه شرعا وهو من فعل السفهاء
والأراذل مورث للأمراض النفسانية ولذا قال (فإن كثرة الضحك
تميت القلب) أي تصيره مغمورا في الظلمات بمنزلة الميت الذي
لا ينفع نفسه بنافعة ولا يدفع عنها شيئا من مكروه وحياته
وإشراقه مادة كل خير وموته وظلمته مادة كل شر وبحياته تكون
قوته وسمعه وبصره وتصور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه
ولهذا قال لقمان [ص:125] لابنه يا بني لا تكثر الضحك من
غير عجب ولا تمشي من غير أرب ولا تسأل عما لا يعنيك ولا
تضيع مالك وتصلح مال غيرك فإن مالك ما قدمت ومال غيرك ما
أخرت وقال موسى للخضر: أوصني فقال: كن بساما ولا تكن غضابا
وكن نفاعا ولا تكن ضرارا وانزع عن اللجاجة ولا تمش في غير
حاجة ولا تضحك من غير عجب ولا تعير الخطائين بخطاياهم وابك
على خطيئتك يا ابن عمران وفي صحف موسى عجبا لمن أيقن
بالنار كيف يضحك عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجبا لمن
أيقن بالقدر كيف ينصب عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها
كيف يطمئن إليها وفي الحديث إيذان بالإذن في قليل الضحك لا
سيما لمصلحته
(حم ت) في الزهد (هب) وأبو نعيم في الحلية كلهم من حديث
الحسن (عن أبي هريرة) قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: من يأخذ عني هذه الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل
بهن قلت: أنا فأخذ بيدي فعد خمسا فقال: اتق المحارم وإلى
آخره قال الترمذي غريب منقطع انتهى. قال المنذري: وبقية
إسناده فيه ضعف انتهى. وفيه جعفر بن سليمان الضبعي شيعي
زاهد أورده الذهبي في الضعفاء وضعفه القطان ووثقه جمع وقال
في الكاشف ثقة فيه شيء وفيه أيضا أبو طارق السعدي قال
الذهبي مجهول
(1/124)
119 - (اتق) يا علي هكذا هو ثابت في رواية
مخرجه الخطيب فكان الأولى للمؤلف عدم حذفه (دعوة) بفتح
الدال المرة من الدعاء أي تجنب دعاء (المظلوم) أي من ظلمته
بأي وجه كان من نحو استيلاء على ما يستحقه أو إيذاء له بأن
ترد إليه حقه أو تمكنه من استيفائه فإنك إن ظلمته ودعا
عليك استجيب له وإن كان عاصيا مجاهرا فإنه إذا دعى عليك
(فإنما يسأل الله حقه) أي الشيء الواجب له على خصمه (وإن
الله تعالى لن يمنع ذا حق) أي صاحب حق (حقه) لأنه الحاكم
العادل نعم ورد أن الله سبحانه وتعالى يرضي خصوم بعض عباده
بما شاء وفي خبر رواه ابن لال والديلمي وغيرهما أن في صحف
إبراهيم أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك
لتجمع الدنيا بعضها لبعض لكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم
فإني لا أردها ولو كانت من كافر وقال ابن عبد العزيز: إن
الله يأخذ للمظلوم حقه من الظالم فإياك أن تظلم من ينتصر
عليك إلا بالله تعالى فإنه تعالى إذا علم إلتجاء عبده إليه
بصدق واضطرار انتصر له ولا بد {أمن يجيب دعوة المضطر إذا
دعاه} وقال عبد الله بن سلام: لما خلق الله الملائكة رفعت
رؤوسها إلى السماء فقالت: يا ربنا مع من أنت قال: مع
المظلوم حتى يؤدى إليه حقه قال الراغب: والحق يقال على
أوجه ويستعمل استعمال الواجب واللازم والجائز نحو {وكان
حقا علينا نصر المؤمنين}
(خط) في ترجمة صالح بن حسان (عن علي) أمير المؤمنين ورواه
عنه أيضا أبو نعيم ومن طريقه وعنه أورده الخطيب فعزو
المصنف للفرع وإهماله الأصل غير صواب ثم قضية صنيعه أن
مخرجه الخطيب خرجه وأقره والأمر بخلافه فإنه أورده في
ترجمة صالح بن حسان هذا كما تقرر وذكر أن ابن معين قال إنه
ليس بشيء وأن البخاري ذكر أنه منكر الحديث والنسائي قال
متروك وأبو حاتم ضعيف فإهماله لذلك واقتصاره على عزوه
لمخرجه من سوء التصرف ثم إن فيه أيضا منصور بن أبي الأسود
أورده الذهبي في الضعفاء والمتروكين وقال: صدوق من أعيان
الشيعة انتهى وبه عرف اتجاه رمز المؤلف لضعفه
(1/125)
120 - (اتقوا الله) المستجمع لصفات العظمة
وصيغة جمع المذكر في هذا ونحوه مما مر ويجيء واردة على
منهج التغليب لعدم تناولها حقيقة الإناث عند غير الحنابلة
(في هذه البهائم) أي في شأن ركوب ما يركب منها وأكل ما
يؤكل منها ونحو ذلك وهي جمع بهيمة سميت به لاستبهامها عن
الكلام أو لأنها مبهمة عن التمييز أو لانبهام أمرها علينا
لا لانبهام الأمور عليها كما قيل فإن لها إدراكا في الجملة
قال في الكشاف: البهيمة مبهمة في كل ذات أربع وفي البر
والبحر في القاموس هي كل [ص:126] ذات أربع ولو في الماء أو
كل حي لا يميز وقال الراغب: البهيمة ما لا نطق له لما في
صورته من الاستبهام لكن خص في التعارف بما عد السباع لكن
إنما أراد المصطفى بهذا الحديث الإبل فقط بدليل قوله
وكلوها وبدليل السبب الآتي فإنها لا تطيق أن تفصح عن حالها
وتتضرع إلى صاحبها من جوعها وعطشها وإضرارها ذكره القاضي
(المعجمة) بضم الميم وفتح الجيم وقيل بكسر ما أي التي لا
تقدر على النطق فتشكو ما أصابها من جوع وعطش. وأصل الأعجم
كما قال الرافعي الذي لا يفصح بالعربية ولا يجيد التكلم
بها عجميا كان أو عربيا سمى به لعجمة لسانه والتباس كلامه
والقصد التحريض على الرفق بها والتحذير من التقصير في حقها
(فاركبوها) رشادا حال كونها (صالحة) للركوب عليها يعني
تعهدوها بالعلف لتتهيأ لما تريدونه منها فإن أردتم ركوبها
وهي صالحة للركوب قوية على المشي بالراكب فاركبوها وإلا
فلا تحملوها ما لا تطيقه وكالركوب التحميل عليها (وكلوها
صالحة) أي وإن أردتم أن تنحروها وتأكلوها فكلوها حال كونها
سمينة صالحة للأكل وخص الركوب والأكل لأنهما من أعظم
المقاصد ذكره كله القاضي لكن ليس لمن وجب عليه هدي أو
منذور الأكل منه قال القاضي: وفيه وجوب علف الدواب وأن
الحاكم يجبر المالك عليه وهو مذهب الشافعي والجمهور انتهى.
فيلزم المالك كفاية دابته المحترمة وإن تعطلت لمرض أو
زمانة أكلا وشربا فإن امتنع الزم به من ماله أو ببيعها أو
إجارتها أو ذبح المأكولة للأكل فإن أبى فعل القاضي من ذلك
ما يراه <تنبيه> ذكر بعض أكابر الصوفية أنه ينبغي شفقة
الراكب على الدابة فيخفف بدنه عليها بكثرة ذكر الله على
ظهرها فإنه مجرب للخفة عليها إذ الروح تشتاق إلى حضرة ربها
في جهة العلو بحسب غلبة الوهم فتريد الصعود بجسمها إلى تلك
الحضرة فلا يصير على الدابة من البدن إلا مجرد المماسة كما
جربناه وذكر بعضهم أن الشيخ عبد العزيز الديريني كان إذا
ركب دابة لا يحمل صوتا قط ويردها بكمه ويقول هيهات عبد
العزيز أن يقدر على ضربة بكم قميص
(حم د) في الجهاد (وابن خزيمة) في صحيحه (حب) كلهم (عن
سهل) ضد الصعب (ابن) الربيع ابن عمرو بن عدي المعروف بابن
(الحنظلية) صحابي غير صغير أوسي والحنظلية أمه وبها اشتهر
شهد أحدا وكان متعبدا متوحدا زاهدا قال: مر النبي صلى الله
عليه وسلم ببعير قد لحق ظهره ببطنه فذكره وفي رواية عنه مر
ببعير مناخ على باب أول النهار ثم مر به آخر النهار وهو
على حاله فقال: أين صاحب هذا فابتغى فلم يوجد فقال: اتقوا
الله إلى آخره قال الهيتمي: رجال أحمد رجال الصحيح وقال في
الرياض بعد عزوه لأبي داود إسناده صحيح انتهى ومن ثم رمز
المصنف لصحته
(1/125)
121 - (اتقوا الله) علق الاتقاء بالاسم
العلم دون غيره من بقية أسمائه وصفاته لمزيد التأكيد
والمبالغة في الحمل على الامتثال بإدخال المهابة بسلطان
الأسماء الجلالية (واعدلوا) ندبا (في) وفي رواية بين
(أولادكم) أي سووا بينهم في العطية وغيرها لئلا يفضي
التفضيل إلى العقوق والتحاسد وذلك بأن يسوي بين ذكورهم
وإناثهم وقيل كالإرث فعدم العدل بينهم مكروه تنزيها عند
الشافعي لما ذكر وتصح الهبة وقال أحمد إن خص أحدكم لا
لمعنى فيه يبيح التفضيل حرم ولزمه التسوية إما برد ما فضل
أو إتمام نصيب الباقي ويرده خبر مسلم أشهد على هذا غيري إذ
لو كان حراما لم يأذن له في استشهاد غيره وامتناعه من
الشهادة تورع ولا يعارضه رواية إني لا أشهد على جور لأن
المكروه جور إذ الجور الميل عن الاعتدال والعدل ملكة يقتدر
بها على تجنب ما لا يليق فعله إذ هو وضع الشيء بمحله
اللائق به في نفس الأمر وإذا طلب العدل بين الأولاد فبين
غيرهم أولى فهو مطلوب حتى في الأمور الدينية فقد نقل ابن
جماعة عن بعض مشايخه أنه كان يقسم ساعات النهار بين طلبنه
بالرمل فإذا غاب أحدهم عن وقته يقول له مشى رملك ولا يقرئك
ذلك اليوم
(ق) البخاري في الهبة ومسلم في الفرائض (عن النعمان بن
بشير) بفتح الموحدة وكسر المعجمة وبالتحتية وهو ابن سعد
الخزرجي أبي عبد الله الأمير ولي حمص ليزيد وقتل في آخر
سنة أربع وستين قال: أتى بي أبي إلى رسول الله صلى الله
تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما
كان لي فقال: أكل ولدك نحلته مثل [ص:127] هذا قال: لا قال:
فارجعه وفي رواية فقال: أفعلت هذا بولدك كلهم قال: لا قال:
اتقوا الله واعدلوا إلى آخره قال النعمان: فرجع بي فرد تلك
الصدقة وفي رواية قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى
آله وسلم: يا بشير ألك ولد سوى هذا قال: نعم قال: أكلهم
وهبت له مثل هذا قال: لا قال: فلا تشهدني إذن فإني لا أشهد
على جور وفي رواية أشهد على هذا غيري ثم قال: أيسرك أن
يكونوا إليك في البر سواء قال: نعم قال: فلا إذن أخرجه
الشيخان
(1/126)
122 - (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم كما
تحبون أن يبروكم) بفتح الياء التحتية والموحدة أي يحسنوا
طاعتكم يقال بررت والذي أبره برا وبرورا أحسن طاعته ورفقت
به وتحريت محابه وتوقيت مكارهه وذلك لأنه كما للآباء على
الأبناء حق فللأبناء على الآباء حق وكما قال سبحانه وتعالى
{ووصينا الإنسان بوالديه} وقال {قوا أنفسكم وأهليكم نارا}
فوصية الله للآباء بأبنائهم سابقة على وصية الأولاد
بآبائهم وفيه ندب التسوية بين الأولاد في النحل وغيرها من
أنواع البر حتى في القبلة ولو فعل خلاف ذلك لم يحرم فقد
فضل أبو بكر عائشة بجذاذ عشرين وسقا دون جميع أولاده وعمر
عاصما بشيء أعطاه وعبد الرحمن بن عوف ولد أم كلثوم قال
البيضاوي وقرر ذلك ولم ينكر عليهم فيكون ذلك إجماعا
(طب عنه) أي عن النعمان المذكور
(1/127)
123 - (اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) أي
الحالة التي وقع بها الاجتماع قال الحراني: والإصلاح تلافي
خلل الشيء وفي المصباح الصلح التوفيق أصلحت بين القوم وفقت
بينهم وقال الراغب: الصلاح ضد الفساد وهما مختصان في أكثر
الاستعمال بالأفعال والصلح مختص بإزالة النفار بين الناس
(فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين) وفي رواية المسلمين أي
أصلحوا فإن الله يحب الصلح ولذلك يصلح بين المؤمنين (يوم
القيامة) أي يوفق بينهم بأن يلهم المظلوم العفو عن ظالمه
ويعوضه عن ذلك بأحسن الجزاء وروى ابن مردويه عن أنس مرفوعا
إذا كان يوم القيامة نادى مناديا أهل التوحيد إن الله قد
عفا عنكم فليعف بعضكم عن بعض وعلى الله الثواب
(ع ك) في الأهوال (عن أنس) وقال صحيح ورده الذهبي بأن فيه
عباد بن شيبة الحبطي ضعفوه وشيخه سعيد بن أنس لا يعرف فأنى
له الصحة
(1/127)
124 - (اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم) من
كل آدمي وحيوان محترم وغيرهما لأن ما عام في ذوي العلم
وغيرهم أن اتقوا الله بحسن الملكة والقيام بما يحتاجونه
وخافوا ما يترتب على إهمالهم والتفريط في حقهم من العذاب
ولا تكلفوهم على الدوام ما لا يطيقونه على الدوام فإنه
حرام وعلموهم ما لا بد منه من طهر وصلاة وكل واجب ومندوب
وأدبوهم على ترك المأمورات وفعل المنهي وإضافة الملك إلى
اليمين كإضافته إلى السيد والأملاك تضاف إلى الأيدي لتصرف
الملاك فيها باليد وإنما أضافها إلى اليمين دون اليد لأنه
أبلغ وأنفذ إذ اليمين أبلغ في القوة والتصرف ولينبه على
شرف اليمين
(خذ عن علي) أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه قال: كان
آخر كلام النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة الصلاة اتقوا
الله فذكره والمراد أن ذلك من آخر ما تكلم به رمز المؤلف
لصحته
(1/127)
125 - (اتقوا الله في الصلاة) التي هي حضرة
المراقبة وأفضل أعمال البدن بالمحافظة عليها بشروطها وعدم
ارتكاب منهياتها فإنها أول ما يحاسب عليه العبد وعلم
الإيمان وعماد الدين وعموده ولما ذكر وصلة الخلق بالخالق
وكان اهتمام الناس بمن يمون من أعظم دعائم الدين كما يشير
إليه خبر كفى بالمرء إثما أن يضيع من يمون أو يعول اتبعها
به [ص:128] إشارة إلى أن القيام بذلك واجب على المالك وجوب
الصلاة التي لا عذر فيها ما دام مناط التكليف فقال (و) في
(ما ملكت أيمانكم) من كل آدمي وحيوان محترم وغير ذلك لأن
ما عام في ذوي العلم وغيرهم قال التوربشتي: أراد المماليك
ونحوهم وقرنه بالصلاة إيذانا بأن القيام بقدر حاجتهم من
نفقة وكسوة واجب على من ملكهم وجوب الصلاة التي لا يسعه
تركها وشمل البهائم المملكة وقال الطيبي: الحديث من جوامع
الكلم عبر بالصلاة عن كل مأمور ومنهي إذ هي تنهى عن
الفحشاء والمنكر وبما ملكت أيمانكم عن كل ما يتصرف فيه
ملكا وقهرا ولذلك خص باليمين فنبه بالصلاة على تعظيم أمر
الله تعالى وبما ملكت أيمانكم على الشفقة على خلقه. وقال
المظهري: أراد الزكاة وإخراجها من المال الذي تملكه الأيدي
كأنه علم بما يكون من أمر الردة وإنكارهم وجوبها بعده فقطع
حجتهم بأن جعل آخر كلامه الوصية بالصلاة والزكاة ويؤيده أن
القرآن والحديث إذا ذكر فيهما الصلاة فالغالب ذكر الزكاة
بعدها
(خط عن أم سلمة) بفتح المهملة واللام هند أم المؤمنين بنت
أمية بن المغيرة المخزومية وأبوها يعرف بزاد الراكب من
أشراف قريش رمز المؤلف لضعفه
(1/127)
126 - (اتقوا الله في الضعيفين) أي اجعلوا
بينكم وبين سخط الملك الأعظم وقاية بالمواظبة على إيفاء حق
الضعيفين أي اللذين لا حول لهما ولا قوة أو الضعيفين عن
التكبر وعن أذى الناس بمال أو جاه أو قوة بدن قالوا: من
هما يا رسول الله قال: (المملوك والمرأة) بأن تعاملوهما
برفق وشفقة ولا تكلفوهما ما لا يطيقانه ولا تقصروا في
حقهما الواجب والمندوب ووصفهما بالضعف استعطافا وزيادة في
التحذير والتنفير فإن الإنسان كلما كان أضعف كانت عناية
الله به أتم وانتقامه من ظالمه أشد ووجه ضعف المملوك كونه
تحت قهر مالكه والمرأة امتهانها بالوطء ولزوم المنزل
والقيام بحق الزوج والخطاب للولي والزوج أو عام ويدخلان
دخولا أوليا قال الحراني: والضعف وهن القوى حسا أو معنى
(ابن عساكر) في تاريخه (عن) عبد الله (ابن عمر) بن الخطاب
رمز المصنف لضعفه
(1/128)
127 - (اتقوا الله في الصلاة) أي اجعلوا
بينكم وبين غضبه وقاية بالمواظبة عليها رجاء لرضا ربكم
وخوفا من نقض العهد الذي عهده إليكم نبيكم بقوله " العهد
الذي بيننا وبينهم الصلاة " الحديث (اتقوا الله في الصلاة
اتقوا الله في الصلاة) كرره تأكيدا واهتماما لأنها علم
الإيمان وعماد الدين وطهرة القلوب من أدناس الذنوب
واستفتاح باب الغيوب محل المناجاة معدن المصافاة تتسع فيها
ميادين الأسرار وتشرق فيها مشارق الأنوار وتجمع من القرب
ما تفرق في غيرها كطهر وستر وقراءة وذكر ويمتنع فيها ما
يمتنع في غيرها وتزيد بأمور أخرى (اتقوا الله فيما ملكت
أيمانكم) فعاملوهم بالرعاية وتجاوزوا عما يصدر منهم من
الجناية وفي الكشاف عن علي كرم الله وجهه أنه صاح بغلام له
كرات فلم يجبه فنظر فإذا هو بالباب فقال: لم لم تجب قال:
لثقتي بحلمك وأمني من عقوبتك فأعتقه وقال: من كرم الرجل
سوء أدب غلمانه (اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم) كرره مرتين
فقط إيماء إلى أن رعاية حق الحق آكد من رعاية حق الخلق
(اتقوا الله في الضعيفين) قيل من هما يا رسول الله قال
(المرأة الأرملة) أي المحتاجة المسكينة التي لا منفق لها
سميت أرملة لما لها من الأرمال وهو الفقر وذهاب الزاد وأصل
أرمل نزل بين جبال ورمال قال الزمخشري: ومن المجاز أرمل
افتقر وفني زاده وهو من الرمل ومنه الأرملة والأرامل وفي
العين لا يقال شيخ أرمل إلا أن يشاء شاعر في تلميح كلامه
كقوله:
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها. . . فمن لحاجة هذا الأرمل
الذكر
[ص:129] وأرملت المرأة ورملت من زوجها ولا يكون إلا مع
الحاجة وعام أرمل وسنة رملى جدباء وكلام مرمل مريف كالطعام
المرمل إلى هنا كلامه وقول الشافعي رحمه الله هي من بانت
بفسخ أو طلاق أو وفاة اصطلاح فقهي وتقييده بالأرملة ليس
لإخراج غيرها بدليل إطلاقها فيما قبله بل لأن رعاية حقها
آكد (والصبي اليتيم) أي الصغير الذي لا أب له شرعا ذكرا أو
أنثى حث على الوصية بهؤلاء لأن ما تضمره النفس من التكبر
تظهره فيهم لكونهم تحت قهرها فترى الإنسان يعمل الفكرة في
وجوه العظمة عليهم ويتفكر في كيفية زجرهم وكيفية قهرهم
وجوابهم عما يتعللون به من مخالفته
(هب عن أنس) قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين حضرته الوفاة فقال لنا: اتقوا الله إلى آخره فجعل
يرددها ويقول الصلاة وهو يغرغر حتى فاضت نفسه انتهى. وقد
رمز المصنف لحسنه لكن فيه بشر بن منصور الخياط أورده
الذهبي في المتروكين وقال هو مجهول قبل المائتين
(1/128)
128 - (اتقوا الله) خافوا عقابه واصبروا عن
المعاصي وعلى الطاعات (وصلوا) بالتشديد (خمسكم) أي صلواتكم
الخمس المعلوم فرضيتها من الدين بالضرورة أضافها إليهم
لأنها لم تجتمع لغيرهم وورد أن الصبح لآدم والظهر لداود
والعصر لسليمان والمغرب ليعقوب والعشاء ليونس ولا يناقضه
قول جبريل لما صلى به الخمس في أوقاتها مرتين هذا وقت
الأنبياء قبلك لاحتمال أنه وقتهم إجمالا وإن اختص كل منهم
بوقت (وصوموا شهركم) رمضان والإضافة للاختصاص على ما جرى
عليه جمع لكن تعقب بحديث مرفوع خرجه ابن أبي حاتم صيام
رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم واحتج الأولون بأن
المصطفى كان يصوم عاشوراء قبل أن يفرض رمضان ولو كان
مشروعا قبلنا لصامه ولم يصم عاشوراء أولا والصوم إذلال
النفس لله بإمساكها عما تتشوف إليه نهارا على وجه مخصوص
وفرض بالمدينة قال الحراني: وحكمة فرضه فيها أنهم لما
أمنوا من عداوة الأمثال والأغيار عادت الفتنة خاصة في
الأنفس بالتبسيط في الشهوات وذلك لا يليق بمؤمن يؤثر الدين
على الدنيا (وأدوا) أعطوا (زكاة أموالكم) قال الحراني:
الزكاة كسر أنفة الغنى بما يؤخذ في حق أصنافها إظهارا لكون
المشتغلين بالدين آثر عند الله من الأغنياء وليتميز الذين
آمنوا من المنافقين لتمكنهم من الرياء في العمود والركنين
ولم يشهد الله بالنفاق جهرا على أحد أعظم من شهادته على
مانع الزكاة وقدم الصلاة إتباعا للفظ التنزيل ولعموم
وجوبها على كل مكلف ولأن حسنها في نفسها بلا واسطة بخلاف
غيرها وصرح بالمضاف في قوله زكاة أموالكم وأضمر في قوله
خمسكم أي صلواتكم وأبهم في قوله شهركم أي رمضان للدلالة
على أن الإنفاق من المال أشق وأصعب على النفس أي أنفقوا
مما تحبونه ومما هو شقيق أنفسكم وأضاف الأموال إليهم لأنها
من جنس ما يقيم به الناس معاشهم ذكره الطيبي ولما كان
السخط والرضا من أعمال القلوب زاد في رواية قوله (طيبة)
بالتشديد أي منبسطة منشرحة (بها أنفسكم) يقال طابت نفسه
تطيب انبسطت وانشرحت قال الزمخشري: ومن المجاز طاب لي كذا
إذا حل وطاب القتال والأنفس تذكر في مقام الشح غالبا كقوله
تعالى {ومن يوق شح نفسه} وفيه إشارة إلى أنها تطيب المال
{خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} وأنه لا تجب
عليهم الزكاة لأنها طهرة وهم مبرؤون من الدنس لعصمتهم
ولأنهم لا يشاهدون لهم ملكا مع الله ولم يذكر الحج في
الرواية لأنه إن لم يكن له فرض فظاهر وإلا فكان المخاطبون
يعرفونه وغالب أهل الحجاز يحجون كل عام وقد ذكره في رواية
أخرى (وأطيعوا ذا أمركم) أي من ولي أموركم في غير إثم قال
الطيبي: وعدل عن قوله أميركم ليكون أبلغ وأشمل كما في قوله
تعالى {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} قال
في القواطع الطاعة من الطوع والانقياد ومعناها تلقي الأمر
بالقبول (تدخلوا) بالجزم جواب الأمر (جنة ربكم) الذي رباكم
في نعمه وصانكم من بأسه ونقمه ويربي لكم الصدقات [ص:130]
عنده حتى يصير الحقير عظيما كما في خبر إن الله يقبل
الصدقات فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه وهذا هو سر
التعبير هنا بالرب دون غيره والمراد بالإدخال مزيد رفع
الدرجات والتجاوز عن السيئات وإلا فمجرد الإيمان كاف لمطلق
دخولها وقد أشار بهذا الخبر إلى أمهات الأعمال البدنية
والمالية من الأفعال والتروك فالصلاة مشار بها إلى التجلي
بكل خير والتخلي عن كل شر {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر} والصوم المطلوب منه سكون النفس الأمارة بالسوء
وكسر شهوتها عن الفضول بالجوارح لخمود حركة لذاتها وعنه
يصفو القلب ويحصل العطف على الفقراء فإنه لما ذاق الجوع
أحيانا ذكر به من هذا حاله في كلها أو جلها فتسارع إليه
الرقة فيبادر بالإحسان فينال من الجزاء ما أعد له في
الجنان والزكاة طهرة للنفس عن دنس البخل والمخالفة وللمال
بإخراج الحق لمستحقه والإنفاق خلافه والبخل عزل عن خلافة
الله تعالى فمتى جاد الإنسان بالعطية عن طيب قلب ورضا نفس
تمت خلافته وعظم فيه سلطانه وانفتح له باب إمداد برزق أعلى
وإن بخل واستغنى تضاءل أمر خلافته وانقطع عنه المدد من
الأعلى فبحق كانت الزكاة من أمهات الأعمال فافهم هذا
المقال <تنبيه> سئل جدنا شيخ الإسلام يحيى المناوي عن وجه
تأخير الزكاة عن الصلاة في الذكر مع أن كلا فرض يكفر جاحده
فأجاب بأن ذلك لمعان منها أن الزكاة لا تجب إلا على
الأغنياء ومنها أنها لا تجب في العام إلا مرة واحدة ومنها
أنها تؤخذ جبرا
(ت) وقال حسن صحيح (حب ك) وكذا البيهقي (عن أبي أمامة) بضم
الهمزة وخفة الميم واسمه صدى بضم المهملة الأولى وفتح
الثانية مصغرا ابن عجلان ضد المتأني الباهلي بالموحدة وكسر
اللام السهمي آخر الصحابة موتا بالشام وهو مشهور ورواه
الخلعي في فوائده وقال حجوا بيت ربكم وأدوا زكاتكم طيبة
بها نفوسكم
(1/129)
129 - (اتقوا الله) في تجنب المحارم
والقيام بالواجب (وصلوا) بكسر الصاد وضم اللام مخففة من
الصلة وهي العطية (أرحامكم) فإن قطيعتها مما يجب أن يتقي
جمع رحم عام في كل رحم محرما وارثا وضدهما على الأصح
والمراد الإحسان إليهم قولا وفعلا وكف الأذى عنهم وقد
تضافرت على ذلك نصوص الكتاب والسنة وكفاك شاهدا على تأكد
حقها والتحذير من قطعها قرنه سبحانه إياها باسمه في قوله
تعالى {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} قال في
الكشاف: قد آذن عز وجل إذ قرن الأرحام باسمه أن صلتها منه
بمكان كما قال {ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا}
وفيه أنه يحرم قطع الرحم بل هو من الكبائر
(ابن عساكر) في تاريخه (عن ابن مسعود) بسند ضعيف ورواه
الطبراني باللفظ المزبور عن جابر وزاد فإنه ليس من ثواب
أسرع من صلة الرحم ورواه ابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة
وزاد فإنه أبقى لكم في الدنيا وخير لكم في الآخرة وبذلك
يصير حسنا
(1/130)
130 - (اتقوا الله) خافوه واجتنبوا التطلع
إلى ولاية المناصب (فإن أخونكم) أي أكثركم خيانة (عندنا)
معشر المسلمين أو النون للتعظيم {وأما بنعمة ربك فحدث} (من
طلب العمل) أي الولاية وليس من أهلها لأن طلبه لها وهو
كذلك أوضح دليل على خيانته وإن كان أهلا فالأولى أن لا
يطلبها ما لم يتعين عليه وإلا وجب قال الراغب: والخيانة
والنفاق واحد إلا أن الخيانة تقال باعتبار العهد والأمانة
والنفاق يقال باعتبار الدين ثم يتداخلان فالخيانة مخالفة
الحق بنقض العهد في السر ونقيض الخيانة الأمانة قال
الزمخشري: ومن المجاز خانه سيفه أي نبا عن الضربة وخانته
رجلاه إذا لم يقدر على المشي وخان الدلو الرشاء إذا انقطع
وتخون فلان حقي تنقصه كأنه خانه شيئا فشيئا
(طب عن أبي موسى) الأشعري ورمز المصنف لحسنه
(1/130)
131 - (اتقوا البول) أي احذروا من التقصير
في التنزه عنه أو توقوا منه بعد ملابسته وبالتحرز عن مفسدة
تتعلق به كانتقاص الطهر لأن التهاون به تهاون بالصلاة التي
هي أفضل الأعمال فلذا كان أول ما يسئل عنه كما قال فإنه
أول [ص:131] ما يحاسب به العبد) أي المكلف (في القبر) أي
أول ما يحاسب فيه على ترك التنزه منه فإما أن يعاتب ولا
يعاقب وإما أن يناقش فيعذب ولا ينافيه أن أول ما يحاسب به
العبد الصلاة يوم القيامة لأنه يحاسب على أول مقدماتها في
أول مقدمات الآخرة ثم يحاسب يوم القيامة على جميع الشروط
والأركان كذا جمع به بعضهم ولكن نازع فيه المؤلف بأن ظاهر
الأحاديث الواردة في سؤال الملكين في القبر أنه لا يسئل
فيه عن شيء من التكاليف غير الاعتقاد فقط ويجاب بأن
الملكين منكرا ونكيرا لا يسألان إلا عن الاعتقاد وأما
وظيفة المحاسبة فلغيرهما وقد أجمع أهل السنة على وجوب
الإيمان بسؤال القبر وعذابه لآيات وأخبار متواترة المعنى
وفيه أن ترك التنزه من البول كبيرة لاستلزامه بطلان الصلاة
وحرمة التضمخ به بلا حاجة ووجوب الاستبراء أي إن ظن عود
شيء لولاه وبه قال الشافعي ومالك وأحمد. وقال أبو حنيفة
سنة ولا ينافي كونه كبيرة قوله في قصة القبرين إنهما
ليعذبان وما يعذبان في كبير لأن المعنى لا يعذبان في كبير
إزالته أو دفعه أو التحرز عنه فإنه سهل على من يريد التوقي
عنه فليس بكبير عليهم تركه وإن كان كبيرا عند الله
{وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم} وفيه أن كل بول نجس
ويدخل تحت عمومه بول ما يؤكل لأن الاسم المفرد للعموم فهو
حجة على مالك وأن قليله وكثيره سواء فلا يخفف في شيء منه
وعليه الشافعي وجعل أبو حنيفة قدر الدرهم من كل نجاسة عفوا
قياسا على العفو عن المخرجين
(طب) وكذا الحكيم (عن أبي أمامة) الباهلي رمز المصنف لحسنه
وهو أعلى من ذلك فقد قال المنذري: إسناده لا بأس به وقال
الحافظ الهيتمي: رجاله موثقون
(1/130)
132 - (اتقوا الحجر) بالتحريك قال الحراني:
هو ما تحجر أي اشتد تضام أجزائه من الماء والتراب وقال
الراغب: هو الجوهر الصلب وجمعه أحجار وحجارة (الحرام) الذي
لا يحل لكم أخذه واستعماله والحرام الممنوع منه وقال في
المحصول والحرام يسمى معصية وذنبا ومحظورا ومزجورا عنه
وممنوعا منه ومتوعدا عليه أي من جهة الشرع (في البنيان)
بأن تصونوه عنه وجوبا ونبه بالحجر على غيره من جميع آلات
البناء كجص وآجر وخشب وغيرها مما ينبى به وفي رواية بدون
ذكر الحجر وهو أعم أي احذروا انفاق المال الحرام في البناء
(فإنه) أي فإن إدخال الحجر الحرام وما في معناه في البنيان
(أساس الخراب) أي قاعدته وأصله قال الراغب: الأساس القاعدة
التي بينى عليها قال الزمخشري: ومن المجاز فلان أساس أمره
الكذب ومن لم يؤسس ملكه بالعدل فقد هدمه انتهى والمراد
خراب الدين أو الدنيا بقلة البركة وشؤم البيت المبنى به أو
أساس خراب البناء نفسه بأن يسرع إليه الخراب في زمن قريب
ولو لم يبن به لم يخرب سريعا بل يطول بقاؤه لينتفع بغلته
من بعد بنائه قال الزمخشري مكتوب في الإنجيل الحجر الواحد
في الحائط من الحرام عربون بالخراب وقال وهب بن منبه: وجدت
في بعض كتب الأنبياء من استغنى بأموال الفقراء جعلت عاقبته
الفقر وأي دار بنيت بالضعفاء جعلت عاقبتها الخراب. وورد في
غير ما أثر أن البناء إذا كان من حرام لم يطل تمتع صاحبه
به بل في خبر رواه الحاكم من حديث أمير المؤمنين المرتضى:
إن لله عز وجل بقاعا تسمى المنتقمات فإذا كسب الرجل المال
من حرام سلط الله عليه الماء والطين ثم لا يمتعه به أه.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالبنيان كل أمر أسسه وبناه من
دينه ودنياه إذا كان إمداده وإنفاقه من حرام {أفمن أسس
بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على
شفا جرف هار} انتهى وهذا وإن كان لمجيئه مجال في رواية
إسقاط لفظ الحجر لا مجال له على رواية إثباته إلا بتكليف
يصان عن مثله كلام المصطفى العذب الزلال
(هب) من حديث معاوية بن يحيى عن الأوزاعي عن حسان بن عطية
(عن) عبد الله (بن عمر) بن الخطاب قال ابن الجوزي: حديث لا
يصح ومعاوية ضعيف وحسان لم يسمع من ابن عمر انتهى. لكن له
طرق وشواهد وممن رواه الخطيب والبيهقي والديلمي وابن عساكر
والقضاعي في الشهاب وقال شارحه غريب جدا
(1/131)
[ص:132] 133 - (اتقوا الحديث عني) أي لا
تحدثوا عني (إلا بما علمتم) أي تعلمونه بمعنى تتيقنون صحة
نسبته إلي وقال الطيبي: يجوز أن يراد بالحديث الاسم
فالمضاف محذوف أي احذروا رواية الحديث عني أو أن يكون
فعيلا بمعنى مفعول وعني متعلق به والاستثناء منقطع والمعنى
احذروا من الحديث عني لكن لا تحذروا مما تعلمونه انتهى
والحديث عرفا ما روي من قول المصطفى قيل أو الصحابي أو
التابعي أو فعلهم أو تقريرهم وقد يخص بما يرفع إلى النبي
صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير كذا في التلويح
وغيره وأهله النقلة له المعتنون بما يتعلق به (فمن كذب علي
متعمدا) حال من الضمير المستتر في كذب الراجع إلى من
(فليتبوأ مقعده من النار) أي فليتخذ له محلا فيها لينزل
فيه فهو أمر بمعنى الخبر قال الرافعي: أو دعاء أي بوأه
الله ذلك فليتبوأ اتخاذ المنزل والمقعد محل القعود وجاء به
بلفظ الأمر جوابا للشرط ليكون أبلغ في وجوب الفعل وألزم له
وقال الطيبي: الأمر بالتبوؤ تهكم وتغليظ إذ لو قال كان
مقعده في النار لم يكن كذلك والكذب عليه صلى الله عليه
وسلم من الكبائر الموبقة والعظائم المهلكة لإضراره بالدين
وإفساده أصل الإيمان والكاذبون عليه كثيرون وقد اختلف طرق
كذبهم كما هو مبين في مبسوطات أصول كتب الحديث قال بعضهم:
وعموم الخبر يشمل الكذب في غير الدين ومن خصه به فعليه
الدليل (ومن قال في القرآن برأيه) أي من شرع في التفسير من
غير أن يكون له خبرة بلغة العرب ووجوه استعمالاتها في نحو
حقيقة ومجاز ومجمل ومفصل وعام وخاص وغير ذلك من علوم
القرآن ومتعلقات التفسير وقوانين التأويل (فليتبوأ مقعده
من النار) المعدة في الآخرة لأنه وإن طابق المراد بالآية
فقد ارتكب أمرا فظيعا واقتحم هولا شنيعا حيث أقدم على كلام
رب العالمين بغير العالمين بغير إذن الشارع ومن تكلم فيه
بغير إذنه فقد أخطأ وإن أصاب قال الغزالي: ومن الطامات صرف
ألفاظ الشارع عن ظاهرها إلى أمور لم يسبق منها إلى الأفهام
كدأب الباطنية فإن الصرف عن مقتضى طواهرها من غير اعتصام
فيه بالنقل عن الشارع وبغير ضرورة تدعو إليه من دليل عقلي
حرام
(حم ت) في التفسير (عن ابن عباس) رمز المصنف لحسنه اغترارا
بالترمذي قال ابن القطان: وينبغي أن يضعف إذ فيه سفيان بن
وكيع قال أبو زرعة: متهم بالكذب لكن ابن أبي شيبة رواه
بسند صحيح. قال أعني ابن القطان فالحديث صحيح من هذا
الطريق لا من الطريق الأول انتهى وبه يعرف أن المصنف لم
يصب في ضربه صفحا عن عزوه لابن أبي شيبة مع صحته عنده وممن
جرى على سنن ابن القطان في تضعيف رواية الترمذي الصدر
المناوي فقال فيه شيخ الترمذي سفيان بن وكيع ضعيف وأقول
فيه عند أحمد عبد الأعلى الثعلبي أورده الذهبي في الضعفاء
وقال ضعفه أحمد وأبو زرعة
(1/132)
134 - (اتقوا الدنيا) أي احذروا الاغترار
بما فيها فإنها في وشك الزوال ومظنة الترحال فلا تقربوا
الأسباب المؤدية للانهماك فيها أو الزيادة على الحاجة
فإنها عرض زائل وحال حائل وقال بعضهم:
أقبلت الدنيا وكم قتلت. . . كم سترت الدنيا وكم فضحت
فالسعيد من إذا مدت إليه باعها باعها. . . والشقي من إذا
مدت إليه باعها أطاعها
والدنيا عند أهل الطريق عبارة عما شغل عن الله سبحانه
وتعالى (واتقوا النساء) أي احذروا الافتتان بهن وصونوا
أنفسكم عن التطلع إليهن والتقرب منهن بالحرام (فإن إبليس)
من أبلس تحير أو من البلس محركا من لا خير فيه أو عنده
إبلاس وشر والمبلس الساكت حزنا كذا قرره وأبطله الكشاف
بأنه لو كان إفعيلا من الإبلاس كما زعموا لم يكن فيه إلا
سبب واحد وهو العلمية وكان منصرفا فمنع صرفه دليل العجمة
قال ابن العماد: ولإبليس اثنان وثلاثون اسما ومن أولاده
ثلاثة عشر لكل منهم اسم يخصه (طلاع) بفتح الطاء وشد اللام
صيغة مبالغة من قولهم رجل طلاع الثنايا مجرب للأمور ركاب
لها [ص:133] يعلوها ويقهرها ويهجم عليها بشدة وغلبة قال
الزمخشري: ومن المجاز طلع علينا فلان هجم (رصاد) بالتشديد
أي رقاب وثاب كما يرصد القطاع القافلة فيثبون عليها. قال
الراغب: والرصد الاستعداد والترقب وقال الزمخشري: رصدته
رقبته وفلان يخاف رصدا من قدامه وطلبا من ورائه أي عدوا
يرصده {فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} ومن المجاز أنا
لك بالرصد والمرصاد أي لا تفوتني وفي التنزيل {إن ربك
لبالمرصاد} أي مراقبك لا تخفى عليه أعمالك ولا تفوته
فالشيطان لما رأى الإنسان خلق عجولا راغبا في العجالة توسل
إليه بواسطة العجلة التي في طبعه فوعده بالغرور واستغواه
وكره إليه المصير للآخرة وزين له الحاضرة ونصب له فخوخا
كالبحار الزاخرة (وما) نافية (هو بشيء) الباء زائدة
والتنكير للتعميم لأنه في سياق النفي (من) بيانية (فخوخه)
جمع فخ بفتح الفاء وشد الخاء المعجمة آلة الصيد قال
الزمخشري: من المجاز وثب فلان من فخ إبليس إذا تاب (بأوثق)
أحكم (لصيده) أي لمصيده (في الأتقياء) خصهم لما لهم من
الشهرة على قهر الشيطان ورد كيده (من النساء) بيان للأوثق
أي ما يثق في صيده الأتقياء بشيء من آلات الصيد وثوقه
بالنساء أما كونهن من فخوخه فلأنه جعلهن مصيدة يزينهن في
قلوب الرجال ويغريهم بهن فيورطهم في الزنا كصائد ينصب
شبكته ليصطاد بها ويغري الصيد عليها ليقع في حبائلها قال
أبو حمزة الخراساني: النظر رسول البلايا وسهام المنايا
وقال بعض الحكماء: من غلب هواه عقله افتضح ومن غض طرفه
استراح وقال بعضهم: لا شيء أشد من ترك الشهوة تحريك الساكن
أيسر من تسكين المتحرك وقال ابن الحاج: قال صاحب الأنوار
احذروا الاغترار بالنساء وإن كن نساكا عبادا فإنهن يركن
إلى كل بلية ولا يستوحشن من كل فتنة. وقال بعض العارفين:
ما أيس الشيطان من إنسان قط إلا أتاه من قبل النساء لأن
حبس النفس ممكن لأهل الكمال إلا عنهن لأنهن من ذوات الرجال
وشقائقهم ولسن غيرا حتى يمكن التباعد عنه والتحرز عنه {هو
الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} وما عداهن
فاتباع هوى النفس فيه آية تكذيب وعد الرحمن وعلامة
الاسترسال مع الشيطان وتصديقه فيما يزينه من البهتان وإذا
نرى الكامل الحازم منقادا مسترسل الزمام لتلك الناقصات
عقلا ودينا مقهورا تحت حكمهن قال:
إن العيون التي في طرفها حور. . . قتلننا ثم لا يحيين
قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به. . . وهن أضعف خلق الله
أركانا
وقال الرشيد الخليفة:
ملك الثلاث من الإناث عناني. . . وحللن من قلبي أعز مكاني
ما لي تطاوعني البرية كلها. . . وأطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى. . . وبه غلبن أعز من سلطاني
فعلى من ابتلي بالميل إليهن مصارعة الشيطان فإذا غلب باعث
شهوة الوقاع المحرم بحيث لا يملك معها فرجه أو ملكه ولم
يملك طرفه أو ملكه ولم يملك قلبه أن ينظر إلى مادة قوة
الشهوة من الأطعمة فيقللها كما وكيفما ويحسم محرك الغضب
وهو النظر ففي خبر أحمد " النظر إلى محاسن المرأة سهم من
سهام إبليس " وهذا السهم يسدده إبليس نحو القلب ولا طريق
إلى رده إلا الغض والانحراف عن جهة المرمى فإنه إنما يرمي
هذا السهم عن قوس الصورة فإذا لم تقف في طريقها أخطأك
السهم وإن نصبت قلبك غرضا أصابك وأن تسلي النفس بالمباح
المعوض عن الحرام فالدواء الأول يشبه قطع العلف عن الدابة
الجموح والكلب الضاري لإضعاف قوتهما والثاني كتغييب الشعير
عن الدابة وأن تتفكر في مفاسد قضاء هذا الوطر فإنه لو لم
يكن جنة ولا نار ففي مفاسده الدنيوية ما يصد عن إجابة ذلك
الداعي لكن عين الهوى عمياء
(فر عن معاذ) بن جبل وفيه هشام بن عمار قال أبو حاتم صدوق
تغير فكان يتلقن كما يلقن وقال أبو داود حدث بأكثر من أربع
مئة حديث لا أصل لها وفيه سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية
وهو الحمصي قال الذهبي في الضعفاء متهم بالوضع
(1/132)
[ص:134] 135 - (اتقوا الظلم) الذي هو
مجاوزة الحد والتعدي على الخلق وقال الراغب: هو لغة وضع
الشيء في غير موضعه المختص به بنقص أو زيادة أو عدول عن
وقته أو مكانه ويقال لمجاوزة الحق الذي يجري مجرى نقطة
الدائرة انتهى وذلك لأن الشرائع تطابقت على قبحه واتفقت
جميع الملل على رعاية حفظ الأنفس فالأنساب فالأعراض
فالعقول فالأموال والظلم يقع في هذه أو في بعضها وأعلاه
الشرك {إن الشرك لظلم عظيم} وهو المراد بالظلم في أكثر
الآيات {والكافرون هم الظالمون} ويدخل فيه ظلم الإنسان
لنفسه بارتكاب المعاصي إذ العصاة ظلام أنفسهم وأقبح أنواع
ظلم من ليس له ناصر إلا الله قال ابن العزيز: إياك إياك أن
تظلم من لا ينتصر عليك إلا بالله فإنه تعالى إذا علم
إلتجاء عبد إليه بصدق واضطرار انتصر له فورا {أمن يجيب
المضطر إذا دعاه ويكشف السوء} (فإن الظلم) في الدنيا
(ظلمات) على أصحابه بمعى أنه يورث ظلمة في القلب فإذا أظلم
القلب تاه وتحير وتجبر فذهبت الهداية والبصيرة فخرب القلب
فصار صاحبه في ظلمة (يوم القيامة) فالظلمة معنوية لما كان
الظلم مفضيا بصاحبه إلى الضلال الذي هو ضد الهدى كان جديرا
بالتشبيه بالظلمة كما في ضده من تشبيه الهداية بالنور وقيل
حسية فيكون ظلمه ظلمات عليه فلا يهتدي في القيامة بسببه
وغيره من المؤمنين يسعى نوره بين يديه قال الحراني:
والظلمة ما يطمس الباديات حسا أو معنى. وقال الزمخشري: هي
عدم النور وانطماسه بالكلية وقيل عرض ينافي النور من قولهم
ما ظلمك أن تفعل كذا أي ما منعك وشغلك لأنها تسد البصر
وتمنع الرؤية وجمعها دلالة على إرادة الجنس اختلاف أنوار
الظلم الذي هو سبب لأنواع الشدائد في القيامة من الوقوف في
العرصات والحساب والمرور على الصراط وأنواع العقاب في
النار
(حم طب) عن ابن عمر قال الهيتمي: فيه عطاء ابن السائب وقد
اختلط وبقية رجاله رجال الصحيح (هب عن) عبد الله (بن عمر)
بن الخطاب أورده البيهقي من طريقين وفي أحدهما مالك بن
يحيى اليشكري ساقه الذهبي في الضعفاء وقال جرحه ابن حبان
وفي الآخرى عمرو بن مرزوق أورده الذهبي في ذيل الضعفاء
وقال غيره ثقة وقال الدارقطني كثير الوهم وبما تقرر يعرف
ما في رمز المؤلف لصحته من المجازفة
(1/134)
136 - (اتقوا الظلم) بأخذ مال الغير بغير
حق أو التناول من عرضه ونحو ذلك قال بعضهم: ليس شيء أقرب
إلى تغيير النعم من الإقامة على الظلم (فإن الظلم ظلمات
يوم القيامة) فلا يهتدي الظالم يوم القيامة بسبب ظلمه في
الدنيا فربما أوقع قدمه في وهدة فهو في حفرة من حفر النار
وإنما ينشأ الظلم من ظلمة القلب لأنه لو استنار بنور الهدى
تجنب سبل الردى فإذا سعى المتقون بنورهم الحاصل بسبب
التقوى احتوشت ظلمات ظلم الظالم فغمرته فأعمته حتى لا يغني
عنه ظلمه شيئا. وفي خبر لابن مسعود " يؤتى بالظلمة فيوضعون
في تابوت من نار ثم يقذفون فيها (واتقوا الشح) الذي هو بخل
مع حرص أو منع الواجب أو البخل بما في يد الغير أو غير ذلك
وقال الزمخشري: بالضم والكسر أي والضم أفصح اللوم وأن تكون
نفسه كزيزة حريصة والبخل أعم فقد يكون بخل ولا شح ثمة ولا
ينعكس قال الطيبي: فالبخل مطلق المنع والشح المنع مع ظلم
وعطف الشح الذي هو نوع من أنواع الظلم اشعارا بأن الشح
أعظم أنواعه لأنه من نتائج حب الدنيا ولذاتها ومن ثم وجهه
بقوله (فإن الشح) بتثليث الشين (أهلك من كان قبلكم) من
الأمم (وحملهم على أن سفكوا دماءهم) أي اسالوها بالقوة
الغضبية بخلا بالمال وحرصا على الاستئثار به (واستحلوا
محارمهم) أي استباحوا نساءهم أو ما حرم الله من أموالهم
وغيرها وهذا على سبيل الاستئناف فإن استحلال المحارم جامع
لجميع أنواع الظلم وعطفه على سفك الدماء عطف عام على خاص
عكس الأول والسفك كما قال الحراني سكب بسطوة وقال القاضي
السفك والكسب والسبك والسفح والشن أنواع من الصب فالسفك
يقال في الدم والسكب في الدمع والسبك [ص:135] في الجواهر
المذابة والسفح في الصب من أعلى والشن في الصب من فم
القربة انتهى وإنما كان الشح سبب ما ذكر لأن في بذل المال
والمواساة تحابيا وتواصلا وفي الإمساك تهاجر وتقاطع وذلك
يجر إلى تشاجر وتغادر من سفك الدماء واستباحة المحارم. ومن
السياق عرف أن مقصود الحديث بالذات ذكر الشح وذكر الظلم
توطئة وتمهيدا لذكره وأبرزه في هذا التركيب إيذانا بشدة
قبح الشح وأنه يفضي بصاحبه إلى أفظع المفاسد حيث جعله
حاملا على سفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة وأخبث
العواقب الوخيمة {ومن يوق شح نفسه فأولئك هو المفلحون} قال
بعض العارفين: الشح مسابقة قدر الله ومن سابق قدر الله سبق
ومغالبة لله ومن غالب الحق غلب وذلك لأن الحريص يريد أن
ينال ما لم يقدر له فعقوبته في الدنيا الحرمان وفي الآخرة
الخسران
(حم خد عن جابر) بن عبد الله ولم يخرجه البخاري في الصحيح
قال الديلمي: وفي الباب جندب وغيره
(1/134)
137 - (اتقوا القدر) بالتحريك أي احذروا
إنكاره فعليكم أن تعتقدوا أو ما قدر في الأزل لابد من
وقوعه وما لم يقدر فوقوعه محال وأنه تعالى قدر الخير والشر
قبل خلق الخلق وأن جميع الكائنات بقضائه وقدره خالق كل شيء
أو المراد احذروا الخوض فيه وقد ورد النهي عن الخوض فيه في
غير ما حديث. قال ابن رجب: والخوض فيه يكون على وجوه منها
ضرب القرآن بعضه ببعض فينزع المثبت للقدر بآية والنافي
بأخرى ويقع التجادل ومنها الخوض فيه إثباتا ونفيا بالأقيسة
العقلية كقول القدرية لو قدر ثم غلب ظلم وقول مخالفيهم إن
الله جبر العباد على أفعالهم ومنها الخوض في سر القدر فإن
العباد لا يطلعون على حقيقته انتهى ومن هذا التقدير عرف أن
المنهي عنه الخوض والتوغل لا النظر في أصله فإنه مطلوب
محبوب بل واجب على من قدر على تحقيقه. ألا ترى إلى قول
المولى ابن الكمال النظر في أصل القدر مما يثاب عليه وأما
الخوض في تفصيله وزيادة التوغل في أسراره فمنهي عنه انتهى
قال الإمام أبو الليث إن استطعت أن لا تخاصم في مسألة
القدر فافعل فإن الشارع نهى عن الخوض فيه فكما أن الخوض في
ذلك البحر المتلاطم أمواجه والغوص في جوفه المظلم منهي عنه
فكذلك الجدل فيه إذ لا يخلو عن الخلل فلذلك نهى عنه صاحب
الشرع وفي حواشي الكشاف كتب عمر بن عبد العزيز لبعضهم
بلغني أنك قدري فكتب إليه من أنكر القدر فقد فجر ومن ورك
ذنبه على الله فقد كفر ولم يدر أن ما فاته حجة عليه لا له
(فإنه شعبة من النصرانية) أي فرقة من فرق دين النصارى لأن
المعتزلة الذين هم القدرية أنكروا إيجاد الباري سبحانه
وتعالى فعل العبد فجعله بعضهم كالجبائية غير قادر على عينه
والبعض كالبلخي وأتباعه غير قادر على مثله وجعلوا العبد
قادرا على فعله فهو إثبات للشريك كقول النصارى فالإيمان
والكفر عندهم من فعل العبد لا من فعل الرب وبذلك كفرهم قوم
لكن المختار عدم تكفيرهم لتعارض الشبهة عليهم قال في
القاموس: والنصرانية واحدة النصارى والنصرانية أيضا دينهم
والشعبة بالضم الطائفة من الشيء وفي الصحاح شعب الشيء فرقه
(ابن أبي عاصم) أحمد بن عمرو
(طب عد) كلهم (عن) عبد الله (بن عباس) قال الهيتمي: وفيه
نزار بن حيان ضعيف انتهى وفي الميزان فيه لين وقال ابن
حبان: يأتي عن عكرمة بما ليس من حديثه حتى يسبق إلى القلب
أنه المعتمد لذلك ثم ساق له هذا الخبر اأه
(1/135)
138 - (اتقوا اللعانين) وفي رواية لمسلم
وأبو داود اللاعنين قال النووي: وهما روايتان صحيحتان أي
الأمرين الجالبين للعن أي الشتم والطرد الباعثين عليه من
قبيل تسمية الحاصل فاعلا قالوا: وما اللعانان قال: (الذي
يتخلى) فيه إضمار تقدير تخلي الذي يتخلى ولا يطابق الجواب
السؤال بدون ذلك أي أحدهما تغوط الذي يتغوط (في طريق
الناس) يعني طريق المسلمين المسلوك كما قيده بذلك في رواية
الحاكم فخرج طريق الكفار الذي لا يسلكه غيرهم والطريق
المهجور الذي [ص:136] لا يسلك إلا نادرا لأن من فعلهما
يلعن ويسب فلما كانا سببا للعن أسند الفعل إليهما وقيل
لاعن بمعنى ملعون كقولهم سر كاتم بمعنى مكتوم فالمراد
المسلوك لا المهجور والتعميم رأي مهجور (أو في) في رواية
وفي (ظلهم) أي والثاني تغوط الذي يتغوط في ظلهم الذي
اتخذوه مقيلا فإذا وجده أحد قال لعن الله من فعله فيكره
ذلك تنزيها وقيل تحريما واختاره النووي لهذا الحديث وذلك
لأنه إيذاء للناس بإبطال منفعتهم من ذلك بل قال الذهبي إنه
كبيرة لكن الأصح عند الشافعي الكراهة التنزيهية وما ذكرته
من تفسير التخلي التفرد بالتغوط هو ما مشى عليه النووي
جازما لكن قال الولي العراقي: إنه مردود وإن البول كالغائط
لأن التخلي التفرد لقضاء الحاجة غائطا أو بولا والمعنى
يساعده إذ التنجيس والاستقذار موجود فيهما والظل لغة الستر
ومنه أنا في ظل فلان وعرفا أمر وجودي خلق لنفع البدن تدل
عليه الشمس لكن في الدنيا والآخرة بدليل {وظل ممدود} بلا
شمس
(حم م د) في الطهارة (عن أبي هريرة) ولم يخرجه البخاري
ورواه عنه ابن حبان بلفظ وفي أفنيتهم بدل أو في ظلهم
(1/135)
139 - (اتقوا الملاعن) موضع اللعن جمع
ملعنة الفعلة التي ليعن عليها فاعلها وذلك لأن من فعلها
شتم ولعن فلما كانت سببا لذلك أضيف الفعل إليها (الثلاث)
وفي رواية الثلاثة والأول القياس لأنه عدد لمؤنث (البراز
في الموارد) بكسر الباء على المختار كناية عن الغائط
وبفتحها وهو الفضاء الواسع كذا في المجموع ويشهد له قول
مختار الصحاح كأصله البراز بالكسر المبارزة في الحرب وهو
أيضا كناية عن الغائط والبراز بالفتح الفضاء الواسع هذه
عبارته وجزم بقضيته في القاموس حيث قال البراز ككتاب
الغائط فقول الخطابي أكثر الرواة يكسرون أوله وهو غلط هو
الغلط قال ابن حجر عقب حكاية ما ذكر عن الصحاح فعلى هذا من
فتح أراد الفضاء وإن أطلقه على الخارج فهو من باب اطلاق
اسم المحل على الحال ومن كسر أراد نفس الخارج انتهى وفي
بعض حواشي المهذب أنه بالكسر لا بالفتح لأنه بالكسر كناية
عن ثقل الغذاء قال وهو المراد بالحديث قال في تهذيب
الأسماء واللغات وهذا هو الظاهر أو الصواب وأكثر الرواة
عليه فتعين المصير إليه أنه قال والمعنى عليه ظاهر ولا
يظهر معنى الفضاء الواسع إلا بتأويل وكلفة وقال الكمال ابن
أبي شريف وجدت بخط النووي في قطعة كتبها على سنن أبي داود
بعد أن نقل قول الخطابي أن الكسر علط ما نصه وليس الكسر
غلطا بل هو صحيح أو أصح فقد ذكر الجوهري وغيره أنه بالكسر
اسم للغائط الخارج من الإنسان انتهى وقال الولي العراقي في
شرح أبي داود إذا ثبت أن البراز بالكسر ثقل الغذاء وأكثر
الرواة على الكسر تعين المصير إليه ولا يظهر معنى الفتح
إلا بتوسع وانتقال عن المدلول الأصلي إلى غيره انتهى
وبتدبر ذلك يعرف أن البيضاوي لم يصب حيث قال هو هنا بفتحها
فإن أصل المفتوح الفضاء الواسع قال والتركيب يدل على
الظهور فكنوا به عن الغائط ثم اشتق منه تبرز إذا تغوط
والمراد الأمكنة التي يوافيها الناس كالأندية انتهى وتبعه
على ذلك الهروي في شرح المصابيح وزاد فقال: والبراز بكسرها
تصحيف إذ هو المبارزة في الحرب والمراد بالموارد مناهل
الماء أو الأمكنة التي يأتيها الناس كالأندية ورجح الأول
بموافقته لقوله في الحديث الآتي أو في نقع ماء والحديث
يفسر بعضه بعضا وإرادة طرق الماء بعيدة هنا (وقارعة
الطريق) أعلاه أو جادته أو وسطه أو صدره أو ما برز منه
فكلها متقاربة مشتقة من القرع أي الضرب فهي مقرعة بالقدم
والحافر وذلك من تسمية المفعول بالفاعل (والظل) الذي يجتمع
فيه الناس لمباح ومثله كل موضع اتخذوه لمصالحهم ومعايشهم
المباحة واستدل به على أنه لا يجوز قضاء الحاجة في المواضع
التي يردها الناس للاستسقاء منها لإيذاء الناس بتنجيسهم
وتقذيرهم وبه صرح ابن قدامة الحنبلي وبعض المالكية
والشافعية لكن اقتصر جمهورهم على عده من الآداب وحملوا
الأحاديث على الكراهة
(د هـ ك هق) وكذا الطبراني (عن معاذ) بن جبل وظاهر صنيع
المؤلف أن مخرجيه خرجوه ساكتين عليه والأمر بخلافه فقد جزم
أبو داود نفسه بأنه منقطع وتبعه عبد الحق وابن القطان
وغيرهما مبينين أن انقطاعه فيما بين أبي سعيد الحميري
ومعاذ ولم يدركه [ص:137] بل أبو سعيد هذا مجهول أيضا كما
قاله الذهبي وغيره لكن قال النووي إنه حديث حسن قال الولي
العراقي ولعله ارتقى درجة الحسن بوجود الشواهد قال مغلظاي
هو كما قالوا لكن له شواهد عند أحمد انتهى وقد أحسن المؤلف
حيث عقبه فقال:
(1/136)
140 - (اتقوا الملاعن الثلاث) قالوا: وما
هي يا رسول الله قال: (أن يقعد أحدكم) لقضاء حاجته ويقضيها
(في ظل) نكره للعموم فيعم ظل الحائط والشجر وغير ذلك
(يستظل) بالبناء للمفعول أي يستظل الناس (فيه) للوقاية من
حر الشمس وقيس به موضع الشمس في الشتاء (أو في طريق) أي
مسلوك للمسلمين قال الولي العراقي: وهل ذكر قارعة الطريق
في الحديث قبله تقييد لإطلاق الطريق هنا أو ذكر لبعض
أفراده؟ فيه احتمال فعلى الأول يحمل المطلق على المقيد
ويختص النهي يقارعة الطريق وعلى الثاني فالحكمة في تخصيص
القارعة بالذكر فيما قبله أن حصول الأذى بالبول فيها أشد
فالاهتمام بالنهي هنا أشد ويحتمل أن يراد بقارعة الطريق
نفس الطريق كما يشير إليه كلام النهاية (أو في نقع ماء)
بالإضافة أي ماء ناقع بنون مفتوحة ثم قاف ساكنة أي مجتمع
ومستنقع الماء بالفتح مجتمعه قال الزمخشري: نقع الماء في
بطن الوادي وانتقع ثبت واجتمع ومن المجاز انقع له الشر
أثبته له وأدامه ومقصود الحديث النهي عن البول في الماء
الراكد ونحوه فيكره فيه وكذا بقربه تنزيها <تنبيه> قال
النووي في الأذكار: ظاهر هذه الأحاديث تدل على جواز لعن
العاصي مع التعيين أي أنه لو لم يجز لعنه كانت اللعنة على
لاعنه والمشهور حرمة لعن المعين وأجاب الزين العراقي بأنه
قد يقال إن ذلك من خواص المصطفى صلى الله تعالى عليه وعلى
آله وسلم لمقولة اللهم إني أتخذ عندك عهدا أيما مسلم سببته
أو لعنته الحديث
(حم عن ابن عباس) رمز المؤلف لضعفه وهو كما قال فقد بين
مغلطاي أن أحمد رواه من حديث ابن المبارك عن ابن لهيعة ثم
قال: أعني مغلطاي هو مرسل لأنه أبهم الراوي فيه عن ابن
عباس وابن لهيعة مختلف فيه لكن ذلك لا يقدح في إيراده
شاهدا لما قبله لأن الشواهد لا يعتبر لها شرط الصحيح من كل
وجه انتهى وقال المنذري ضعيف وقال ابن حجر فيه ضعف لأجل
ابن لهيعة والراوي عن ابن عباس متهم انتهى وقال الهيتمي
فيه ابن لهيعة ورجل لم يسم
(1/137)
141 - (اتقوا) احذروا ندبا وإرشادا
(المجذوم) أي مخالطة الذي به جذام وهو داء رديء يحدث من
انتشار المرة السوداء بالبدن فيفسد مزاج الأعضاء وتشاكلها
وربما تأكلت أو اسودت وسقطت والفعل منه جذم على بناء
المفعول (كما يتقى) بضم الياء وشد المثناة فوق مفتوحة بضبط
المؤلف أي مثل اتقاء (الأسد) أي اجتنبوا مخالطته كما
تجتنبوا مخالطة الأسد الحيوان المفترس فإنه يعدي المعاشر
كما جزم به الشافعي في الأم في موضع وحكاه عن الأطباء
والمجربين في آخر ونقله غيره عن أفاضل الأطباء فقالوا:
مقاربة المجذوم معدية برائحته وقد تكون الطبيعة سريعة
الانفعال قابلة للاكتساب من أبدان المجاورين والمخاطبين بل
الوهم وحده من أكبر أسباب الإصابة والرائحة أشد أسباب
العدوى لكن لا بد معها من كمال استعداد البدن ولا يناقضه
خبر لا عدوى ولا طيرة لأنه نفي لاعتقاد الجاهلية نسبة
الفعل لغير الله فوقوعه بفعله تقدس أو لأن الطاعون ينزل
ببلد فيخرج منه خوف العدوى وأما المجذوم ومثله المسلول فلم
يرد به هذا الخبر وما أشيهه إلا التحرز عن تعدي الرائحة
فإنها تسقم من أطال اشتمامها باتفاق حذاق الأطباء وأكل
المصطفى معه تارة وتارة لم يصافحه لبيان الجواز وصحة الأمر
على سالك طريق الفرار وسالك طريق التوكل ففعل الأمرين
ليأخذ من قويت ثقته بربه بطريق التوكل ومن ضعف بطريق
التحفظ والحاصل أن الأمور التي يتوقع منها الضرر قد أباحت
الحكم الربانية التحرز عنها قلا ينبغي للضعفاء أن يقربوها
وأما أهل الصدق واليقين فبالخيار وعلى ذلك [ص:138] ينزل ما
تعارض من الأخبار واحتج بها الشافعي كالجمهور على إثباته
الخيار في فسخ النكاح به وعارضه المخالف بأن الخبر يوجب
الفرار لا الخيار وأجيب بأن الأمر بالفرار من أعظم الأعذار
فلا ثبوت في الخيار
(تخ عن أبي هريرة) رمز المؤلف لصحته
(1/137)
142 - (اتقوا) إرشادا (صاحب الجذام كما
يتقى السبع) وفي رواية الأسد أي احذروا مخالطته وتجنبوا
قربه وفروا منه كفراركم من الأسود الضارية والسباع العادية
حتى أنه (إذا هبط واديا فاهبطوا غيره) مبالغة في التباعد
عنه (فإن قلت) لم خص الأسد دون الحية ونحوها الأعظم ضررا
(قلت) فيه مناسبة لطيفة وهي أنه يسمى داء الأسد ومما قيل
في توجيه التسمية أن العلة كثيرا ما تعتريه وأنها تحمر وجه
صاحبها وتجعله في سحنة الأسد وفيه إشارة أيضا إلى أنه
يفترس من يعديه ويدنو منه افتراس الأسد بقوته والحية إنما
تقتل بسمها لا بعزمها (ابن سعد) في الطبقات (عن عبد الله
بن جعفر) بن أبي طالب أول ولد للمهاجرين بالحبشة وكان آية
في الكرم بحيث يضرب به المثل وله صحبة رمز المؤلف لضعفه
لكن يشهد له ما قبله
(1/138)
143 - (اتقوا النار) أي اجعلوا بينكم
وبينها وقاية أي حجابا من الصدقة (ولو) كان الاتقاء
بالتصدق (ب) شيء قليل جدا مثل (شق تمرة) بكسر المعجمة أي
جانبها أو نصفها فإنه يفيد فقد يسد الرمق للطفل فلا يحتقر
المتصدق ذلك فلو هنا للتقليل كما تقرر وهو معدود من
معانيها كما في المغني عن اللخمي وغيره وقد ذكر التمرة دون
غيرها كلقمة طعام لأن التمر غالب قوت أهل الحجاز والاتقاء
من النار كناية عن محو الذنوب {إن الحسنات يذهبن السيئات}
" أتبع السيئة الحسنة تمحها " وبالجملة ففيه حث على التصدق
ولو بما قل وهذا الحديث صدره محذوف ولفظ رواية الشيخين عن
عدي بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما
منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر
أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه فلا يرى إلا
ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه
فاتقوا النار ولو بشق تمرة متفق عليه
(ق ن عن عدي بن حاتم) ابن عبد الله بن سعد الطائي الجواد
ابن الجواد أسلم سنة سبع ونزل في سبسانة منعزلا (حم عن
عائشة) الصديقية (البراز) في مسنده (طس والضياء) المقدسي
في المختارة (عن أنس) بن مالك (البراز) في مسنده أيضا (عن
النعمان بن بشير) بموحدة مفتوحة ومعجمة مكسورة الأنصاري
(وعن أبي هريرة) الدوسي (طب عن ابن عباس) ابن عم المصطفى
(وعن أبي أمامة) الباهلي واكثار المؤلف من مخرجيه مع وجوده
في الصحيحين لا حاجة إليه لكنه حاول التنبيه بذلك على أنه
متواتر وبه أفصح في الأحاديث المتواترة
(1/138)
144 - (اتقوا النار) أي احترزوا منها
بالتقوى التي هي تجنب المخالفات لئلا يصيبكم ويواقعكم
عذابها قال الحراني: وجهنم هي عدة الملك الديان لأهل
العصيان بمنزلة سيف الملك من ملوك الدنيا (ولو بشق تمرة)
واحدة فإنه يسد الرمق (فإن لم تجدوا) ما تتصدقون به حتى
التافه لفقده حسا أو شرعا (فبكلمة) أي فاتقوا النار بكلمة
(طيبة) تطيب قلب السائل مما يتلطف به في القول والفعل فإن
ذلك سبب للنجاة من النار وقيل الكلمة الطيبة ما يدل على
هدي أو يرد عن ردي أو يصلح بين اثنين أو يفصل بين متنازعين
أو يحل مشكلا أو يكشف غامضا أو يدفع تأثيرا أو يسكن غضبا
واستدل الشافعية بهذا الخبر وما قبله على أنه لو قال لزيد
عندي شيء وفسره بما لا يتمول كحبة بر وشق تمرة قبل (تتمة)
قال ابن عربي وشيء ببعض شيوخنا بالمغرب عند السلطان في أمر
فيه هلاكه فأمر بعقد مجلس وأن الناس إن أجمعوا على حل
[ص:139] قتله قتل فجمعوا فاجتمعوا فاحضرهم ليشهدوا في وجهه
فيقتل فلم يستطع أحد منهم أن يشهد فسئل الشيخ بعد فقال:
تذكرت النار فرأيتها أقوى من الناس غضبا وتذكرت نصف رغيف
فرأيته أكثر من نصف تمرة فأسكتت غضبهم بالتصدق بنصف رغيف
في طريقي فدفعت الأقل من النار بالأكثر من شق تمرة وفي
رواية للخطيب بدل طيبة لينة وفيه حث على الصدقة بما قل وجل
وأن لا يحتقر ما يتصدق به وأن اليسير من الصدقة يستر
المتصدق من النار
(حم ق عن عدي) بن حاتم قال ذكر رسول الله صلى الله عليه
وسلم النار فتعوذ منها وأشاح بوجهه ثلاثا ثم ذكره
(1/138)
145 - (اتقوا الدنيا) أي احذروها فإنها
أعدى أعدائكم تطالبكم بحظوظها لتصدكم عن طاعة ربكم بطلب
شهواتها وتشغلكم عن خدمة مولاكم بخدمة ذاتها ونفسك لها
عليك ظهير وهواك لاتباع مرضاتها مشير وأنت غير قليل
التماسك عن شهواتها مسترسل معها سريع الانقياد للذاتها
(فوالذي نفسي) بسكون الفاء (بيده) بقدرته وإرادته وتدبيره
فهو كناية عن تمكنه تعالى منها تصرفا وتقلبا كيف يشاء إذ
لا جارحة ولا استقرار وهو مؤذن بطلب اليمين في الأمر المهم
وكان أكثر قسم المصطفى به لأنه أشرف الأقسام لأن نفسه
الشريفة أنفس الخلق ثم زاده تأكيدا بأن واللام فقال (إنها)
أي الدنيا (لأسحر) بلام التوكيد أي أعظم سحرا (من) سحر
(هاروت وماروت) قال الحراني: هما ملكان جعلا حكمين في
الأرض وقال القاضي كالزمخشري ملكان أنزلا لتعليم السحر
ابتلاء من الله تعالى للناس وتمييزا بينه وبين المعجزة
وقيل رجلان سميا ملكين باعتبار صلاحهما ومنع صرفهما
للعلمية والعجمة وقال الكازوني ملكان من أعبد الملائكة ركب
الله فهما الشهوة بعد ما طعن الملائكة فينا ليظهر عذرنا
فعصينا فخيرهما بين عذابي الدنيا والآخرة فاختارا عذاب
الدنيا فعذبهما إلى يوم القيامة ويمتحن بها عباده انتهى
وإنما كانت أسحر منهما لأنهما ليسا من جنس الآدميين وكل
شيء إنما يألف جنسه وينخدع له والآدمي خلق من الدنيا يألف
لذاتها وينخدع لشهواتها فلذلك صارت أسحر منهما ولأنهما لا
يعلمان السحر حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون
منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه فهما يعلمان السحر
ويبينان فتنته والدنيا تعلم سحرها وتكتم فتنتها وشرها
وتدعو إلى التحارص عليها والتنافس فيها والجمع لها وهما
يعلمان ما يفرق بين المرء وزوجه وهي تعلم ما يفرق بين
المرء وربه فشتان بين سحرها وسحرهما كيف وهي تأخذ بالقلوب
عن القيام بحق علام الغيوب وعن وعده المطلوب ووعيده
المرهوب كيف وهي تسحر العقول وذلك لا يبلغه سحرهما المعقول
كيف والسكران بسحرهما يفيق كما يفيق السكران بالرحيق
والسكران بسحرها لا يفيق إلا في ظلمة اللحد المضيق المؤذن
بعذاب الحريق فالسلامة منها تسليمها لأهلها والإعراض عن
فضلها <تنبيه> مر ما يفيد أن السحر إتيان نفس شريرة بخارق
عن مزاولة محرم ثم إن اقترن بكفر فكفر وإلا فكبيرة عند
الإمام الشافعي وكفر عند غيره وتعلمه إن لم يكن لذب السحرة
عند نشره حرام عند الأكثر وعلى ذلك يحمل كلام الإمام
الرازي في تفسيره اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس
بقبيح ولا محذور ولأن العلم شريف ولعموم {هل يستوي الذين
يعلمون والذين لا يعلمون} ولأن السحر لو لم يعلم لما أمكن
الفرق بينه وبين المعجزة والعلم بكون المعجز معجزا واجب
وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب قال: فهذا يقتضي كون العلم
به واجبا وما يكون واجبا كيف يكون حراما أو قبيحا؟ انتهى
(الحكيم) الترمذي في النوادر (عن عبد الله بن بسر) بضم
الموحدة وسكون المهملة ابن صفوان (المازني) نزيل حمص صحابي
مشهور عاش أربعا وتسعين سنة وتوفي بحمص أيام سليمان ابن
عبد الملك وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسه ودعا
له صحب النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبوه وأمه وأخوه عطية
وأخته الصماء وهو صحابي صغير آخر من مات من الصحابة بحمص
روى البخاري عنه حديثا واحدا في صفة النبي صلى الله عليه
وسلم. أه. قال الزين العراقي: ورواه ابن أبي الدنيا
والبيهقي في الشعب من رواية أبي الدرداء الرهاوي مرسلا
وقصة هاروت وماروت المشهورة وردت من نحو عشرين طريقا بعضها
حسن فزعم بطلانها غير [ص:140] صواب كما بينه الحافظ ابن
حجر وقال من وقف عليها يكاد يقطع بوقوع القصة
(1/139)
146 - (اتقوا بيتا يقال له الحمام) أي
احذروا دخوله فلا تدخلوه ندبا للاغتسال فيه إلا لضرورة أو
لحاجة وقال يقال له الحمام لأن العرب بالحجاز لم تكن تعرف
الحمام ولم يدخله المصطفى. قال ابن القيم: ولا رآه بعينه
وما وقع لبعضهم مما يوهم خلاف ذلك وهم قالوا: يا رسول الله
إنه يذهب الوسخ ويذكر النار قال: إن كنتم لابد فاعلين (فمن
دخله) منكم (فليستتر) أي فليستر عورته عمن يحرم نظره إليها
وجوبا وعن غيره ندبا. قال الحكيم: هذا يفهم أنه إنما أمر
بأن يتقى لنظر بعضهم إلى عورة بعض ولم يصرح عن جواب السائل
بأنه يذكر النار لأن تذكيره لها غير مطرد في حق كل أحد إذ
هو يخص العامة فإن الواحد منا إذا عاين بقعة حامية ذات
بخار وماء حميم أخذه الغم ودارت رأسه حتى استروح إلى ما
يبرد فؤاده وتروح بما يدخل من خلل الباب من الهواء واستنشق
الماء البارد وتذكر بذلك دار العقاب فكان ذلك سببا
لاستعادته من فنون العذاب وأما أهل اليقين فالآخرة نصب
أعينهم فلا يحتاجون إلى الاتعاظ بحمام وغيره وأول من اتخذ
له الحمام سليمان عليه الصلاة والسلام وأول من اتخذها
بالقاهرة العزيز بن المعز العبيدي كما في خطط المقريزي
وتاريخ المسيحي وقد اختلف السلف والخلف في حكم دخول الحمام
على أقوال كثيرة والأصح أنه مباح للرجال بشرط الستر والغض
مكروه للنساء إلا لحاجة
(طب ك هب) وكذا الحكيم (عن ابن عباس) قال ك وهو على شرط
مسلم وأقره الذهبي في التلخيص مع أن فيه عبد العزيز بن
يحيى أبو الأصبع أورده أعني الذهبي في الضعفاء وقال: قال
البخاري لا يتابع على حديثه وقال أبو حاتم: صدوق ورواه عنه
البزار قال عبد الحق وهو أصح حديث في هذا الباب وأما ما
أخرجه أبو داود والترمذي فلا يصح منه شيء وقال في المطامح
ليس في شأن الحمام ما يعول عليه إلا قول المصطفى صلى الله
عليه وسلم في صفة عيسى كأنما خرج من ديماس وقد ألف فيه
بعضهم مؤلفا حافلا جمع فأوعى ولإختلاف أخباره اختلف
الفقهاء في دخوله على أقوال متكثرة ومذهب الإمام الشافعي
رضي الله تعالى عنه الإباحة للرجال بشرط الستر والغض
والكراهة للمرأة حيث لا عذر
(1/140)
147 - (اتقوا زلة العالم) أي سقطته وهفوته
وفعلته الخطيئة جهرا إذ بزلته يزل عالم كثير لاقتدائهم به
فهفوته يترتب عليها من المفاسد ما لا يحصى وقد يراقبه
للأخذ عنه من لا يراه ويقتدي به من لا يعلمه فاحذروا
متابعته عليها والاقتداء به فيها ولكن مع ذلك احملوه على
أحسن المحامل وابتغوا له عذرا ما وجدتم لذلك سبيلا وعلم من
ذلك أنه لا عذر لنا في قولنا إن أكلنا الحرام فالعالم
الفلاني يأكله مثلا قال الغزالي: في هذا جهل وكيف يتعذر
بالاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به فإن من خالف أمر الله
تعالى لا يقتدى به كائنا من كان ولو دخل غيرك النار وأنت
تقدر على أن لا تدخلها فلا عذر لك في موافقته. والزلة في
الأصل استرسال الرجل بغير قصد والمزلة المكان الزلق وقيل
للذنب من غير قصد زلة تشبيها بزلة الرجل ذكره الراغب
(وانتظروا فيئته) بفتح الفاء بضبط المصنف أي رجوعه وتوبته
عما لابسه من الزلل تقول فاء إلى الله فيئة حسنة إذا تاب
ورجع ذكره الزمخشري وغيره إنما قال ذلك لأن العلم يحمله
على التوبة كما قال في الحديث الآخر ستنهاه صلاته وفي
الحديث الآخر إن المؤمن خلق مفتنا توابا إذا ذكر تذكر قال
الغزالي: احذر من الاغترار بعلماء السوء فإن شرهم أعظم على
الدين من شر الشياطين إذ الشياطين بواسطتهم يتصدون إلى
انتزاع الدين من قلوب المؤمنين ولهذا لما سئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم من أشر الخلق قال: اللهم غفرا حتى
كرروا عليه فقال: هم علماء السوء وقال ابن عباس: ويل
للعالم من الأتباع يزل زلة فيرجع عنها ويتحملها الناس
فيذهبون في الآفاق وفي منثور الحكم والمدخل زلة العالم
كانكسار السفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير وقيل لعيسى عليه
الصلاة [ص:141] والسلام من أشد الناس فتنة قال زلة عالم
وفي الإسرائيليات أن عالما كان يضل الناس ببدعته ثم تاب
وعمل صالحا فأوحى الله تعالى إلى نبيهم قل له لو كان ذنبك
فيما بيني وبينك لغفرته لك لكن كيف بمن أضللته من عبادي
فأدخلتهم النار؟ فأمر العلماء خطر وعليهم وظيفتان ترك
الذنب ثم إخفاؤه إن وقع وكما يتضاعف ثوابهم على الحسنات
فيضاعف عقابهم على الذنوب والسيئات إذا اتبعوا والعالم إذا
ترك الميل إلى الدنيا وقنع منها بالقليل ومن الطعام بالقوت
ومن الكسوة بالخلق اقتدى به العامة فكان له مثل ثوابهم بنص
خبر " من سن سنة حسنة " وإن مال إلى التوسع في الدنيا مالت
طباع من دونه إلى التشبه به ولا يقدرون على ذلك إلا بخدمة
الظلمة وجمع الحطام الحرام فيكون هو السبب في ذلك فحركات
العلماء في طوري الزيادة والنقصان تتضاعف آثارها إما بربح
أو خسران (الحلواني) بالضم نسبة إلى حلوان بلد بآخر العراق
وهو الحسن بن علي الحلواني الخلال شيخ مسلم
(عد هق) وكذا العسكري في الأمثال كلهم (عن كثير) المزني
بمثلثة ضد قليل المزني قال في الكاشف واه وقال أبو داود
كذاب وفي الميزان عن الشافعي وأبي داود ركن من أركان الكذب
وضرب أحمد على حديثه وقال الدارقطني وغيره متروك. قال ابن
حبان له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة وقال ابن عدي عامة ما
يرويه لا يتابع عليه وهو (ابن عبد الله) قال الذهبي صحابي
وثق (ابن عمرو بن عوف) المزني الصحابي (عن أبيه) عبد الله
(عن جده) عمرو المذكور ولم يقتصر المصنف على الصحابي فقط
كما هو عادته ليبين أنه من رواية الرجل عن أبيه عم جده
وذلك من أنواع علوم الحديث كما هو معروف وقد سكت عليه فلم
يرمز له بضعف وغيره ومن قال إنه رمز لضعفه فقد وهم فقد
وقفت على نسخته بخطه ولا رمز فيها إن سلم عدم وضعه فقد
علمت القول في كثير وقال الزين العراقي رواه ابن عدي من
حديث عمرو بن عوف هذا وضعفه انتهى فعزو المصنف الحديث لابن
عدي وسكوته عما أعله به غير مرضي ولعله اكتفى بإفصاحه
بكثير
(1/140)
148 - (اتقوا دعوة المظلوم) أي اجتنبوا
دعوة من تظلمونه وذلك مستلزم لتجنب جميع أنواع الظلم على
أبلغ وجه وأوجز إشارة وأفصح عبارة لأنه إذا اتقى دعاء
المظلوم فهو أبلغ من قوله لا تظلم وهذا نوع شريف من أنواع
البديع يسمى تعليقا ثم بين وجه النهي بقوله (فإنها تحمل
على الغمام) أي يأمر الله برفعها حتى تجاوز الغمام أي
السحاب الأبيض حتى تصل إلى حضرته تقدس وقيل الغمام شيء
أبيض فوق السماء السابعة فإذا سقط لا تقوم به السماوات
السبع بل يتشققن قال الله تعالى {ويوم تشقق السماء
بالغمام} وعلى هذا فالرفع والغمام حقيقة ولا مانع من تجسيم
المعاني كما مر لكن الذي صار إليه القاضي الحمل على المجاز
حيث قال استأنف لهذه الجملة لفخامة شأن دعاء المظلوم
واختصاصه بمزيد قبوله ورفعه على الغمام وفتح أبواب السماء
له مجاز عن إثارة الآثار العلوية وجمع الأسباب السماوية
على انتصاره بالانتقام من الظالم وإنزال البأس عليه وقوله
(يقول الله وعزتي وجلالي لأنصرنك) بلام القسم ونون التوكيد
الثقيلة وفتح الكاف أي لأستخلصن لك الحق ممن ظلمك وفتح
الكاف هو ما اقتصر عليه جمع فإن كان الرواية فهو متعين
وإلا فلا مانع من الكسر أي لأستخلصن لصاحبك وتجسد المعاني
وجعلها بحيث تعقل لا مانع منه (ولو بعد حين) أي أمد طويل
بل دل به سبحانه على أنه يمهل الظالم ولا يهمله {وربك
الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل
لهم موعد} وقد جاء في بعض الآثار أنه كان بين قوله قد
أجيبت دعوتكما وغرق فرعون أربعون عاما ووقوع العفو عن بعض
أفراد الظلمة يكون مع تعويض المظلوم فهو [ص:142] نصر أيضا
وفيه تحذير شديد من الظلم وأن مراتعه وخيمة ومصائبه عظيمة
قال:
نامت جفونك والمظلوم منتبه. . . يدعو عليك وعين الله لم
تنم
والحين الزمان قل أو كثر والمراد هنا الزمان المطلق نحو
{ولتعلمن نبأه بعد حين}
(طب والضياء) في المختارة وابن أبي عاصم والخرائطي في
مساوي الأخلاق عن خزيمة بن محمد بن عمارة بن خزيمة بن ثابت
عن أبيه (عن) جده (خزيمة) بخاء وزاي معجمتين مصغر (ابن
ثابت) بن فاكه الخطمي بفتح المعجمة المدني ذي الشهادتين من
كبار الصحابة شهد أحدا وما بعدها وقتل مع علي بصفين قال
الهيتمي: وفيه من لا أعرفه انتهى وأقول فيه سعد بن عبد
الحميد أورده الذهبي في الضعفاء وقال فحش خطؤه قاله ابن
حبان وضعفه غيره أيضا ولم يترك لكن قال المنذري لا بأس
بإسناده في المتابعات
(1/141)
149 - (اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى
السماء) بالمعنى المقرر فيما قبله (كأنها شرارة) كناية عن
سرعة الوصول لأنه مضطر في دعائه وقد قال سبحانه وتعالى
{أمن يجيب المضطر إذا دعاه} وكلما قوي الظلم قوي تأثيره في
النفس فاشتدت ضراعة المظلوم فقويت استجابته والشرر ما
تطاير من النار في الهواء شبه سرعة صعودها بسرعة طيران
الشرر من النار
(ك) من حديث عاصم بن كليب عن محارب وكذا الديلمي (عن ابن
عمر) بن الخطاب ثم قال عاصم احتج به مسلم وأقره الذهبي في
التلخيص لكن أورد عاصما هذا في الضعفاء وقال قال ابن
المديني لا يحتج بما انفرد به وفيه أيضا عمرو بن مرزوق
أورده في ذيل الضعفاء وقال ثقة قال فيه الدارقطني كثير
الوهم وعطاء بن السائب أورده فيهم أيضا وقال قال أحمد من
سمع منه قديما فهو صحيح انتهى وأما المؤلف فقد رمز لحسنه
وقال ثقة
(1/142)
150 - (اتقوا دعوة المظلوم) أي تجنبوا
الظلم لئلا يدعو عليكم المظلوم (وإن كان كافرا) معصوما فإن
دعوته إن كان مظلوما مستجابة وفجوره على نفسه وفي حديث
أحمد عن أبي هريرة مرفوعا دعوة المظلوم مستجابة ولو كان
فاجرا ففجوره على نفسه وإسناده كما في الفتح حسن وروى ابن
حبان والحاكم عن أبي ذر من حديث طويل أن في صحف إبراهيم
أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع
الدنيا بعضها إلى بعض ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم
فإني لا أردها ولو من كافر ولا ينافيه {وما دعاء الكافرين
إلا في ضلال} لأن ذلك في دعائهم للنجاة من نار الآخرة فلا
يدل على عدم اعتباره في الدنيا ثم علل الاتقاء بقوله
(فإنه) أي الشأن قال القرطبي: الرواية الصحيحة فإنه بضمير
المذكر على أن يكون ضمير الأمر والشأن ويحتمل عوده على
مذكر الدعوة فإن مذكر الدعوة دعاء وفي رواية فإنها
بالتأنيث وهو عائد على لفظ الدعوة (ليس دونه) وفي رواية
دونها (حجاب) أي ليس بينها وبين القبول حجاب مانع والحجاب
هنا ليس حسيا لاقتضائه نوعا من البعد واستقرار في مكان
والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك وأقرب لكل شيء من نفسه
فهو تمثيل لمن يقصد باب سلطان عادل جالس لرفع المظالم فإنه
لا يحجب
(حم ع والضياء) المقدسي (عن أنس) بن مالك واتفق عليه
الشيخان بدون الكافر
(1/142)
151 - (اتقوا فراسة) بكسر الفاء ذكره جمع
وهي الحذق في ركوب الخيل والمراد اطلاعه وظاهره أن الفتح
لم يسمع هنا لكن في المصباح بعد ذكره الكسر قال إن الفتح
لغة ثم قال ومنه اتقوا فراسة فاقتضى كلامه أنه بالفتح وجزم
به بعض محققي العجم فقال بالفتح وأما بالكسر فالفروسية على
الضمائر. فإن قيل ما معنى الأمر باتقاء فراسة [ص:143]
المؤمن؟ أجيب بأن المراد تجنبوا فعل المعاصي لئلا يطلع
عليه فتفضحوا بين يديه. (المؤمن) الكامل الإيمان أي احذروا
من إضمار شيء من الكبائر القلبية أو إصرار على معصية خفية
أو تعد لحد من الحدود الشرعية فإنه بنور إيمانه الذي ميزه
الله به عن عوام المؤمنين مطلع على ما في الضمائر شاهد لما
في السرائر فتفضحوا عنده فيشهد عليكم به غدا وأهل العرفان
هم شهداء الله في أرضه وربما ساءه ما رأى فغار على حق الحق
فيمقتكم الله لمقت وليه وقد وجد من ذلك كثير والمتفرس
النظار المتثبت في نظره حتى يعرف حقيقة سمة الشيء وفي
رواية ذكرها ابن الأثير اتقوا قرابة المؤمن قال يعني
فراسته وظنه الذي هو قريب من العلم والتحقيق بصدق حديثه
وإصابته يقال ما هو بعالم ولا قراب عالم والفراسة الاطلاع
على ما في الضمائر وقيل مكاشفة اليقين ومعاينة الغيب وقيل
سواطع أنوار تلمع في القلب تدرك بها المعاني وقال الراغب:
الاستدلال بهيئات الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله على
أخلاقه وفضائله ورذائله وربما قيل هي صناعة صيادة لمعرفة
أخلاق الإنسان وأحواله وقد نبه الله سبحانه وتعالى على
صدقها بقوله تعالى {إن في ذلك لآيات للمتوسمين} وقوله
تعالى {تعرفهم بسيماهم} ولفظها من قولهم فرس السبع الشاة
وسمى الفرس به لأنه يفترس المسافات جريا فكانت الفراسة
اختلاس العارف وذلك ضربان ضرب يحصل للإنسان عن خاطر لا
يعرف سببه وهو ضرب من الإلهام بل من الوحي وهو الذي يسمى
صاحبه المحدث كما في خبر: إن يكن في هذه الأمة محدث فهو
عمر وقد تكون بإلهام حال اليقظة أو المنام والثاني يكون
بصناعة متعلمة وهي معرفة ما في الألوان والأشكال وما بين
الامزجة والأخلاق والأفعال الطبيعية ومن عرف ذلك وكان ذا
فهم ثابت قوي على الفراسة وقد ألف فيها تأليفات فمن تتبع
الصحيح منها اطلع على صدق ما ضمنوه والمراد هنا هو الضرب
الأول بقرينة قوله (فإنه ينظر بنور الله عز وجل) أي يبصر
بعين قلبه المشرق بنور الله تعالى وباستنارة القلب تصح
الفراسة لأنه يصير بمنزلة المرآة التي تظهر فيها المعلومات
كما هي والنظر بمنزلة النقش فيها قال بعضهم من غض بصره عن
المحارم وكف نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بالمراقبة وتعود
أكل الحلال لم تخطئ فراسته قال ابن عطاء الله واطلاع بعض
الأولياء على بعض الغيوب جائز وواقع لشهادته له بأنه إنما
ينظر بنور الله لا بوجود نفسه انتهى ومن ثم شرطوا لحصول
نورها {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} والحق
سبحانه وتعالى يجزئ العبد على عمله من جنسه فمن غض بصره عن
المحارم عوضه إطلاق نور بصيرته وقد قال علي كرم الله وجهه
لأهل الكوفة سينزل بكم أهل بيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيستغيثون بكم فلم يغاثوا فكان منهم في شأن الحسين ما
كان ورأى عمر رضي الله عنه قوما من مذ حج فيهم الأشتر فصعد
النظر فيه وصوب ثم قال قاتله الله إني لأرى للمسلمين منه
يوما عصيبا فكان منه ما كان ونظر رجل إلى امرأة ثم دخل على
عثمان رضي الله تعالى عنه فقال يدخل أحدكم علي وفي عينيه
أثر الزنا وحاكمت امرأة زوجها إلى بعضهم فأصابته مشغولا
بالتقديس فانتظرته حتى فرغ فقال يا جاهلة بمقدار ما جنته
على نفسها اعترفي بذنبك وأعلمي زوجك بجنايتك عليه فإن
السكران الذي واقعك في ليلة كذا وزوجك قائم في الهيكل يدعو
لك فقد أحبلك وستلدين بعد شهرين خلقا مشوها فكان. قال
الغزالي وما حكى عن تفرس المشايخ وأخبارهم عن اعتقادات
الناس وضمائرهم تخرج عن الحصر قال بل ما حكى عنهم من
مشاهدة عذاب القبر والسؤال ومن سماع صوت الهاتف ومن فنون
الكرامات خارج عن الحصر والحكاية لا تنفع الجاحد ما لم
يشاهد ومن أنكر الأصل أنكر التفصيل (سئل) بعض العارفين عن
الفراسة ما هي؟ فقال أرواح تتقلب في الملكوت فتشرف على
معاني الغيوب فتنطق عن أسرار الحق نطق مشاهدة وعيان وقال
أبو عثمان المغربي العارف تضئ له أنوار العلم فيبصر بها
عجائب الغيب وقال الحريري لجلسائه: هل فيكم من إذا أراد
الله أن يحدث في المملكة شيئا أعلمه قبل أن يبدو قالوا:
لا. قال: ابكوا [ص:144] على قلوب لم تجد من الله شيئا وقال
البرقي: وقع اليوم في المملكة حدث لا آكل ولا أشرب حتى
أعلم ما هو فورد الخبر بعد أيام أن القرمطي دخل مكة في ذلك
اليوم وقتل بها المقتلة العظيمة وقال السهروردي لما ذكر
كرامات الأولياء قد يعلمون بعض الحوادث قبل تكوينها
(تخ ت) واستغربه (عن أبي سعيد) الخدري وفيه مصعب بن سلام
أورده الذهبي في الضعفاء وقال ابن حبان كثير الغلط فلا
يحتج به (الحكيم) الترمذي (وسموية) بفتح السين وشد الميم
المضمومة وهو الحافظ إسماعيل في فوائده (طب عد) كلهم (عن
أبي أمامة) الباهلي وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث ليس
بشيء (ابن جرير) في تفسيره وهو محمد الطبري المجتهد المطلق
أحد أئمة الدنيا علما ودينا واجتهادا (عن ابن عمر) بن
الخطاب وفيه مؤمل بن سعيد الرحبي أورده الذهبي في
المتروكين وقال: قال أبو حاتم: منكر الحديث وأسد بن وداعة
أورده الذهبي في الضعفاء وقال: كان يسب عليا معاصر الدولة
مروان الحمار. قال السخاوي بعد ما ساق هذه الطرق: وكلها
ضعيفة وفي بعضها ما هو متماسك لا يليق مع وجوده الحكم على
الحديث بالوضع انتهى ومراده رد ما لابن الجوزي حيث حكم
بوضعه فلم يصب وحكم السخاوي على الكل بالضعف غير صواب فقد
قال الهيتمي: إسناد الطبراني حسن وذكر المؤلف في الدرر أن
الترمذي خرجه من حديث ابن عمر وثوبان وينطق بتوفيق الله
وذكر في تعقيبات الموضوعات أن الحديث حسن صحيح
(1/142)
153 - (اتقوا محاش النساء) بفتح الميم وحاء
مهملة وشين معجمة مشددة ويقال بمهملة وهما روايتان كما نبه
عليه الشهاب الحجازي وغيره يعني إتيانهن في أدبارهن جمع
محشة أو محشاة اسم لأسفل مواضع الطعام من الأمعاء كنى به
عن الدبر كما كنى بالحشوش عن الغائط وفي المجيء به هكذا
على منهج الرمز باب من حسن الأدب وتحاش عن التفوه بالعظيمة
والنهي للتحريم فيحرم إتيان الحليلة في دبرها كما سبق
ولاحد لكنه ينهى فإن عاد عزر في الثالثة وما رواه الحاكم
عن مالك في قوله الآن فعلته بأم ولدي وفعله نافع وابن عمر
وفيه نزل {نساؤكم حرث لكم} فتعقبوه بأنه كذب عليه لكن رده
الحافظ ابن حجر في اللسان فقال أصله في سبب النزول مروي عن
ابن عمرو عن نافع وعن مالك من طرق عدة صحيحة بعضها في
البخاري (سموية) في فوائده
(عد) وكذا أبو نعيم والديلمي (عن جابر) بن عبد الله وفيه
علي بن أبي علي الهاشمي اللهبي المدني قال في الميزان عن
أبي حاتم والنسائي متروك وعن أحمد له مناكير ثم أورد منها
هذا الخبر وفيه أيضا ابن أبي فديك
(1/144)
153 - (اتقوا هذه المذابح) جمع مذبح قال في
الفردوس وغيره (يعني المحاريب) أي تجنبوا تحري صدور
المجالس يعني التنافس فيها ووقع للمصنف أنه جعل هذا نهيا
عن اتخاذ المحاريب في المساجد والوقوف فيها وقال: خفي على
قوم كون المحراب بالمسجد بدعة وظنوا أنه كان في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم ولم يكن في زمنه ولا في زمن أحد من
خلفائه بل حدث في المئة الثانية مع ثبوت النهي عن اتخاذه
ثم تعقب قول الزركشي المشهور أن اتخاذه جائز لا مكروه ولم
يزل عمل الناس عليه بلا نكير بأنه لا نفل في المذهب فيه
وقد ثبت النهي عنه انتهى أقول وهذا بناء منه على ما فهمه
من لفظ الحديث أن مراده بالمحراب ليس إلا ما هو المتعارف
في المسجد الآن ولا كذلك فإن الإمام الشهير المعروف أي
بابن الأثير قد نص على أن المراد بالمحاريب في الحديث صدور
المجالس قال ومنه حديث أنس كان يكره المحاريب أي لم يكن
يحب أن يجلس في صدور المجالس ويرتفع على الناس انتهى.
واقتفاه في ذلك جمع جازمين به ولم يحكوا خلافه منهم الحافظ
الهيتمي وغيره وقال الحراني: المحراب صدر البيت ومقدمه
الذي لا يكاد يوصل إليه إلا بفضل منه وقوة جهد وفي الكشاف
في تفسير {كلما دخل عليها زكريا المحراب} ما نصه: قيل بنى
لها زكريا محرابا في المسجد أي غرفة تصعد إليها بسلم وقيل
المحراب أشرف المجالس ومقدمها كأنها وضعت في أشرف موضع في
بيت المقدس وقيل كانت [ص:145] مساجدهم تسمى المحاريب انتهى
وقال في تفسير {يعملون له ما يشاء من محاريب} المحاريب
المساكن والمجالس الشريفة سميت به لأنه يحامى عليها ويذب
عنها وقيل المساجد انتهى وفي الأساس مررت بمذبح النصارى
ومذابيحهم وهي محاريبهم ومواضع كتبهم ونحوها المناسك
للمتعبدات وهي في الأصل المذابح انتهى وفي الفائق المحراب
المكان الرفيع والمجلس الشريف لأنه يدافع عنه ويحارب دونه
ومنه قيل محراب الأسد لمأواه وسمي القصر والغرفة المنيفة
محرابا انتهى بنصه. وفي القاموس المذابح المحاريب
والمقاصير. بيوت النصارى والمحراب الغرفة وصدر البيت وأكرم
مواضعه ومقام الإمام من المسجد والموضع ينفرد به الملك
وقال الكمال ابن الهمام في الفتح بعد ما نقل كراهة صلاة
الإمام في المحراب لما فيه من التشبه بأهل الكتاب
والامتياز عن القوم ما نصه لا يخفى أن امتياز الإمام مفردا
مطلوب في الشرع في حق المكان حتى كان التقدم واجبا عليه
وغاية ما هنا كونه في خصوص مكان ولا أثر لذلك فإنه بنى في
المساجد المحاريب من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو
لم تبن لكانت السنة أن يتقدم في محاذاة ذلك المكان لأنه
يحاذي وسط الصف وهو المطلوب إذ قيامه في غير محاذاته مكروه
وغايته اتفاق الملتين في بعض الأحكام ولا بدع فيه على أن
أهل الكتاب إنما يخصون الإمام بالمكان المرتفع كما قيل فلا
تشبه انتهى
(طب هق عن ابن عمرو) بن العاص رمز المصنف لحسنه قال
الهيتمي: فيه عبد الرحمن بن مغرا وثقه ابن حبان وغيره
وضعفه ابن المديني في روايته عن الأعمش وليس هذا منها
انتهى. وقال المصنف حديث ثابت وهو على رأي أبي زرعة
ومتابعيه صحيح وعلى رأي ابن عدي حسن والحسن إذا ورد من
طريق ثان ارتقى إلى الصحة انتهى وهو غير صواب فقد تعقبه
الحافظ الذهبي في المذهب على البيهقي فقال قلت هذا خبر
منكر تفرد به عبد الرحمن بن مغرا وليس بحجة انتهى وحينئذ
فإثبات الحكم بصحته بفرض ما فهمه المؤلف منه لا يصار إليه
(1/144)
154 - (أتموا الركوع والسجود) أي ائتوا
بهما تامين كاملين بشرائطهما وسننهما وآدابهما وأوفوا
الطمأنينة فيهما حقها فتجب الطمأنينة فيهما في الفرض وكذا
في النفل عند الشافعية وذلك بأن تستقر أعضاؤه في محلها قال
الحراني: الإتمام التوفية لما له صورة تلتئم من أجزاء
وآحاد (فو) الله (الذي نفسي بيده) أراد بالنفس ذاته وجملته
وباليد قدرة الله تعالى وتصرفه فيه إشارة إلى أن إرادته
وتصرفه مغموران في إرادة الله وتصرفه وفيه جواز القسم بما
ذكره ونحوه من كل ما يفهم منه ذات الله تعالى تأكيدا للأمر
وتفخيما للشأن (إني لأراكم) بلام التوكيد وبفتح الهمزة (من
وراء ظهري إذا ركعتم وإذا سجدتم) وفي رواية لمسلم إذا ما
ركعتم وإذا ما سجدتم بزيادة ما وهذه رؤية إدراكية فلا
تتوقف إلى آلتها ولا على شعاع ومقابلة خرقا للعادة ولا
يلزم من فرضه محال وخالق البصر في العين قادر على خلقه في
غيرها وقول الزاهدي كان له عينان بين كتفيه كسم الخياط يرى
بهما ولا يحجبهما شيء لم يثبت ولما كانت هذه الرؤية
الإدراكية خارجة عن القوانين العادية أكد بالقسم وبأن
واللام دفعا للإنكار قال الحليمي: لا سبيل للملحدين إلى
استنكار ذلك فإنهم يدعون لفيثاغورش أنه كان يسمع أصوات
الأفلاك وصرير حركة الكواكب وألف الألحان عليها وهم عندنا
كاذبون إلا أن يثبت أنه كان نبيا وزعم أن هذه رؤية قلبية
أو بوحي رد بأنه تعطيل للفظ الشارع بلا ضرورة فحمله على
ظاهره وأنه إبصار حقيقي خاص به خرقا للعادة معجزة له أولى
قال ابن حجر: وظاهر الحديث أن ذلك خاص بحالة الصلاة ويحتمل
العموم انتهى وكلام جمع متقدمين مصرح بالعموم. ألا ترى إلى
قول المطامح وغيرها أنه كان يبصر من خلفه لأنه كان يرى من
كل جهة من حيث كان نورا كله وهذا من عظيم معجزاته ولهذا
كان لا ظل له لأن النور الذي أفيض عليه منع من حجب الظلمة
وقد كان يدعو بسبعة عشر نورا فبهذا الأنوار أبصر من كل جهة
ولذلك تجلت له الجنة في الجدار لفقد الحجب وزاد لفظ الظهر
ولم يكتف بقوله وراء لأن وراء يراد به تارة خلف وتارة أمام
فإذا قلت زيد ورائي صح أن يراد في المكان الذي أواريه أنا
بالنسبة لمن خلفي فيكون أمامي أو يراد في المحل الذي
[ص:146] هو متوار عني فيكون خلفي وقال الحراني: وراء ما لا
يناله الحس ولا العلم حيثما كان من المكان فربما اجتمع أن
يكون الشيء وراء من حيث كونه لا يعلم وأما ما في المكان
وقال القاضي: وراء في الأصل مصدر جعل ظرفا يضاف للفاعل
ويراد به ما يتوارى وهو خلفه وللمفعول ويراد به ما يواريه
وهو قدامه ولهذا عد من الأضداد
(حم ق ن عن أنس) بن مالك وفي الباب غيره أيضا وفيه وجوب
الطمأنينة في الركوع والسجود وخصه أبو حنيفة بالفرض وعمم
الشافعي رضي الله تعالى عنه
(1/145)
155 - (أتموا) أيها المصلون ندبا مؤكدا
(الصفوف) بضم الصاد أكملوها الأول بالأول فلا يشرع في الصف
الثاني حتى يتم الأول ولا يقف في صف حتى يتم ما قبله فإن
وجد في صف أمامه فرجة اخترق الصف الذي يليه فما فوقه إليها
لتقصيرهم بتركها (فإني أراكم خلف ظهري) قال في المطامح في
أبي داود عن معاوية ما يدل على أن هذا كان في آخر عمره
ولهذا قال عياض كان ذلك له بعد ليلة الإسراء كما كان موسى
يرى النملة السوداء في الليلة الظلماء من عشرة فراسخ بعد
ليلة الطور وزاد لفظ الظهر ولم يكتف بقوله خلفي لما مر قال
الحافظ ابن حجر: وأما ما اشتهر من خبر لا أعلم ما وراء
جداري فلا أصل له وبفرض وروده فالمراد به أنه لا يعلم
الغيب إلا بإطلاعه تعالى
(م عن أنس) بن مالك متفق عليه بلفظ أقيموا الصفوف فإني
أراكم من وراء ظهري
(1/146)
156 - (أتموا) ندبا مؤكدا والصارف عن
الوجوب أخبار أخر (الصف المقدم) أي أكملوا الصف الأول وهو
الذي يلي الإمام وإن تخاله نحو منبر أو سارية أو جاء
أصحابه متأخرين (ثم الذي يليه) وهكذا وقول ابن عبد البر
المراد به من يسبق إلى الصلاة وإن تأخر غلطوه فيه (فما كان
من نقص) في الصف (فليكن) أي فاجعلوه (في الصف المؤخر)
فيكره الشروع في صف قبل إتمام ما قبله كما تقرر وهذا الفعل
مفوت لفضيلة الجماعة الذي هو التضعيف لا لأصل بركة الجماعة
فالتضعيف للجماعة غير بركة الجماعة وبركتها هي عود بركة
الكامل منهم على الناقص ذكره المؤلف في بسط الكف في إتمام
الصف قال في المجموع: اتفقوا على ندب سد الفرج في الصفوف
وإتمام الأول فالأول ولا يشرع في صف حتى يتم ما قبله وهذا
كله في صفوف الصف الواحد كما يأتي
(حم د ن) في الصلاة (حب وابن خزيمة) محمد النيسابوري
المجتهد المطلق البحر العجاج المنعوت بإمام الأئمة
(والضياء) المقدسي في المختارة وأبو يعلى والبيهقي (عن
أنس) ابن مالك وسكت عليه أبو داود والمنذري قال النووي في
رياضه بعد عزوه لأبي داود إسناده حسن ولم يرمز له المصنف
بشيء
(1/146)
157 - (أتموا) هو بمعنى قوله في الرواية
الأخرى أسبغوا (الوضوء) أي عمموا به جميع الأعضاء وائتوا
به على التمام بفرائضه وسننه من إطالة غرة وتحجيل وتثليث
وتكرار غسل ومسح وقد روى أبو يعلى عن أبي هريرة جاء رجل
إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: ما إسباغ الوضوء
فسكت حتى حضرت الصلاة فدعا بماء فغسل يديه ثم استنثر (ويل)
سوغ الابتداء به وهو نكرة كونه في معنى الدعاء (للأعقاب من
النار) أي شدة هلكة من نار الآخرة لأصحابها المهملين غسل
بعضها في الوضوء ويحتمل أن يخص العقب نفسها بعذاب يعذب به
صاحبه قال ابن دقيق العيد: وأل للعهد والمراد الأعقاب التي
رآها تلوح لم يسمها الماء. والمراد الأعقاب التي صفتها أن
لا تعمم بالمطهر ولا يجوز كون أل للعموم المطلق ومن بمعنى
في كما في {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} أو بيانية كما
في {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} قال الحراني: والويل جماع
الشر كله وفي الكشاف الويل نقيض الوأل وهو النجاة اسم معنى
كالهلاك إلا أنه لا يشتق منه [ص:147] فعل وإنما يقال ويلا
له فبنصب نصب المصدر ثم يرفع رفعه لإفادة معنى الثبات
فيقال ويل له كقولك سلام عليك انتهى وفيه أن فرض الرجلين
الغسل وأنه لا يجزئ فيهما المسح وبه قال جمهور السلف
والخلف وقال الشيعة الواجب مسحهما وابن جرير والجبائي يخير
بين المسح والغسل وبعض أهل الظاهر يجب الجمع بينهما وبه
نوزع قول النووي أنه لم يثبت المسح عند أحد يعتد به في
الإجماع. وممن روى عنه المسح كما في مصنف ابن أبي شيبة
وغيره وعكرمة والحسن والشعبي بل وأنس وغيره من الصحابة
وفيه أيضا وجوب تعميم الأعضاء بالطهر وأن ترك بعضها غير
مجزئ وإنما خص الأعقاب لأنه ورد على سبب وهو أنه رأى قوما
يصلون وأعقابهم تلوح وقيل إنما خصها لغلبة التساهل فيها
والتهاون بها لأنها في أواخر الوضوء وأسافل البدن وفي محل
لا يشاهد غالبا فكان الاهتمام بها أحق من غيرها وفيه
الاهتمام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال الدميري:
وفيه حجة لأهل السنة أن المعذب الجسد الدنيوي لأنه أثبت
الوعيد لتلك الأعقاب المرئية وفيه دلالة للتعذيب على
الصغائر لأن ترك بعض العضو غير مغسول ليس من الكبائر
للاختلاف في فرض الرجلين إذ ابن جرير يقول بالتخيير بينه
وبين المسح والمسح لا يستوعب العضو وما في مقام الاجتهاد
لا يصل إلى رتبة الكبائر انتهى وهو في حيز المنع فإن كون
الشيء كبيرة ليس مناطه أن يكون مجمعا عليه بل أن يكون فيه
وعيد شديد أو حد أو يؤذن بقلة اكتراث مرتكبه بالدين كما
سيجيء وقد عدوا من الكبائر ما فيه خلاف حتى بين الأئمة
الأربعة الذين لا يجوز الآن تقليد غيرهم. ألا ترى أن
الشافعية جزموا بأن شرب النبيذ كبيرة؟ <تنبيه> قال القيصري
الوضوء تطهير أطراف الجسد من كل ناحية وفي ذلك تطهير جميعه
من الحدث الخارج عنه فإنه إذا قدرته بيديه ورجليه ورأسه
كان كالدائرة المحيطة وفي تطهير خارج الدائرة من كل ناحية
تطهير جميعها فلو ألقيت ضابطا في وسط بطن الإنسان بعد مد
يديه ورجليه وعنقه ثم أردت الضابط وجدته دائرة ومن هذه
الجوارح المحيطة تدخل الذنوب والمخالفات إلى البدن ففي
تطهيرها إخراج المخالفات منه
(هـ عن خالد بن الوليد) القرشي المخزومي المشهور بالشجاعة
والديانة والرآسة سماه المصطفى سيف الله وله آثار كثيرة في
إعلاء كلمة الله وهو الذي افتتح دمشق وكان إسلامه قبل غزوة
مؤتة بشهرين وكان النصر على يديه يومها (وشرحبيل بن حسنة)
هي علم أمه واسم أبيه عبد الله بن المطاح الكندي وقيل
التميمي حليف بني زهرة أحد أمراء أجناد الشام وولاه عمر
دمشق حتى مات بها في الطاعون (ويزيد بن أبي سفيان) بن حرب
الأمير (وعمرو بن العاص) كلهم سمعوه من رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال مغلطاي حديث قال فيه الترمذي عن البخاري هو
حسن انتهى ومن ثم رمز المصنف لحسنه وفي نسخ لصحته
(1/146)
158 - (أتيت) بضم الهمزة وكسر المثناة فوق
والآتي جبريل كما سيذكره (بمقاليد) بحرف الجر أوله في خط
المصنف وسقوطها في نسخ من تحريف النساخ (الدنيا) أي
بمفاتيح خزائن الأرض كما في رواية الشيخين والحديث يفسر
بعضه بعضا جمع مقلد أو مقلاد أو إقليد معرب إكليد وهو
المفتاح وفي الكشاف لا واحد له من لفظه وفي رواية مسلم
أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فتلت في يدي أي ألقيت أو صبت في
يدي والمراد بالخزائن المعادن من زمرد وياقوت وذهب وفضة أو
للبلاد التي فيها أو المماليك التي فتحت لأمته بعده (على
فرس) محركة معروف الذكر والأنثى (أبلق) أي لونه مختلط
ببياض وسواد ويحتمل أن يكون هو فرس جبريل الذي هو اسمه
حيزوم الذي ما خالط موضع حافره مواتا إلا صار حيوانا وجائز
أن يكون غيره وأخرج ابن عساكر عن وهب أنه قيل لسليمان إن
خيلا بلقا لها أجنحة تطير بها وترد ماء كذا فقالت الشياطين
نحن لها فصبوا في البين التي تردها الخمر فشربت فسكرت
فربطوها وساسوها [ص:148] حتى استأنست فجائز أن يكون هذا
الفرس من ذلك النوع (جاءني بها جبريل) وفي رواية إسرافيل
ولا تعارض لأن المجيء إذا كان متعددا فظاهر وإلا فالجائي
به جبريل وصحبته إسرافيل خيره بين أن يكون نبيا عبدا أو
نبيا ملكا فاختار الأول وترك التصرف في خزائن الأرض فعوض
التصرف في خزائن السماء برد الشمس بعد غروبها وشق القمر
ورجم النجوم واختراق السماوات وحبس المطر وإرساله وإرسال
الرياح وإمساكها وتظليل الغمام وغير ذلك من الخوارق (عليه)
أي جبريل ويحتمل الفرس (قطيفة) أي مجلل بقطيفة عظيمة كساء
مربع له خمل (من سندس) بالضم ديباج رقيق وهو معرب اتفاقا
وحكمة كون الحامل فرسا الإشارة إلى أنه أوتي العز إذ الخيل
عز كما جاء في عدة أخبار سيجئ بعضها وكونه أبلق ولم يكن
لونا واحدا إشارة إلى استيلاء أمته على خزائن جميع ملوك
الطوائف من أحمر وأسود وأبيض على اختلاف ألوانها وأشكالها
وقد صرح الزمخشري بما محصوله أن الخزائن في هذا وما أشبهه
من قبيل التمثيل والاستعارة ففي الكشاف في قوله سبحانه
وتعالى {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} ذكر الخزائن تمثيل
والمعنى وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على
إيجاده وتكوينه والإنعام به فضرب الخزائن مثلا لاقتداره
على كل مقدور عليه فتكون المقاليد والفرس كذلك
(حم حب والضياء) المقدسي (عن جابر) بن عبد الله قال
الهيتمي: رجال أحمد رجال الصحيح انتهى وفيه رد على ابن
الجوزي حيث زعم أن الحديث لا يصح من جميع طرقه
(1/147)
159 - (أثبتكم على الصراط) المضروب على جسر
جهنم من غير زلة قدم: أي على المرور عليه (أشدكم حبا لأهل
بيتي) علي وفاطمة وابناهما وذريتهما أو نساؤه وأولاده
المرادون بقوله تعالى {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت} (ولأصحابي) من اجتمع به مؤمنا ومات على ذلك لأن
محبتهم إنما تنشأ عن محبة متبوعهم ومن أحب رسول الله صلى
الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أحبه الله وأمنه عند
المخاوف وتتفاوت درجات محبتهم بحسب تفاوت المعرفة والإيمان
كما تتفاوت درجات الأغنياء بقلة المال وكثرته والمعارف
بالأنوار ولا يمر المؤمنون على الصراط إلا بأنوار يسعى
نورهم بين أيديهم وبأيمانهم. قال حجة الإسلام: ومرورهم
عليه على قدر نورهم فمنهم من يمر كطرف العين ومنهم من يمر
كالبرق ومنهم من يمر كالسحاب ومنهم كانقضاض الكواكب ومنهم
كالفرس ودون ذلك ويحتمل أن يراد بالصراط دين الإسلام: أي
أثبتكم وأكملكم فيه أشدكم حبا إلخ. فينتج من هذا أن محبة
الآل والأصحاب دليل على كمال الإيمان والمعرفة والمراد حب
لا يؤدي لمحذور أو منهي عنه شرعا
(عد فر) وكذا أبو نعيم (عن علي) أمير المؤمنين لم يرمز له
بشيء وهو ضعيف وسببه أن فيه الحسين بن علان قال في اللسان
عن أصله كابن الجوزي وضع حديثا عن أحمد بن حماد وقاسم بن
بهرام ووهاه ابن حبان
(1/148)
160 - (اثردوا) بهمزة وصل مضمومة فمثلثة
فراء مضمومة أمر ارشاد أي فتوا الخبز في المرق فإن فيه
سهولة المساغ وتيسير التناول ومزيد اللذة ويقال الثريد أحد
اللحمين (ولو بماء) مبالغة في تأكيد طلبه والمراد ولو مرقا
يقرب من الماء قيل وأول من ثرد إبراهيم الخليل عليه الصلاة
والسلام. قال الزمخشري: ثردت الخبز أثرده وهو أن تفته ثم
تبله بمرق وتشرقه في وسط الصحيفة وتجعل له رقبة
(طس هب عن أنس) بن مالك زين الحافظ العراقي في إسناده عباد
بن كثير ضعفه الجمهور وقال الهيتمي: فيه عباد بن كثير
الرملي وثقه ابن معين وضعفه جمع وبقية رجاله ثقات ولم يرمز
له المؤلف بشيء
(1/148)
161 - (اثنان) مبتدأ صفة لموصوف محذوف
ويجوز أن يخصص بالعطف فإن الفاء في قوله (فما فوقهما)
للتعقيب ذكره الطيبي والمراد وما يزيد عليهما على التعاقب
واحدا بعد واحد كقوله الأمثل فالأمثل (جماعة) قلا يختص
فضلهما بما فوقهما وهذا قاله لما رأى [ص:149] رجلا يصلي
وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه فقام رجل فصلى
معه فذكره فعلم منه أن أقل الجماعة اثنان إمام ومأموم فإذا
صلى الشخص مع شخص آخر كزوجته أو خادمه أو ولده أو غيرهم
حصلت له فضيلة الجماعة التي هي خمس وعشرون أو سبع وعشرون
وهذا لا خلاف فيه عندنا وذهابه إلى المسجد لو فوتها على
أهل بيتع مفضول وإقامتها لهم أفضل وقالت الحنفية: من جمع
بأهله لا ينال ثواب الجماعة إلا إذا كان بعذر
(هـ عد) وكذا الدارقطني والبيهقي وضعفه (عن أبي موسى)
الأشعري قال مغلطاي في شرح ابن ماجه قال ابن حزم هذا خبر
ساقط وكأنه لضعف رواية الربيع بن بدر الملقب عليلة فإنه
ذاهب الحديث متروكه ولا يكتب حديثه ولا يتابع عليه كما
ذكره ابن معين وأبو حاتم وغيرهما وقال الحاكم يقلب
الأسانيد ويروي عن الثقات المقلوبات وعن الضعفاء الموضوعات
انتهى
(حم طب عد عن أبي أمامة) الباهلي (قط) من رواية عثمان بن
عبد الرحمن المدني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ابن
سعيد بن العاص ثم قال الفريابي في مختصر الدارقطني عثمان
هذا لعلة القاضي تركوه (ابن سعد) في الطبقات (والبغوي) في
معجم الصحابة (والماوردي) أبو منصور في كتاب المعرفة (عن
الحكم) بفتح الكاف مع المهملة (ابن عمير) بالتصغير الثمالي
الأزدي قال في أسد الغابة صحابي رويت عنه أحاديث مناكير من
حديث أهل الشام لا تصح وفي الإصابة قال ابن أبي حاتم عن
أبيه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث منكرة يرويها
عيسى بن إبراهيم وهو ضعيف عن موسى بن أبي حبيب وهو ضعيف عن
عمه الحكم ومنها هذا الحديث وقال الزيلعي: هذه كلها ضعيفة
انتهى وفيه عيسى بن إبراهيم بن طهمان الهاشمي قال في
الميزان أيضا عن البخاري والنسائي منكر الحديث وعن أبي
حاتم متروك ثم أورد له نحو عشرين حديثا بإسناد واحد من
حديث الحكم هذا منها. وقال عبد الحق فيه عيسى بن إبراهيم
بن طهمان منكر الحديث متروكه وقال ابن حجر في تخريج
الرافعي رواه ابن ماجه والحاكم عن أبي موسى وفيه الربيع بن
بدر ضعيف وأبوه مجهول والبيهقي عن أنس وهو أضعف من حديث
أبي موسى والدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفيه
عثمان الرابعي متروك وابن عدي عن الحكم عن عمير وإسناده
واه انتهى وقال في تخريج المختصر حديث غريب وقد جاء من
رواية أبي موسى وأبي أمامة وأنس وعمرو بن العاص وأسانيدها
كلها ضعيفة وقال في موضع آخر اتفقوا على تضعيفه وقال
القسطلاني في شرح البخاري طرقه كلها ضعيفة
(1/148)
162 - (اثنان لا ينظر الله اليهما) نظر
رحمة ولطف أو نفي النظر عبارة عن غضبه عليهم كمن غضب على
صاحبه يصرمه ويعرض عنه أو هو مريض بحرمانهم حال كون أكابر
أهل الجنة في إكرام الله تعالى إياهم بالنظر إليه (يوم
القيامة) نصب على الظرفية قالوا: يا رسول الله ومن هما
قال: (قاطع الرحم) أي القرابة بنحو إساءة أو هجر بالفتح
والإضافة (وجار السوء) بالفتح والإضافة أي الذي إن رأى
حسنة كتمها أو سيئة أفشاها كما فسر به خبر أما قطع الرحم
بقطع الإحسان فالأقرب كما قال المحقق أبو زرعة إنه ليس
بكبيرة ولا صغيرة وإن ترك ذلك مع القدرة لكن الأقرب إلى
ظاهر الخبر أنه صغيرة وسيجيء في عدة أحاديث عدة جماعة لا
ينظر الله إليهم ولا تعارض لأنا إن قلنا إن مفهوم الخبر
ليس بحجة فظاهر وإلا فنبه بهذين على من في معناهما وكان من
عادة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يخاطب كل إنسان بما
يليق به ويلائم حاله فلعل المخاطب أو من حضره كان قاطعا
للرحم أو مؤذيا لجاره فزجره بذلك
(فر عن أنس) بن مالك ولم يرمز له المصنف بشيء وفيه مهدي
البصري قال في اللسان كأصله كذبه يحيى وقال ابن معين صاحب
بدعة يضع الحديث وقال ابن عدي عامة ما يرويه لا يتابع عليه
(1/149)
163 - (اثنان خير من واحد) أي هما أولى
بالاتباع وأبعد عن الابتداع (وثلاثة خير من اثنين وأربعة
خير من ثلاثة) [ص:150] وهكذا كلما زاد فهو خير (فعليكم
بالجماعة) أي الزموا السواد الأعظم من أهل الإسلام (فإن
الله لم يجمع أمتي) أمة الإجابة (إلا على هدى) أي حق وصواب
ومن خصائصها أن إجماعهم حجة وأنهم لا يجتمعون على ضلال كما
يصرح به وصفه سبحانه لهم بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر لأن مقتضى كونهم آمرين بكل معروف ناهين عن كل منكر
إذ اللام للاستغراق أن لا يجتمعوا على باطل إذ لو اجتمعوا
عليه كان أمرهم على خلاف ذلك ولذلك كان إجماعهم حجة
(حم) من حديث أبي عياش عن أبي البحتري عن عبيد بن سليمان
عن أبيه (عن أبي ذر) رمز المصنف لصحته وليس كما زعم فقد
أعله الحافظ الهيتمي بأن أبا البحتري هذا ضعيف انتهى وأقول
ابن عياش أورده الذهبي في الضعفاء وقال مختلف فيه وليس
بالقوي وقال في اللسان وأبو البحتري لا يكاد يعرف كذبه
دحيم. قال في ذيل الضعفاء والمتروكين وأبو عبيدة تابعي لا
يعرف
(1/149)
164 - (اثنان لا تجاوز) أي لا تتعدى
(صلاتهما روؤسهما) أي لا ترفع إلى الله تعالى في رفع العمل
الصالح بل أدنى شيء من الرفع أحدهما (عبد) يعني قن ولو
أنثى (أبق) كفعل أي حرب ويجوز كونه بوزن فاعل أي هارب (من
مواليه) أي مالكيه إن كانوا جماعة ومن مالكه إن كان واحدا
فلا ترفع صلاته رفعا تاما (حتى يرجع) إن الطاعة إن هرب
لغير عذر شرعي (و) الثاني (امرأة عصت زوجها) بنشوز أو غيره
مما يجب عليها أن تطيعه فلا ترفع صلاتها كما ذكر (حتى
ترجع) إلى طاعته فإباقه ونشوزها بلا عذر كبيرة قالوا: ولا
يلزم من عدم القبول عدم الصحة فالصلاة صحيحة لا يجب قضاؤها
لكن ثوابها قليل أو لا ثواب فيها أما لو أبق لعذر كخوف قتل
أو فعل فاحشة أو تكليفه على الدوام ما لا يطيقه أو عصت
المرأة بمعصية كوطئه في دبرها أو حيضها فثواب صلاتهما
بحاله ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق قال في المهذب: هذا
الحديث يفيد أن منع الحقوق في الأبدان كانت أو في الأموال
يوجب سخط الله
(ك) في البر والصلة (عن ابن عمر) بن الخطاب وقال صحيح ورده
الذهبي بأنه من حديث بكر بن بكار وهو ضعيف انتهى
(1/150)
165 - (اثنان) وفي رواية اثنتان (في) بعض
(الناس) أي خصلتان من خصالهم (هما بهم كفر) يعني هم بهما
كفر فهو من باب القلب أو الاتساع كما في شرح الأحكام
والمراد أنهما من أعمال الكفار لا من خصال الأبرار أو
المراد كفر النعمة أو سمي ذلك كفرا تغليظا وزجرا كما قرره
القاضي وعلى الأول اقتصر ابن تيمية مع بسط وتوضيح فقال
قوله هما بهم كفر أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس
فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا من عمل الكفار كما أنه ليس كل
من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنا حتى يقوم به أصل
الإيمان وفرق بين الكفر المعروف باللام وبين كفر منكر في
الاثبات وإحدى الخصلتين هي (الطعن في الأنساب) أي الوقوع
في أعراض الناس بنحو القدح في نسب ثبت في ظاهر الشرع (و)
الثانية (النياحة على الميت) ولو بغير بكاء ولا شق جيب
خلافا لعياض وهي رفع الصوت بالندب بتعديد شمائله وذلك لأن
من طعن في نسب غيره فقد كفر نعمة سلامة نسبه من الطعن ومن
ناح فقد كفر نعمة الله حيث لم يرض بقضائه وهو المحيي
المميت وفيه أن هاتين كبيرتان وبه صرح الذهبي كابن القيم
والوعيد شامل للمادح والمؤرخ ما خرج عن ذلك إلا ما وقع لأم
عطية فإنها استثنت في المبايعة حين نهى المصطفى صلى الله
عليه وسلم النساء عن النياحة قالت: إلا آل [ص:151] فلان
فإنهم أسعدوني في الجاهلية فقال: إلا آل فلان وللشارع أن
يخص من العموم ما شاء
(حم عن أبي هريرة) ورواه عنه أبو نعيم والديلمي أيضا
(1/150)
166 - (اثنان يكرههما ابن آدم) غالبا قيل:
وما هما قال: (يكره الموت) أي نزوله به (والموت) أي موته
(خير له من الفتنة) أي الكفر والضلال أو الإثم أو الاختبار
والامتحان ونحوهما وذلك لأنه مادام حيا لا يأمن الوقوع في
ذلك ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ومن غير الغالب
من أتحفه الله بلطف من عنده فحبب إليه الموت كما حببه
لسحرة فرعون حين قال لأقطعن أيديكم فكشف لهم عما أعد لهم
فقالوا لا ضير وكما لوى على علي كرم الله وجهه رعيته حتى
شاقوه وقاتلوه مع كونه الإمام الحق حتى أخذ بلحيته قائلا:
ما يحبس أشقاها أن يخضب هذه من هذه وأشار بيده إلى رأسه.
قال الراغب: والفتنة من الأفعال التي تكون من الله تعالى
كالبلية والمصيبة والقتل والعذاب وغير ذلك من الأفعال
الكريهة انتهى وقد تكون الفتنة في الدين كالارتداد
والمعاصي وإكراه الغير على المعاصي وإليه أشار المصطفى
بقوله " إذا أردت بقوم فتنة فتوفني غير مفتون (ويكره قلة
المال وقلة المال أقل للحساب) يعني السؤال عنه كما في خبر
" لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسئل عن أربع " وفيه
عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه أي ولو حلالا وسمى المال
مالا لأنه يميل القلوب عن الله تعالى قال الراغب: والحساب
استعمال العدد
(ص حم) وكذا أبو نعيم والديلمي (عن محمود بن لبيد)
الأنصاري قال في الكشاف: ولد في حياة النبي صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ورواياته مرسلة وفي أسد الغابة نحوه قال
المنذري: رواه أحمد بإسنادين رواة أحدهما محتج بهم في
الصحيح قال ومحمود له رواية ولم يصح له سماع وقال الهيتمي
خرجه أحمد بإسنادين أحدهما رجاله رجال الصحيح انتهى ومن ثم
رمز المصنف لصحته هنا وقال في الكبير صحيح انتهى لكن عرفت
أنه مرسل
(1/151)
167 - (اثنتان) من الخصال (يعجلهما الله)
أي يعجل عقوبتهما لفاعلهما (في الدنيا) إحداهما (البغي) أي
مجاوزة الحد في الطغيان يعني التعدي بغير حق (و) الثانية
(عقوق الوالدين) أي مخالفتهما أو إيذائهما أو أحدهما
والمراد من له ولادة وإن علا من الجهتين وألحق بهما
الزركشي الخالة والعمة واعترض وقيل العقوق ثكل من لم يثكل
وقيل لحكيم كيف ابنك قال عذاب رعف به الدهر وبلاء لا
يقاومه الصبر وأصل التعجيل إيقاع الشيء قبل أوانه قال
تعالى {أعجلتم أمر ربكم} وفيه أن البغي والعقوق من الكبائر
وخص هاتين الخصلتين من بين خصال الشر بذكر الععجيل فيهما
لا لإخراج غيرهما فإنه قد يعجل أيضا بل لأن المخاطب بذلك
كان لا يحترز من البغي ولا يبر والديه فخاطبه بما يناسب
حاله زجرا له وكثيرا ما يخص بعض الأعمال بالحث عليها بحسب
حال المخاطب وافتقاره للتنبيه عليها أكثر مما سواها إما
لمشقتها عليه وإما لتساهله في أمرها كما مر
(تخ طب عن) عبد الله بن أبي بكرة عن أبيه (أبي بكرة) نفيع
بضم النون وفتح الفاء ومهملة ابن الحارث بن كلدة بفتحات
ابن عمرو الثقفي قيل له أبو بكرة لأنه تدلى للنبي صلى الله
عليه وسلم ببكرة من حصن الطائف فأسلم كان من فضلاء الصحابة
ومشاهيرهم وقيل هو نفيع بن مسروح والحارث بن كلدة مولاه
(1/151)
168 - (أثيبوا) كافئوا (أخاكم) في الدين
على صنيعه معكم معروفا بالضيافة ونحوها قالوا: يا رسول
الله بأي شيء نثيبه قال (ادعوا له بالبركة) أي بالنمو
والزيادة من الخير الإلهي (فإن الرجل) ذكر الرجل غالبي
والمراد الإنسان ولو أنثى (إذا أكل طعامه وشرب شرابه ثم
دعى له بالبركة) ببناء أكل وشرب ودعى لللمجهول أي أكل
الأضياف من طعامه وشربوا [ص:152] من شرابه ثم دعوا له
بزيادة الخير ونموه ويمكن بناء المذكورات للفاعل أيضا
(فذاك) أي مجرد الدعاء (ثوابه) أي مكافأته (منهم) أي من
الأضياف يعني إن عجزوا عن مكافأته بضيافة أو غيرها أو لم
يتيسر لهم ذلك لعذر منه أو منهم بدليل الخبر الآتي " من
أتى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له حتى
تعلموا أنكم كافأتموه " أو المراد أن ذلك من ثوابه أو
ثوابه المعجل ثم تكافئونه بالمقابل وفيه ندب الضيافة سيما
للإخوان والأمر بالمعروف وتعليم العلم والسؤال عما لا يتضح
معناه والدعاء لصاحب الطعام بالبركة وفعل الممكن من
المجازاة والمبادرة بذلك. (تتمة) قال بعض العارفين النفوس
الزكية تنبعث لمكافأة من أحسن إليها ومن أساء طبعا فتعطي
كل ذي حق حقه قال الراغب: والثواب ما يرجع إلى الإنسان من
جزاء أعماله فسمى الجزاء ثوابا تصورا أنه هو
(د هب عن جابر) بن عبد الله قال صنع أبو الهيتم طعاما ودعا
المصطفى وصحبه فلما فرغوا ذكره وقد رمز المصنف لحسنه وفيه
ما فيه إذ فيه فليح ابن سليمان المدني أورده الذهبي في
الضعفاء والمتروكين وقال قال ابن معين والنسائي غير قوي
ولعله باعتبار شواهده
(1/151)
169 - (اجتمعوا) بهمزة وصل مكسورة خطاب لمن
شكوا إليه أنهم يأكلون فلا يشبعون (على طعامكم) ندبا من
الاجتماع ضد الافتراق (واذكروا) حال شروعكم في الأكل (اسم
الله عليه) بأن تقولوا في أوله بسم الله والأكمل إكمال
البسملة فإنكم إن فعلتم ذلك (يبارك) أي الله فهو مبني
للفاعل ويجوز للمفعول (لكم فيه) فتشبعون فالاجتماع على
الطعام وتكثير الأيدي عليه ولو من الأهل والخدم مع التسمية
سبب للبركة التي هي سبب للشبع والخير والتسمية على الأكل
سنة كفاية والأكمل أن يسمي كل واحد منهم فإن ترك التسمية
أوله عمدا أو سهوا تداركها في أثناءه كما يأتي في خبر
(حم د هـ) في الأطعمة (حب ك) وكذا الطبراني والبيهقي في
الجهاد كلهم (عن وحشي) بفتح الواو وسكون المهملة وكسر
المعجمة (ابن حرب) ضد الصلح الحبشي مولى جبير بن مطعم أو
طعيمة بن عدي وهو قاتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم
ثم قتل مسيلمة الكذاب وقال قتلت خير الناس وشر الناس فهذه
بهذه قال رجل: يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع قال: فلعلكم
تفترقون على طعامكم اجتمعوا إلى آخره لم يرمز المؤلف له
بشيء ونقل بعضهم عنه أنه صححه وهو من رواية وحشي بن حرب بن
وحشي عن أبيه عن جده كما قال الحاكم وغيره ووحشي هذا قال
فيه المزني والذهبي فيه لين وقصارى أمر الحديث ما قاله
الحافظ العراقي أن إسناده حسن وقال ابن حجر في صحته نظر
فإن وحشي الأعلى هو قاتل حمزة وثبت أنه لما أسلم قال له
المصطفى صلى الله عليه وسلم غيب وجهك عني فيبعد سماعه منه
بعد ذلك إلا أن يكون أرسل وقول ابن عساكر أن صحابي هذا
الحديث غير قاتل حمزة يرده وورد التصريح بأنه قاتله في عدة
طرق للطبراني وغيره وأقول مما يوهن تصحيحه أن الحاكم مع
كونه مشهورا بالتساهل في التصحيح وعيب بذلك لما أورده لم
يصححه بل في كلامه إشعار بضعفه فإنه عقبه بقوله أخرجناه
شاهدا
(1/152)
170 - (اجتنب) بهمزة وصل مكسورة (الغضب) أي
أسبابه أي لا تفعل ما يأمر به ويحمل عليه من قول أو فعل
لأن نفس الغضب جبلي إذ هو غليان دم القلب لإرادة الانتقام
وقد خلق من نار وغرس في الإنسان فمتى نوزع في غرض ثار
الغضب فغلى دم القلب وسرى إلى العروق فإن قدر على الانتقام
أحمر وجهه وإلا انقبض الدم واصفر اللون وانقلب الغضب حزنا
ومحل قوة الغضب القلب فالناس فيه ما بين تفريط وإفراط
واعتدال فالتفريط أن يفقد قوة الغضب وهو مذموم إذ لا حمية
ولا غيرة لمن هو كذلك والافراط أن يخرج عن سياسة العقل
ويقع في نقص الدين ولا ينظر في العواقب وهذا محل النهي وما
بين ذلك هو الوسط المحمود قال البيضاوي ولعله لما رأى جميع
المفاسد [ص:153] التي تعرض للإنسان إنما هي من شهوته وغضبه
وكانت شهوة السائل مكسورة نهاه عن الغضب الذي هو أعظم ضررا
من غيره فإنه إذا ملك نفسه عند حصوله كان أقوى أعدائه
(ابن أبي الدنيا) أبو بكر القرشي (في) كتاب (ذم الغضب) أي
فيما جاء فيه (وابن عساكر) في تاريخه عن حميد بن عبد
الرحمن بن عوف (عن رجل من الصحابة) أن رجلا قال: يا رسول
الله حدثني بكلمات أعيش بهن ولا تكثر علي فذكره وجهالته لا
تصير الحديث مرسلا كما في تخريج الهداية لابن حجر وهذا
الحديث بمعناه في البخاري إذ فيه من حديث أبي هريرة أن
رجلا قال: يا رسول الله أوصني قال: لا تغضب
(1/152)
171 - (اجتنبوا) أبعدوا وهو أبلغ من لا
تفعلوا لأن نهي القربان أبلغ من نهي المباشرة ذكره الطيبي
(السبع) أي الكبائر السبع ولا ينافيه عدها في أحاديث أكثر
لأنه أخبر في كل مجلس بما أوحى إليه أو ألهم أو سنح له
باعتبار أحوال السائل أو تفاوت الأوقات أو لزيادة فحشها
وفظاظة قبحها أو لأن مفهوم العدد غير حجة أو لغير ذلك
(الموبقات) بضم الميم وكسر الموحدة التحتية المهلكات جمع
موبقة وهي الخصلة المهلكة أو المراد الكبيرة أجملها وسماها
مهلكات ثم فصلها ليكون أوقع في النفس وليؤذن بأنها نفس
المهلكات وقول التاج السبكي الموبقة أخص من الكبيرة وليس
في حديث أبي هريرة أنها الكبائر تعقبه الحافظ ابن حجر
بالرد قال ابن عباس وهي إلى السبعين أقرب وابن جبير إلى
السبع مئة أقرب أي باعتبار أصناف أنواعها وللحافظ الذهبي
جزء فيه نحو الأربع مئة ذكره الأذرعي (الشرك) بنصبه على
البدل ورفعه وكذا ما بعده على أنه خبر مبتدأ محذوف أي
ومنها الشرك (بالله) أي جعل أحد شريكا لله والمراد الكفر
به وخصه لغلبته حينئذ في الوجود فذكره تنبيها على غيره من
صنوف الكفر (و) الثانية (السحر) قال الحراني: وهو قلب
الحواس في مدركاتها عن الوجه المعتاد لها في ضمنها من سبب
باطل لا يثبت مع ذكر الله تعالى عليه وفي حاشية الكشاف
للسعد هو مزاولة النفس الخبيثة لأقوال وأفعال يترتب عليها
أمور خارقة للعادة قال التاج السبكي والسحر والكهانة
والتنجيم والسيمياء من واد واحد (و) الثالثة (قتل النفس
التي حرم الله) قتلها عمدا كان أو شبه عمد لا خطأ كما صرح
به شريح الروياني والهروي وجمع شافعيون أي فإنه لا كبيرة
ولا صغيرة لأنه غير معصية (إلا بالحق) أي بفعل موجب للقتل
وأعظم الكبائر والشرك ثم القتل ظلما وما عدا ذلك يحتمل
كونه في مرتبة واحدة لكونه سردها على الترتيب لأن الواو لا
توجبه والأظهر أن هذا النهي وشبهه إنما ورد على أمر مخصوص
فأجاب السائل على مقتضى حاله وصدور هذه الخصال منه أوهمه
بها أو كان في المجلس من حاله ذلك فعرض به إما أنه مما
أوحي إليه أو عرفه بما له معجزة (و) الرابعة (أكل مال
اليتيم) يعني التعدي فيه وعبر بالأكل لأنه أعم وجوه
الانتفاع (و) الخامسة (أكل الربا) أي تناوله بأي وجه كان.
قال ابن دقيق العيد: وهو مجرب لسوء الخاتمة ولهذا ذكره عقب
ما هو علامة سوء خاتمتها وتردد ابن عبد السلام في تقييده
بنصاب السرقة (و) السادسة (التولي) أي الإدبار من وجوه
الكفار (يوم الزحف) أي وقت ازدحام الطائفتين إلا إن علم
أنه إن ثبت قتل بغير نكاية في العدو فليس بكبيرة بل ولا
صغيرة بل يباح بل يجب. قال ابن عبد السلام: وأشد منه ما لو
دل الكفار على عورة المسلمين عالما بأنهم يستأصلونهم
ويسبون حريمهم والزحف الجيش الدهم سمي به لكثرته وثقل
حركته يرى كأنه يزحف زحفا أي يدب دبيبا (و) السابعة (قذف
المحصنات) بفتح الصاد المحفوظات من الزنا وبكسرها الحافظات
فروجهن منه والمراد رميهن بزنا أو لواط (المؤمنات) بالله
تعالى احترازا عن قذف الكافرا ت فإنه من الصغائر قال
الراغب: والقذف الرمي البعيد استعير للشتم والعيب والبهتان
(الغافلات) عن الفواحش وما قذفهن به فهو كناية عن البريئات
\ لأن الغافل بريء عما بهت به من الزنا والقذف [ص:154] به
كبيرة إلا لصغيرة لا تحتمل الوقاع ومملوكة وحرة متهتكة
فصغيرة لأن الإيذاء في قذفهن دونه في كبيرة مستترة قاله
الحليمي وتوقف الأذرعي ونظر الزركشي في المملوكات لخبر من
قذف عبدة أقيم عليه الحد يوم القيامة وإلا في قذف المحصنة
بخلوة بحيث لا يسمعه أحد إلا الله والحفظة فليس بكبيرة
موجبة للحد لانتفاء المفسدة قاله ابن عبد السلام لكن خالفه
البلقيني تمسكا بظاهر {الذين يرمون المحصنات} والخبر
المشروح قال الزركشي: ويظهر قول ابن عبد السلام في الصادق
لا الكاذب لجرأته عليه تعالى وإلا فقذفه زوجته إذا علم
زناها أو ظنه مؤكدا فليس بكبيرة بل ولا صغيرة وكذا جرح راو
وشاهد بالزنا إن علم به بل يجب قال ابن عبد السلام وأشد
منه ما لو أمسك محصنة لمن يزني بها أو مسلما لمن يقتله
(ق د ن عن أبي هريرة)
(1/153)
172 - (اجتنبوا الخمر) مصدر خمره إذا ستره
سمي به عصير العنب إذا اشتد لأنه يخمر العقل ولها نحو أربع
مئة اسم وتذكر وتؤنث والتأنيث أفصح وهو حرام مطلقا وكذا كل
ما أسكر عند الأكثر وإن لم يسكر لقلته بل الشافعي وأحمد
ومالك على وصفها بذلك فعندهم الخمر كل مسكر وخالف أبو
حنيفة فالمعنى على رأى الجماعة اجتنبوا كل مسكر أي ما من
شأنه الاسكار فشمل العصر والاعتصار والبيع والشراء والحمل
والمس والنظر وغيرها (فإنها مفتاح كل شر) كان مغلقا من
زوال العقل والوقوع في المنهيات واقتحام المستقبحات ونزول
الأسقام وحلول الآلام وفي خبر الديلمي عن ابن عمر رفعه
تزوج شيطان إلى شيطانة فخطب إبليس اللعين بينهما فقال:
أوصيكم بالخمر والغناء وكل مسكر فإني لم أجمع جميع الشر
إلا فيهما
(عد ك) في الأطعمة (هب) كلهم (عن ابن عباس) قال ك صحيح
وأقره الذهبي لكن فيه محمد بن إسحاق خرج له مسلم وأورده
الذهبي في الضعفاء وقال ثقة وكذبه الهيتمي ومالك والقطان
وقال ابن معين: ثقة غير حجة وقال مرة أخرى: غير قوي ونعيم
بن حماد من رجال الصحيح لكن قال الأزدي وابن عدي يضع وقال
أبو داود عنده نحو عشرين حديثا لا أصل لها
(1/154)
173 - (اجتنبوا) وجوبا (الوجوه) جمع وجه
والمراد الوجه من آدمي محترم أريد حده أو تأديبه أو بهيم
كذلك قصد استقامته وتدريبه ثم بين وجه الاجتناب بقوله (لا
تضربوها) فيحرم ذلك كما يحرم وشمه ووسمه وذلك لأن الوجه
أشرف ما ظهر من الإنسان بل من كل حيوان فامتهانه بما يؤدي
إلى تشويه من العصيان أو المراد بالوجه الوجهاء والعظماء
فلا تضربوا من توجه عليه تعزير من رؤساء الناس وأكابرهم بل
اقتصروا فيه على ما يليق به منن نحو توبيخ بالقول فهو من
قبيل: أقيلوا ذوي الهيآت عثراتهم وهذا وإن كان وجيها ففي
بعض الروايات ما يعين الأول أما غير المحترم كحربي ومرتد
وسبع ضار وكلب عقور فلا والضرب أصله كما قال الراغب وقع
شيء على شيء ولتنوع صنوف الضرب خولف بين تفاسيره كضرب
الشيء بنحو عصا وضرب الدراهم اعتبارا بضرب المطرقة وقيل له
الطبع اعتبارا بتأثير السكة فيه والضرب في الأرض الذهاب
فيها وهو ضربها بالأرجل وضرب الخيمة لضرب أوتادها بالمطرقة
وضرب المثل من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء بظهر أثره في غيره
(عد عن أبي سعيد) الخدري ولم يرمز المؤلف له بشيء وهو ضعيف
(1/154)
174 - (اجتنبوا التكبر) بمثناة فوقية قبل
الكاف بخط المؤلف فما في بعض النسخ من إسقاطها من تحريف
النساخ وهو تعظيم المرء نفسه واحتقار غيره والأنفة مساواته
وينشأ عنه الغضب لأن غيره إذا ساراه غضب والحقد لما أضمره
المرء في نفسه من الترفع على من تكبر عليه والغش لأنه لا
ينصح من تكبر عليه إذ قصده كون غيره معيبا منقوصا وآفات
الكبر كثيرة وما من خلق ذميم إلا والكبر محتاج إليه مصاحب
له وقلما ينفك عنه العلماء بل والعباد [ص:155] والزهاد إذ
يعجبون بكثرة أتباعهم وربما سار الواحد وأتباعه حوله ولو
انفرد ساءه ذلك ولو لم يكن من الوعيد للمتكبر إلا نفي محبة
الله له في النصوص القرآنية وخبر لا يدخل الجنة من في قلبه
مثقال ذرة من كبر لكفى (فإن العبد) الإنسان (لا يزال يتكبر
حتى يقول الله تعالى) لملائكته (اكتبوا عبدي) وفي رواية
عبدي هذا المعتدي طوره الذي نازع ربه رداءه وتعرض للمقت
والهلاك (في) الإضافة للملك لا للتشريف (الجبارين) جمع
جبار وهو المتكبر العاتي. وكفى بذلك إعلاما باستقباح
الاستكبار كيف وهو يفضي بصاحبه إلى بئس القرار النار وقد
أفلح من هدى إلى تجنبه وفاز بخيري الدنيا والآخرة وترك
الكبر داع إلى السلامة من شر الناس فينتفي عنه بتركه ما
يترتب عليه من أنواع الأذى وضروب المهالك. قال الشافعي:
التواضع من أخلاق الكرام والتكبر من أخلاق اللئام وأرفع
الناس قدرا من لا يرى قدره وأكبرهم فضلا من لا يرى فضله
وقال القاضي أبو الطيب من تصدى قبل أوانه فقد تصدى لهوانه
وفي الشعب: من رضي أن يكون ذنبا أبى الله إلا أن يجعله
رأسا وقال الماوردي: الكبر يكسب المقت ويلهي عن التأله
ويوغر صدور الإخوان
(أبو بكر) وأحمد بن علي بن أحمد (ابن لال) قال الكمال:
ومعنى لال أخرس وهو أبو بكر الهمداني من أهل القرن الرابع
فقيه شافعي تفقه على أبي إسحاق وغيره وله مؤلفات كثيرة في
الحديث قالوا: والدعاء عند قبره مستجاب (في) كتابه (مكارم
الأخلاق) أي فيما ورد في فضلها (وعبد الغني بن سعيد)
الحافظ المشهور (في) كتاب (إيضاح الإشكال عد) كلهم (عن أبي
أمامة) الباهلي وفيه عثمان بن أبي عاتكة ضعفه النسائي
وغيره وهو علي ابن يزيد الالهاني قال في التقريب ضعيف
والقاسم بن عبد الرحمن صدوق لكنه يغرب كثيرا
(1/154)
175 - (اجتنبوا هذه القاذورات) جمع قاذورة
وهي كل قول أو فعل يستفحش أو يستقبح لكن المراد هنا
الفاحشة يعني الزنا لأنه لما رجم ماعزا ذكره سميت قاذورة
لأن حقها أن تتقذر فوصفت بما يوصف به صاحبها أفاده
الزمخشري (التي نهى الله عنها) أي حرمها (فمن ألم)
بالتشديد أي نزل به والإلمام كما في الصحاح مقاربة المعصية
من غير مواقعة وهذا المعنى له لطف هنا يدرك بالذوق (بشيء
منها فليستتر بستر الله وليتب إلى الله) بالندم والإقلاع
والعزم على عدم العود (فإنه) أي الشأن (من يبد) بضم
المثناة تحت وسكون الموحدة (لنا صفحته) أي ظهر لنا فعله
الذي حقه الإخفاء والستر وصفحة كل شيء جانبه ووجهه وناحيته
كنى به عن ثبوت موجب الحد عند الحاكم (نقم) نحن معشر
الحكام (عليه كتاب الله) أي الحد الذي حده الله في كتابه
والسنة من الكتاب فيجب على المكلف إذا ارتكب ما يوجب لله
حدا الستر على نفسه والتوبة فإن أقر عند حاكم أقيم عليه
الحد أو التعزير وعلم من الحديث أن من واقع شيئا من
المعاصي ينبغي أن يستتر وحينئذ فيمتنع التجسس عليه لأدائه
إلى هتك الستر قال الغزالي: وحد الاستتار أن يغلق باب داره
ويستتر بحيطانه قال فلا يجوز استراق السمع على داره ليسمع
صوت الأوتار ولا الدخول عليه لرؤية المعصية إلا أن يظهر
عليه ظهورا يعرفه من هو خارج الدار كصوت آلة اللهو
والسكارى ولا يجوز أن يستنشق ليدرك رائحة الخمر ولا أن
يستخبر جيرانه ليخبروه بما جرى في داره وقد أنشد في معناه:
لا تلتمس من مساوي الناس مستترا. . . فيكشف الله سترا عن
مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا. . . ولا تعب أحدا منهم بما
فيكا
(ك هق عن ابن عمر) بن الخطاب قال: قام المصطفى صلى الله
عليه وسلم بعد رجم الأسلمي فذكره قال ك على شرطهما وتعقبه
الذهبي فقال غريب جدا لكنه في المهذب قال إسناده جيد وصححه
ابن السكن وذكره الدارقطني في العلل [ص:156] وصحح إرساله
وقول ابن عبد البر لا نعلمه بوجه قال ابن حجر مراده من
حديث مالك ولما ذكر إمام الحرمين في النهاية هذا الحديث
قال صحيح متفق عليه فتعجب منه ابن الصلاح وقال أوقعه فيه
عدم إلمامه بصناعة الحديث الذي يفتقر إليها كل عالم
(1/155)
176 - (اجتنبوا مجالس) أي مواضع جلوس
(العشيرة) الرفقاء المتعاشرون. قال الزمخشري: تقول هو
عشيرك أي معاشرك أيديكما وأمركما واحد وزوج المرأة عشيرها
أي لا تجلسوا في مجالس الجماعة الذين يجلسون للتحدث
بالأمور الدنيوية لما يقع فيها من اللغو واللهو وقد يجر
لإضاعة صلاة أو وقيعة أما مقاعد الخير كذكر وتعلم علو
وتعليمه وقراءة قرآن وأمر بمعروف ونهي عن منكر فيتأكد
لزومها ثم إطلاقه المجالس شامل لما كان على الطريق وغيره
ففيه أنه يكره الجلوس في الشارع للحديث ونحوه إلا أن يعطيه
حقه كغض البصر ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وكف الأذى كترك الغيبة والنميمة وسوء الظن واحتقار
المار وكون القاعد يهابه المارة ويتركون المرور لأجله ولا
طريق سواه قال القرطبي في هذا الحديث إنكار للجلوس على
الطرقات وزجر عنه لكن محله ما إذا لم يكن إليه حاجة كما
قالوا في خبر مسلم ما لنا من ذلك بد لكن العلماء فهموا أن
المنع ليس للتحريم بل إرشاد إلى المصالح
(ص عن أبان) بفتح الهمزة والموحدة منصرف لأنه فعال كغزال
وقيل هو أفعل فلا ينصرف لوزن الفعل مع العلمية (ابن عثمان)
بن عفان (مرسلا) هو تابعي جليل. قال الذهبي: كان فقيها
مجتهدا وكان أميرا على المدينة في زمن ابن عم أبيه عبد
الملك بن مروان وعدول المؤلف لرواية إرساله واقتصاره عليها
يوهم أنه لم يقف عليه مسندا متصلا وهو عجيب فقد خرجه مسلم
في صحيحه من حديث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه
عن جده أبي طلحة الأنصاري الصحابي الكبير الشهير لكن بلفظ:
اجتنبوا مجالس الصعدات. وزاد بيان السبب فقال: " كنا قعودا
بالأقنية نتحدث إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم
علينا فقال: ما لكم ولمجالس الصعدات اجتنبوا مجالس
الصعدات. فقلنا: إنما قعدنا لغير ما بأس قعدنا لنتذاكر
ونتحدث. قال: أما إذا فأدوا حقها: غض البصر ورد السلام
وحسن الكلام " انتهى بنصه وإسحاق أحد الثقات الكبار تابعي
جليل إمام خرج له الستة
(1/156)
177 - (اجتنبوا الكبائر) جمع كبيرة وقد
اضطرب في تعريفها فقيل ما توعد عليه أي بنحو غضب أو لعن
بخصوصه في الكتاب أو السنة واختاره في شرح اللب واعترض
بعضهم أن هناك كبائر ليس فيها ذلك كظهار وأكل خنزير وإضرار
في وصية وقيل ما يوجب الحد وأورد عليه الفرار من الزحف
والعقوق وشهادة الزور والربا ونحوها مما لا حد فيه وهو
كبيرة وأجيب بتأويله على إرادة ما عدا المنصوص وقيل كل
جريمة تؤذن بقلة أكثر أن مرتكبها بالدين ورقة الديانة
واختاره التاج السبكي عازيا لإمام الحرمين واعترض نعم هو
أشمل التعاريف قال الزركشي: والتحقيق أن كل واحد من
الأقوال اقتصر على بعض أنواعها وبالمجموع يحصل الضابط
(وسددوا) اطلبوا بأعمالكم السداد أي الاستقامة ما استطعتم
والقصد في الأمر والعدل فيه ولا تشددوا فيشدد الله عليكم
ولهذا لما تكرر استكشاف بني إسرائيل عن صفة البقرة شدد
الله عليهم ولو ذبحوا أدنى بقرة لكفتهم كما جاء في الخبر
ومن ثم قالوا الاستقصاء شؤم وكتب بعض الخلفاء إلى عامله أن
يقطع أشجار قوم ويهدم دورهم فكتب إليه بأيهما أبدأ فقال إن
قلت لك بقطع الشجر قلت بأي نوع منها فعزله حالا (وأبشروا)
بقطع الألف المفتوحة وسكون الموحدة وكسر المعجمة أي إذا
تجنبتم الكبائر واستعملتم السداد في الظواهر والسرائر
فأبشروا بما وعدكم ربكم به بقوله تعالى {إن تجتنبوا كبائر
ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم} الآية
(ابن جرير) الإمام المجتهد المطلق في تفسيره (عن قتادة) بن
دعامة بكسر المهملة (مرسلا) وهو أبو الخطاب الدوسي الأعمى
البصري الحافظ أحد الأئمة الأعلام روى عن أنس [ص:157]
وغيره قال في الكشاف لم يكن في هذه الأمة أكمه ممسوح
العينين سواه
(1/156)
178 - (اجتنبوا) وجوبا (دعوات) وفي رواية
دعوة وهو بمعناه لأنه مفرد مضاف فيعم (المظلوم) فإنها (ما)
أي ليس (بينها وبين الله) تعالى (حجاب) مجاز عن سرعة
القبول كما مر ومن عرف هذا وعلم أن وراء الظالمين طالبا لا
يرد بأسه ولم يقلع ويرجع فقد طبع على قلبه وحجب عن ربه. ثم
هذا وإن كان مطلقا فهو مقيد بالحديث الآخر أن الدعاء على
ثلاث مراتب إما أن يعجل له ما طلب أو يدخر له أفضل منه أو
يدفع عنه من السوء مثله كما قيد {أمن يجيب المضطر إذا
دعاه} بقوله تعالى {ويكشف السوء} وبقوله {فيكشف ما تدعون
إليه إن شاء}
(ع عن أبي سعيد) الخدري (وأبي هريرة) الدوسي (معا) رمز
المؤلف لضعفه هكذا رأيته في مسودته بخطه
(1/157)
179 - (اجتنبوا كل) أي تناول كل (مسكر)
يعني ما شأنه الاسكار فشمل قطرة منه وعبر بكل ليشمل
بمنطوقه المسكر من ماء العنب وغيره كزبيب وحب وتمر والمائع
وغيره كبنج وحشيش لكن المائع أصله حرام نجس وغيره حرام
طاهر هذا ما عليه الشافعية كالجمهور وخالف الحنفية فقالوا
يحرم المتخذ من ماء العنب وإن قل ولم يسكر إلا إذا طبخ على
تفصيل فيه عندهم ولا يحرم المتخذ من غيره إلا القدر الذي
يسكر انتهى وشمل إطلاق الحديث تناوله لتداو أو عطش وإن فقد
غيره وبه قال الشافعي
(طب عن) أبي عبد الرحمن (عبد الله بن مغفل) بضم الميم وفتح
المعجمة وشدة الفاء ابن عبد نهم بفتح النون وكسر الهاء
المزني بضم الميم وفتح الزاي وبالنون من أصحاب الشجرة قال
كنت أرفع أغصانها عن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله
وسلم وهو أول من دخل مكة وكبر وقت الفتح قال ابن حجر سنده
لين ورواه عنه أيضا أحمد بلفظ اجتنبوا المسكر وسنده حسن
وله طرق كثيرة جدا انتهى وبه يعرف ما في رمز المؤلف لضعفه
(1/157)
180 - (اجتنبوا ما) أي الشراب الذي (أسكر)
شربه قال الحراني: ألحق المصطفى صلى الله عليه وعلى آله
وسلم بتحريم الخمر الذي سكرها مطبوع تحريم المسكر الذي
سكره مصنوع فالمتخذ من غير العنب يحرم شرب قليله عند
الجمهور كما يحرم شرب قليل الخمر المتخذ من العنب ويحرم
كثيره اتفاقا وقد فهم الصحب من الأمر باجتناب المسكر تحريم
ما يتخذ للسكر من جميع الأنواع ولم يستفصلوا والصحابة أعرف
بالمراد ممن جاء بعدهم
(الحلواني) بضم المهملة الحسن بن علي الخلال (عن علي) أمير
المؤمنين رمز المؤلف لضعفه وذلك لأن فيه علي بن زيد بن
جدعان لينه الدارقطني وغيره قال ابن حجر وفي الباب عن نحو
ثلاثين صحابيا وأكثر الأحاديث عنهم جياد ومضمونها أن
المسكر لا يحل تناوله بحال بل يجب اجتنابه وقد قال ابن
المبارك لا يصح في حل النبيذ الذي يسكر كثيره عن الصحابة
شيء ولا عن التابعين إلا النخعي
(1/157)
181 - (اجثوا) بضم الهمزة والمثلثة اجلسوا
أو ابركوا معتمدين (على الركب) بين يدي الله تعالى عند
إرادة الدعاء لأنه أبلغ في الأدب وأقرب إلى التواضع وهي
جلسة العبد الذليل بين يدي الملك الجليل فهو نهي عن التربع
حال الدعاء لما فيه من التمكن في الجلوس الذي هو شأن
المتكبرين ولهذا قال في الخبر المار " أجلس كما يجلس العبد
" والركب جمع ركبة وهي أول المنحدر عن الفخذ إلى أول أعلى
الساق كما يشير إليه قول الصحاح الركبة معروفة والمعروف
أنها [ص:158] ما ذكروه به رد قول القاموس هي موصل ما بين
أسافل أطراف الفخذ وأعالي الساق وكثيرا ما يقع للقاموس
الخروج عن اللغة لغيرها (ثم قولوا) ثم بمعنى الواو وهي
الواردة في خبر الطبراني أي اجثوا على الركب عند دعائكم
قائلين حالتئذ (يا رب) أعطنا (يا رب) أعطنا أي كرروا ذلك
كثيرا فإن العبد إذا قال ذلك قال الله لبيك عبدي سل تعط
هكذا رواه ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله تعالى عنها
موقوفا وخصه لما فيه من معنى التربية والإصلاح وهذا تعليم
منه لأمته كيف يدعون ربهم وكيف يضرعون إليه وتكرير يا رب
من باب الابتهال وإعلام بما يوجب حسن الإجابة والاثابة من
احتمال المشاق في دين الله والصبر على صعوبة تكاليفه وقطع
لأطماع الكسالى المتمنين عليه وتسجيل على من لا يرى الثواب
موصولا إليه بالعمل بالجهل والغباوة ذكره الزمخشري <تنبيه>
قال ابن حجر: ذهب بعضهم إلى أن رب هو الاسم الأعظم وقد
أخرجه الحاكم من حديث أبي الدرداء وابن عباس بلفظ اسم الله
الأكبر رب رب ووجهه بعضهم بأنه الكفيل بتربية ذرات الوجود
والمدر عليها أنواع الجود ولم يخرج عن حضرة إحسان هذا
الاسم مؤمن ولا كافر ولا بر ولا فاجر بل أدر الأرزاق وأسدى
الإحسان وعامل باللطف والامتنان
(أبو عوانة) الحافظ يعقوب في صحيحه (والبغوي) إمام السنة
وكذا الطبراني في الأوسط كلهم من حديث عامر بن خارجة بن
سعد عن أبيه (عن) جده (سعد) بن أبي وقاص قال شكى قوم إلى
المصطفى صلى الله عليه وسلم قحط المطر فقال اجثوا على
الركب وقولوا يا رب يا رب ورفع السبابة إلى السماء ففعلوا
فسقوا حتى أحبوا أن يكشف عنهم. قال في الميزان في ترجمة
عامر هذا قال البخاري فيه نظر ثم ساق له هذا الخبر قال في
اللسان وقد ذكره ابن حبان في الثقات فقال يروي عن جده
حديثا منكرا في المطر لا يعجبني ذكره ثم أورد هذا الحديث
بعينه وقال ابن حجر في غير اللسان في سنده اختلاف وعامر بن
خارجة ضعفه الذهبي وغيره ومن لطائف إسناده أنه من رواية
الرجل عن أبيه عن جده
(1/157)
|