كشف المشكل من حديث الصحيحين

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الَّذِي أحسن إِلَيْنَا إِذْ أنزل علينا أحسن الحَدِيث، ووسم أَئِمَّة أمتنَا: أهل الْفِقْه والْحَدِيث، وَجعل نقاد الروَاة يعْرفُونَ وضع الغواة ويميزون الطّيب من الْخَبيث. أَحْمَده على رجولية الْفَهم، وَأَعُوذ بِهِ من التخبيث، وأشكره على وراثة الْعلم، وأسأله حفظ الْمَوَارِيث، وأستغيث بِزِيَادَة إنعامه وَإِن كنت لَا أستبطئه وَلَا أستريث. وَصلى الله على رَسُوله مُحَمَّد أفضل الْأَنْبِيَاء من لدن آدم وشيث، وَصلى على أَصْحَابه وَأَتْبَاعه مَا أُجِيب مطر أَو غيث.
أما بعد: فَإِن الله تَعَالَى حفظ كتَابنَا بِمَا لم يحفظ كتابا قبله، فَقَالَ عز وَجل فِي الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة: {بِمَا استحفظوا من كتاب الله} [الْمَائِدَة: 44] وَقَالَ فِي كتَابنَا: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الْحجر: 9] . ثمَّ أنعم علينا بِحِفْظ المنقولات عَن نَبيا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فألهم الْعلمَاء جمع ذَلِك، والطلاب الْجد فِي طلبه، حَتَّى سافروا الْبلدَانِ، وهجروا الأوطان، وأنفقوا فِي حفظ ذَلِك قوى الْأَبدَان، وَأقَام جهابذتهم يفتقدون وينتقدون، فيرفعون التحريف ويدفعون التخريف. فَمضى على ذَلِك كثير من الزَّمن، إِلَى أَن لحق ساعي الرغبات الزَّمن، وشيد فتور الهمم فِي طلب الْعلم إِلَى أَن درس، وَصَارَت صبابته الْبَاقِيَة فِي آخر نفس، فَأَما الطَّالِب لَهُ فِي زَمَاننَا فقد فُقِد، والمتصدر يَقُول وَلَا يعْتَقد.

(1/5)


وَأعظم الْعُلُوم اضمحلالا علم الْأَثر. على أَن الشَّرْع عَنهُ صدر. فَإِن رَأَيْت طَالبا لَهُ فهمته فِي الْغَالِب السماع، لَا الْفَهم وَلَا الِانْتِفَاع. وَأكْثر الْفُقَهَاء عَنهُ معرضون، وَإِن كَانُوا للْحكم على الحَدِيث يبنون. فواعجبا من وَاضع أسا لم ينظر فِي أرضه، ثمَّ أَخذ يهتم بِطُولِهِ وَعرضه، أَلا يخَاف أَن تكون الأَرْض رملا فينهار، فكم من بَان على شفا جرف هار، وَكم من فَقِيه أفتى بِغَيْر الْمَشْرُوع، وَكم من متعبد تَعب بِحَدِيث مَوْضُوع.
وَلما قد أحسن بفتور الهمم الَّذِي قد صَار فِي زَمَاننَا، تلقى أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي نصر الْحميدِي لحظ متون الصَّحِيحَيْنِ، تسهيلا لاقتباس الْفَوَائِد على المتقاعد، لِأَن اخْتِصَار اللَّفْظ صديق الْحِفْظ. فَصَارَ كِتَابه لقدره فِي نَفسه مقدما على جَمِيع جنسه، فَتعلق بِهِ من قد بَقِي عِنْده من الرَّغْبَة فِي النَّقْل رَمق. وَمَعْلُوم أَن الصَّحِيح بِالْإِضَافَة إِلَى سَائِر الْمَنْقُول كعين الْإِنْسَان، بل كإنسان الْعين. وَكَانَ قد سَأَلَني من أثر سُؤَاله أَمارَة همتي شرح مشكله، فأنعمت لَهُ وظننت الْأَمر سهلا، فَإِذا نيل سُهَيْل أسهل، لما قد حوت أَحَادِيث من فنون المشكلات ودقائق المعضلات. وَكَانَ الْحميدِي قد جمع كتابا أَشَارَ فِيهِ إِلَى تَفْسِير الْحُرُوف الغريبة فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَيْثُ اللُّغَة. وَمَعْلُوم أَن شرح الْمَعْنى أمس، وكشف الْإِشْكَال الْمَعْنَوِيّ أَجْدَر بِالْبَيَانِ وأحق. فَلَمَّا رَأَيْت طرق شَرحه شاسعة، شمرت عَن سَاق الْجد، مستعينا بِاللَّه عز وَجل رَجَاء الثَّوَاب فِي إسعاف الطَّالِب. وَإِلَى الله سُبْحَانَهُ أَرغب فِي تلقيح الْفَهم، وَتَصْحِيح الْقَصْد، وتعجيل النَّفْع، إِنَّه ولي ذَلِك والقادر عَلَيْهِ.

(1/6)


(مُقَدّمَة قبل الشَّرْح)

من الْمَعْلُوم أَنه قد يَأْتِي الحَدِيث وَأَكْثَره ظَاهر لَا يحْتَاج إِلَى شرح، وَإِنَّمَا يشْرَح مَا يشكل. وَقد يَقع على الحَدِيث اعْتِرَاض فيفتقر إِلَى جَوَاب، وَذكر ذَلِك مُتَعَيّن. وَقد يتَرَدَّد الحَدِيث فِي مسانيد، فَنحْن نفسره فِي أول مَا يَلْقَانَا ثمَّ نحيل عَلَيْهِ مَا يَأْتِي بعد ذَلِك، مثل قَوْله: نهى عَن المحاقلة.
وَقد أجرينا إِلَى الِاخْتِصَار مَعَ تَحْصِيل الْمَقْصُود. وَنحن نرجو أَن يَسْتَغْنِي النَّاظر فِي كتَابنَا هَذَا - بِحل مُشكل المشروح - عَن النّظر فِي كتاب، أَو سُؤال عَالم.
وَهَذَا حِين شروعنا فِيمَا انتدبنا لَهُ. وَالله الْمُوفق
قَالَ أَبُو عبد الله الْحميدِي فِي خطْبَة الْكتاب: لما خيف اخْتِلَاط الصَّحِيح بالسقيم انتدب جمَاعَة إِلَى التَّأْلِيف كمالك بن أنس وَابْن جريج وسُفْيَان. قلت: وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الْمُبْتَدِئ بتصانيف الْكتب على ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا: أَنه عبد الْملك بن جريج. وَالثَّانِي: سعيد ابْن أبي عرُوبَة، ذكر الْقَوْلَيْنِ أَبُو بكر الْخَطِيب. وَالثَّالِث: الرّبيع بن

(1/7)


صبيح، قَالَه أَبُو مُحَمَّد الرامَهُرْمُزِي. وَمن قدماء المصنفين: سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة بِمَكَّة، وَمَالك بن أنس بِالْمَدِينَةِ، وَعبد الله بن وهب بِمصْر، وَمعمر وَعبد الرَّزَّاق بِالْيمن، وسُفْيَان الثَّوْريّ وَمُحَمّد بن فُضَيْل ابْن غَزوَان بِالْكُوفَةِ، وَحَمَّاد بن سَلمَة وروح بن عبَادَة بِالْبَصْرَةِ، وهشيم بواسط، وَعبد الله بن الْمُبَارك بخراسان.

(1/8)


وَأول من صنف الْمسند على تراجم الرِّجَال عبيد الله بن مُوسَى الْعَبْسِي، وَأَبُو دَاوُد سُلَيْمَان بن دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، ثمَّ بعدهمَا أَحْمد ابْن حَنْبَل، وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأَبُو خَيْثَمَة، وَعبيد الله بن عمر القواريري.
ثمَّ كثر من جمع المسانيد، واتسعت التصانيف، إِلَّا أَنه لم يفصح أحد بِتَسْمِيَة كِتَابه بِالصَّحِيحِ، وَلَا شدد فِي انتقاء الحَدِيث الْمَجْمُوع فِيهِ قبل البُخَارِيّ. ثمَّ تبعه مُسلم فِي ذَلِك.
قَالَ الْحميدِي وَقد جمعت أَحَادِيث الصَّحَابَة، ورتبتهم على خمس مَرَاتِب: فبدأنا بِالْعشرَةِ، ثمَّ بالمقدمين بعد الْعشْرَة، ثمَّ بالمكثرين، ثمَّ

(1/9)


بالمقلين، ثمَّ بِالنسَاء.
قلت: اعْلَم أَن هَذَا التَّرْتِيب مَا وفى فِيهِ بِالشّرطِ: فَإِنَّهُ ذكر فِي المقدمين خلقا من المؤخرين، وَبَيَانه: أَنه لما ذكر بعد الْعشْرَة ابْن مَسْعُود، وَعمَّارًا - وَكِلَاهُمَا شهد بَدْرًا - كَانَ هَذَا ترتيبا حسنا، فَلَمَّا ذكر بعدهمَا حَارِثَة بن وهب، وَأَبا ذَر، وَحُذَيْفَة، وَأَبا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَجَرِير بن عبد الله، لم يحسن تَقْدِيم هَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فيهم من شهد بَدْرًا، وَجَرِير إِنَّمَا أسلم فِي سنة عشر قبل موت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخَمْسَة أشهر، ثمَّ ذكر بعد جرير جمَاعَة فيهم سُلَيْمَان ابْن صرد، وَهُوَ من الْمُتَأَخِّرين جدا، ثمَّ جَاءَ بعده بِجَمَاعَة، ثمَّ بمعاذ ابْن جبل وَهُوَ من أهل بدر، فِي تَخْلِيط من هَذَا الْجِنْس يعجب مِنْهُ عُلَمَاء الحَدِيث إِذا تأملوه.
ثمَّ إِنَّه ذكر فِي المقلين جمَاعَة لَهُم حَدِيث كثير مِنْهُم عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، فَإِنَّهُ ذكره فِي المقلين، وَذكر لَهُ خَمْسَة وَأَرْبَعين حَدِيثا. وَقد ذكر فِي المقدمين جمَاعَة لكل وَاحِد مِنْهُم حَدِيث أَو حديثان، وَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي مَنعه من جعلهم فِي المقلين وَلَيْسوا من المقدمين على مَا بيّنت لَك. وَقد ذكر فِي المقلين خلقا كَانَ يصلح ذكرهم فِي المقدمين: مثل بِلَال، وخباب، والمقداد، وَخلق كثير.
فالترتيب فِي نِهَايَة الْخَطَأ، غير أَنه لَا بُد من الجري على رسمه، فَإِن الْمَقْصُود إِنَّمَا هُوَ الحَدِيث.

(1/10)


بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله الَّذِي أحسن إِلَيْنَا إِذْ أنزل علينا أحسن الحَدِيث، ووسم أَئِمَّة أمتنَا: أهل الْفِقْه والْحَدِيث، وَجعل نقاد الروَاة يعْرفُونَ وضع الغواة ويميزون الطّيب من الْخَبيث. أَحْمَده على رجولية الْفَهم، وَأَعُوذ بِهِ من التخبيث، وأشكره على وراثة الْعلم، وأسأله حفظ الْمَوَارِيث، وأستغيث بِزِيَادَة إنعامه وَإِن كنت لَا أستبطئه وَلَا أستريث. وَصلى الله على رَسُوله مُحَمَّد أفضل الْأَنْبِيَاء من لدن آدم وشيث، وَصلى على أَصْحَابه وَأَتْبَاعه مَا أُجِيب مطر أَو غيث. أما بعد. فَإِن الله تَعَالَى حفظ كتَابنَا بِمَا لم يحفظ كتابا قبله، فَقَالَ عز وَجل فِي الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة: {بِمَا استحفظوا من كتاب الله} [الْمَائِدَة: 44] وَقَالَ فِي كتَابنَا: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الْحجر: 9] . ثمَّ أنعم علينا بِحِفْظ المنقولات عَن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فألهم الْعلمَاء جمع ذَلِك، والطلاب الْجد فِي طلبه، حَتَّى سافروا الْبلدَانِ، وهجروا الأوطان، وأنفقوا فِي حفظ ذَلِك قوى الْأَبدَان، وَأقَام جهابذتهم يفتقدون وينتقدون، فيرفعون التحريف ويدفعون التخريف. فَمضى على ذَلِك كثير من الزَّمن، إِلَى أَن لحق ساعي الرغبات الزَّمن، وشيد فتور الهمم فِي طلب الْعلم إِلَى أَن درس، وَصَارَت صبابته الْبَاقِيَة فِي آخر نفس، فَأَما الطَّالِب لَهُ فِي زَمَاننَا فقد فُقد، والمتصدر يَقُول وَلَا يعْتَقد.

(1/5)


وَأعظم الْعُلُوم اضمحلالا علم الْأَثر. على أَن الشَّرْع عَنهُ صدر. فَإِن رَأَيْت طَالبا لَهُ فهمته فِي الْغَالِب السماع، لَا الْفَهم وَلَا الِانْتِفَاع. وَأكْثر الْفُقَهَاء عَنهُ معرضون، وَإِن كَانُوا للْحكم على الحَدِيث يبنون. فواعجبا من وَاضع أسا لم ينظر فِي أرضه، ثمَّ أَخذ يهتم بِطُولِهِ وَعرضه، أَلا يخَاف أَن تكون الأَرْض رملا فينهار، فكم من بَان على شفا جرف هار، وَكم من فَقِيه أفتى بِغَيْر الْمَشْرُوع، وَكم من متعبد تَعب بِحَدِيث مَوْضُوع. وَلما قد أحس بفتور الهمم الَّذِي قد صَار فِي زَمَاننَا، تلقى أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي نصر الْحميدِي لحظ متون الصَّحِيحَيْنِ، تسهيلا لاقتباس الْفَوَائِد على المتقاعد، لِأَن اخْتِصَار اللَّفْظ صديق الْحِفْظ. فَصَارَ كِتَابه لقدره فِي نَفسه مقدما على جَمِيع جنسه، فَتعلق بِهِ من قد بَقِي عِنْده من الرَّغْبَة فِي النَّقْل رَمق. وَمَعْلُوم أَن الصَّحِيح بِالْإِضَافَة إِلَى سَائِر الْمَنْقُول كعين الْإِنْسَان، بل كإنسان الْعين. وَكَانَ قد سَأَلَني من أثر سُؤَاله أَمارَة همتي شرح مشكله، فأنعمت لَهُ وظننت الْأَمر سهلا، فَإِذا نيل سُهَيْل أسهل، لما قد حوت أَحَادِيثه من فنون المشكلات ودقائق المعضلات. وَكَانَ الْحميدِي قد جمع كتابا أَشَارَ فِيهِ إِلَى تَفْسِير الْحُرُوف الغربية فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَيْثُ اللُّغَة. وَمَعْلُوم أَن شرح الْمَعْنى أمس، وكشف الْإِشْكَال الْمَعْنَوِيّ أَجْدَر بِالْبَيَانِ وأحق. فَلَمَّا رَأَيْت طرق شَرحه شاسعة، شمرت عَن سَاق الْجد، مستعينا بِاللَّه عز وَجل رَجَاء الثَّوَاب فِي إسعاف الطَّالِب. وَإِلَى الله سُبْحَانَهُ أَرغب فِي تلقيح الْفَهم، وَتَصْحِيح الْقَصْد، وتعجيل النَّفْع، إِنَّه ولي ذَلِك والقادر عَلَيْهِ.

(1/6)


مُقَدّمَة قبل الشَّرْح: من الْمَعْلُوم أَنه قد يَأْتِي الحَدِيث وَأَكْثَره ظَاهر لَا يحْتَاج إِلَى شرح، وَإِنَّمَا يشْرَح مَا يشكل. وَقد يَقع على الحَدِيث فِي مسانيد، فَنحْن نفسره فِي أول مَا يَلْقَانَا ثمَّ نحيل عَلَيْهِ مَا يَأْتِي بعد ذَلِك، مثل قَوْله: نهى عَن المحاقلة. وَقد أجرينا إِلَى الِاخْتِصَار مَعَ تَحْصِيل الْمَقْصُود. وَنحن نرجو أَن يَسْتَغْنِي النَّاظر فِي كتَابنَا هَذَا - بِحل مُشكل المشروح - عَن النّظر فِي كتاب، أَو سُؤال عَالم. وَهَذَا حِين شروعنا فِيمَا انتدبنا لَهُ. وَالله الْمُوفق. قَالَ أَبُو عبد الله الْحميدِي فِي خطْبَة الْكتاب: لما خيف اخْتِلَاط الصَّحِيح بالسقيم انتدب جمَاعَة إِلَى التَّأْلِيف كمالك بن أنس وَابْن جريج وسُفْيَان. قلت: وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الْمُبْتَدِئ بتصانيف الْكتب على ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا: أَنه عبد الْملك بن جريج. وَالثَّانِي: سعيد ابْن أبي عرُوبَة، ذكر الْقَوْلَيْنِ أَبُو بكر الْخَطِيب. وَالثَّالِث: الرّبيع بن

(1/7)


صبيح، قَالَه أَبُو مُحَمَّد الرامَهُرْمُزِي. وَمن قدماء المصنفين: سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة بِمَكَّة، وَمَالك بن أنس بِالْمَدِينَةِ، وَعبد الله بن وهب بِمصْر، وَمعمر وَعبد الرَّزَّاق بِالْيمن، وسُفْيَان الثَّوْريّ وَمُحَمّد بن فُضَيْل ابْن غَزوَان بِالْكُوفَةِ، وَحَمَّاد بن سَلمَة وروح بن عبَادَة بِالْبَصْرَةِ، وهشيم بواسط، وَعبد الله بن الْمُبَارك بخراسان.

(1/8)


وَأول من صنف الْمسند على تراجم الرِّجَال عبيد الله بن مُوسَى الْعَبْسِي، وَأَبُو دَاوُد سُلَيْمَان بن دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، ثمَّ بعدهمَا أَحْمد ابْن حَنْبَل، وَإِسْحَق بن رَاهَوَيْه وَأَبُو خَيْثَمَة، وَعبيد الله بن عمر القواريري. ثمَّ كثر من جمع المسانيد، واتسعت التصانيف، إِلَّا أَنه لم يفصح أحد بِتَسْمِيَة كِتَابه بِالصَّحِيحِ، وَلَا شدد فِي انتقاء الحَدِيث الْمَجْمُوع فِيهِ قبل البُخَارِيّ. ثمَّ تبعه مُسلم فِي ذَلِك. قَالَ الْحميدِي وَقد جمعت أَحَادِيث الصَّحَابَة، ورتبتهم على خمس مَرَاتِب: فبدأنا بِالْعشرَةِ، ثمَّ بالمقدمين بعد الْعشْرَة، ثمَّ بالمكثرين، ثمَّ

(1/9)


بالمقلين، ثمَّ بِالنسَاء. قلت: اعْلَم أَن هَذَا التَّرْتِيب مَا وفى فِيهِ بِالشّرطِ: فَإِنَّهُ ذكر فِي المقديمن خلقا من المؤخرين، وَبَيَانه: أَنه لما ذكر بعد الْعشْرَة ابْن مَسْعُود، وَعمَّارًا - وَكِلَاهُمَا شهد بَدْرًا - كَانَ هَذَا ترتيبا حسنا، فَلَمَّا ذكر بعدهمَا حَارِثَة بن وهب، وَأَبا ذَر، وَحُذَيْفَة، وَأَبا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَجَرِير بن عبد الله، لم يحسن تَقْدِيم هَؤُلَاءِ، لأنهل يس فيهم من شهد بَدْرًا، وَجَرِير إِنَّمَا أسلم فِي سنة عشر قبل موت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخَمْسَة أشهر، ثمَّ ذكر بعد جرير جمَاعَة فيهم سُلَيْمَان ابْن صرد، وَهُوَ من الْمُتَأَخِّرين جدا، ثمَّ جَاءَ بعده بِجَمَاعَة، ثمَّ بمعاذ ابْن جبل وَهُوَ من أهل بدر، فِي تَخْلِيط من هَذَا الْجِنْس يعجب مِنْهُ عُلَمَاء الحَدِيث إِذا تأملوه. ثمَّ إِنَّه ذكر فِي المقلين جمَاعَة لَهُم حَدِيث كثير مِنْهُم عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، فَإِنَّهُ ذكره فِي المقلين، وَذكر لَهُ خَمْسَة وَأَرْبَعين حَدِيثا. وَقد ذكر فِي المقدمين جمَاعَة لكل وَاحِد مِنْهُم حَدِيث أَو حديثان، وَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي مَنعه من جعلهم فِي المقلين وَلَيْسوا من المقدمين على مَا بيّنت لَك. وَقد ذكر فِي المقلين خلفا كَانَ يصلح ذكرهم فِي المقدمين: مثل بِلَال، وخباب، والمقداد، وَخلق كثير. فالترتيب فِي نِهَايَة الْخَطَأ، غير أَنه لَا بُد من الجري على رسمه، فَإِن الْمَقْصُود إِنَّمَا هُوَ الحَدِيث.

(1/10)


كشف الْمُشكل من مُسْند أبي بكر الصّديق

واسْمه عبد الله بن عُثْمَان. وَفِي تَسْمِيَته بعتيق ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " من أَرَادَ أَن ينظر إِلَى عَتيق من النَّار فَلْينْظر إِلَى أبي بكر " روته عَائِشَة.
وَالثَّانِي: أَنه اسْم سمته بِهِ أمه. قَالَه مُوسَى بن طَلْحَة.
وَالثَّالِث: أَنه سمي بذلك لجمال وَجهه، قَالَه اللَّيْث بن سعد. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: لقبه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك لجمال وَجهه.
وَهُوَ أول رجل أسلم، وَقد أسلم على يَده من الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ خَمْسَة: عُثْمَان، وَطَلْحَة، وَالزُّبَيْر، وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَسعد بن أبي وَقاص.
وَجُمْلَة مَا حفظ لَهُ من الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَمَانِيَة عشر.
1 - / 1 - الحَدِيث الأول: أَنه قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلمنِي دُعَاء

(1/11)


أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتي. قَالَ: " قل اللَّهُمَّ إِنِّي ظلمت نَفسِي ظلما كثيرا، وَلَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت، فَاغْفِر لي مغْفرَة من عنْدك ".
قَوْله " اللَّهُمَّ " قَالَ الزّجاج: قَالَ الْخَلِيل وسيبويه وَجَمِيع النَّحْوِيين الموثوق بعلمهم: اللَّهُمَّ بِمَعْنى يَا الله، وَالْمِيم الْمُشَدّدَة زيدت عوضا من " يَا " لأَنهم لم يَجدوا الْيَاء مَعَ هَذِه الْمِيم فِي كلمة وَاحِدَة، ووجدوا اسْم الله عز وَجل مُسْتَعْملا ب " يَا " إِذا لم يذكرُوا الْمِيم، فَعَلمُوا أَن الْمِيم فِي آخر الْكَلِمَة بِمَنْزِلَة " يَا " فِي أَولهَا، والضمة الَّتِي فِي الْهَاء ضمة الِاسْم المنادى الْمُفْرد.
وَقَوله: " ظلمت نَفسِي " الظُّلم: وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، وَقيل: التَّصَرُّف فِيمَا لَا يملك. والحدان مستمران على العَاصِي. وَالظُّلم للنَّفس مُوَافقَة الْهوى فِيمَا يُوجب عقوبتها، وَقد يكون فِيمَا ينقص أجرهَا، أَو يفوتها فَضِيلَة.
وَقَوله: " فَاغْفِر لي " الغفران: تَغْطِيَة الذَّنب بِالْعَفو عَنهُ. والغفر: السّتْر. وَغفر الْخَزّ وَالصُّوف: مَا علا فَوق الثَّوْب مِنْهَا كالزئبر، سمي غفرا لِأَنَّهُ يستر الثَّوْب. وَيُقَال: اصبغ ثَوْبك، فَهُوَ أَغفر للوسخ. وَيُقَال لجنة الرَّأْس مغفر، لِأَنَّهَا تستر الرَّأْس. وَقَالَ بعض

(1/12)


اللغويين: الْمَغْفِرَة مَأْخُوذَة من الغفر، وَهُوَ نبت تداوى بِهِ الْجراح، إِذا ذَر عَلَيْهَا دملها وأبرأها.
فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: " مغْفرَة من عنْدك "؟ وَهل تكون الْمَغْفِرَة إِلَّا من عِنْده؟ فَالْجَوَاب أَن الْمَعْنى: هَب لي الغفران بِفَضْلِك وَإِن لم أكن أَهلا لَهُ بعملي.
وَهَذَا الحَدِيث من أحسن الْأَدْعِيَة؛ لِأَنَّهُ إِقْرَار بظُلْم النَّفس، واعتراف بالذنب والذنُوب كالمانع من الإنعام، وَالِاعْتِرَاف بهَا يمحوها، فيرتفع الحاجز.
وَهَذَا الدُّعَاء مِمَّا يسْتَحبّ أَن يدعى بِهِ فِي الصَّلَاة قبل التَّسْلِيم، لصِحَّته، وللإنسان أَن يَدْعُو فِي صلَاته بِمَا فِي الْقُرْآن من الدُّعَاء، وَبِمَا صَحَّ فِي النَّقْل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَ لَهُ أَن يَدْعُو بِمَا سوى ذَلِك من كَلَام النَّاس.
2 - / 2 - الحَدِيث الثَّانِي: قَالَ أَبُو بكر: نظرت إِلَى أَقْدَام الْمُشْركين وَنحن فِي الْغَار وهم على رؤوسنا، فَقلت: يَا رَسُول الله، لَو أَن أحدهم نظر إِلَى قَدَمَيْهِ أبصرنا تَحت قَدَمَيْهِ. فَقَالَ: " يَا أَبَا بكر، مَا ظَنك بِاثْنَيْنِ، الله ثالثهما ".
الْغَار: النقب فِي الْجَبَل، وَكَانَ هَذَا الْغَار فِي جبل يُقَال لَهُ ثَوْر، وَهُوَ مَعْرُوف بِمَكَّة، أَقَامَا فِيهِ ثَلَاثَة أَيَّام، وَكَانَ طلب الْمُشْركين لَهما لَا

(1/13)


يفتر، فَبعث الله عز وَجل حَمَامَتَيْنِ فباضتا، وألهم العنكبوت فَنسجَتْ عِنْد بَاب الْغَار، فَلَمَّا وصل الْمُشْركُونَ إِلَى قريب من الْغَار، قَالُوا: ارْجعُوا، فَلَو كَانَ هَاهُنَا أحد لم تكن هَذِه الْحَمَامَة، وَلَا العنكبوت.
وَفِي هَذَا الحَدِيث مَا يدل على جَوَاز الْهَرَب من الْخَوْف، والتمسك بالأسباب. خلافًا للجهال من المتزهدين الَّذين يَزْعمُونَ أَن التَّوَكُّل رفض الْأَسْبَاب، وَإِنَّمَا التَّوَكُّل فعل الْقلب لإنزال السَّبَب، وَقد قَالَ عز وَجل: {خُذُوا حذركُمْ} [النِّسَاء: 71] فَلَو كَانَ التَّوَكُّل ترك السَّبَب لما قَالَ: {خُذُوا حذركُمْ} .
وَقَوله: " مَا ظَنك بِاثْنَيْنِ الله ثالثهما " أَي بالنصرة والإعانة، أفتظن أَن يخذلهما، فَرده من النّظر إِلَى الْأَسْبَاب إِلَى الْمُسَبّب.
وَقَالَ بعض الرافضة لبَعض أهل السّنة: من يكون أشرف من خَمْسَة تَحت عباءة سادسهم جِبْرِيل؟ فَقَالَ السّني: اثْنَان فِي الْغَار، ثالثهما الله.
3 - / 3 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: قَالَ الْبَراء بن عَازِب: اشْترى أَبُو بكر من عَازِب رحلا، وَقَالَ: ابْعَثْ معي ابْنك فَحَملته. وَفِي لفظ: فَقَالَ

(1/14)


عَازِب: لَا، حَتَّى تحدثنا كَيفَ فعلت لَيْلَة سريت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ أَبُو بكر: أسرينا ليلتنا ... .
الرحل للبعير كالسرج للدابة.
وَقَوله: لَا، حَتَّى تحدثنا. كَانَ بعض الْمُتَأَخِّرين من شُيُوخ الْمُحدثين الَّذين لم يَذُوقُوا طعم الْعلم، فَلم يُبَارك لَهُم فِيمَا سَمِعُوهُ لسوء مقاصدهم يحْتَج بِهَذَا فِي جَوَاز أَخذ الْأُجْرَة على التحديث. وَلَا يبعد من ناقل لَا يفهم مَا ينْقل أَن يكون مبلغ علمه الِاحْتِجَاج بِمثل هَذَا، فَأَما من اطلع على سير الْقَوْم بفهم، فَإِنَّهُ يعلم أَنه مَا كَانَ هَذَا بَينهم على وَجه الْأُجْرَة، فَإِن أَبَا بكر لم يكن ليبخل على عَازِب بِالْحَدِيثِ، وَلَا هُوَ مِمَّن يبخل عَلَيْهِ بِحمْل الرحل، وَإِنَّمَا هُوَ انبساط الصّديق إِلَى صديقه، فَإِنَّهُ رُبمَا قَالَ لَهُ: لَا أَقْْضِي حَاجَتك حَتَّى تَأْكُل معي. يُحَقّق هَذَا أَن عازبا من الْأَنْصَار، وهم قد آثروا الْمُهَاجِرين بِأَمْوَالِهِمْ، وأسكنوهم فِي دِيَارهمْ، طلبا لثواب الله عز وَجل فَكيف يبخل على أبي بكر بِقَضَاء حَاجَة!
والمهم من الْكَلَام فِي هَذَا أَن نقُول: قد علم أَن حرص الطّلبَة للْعلم قد فتر، لَا بل قد بَطل، فَيَنْبَغِي للْعُلَمَاء أَن يحببوا إِلَيْهِم الْعلم. فَإِذا رأى طَالب الْأَثر أَن الْأُسْتَاذ يُبَاع، وَالْغَالِب على الطّلبَة الْفقر، ترك الطّلب، فَكَانَ هَذَا سَببا لمَوْت السّنة، وَيدخل هَؤُلَاءِ فِي معنى {الَّذين يصدون عَن سَبِيل الله} . وَقد رَأينَا من كَانَ على قانون السّلف فِي نشر الْعلم، فبورك لَهُ فِي حَيَاته وَبعد مماته، ورأينا من كَانَ على السِّيرَة الَّتِي

(1/15)


ذممناها، فَلم يُبَارك لَهُ على غزارة علمه، فنسأل الله عز وَجل أَن يرزقنا الْإِخْلَاص فِي الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال، إِنَّه قريب مُجيب.
وَقَوله: أسرينا ليلتنا. يُقَال: سريت وأسريت، فقد جمع فِي هَذَا الحَدِيث بَين اللغتين، حِين قَالَ عَازِب لأبي بكر: كَيفَ صنعت حِين سريت؟ فَقَالَ أَبُو بكر: أسرينا. أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا ثَابت بن بنْدَار قَالَ: أخبرنَا على بن مُحَمَّد بن قشيش قَالَ: أخبرنَا الْحسن بن عبد الْغفار قَالَ: قرئَ على أبي إِسْحَق الزّجاج وَأَنا أسمع: قَالَ: يُقَال سريت وأسريت: إِذا سرت لَيْلًا ... كَمَا يُقَال: بشرت الرجل بِخَير وأبشرته. وبل من مَرضه وأبل. وَبَدَأَ الله الْخلق وأبدأهم. وَتمّ الله النِّعْمَة وأتمها. وتعسه الله وأتعسه. وثوى الرجل فِي الْمَكَان وأثوى. وَجَاز الرجل الْوَادي وَأَجَازَهُ. وخم اللَّحْم وأخم. وخدجت النَّاقة وأخدجت. ودجى اللَّيْل وأدجى. ودبر وَأدبر. وداد الطَّعَام وأداد. وراع الطَّعَام وأراع. ورث الشَّيْء وأرث: إِذا أخلق. ورعدت السَّمَاء وأرعدت. وزهرت الأَرْض وأزهرت: كثر زهرها. وسنفت النَّاقة وأسنفتها: إِذا كففتها بزمامها. وشكل الْأَمر عَليّ وأشكل. وشجاني الْأَمر وأشجاني. وصل اللَّحْم وأصل:

(1/16)


إِذا تغير. وصفقت الْبَاب وأصفقته. وضاء الْقَمَر وأضاء. وطشت السَّمَاء وأطشت. وعرشت الْكَرم وأعرشته: إِذا جعلت لَهُ عَرِيشًا. وعصفت الرّيح وأعصفت: إِذا اشْتَدَّ هبوبها. وعتم اللَّيْل وأعتم. وغل الرجل فِي الْغَنِيمَة وأغل. وغمدت السَّيْف وأغمدته. وغبس اللَّيْل وأغبس. وغبش وأغبش. وغسق وأغسق. وغطش وأغطش. وغامت السَّمَاء وأغامت. وفتيت الرجل وأفتيته. وَقلت الرجل البيع وأقلته. متع الله بك وأمتع بك. ومطرت السَّمَاء وأمطرت. ومح الثَّوْب وأمح: إِذا خلق. ومرأني الطَّعَام وأمرأني. ومهرت الْمَرْأَة وأمهرتها ومكر الرجل وأمكر. ومذى وأمذى. وَمنى وأمنى. ومحضته الود وأمحضته. ونكرت الشَّيْء وأنكرته. ونويت الصَّوْم وأنويته. ووفيت بالعهد وأوفيت. ووتدت الوتد وأوتدته. وهديت الْمَرْأَة إِلَى زَوجهَا وأهديتها.
وَقَوله: أسرينا ليلتنا: يَعْنِي بعد خُرُوجهمْ من الْغَار.
وَقَوله: حَتَّى قَامَ قَائِم الظهيرة: يُرِيد بِهِ ظُهُور الْحر واشتداده.
وَمعنى رفعت لنا صَخْرَة: بَانَتْ وَظَهَرت.
وَقَوله: وَأَنا أنفض مَا حولك: يُرِيد أنظر: هَل أرى عدوا. والنفضة: قوم يبعثون فِي الأَرْض ينظرُونَ هَل بهَا خوف أَو عَدو، وَكَذَلِكَ النفيضة. وَالْعرب تَقول: " إِذا تَكَلَّمت لَيْلًا فاخفض، وَإِذا تَكَلَّمت نَهَارا فانفض " أَي الْتفت، هَل ترى من تكره.
وَقَوله لِلرَّاعِي: لمن أَنْت؟ فَقَالَ: لرجل من أهل الْمَدِينَة. وَرُبمَا

(1/17)


ظن ظان أَن المُرَاد بِالْمَدِينَةِ دَار الْهِجْرَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، إِنَّمَا أَرَادَ بهَا مَكَّة، وكل بلد يُسمى مَدِينَة.
وَفِي اشتقاق الْمَدِينَة قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنَّهَا من الدّين، وَالدّين: الطَّاعَة، فسميت بِمَدِينَة لِأَنَّهَا تقوم فِيهَا الطَّاعَة وَالشَّهَادَة.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا من دنت الْقَوْم: أَي ملكتهم، فسميت مَدِينَة لِأَن أَهلهَا دينوا: أَي ملكوا. يُقَال: دَان فلَان بني فلَان: أَي ملكهم، قَالَ النَّابِغَة:
(بعثت على الْمَدِينَة خير رَاع ... فَأَنت إمامها وَالنَّاس دين)

وَيُقَال للْأمة مَدِينَة، لِأَنَّهَا مَمْلُوكَة. قَالَ الأخطل:
(ربت وَربا فِي حجرها ابْن مَدِينَة ... يظل على مسحاته يتركل)

يُرِيد: ابْن أمة فَإِن قَالَ قَائِل: لم صرفت الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة، وَهَذَا الِاسْم إِذا أطلق أُرِيد بِهِ دَار الْهِجْرَة؟
فَالْجَوَاب: أَن الْقَوْم إِنَّمَا سَارُوا يَوْمًا وَلَيْلَة، ثمَّ لقوا الرَّاعِي، وَقد علم أَن راعي الْمَدِينَة لَا يرْعَى بِقرب مَكَّة لبعد الْمسَافَة. وَفِي بعض

(1/18)


أَلْفَاظ الحَدِيث فَقلت: لمن أَنْت يَا غُلَام؟ فَقَالَ: لرجل من قُرَيْش. ثمَّ قد روينَاهُ من حَدِيث لوين عَن حديج بن مُعَاوِيَة عَن أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء، فَقَالَ فِيهِ: فَقلت: لمن أَنْت؟ فَسمى رجلا من أهل مَكَّة.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ لم يتورع الرَّسُول وَلَا أَبُو بكر من شرب ذَلِك اللَّبن، وَقد حلبه لَهما مَمْلُوك لَا يدرى: هَل أذن لَهُ سَيّده فِي مثل ذَلِك أم لَا؟
فَالْجَوَاب: أَنه لَا يَخْلُو الْحَال من أحد خَمْسَة أَشْيَاء:
الأول: أَن يكون الْأَمر مَحْمُولا على الْعَادة، وَالْعَادَة جَارِيَة من الْعَرَب بقرى الضَّيْف، وَأَن الموَالِي لَا يمْنَعُونَ المماليك من ذَلِك.
وَالثَّانِي: أَن قَوْله: أفتحلب لي؟ يشبه أَن يكون مَعْنَاهُ: هَل أذن لَك فِي ذَلِك؟ .
وَالثَّالِث: أَنه قد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث أَحْمد فِي مُسْنده فَقَالَ فِيهِ: فَقلت: لمن أَنْت يَا غُلَام؟ فَقَالَ: لرجل من قُرَيْش، فَسَماهُ، فعرفته. فَيجوز أَن يكون لذَلِك الرجل قرَابَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو لأبي بكر، أَو صديقا لَا يبخل.
وَالرَّابِع: أَن الجائع والعطشان إِذا مر بِغنم لَا يملكهَا جَازَ لَهُ أَن يَأْخُذ قدر حَاجته. هَذَا مَذْهَب أَصْحَابنَا، وَالْحسن، وَالزهْرِيّ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ إِذا مر بالثمار الْمُعَلقَة وَلَا حَائِط عَلَيْهَا جَازَ لَهُ الْأكل من غير ضَمَان، سَوَاء اضْطر إِلَيْهَا أَو لم يضْطَر. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: إِنَّمَا يُبَاح ذَلِك للمحتاج. قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة صَالح: أَرْجُو أَلا يكون بِهِ بَأْس

(1/19)


إِذا كَانَ مُسَافِرًا. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث أبي سعيد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِذا مر أحدكُم بِإِبِل فَأَرَادَ أَن يشرب فليناد: يَا راعي الْإِبِل، فَإِن أَجَابَهُ، وَإِلَّا فليشرب ".
وَالْخَامِس: أَن يكون اسْتحلَّ ذَلِك بِموضع كفرهم، وَأَن أَمْوَالهم كالفيء.
وَقَوله: فَحلبَ لي كثبة من اللَّبن: وَهِي الْقطعَة، سميت بذلك لاجتماعها، وَكَذَلِكَ الكثبة من التَّمْر.
والإداوة كالركوة يحمل فِيهَا المَاء.
وَقَوله: أرتوي فِيهَا: أَي أحمل فِيهَا المَاء للري.
وَقَوله: فَصَبَبْت على اللَّبن: يُرِيد على الْقدح الَّذِي فِيهِ اللَّبن. وَقد بَين هَذَا فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث. وَإِنَّمَا صب على الْقدح الَّذِي فِيهِ اللَّبن ليبرد اللَّبن سَرِيعا لشدَّة جوعهم.
وَمَا فعله أَبُو بكر من بسط الفروة تَحت رَسُول الله، وَاخْتِيَار الظل لَهُ، وَأمر الرَّاعِي بنفض الضَّرع من الْغُبَار، كُله يُنَبه على اللطف بِالنَّفسِ، وَأَنه يَنْبَغِي أَن يرفق بهَا؛ لِأَن لَهَا حَقًا، خلافًا لجهلة المتزهدين فِي الْحمل على النَّفس. وَكَذَلِكَ حمل الْإِدَاوَة فِي السّفر، خلافًا لجهلة المتوكلة.
وَقَوله: فَشرب حَتَّى رضيت: أَي طابت نَفسِي لعلمي بريه.

(1/20)


وسراقة هُوَ ابْن مَالك بن جعْشم. فقد نسب هَاهُنَا إِلَى جده. وَسَتَأْتِي قصَّة إِسْلَامه فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَالْجَلد: الأَرْض الغليظة الصلبة.
وارتطمت بِمَعْنى غاصت يُقَال: ارتطم الرجل فِي الوحل: إِذا نشب فِيهِ وَلم يكد يتَخَلَّص. وارتطم على الرجل أمره: إِذا سدت عَلَيْهِ مذاهبه.
وَقَوله: هَذِه كِنَانَتِي: الكنانة: الْوِعَاء الَّذِي فِيهِ السِّهَام.
وَقَوله: فقدمنا الْمَدِينَة لَيْلًا: يَعْنِي وصلنا إِلَيْهَا، إِلَّا أَنهم أَقَامُوا خَارِجا مِنْهَا، ثمَّ دخلُوا نَهَارا، وَهَذَا مُبين فِي حَدِيث عَائِشَة.
وَقَوله: فتنازعوا: يَعْنِي قبائل الْأَنْصَار.
وَقَوله: " أنزل على بني النجار أخوال عبد الْمطلب " كَانَ هِشَام قد تزوج امْرَأَة من بني النجار، فَولدت عبد الْمطلب، فَلذَلِك كَانُوا أَخْوَاله.
أَنبأَنَا عبد الْوَهَّاب بن الْمُبَارك قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن بن عبد الْجَبَّار: أخبرنَا عبد الْبَاقِي بن عبد الْكَرِيم قَالَ: أخبرنَا عبد الرَّحْمَن بن عمر الْخلال قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن يَعْقُوب بن شيبَة

(1/21)


قَالَ: حَدثنِي جدي يَعْقُوب قَالَ: أم عبد الْمطلب سلمى بنت زيد بن خِدَاش بن أُميَّة بن أَسد بن عَاصِم بن غنم بن عدي بن النجار. وَاسم زيد مَنَاة.
قَالَ يَعْقُوب: وَحدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن فليح عَن مُوسَى بن عقبَة عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: أم عبد الْمطلب سلمى بنت عَمْرو بن زيد بن عدي بن النجار.
4 - / 4 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: عَن أبي هُرَيْرَة: أَن أَبَا بكر بَعثه فِي الْحجَّة الَّتِي أمره عَلَيْهَا رَسُول الله قبل حجَّة الْوَدَاع فِي رَهْط يُؤذن فِي النَّاس يَوْم النَّحْر: أَن لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك، وَلَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان. ثمَّ أرْدف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بعلي بن أبي طَالب، وَأمره أَن يُؤذن ب " بَرَاءَة ".
اعْلَم أَن هَذِه الْحجَّة كَانَت فِي سنة تسع من الْهِجْرَة، وَإِنَّمَا أمكن هَذَا لِأَن مَكَّة فتحت فِي سنة ثَمَان، وَقد كَانَ الْمُشْركُونَ يحجون كل سنة، وَقد ظن قوم أَن فِي بَعثه عليا عَلَيْهِ السَّلَام ليقْرَأ " بَرَاءَة " نقضا لأبي بكر، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا أجْرى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَرَب فِي نقض العهود على عَادَتهَا، فَكَانَ لَا يتَوَلَّى ذَلِك على الْقَبِيلَة إِلَّا سيدهم أَو رجل من رهطه دينا، كأخ، أَو عَم، أَو ابْن عَم. وَقد كَانَ للْعَرَب أَن يَقُولُوا: إِذا تَلا عَلَيْهِم نقض العهود من لَيْسَ من رَهْط رَسُول الله:

(1/22)


هَذَا خلاف مَا نعرفه، فأزاح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعلَّة بِمَا فعل، وَمِمَّا يزِيل الْإِشْكَال أَن أَبَا بكر كَانَ الإِمَام فِي تِلْكَ الْحجَّة، فَكَانَ عَليّ يأتم، وَأَبُو بكر الْخَطِيب وَعلي يسمع.
وَقَوله: {وَإِن خِفْتُمْ عيلة} [التَّوْبَة: 28] .
الْعيلَة: الْفقر وَالْحَاجة، وَإِنَّمَا خَافَ الْمُسلمُونَ الْفقر لِأَن الْمُشْركين كَانُوا يحملون التِّجَارَات إِلَيْهِم ويجيئون بِالطَّعَامِ وَغَيره، فَقيل لَهُم: إِن خِفْتُمْ فقرا بِانْقِطَاع الْمُشْركين فَسَوف يغنيكم الله من فَضله إِن شَاءَ، فأغناهم بالجزية الْمَأْخُوذَة من أهل الْكتاب، كَذَلِك قَالَ قَتَادَة. وَقَالَ مقَاتل: فأغناهم بِأَن جعل أهل نجد وجرش وَصَنْعَاء أَسْلمُوا، فحملوا الطَّعَام إِلَى مَكَّة.
فَأَما قَوْله: وَيَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم النَّحْر، فَإِنَّهُ من قَول حميد بن عبد الرَّحْمَن الرَّاوِي عَن أبي هُرَيْرَة.
وَقد اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي يَوْم الْحَج الْأَكْبَر على ثَلَاثَة أَقْوَال:
فأحدها: أَنه يَوْم عَرَفَة، وَهُوَ مَذْهَب عمر، وَابْن عمر، وَابْن الزبير، وَأبي جُحَيْفَة، وطاووس، وَعَطَاء.
وَالثَّانِي: يَوْم النَّحْر، وَهُوَ مَذْهَب أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَابْن

(1/23)


أبي أوفى، والمغيرة بن شُعْبَة، وَابْن الْمسيب، وَعِكْرِمَة، وَالشعْبِيّ، وَالزهْرِيّ، وَالنَّخَعِيّ، وَابْن زيد، وَالسُّديّ. وَعَن عَليّ وَابْن عَبَّاس كالقولين.
وَالثَّالِث: أَنه أَيَّام الْحَج كلهَا، فَعبر عَن الْأَيَّام بِالْيَوْمِ، كَمَا يُقَال: يَوْم الْجمل، وَيَوْم صفّين، وَهَذَا مَذْهَب سُفْيَان الثَّوْريّ. وَعَن مُجَاهِد كالأقوال الثَّلَاثَة.
فَإِن قيل: لم سَمَّاهُ الْأَكْبَر؟
فللعلماء فِي ذَلِك أَرْبَعَة أَقْوَال.
أَحدهَا: لِأَنَّهُ يحلق فِيهِ الشّعْر، ويهراق الدَّم، وَيحل فِيهِ الْحَرَام، قَالَه عبد الله بن أبي أوفى.
وَالثَّانِي: أَنه اتّفق فِي سنة حج فِيهَا الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَوَافَقَ ذَلِك عيد الْيَهُود وَالنَّصَارَى، قَالَه الْحسن.
وَالثَّالِث: أَن الْحَج الْأَكْبَر هُوَ الْحَج، فالحج الْأَصْغَر هُوَ الْعمرَة، قَالَه عَطاء وَالشعْبِيّ، وَاخْتَارَهُ ابْن جرير.
وَالرَّابِع: أَن الْحَج الْأَكْبَر الْقرَان، والأصغر الْإِفْرَاد. قَالَه مُجَاهِد.
وعَلى هَذِه الْأَقْوَال اعْتِرَاض: وَهُوَ أَن يُقَال: إِنَّمَا حج أَبُو بكر فِي ذِي الْقعدَة، وَحج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعده فِي ذِي الْحجَّة، وَقَالَ:

(1/24)


" إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَته يَوْم خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض " فَكيف يكون أَذَان أبي بكر يَوْم عَرَفَة، أَو يَوْم النَّحْر على مَا ذكرْتُمْ؟
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الْقَوْلَيْنِ قد رويا، وَلَيْسَ أَحدهمَا بِأولى من الآخر، أَعنِي بالقولين: أَن أَبَا بكر نَادَى يَوْم عَرَفَة أَو يَوْم النَّحْر، وَأَنه حج فِي ذِي الْقعدَة.
وَالثَّانِي: أَن يكون سمي يَوْم حج أبي بكر يَوْم الْحَج الْأَكْبَر، لأَنهم جَعَلُوهُ مَكَان يَوْم النَّحْر، فَسُمي باسم مَا حل مَحَله.
5 - / 5 - الحَدِيث الْخَامِس: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: لما توفّي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، واستخلف أَبُو بكر، وَكفر من كفر من الْعَرَب، قَالَ عمر لأبي بكر: كَيفَ تقَاتل النَّاس وَقد قَالَ رَسُول الله: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله، فَمن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله، عصم مني مَاله وَنَفسه إِلَّا بِحقِّهِ، وحسابه على الله " فَقَالَ أَبُو بكر: وَالله لأقاتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة؛ فَإِن الزَّكَاة حق المَال، وَالله لَو مَنَعُونِي عنَاقًا كَانُوا يؤدونها إِلَى رَسُول الله لقاتلتهم على منعهَا. وَفِي لفظ آخر: عقَالًا كَانُوا يؤدونه. فَقَالَ عمر: فو الله مَا هُوَ إِلَّا أَن شرح الله صدر أبي بكر لِلْقِتَالِ، فَعرفت أَنه الْحق.

(1/25)


قد اعْترض على هَذَا الحَدِيث بعض الرافضة فَقَالَ: لَا يَخْلُو أَن يكون هَؤُلَاءِ كفَّارًا أَو مُسلمين: فَإِن كَانُوا كفَّارًا فَكيف قَالَ: لأقاتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة، فَجعل عِلّة قِتَالهمْ ترك الزَّكَاة لَا الْكفْر؟ ثمَّ كَيفَ يشكل قتال الْكفَّار على عمر؟ وَإِن كَانُوا مُسلمين فَكيف اسْتحلَّ قَتلهمْ، وَسبي ذَرَارِيهمْ؟ كَيفَ قَالَ: لَو مَنَعُونِي عنَاقًا - أَو عقَالًا - والعناق والعقال لَا يؤخذان فِي الزَّكَاة؟ ثمَّ كَيفَ يَقُول عمر: رَأَيْت الله قد شرح صدر أبي بكر لِلْقِتَالِ، فَعرفت أَنه الْحق، وَظَاهر هَذَا أَنه وَافقه بِلَا دَلِيل؟
وَالْجَوَاب: أَن أهل الرِّدَّة فِي زمن أبي بكر انقسموا فرْقَتَيْن: ففرقه عَادَتْ إِلَى الْكفْر، وهم المذكورون فِي قَوْله: وَكفر من كفر من الْعَرَب. وَفرْقَة فرقت بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة، فأقرت بِالصَّلَاةِ دون الزَّكَاة، فَهَؤُلَاءِ بغاة، غير أَنهم لم يسموا بذلك لدخولهم فِي فريق الْمُرْتَدين، فأضيف الِاسْم إِلَى الرِّدَّة لكَونهَا أعظم الْأَمريْنِ.
وأرخ مبدأ قتال الْبُغَاة بأيام عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام، إِذْ كَانُوا فِي زَمَانه منفردين لم يختلطوا بالمشركين. وَإِنَّمَا سميناهم بغاة لقرب الْعَهْد وجهلهم بِأَمْر الشَّرْع، بِخِلَاف مَا لَو سعت الْيَوْم طَائِفَة تجحد الزَّكَاة، فَإِنَّمَا نسميها كَافِرَة لَا باغية؛ لِأَن وجوب الزَّكَاة قد استفاض. وَفِي أَحْوَال أُولَئِكَ الْبُغَاة وَقعت الشُّبْهَة لعمر، فراجع أَبَا بكر تعلقا بِظَاهِر لفظ الرَّسُول قبل أَن يتَأَمَّل الْمَعْنى. فَقَالَ أَبُو بكر: إِن الزَّكَاة حق المَال، يُفَسر لَهُ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِلَّا بِحقِّهِ " فَبَان الدَّلِيل لعمر، فَوَافَقَ لذَلِك لَا بالتقليد، وَهُوَ المُرَاد بقوله: فَمَا هُوَ إِلَّا أَن رَأَيْت الله شرح صدر

(1/26)


أبي بكر لِلْقِتَالِ: أَي فهمه مَا يُوجب عَلَيْهِ أَن يُقَاتل.
وَأما مَا جرى على أُولَئِكَ من السَّبي، فَأمر رَأَتْهُ الصَّحَابَة من بَاب الِاجْتِهَاد فِي ذَلِك الْوَقْت، واستولد عَليّ جَارِيَة من سبي بني حنيفَة فَولدت لَهُ مُحَمَّد بن عَليّ. ثمَّ لم ينقرض ذَلِك الْعَهْد حَتَّى تغير اجْتِهَاد الصَّحَابَة فاتفقوا على أَن الْمُرْتَد لَا يسبى.
وَأما قَوْله: لَو مَنَعُونِي عنَاقًا: فالعناق: اسْم للْأُنْثَى من الْمعز أول سنة الْوَضع، وَيُقَال للذّكر جدي، وَهَذَا يدل على أَن الزَّكَاة تجب فِي صغَار الْغنم، وَعِنْدنَا أَنَّهَا تجب فِي الصغار إِذا انْفَرَدت وَبَلغت نِصَابا، وَيخرج مِنْهَا، سَوَاء ابْتَدَأَ ملكهَا من أول الْحول، أَو نتجت عَنهُ وَهَلَكت الْأُمَّهَات قبل الْحول. وَهَذَا قَول مَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأبي يُوسُف، وَزفر. إِلَّا أَن مَالِكًا وَزفر يَقُولَانِ: تجب فِي الْكَبِيرَة من جِنْسهَا. وَفِيه ثَانِيَة عَن أَحْمد: لَا تجب الزَّكَاة فِي الصغار إِذا انْفَرَدت، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، وَمُحَمّد، وَدَاوُد.
فَأَما قَوْله: لَو مَنَعُونِي عقَالًا. فالعقال: اسْم مُشْتَرك يَقع على الَّذِي يشد بِهِ الْبَعِير، فَإِن أَرَادَ ذَلِك فَهُوَ للْمُبَالَغَة. وَيَقَع العقال على صَدَقَة عَام. قَالَ الْأَصْمَعِي: العقال: زَكَاة عَام، وَأنْشد:
(سعى عقَالًا فَلم يتْرك لنا سبدا ... فَكيف لَو قد سعى عَمْرو عِقَالَيْنِ)

(1/27)


وَالْمعْنَى: أَخذ عَمْرو صَدَقَة عَام، والسبد: الشّعْر. واللبد: الصُّوف.
قَالَ أَبُو عبيد: وَمِنْه حَدِيث ابْن أبي ذُبَاب: أَن عمر أخر الصَّدَقَة عَام الرَّمَادَة، فَلَمَّا أَحْيَا النَّاس بَعَثَنِي فَقَالَ: اعقل عَلَيْهِم عِقَالَيْنِ، فاقسم فيهم عقَالًا وائتني بِالْآخرِ. فَهَذَا يشْهد أَن العقال صَدَقَة عَام.
وَقَوله: وحسابهم على الله. أَي فِيمَا يستسرون ويخلون بِهِ، لَا فِيمَا يخلون بِهِ من الْأَحْكَام الظَّاهِرَة.
6 - / 6 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: أَن فَاطِمَة وَالْعَبَّاس أَتَيَا أَبَا بكر يلتمسان ميراثهما من رَسُول الله، وهما حنئيذ يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خَيْبَر، فَقَالَ أَبُو بكر: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " لَا نورث، مَا تركنَا صَدَقَة، إِنَّمَا يَأْكُل آل مُحَمَّد فِي هَذَا المَال " وَإِنِّي لَا أدع أمرا رَأَيْت رَسُول الله يصنعه فِيهِ إِلَّا صَنعته، إِنِّي أخْشَى إِن تركت شَيْئا من أمره أَن أزيغ. فَأَما صدقته بِالْمَدِينَةِ فَدَفعهَا عمر إِلَى عَليّ وعباس، فغلبه عَلَيْهَا عَليّ، وَأما خَيْبَر وفدك فَأَمْسَكَهُمَا عمر وَقَالَ: هما صَدَقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَتَا لحقوقه الَّتِي تعروه ونوائبه، وَأَمرهمَا إِلَى من ولي الْأَمر.
اعْلَم أَن الْأَمْوَال الَّتِي أفاءها الله على رَسُوله كفدك، وأموال بني النَّضِير، كَانَ يَأْخُذ مِنْهَا نَفَقَته وَنَفَقَة أَهله، وَيصرف الْبَاقِي فِي مصَالح الْمُسلمين، وَقد قَالَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: " لَا تقتسم ورثتي دِينَارا،

(1/28)


وَمَا تركت بعد نَفَقَة نسَائِي وَمؤنَة عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَة ". وَكَانَ سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة يَقُول: أَزوَاج رَسُول الله فِي معنى المتعبدات لِأَنَّهُ لَا يجوز لَهُنَّ النِّكَاح أبدا، فجرت عَلَيْهِنَّ النَّفَقَة، وَتركت حجرهن لَهُنَّ يسكنهَا، وَأَرَادَ بمؤنة عَامله من يَلِي بعده، فظنت فَاطِمَة وَالْعَبَّاس أَن ذَلِك مِمَّا يقسم. قَالَ: فَلَمَّا قَالَ أَبُو بكر: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " لَا نورث، مَا تركنَا صَدَقَة " انْقَطع الْكَلَام.
ثمَّ اخْتصم عَليّ وَالْعَبَّاس فِيمَا جعل إِلَيْهِمَا من صدقته بِالْمَدِينَةِ، وَهِي أَمْوَال بني النَّضِير، فَإِنَّهَا كَانَت قَرِيبا من الْمَدِينَة. قَالَ أَبُو دَاوُد السجسْتانِي: وَإِنَّمَا اخْتَصمَا فِي قسمتهَا، وسألا عمر أَن يقسمها بَينهمَا نِصْفَيْنِ ليستبد كل وَاحِد مِنْهُمَا بولايته، فَلم ير عمر أَن يُوقع الْقِسْمَة على الصَّدَقَة، وَلم يطلبا قسمتهَا ليتملكا ذَلِك. وَهَذَا الَّذِي ذكره أَبُو دَاوُد فِي غَايَة الْحسن. وَإِنَّمَا طلبا الْقِسْمَة لِأَنَّهُ كَانَ يشق على كل وَاحِد مِنْهُمَا أَلا يعْمل عملا فِي تِلْكَ الْأَمْوَال حَتَّى يسْتَأْذن صَاحبه.
وَمعنى: فغلبه عَلَيْهَا: أَي على الْولَايَة.
وَقَوله: إِنِّي أخْشَى أَن أزيغ: أَي أميل عَن الصَّوَاب.
وَقَوله: وَأما خَيْبَر وفدك فكانتا لحقوقه الَّتِي تعروه ونوائبه،

(1/29)


وَأَمرهمَا إِلَى من ولي الْأَمر. وَمعنى تعروه: تغشاه وتنتابه.
وَمِمَّا عَابَ النَّاس على عُثْمَان أَنه أقطع مَرْوَان بن الحكم فدكا، قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: لَعَلَّه تَأَول قَول رَسُول الله: " إِذا أطْعم الله نَبيا طعمة فَهُوَ للَّذي يقوم من بعده " فَلَمَّا اسْتغنى عُثْمَان عَنْهَا بِمَالِه جعلهَا لأقربائه.
وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن فَاطِمَة هجرت أَبَا بكر. وَرُبمَا أشكل هَذَا، فَقَالَ قَائِل: أتراها اتهمته فِيمَا روى؟ وَالْجَوَاب: أَنَّهَا خرجت من عِنْده غَضبى؛ لِأَنَّهَا سَمِعت قولا يُخَالف مَا عَلَيْهِ النَّاس من التَّوَارُث، فَكَأَنَّهَا ظنت فِي أبي بكر أَنه شبه عَلَيْهِ فِيمَا روى مِمَّا يُخَالف الْكتاب، وَاتفقَ مَرضهَا وامتد، فَقيل: هجرت أَبَا بكر، وَوَافَقَ ذَلِك امْتنَاع عَليّ من مبايعته ظنا مِنْهُ أَن النّسَب يُؤثر فِي الْولَايَة كَمَا أثر فِي حمله " بَرَاءَة " إِلَى أَن بَان لَهُ الصَّوَاب فَبَايع أَبَا بكر، رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ.
فَإِن قيل: إِذا كَانَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام انْقَطع عَن الْبيعَة، وَوَافَقَهُ جَمِيع بني هَاشم، فَكيف يُقَال: إِن بيعَة أبي بكر ثبتَتْ بِالْإِجْمَاع؟
فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الْقَوْم انْقَطَعُوا عَن الْبيعَة وَمَا أنكروها، وَإِذا تكلم بعض الْعلمَاء فِي مَسْأَلَة، وَسكت بَعضهم، لم يقْدَح سكُوت السَّاكِت فِيمَا أجمع عَلَيْهِ المتكلمون؛ لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون السَّاكِت سكت رَاضِيا، أَو لينْظر.
وَالثَّانِي: أَنه مَا انقرض ذَلِك الْعَصْر حَتَّى انْعَقَد الْإِجْمَاع، فَبَايعهُ من تقاعد مِنْهُ.

(1/30)


وَفِي هَذَا الحَدِيث: وَكَانَ لعَلي وَجه من النَّاس، أَي جاه عِنْدهم.
وَفِيه: فضرع إِلَى مصالحة أبي بكر: أَي سَأَلَ الصُّلْح.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: فَأرْسل عَليّ إِلَى أبي بكر: أَن ائتنا، وَلَا تأتنا مَعَك بِأحد. الَّذِي يظنّ أَنه أَشَارَ بالأحد إِلَى عمر، وَقد كَانَ فِي عمر شدَّة، فَلم يَأْمَن عتابه إِيَّاه فِي التَّخَلُّف.
وَقَول عَليّ: وَلَا نفاسة عَلَيْك: النفاسة: الْحَسَد.
وَقَوله: قد كُنَّا نرى أَن لنا فِي هَذَا الْأَمر حَقًا: يجوز أَن يُرِيد بِهِ الْولَايَة، وَيجوز أَن يُرِيد بِهِ الْمُشَاورَة.
وَقَوله: موعدك العشية: أَرَادَ أَن يبايعه وَالنَّاس يسمعُونَ.
وَقد روى أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ عَن أبي عمر الزَّاهِد عَن ثَعْلَب عَن ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: أول خطْبَة خطبهَا السفاح فِي قَرْيَة يُقَال لَهَا العباسية بالأنبار، فَلَمَّا افْتتح الْكَلَام وَصَارَ إِلَى ذكر الشَّهَادَة من الْخطْبَة قَامَ رجل من آل أبي طَالب فِي عُنُقه مصحف فَقَالَ: أذكرك الله الَّذِي ذكرته إِلَّا أنصفتني من خصمي، وحكمت بيني وَبَينه بِمَا فِي هَذَا الْمُصحف. فَقَالَ لَهُ: وَمن ظالمك؟ فَقَالَ: أَبُو بكر الَّذِي منع فَاطِمَة فدك. فَقَالَ لَهُ: وَهل كَانَ بعده أحد؟ قَالَ: نعم. قَالَ: من؟ قَالَ: عمر. قَالَ: فَأَقَامَ على ظلمك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: وَهل كَانَ بعده أحد؟ قَالَ: نعم. قَالَ: من؟ قَالَ: عُثْمَان. قَالَ: فَأَقَامَ على ظلمك؟ قَالَ: نعم. قَالَ وَهل كَانَ بعده أحد؟ قَالَ: نعم. قَالَ: من؟ قَالَ: أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب. قَالَ: وَأقَام على ظلمك. قَالَ:

(1/31)


فأسكت الرجل، وَجعل يلْتَفت إِلَى مَا وَرَاءه يطْلب مخلصا. فَقَالَ لَهُ: وَالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، لَوْلَا أَنه أول مقَام قمته، ثمَّ إِنِّي لم يكن تقدّمت إِلَيْك فِي هَذَا قبل، لأخذت الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك، اقعد. وَأَقْبل على الْخطْبَة.
7 - / 7 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
تأيمت حَفْصَة من خُنَيْس بن حذافة.
أَي بقيت بِلَا زوج، يُقَال: رجل أيم، وَامْرَأَة أيم: لَا زوج لَهما، وَسَوَاء كَانَت الْمَرْأَة بكرا أَو ثَيِّبًا: كَذَلِك حَكَاهُ الْحَرْبِيّ عَن أبي نصر صَاحب الْأَصْمَعِي.
وَقَوله: من خُنَيْس: قد أشكل هَذَا الِاسْم على معمر بن رَاشد فَقَالَ: حُبَيْش بِالْحَاء الْمُهْملَة والشين الْمُعْجَمَة. وَقَالَ: ابْن حُذَيْفَة أَو حذافة. وَالصَّوَاب خُنَيْس بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَبعدهَا نون وياء مُعْجمَة بِاثْنَيْنِ وسين مُهْملَة، ابْن حذافة. وَهَذَا الرجل اسْمه خُنَيْس بن حذافة ابْن قيس بن عدي بن سعد بن سهم، وَهُوَ من أهل بدر، وإسلامه قديم

(1/32)


قبل دُخُول رَسُول الله دَار الأرقم الَّتِي يُقَال لَهَا دَار الخيزران، وَكَانَ قد هَاجر إِلَى أَرض الْحَبَشَة الْهِجْرَة الثَّانِيَة، ثمَّ هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، وَمَات على رَأس خمس وَعشْرين شهرا من الْهِجْرَة، وَدفن بِالبَقِيعِ إِلَى جَانب قبر عُثْمَان بن مَظْعُون، وَهُوَ أَخُو عبد الله بن حذافة الَّذِي قَالَ لرَسُول الله: من أبي؟ فَقَالَ: " أَبوك حذافة ".
وَأما حُبَيْش بِالْحَاء الْمُهْملَة وَبعدهَا بَاء فصحابي أَيْضا، يُقَال لَهُ حُبَيْش بن خَالِد. وَفِي الصَّحَابَة وهب بن خنيش بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَبعدهَا نون وياء.
وَقَول عمر: فَلَقِيت عُثْمَان فعرضت عَلَيْهِ حَفْصَة، يدل على أَن السَّعْي من الْأَب للأيم فِي التَّزْوِيج، وَاخْتِيَار الأكفأ جَائِز غير مَكْرُوه.
وَقَوله: فَلَقِيت أَبَا بكر فعرضتها عَلَيْهِ فَلم يرجع إِلَيّ شَيْئا، فَكنت عَلَيْهِ أوجد مني على عُثْمَان. وَذَلِكَ لشيئين: أَحدهمَا: أَنه كَانَ أقرب إِلَى صداقته ومخالطته من عُثْمَان. وَالثَّانِي: أَن عُثْمَان أفْصح لَهُ بِالرَّدِّ فأراحه، وَأَبُو بكر صمت فَتَركه على الترقب. وَلذَلِك اعتذار أبي بكر عَن الْإِمْسَاك بِأَنَّهُ سمع رَسُول الله يذكرهَا.
8 - / 8 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: ارقبوا مُحَمَّدًا فِي آل بَيته.
الْمَعْنى راقبوه وراعوه واحفظوه فيهم، وَذَلِكَ يكون بحبهم وتوقيرهم

(1/33)


ومراعاة حُقُوقهم. قَالَ الزّجاج: وَأهل بَيته الرِّجَال الَّذين هم آله، ونساؤه.
9 - / 9 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: قَالَ زيد بن ثَابت: أرسل أَبُو بكر مقتل أهل الْيَمَامَة ...
يَوْم الْيَمَامَة: هُوَ الْيَوْم الَّذِي قتل فِيهِ مُسَيْلمَة الْكذَّاب، وَكَانَ قد ادّعى النُّبُوَّة، وَقَالَ أَنا أُؤْمِن بِمُحَمد، لكني قد اشتركت مَعَه فِي النُّبُوَّة. وَتُوفِّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومسيلمة قد استفحل أمره، ثمَّ إِن الْمُسلمين حَارَبُوهُ، فَقتل مِنْهُم خلق كثير، وقتلوه يَوْمئِذٍ.
وَقَوله: إِن الْقَتْل قد استحر. أَي: كثر وَاشْتَدَّ، وَالْمَكْرُوه أبدا يُضَاف إِلَى الْحر، والمحبوب إِلَى الْبرد. وَمِنْه قَوْلهم: " ول حارها من تولى قارها "
وَقَول عمر لأبي بكر: إِنِّي أرى أَن تَأمر بِجمع الْقُرْآن - رَأْي حسن لَا يخفى وَجه الصَّوَاب فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِذا جمع أَمن أَن يُزَاد فِيهِ أَو ينقص.
وَقَوله: كَيفَ نَفْعل شَيْئا لم يَفْعَله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ من يُؤثر الِاتِّبَاع، ويخشى الابتداع، وَإِنَّمَا لم يجمعه رَسُول الله لِأَنَّهُ كَانَ بِعرْض أَن ينْسَخ مِنْهُ وَأَن يُزَاد فِيهِ، فَلَو جمعه لكتب، فَكَانَ الَّذِي عِنْده نُقْصَان يُنكر على من عِنْده الزِّيَادَة. فَلَمَّا أَمن هَذَا الْأَمر بِمَوْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمعه أَبُو بكر، وَكَانَ مَكْتُوبًا فِي الرّقاع والعسب، والعسب: سعف النّخل. واللخاف، واحدتها لخفة: وَهِي حِجَارَة بيض رقاق.

(1/34)


وَقَوله: وجدت آخر " التَّوْبَة " مَعَ خُزَيْمَة أَو أبي خُزَيْمَة، وَالصَّوَاب خُزَيْمَة من غير شكّ، وَإِنَّمَا بعض الروَاة يشك.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يثبت الْقُرْآن بِخَبَر وَاحِد؟
فَالْجَوَاب: أَن خُزَيْمَة أذكرهم مَا نسوه، وَلِهَذَا قَالَ زيد: وَجدتهَا مَعَ خُزَيْمَة، وَلم يقل: عرفني أَنَّهَا من الْقُرْآن، وَقد صرح زيد بِهَذَا الْمَعْنى فَقَالَ فِي رِوَايَة: فقدت آيَة كنت أسمعها من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم} [التَّوْبَة: 128] فالتمستها فَوَجَدتهَا مَعَ خُزَيْمَة ابْن ثَابت. وَزيد من جملَة من حفظ الْقُرْآن قبل موت رَسُول الله، غير أَن الْحَافِظ قد يَسْتَعِين بِغَيْرِهِ، وبالمسطور.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: قدم حُذَيْفَة على عُثْمَان وَكَانَ يغازي أهل الشَّام فِي فتح أرمينية وأذربيجان، فأفزعه اخْتلَافهمْ فِي الْقِرَاءَة، فَقَالَ لعُثْمَان: أدْرك هَذِه الْأمة قبل أَن يَخْتَلِفُوا فِي الْكتاب اخْتِلَاف الْيَهُود وَالنَّصَارَى. فَأرْسل عُثْمَان إِلَى حَفْصَة: أَن أرسلي إِلَيْنَا بالصحف ننسخها فِي الْمَصَاحِف ثمَّ نردها إِلَيْك، فَلَمَّا نسخهَا أرسل إِلَى كل أفق بمصحف، وَأمر بِمَا سوى ذَلِك من الْقُرْآن أَن يحرق.
اعْلَم أَنهم لما نسخوا الْقُرْآن فِي زمن أبي بكر كَانَت تِلْكَ الصُّحُف عِنْده، فَلَمَّا مَاتَ أَخذهَا عمر، فَلَمَّا مَاتَ أَخَذتهَا حَفْصَة. وَكَانَ أَبُو بكر قد جمع الْقُرْآن وَلم يمْنَع من عِنْده مِنْهُ شَيْء من تِلَاوَة مَا عِنْده، وَكَانَ مُرَاد عُثْمَان أَن يجمع النَّاس على مصحف وَاحِد وَيمْنَع من تِلَاوَة غَيره، لِأَنَّهُ قد كَانَ الشَّيْء يُتْلَى ثمَّ ينْسَخ أَو يُزَاد فِيهِ وَينْقص مِنْهُ، حَتَّى اسْتَقر

(1/35)


الْأَمر على الْعرض الْأَخير الَّذِي عرضه رَسُول الله على جِبْرِيل. وَكَانَ الَّذِي تولى جمعه فِي زمن عُثْمَان زيد بن ثَابت أَيْضا فِي آخَرين.
وَقَوله: يغازي أهل الشَّام: أَي يَغْزُو.
وإرمينية مَكْسُورَة الْألف. وَفِي قرأة الحَدِيث من يضمها، وَهُوَ غلط. وأذربيجان مَقْصُورَة الْألف مسكنة الذَّال، وهما اسمان أعجميان. كَذَلِك قرأتهما على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ وَفِي قِرَاءَة الحَدِيث من يَقُول آذربيجان بِالْمدِّ، وَهُوَ غلط. وَفِي المبتدئين من يَقُول: أذريبجان بِتَقْدِيم الْيَاء على الْبَاء، وَهُوَ جهل.
فَإِن قيل: كَيفَ حرقت الْمَصَاحِف وَهِي معظمة؟
فَالْجَوَاب: أَن ذَلِك لتعظيم الْقُرْآن وصيانته عَن التَّغْيِير، وَرب فَسَاد فِي الظَّاهِر تضمنه صَلَاح.
وَبَعض النَّاس يَقُول: خرق الْمَصَاحِف بِالْخَاءِ، وَالصَّوَاب بِالْحَاء، لِأَنَّهُ لَيْسَ كل الْمَكْتُوب كَانَ فِي رق، وَلَا كَانَ لَهُم ورق.
وَفِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث: قَالَ زيد: فقدت آيَة من " الْأَحْزَاب " كنت اسْمَع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ بهَا، فالتمسناها فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَة - الَّذِي جعل رَسُول الله شَهَادَته شَهَادَة رجلَيْنِ: {من الْمُؤمنِينَ رجال صدقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ} [الْأَحْزَاب: 23] . وَرُبمَا قَالَ قَائِل هَذَا خلاف مَا تقدم من أَنهم وجدوا مَعَ خُزَيْمَة آخر " التَّوْبَة "، فَأَيّهمَا أصح؟

(1/36)


فَالْجَوَاب: أَن كليهمَا صَحِيح، والآيتان وجدتا مَعَ خُزَيْمَة، فآخر " التَّوْبَة " وجدوها مَعَه. فِي زمن أبي بكر، وَالْآيَة من " الْأَحْزَاب " وجدوها مَعَه فِي زمن عُثْمَان.
وَأما جعل شَهَادَته بِشَهَادَة رجلَيْنِ فلسبب أَنبأَنَا بِهِ هبة الله بن مُحَمَّد ابْن الْحصين قَالَ: أخبرنَا الْحسن بن عَليّ التَّمِيمِي قَالَ أخبرنَا أَحْمد بن جَعْفَر بن حمدَان قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ: أخبرنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: حَدثنِي عمَارَة ابْن خُزَيْمَة الْأنْصَارِيّ أَن عَمه حَدثهُ - وَهُوَ من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْتَاعَ فرسا من أَعْرَابِي فاستتبعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليقبضه ثمن فرسه، فأسرع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبْطَأ الْأَعرَابِي، فَطَفِقَ رجال يعترضون الْأَعرَابِي فيساومون بالفرس، لَا يَشْعُرُونَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابتاعه، حَتَّى زَاد بَعضهم الْأَعرَابِي فِي السّوم على ثمن الْفرس الَّذِي ابتاعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنَادَى الْأَعرَابِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِن كنت مبتاعا هَذَا الْفرس فابتعه وَإِلَّا بِعته، فَقَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين سمع نِدَاء الْأَعرَابِي فَقَالَ: " أَو لَيْسَ قد ابتعته مِنْك؟ " قَالَ الْأَعرَابِي: لَا، وَالله مَا بِعْتُك. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " بلَى، قد ابتعته مِنْك " فَطَفِقَ النَّاس يلوذون بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والأعرابي وهما يتراجعان، فَطَفِقَ الْأَعرَابِي يَقُول: هَلُمَّ شَهِيدا يشْهد أَنِّي قد بَايَعْتُك. فَمن جَاءَ من الْمُسلمين قَالَ للأعرابي: وَيلك، إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن ليقول إِلَّا حَقًا، حَتَّى جَاءَ خُزَيْمَة، فاستمع لمراجعة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(1/37)


ومراجعة الْأَعرَابِي، فَطَفِقَ الْأَعرَابِي يَقُول: هَلُمَّ شَهِيدا يشْهد أَنِّي قد بَايَعْتُك. فَقَالَ خُزَيْمَة: أَنا أشهد أَنَّك قد بايعته. فَأقبل النَّبِي على خُزَيْمَة فَقَالَ: " بِمَ تشهد؟ " فَقَالَ: بتصديقك يَا رَسُول الله. فَجعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهَادَة خُزَيْمَة شَهَادَة رجلَيْنِ.
وَأما أَخُو خُزَيْمَة الَّذِي روى هَذَا الحَدِيث فَلم يذكر اسْمه، وَقد كَانَ لَهُ أَخَوان: وحوح، وَعبد الله.
وَوجه هَذَا الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا حكم على الْأَعرَابِي بِعِلْمِهِ، وَجَرت شَهَادَة خُزَيْمَة مجْرى التوكيد لقَوْله.
10 - / 10 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عَن أنس: أَن أَبَا بكر كتب لَهُ حِين وَجهه إِلَى الْبَحْرين: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. هَذِه فَرِيضَة الصَّدَقَة الَّتِي فَرضهَا رَسُول الله على الْمُسلمين وَالَّتِي أَمر بهَا رَسُوله.
وَمعنى الْفَرْض هَاهُنَا: بَيَان التَّقْدِير، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة} [الْبَقَرَة: 236] أَي تقدروا مبلغ كميتها.
فَأَما بنت مَخَاض: فَهِيَ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا حول وَدخلت فِي السّنة الثَّانِيَة، وحملت أمهَا فَصَارَت من الْمَخَاض: وَهن الْحَوَامِل.
وَأما بنت اللَّبُون: فَهِيَ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا حولان وَدخلت فِي الثَّالِث،

(1/38)


فَصَارَت أمهَا لبونا بِوَضْع الْحمل.
فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: بنت لبنون أُنْثَى، وَابْن لبون ذكر وَهُوَ مَعْلُوم؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن يكون ذَلِك توكيدا للتعريف وَزِيَادَة فِي الْبَيَان، كَقَوْلِه تَعَالَى: {تِلْكَ عشرَة كَامِلَة} [الْبَقَرَة: 196] .
وَالثَّانِي: أَن يكون تَنْبِيها لرب المَال ليطيب نفسا بِالزِّيَادَةِ الْمَأْخُوذَة مِنْهُ، وللمصدق ليعلم أَن سنّ الذُّكُورَة مَقْبُول من رب المَال فِي هَذِه الْمَوَاضِع، وَهُوَ أَمر نَادِر يخرج عَن الْعرف فِي بَاب الصَّدقَات. وَأما الحقة: فَهِيَ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا ثَلَاث سِنِين وَدخلت فِي الرَّابِعَة، فَاسْتحقَّ عَلَيْهَا الْحمل والضراب.
وَقَوله: طروقة الْجمل: هِيَ الَّتِي طرقها الْفَحْل، أَو بلغت أَن يطرقها. وَهِي فعولة بِمَعْنى مفعولة، كالحلوبة.
وَأما الْجَذعَة من الْإِبِل فَهِيَ الَّتِي لَهَا أَربع سِنِين وَقد دخلت فِي الْخَامِسَة.
وَقَوله: فَإِذا زَادَت على عشْرين وَمِائَة فَفِي كل أَرْبَعِينَ ابْنة لبون. فِيهِ دَلِيل على أَن الْفَرِيضَة لَا تسْتَأْنف بعد الْعشْرين وَالْمِائَة، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي وَأحمد، خلافًا لأبي حنيفَة فِي قَوْله: إِذا زَادَت على عشْرين وَمِائَة استؤنفت الْفَرِيضَة، فَفِي خمس شَاة، وَفِي عشر شَاتَان.
وَقَوله: فِي صَدَقَة الْغنم فِي سائمتها. قد دلّ على التَّقْيِيد بالسوم،

(1/39)


على أَنه لَا يجب الزَّكَاة فِي العوامل والمعلوفة، وَهَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، خلافًا لمَالِك.
وَقَوله: لَا يجمع بَين متفرق، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع خشيَة الصَّدَقَة.
قَالَ الشَّافِعِي: الخشية خشيتان: خشيَة السَّاعِي أَن تقل الصَّدَقَة، وخشية رب المَال أَن تكْثر الصَّدَقَة. فَأمر كل وَاحِد مِنْهُمَا أَلا يحدث فِي المَال شَيْئا من الْجمع والتفريق. وَشرح هَذَا أَن يكون لِرجلَيْنِ ثَمَانُون شَاة، لكل وَاحِد مِنْهُمَا أَرْبَعُونَ، فَيجْمَعُونَ بَينهمَا عِنْد مَجِيء السَّاعِي ليَأْخُذ شَاة. أَو يكون لرجل وَاحِد أَرْبَعُونَ، فيفرقها فِي موضِعين لتسقط الصَّدَقَة.
وَقَوله: وَمَا كَانَ من خليطين فَإِنَّهُمَا يتراجعان بَينهمَا بِالسَّوِيَّةِ. وَهَذَا إِذا أَخذ الْمُصدق من نصيب أَحدهمَا شَاة فَإِنَّهُ يرجع بِقِيمَة نصفهَا على خليطه. وَقد اخْتلف الْعلمَاء: هَل للخلطة تَأْثِير فِي إِيجَاب الزَّكَاة؟ فعندنا لَهَا تَأْثِير، وَأَنَّهَا تجْعَل الْمَالَيْنِ كَالْمَالِ الْوَاحِد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا تَأْثِير لَهَا. والْحَدِيث صَرِيح فِي الْحجَّة عَلَيْهِ.
وَقَوله: لَا يخرج فِي الصَّدَقَة هرمة: وَهِي الْكَبِيرَة. وَلَا ذَات عوار، قَالَ لنا أَبُو مُحَمَّد بن الخشاب: الْعين مَفْتُوحَة فِي العوار: وَهُوَ الْعَيْب.

(1/40)


وَقَوله: وَلَا تَيْس: وَهُوَ فَحل الْغنم، وَإِنَّمَا لم يُؤْخَذ لنقصه ورداءة لَحْمه.
وَقَوله: إِلَّا أَن يَشَاء الْمُصدق: يَعْنِي السَّاعِي؛ لِأَن لَهُ ولَايَة النّظر وَيَده كيد الْفُقَرَاء، إِذْ هُوَ وكيلهم، وَلِهَذَا يَأْخُذ أجرته من مَالهم. وَكَانَ أَبُو عبيد يرويهِ: الْمُصدق، بِفَتْح الدَّال، يُرِيد صَاحب الْمَاشِيَة. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: وَقد خَالفه الروَاة على ذَلِك وَرَوَوْهُ بِكَسْر الدَّال. وَالْمَقْصُود بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ أَن حق الْفُقَرَاء فِي وسط المَال لَا فِي خِيَاره وَلَا فِي رذالته، فَأَما إِذا كَانَ من النّصاب كُله معيبا، فَإِن السَّاعِي يَأْخُذ من عرضه.
وَقَوله: وَفِي الرقة ربع الْعشْر. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الرقة: الْفضة، دَرَاهِم كَانَت أَو غَيرهَا.
وَقَوله: وَمن بلغت عِنْده من الْإِبِل صَدَقَة الْجَذعَة وَلَيْسَت عِنْده وَعِنْده حَقه، فَإِنَّهُ يقبل مِنْهُ الحقة وَيجْعَل مَعَه شَاتين إِن استيسرتا لَهُ، أَو عشْرين درهما. فِيهِ من الْفِقْه أَن كل وَاحِد من الشاتين أَو الدَّرَاهِم أصل فِي نَفسه وَلَيْسَ بِبَدَل، لِأَنَّهُ خير بَينهمَا بِحرف " أَو "، فَعلم أَن ذَلِك لَا يجْرِي مجْرى تَعْدِيل الْقيمَة، لاخْتِلَاف ذَلِك فِي الْأَزْمِنَة والأمكنة، وَإِنَّمَا هُوَ تعويض شَرْعِي، كالغرة فِي الْجَنِين، والصاع فِي الْمُصراة. والسر فِي هَذَا التَّقْوِيم الشَّرْعِيّ أَن الصَّدَقَة كَانَت تُؤْخَذ فِي البراري وعَلى الْمِيَاه حَيْثُ لَا يُوجد سوق وَلَا مقوم يرجع إِلَيْهِ، فَحسن فِي الشَّرْع أَن يقدر شَيْئا يقطع التشاجر.

(1/41)


وَفِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث: أَن عُثْمَان جلس على بِئْر أريس، فَسقط فِيهَا خَاتمه، فَنُزِحَتْ فَلم يُوجد.
بِئْر أريس بِالْمَدِينَةِ، والنزح: الِاسْتِقْصَاء فِي إِخْرَاج مَا فِي الْبِئْر من مَاء.
11 - / 11 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: خرج أَبُو بكر يمشي وَمَعَهُ عَليّ، فَرَأى الْحسن يلْعَب، فَحَمله على عَاتِقه وَقَالَ: " بِأبي، شَبيه بِالنَّبِيِّ، لَيْسَ شَبِيها بعلي " وَعلي يضْحك.
هَذَا الْكَلَام من جنس الرجز الَّذِي كَانَت الْعَرَب ترقص بِهِ أَوْلَادهَا. والترقيص للصَّغِير بالرجز وَنَحْوه من الْكَلَام الْمُرَتّب أسْرع لإيقاظ فطنته، وَقد كَانَت أم الْأَحْنَف ترقصه فَتَقول:
(وَالله لَوْلَا حنف بِرجلِهِ ... )

(ودقة فِي سَاقه من هزله ... )

(مَا كَانَ فِي فتيانكم من مثله ... )

وَكَانَ الْحسن شَدِيد الشّبَه برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ أنس: لم يكن فيهم أحد أشبه بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْحسن. وَمِمَّنْ كَانَ يشبه برَسُول الله جَعْفَر بن أبي طَالب، وَقثم بن الْعَبَّاس، وَأَبُو سُفْيَان بن الْحَارِث، والسائب بن عُبَيْدَة، وَكَانَ من التَّابِعين رجل يُقَال لَهُ كابس بن ربيعَة السَّامِي، من بني سامة بن لؤَي، كَانَ يُشبههُ، فَبعث إِلَيْهِ مُعَاوِيَة فَقبل

(1/42)


بَين عَيْنَيْهِ، وأقطعه قطيعة، وَكَانَ أنس بن مَالك إِذا رَآهُ بَكَى.
12 - / 12 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: لما اسْتخْلف أَبُو بكر قَالَ: لقد علم قومِي أَن حرفتي لم تكن تعجز عَن مُؤنَة أَهلِي، وشغلت بِأَمْر الْمُسلمين، فيأكل آل أبي بكر من هَذَا المَال، ويحترف للْمُسلمين فِيهِ.
الاحتراف: الِاكْتِسَاب، وَكَانَ أَبُو بكر تَاجِرًا، فَلَمَّا ولي الْخلَافَة رام التِّجَارَة، فَقَالَ الصَّحَابَة: افرضوا لخليفة رَسُول الله مَا يعنيه. قَالُوا: نعم، برْدَاهُ إِذا أخلقهما وضعهما وَأخذ مثلهمَا، وظهره إِذا سَافر، وَنَفَقَته على أَهله كَمَا كَانَ ينْفق قبل أَن يسْتَخْلف، فَقَالَ أَبُو بكر: رضيت.
أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْبَزَّاز قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ: أَخْبرنِي ابْن حيويه قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحسن بن مَعْرُوف قَالَ: حَدثنَا الْحُسَيْن بن الْفَهم قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن سعد قَالَ: أخبرنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم قَالَ: حَدثنَا هِشَام الدستوَائي قَالَ: حَدثنَا عَطاء بن السَّائِب قَالَ: لما اسْتخْلف أَبُو بكر أصبح غاديا إِلَى السُّوق وعَلى رقبته أَثوَاب يتجر بهَا، فَلَقِيَهُ عمر بن الْخطاب وَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح، فَقَالَا لَهُ: أَيْن تُرِيدُ يَا خَليفَة رَسُول الله؟ قَالَ: السُّوق، قَالَا: تصنع مَاذَا، قد وليت أَمر الْمُسلمين؟ قَالَ: فَمن أَيْن أطْعم عيالي؟ قَالَا لَهُ: انْطلق حَتَّى نفرض لَك شَيْئا. فَانْطَلق مَعَهُمَا، ففرضوا لَهُ كل يَوْم شطر شَاة، وماكسوه فِي الرَّأْس والبطن.

(1/43)


13 - / 13 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: كَانَ لأبي بكر غُلَام يخرج لَهُ الْخراج، فجَاء يَوْمًا بِشَيْء فَأكل مِنْهُ أَبُو بكر. فَقَالَ: كنت تكهنت لإِنْسَان فِي الْجَاهِلِيَّة، فَهَذَا الَّذِي أكلت مِنْهُ. فَأدْخل أَبُو بكر يَده، فقاء كل شَيْء فِي بَطْنه.
الْخراج: الضريبة الَّتِي يتَّفق العَبْد مَعَ سَيّده على إخْرَاجهَا لَهُ وأدائها إِلَيْهِ فِي كل يَوْم أَو كل شهر. والتكهن: تعَاطِي علم الْغَيْب. وَأَبُو بكر أول من قاء من الشُّبُهَات تحرجا.
14 - / 14 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: أقبل أَبُو بكر من مَسْكَنه بالسنح، فَدخل على عَائِشَة فَبَصر برَسُول الله مسجى بِبُرْدَةٍ، فكشف عَن وَجهه، وأكب عَلَيْهِ فَقبله، ثمَّ بَكَى وَقَالَ: بِأبي أَنْت وَأمي، لَا يجمع الله عَلَيْك موتتين.
السنح: نَاحيَة من نواحي الْمَدِينَة. والمسجى: المغطى. وأكب على الشَّيْء: مَال عَلَيْهِ يلْزمه.
وَكَانَ النَّاس قد شكوا فِي موت رَسُول الله، وَكَانَ عمر يَقُول: لم يمت، حَتَّى جَاءَ أَبُو بكر ثمَّ خرج إِلَى الْمَسْجِد فَقَالَ: من كَانَ يعبد مُحَمَّدًا فَإِن مُحَمَّدًا قد مَاتَ، وَمن كَانَ يعبد الله فَإِن الله حَيّ لَا يَمُوت.

(1/44)


15 - / 15 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: لم يكن أَبُو بكر يَحْنَث فِي يَمِين حَتَّى أنزل الله كَفَّارَة الْيَمين. إِنَّمَا كَانَ يتْرك الْحِنْث لموْضِع التَّعْظِيم، فَلَمَّا نزلت كَفَّارَة الْيَمين، ثمَّ سمع النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول: " من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليكفر " صَار يفعل ذَلِك.
16 - / 16 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: دخل أَبُو بكر على امْرَأَة من أحمس، فرآها لَا تَتَكَلَّم، فَقَالَ: مَالهَا؟ قَالُوا: حجت مصمتة، فَقَالَ لَهَا: تكلمي؛ فَإِن هَذَا لَا يحل، فَقَالَت: مَا بقاؤنا على الْأَمر الصَّالح الَّذِي جَاءَ الله بِهِ بعد الْجَاهِلِيَّة؟ فَقَالَ: مَا استقامت بكم أئمتكم.
المصمت: السَّاكِت، يُقَال: صمت وأصمت: إِذا سكت. وَهَذِه كَانَت عَادَة لَهُم فِي الْجَاهِلِيَّة يتعبدون بهَا. وأرادت بِالْأَمر الصَّالح دين الْإِسْلَام.
وَمعنى قَوْله: مَا استقامت بكم أئمتكم: يَعْنِي أَنَّهَا إِذا حادت ملتم عَن الصَّوَاب.
17 - / 17 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: جَاءَ وَفد بزاخة من أَسد وغَطَفَان إِلَى أبي بكر يسْأَلُون الصُّلْح، فَخَيرهمْ بَين الْحَرْب المجلية وَالسّلم المخزية. فَقَالُوا: هَذِه المجلية قد عرفناها، فَمَا المخزية؟ قَالَ:

(1/45)


ننزع مِنْكُم الْحلقَة والكراع، ونغنم مَا أصبْنَا مِنْكُم، وتردون علينا مَا أصبْتُم منا، وتدون لنا قَتْلَانَا، وَتَكون قَتْلَاكُمْ فِي النَّار، وتتركون أَقْوَامًا يتبعُون أَذْنَاب الْإِبِل حَتَّى يري الله خَليفَة رَسُول الله والمهاجرين أمرا يعذرونكم بِهِ. فَقَالَ عمر: نعم مَا قلت، إِلَّا أَن قَتْلَانَا قتلت على أَمر الله، أجورها على الله، لَيْسَ لَهَا ديات. فتتابع الْقَوْم على مَا قَالَ عمر.
أما الْحَرْب المجلية فَهِيَ المخرجة عَن المَال والوطن. وَالسّلم: الصُّلْح، وَيُقَال بِكَسْر السِّين وَفتحهَا، وتذكر وتؤنث. المخزية: المقرة على الذل وَالصغَار. وأصل الخزي الهوان. قَالَ الزّجاج: المخزي فِي اللُّغَة: المذل المحقور بِأَمْر قد لزمَه وبحجة. يُقَال: أخزيت فلَانا: أَي ألزمته حجَّة أذللته بهَا. وَالْحَلقَة بِسُكُون اللَّام حَلقَة الْحَدِيد، وَالْمرَاد بهَا السِّلَاح، وَقيل: هِيَ الدروع خَاصَّة. والكراع: اسْم لجَمِيع أَنْوَاع الْخَيل. وتدون قَتْلَانَا: أَي تؤدون دياتهم. وَقَوله: يتبعُون أَذْنَاب الْإِبِل: كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى نفيهم.
وَأما قَول عمر: لَيْسَ لقتلانا ديات، فغاية فِي الْحسن؛ لِأَنَّهُ لم يرض أَن يكون عرض الدُّنْيَا عوضا لنفوس الشُّهَدَاء الَّتِي ثومنت بِالْجنَّةِ، فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة} [التَّوْبَة: 111] .

(1/46)


وَفِيمَا انْفَرد بِهِ مُسلم من هَذَا الْمسند
18 - / 18 - قَالَ أَبُو بكر لعمر بعد وَفَاة رَسُول الله: انْطلق بِنَا إِلَى أم أَيمن نزورها كَمَا كَانَ رَسُول الله يزورها.
أم أَيمن اسْمهَا بركَة، وَهِي مولاة رَسُول الله وحاضنته، ورثهَا من أَبِيه وأعتقها حِين تزوج خَدِيجَة، فَتَزَوجهَا عبيد بن زيد، فَولدت لَهُ أَيمن، ثمَّ تزَوجهَا بعد النُّبُوَّة زيد بن حَارِثَة، فَولدت لَهُ أُسَامَة. وَكَانَت حِين هَاجَرت قد أَصَابَهَا عَطش فِي الطَّرِيق، فدلي عَلَيْهَا من السَّمَاء دلو برشا أَبيض، فَشَرِبت حَتَّى رويت، فَكَانَت تَقول: مَا أصابني عَطش بعد ذَلِك. وَقد تعرضت للعطش بِالصَّوْمِ فِي الهواجر فَمَا عطشت. وَحَضَرت أم أَيمن أحدا، فَكَانَت تَسْقِي المَاء، وتداوي الْجَرْحى. وَشهِدت خَيْبَر، وَتوفيت فِي خلَافَة عُثْمَان، وروت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة أَحَادِيث، إِلَّا أَنه لم يخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ شَيْء، فَلذَلِك ذكرت أَخْبَارهَا هَاهُنَا.

(1/47)


كشف الْمُشكل من مُسْند أبي حَفْص عمر بن الْخطاب

أسلم فِي سنة سِتّ من النُّبُوَّة، وَقيل: فِي سنة خمس. قَالَ هِلَال ابْن يسَاف: أسلم بعد أَرْبَعِينَ رجلا وَإِحْدَى عشرَة امْرَأَة. وَقَالَ اللَّيْث: أسلم بعد ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ رجلا. وَيُقَال: إِنَّه أتم الْأَرْبَعين، فَنزل جِبْرِيل فَقَالَ: " يَا مُحَمَّد، استبشر أهل السَّمَاء بِإِسْلَام عمر " وَسمي الْفَارُوق؛ لِأَن الْإِسْلَام ظهر يَوْم أسلم.
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسمِائَة وَسَبْعَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أحد وَثَمَانُونَ.
19 - / 19 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: بَينا عمر يخْطب دخل عُثْمَان بن عَفَّان، فناداه عمر: أَيَّة سَاعَة هَذِه؟ قَالَ: إِنِّي شغلت الْيَوْم، فَلم أنقلب إِلَى أَهلِي حَتَّى سَمِعت التأذين، فَلم أَزْد على أَن تَوَضَّأت. فَقَالَ عمر: وَالْوُضُوء أَيْضا، وَقد علمت أَن رَسُول الله كَانَ يَأْمر بِالْغسْلِ! .
قَوْله: أَيَّة سَاعَة هَذِه؟ لَيْسَ مُرَاده استعلام الْوَقْت، لِأَنَّهُ مَا خطب حَتَّى عرف الْوَقْت، وَإِنَّمَا هُوَ إِنْكَار على عُثْمَان، كَأَنَّهُ يَقُول: كَيفَ

(1/48)


تَأَخَّرت إِلَى هَذِه السَّاعَة، وَكَذَلِكَ قَوْله: وَالْوُضُوء أَيْضا؟ أَي كَيفَ اقتصرت على الْوضُوء دون الْغسْل. وَأَرَادَ مِنْهُ اسْتِعْمَال الْفَضَائِل.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه: أَن غسل الْجُمُعَة لَيْسَ بِوَاجِب؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ وَاجِبا لما تَركه عُثْمَان، ولأمره بِهِ عمر، فَلَمَّا سكت عَن أمره بذلك بِمحضر الصَّحَابَة دلّ على أَنه مسنون.
وَفِيه أَن للْإِمَام أَن يتَكَلَّم فِي الْخطْبَة.
20 - / 20 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كَانَ رَسُول الله يعطيني الْعَطاء فَأَقُول: أعْطه من هُوَ أفقر إِلَيْهِ مني. فَقَالَ: " خُذْهُ، وَمَا جَاءَك من هَذَا المَال وَأَنت غير مشرف لَهُ وَلَا سَائل فَخذه، ومالا فَلَا تتبعه نَفسك ".
المشرف والمستشرف على الشَّيْء: المتطلع إِلَيْهِ الطامع فِيهِ، وَمَتى طمعت النَّفس فِي شَيْء فَحصل لَهَا عَادَتْ فاستعملت آلَات الْفِكر فِي الطمع، فَإِذا وَقع عِنْدهَا الْيَأْس من ذَلِك بالعزم على التّرْك، رَأَتْ أَن الاستشراف لَا يفيدها صرفت الْفِكر إِلَى غير ذَلِك، وَإِذا جَاءَ الشَّيْء لَا عَن استشراف قل فِيهِ نصيب الْهوى، وتمحض تعلق الْقلب بالمسبب. وَقَالَ عَليّ بن عقيل: معنى الحَدِيث: مَا جَاءَ بمسألتك فَإنَّك اكْتسبت فِيهِ الطّلب وَالسُّؤَال، وَلَعَلَّ الْمَسْئُول استحيا أَو خَافَ ردك فأعطاك مصانعة، وَلَا خير فِي مَال خرج لَا عَن طيب نفس، وَمَا استشرفت إِلَيْهِ نَفسك فقد انتظرته وارتقبته، فلنفسك فِيهِ نوع استدعاء، وَمَا جَاءَ من غير ذَلِك فَإِنَّمَا كَانَ المزعج فِيهِ للقلوب نَحْوك، والمستسعي للإقدام

(1/49)


إِلَيْك الْخَالِق سُبْحَانَهُ، فَمَتَى رَددته رددت فِي الْحَقِيقَة على الْمُعْطِي، لِأَن الْمُعْطِي هُوَ الَّذِي أهاج نَحْوك الْقُلُوب. وحنن عَلَيْك النُّفُوس. فَلَمَّا كَانَ هُوَ الَّذِي تولى سوقه إِلَيْك كَانَ ردك لَهُ ردا عَلَيْهِ.
وَقَوله: أَمر لي بعمالة. العمالة: أجر الْعَامِل.
وَقد اشْتَمَل هَذَا الحَدِيث على ثَلَاث فَوَائِد:
أَحدهَا: أَنه من نوى وَجه الله بِعَمَل وَلم يرد ثَوابًا عَاجلا فأثيب، جَازَ لَهُ أَن يَأْخُذ، وَلم يُؤثر أَخذه فِي قَصده الصافي. وَمثل هَذَا أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام سقى لبنتي شُعَيْب [عَلَيْهِ السَّلَام] لله تَعَالَى، فَلَمَّا قَالَت لَهُ إِحْدَاهمَا: {إِن أبي يَدْعُوك ليجزيك} لم يمْتَنع، لِأَنَّهُ مَا عمل ليجازى فَجعل ذكر الْجَزَاء لَغوا.
وَالثَّانيَِة: تَعْلِيم الجري على اخْتِيَار الْحق عز وَجل، فَإِذا بعث شَيْئا قبل، وَإِذا منع رَضِي بِالْمَنْعِ.
وَالثَّالِثَة: أَن مثل هَذَا المستغنى عَنهُ الْآخِذ جعله مَالا، لقَوْله: " فتموله " وَهَذَا يدل على فضل الْغَنِيّ على الْفَقِير، أَو يتَصَدَّق بِهِ فَيكون الثَّوَاب لَهُ، وَلَو لم يَأْخُذهُ فَاتَهُ ذَلِك الْأجر.
وَرُبمَا تعلق بِهَذَا الحَدِيث جهال المتزهدين فِي قعودهم على الْفتُوح. وَلَا حجَّة لَهُم فِي ذَلِك؛ لِأَن قعُود أحدهم فِي رِبَاط مَعْرُوف تهيؤ للقبول، وَمد كف الطّلب، فَهُوَ كمن يفتح حانوتا يقْصد، ثمَّ كَونه يَنْوِي الْقبُول لما يزِيد على استشراف النَّفس؛ لِأَن الاستشراف تطلع مَا، وَهَذَا عازم على الْقبُول قطعا.

(1/50)


ثمَّ لابد من النّظر فِي حَال الْآخِذ والمأخوذ مِنْهُ، فَإِن كَانَ الْمَأْخُوذ زَكَاة أَو صَدَقَة والآخذ يَسْتَحِقهَا جَازَ لَهُ، وَإِن كَانَ غير مُسْتَحقّ، مثل أَن يكون قَادِرًا على الْكسْب، أَو عِنْده مَا يَكْفِيهِ، فقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَا تحل الصَّدَقَة لَغَنِيّ، وَلَا لذِي مرّة سوي ". وَإِن كَانَ هَدِيَّة نظر الْآخِذ فِي حَال نَفسه: هَل يخَاف أَن يكون قبُوله إِيَّاهَا سَببا لمداهنة الْمَأْخُوذ مِنْهُ، أَو لتَعلق قلبه بِهِ، واستشراف نَفسه طَمَعا فِي تكْرَار الْعَطاء أَو لمنته عَلَيْهِ، أَو كَسبه غير طيب. فَمن خَافَ شَيْئا من هَذِه الْأَشْيَاء لم يقبل، وَقد كَانَ السّلف ينظرُونَ فِي هَذِه الدقائق، فيقل قبولهم للعطايا، ثمَّ جَاءَ أَقوام يدعونَ التزهد، وَإِنَّمَا مُرَادهم الرَّاحَة وإيثار البطالة، وَلَا يبالون أخذُوا من ظَالِم أَو مكاس.
وَيُمكن أَن تكون الْإِشَارَة بقوله: " وَمَا جَاءَك من هَذَا المَال " إِلَى بَيت المَال الَّذِي للْمُسلمِ فِيهِ حق، فَيُؤْمَر بِالْأَخْذِ مِنْهُ بِخِلَاف غَيره، وَيكون الاستشراف الْمَكْرُوه إِلَى مَا يزِيد على حق الْمُسلم فِيهِ.
21 - / 21 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " إِن الله يَنْهَاكُم أَن تحلفُوا بِآبَائِكُمْ " فَقَالَ عمر: فو الله مَا حَلَفت بهَا مُنْذُ سَمِعت رَسُول الله ينْهَى عَنْهَا ذَاكِرًا وَلَا آثرا.
كَانَ من عَادَة الْعَرَب أَن يحلفوا بآبائهم. وَالْحلف بالشَّيْء تَعْظِيم لَهُ، فَنهى رَسُول الله عَن تَعْظِيم غير الله بالقسم بِهِ.

(1/51)


قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: لَيْسَ قَوْله ذَاكِرًا من الذّكر بعد النسْيَان، إِنَّمَا أَرَادَ: متكلما بذلك، كَقَوْلِك ذكرت لفُلَان حَدِيث كَذَا. وَقَوله: وَلَا آثرا: يُرِيد مخبرا عَن غَيْرِي أَنه حلف بِهِ. وَمِنْه: حَدِيث مأثور: أَي يخبر بِهِ النَّاس بَعضهم بَعْضًا.
فَإِن قيل: فقد روى أَبُو دَاوُد فِي " سنَنه " من حَدِيث طَلْحَة بن عبيد الله أَن أَعْرَابِيًا جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهُ عَمَّا افْترض الله عَلَيْهِ، فَلَمَّا أخبرهُ قَالَ: وَالله لَا أَزِيد على هَذَا وَلَا أنقص، فَقَالَ رَسُول الله: " أَفْلح وَأَبِيهِ إِن صدق. دخل الْجنَّة وَأَبِيهِ إِن صدق ". فَكيف ينْهَى عَن شَيْء يَسْتَعْمِلهُ؟
فَالْجَوَاب من أَرْبَعَة أوجه:
أَحدهَا: أَنه لَيْسَ فِي الْأَلْفَاظ المخرجة فِي الصَّحِيح، وَالصَّحِيح مقدم.
وَالثَّانِي: أَن أَكثر الروَاة يروون بِالْمَعْنَى على مَا يَظُنُّونَهُ، فَيحمل على أَنه من قَول بَعضهم.
وَالثَّالِث: أَنه يحمل على مَا قبل النَّهْي؛ لِأَن قَوْله: " إِن الله يَنْهَاكُم " يشْعر بإتيان وَحي فِي ذَلِك.
وَالرَّابِع: أَن يكون هَذَا مِمَّا جرى على لِسَانه على سَبِيل الْعَادة، وَلم يقْصد بِهِ قصد الْقَوْم، لأَنهم كَانُوا يعظمون الْآبَاء ويفتخرون بهم، وَكَانُوا إِذا اجْتَمعُوا بِالْمَوْسِمِ ذكرُوا فعال آبَائِهِم وأيامهم فِي الْجَاهِلِيَّة

(1/52)


فافتخروا بذلك، فَنزل قَوْله تَعَالَى: {فاذكروا الله كذكركم آبَاءَكُم أَو أَشد ذكرا} [الْبَقَرَة: 200]
22 - / 22 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: قَالَ ابْن عمر: دخلت على حَفْصَة ونوساتها تنظف، فَقَالَت: أعلمت أَن أَبَاك غير مستخلف؟ قلت: مَا كَانَ ليفعل. قَالَت: إِنَّه فَاعل ... فَذكر الحَدِيث.
وَفِيه أَن عمر قَالَ: وددت أَن حظي مِنْهَا الكفاف لَا لي وَلَا عَليّ. فَقَالُوا: جَزَاك الله خيرا، رَاغِب وراهب.
النوسات: مَا تحرّك من شعر أَو حلي متدليا. والنوس: تحرّك الشَّيْء متذبذبا. يُقَال: نَاس ينوس نوسا ونوسانا. وَكَانَ ملك يُقَال لَهُ ذُو نواس، سمي بذلك لذؤابة كَانَت تنوس على ظَهره.
وَيُقَال: نطف الشّعْر وَغَيره ينطُف وينطِف: إِذا قطر. وَلَيْلَة نطوف: دائمة الْقطر. وَكَأَنَّهُ دخل عَلَيْهَا وَقد اغْتَسَلت.
وَلما علم عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يسْتَخْلف، وَأَن أَبَا بكر اسْتخْلف، أَرَادَ الْجمع بَين الْحَالَتَيْنِ، فنص على سِتَّة وَلم يعين أحدا مِنْهُم.
والكفاف: مَا لَا يقصر عَن المُرَاد وَلَا يفضل عَن الْحَاجة، وَأَصله الْمُسَاوَاة لما جعل بإزائه، فَكَأَنَّهُ يَقُول: لَيْتَني أسلم ولايتي لَا أكتسب أجرا وَلَا أحتقب وزرا.
وَقَوله: رَاغِب وراهب: مَعْنَاهُ: إِنِّي أَرْجُو وأخاف.
23 - / 23 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي كنت

(1/53)


نذرت فِي الْجَاهِلِيَّة أَن أعتكف لَيْلَة - وَفِي لفظ: يَوْمًا - فِي الْمَسْجِد الْحَرَام. قَالَ: " فأوف بِنَذْرِك ".
الِاعْتِكَاف: الْإِقَامَة واللبث. وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن الِاعْتِكَاف يَصح بِلَا صَوْم، وَيصِح فِي اللَّيْل وَحده، وَهَذَا قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: أَنه لَا يَصح، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، وَمَالك.
فَإِن قَالَ قَائِل: نذر الْكَافِر مطرح، فَكيف أثبت لَهُ الرَّسُول حكما؟
فَالْجَوَاب: أَن أَصْحَابنَا اخْتلفُوا فِي هَذَا، فَمنهمْ من منع وَقَالَ: مَتى كَانَ نذر الْكَافِر على وفَاق حكم الْإِسْلَام فَهُوَ صَحِيح. وَمِنْهُم من تَأَول فَقَالَ: معنى قَوْله: فِي الْجَاهِلِيَّة، أَي وَنحن بِمَكَّة قبل فتحهَا وَأَهْلهَا جَاهِلِيَّة، فعلى هَذَا لَا يكون ناذرا فِي الْكفْر. ثمَّ إِن عندنَا وَعند الشَّافِعِي أَن يَمِين الْكَافِر صَحِيحَة، وَإِذا حنث وَجَبت عَلَيْهِ الْكَفَّارَة، خلافًا لأبي حنيفَة. قَالَ الْخطابِيّ: إِذا جَازَ إِيلَاء الْكَافِر وَأخذ بِحكمِهِ فِي الْإِسْلَام جَازَت يَمِينه وظهاره.
وَقد روى هَذَا الحَدِيث ابْن عمر فَقَالَ فِيهِ: إِنِّي نذرت أَن أعتكف. قَالَ: " اذْهَبْ فاعتكف " فعلى هَذَا اللَّفْظ إِنَّمَا أمره بالاعتكاف، لَا على أَن النّذر لَازم.

(1/54)


24 - / 24 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " الْمَيِّت يعذب فِي قَبره بِمَا نيح عَلَيْهِ " وَفِي لفظ: " مَا نيح عَلَيْهِ " وَفِي لفظ: " ببكاء الْحَيّ عَلَيْهِ ". وَفِي لفظ: أَن عمر قَالَ ذَلِك لما عولت حَفْصَة وصهيب عَلَيْهِ.
أما قَوْله: بِمَ نيح عَلَيْهِ: فَمَعْنَاه. بالنياحة عَلَيْهِ. وَقَوله: مَا نيح عَلَيْهِ أَي مُدَّة النِّيَاحَة. وعولت بِمَعْنى أعولت. وَقَالَت الْخطابِيّ: عول لَيْسَ بجيد، وَإِنَّمَا الصَّوَاب أعول.
فَإِن قيل: كَيفَ يعذب الْمَيِّت بِفعل غَيره وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} [الْأَنْعَام: 164] ؟ ثمَّ إِن الْإِنْسَان لَا يملك رد الْبكاء، وَقد بَكَى رَسُول الله على وَلَده، وَقَالَ: " إِن الْعين لتدمع "، فَإِذا جَازَ الْبكاء فِي حق الباكي وَمَا يُؤَاخذ بِهِ، فَكيف يُؤَاخذ بِهِ غَيره؟
فَالْجَوَاب: أما الْبكاء فِي قَوْله: " يعذب ببكاء الْحَيّ " فَلَيْسَ المُرَاد بِهِ دمع الْعين فَحسب، وَإِنَّمَا المُرَاد بِهِ الْبكاء الَّذِي يتبعهُ النّدب والنياحة، فَإِذا اجْتمع ذَلِك سمي بكاء؛ لِأَن النّدب على الْمَيِّت كالبكاء عَلَيْهِ، وَهَذَا مَعْرُوف فِي اللُّغَة، سَمِعت شَيخنَا أَبَا مَنْصُور اللّغَوِيّ يَقُول: يُقَال للبكاء إِذا تبعه الصَّوْت وَالنَّدْب بكاء، وَلَا يُقَال للنَّدْب إِذا خلا عَن بكاء بكاء. فَيكون المُرَاد بِالْحَدِيثِ الْبكاء الَّذِي يتبعهُ النّدب، لَا مُجَرّد الدمع، وَلَا إِشْكَال فِي مُؤَاخذَة الْحَيّ بالندب والنياحة؛ لِأَنَّهُ أَمر مَنْهِيّ عَنهُ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَال فِي مُؤَاخذَة الْمَيِّت بذلك.
وَجَوَاب هَذَا الْإِشْكَال من خَمْسَة أوجه:

(1/55)


أَحدهَا: أَن حَدِيث عمر مُجمل، وَقد فسرته عَائِشَة، فجَاء فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيثهَا: أَنه ذكر لَهَا حَدِيث ابْن عمر: " إِن الْمَيِّت ليعذب ببكاء الْحَيّ " فَقَالَت: يغْفر الله لأبي عبد الرَّحْمَن، أما إِنَّه لم يكذب، وَلكنه نسي أَو أَخطَأ، إِنَّمَا مر رَسُول الله على يَهُودِيَّة يبكى عَلَيْهَا فَقَالَ " إِنَّه ليبكى عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لتعذب فِي قبرها ".
وَفِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: إِنَّمَا قَالَ رَسُول الله: " إِن أهل الْمَيِّت يَبْكُونَ عَلَيْهِ، وَإنَّهُ ليعذب بجرمه " فعلى هَذَا يكون التعذيب لَا لأجل النوح وَيكون الرَّاوِي: " بِمَا نيح عَلَيْهِ " غالطا فِي اللَّفْظ. وَقد كَانَت عَائِشَة تحفظ أَشْيَاء ترد بهَا على جمَاعَة من الصَّحَابَة، فيرجعون إِلَى قَوْلهَا. وَمن ذَلِك مَا سَيَأْتِي فِي مُسْند ابْن عمر: أَنه سُئِلَ: هَل اعْتَمر رَسُول الله فِي رَجَب؟ فَقَالَ نعم. فَقَالَت عَائِشَة: مَا اعْتَمر قطّ فِي رَجَب، وَابْن عمر يسمع، فَلم يُنكر مَا قَالَت، وَمَا ذَاك إِلَّا أَنه علم أَنه غلط، فَرجع إِلَى قَوْلهَا.
وَهَذَا الْجَواب لَا أعْتَمد عَلَيْهِ لثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا أَن مَا روته عَائِشَة حَدِيث وَهَذَا حَدِيث، وَلَا تنَاقض بَينهمَا، بل لكل وَاحِد مِنْهُمَا حكمه. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أنْكرت برأيها وَقَالَت بظنها، وَقَول الرَّسُول إِذا صَحَّ لَا يلْتَفت مَعَه إِلَى رَأْي، وَلَيْسَ هَذَا بِأَعْجَب من إنكارها الرُّؤْيَة لَيْلَة الْمِعْرَاج، وَإِنَّمَا يرجع إِلَى الروَاة المثبتين. وَالثَّالِث: أَن مَا ذكرته لم يحفظ إِلَّا عَنْهَا، وَذَلِكَ الحَدِيث مَحْفُوظ عَن عمر، وَابْن عمر،

(1/56)


والمغيرة، وهم أولى بالضبط مِنْهَا.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه مَحْمُول على من أوصى بذلك، وَهَذَا مَشْهُور من عادات الْعَرَب: أَنهم كَانُوا يوصون بالندب والنياحة، كَمَا قَالَ عبد الْمطلب لبنَاته عِنْد وَفَاته: ابكينني وَأَنا أسمع، فبكته كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ بِشعر، فَلَمَّا سمع أُمَيْمَة وَقد أمسك لِسَانه، جعل يُحَرك رَأسه: أَي قد صدقت، وَقد كنت كَذَلِك. وَكَانَ الَّذِي قَالَت:
(أعيني جودا يدمع دُرَر ... على طيب الخيم والمعتصر)

(على ماجد الْجد وارى الزِّنَاد ... جميل الْمحيا عَظِيم الْخطر)

(على شيبَة الْحَمد ذِي المكرمات ... وَذي الْمجد والعز والمفتخر)

(وَذي الْحلم وَالْفضل فِي النائبات ... كَبِير المكارم جم الْفَخر)

(لَهُ فضل مجد على قومه ... مُبين يلوح كضوء الْقَمَر)

(أَتَتْهُ المنايا فَلم تشوه ... بِصَرْف اللَّيَالِي وريب الْقدر)

وَقَالَ لبيد يُخَاطب ابْنَتَيْهِ:
(فقوما فقولا بِالَّذِي قد علمتما ... وَلَا تخمشا وَجها وَلَا تحلقا الشّعْر)

(وقولا: هُوَ الْمَرْء الَّذِي لَا صديقه ... أضاع، وَلَا خَان الْأَمِير وَلَا غدر)

(إِلَى الْحول ثمَّ اسْم السَّلَام عَلَيْكُمَا ... وَمن يبك حولا كَامِلا فقد اعتذر)

وَقَالَ آخر:
(إِذا مت فانعيني بِمَا أَنا أَهله ... وشقي عَليّ الجيب يَا ابْنة معبد)

(1/57)


وَهَذَا كثير فِي أشعارهم. وعَلى هَذَا يلْزم الْمَيِّت الْعقُوبَة، لِأَنَّهُ أوصى بذلك وَأمر بِهِ.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن " الْبَاء " فِي قَوْله: ببكاء أَهله بِمَعْنى " عِنْد "، كَقَوْلِه تَعَالَى: {والمستغفرين بالأسحار} [آل عمرَان: 17] وَالْمعْنَى أَنه يعذب عِنْد وَقت النِّيَاحَة، وغالب النِّيَاحَة يَقع عِنْد قرب الْعَهْد، ومعظم عَذَاب المعذب فِي الْقَبْر يكون عِنْد نزُول اللَّحْد، ثمَّ يَدُوم مِنْهُ مَا يَدُوم، فَيكون الْعَذَاب وَاقعا حَال النوح لَا بِسَبَب النوح. حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ عَن بعض أهل الْعلم.
وَالْوَجْه الرَّابِع: أَن النوح يتَضَمَّن الثَّنَاء على الْمَيِّت بفضائله، وَكَانَ الْغَالِب على فَضَائِل الْجَاهِلِيَّة أَنهم يسْتَحقُّونَ التعذيب بهَا، فَإِنَّهُ قل أَن يرؤس مِنْهُم إِلَّا متجبر، وَكَانُوا يُغير بَعضهم على بعض، فَيصير لَهُم الْأَمْوَال من ذَلِك. فَإِذا قَالَت النائحة: يَا رئيساه، وَيَا جبلاه، عذب لكَونه رَأس بِغَيْر حق، وَعلا على وَجه التجبر، فيعذب بِمَا يمدح بِهِ، ويضاف الْعَذَاب إِلَى النوح لِأَنَّهُ السَّبَب فِي ظُهُور الْعَذَاب. وَنَحْو هَذَا قَوْله: {ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} [الدُّخان: 49] فَهَذَا مِمَّا يوبخ بِهِ أَبُو جهل فِي النَّار، لِأَنَّهُ عز بِغَيْر حق.
وَرُبمَا وَقع تَعْذِيب الْمُسلم بقوله النائحة: واعضداه، من جِهَة أَنه كَانَ يظنّ أَنه عضد لأَهله فِي بَاب الرزق، وَأَنه ركنهم فِي النَّصْر، كَمَا قَالَ بَعضهم عِنْد الْمَوْت لأَهله:
(إِلَى من ترجعون إِذا حثوتم ... بِأَيْدِيكُمْ عَليّ من التُّرَاب)

وَيُؤَيّد هَذَا مَا أخبرنَا بِهِ هبة الله بن مُحَمَّد قَالَ: أخبرنَا الْحسن بن

(1/58)


عَليّ قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر بن مَالك قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَامر قَالَ: حَدثنَا زُهَيْر عَن أسيد بن أبي أسيد عَن مُوسَى بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن أَبِيه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " الْمَيِّت يعذب ببكاء الْحَيّ، إِذا قَالَت النائحة: واعضداه، واناصراه، واكاسياه، جبذ الْمَيِّت وَقيل لَهُ: أَنْت عضدها؟ أَنْت كاسيها؟ " وَسَيَأْتِي فِي مُسْند النُّعْمَان بن بشير قَالَ: أُغمي على عبد الله بن رَوَاحَة فَجعلت أُخْته عمْرَة تبْكي: واجبلاه، واكذا، واكذا، فَقَالَ حِين أَفَاق: مَا قلت شَيْئا إِلَّا قيل لي: أَنْت كَذَلِك؟ فَلَمَّا مَاتَ لم تبك عَلَيْهِ.
فعلى هَذَا الْوَجْه إِذا كَانَ الْمَيِّت كَافِرًا أَو عَاصِيا عذب، وَكَانَ النوح سَببا فِي تعذيبه بذنوبه، وَإِن كَانَ صَالحا أخبر بِمَا تَقول النائحة فيزيده ذَلِك ألما، لِأَنَّهُ يَرْجُو الاسْتِغْفَار، فَإِذا بلغه مَا يكرههُ كَانَ غمه عذَابا؛ لعلمه أَن الله تَعَالَى يكره ذَلِك.
وَقد أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي قَالَ: أخبرنَا الْجَوْهَرِي قَالَ: أخبرنَا ابْن حيويه قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن مَعْرُوف قَالَ: أخبرنَا الْحُسَيْن ابْن الْفَهم قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن سعد قَالَ: أخبرنَا عُثْمَان بن عمر قَالَ: أخبرنَا يُونُس بن يزِيد عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: لما توفّي أَبُو بكر أَقَامَت عَائِشَة النوح، فَبلغ عمر، فجَاء فنهاهن عَن النوح على أبي بكر، فأبين أَن ينتهين، فَقَالَ لهشام بن الْوَلِيد: اخْرُج إِلَى ابْنة أبي قُحَافَة، فعلاها بِالدرةِ ضربات، فَتفرق النوائح حِين سمعن

(1/59)


ذَلِك، وَقَالَ: تردن أَن يعذب أَبُو بكر ببكائكن، إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ ". قلت: ابْنة أبي قُحَافَة هِيَ أم فَرْوَة أُخْت أبي بكر، فَلَمَّا لم يُمكنهُ أَن يكلم عَائِشَة هَيْبَة لَهَا واحتراما، أدب هَذِه.
وَالْوَجْه الْخَامِس: أَنه يعذب بذنوبه، وَيذكر لَهُ النوح توبيخا، فَكَأَنَّهُ يُقَال لَهُ: أَيهَا الْمُسِيء الْمُسْتَحق للتعذيب، أمثلك ينْدب عَلَيْهِ؟ فَكلما ذكر لَهُ مَا نيح بِهِ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِك عذَابا، وَرب توبيخ زَاد على التعذيب.
25 - / 25 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: قَالَ عمر على مِنْبَر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: نزل تَحْرِيم الْخمر، وَهِي من خَمْسَة: من الْعِنَب، وَالتَّمْر، وَالْعَسَل، وَالْحِنْطَة، وَالشعِير. وَالْخمر مَا خامر الْعقل.
إِنَّمَا ذكر عمر هَذِه الْخَمْسَة لِأَن الْغَالِب عمل الْخمر مِنْهَا، وَقد تعْمل من غَيرهَا، وَقد اتّفق عُلَمَاء الْإِسْلَام على أَن الْخمر اسْم لعصير الْعِنَب المشتد الَّذِي يحصل بِهِ السكر، وَاخْتلفُوا فِي المشتد من غَيره مثل نَقِيع التَّمْر وَالزَّبِيب وَالْحِنْطَة وَنَحْو ذَلِك، فَذهب الْجُمْهُور مِنْهُم مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل إِلَى أَنه يَقع عَلَيْهِ اسْم الْخمر، ويشارك الْمُتَّفق عَلَيْهِ فِي التَّحْرِيم، وَخَالف فِي ذَلِك أَبُو حنيفَة. وَقَول عمر: الْخمر مَا خامر الْعقل، دَلِيل على مَا قُلْنَا.
فَأَما تَسْمِيَة الْخمر خمرًا، فَذكر مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي فِي ذَلِك

(1/60)


ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا سميت خمرًا لِأَنَّهَا تخامر الْعقل: أَي تخالطه. وَالثَّانِي: لِأَنَّهَا تخمر الْعقل: أَي تستره، من قَوْلهم: خمرت الْمَرْأَة رَأسهَا بخمار: أَي غطته. وَالثَّالِث: لِأَنَّهَا تخمر: أَي تغطى لِئَلَّا يَقع فِيهَا شَيْء.
وَجَمِيع الأنبذة قد سَاوَى عصير الْعِنَب فِي هَذَا الْمَعْنى فشملها اسْمه، وَهَذَا مَبْنِيّ على مَسْأَلَة أصولية وَهِي: هَل يجوز إِثْبَات الْأَسْمَاء بِالْقِيَاسِ أم لَا؟ فَعِنْدَ جُمْهُور الْعلمَاء يجوز ذَلِك، فيسمى النَّبِيذ خمرًا قِيَاسا على الْخمر، والنباش سَارِقا قِيَاسا على السَّارِق، واللوطي زَانيا قِيَاسا على الزَّانِي. وَيدل على هَذَا قَول عمر: الْخمر مَا خامر الْعقل. وَذهب الحنفيون وَجُمْهُور الْمُتَكَلِّمين إِلَى الْمَنْع من ذَلِك، وَقَالُوا: قد نراهم يسمون الزّجاج الَّذِي تقر فِيهِ الْمَائِعَات قَارُورَة، وَلَا يسمون الْكوز قَارُورَة، فَبَان بذلك أَن الْأَسْمَاء تثبت توقيفا.
وَأجَاب الْأَولونَ فَقَالُوا: الْأَسْمَاء على ضَرْبَيْنِ: أَعْلَام، وَهِي الألقاب الْمَحْضَة الَّتِي يقْصد مِنْهَا تَعْرِيف الْأَعْيَان وتفريق مَا بَين الذوات لَا لِمَعْنى وَلَا لإِثْبَات صفة، كَقَوْلِنَا: زيد وَعمر، فَهَذَا من الِاصْطِلَاح وَالِاخْتِيَار، وَلَا مدْخل للْقِيَاس فِي ذَلِك. وَالثَّانِي: اسْم مُقَيّد بِصفة وضع لأَجلهَا، كَقَوْلِنَا: قَاتل؛ فَإِنَّهُ سمي بذلك لوُجُود الْقَتْل مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْخمر لمَكَان مخامرتها لِلْعَقْلِ. على أَن الصَّحَابَة الَّذين سموا هَذِه الْأَشْيَاء أفْصح الْعَرَب. وَأما تَسْمِيَة القارورة خَاصَّة فَإِنَّهُم خالفوا بَين الْأَسْمَاء لاخْتِلَاف الْأَنْوَاع، وَذَلِكَ لَا يرفع أصل الْقيَاس فِيمَا بَقِي.

(1/61)


وَفِي هَذَا الحَدِيث: ثَلَاث وددت أَن رَسُول الله عهد إِلَيْنَا فِيهَا: الْجد، والكلالة، وأبواب من الرِّبَا.
أما ذكر الْجد فلموضع الِاخْتِلَاف فِيهِ، فَأحب عمر أَن ينص الرَّسُول على شَيْء يسْتَغْنى بِهِ عَن الِاخْتِلَاف فِي الْجد، وَفِي أَبْوَاب الرِّبَا.
وَأما الْكَلَالَة فَفِيهَا أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا مَا دون وَالْوَالِد الْوَلَد. قَالَه أَبُو بكر الصّديق، وَعمر، وَعلي، وَابْن مَسْعُود، وَزيد بن ثَابت، وَابْن عَبَّاس فِي خلق.
وَالثَّانِي: أَنه من لَا ولد لَهُ. رُوِيَ عَن عمر أَيْضا، وَهُوَ قَول طَاوس.
وَالثَّالِث: أَنه مَا عدا الْوَالِد، قَالَه الحكم.
وَالرَّابِع: أَن الْكَلَالَة بَنو الْعم الأباعد، قَالَه ابْن الْأَعرَابِي.
وعَلى مَاذَا تقع الْكَلَالَة، فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: على الْحَيّ الْوَارِث. وَالثَّانِي: على الْمَيِّت الْمَوْرُوث.
وَفِيمَا أخذت مِنْهُ الْكَلَالَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه اسْم مَأْخُوذ من الْإِحَاطَة، وَمِنْه الإكليل لإحاطته بِالرَّأْسِ. وَالثَّانِي من الكلال، كَأَنَّهُ يصل الْمِيرَاث من بعد وإعياء. قَالَ الْأَعْشَى:
(فآليت لَا أرثي لَهَا من كَلَالَة ... وَلَا من حفى حَتَّى تزور مُحَمَّدًا)

26 - / 26 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: قَالَ ابْن عَبَّاس: كنت أَقْْرِئ

(1/62)


رجَالًا من الْمُهَاجِرين مِنْهُم عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
أما إقراء ابْن عَبَّاس لمثل عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فَفِيهِ تَنْبِيه على أَخذ الْعلم من أَهله وَإِن صغرت أسنانهم أَو قلت أقدارهم. وَقد كَانَ حَكِيم ابْن حزَام يقْرَأ على معَاذ بن جبل، فَقيل لَهُ: تقْرَأ على هَذَا الْغُلَام الخزرجي؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أهلكنا التكبر.
وَفِي الحَدِيث: أَن الْمَوْسِم يجمع الرعاع والغوغاء، فأمهل حَتَّى تقدم الْمَدِينَة فتخلص بِأَهْل الْفِقْه.
الرعاع: السفلة، والغوغاء نَحْو ذَلِك، وأصل الغوغاء صغَار الْجَرَاد. وَفِي هَذَا تَنْبِيه على أَلا يودع الْعلم عِنْد غير أَهله، وَلَا يحدث الْقَلِيل الْفَهم بِمَا لَا يحْتَملهُ فهمه، وَمن هَذَا الْمَعْنى قَالَ الشَّافِعِي:
(أأنثر درا بَين سارحة النعم ... أأنظم منثورا لراعية الْغنم)

(لَئِن سلم الله الْكَرِيم بفضله ... وصادفت أَهلا للعلوم وللحكم)

(بثثت مُفِيدا واستفدت ودادهم ... وَإِلَّا فمخزون لدي ومكتتم)

(وَمن منح الْجُهَّال علما أضاعه ... وَمن منع المستوجبين فقد ظلم)

قَوْله: فقدمنا الْمَدِينَة، وَذَاكَ أَن عمر قبل مشورة ابْن عَبَّاس، فَلم يتَكَلَّم بذلك حَتَّى قدم الْمَدِينَة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث زِيَادَة لم تذكر فِي الصَّحِيحَيْنِ: قَالَ ابْن عَبَّاس: فعجلت الرواح صَكَّة عمي. قَالَ أَبُو هِلَال العسكري: عمي رجل

(1/63)


غزا قوما فِي قَائِم الظهيرة، فصكهم صَكَّة شَدِيدَة، فَصَارَ مثلا لكل من جَاءَ فِي ذَلِك الْوَقْت، لِأَنَّهُ كَانَ خلاف الْعَادة فِي الْغَارة؛ لِأَن وَقتهَا الْغَدَاة. قَالَ: وَقيل: عمي تَصْغِير أعمى، وَهُوَ تَصْغِير التَّرْخِيم، قَالَ: وَيَعْنِي بِهِ الظبي، وَيُرَاد أَنه يسدر فِي شدَّة الْحر والهواجر، فَكل مَا يستقبله يصكه. قَالَ: وَرُوِيَ: صَكَّة عمى على فعلى، مثل حُبْلَى: وَهُوَ اسْم رجل.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: أنزل الله آيَة الرَّجْم، فأخشى أَن يَقُول قَائِل: مَا نجد الرَّجْم فِي كتاب الله، فيضلوا.
اعْلَم أَن الْمَنْسُوخ من الْقُرْآن على ثَلَاثَة أضْرب.
أَحدهَا: مَا نسخ لَفظه وَحكمه.
الثَّانِي: مَا نسخ حكمه وبقى لَفظه، وَهُوَ كثير، لأَجله وضعت كتب النَّاسِخ والمنسوخ.
وَالثَّالِث: مَا نسخ لَفظه وَبَقِي حكمه، كآية الرَّجْم.
فَمَعْنَى قَول عمر: فيضلوا: أَن الْإِجْمَاع انْعَقَد على بَقَاء حكم ذَلِك اللَّفْظ الْمَرْفُوع من آيَة الرَّجْم، وَترك الْإِجْمَاع ضلال.
فَإِن قيل: فَمَا فَائِدَة نسخ رسم آيَة الرَّجْم من الْمُصحف مَعَ كَون حكمهَا بَاقِيا، وَلَو كَانَت فِي الْمُصحف لاجتمع الْعَمَل بحكمها وثواب تلاوتها؟
فقد أجَاب عَنهُ ابْن عقيل فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك ليظْهر بِهِ مِقْدَار طَاعَة

(1/64)


هَذِه الْأمة فِي المسارعة إِلَى بذل النُّفُوس بطرِيق الظَّن من غير استقصاء لطلب طَرِيق مَقْطُوع بِهِ فيسرعون قنوعا بأسرع شَيْء، كَمَا سارع الْخَلِيل إِلَى ذبح وَلَده بمنام، والمنام أدنى طرق الْوَحْي وأقلها.
وَقَوله: أَو كَانَ الْحَبل. قَالَ ابْن جرير: يَعْنِي حَبل المحصنة الَّتِي لَا زوج لَهَا، وَلَا يُنكر الزَّانِي أَنه من زِنَاهُ.
وَقَوله: " لَا تطروني " الإطراء: الإفراط فِي الْمَدْح. وَالْمرَاد بِهِ هَاهُنَا الْمَدْح الْبَاطِل. وَالَّذين أطروا عِيسَى ادعوا أَنه ولد الله، تَعَالَى الله عَن ذَلِك، واتخذوه إِلَهًا، وَلذَلِك قَالَ: " وَلَكِن قُولُوا: عبد الله وَرَسُوله ".
فَإِن قَالَ قَائِل: وَمَا علمنَا أَن أحدا ادّعى فِي رَسُول الله مَا ادّعى فِي عِيسَى.
فَالْجَوَاب أَنهم بالغوا فِي تَعْظِيمه، حَتَّى قَالَ معَاذ بن جبل: يَا رَسُول الله، رَأَيْت رجَالًا بِالْيمن يسْجد بَعضهم لبَعض، أَفلا نسجد لَك؟ فَقَالَ: " لَو كنت آمرا بشرا أَن يسْجد لبشر، لأمرت الْمَرْأَة أَن تسْجد لزَوجهَا " فنهاهم عَمَّا عساه يبلغ بهم الْعِبَادَة. ثمَّ لَيْسَ من شَرط النَّهْي أَن يكون الْمنْهِي عَنهُ قد فعل، وَإِنَّمَا هُوَ منع من أَمر يجوز أَن يَقع.
وَقَوله: كَانَت بيعَة أبي بكر فلتة. الفلتة: مَا وَقع عَاجلا من غير تمكث. وَرُبمَا توهم سامع هَذَا الْكَلَام أَن عمر كالنادم على بيعَة أبي بكر، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا استعجل عمر بالبيعة مَخَافَة الْفِتْنَة،

(1/65)


وَلَو وَقع توقف لم تؤمن. قَالَ أَبُو عبيد: عوجل ببيعة أبي بكر خوف انتشار الْأَمر، وَأَن يطْمع من لَيْسَ بِموضع لذَلِك، فَكَانَت تِلْكَ الفلتة هِيَ الَّتِي وقى الله بهَا الشَّرّ الْمخوف. وَقَالَ ثَعْلَب: فِي الْكَلَام إِضْمَار؛ تَقْدِيره: كَانَ فلتة من فتْنَة وقى الله شَرها. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: وَحدثنَا أَبُو عمر عَن ثَعْلَب عَن ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: الفلتة: اللَّيْلَة يشك فِيهَا: هَل من رَجَب أَو شعْبَان، وَقد كَانَ الْعَرَب يعظمون الْأَشْهر الْحرم وَلَا يقتتلون فِيهَا، وَإِذا كَانَ آخر لَيْلَة من الْأَشْهر الْحرم فَرُبمَا شكّ فِيهَا قوم: هَل هِيَ من الْحرم أم من الْحَلَال؟ فيبادر الموتور الحنق فِي تِلْكَ اللَّيْلَة، فينتهز الفرصة فِي إِدْرَاك ثَأْره، فيكثر الْفساد فِي تِلْكَ اللَّيْلَة، وَسَفك الدِّمَاء، وَشن الغارات. قَالَ الشَّاعِر يذكر ذَلِك:
(سَائل لقيطا وأشياعها ... وَلَا تدعن وسل جعفرا)

(غَدَاة الْعرُوبَة من فلتة ... لمن تركُوا الدَّار والمحضرا)

فَشبه عمر أَيَّام حَيَاة رَسُول الله وَمَا كَانَ النَّاس عَلَيْهِ من الألفة وَوُقُوع الأمنة بالشهر الْحَرَام الَّذِي لَا قتال فِيهِ. وَكَانَ مَوته شبه الفلتة الَّتِي هِيَ خُرُوج من الْحرم، لما ظهر فِي ذَلِك من الْفساد، فوقى الله شَرها ببيعة أبي بكر.
قلت: وَقد روينَا عَن سيف بن عمر عَن مُبشر عَن سَالم بن عبد الله قَالَ: قَالَ عمر: كَانَت بيعَة أبي بكر فلتة. قلت: مَا الفلتة؟ قَالَ: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يتحاجزون فِي الْحرم فَإِذا كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي يشك فِيهَا

(1/66)


أدغلوا فَأَغَارُوا، وَكَذَلِكَ كَانَ يَوْم مَاتَ رَسُول الله أدغل النَّاس فِيهِ، من بَين مُدع إِمَارَة، أَو جَاحد زَكَاة، فولا اعْتِرَاض أبي بكر دونهَا لكَانَتْ الفضيحة.
وَقَوله: لَيْسَ فِيكُم من تقطع إِلَيْهِ الْأَعْنَاق مثل أبي بكر. وَالْمعْنَى لَيْسَ فِيكُم سَابق إِلَى الْفَضَائِل يقطع أَعْنَاق مسابقيه فَلَا يلحقون لَهُ شأوا مثل أبي بكر. يُقَال للسابق من الْخَيل: تقطعت أَعْنَاق الْخَيل فِي مسابقته فَلم تطقه، وَهَذَا لِأَن المسابق يمد عُنُقه، فَإِذا لم ينل مُرَاده مَعَ تِلْكَ الْمَشَقَّة قيل: تقطعت عُنُقه. وَإِذا كَانَت هَذِه صفة أبي بكر فَلَا وَجه للتردد فِي ولَايَته، وَإِنَّمَا يَقع التَّرَدُّد فِيمَن لَهُ نظراء ليَقَع التخير.
وَقَوله: لَقينَا رجلَانِ، وهما عويم بن سَاعِدَة، ومعن بن عدي.
وَقَوله تمالأ عَلَيْهِ الْقَوْم: أَي اجْتمع رَأْيهمْ على ذَلِك الشَّيْء.
وَقَوله: فَإِذا رجل مزمل بَين ظهرانيهم: المزمل: المغطى المدثر وَبَين ظهرانيهم: أَي فِيمَا بَينهم، يُقَال: نزلت بَين ظهرانيهم وظهريهم، وَلَا يُقَال بِكَسْر النُّون.
وَقَوله: يوعك، أصل الوعك: ألم الْمَرَض. يُقَال وعك الرجل: إِذا أَخَذته الْحمى.
والكتيبة: الْقطعَة المجتمعة من الْجَيْش. والرهط: الْعِصَابَة دون الْعشْرَة، وَيُقَال: بل إِلَى الْأَرْبَعين.
فَإِن قيل: كَيفَ يُقَال هَذَا والمهاجرون خلق كثير؟
فَعَنْهُ جوابان:

(1/67)


أَحدهمَا: أَنه إِنَّمَا هَاجر إِلَيْهِم الْآحَاد بعد الْآحَاد، حَتَّى اجْتَمعُوا فنظروا إِلَى أَن نصْرَة الرَّسُول بِكَثْرَة جمع الْأَنْصَار وَقعت.
وَالثَّانِي: إِن الْإِشَارَة بذلك إِلَى من تكلم بذلك الْأَمر، وَإِنَّمَا ذهب إِلَيْهِم أَبُو بكر وَعمر، وَتكلم فِي ذَلِك عدد يسير.
وَقَوْلهمْ دفت دافة: أَي جَاءَت جمَاعَة. والدفيف: سير فِي لين.
ويختزلونا: بِمَعْنى يقطعونا عَن مرادنا. وانخزل الرجل: ضعف.
وَقَوْلهمْ: يحضنونا عَن الْأَمر: يُقَال: حضنت الرجل عَن الْأَمر حضنا وحضانة: إِذا نحيته عَنهُ وانفردت بِهِ دونه. وأصل الحضن الِانْفِرَاد بتدبير الْمَحْضُون.
وَقَوله: زورت فِي نَفسِي مقَالَة: أَي هيأتها لأقولها. قَالَ أَبُو عبيد التزوير: إصْلَاح الْكَلَام وتهيئته قَالَ: وَقَالَ أَبُو زيد: المزور من الْكَلَام والمزوق وَاحِد وَهُوَ المصلح المحسن، وَكَذَلِكَ الْخط إِذا قوم.
قَوْله: كنت أداري مِنْهُ بعض الْحَد. المداراة: الملاينه، قَالَ الزّجاج: يُقَال داريت الرجل: إِذا لاينته. ودارأته بِالْهَمْز: إِذا دَفعته. ودريته: إِذا اختلته. وَقد سوى أَبُو عبيد بَين داريت ودارأت فِي بَاب مَا يهمز وَمَا لَا يهمز.
وَالْحَد: الحدة من الْغَضَب، يُقَال: حد الرجل: إِذا غضب.
وَقَوله: على رسلك: أَي على مهلك. قَالَ ابْن السّكيت: الرُّسُل

(1/68)


بِكَسْر الرَّاء: اللين وَالسير اللين. وَقَالَ الْخطابِيّ: الرُّسُل بِفَتْح الرَّاء: السّير الرفيق اللَّيْل، وبكسرها اللين.
والبديهة: مَا قيل من غير تقدم فكر فِيهِ.
وَقَوله: لن تعرف الْعَرَب هَذَا الْأَمر إِلَّا لهَذَا الْحَيّ من قُرَيْش. الْأَمر هَاهُنَا بِمَعْنى الْإِمَارَة. والحي أَصله من حَيّ الرجل: وهم رهطه الأدنون. وَأما قُرَيْش فهم ولد النَّضر بن كنَانَة، وَمن لم يلده النَّضر فَلَيْسَ بقرشي. وَقيل: هم ولد فهر بن مَالك بن النَّضر، فَمن لم يلده فَلَيْسَ بقرشي. وَإِنَّمَا سموا قُريْشًا لتجارتهم وجمعهم المَال. والقرش فِي اللُّغَة: الْكسْب، يُقَال: فلَان يقرش لِعِيَالِهِ ويقترش. أَي يكْتَسب. وَسَأَلَ مُعَاوِيَة عبد الله بن الْعَبَّاس: لم سميت قُرَيْش قُريْشًا؟ فَقَالَ: بِدَابَّة تكون فِي الْبَحْر يُقَال لَهَا القريش، لَا تمر بِشَيْء إِلَّا أَكلته، وَأنْشد:
(وقريش هِيَ الَّتِي تسكن الْبَحْر ... ، بهَا سميت قُرَيْش قُريْشًا)

وَحكى ابْن الْأَنْبَارِي أَن قوما قَالُوا: سموا قُريْشًا بالاقتراش، وَهُوَ وُقُوع الرماح بَعْضهَا على بعض، وَأنْشد:
(وَلما دنا الرَّايَات واقتراش القنا ... وطار مَعَ الْقَوْم الْقُلُوب الرواجف)

وَقَوله: هم أَوسط الْعَرَب نسبا ودارا. الْأَوْسَط وَالْوسط: الْأَفْضَل

(1/69)


وَهَذَا إِن خير الْأَشْيَاء أوساطها، وَإِن الغلو وَالتَّقْصِير مذمومان. وَالْمرَاد بِالدَّار: الْقَبِيلَة. وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " أَلا أنبئكم بِخَير دور الْأَنْصَار؟ " يَعْنِي الْقَبَائِل.
وَإِنَّمَا أضَاف أَبُو بكر أَبَا عُبَيْدَة إِلَى عمر؛ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي أبي عُبَيْدَة: " هُوَ أَمِين هَذِه الْأمة " فَرَأى أَن الأمارة تفْتَقر إِلَى الْأَمَانَة، وَقد وَصفه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهَا.
وَقَوله: فَقَالَ قَائِل من الْأَنْصَار: أَنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب.
وَأما الْقَائِل فقد رُوِيَ أَن الْقَائِل الْحباب بن الْمُنْذر، وَقيل: هُوَ سعد بن عبَادَة قَالَ أَبُو عبيد: الجذيل تَصْغِير جذل أَو جذل: وَهُوَ عود ينصب لِلْإِبِلِ الجربى لتحتك بِهِ من الجرب، فَأَرَادَ أَنه يستشفى بِرَأْيهِ كَمَا تستشفى الْإِبِل بالاحتكاك بذلك الْعود. وَقَالَ غَيره: بل أَرَادَ: إِنِّي أثبت فِي الشدائد ثُبُوت الْعود الَّذِي يحتك بِهِ الْإِبِل مَعَ كَثْرَة ترددها عَلَيْهِ. والعذيق تَصْغِير عذق بِفَتْح الْعين: وَهُوَ النَّخْلَة. فَأَما العذق بِكَسْر الْعين فَهُوَ الكباسة. وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّخْلَة. والترجيب أَن يدعم النَّخْلَة إِذا كثر حملهَا إِمَّا بخشبة ذَات شعبتين أَو تبني بَيْتا حولهَا؛ شَفَقَة على حملهَا، وحبا لَهَا، وَأَرَادَ: أَنِّي مُعظم فِي

(1/70)


النُّفُوس، أصلح للائتمام بِي.
واللغط: ارْتِفَاع الْأَصْوَات بِمَا لَا يُفِيد.
وَقَوله: منا أَمِير ومنكم أَمِير. رُبمَا ظن ظان بالأنصار أَنهم شكوا فِي تَفْضِيل أبي بكر؛ وَلَيْسَ كَذَلِك، إِنَّمَا جروا فِي هَذَا على عَادَة الْعَرَب: وَهِي أَن لَا يسود الْقَبِيلَة إِلَّا رجل مِنْهَا، وَلم يعلمُوا أَن حكم الْإِسْلَام على خلاف ذَلِك، فَلَمَّا ثَبت عِنْدهم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " الْخلَافَة فِي قُرَيْش " أذعنوا لَهُ وَبَايَعُوهُ.
وَقَوله: ونزونا: مَعْنَاهُ وثبنا، وَذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ للازدحام.
وَقَوله: قتل الله سَعْدا: إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَن سَعْدا أَرَادَ الْولَايَة وَمَا كَانَ يصلح أَن يتَقَدَّم أَبَا بكر. وَقَالَ الْخطابِيّ: معنى قَوْله: قتل الله سَعْدا: أَي احسبوه فِي عداد من مَاتَ وَهلك، أَي لَا تَعْتَدوا بِحُضُورِهِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَن يكون أَمِيرا، فَخَالف.
وَقَوله: تغرة أَن يقتلا: أَي حذارا، وَهُوَ مَأْخُوذ من التَّغْرِير، كالتعلة من التَّعْلِيل. وَقَالَ أَبُو عبيد: أَرَادَ أَن فِي بيعتهما تغريرا بأنفسهما للْقَتْل، وتعرضا لذَلِك.
27 - / 27 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: قَالَ ابْن عَبَّاس: حججْت مَعَ عمر، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْض الطَّرِيق عدل وَعدلت مَعَه بِالْإِدَاوَةِ فَتبرز.

(1/71)


أما الْإِدَاوَة فَهِيَ من جُلُود، كالركوة، يتَوَضَّأ فِيهَا.
وتبرز بِمَعْنى خرج إِلَى البرَاز وَهُوَ الْمَكَان الفسيح لقَضَاء الْحَاجة.
وَقَوله: من الْمَرْأَتَانِ اللَّتَان قَالَ الله عز وَجل: {إِن تَتُوبَا إِلَى الله} ؟ [التَّحْرِيم: 4] الْمَعْنى: إِن تَتُوبَا من التعاون على رَسُول الله بالإيذاء {فقد صغت قُلُوبكُمَا} أَي زاغت عَن الْحق وَعدلت. وَإِنَّمَا قَالَ {قُلُوبكُمَا} لِأَن كل اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: الْعَرَب تَقول: وضعا رحالهما، يُرِيدُونَ رحلي راحلتيهما.
والمرأتان: عَائِشَة وَحَفْصَة، وتعاونهما أَنَّهُمَا أحبتا مَا كرهه رَسُول الله من اجْتِنَاب جَارِيَته مَارِيَة، وَذَلِكَ أَن حَفْصَة ذهبت يَوْمًا إِلَى بَيت أَبِيهَا، فَأرْسل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى جَارِيَته مَارِيَة، فظلت عِنْده فِي بَيت حَفْصَة، وَكَانَ الْيَوْم الَّذِي يَأْتِي فِيهِ عَائِشَة، فَرَجَعت حَفْصَة فَوَجَدتهَا فِي بَيتهَا، فَجعلت تنْتَظر خُرُوجهَا، فَلَمَّا دخلت حَفْصَة قَالَت: قد رَأَيْت من كَانَ عنْدك، وَالله لقد سؤتني، فَقَالَ: " وَالله لأرضينك، وَإِنِّي أسر إِلَيْك سرا فاحفظيه: إِنِّي أشهد أَنَّهَا عَليّ حرَام، فَلَا تذكري هَذَا لأحد " فَذَكرته لعَائِشَة، فَمَا زَالَت بِهِ عَائِشَة حَتَّى حلف أَلا يقربهَا فَهَذَا هُوَ السَّبَب فِي هجره إياهن.
قَالَ ابْن حبيب الْهَاشِمِي: يُقَال إِنَّه ذبح ذبحا، فقسمته عَائِشَة بَين أَزوَاجه، فَأرْسل إِلَى زَيْنَب بنت جحش نصِيبهَا، فَردته، فَقَالَ: " زيديها "، فزادتها ثَلَاثًا وَهِي ترده. فَقَالَ: " لَا أَدخل عليكن شهرا ".
وَقَالَ غَيره: بل كن قد سألنه زِيَادَة فِي النَّفَقَة، وآذينه بالغيرة،

(1/72)


فآلى مِنْهُنَّ شهرا.
وَقَوله: فَطَفِقَ نساؤنا - أَي أخذن فِي تعلم ذَلِك. وطفق مثل قَوْلك: أنشأ يَقُول، وَجعل يَقُول. وَأكْثر اللُّغَة على طفق يطفق، وَقد جَاءَ طفق بِفَتْح الْفَاء، يطفق بِكَسْرِهَا.
وَقَوله: لَا يغرنك أَن كَانَت جارتك هِيَ أوسم. أَرَادَ بالجاره عَائِشَة، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا جَارة لِأَنَّهَا قد شاركتها فِي الزواج. وَأَرَادَ بقوله أوسم: الوسامة: وَهِي الْحسن. وَالْمعْنَى أَن عَائِشَة تدل بحسنها ومحبة الرَّسُول لَهَا، فَلَا تغتري أَنْت.
ويوشك بِمَعْنى يقرب. يُقَال: أوشك الْأَمر يُوشك فَهُوَ وشيك: إِذا قرب.
والمشربة بِضَم الرَّاء وَفتحهَا، وَجَمعهَا مشارب ومشربات: وَهِي الغرفة.
وَقَوله: على رمال حَصِير. الرمال يُقَال بِكَسْر الرَّاء وَضمّهَا، وَمَعْنَاهُ مَا نسج من حَصِير أَو غَيره. قَالَ الزّجاج: يُقَال: رملت الْحَصِير رملا، وأرملته إرمالا: إِذا نسجته، وَمعنى الحَدِيث: أَنه لم يكن فَوق الْحَصِير فرَاش وَلَا غَيره.
وَقَوله: استأنس: أَي أَجْلِس وأستقر.
والأهبة جمع إهَاب: والإهاب اسْم الْجلد، وَيُقَال فِي جمعه أهب

(1/73)


وَأهب وآهبه، قَالَ النَّضر بن شُمَيْل: إِنَّمَا يُقَال إهَاب لجلد مَا يُؤْكَل لَحْمه.
وَقد جَاءَ فِي لفظ آخر: أَنه دخل عَلَيْهِ وَعِنْده أفِيق. والأفيق: الْجلد لم يتم دباغه، وَجمعه أفق. يُقَال: أفِيق وأفق، وأديم وأدم، وعمود وَعمد، وإهاب وَأهب. وَلم يجِئ " فعيل " وَلَا: " فعول " يجمع على " فعل ": إِلَّا هَذِه الأحرف، وَإِنَّمَا يجمع على فعل نَحْو صبور وصبر.
وَقَوله: " الشَّهْر تسع وَعِشْرُونَ ". يُشِير إِلَى ذَلِك الشَّهْر الَّذِي حلف فِيهِ، فَإِنَّهُ طلع الْهلَال فَكَانَ الشَّهْر تسعا وَعشْرين، وَلَيْسَ كل الشُّهُور يكون كَذَلِك.
وَقَوله: " حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك " الاستئمار: طلب أَمر المستأمر ليمتثله المستأمر.
وَقَوله: {إِن كنتن تردن الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا} وَهَذَا لِأَن عملهن بِمُقْتَضى الْغيرَة وطلبهن زِيَادَة النَّفَقَة إِرَادَة مِنْهُنَّ للدنيا.
وَقَوله: {فتعالين أمتعكن} [الْأَحْزَاب: 28] يعْنى مُتْعَة الطَّلَاق. وَالْمرَاد بالسراح: الطَّلَاق. وبالدار الْآخِرَة: الْجنَّة. والمحسنات: المؤثرات للآخرة.
فَلَمَّا أخترنه أنبأهن الله عز وَجل ثَلَاثَة أَشْيَاء:
أَحدهَا: التَّفْضِيل على سَائِر النِّسَاء بقوله: {لستن كَأحد من النِّسَاء} [الْأَحْزَاب: 32] .
وَالثَّانِي: أَن جَعلهنَّ أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ.
وَالثَّالِث: أَن حظر عَلَيْهِ طلاقهن والاستبدال بِهن، لقَوْله: {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد} [الْأَحْزَاب: 52] .

(1/74)


وَهل أُبِيح لَهُ بعد ذَلِك التَّزَوُّج عَلَيْهِنَّ؟ فِيهِ قَولَانِ.
وَقَوله: وَلم يُرْسِلنِي مُتَعَنتًا. المتعنت: المشدد الَّذِي يُكَلف من يتعنته الْأَمر الصعب، وَرُبمَا قصد بذلك إِظْهَار عَجزه. وأصل الْعَنَت الْمَشَقَّة يُقَال: أكمة عنوت: إِذا كَانَ سلوكها شاقا. وَيُقَال: عنت الْبَعِير يعنت عنتا: إِذا حدث فِي رجله كسر لَا يُمكنهُ مَعَه تصريفها.
وَقَوله: تحسر الْغَضَب عَن وَجهه: أَي انْكَشَفَ. وكشر بِمَعْنى تَبَسم.
وَقَوله: {وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن أَو الْخَوْف} [النِّسَاء: 83] الْإِشَارَة إِلَى الْمُنَافِقين، وَالْمعْنَى أَنهم إِذا سمعُوا خَبرا يحدث خيرا أَو يُوجب خوفًا أشاعوه من غير تثبت فِي مَعْرفَته، {وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول} حَتَّى يكون هُوَ الْمخبر بِهِ {وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم} كالأكابر من الصَّحَابَة {لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} .
وَفِي هَذَا الْعلم قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن رَاجع إِلَى المذيعين، فَلَو ردُّوهُ إِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم علمُوا حَقِيقَته وفهموا مَا يستنبطونه مِنْهُ بإعلام أُولَئِكَ.
وَالثَّانِي: أَنه رَاجع إِلَى أولي الْأَمر، وَالْمعْنَى: لعلمه أولو الْأَمر عِنْد استنباطهم لَهُ. والاستنباط فِي اللُّغَة: الاستخراج. وَقَالَ الزّجاج: أَصله من النبط: وَهُوَ المَاء الَّذِي يخرج من الْبِئْر فِي أول مَا يحْفر. يُقَال من ذَلِك: قد أنبط فلَان فِي غضراء: أَي استنبط المَاء من طين حر. وَسمي النباط نباطا لاستنباطهم مَا يخرج من الأَرْض.

(1/75)


وعَلى مُقْتَضى حَدِيث عمر أَن هَذَا الَّذِي أذاعوه قَوْلهم " طلق رَسُول الله نِسَاءَهُ، فَإِنَّمَا أشاعوا مَا لم يتيقنوه حَتَّى استنبط ذَلِك عمر.
وَقَوله: دخل عمر على أم سَلمَة لِقَرَابَتِهِ مِنْهَا.
أم سَلمَة بنت عَم أم عمر؛ لِأَن أم عمر حنتمة بنت هَاشم بن الْمُغيرَة ابْن عبد الله بن عَمْرو بن مَخْزُوم. وَأم سَلمَة بنت أبي أُميَّة بن الْمُغيرَة.
وَقَوْلها لَهُ: قد دخلت فِي كل شَيْء حَتَّى تبتغي أَن تدخل بَين رَسُول الله وأزواجه. كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ ناصحا لِلْإِسْلَامِ، فَكَانَ ينبسط على رَسُول الله، فَيَقُول: افْعَل، وَلَا تفعل، فَيعلم رَسُول الله شدَّة شفقته وَمَوْضِع نصحه فَلَا يُنكر عَلَيْهِ، وَقد قَالَ لرَسُول الله: احجب نِسَاءَك، وَقَالَ: لَا تصل على ابْن أبي، إِلَى غير ذَلِك.
28 - / 28 - الحَدِيث الْعَاشِر: قَالَ ابْن عَبَّاس: شهد عِنْدِي رجال مرضيون، وأرضاهم عِنْدِي عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الصَّلَاة بعد الصُّبْح حَتَّى تشرق الشَّمْس، وَبعد الْعَصْر حَتَّى تغرب.
قلت: شهد عِنْدِي: مَعْنَاهُ بينوا لي هَذَا وأعلموني بِهِ، وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ إِقَامَة الشَّهَادَة الَّتِي تكون عِنْد الْحُكَّام. وَمثل هَذَا قَوْله تَعَالَى: {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} [آل عمرَان: 18] قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: بَين.
قَالَ: وأشرقت الشَّمْس: إِذا أَضَاءَت وصفت، وشرقت: إِذا طلعت، هَذَا أَكثر اللُّغَة، وَقَالَ بَعضهم: هما بِمَعْنى وَاحِد.

(1/76)


وَاعْلَم أَن هَذَا النَّهْي يخْتَص النَّوَافِل الَّتِي لَا سَبَب لَهَا، وَأما الَّتِي لَهَا سَبَب كتحية الْمَسْجِد، فَهَل يجوز فعلهَا؟ فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا لَا يجوز، وَالْأُخْرَى يجوز كَقَوْل الشَّافِعِي.
وَاعْلَم أَن كَرَاهِيَة التَّنَفُّل فِي أَوْقَات النَّهْي تعم جَمِيع الْمَسَاجِد جَمِيع الْأَيَّام. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يكره التَّنَفُّل فِي هَذِه الْأَوْقَات بِمَسْجِد مَكَّة خَاصَّة، وَلَا يكره التَّنَفُّل يَوْم الْجُمُعَة عِنْد الزَّوَال. وَأما قَضَاء الْفَوَائِت وَفعل المنذورات فِي أَوْقَات النَّهْي فَيجوز عندنَا خلافًا لأبي حنيفَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: فقد صَحَّ عَن عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن يتْرك رَكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر. فَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ فِي مسندها إِن شَاءَ الله.
29 - / 29 - الحَدِيث الْحَادِي عشر: بلغ عمر أَن فلَانا بَاعَ خمرًا، فَقَالَ: قَاتل الله فلَانا، ألم يعلم أَن رَسُول الله قَالَ: " لعن الله الْيَهُود؛ حرمت عَلَيْهِم الشحوم، فجملوها فَبَاعُوهَا ".
الْكِنَايَة بفلان عَن سَمُرَة بن جُنْدُب، وَكَانَ واليا على الْبَصْرَة من قبل عمر، وَفِي كَيْفيَّة بَيْعه للخمر ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه كَانَ يَأْخُذهَا من أهل الْكتاب عَن قيمَة الْجِزْيَة فيبيعها مِنْهُم ظنا مِنْهُ أَن ذَلِك جَائِز، قَالَه لنا ابْن نَاصِر. وَإِنَّمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يوليهم بيعهَا، قَالَ ابْن عقيل فهم إِذا باعوها أخذُوا ثمنهَا وَنحن نَأْخُذ مِنْهُم ذَلِك الثّمن عشرا، وَهَذَا الْقدر الْحَائِل بَين الأخذين يخرج اسْم

(1/77)


الْمَأْخُوذ مِنْهُم عَن اسْم الثمنية، كَمَا قَالَ البريرة: " هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَة، وَلنَا هَدِيَّة ".
وَالثَّانِي: أَن يكون سَمُرَة بَاعَ الْعصير مِمَّن يَتَّخِذهُ خمرًا، وَذَلِكَ مَكْرُوه، وَقد يُسمى الْعصير خمرًا لِأَنَّهُ يؤول إِلَى الْخمر، كَمَا قَالَ عز وَجل: {أعصر خمرًا} [يُوسُف: 36] .
وَالثَّالِث: أَن يكون خلل الْخمر وباعها، وَإِذا خللت لم تطهر وَلم تحل عندنَا. ذكر هذَيْن الْوَجْهَيْنِ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ. وَالصَّحِيح الأول.
وَمعنى جملوها: أذابوها. والجميل: الشَّحْم الْمُذَاب. قَالَ أَبُو عبيد: يُقَال: جملت وأجملت واجتملت. قَالَ لبيد:
(وَغُلَام أَرْسلتهُ أمه ... بألوك فبذلنا مَا سَأَلَ)

(أَو نهته فَأَتَاهُ رزقه ... فاشتوى لَيْلَة ريح واجتمل)

30 - / 30 - الحَدِيث الثَّانِي عشر: قَالَ ابْن الزبير: لَا تلبسوا نساءكم الْحَرِير؛ فَإِنِّي سَمِعت عمر يَقُول: سَمِعت رَسُول الله يَقُول: " لَا تلبسوا الْحَرِير؛ فَإِن من لبسه فِي الدُّنْيَا لم يلْبسهُ فِي الْآخِرَة " وَفِي لفظ: " إِنَّمَا يلبس الْحَرِير من لَا خلاق لَهُ ".

(1/78)


وَأما قَول ابْن الزبير: لَا تلبسوا نساءكم الْحَرِير، فَإِنَّهُ قد حمل لفظ رَسُول الله فِي النَّهْي على الْعُمُوم فِي حق الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَهَذَا مُقْتَضى هَذَا اللَّفْظ، غير أَن هَذَا الْإِطْلَاق خص بقوله عَلَيْهِ السَّلَام: " هَذَانِ حرَام على ذُكُور أمتِي، حل لإناثها ".
والخلاق: النَّصِيب
31 - / 31 - الحَدِيث الثَّالِث عشر: عَن الْمسور وَعبد الرَّحْمَن بن عبد الْقَارِي أَن عمر قَالَ: سَمِعت هِشَام بن حَكِيم بن حزَام يقْرَأ سُورَة الْفرْقَان على حُرُوف كَثِيرَة لم يقرئنيها رَسُول الله، فكدت أساوره فِي الصَّلَاة.
أما عبد الرَّحْمَن بن عبد الْقَارِي، فالياء مُشَدّدَة، وَهُوَ من القارة، وَله ولدان يذكران فِي الحَدِيث بذلك النّسَب، إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد، وَرُبمَا نسبه بعض قرأة الحَدِيث إِلَى الْقِرَاءَة فَلم يشدد الْيَاء، وَذَلِكَ غلط.
وَقَوله: فكدت أساوره فِي الصَّلَاة: مَعْنَاهُ فاربت ذَلِك وَلم أفعل، وَكَاد كلمة إِذا أَثْبَتَت انْتَفَى الْفِعْل، وَإِذا نفيت ثَبت الْفِعْل. وَيشْهد للنَّفْي عِنْد الْإِثْبَات {يكَاد الْبَرْق} [الْبَقَرَة: 20] {يكَاد سنا برقه} [النُّور: 43] ، {يكَاد زيتها يضيء} [النُّور: 35] وَيشْهد للإثبات عِنْد النَّفْي: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [الْبَقَرَة: 71] ، {لَا يكادون يفقهُونَ حَدِيثا} [النِّسَاء: 78] ، {لم يكد يَرَاهَا} [النُّور: 40] ، {وَلَا يكَاد يبين} [الزخرف: 52] هَذَا هُوَ الأَصْل فِي كَاد، وَقد جَاءَت بِمَعْنى فعل، قَالَ ذُو الرمة:

(1/79)


(وَلَو أَن لُقْمَان الْحَكِيم تعرضت ... لعينيه مي سافرا كَاد يَبْرق)

أَي: لَو تعرضت لبرق: أَي دهش وتحير. وَجَاءَت المنفية بِمَعْنى الْإِثْبَات، وَقَالَ ذُو الرمة أَيْضا:
(إِذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الْهوى من حب مية يبرح)

أَرَادَ: لم يبرح.
وَمعنى أساوره: أواثبه، من سُورَة الْغَضَب.
وَقَوله: فتربصت. التَّرَبُّص: الِانْتِظَار.
وَقَوله: لببته بردائه: جررته. اللبب: مَوضِع النَّحْر. وَأَرَادَ: جررته بالرداء الْمُتَعَلّق بنحره.
وَقَوله: " إِن هَذَا الْقُرْآن أنزل على سَبْعَة أحرف ".
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي المُرَاد بِهَذَا على خَمْسَة وَثَلَاثِينَ قولا، حَكَاهَا أَبُو حَاتِم بن حبَان الْحَافِظ. غير أَن جمهورها لَا يخْتَار، وَالَّذِي نختاره أَن المُرَاد بالحرف اللُّغَة، فالقرآن أنزل على سبع لُغَات فصيحة من لُغَات الْعَرَب، فبعضه بلغَة هُذَيْل، وَبَعضه بلغَة هوَازن، وَغَيرهم من الفصحاء.
وَقد يشكل على بعض النَّاس فَيَقُول: هَل كَانَ جِبْرِيل يلفظ بِاللَّفْظِ

(1/80)


الْوَاحِد سبع مَرَّات؟ فَيُقَال لَهُ: إِنَّمَا يلْزم هَذَا إِذا قُلْنَا إِن السَّبْعَة الأحرف تَجْتَمِع فِي حرف وَاحِد، وَنحن قُلْنَا: إِن السَّبْعَة الأحرف تَفَرَّقت فِي الْقُرْآن، فبعضه بلغَة قُرَيْش، وَبَعضه بلغَة غَيرهم. وَلَو قُلْنَا: إِنَّهَا اجْتمعت فِي الْحَرْف الْوَاحِد قُلْنَا: كَانَ جِبْرِيل يَأْتِي فِي كل عرضة بِحرف إِلَى أَن تمت سَبْعَة أحرف.
32 - / 32 - الحَدِيث الرَّابِع عشر: وَافَقت رَبِّي فِي ثَلَاث: قلت: يَا رَسُول الله، لَو اتخذنا مقَام إِبْرَاهِيم مصلى، فَنزلت: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} [الْبَقَرَة: 125] وَقلت: يَا رَسُول الله، يدْخل على نِسَائِك الْبر والفاجر، فَلَو أمرتهن يحتجبن فَنزلت آيَة الْحجاب. وَاجْتمعَ نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْغيرَة، فَقلت: {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن} فَنزلت كَذَلِك.
معنى وَافَقت رَبِّي: أَي وَافَقت حكمه. ومقام إِبْرَاهِيم: مَوضِع قِيَامه، وَهُوَ مَفْتُوح الْمِيم، فَإِذا ضمت فَالْمُرَاد الْإِقَامَة، ثمَّ قد يسْتَعْمل كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي مَوضِع الآخر. وَالْمرَاد بمقام إِبْرَاهِيم الْحجر الْمَعْرُوف.
وَفِي سَبَب قِيَامه عَلَيْهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه جَاءَ من الشَّام إِلَى مَكَّة لزيارة ابْنه إِسْمَاعِيل فَلم يجده، فَقَالَت لَهُ زَوجته: انْزِلْ، فَأبى؛ لِأَن سارة اشْترطت عَلَيْهِ أَلا ينزل غيرَة عَلَيْهِ. فَقَالَت لَهُ: فَدَعْنِي أغسل رَأسك، فَأَتَتْهُ بِالْحجرِ فَوضع رجله عَلَيْهِ وَهُوَ رَاكب، فغسلت شقَّه، ثمَّ رفعته وَقد غَابَتْ فِيهِ رجله، فَوَضَعته تَحت الشق الآخر وغسلته، فغابت فِيهِ رجله، فَجعله الله عز وَجل من الشعائر، وَهَذَا مَرْوِيّ عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس.

(1/81)


وَالثَّانِي: أَنه قَامَ على الْحجر لبِنَاء الْبَيْت، وَإِسْمَاعِيل يناوله الْحِجَارَة، قَالَه سعيد بن جُبَير.
فَإِن قيل: فَمَا السِّرّ فِي أَن عمر لم يقنع بِمَا فِي شريعتنا حَتَّى طلب الاستنان بِملَّة إِبْرَاهِيم، وَقد نَهَاهُ رَسُول الله عَن مثل هَذَا حِين أَتَى بأَشْيَاء من التَّوْرَاة، فَقَالَ. " أمطها عَنَّا يَا عمر "؟
فَالْجَوَاب: أَنه لما سمع قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا} [الْبَقَرَة: 124] .
ثمَّ سمع قَوْله: {أَن اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم} [النَّحْل: 123] علم أَن الائتمام بِهِ مَشْرُوع فِي شرعنا دون الائتمام بِغَيْرِهِ من الْأَنْبِيَاء. ثمَّ رأى أَن الْبَيْت مُضَاف إِلَى إِبْرَاهِيم وَأَن أثر قدمه فِي الْمقَام كرقم اسْم الْبَانِي فِي الْبناء ليذكر بِهِ بعد مَوته، فَرَأى الصَّلَاة عِنْد الْمقَام كَقِرَاءَة الطَّائِف بِالْبَيْتِ اسْم من بناه، فَوَقَعت مُوَافَقَته فِي رَأْيه. فَأَما غير إِبْرَاهِيم من الْأَنْبِيَاء فَلَا يجرى مجْرَاه.
على أَن هَذَا الْقدر من شرع إِبْرَاهِيم مَعْلُوم قطعا، وَمَا فِي أيدى الكتابيين من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل أَمر مغير مبدل، فَنَهَاهُ عَنهُ للعلتين جَمِيعًا.
وَقد بَان هَذَا بِمَا أخبرنَا بِهِ أَبُو الْقَاسِم الْكَاتِب قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَليّ ابْن الْمَذْهَب قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر بن مَالك. قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا شُرَيْح بن النُّعْمَان قَالَ: حَدثنَا هشيم قَالَ: أخبرنَا مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن جَابر بن عبد الله: أَن عمر ابْن الْخطاب أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكِتَاب أَصَابَهُ من بعض أهل الْكتاب، فقرأه

(1/82)


على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَغَضب وَقَالَ: " أمتهوكون فِيهَا يَا ابْن الْخطاب؟ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لقد جِئتُكُمْ بهَا بَيْضَاء نقية. لَا تسألوهم عَن شَيْء فيخبركم بِحَق فتكذبوا بِهِ أَو بباطل فتصدقوا بِهِ. وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَو أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ حَيا مَا وَسعه إِلَّا أَن يَتبعني ".
وَأما آيَة الْحجاب فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ جَارِيا على عَادَة الْعَرَب فِي ترك الْحجاب، حَتَّى أَمر بذلك، وَالَّذِي أَشَارَ بِهِ عمر لم يكن يخفى على رَسُول الله، لكنه كَانَ ينْتَظر الْوَحْي فِي الْأَشْيَاء، وَكَانَ السَّبَب فِي نزُول الْحجاب أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج زَيْنَب، وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا، فَأكل جمَاعَة من الصَّحَابَة عِنْده فِي الْبَيْت وَهِي مولية وَجههَا لحائط، فانتظر رَسُول الله خُرُوجهمْ فَلم يخرجُوا، وجلسوا يتحدثون، فَخرج رَسُول الله فَلم يخرجُوا، ثمَّ عَاد وَلم يخرجُوا، فَنزلت: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بيُوت النَّبِي إِلَّا أَن يُؤذن لكم} [الْأَحْزَاب: 53] . وَهَذَا يَأْتِي مشروحا فِي مُسْند أنس إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَأما أُسَارَى بدر فَإِن رَسُول الله كَانَ قد اسْتَشَارَ فيهم أَبَا بكر وَعمر، فَأَشَارَ أَبُو بكر بِالْفِدَاءِ، وَأَشَارَ عمر بِالْقَتْلِ، على مَا سَيَأْتِي عَن قريب، فَنزل قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض} [الْأَنْفَال: 67] فَكَانَ ذَلِك على مُوَافقَة عمر.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ خَفِي الصَّوَاب على رَسُول الله وَأبي بكر؟
فَالْجَوَاب لثَلَاثَة أوجه:

(1/83)


أَحدهَا: ليظْهر النَّقْص على التَّام.
وَالثَّانِي: ليعلم أَن الْإِصَابَة بِتَوْفِيق الله عز وَجل، لَا بِرَأْي الْإِنْسَان وترويه، وَلذَلِك اطلع سُلَيْمَان على مَا خَفِي عَن دَاوُد، وَالْخضر على مَا غَابَ عَن مُوسَى [عَلَيْهِم السَّلَام] .
وَالثَّالِث: أَنه إِذا أصَاب عمر وَالرَّسُول حَيّ، لم يرتب باستحقاقه الْولَايَة بعد أبي بكر.
33 - / 33 - الحَدِيث الْخَامِس عشر: " إِذا أقبل اللَّيْل وَأدبر النَّهَار فقد أفطر الصَّائِم ".
فِي معنى " فقد أفطر " قَولَانِ: أَحدهمَا: فقد دخل وَقت الْفطر. وَجَاز لَهُ. وَالثَّانِي: فقد صَار فِي حكم الْمُفطر وَإنَّهُ لم يَأْكُل.
34 - / 34 - الحَدِيث السَّادِس عشر: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لكل امْرِئ مَا نوى، فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله، وَمن كَانَت هجرته إِلَى دنيا يُصِيبهَا أَو إِلَى امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ ".
الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث من أَرْبَعَة أوجه:
أَحدهَا: من جِهَة الرِّوَايَة: فقد رَوَاهُ عَن يحيى بن سعيد نَحْو من مِائَتَيْنِ وَخمسين رجلا. وَقد رُوِيَ من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ،

(1/84)


رَوَاهُ نوح بن حبيب البذشي، فرفعه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، فَانْقَلَبَ عَلَيْهِ إِسْنَاد حَدِيث بِحَدِيث. وَرُوِيَ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَابْن عَبَّاس، وَابْن عمر، وَمُعَاوِيَة، وَغَيرهم، وَلَا يَصح مُسْندًا إِلَّا من حَدِيث عمر.
وَالثَّانِي: بَيَان سَبَب هَذَا الحَدِيث: فَإِن كثيرا من الْأَحَادِيث جَاءَت على أَسبَاب، كَمَا أَن كثيرا من الْآيَات نزلت على أَسبَاب: وَذَلِكَ أَن رجلا خطب امْرَأَة بِمَكَّة، فهاجرت إِلَى الْمَدِينَة، فتبعها الرجل رَغْبَة فِي نِكَاحهَا، فَقَالَ رَسُول الله هَذَا الحَدِيث، فَكَانَ يُقَال للرجل: مهَاجر أم قيس.
وَالثَّالِث: فضل هَذَا الحَدِيث وشرفه:
فَإِن الْعلمَاء كَانُوا يستحبون تَقْدِيمه فِي التصانيف لعُمُوم الْحَاجة إِلَيْهِ؛ إِذْ النِّيَّة أصل الْعَمَل، وَكَانَ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي يَقُول: يَنْبَغِي لمن صنف كتابا أَن يَبْتَدِئ بِهَذَا الحَدِيث. وَلِهَذَا افْتتح البُخَارِيّ كِتَابه بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِي: يدْخل هَذَا الحَدِيث فِي سبعين بَابا من الْفِقْه. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: أصُول الْإِسْلَام على ثَلَاثَة أَحَادِيث: " الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ "، و " حَلَال بَين، وَحرَام بَين "، و " من أحدث فِي أمرنَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رد ". وَقَالَ أَبُو دَاوُد السجسْتانِي: الْفِقْه يَدُور على خَمْسَة أَحَادِيث: " الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " و " حَلَال بَين " و " مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْكُم فَاجْتَنبُوهُ، وَمَا أَمرتكُم بِهِ فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم " و: لَا ضَرَر وَلَا ضرار " و " الدّين النَّصِيحَة ".
وَفِي رِوَايَة عَن أبي دَاوُد قَالَ: كتبت عَن رَسُول الله خَمْسمِائَة ألف

(1/85)


حَدِيث، انتخبت مِنْهَا مَا ضمنته كتاب " السّنَن "، فَذكرت الصَّحِيح وَمَا يُشبههُ ويقاربه، وَيَكْفِي الْإِنْسَان لدينِهِ من ذَلِك أَرْبَعَة أَحَادِيث: أَحدهمَا: " الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " وَالثَّانِي: " الْحَلَال بَين " وَالثَّالِث: " من حسن إِسْلَام الْمَرْء تَركه مَا لَا يعنيه "، وَالرَّابِع: " لَا يكون الْمُؤمن مُؤمنا حَتَّى يرضى لِأَخِيهِ مَا يرضاه لنَفسِهِ ".
وَالْوَجْه الرَّابِع: تَفْسِير الحَدِيث:
فَقَوله: " إِنَّمَا " كلمة ترَاد للحصر، تثبت الْمشَار إِلَيْهِ وتنفي مَا عداهُ، فَهِيَ تعْمل بركنيها إِثْبَاتًا ونفيا. وَمَعْلُوم أَن الرَّسُول لم يرد نفي الْأَعْمَال الحسية، لِأَنَّهَا قد تُوجد بِغَيْر نِيَّة، وَإِنَّمَا أَرَادَ صِحَة الْأَفْعَال الشَّرْعِيَّة، فَبين أَن النِّيَّة هِيَ الفاصلة بَين مَا يَصح وَمَا لَا يَصح.
وَمعنى النِّيَّة: قصدك الشَّيْء، وتحريك طلبه. وَقَالَ بعض اللغويين: أصل النِّيَّة الطّلب، وَيُقَال: لي عِنْد فلَان نِيَّة: أَي طلبة وحاجة. وَأنْشد لكثير:
(وَإِن الَّذِي يَنْوِي من المَال أَهلهَا ... أوارك لما تأتلف وعوادي)

يُرِيد: مَا يطلبونه من الْمهْر. والأوراك: المقيمة فِي الْأَرَاك تَأْكُله.

(1/86)


يُقَال مِنْهُ: أركت تأرك أروكا: إِذا أَقَامَت فِي الْأَرَاك تَأْكُله، وَهِي إبل آركة مثل فاعلة. فَإِن اشتكت بطونها عَنهُ قيل: إبل أراكى، وَكَذَلِكَ رماثى وطلاحى، من الرمث والطلح.
وَقد أَفَادَ هَذَا الحَدِيث أَن الشَّرْع إِنَّمَا يعْتد بِالْعَمَلِ الَّذِي فِيهِ النِّيَّة، فَلَو أَن إنْسَانا اغْتسل بِقصد التبرد لم يجزه عَن الْجَنَابَة، وَهَذَا قَول مَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد بن حَنْبَل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا تجب النِّيَّة فِي طَهَارَة المَاء، وَتجب فِي التَّيَمُّم. وَقَالَ: الْأَوْزَاعِيّ: لَا تجب فيهمَا.
وَقَوله: " وَإِنَّمَا لامرئ مَا نوى " تَأْكِيد للْكَلَام الأول. ويحتوي على فَائِدَة تخصه: وَهِي إِيجَاب تعْيين النِّيَّة للْعَمَل الْمُبَاشر، فَإِنَّهُ لَو صلى الْإِنْسَان أَربع رَكْعَات، فَقَالَ فِي نَفسه: هَذِه قَضَاء فَرِيضَة إِن كَانَت عَليّ، وَإِلَّا فَهِيَ نَافِلَة، لم يجزه عَن فَرْضه إِذا بَان أَن عَلَيْهِ فَرِيضَة، لِأَنَّهُ لم يمحض النِّيَّة للْفَرض. وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ لَيْلَة الْغَيْم: إِذا كَانَ غَدا من رَمَضَان فَهِيَ فَرضِي، وَإِن لم يكن فَهُوَ نفل، فَإِنَّهُ لَا يجْزِيه حَتَّى يقطع أَنه صَائِم غَدا من رَمَضَان، فِي الْمَنْصُور عِنْد أَصْحَابنَا.
وَقَوله: فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله: أَي فَهجرَته مَقْبُولَة عِنْد الله وَرَسُوله.
وَقَوله: " إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ " إِخْرَاج لما لم يقْصد بِالنِّيَّةِ، يُرِيد أَن حَظه من هجرته مَا قَصده من دُنْيَاهُ دون مَا لم يَقْصِدهُ من آخرته. فبعض الحَدِيث يُقَوي بَعْضًا ويؤكده.

(1/87)


35 - / 35 - الحَدِيث السَّابِع عشر: من رِوَايَة مَالك بن أَوْس النصري عَن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " الذَّهَب بِالذَّهَب رَبًّا إِلَّا هَاء وهاء. وَالْوَرق بالورق رَبًّا إِلَّا هَاء وهاء. وَالْبر بِالْبرِّ رَبًّا إِلَّا هَاء وهاء. وَالشعِير بِالشَّعِيرِ رَبًّا إِلَّا هَاء وهاء. وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ رَبًّا إِلَّا هَاء وهاء ".
الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث فِي أَرْبَعَة مقامات:
الأول: فِي نسب الرواي وَهُوَ النصري بالنُّون وَالصَّاد غير الْمُعْجَمَة، وَهُوَ أحد بني نصر بن مُعَاوِيَة، وَقد ذكره قوم فِي الصَّحَابَة، وَلَا يَصح ذَلِك، وَقد كَانَ يركب الْخَيل فِي الْجَاهِلِيَّة، إِلَّا أَنه تَأَخّر إِسْلَامه، فروى عَن بعض الصَّحَابَة، وَفِي الصَّحَابَة خلق كثير يشاركونه فِي النّسَب، وَأما النضري بالضاد فقليل.
الْمقَام الثَّانِي: فِي تَصْحِيح اللَّفْظ: فالورق مَكْسُورَة الرَّاء. وهاء وهاء ممدودة، وَعَامة الْمُحدثين يقصرونها وَالصَّوَاب الْمَدّ: أخبرنَا ابْن نَاصِر قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو مُحَمَّد السَّمرقَنْدِي قَالَ: أخبرنَا عبد الغافر بن مُحَمَّد قَالَ: حَدثنَا أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ قَالَ: قَوْله: إِلَّا هَاء وهاء ممدودان، والعامة تقصرهما. وَمعنى هَاء: خُذ، يُقَال للرجل: هَاء. وللمرأة: هائي. وللاثنين من الرِّجَال وَالنِّسَاء: هاؤما، وللرجال هاؤم، وللنساء هاؤمن. وَإِذا قلت هاك قصرت، وَإِذا حذفت الْكَاف مددت، فَكَانَت الْمدَّة بَدَلا من كَاف المخاطبة.

(1/88)


الْمقَام الثَّالِث: فِي تَفْسِير اللَّفْظ: الْوَرق: الْفضة. وَالْبر: الْحِنْطَة. وهاء بِمَعْنى هاك: أَي خُذ.
الْمقَام الرَّابِع: بَيَان الحكم:
فَاعْلَم أَن الرِّبَا على ضَرْبَيْنِ: رَبًّا الْفضل، وَربا النَّسِيئَة.
فربا الْفضل يحرم بعلة كَونه مَكِيل جنس أَو مَوْزُون جنس، على مَا سَيَأْتِي فِي شَرحه فِي مُسْند عبَادَة بن الصَّامِت إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فَإِن ذكره هُنَاكَ أليق.
وَأما رَبًّا النَّسِيئَة: فَاعْلَم أَن كل شَيْئَيْنِ يتحد فيهمَا عِلّة رَبًّا الْفضل لَا يجوز بيع أَحدهمَا بِالْآخرِ نَسِيئَة، وَمَتى حصل التَّفَرُّق فِي بيعهمَا قبل الْقَبْض بَطل العقد، كالذهب بِالْفِضَّةِ، وَالْحِنْطَة بِالشَّعِيرِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِنَّمَا ذَلِك فِي الصّرْف خَاصَّة.
36 - / 36 - الحَدِيث الثَّامِن عشر: قَالَ مَالك بن أَوْس: أرسل إِلَيّ عمر فَجِئْته، فَوَجَدته فِي بَيته جَالِسا على سَرِير، مفضيا إِلَى رماله ...
الْإِفْضَاء إِلَى الشَّيْء: أَلا يكون بَيْنك وَبَينه حَائِل. وَالْمعْنَى أَنه لم يكن تَحْتَهُ فرَاش. وَقد شرحنا معنى الرمال فِي الحَدِيث التَّاسِع من هَذَا الْمسند.
وَقَوله: يَا مَال: يُرِيد يَا مَالك: وَقد قَرَأَ عَليّ وَابْن مَسْعُود: (يَا مَال) ، بِغَيْر كَاف، وَالْعرب تَقول: يَا حَار: تُرِيدُ يَا حَارِث.

(1/89)


وَقَوله: قد دف أهل أَبْيَات: أَي وردوا مُتَتَابعين قوما بعد قوم، وَلَهُم دفيف وَهُوَ سير لين. وَالْمرَاد أَنهم وردوا لضر أَصَابَهُم فِي بِلَادهمْ.
والرضح: عَطاء لَيْسَ بالكثير.
ويرفا: حَاجِب عمر وآذنه.
وَقَوله اتئد: أَي تثبت وَلَا تستعجل.
وَقَوله: أنْشدكُمْ الله: أَي أَسأَلكُم وَأعْلمكُمْ مَا يجب عَلَيْكُم من الصدْق لله.
وَقد كشفنا وَجه الْخُصُومَة الَّتِي كَانَت تجْرِي بَين عَليّ وَالْعَبَّاس فِي صدقَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث السَّادِس من مُسْند أبي بكر.
إِلَّا أَن فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث: فجئتما تطلب ميراثك من ابْن أَخِيك، وَيطْلب هَذَا مِيرَاث امْرَأَته من أَبِيهَا، فَقَالَ أَبُو بكر: قَالَ رَسُول الله: " لَا نورث ".
وَقد أشكل هَذَا على بعض الْمُتَأَخِّرين فَقَالَ: كَيفَ قَالَ: أنشدكما الله، هَل تعلمان أَن رَسُول الله قَالَ: " لَا نورث؟ " ثمَّ قَالَ: فجئتما تطلبان الْمِيرَاث.
وَجَوَاب هَذَا: أنكما طلبتما الْمِيرَاث فِي زمن أبي بكر، فَلَمَّا أخبركما أَن رَسُول الله قَالَ: " لَا نورث " علمتما ذَلِك. وَكَانَ عمر قد دفع صَدَقَة رَسُول الله بِالْمَدِينَةِ إِلَى عَليّ وَالْعَبَّاس، فغلبه عَلَيْهَا عَليّ، وَأما خَيْبَر وفدك فَأَمْسَكَهُمَا عمر.
والإيجاف بِالْخَيْلِ: الإيضاع، وَهُوَ الْإِسْرَاع فِي السّير. والركاب: الْإِبِل. وَكَانَ مَا لم يوجف عَلَيْهِ ملكا لرَسُول الله خَاصَّة، هَذَا اخْتِيَار

(1/90)


أبي بكر من أَصْحَابنَا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَذهب بعض أَصْحَابنَا إِلَى أَن الْفَيْء لجَماعَة الْمُسلمين. وَإِنَّمَا كَانَ رَسُول الله يَأْخُذ من نصِيبه مَا يَأْخُذ وَيجْعَل الْبَاقِي فِي مصَالح الْمُسلمين.
وَقَوله: كَانَ يَأْخُذ نَفَقَة سنته. فِيهِ جَوَاز ادخار قوت سنة، وَلَا يُقَال: هَذَا من طول الأمل؛ لِأَن الإعداد للْحَاجة مستحسن شرعا وعقلا، وَقد اسْتَأْجر شُعَيْب مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام عشر سِنِين. وَفِي هَذَا رد على جهلة المتزهدين فِي إخراجهم من يفعل هَذَا عَن التَّوَكُّل. فَإِن احْتَجُّوا بِأَن رَسُول الله كَانَ لَا يدّخر شَيْئا لغد فَالْجَوَاب: انه كَانَ عِنْده خلق من الْفُقَرَاء، فَكَانَ يؤثرهم.
وَقَوله: مَا اسْتَأْثر عَلَيْكُم: أَي مَا أنفرد بذلك عَنْكُم حَتَّى يفِيء هَذَا المَال. يَعْنِي سَهْمه من أَمْوَال بني النَّضِير.
وَقَوله: ثمَّ يَجْعَل مَا بَقِي أُسْوَة المَال: أَي تَابعا لَهُ فِي حكمه.
37 - / 37 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: كتب عمر إِلَى عتبَة بن فرقد: إيَّاكُمْ والتنعم. وزي أهل الشّرك، ولبوس الْحَرِير، فَإِن رَسُول الله نهى عَن لبوس الْحَرِير، قَالَ: " إِلَّا هَكَذَا " فَرفع لنا رَسُول الله إصبعيه الْوُسْطَى والسبابة وضمهما. وَفِي لفظ: نهى نَبِي الله عَن لبس الْحَرِير إِلَّا مَوضِع إِصْبَعَيْنِ، أَو ثَلَاث، أَو أَربع.
قَوْله: إيَّاكُمْ والتنعم. اعْلَم أَن الآفة فِي التنعم من ثَلَاثَة أوجه:

(1/91)


أَحدهَا: أَن الدُّنْيَا دَار تَكْلِيف لَا دَار رَاحَة، فالمشتغل بالتنعم لَا يكَاد يُوفي التَّكْلِيف حَقه. أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا جَعْفَر بن أَحْمد قَالَ: أخبرنَا الْحسن بن عَليّ التَّمِيمِي قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر بن مَالك قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا هَارُون قَالَ: أَنبأَنَا ضَمرَة عَن ابْن شَوْذَب قَالَ: سَمِعت فرقدا يَقُول: إِنَّكُم لبستم ثِيَاب الْفَرَاغ قبل الْعَمَل، ألم تروا إِلَى الْفَاعِل إِذا عمل كَيفَ يلبس أدنى ثِيَابه، فَإِذا فرغ اغْتسل وَلبس ثَوْبَيْنِ نقيين، وَأَنْتُم لبستم ثِيَاب الْفَرَاغ قبل الْعَمَل.
الآفة الثَّانِيَة: أَن التنعم من حَيْثُ الْأكل يُوجب كَثْرَة التَّنَاوُل، فَيَقَع التشبع فيورث الكسل والغفله، وَيحصل البطر والمرح. وَمن جِهَة اللبَاس يُوجب لين الْبدن فيضعف عَن الْأَعْمَال الشاقة، ويصعب عَلَيْهِ الْجِهَاد والتقلب فِي الِاكْتِسَاب، وَيضم ضمنه الْخُيَلَاء. وَمن جِهَة النِّكَاح فَإِنَّهُ يحمل على إِنْفَاق القوى فِي اللَّذَّات فيضعف عَن أَدَاء اللوازم.
والآفة الثَّالِثَة: أَن من ألف ذَلِك صَعب عَلَيْهِ مُفَارقَة مَا ألف، فيفنى زَمَانه المحسوب عَلَيْهِ فِي اكْتِسَاب ذَلِك، خُصُوصا فِي بَاب التنوق فِي النِّكَاح، فَإِن المتنعمة تحْتَاج إِلَى أَضْعَاف مَا تحْتَاج إِلَيْهَا غَيرهَا، ولهذه الْمعَانِي قَالَ عمر: " اخْشَوْشِنُوا وتحفوا ".
وَأما زِيّ أهل الشّرك وَالْإِشَارَة إِلَى مَا ينفردون بِهِ، فَنهى عَن التَّشَبُّه بهم.

(1/92)


ولبوس الْحَرِير: لبسه.
وَقَوله: إِلَّا مَوضِع إِصْبَعَيْنِ أَو ثَلَاث أَو أَربع. الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى الْعلم الْحَرِير فِي الثَّوْب، وَقد أَفَادَ إِبَاحَة مَا هَذَا قدره، فَلَا يجوز أَكثر من أَربع أَصَابِع. وَقَالَ أَبُو بكر بن عبد الْعَزِيز من أَصْحَابنَا: يُبَاح ذَلِك، وَإِن كَانَ مذهبا، وَكَذَلِكَ يُبَاح الرقعة فِي الثَّوْب، ولبنة الجيب.
38 - / 38 - الحَدِيث الْعشْرُونَ: قَالَ عمر: حملت على فرس فِي سَبِيل الله، فأضاعه الَّذِي كَانَ عِنْده، فَأَرَدْت أَن أشتريه، وظننت أَنه يَبِيعهُ برخص، فَسَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " لَا تشتره، وَلَا تعد فِي صدقتك، وَإِن أعطاكه بدرهم؛ فَإِن الْعَائِد فِي صدقته كالعائد فِي قيئه " وَفِي لفظ: " كَالْكَلْبِ يعود فِي قيئه ".
قَوْله: حملت على فرس: أَي وهبته لمن يركبه فِي سَبِيل الله، وَهَذَا مُبين فِي أَلْفَاظ كَثِيرَة جَاءَت لهَذَا الحَدِيث، مِنْهَا: أَن عمر تصدق بفرس لَهُ، فَوَجَدَهَا تبَاع. فَيكون النَّهْي عَن شِرَائِهِ تَنْزِيها، لِأَنَّهُ قد أخرج محبوبا لَهُ عَن قلبه، فَلَا يَنْبَغِي أَن يستعيده. وَمثل هَذَا حَدِيث ابْن عمر أَنه أعتق جَارِيَته رميثة، ثمَّ قَالَ: لَوْلَا أَن أَعُود فِي شَيْء جعلته لله لنكحتها، فَأَنْكحهَا نَافِعًا.
والقيء مَهْمُوز، والعامة تثقله وَلَا تهمزه. وَالْمعْنَى أَن الْعود فِي الْهِبَة حرَام، كتناول الْقَيْء، وَإِنَّمَا ضرب الْمثل بالكلب لِأَنَّهُ أخس مَا يضْرب بِهِ الْمثل.

(1/93)


39 - / 39 - الحَدِيث الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: قدم على رَسُول الله سبي، فَإِذا امْرَأَة من السَّبي تسْعَى إِذا وجدت صَبيا فِي السَّبي أَخَذته فَأَلْصَقته بِبَطْنِهَا فأرضعته، فَقَالَ رَسُول الله: " أَتَرَوْنَ هَذِه الْمَرْأَة طارحة وَلَدهَا فِي النَّار؟ " قُلْنَا لَا، وَالله. قَالَ: " لله أرْحم بعباده من هَذِه بِوَلَدِهَا ".
اعْلَم أَن هَذِه الْمَرْأَة سبيت دون وَلَدهَا، وَكَانَت تفعل هَذَا بالصبيان شوقا إِلَيْهِ، وَاعْلَم أَن رَحْمَة الله عز وَجل لَيست رقة، وَإِنَّمَا حَدثهمْ بِمَا يفهمون. فَمن عُمُوم رَحمته إرْسَال الرُّسُل، وإمهال المذنبين. فَإِذا جَحده الْكَافِر خرج إِلَى مقَام العناد فَلم يكن أَهلا للرحمة. وَأما خُصُوص رَحمته فلعباده الْمُؤمنِينَ، فَهُوَ يلطف بهم فِي الشدَّة والرخاء، يزِيد على لطف الوالدة بِوَلَدِهَا.
40 - / 41 - الحَدِيث الثَّالِث وَالْعشْرُونَ: من رِوَايَة سعد بن عبيد الله: أَنه شهد الْعِيد مَعَ عمر، فصلى ثمَّ خطب فَقَالَ: إِن رَسُول الله نهاكم عَن صَوْم هذَيْن الْيَوْمَيْنِ: أما أَحدهمَا فصوم فطركم من صومكم، وَأما الآخر فَيوم تَأْكُلُونَ فِيهِ من نسككم.
ثمَّ شهدته مَعَ عُثْمَان وَكَانَ يَوْم جُمُعَة، فَقَالَ لأهل العوالي: من أحب مِنْكُم أَن ينْتَظر الْجُمُعَة فَلْيفْعَل، وَمن أحب أَن يرجع إِلَى أَهله فقد أذنا لَهُ.
ثمَّ شهدته مَعَ عَليّ، فَخَطب وَقَالَ: إِن رَسُول الله قد نهاكم أَن

(1/94)


تَأْكُلُوا من لُحُوم نسككم فَوق ثَلَاث.
أما النَّهْي عَن صَوْم عيد الْفطر، فَإِنَّهُ إِذا تطوع فِيهِ بِالصَّوْمِ لم يبن الْمَفْرُوض من غَيره، وَلِهَذَا يسْتَحبّ أَن يَأْكُل قبل أَن يخرج إِلَى الصَّلَاة. وَأما عيد الْأَضْحَى فَأمر فِيهِ بالإفطار ليَأْكُل المضحي من أضحيته، ثمَّ النَّاس فِيهِ تبع لوفد الله عز وَجل عِنْد بَيته، وهم كالضيف وَلَا يحسن صَوْمه عِنْد مضيفه.
فَإِن نذر إِنْسَان صَوْم يَوْم الْعِيد، فعندنا أَنه ينْعَقد نَذره، وَلَكِن لَا يَصُوم، بل يقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ وَيكفر كَفَّارَة يَمِين. وَعَن أَحْمد: يكفر من غير قَضَاء. وَنقل عَنهُ مهنا. مَا يدل على أَنه إِذا صَامَهُ صَحَّ صَوْمه. وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: قِيَاس الْمَذْهَب أَنه لَا يَصح صَوْمه لأجل النَّهْي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يَصح نَذره وَيلْزمهُ الْقَضَاء بِلَا كَفَّارَة، فَإِن صَامَهُ أَجزَأَهُ. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا ينْعَقد نَذره وَلَا يلْزمه قَضَاء وَلَا كَفَّارَة.
فَأَما النّسك فَهُوَ الذّبْح.
وَأما إِذا اتّفق الْعِيد يَوْم الْجُمُعَة فعندنا أَنه يَجْزِي حُضُوره عَن حُضُور الْجُمُعَة، وَهُوَ قَول الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ خلافًا لأكثرهم. وَيدل على

(1/95)


مَذْهَبنَا مَا روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث زيد بن أَرقم: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الْعِيد ثمَّ رخص فِي الْجُمُعَة. وَإِنَّمَا خص عُثْمَان أهل العوالي بِالْإِذْنِ لبعد مَنَازِلهمْ، وَعلم أَن من قرب منزله لم يُؤثر ترك الْفَضِيلَة فِي حُضُور الْجُمُعَة.
وَأما النَّهْي عَن لُحُوم النّسك فَوق ثَلَاث فقد حمله عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام على ظَاهر لَفظه. وَكَأَنَّهُ لم يبلغهُ سَبَب النَّهْي، وَلِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذن فِي ذَلِك بعد الْمَنْع. وَإِنَّمَا كَانَ سَبَب نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن قوما من الْعَرَب أَصَابَتْهُم فاقة، فَدَخَلُوا الْمَدِينَة من الْجُوع، وَأحب أَن يواسوا، وَسَيَأْتِي هَذَا فِي مُسْند عَائِشَة مشروحا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
41 - / 42 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: أَن عمر قبل الْحجر وَقَالَ: إِنِّي لأعْلم أَنَّك حجر مَا تَنْفَع وَلَا تضر، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول الله يقبلك مَا قبلتك وَفِي لفظ آخر: وَلَكِن رَأَيْت رَسُول الله بك حفيا.
فِي هَذَا الحَدِيث فنان من الْعلم:
أَحدهمَا: أَن عمر لما علم إلْف الْجَاهِلِيَّة للحجارة تكلم بِهَذَا كالمعتذر من مس الْحجر، وَبَين أَنه لَوْلَا الشَّرْع لم أفعل شَيْئا من جنس مَا كُنَّا فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَن السّنَن تتبع وَإِن لم يطلع على مَعَانِيهَا، على أَنه قد علم سَبَب تَعْظِيم الْحجر، وَذَلِكَ من وَجْهَيْن منقولين فِي الحَدِيث: أَحدهمَا: أَن الله عز وَجل لما أَخذ الْمِيثَاق من ذُرِّيَّة بني آدم أودعهُ

(1/96)


الْحجر. وَالثَّانِي: أَن الْحجر يَمِين الله فِي الأَرْض، وَقد جرت عَادَة من يُبَايع الْملك بتقبيل يَده، فَجعل الْحجر مَكَان الْيَد على جِهَة التَّمْثِيل، وَإِن كَانَ لَا مثل.
وَأما الحفي فَهُوَ المواظب على الشَّيْء المعني بِهِ. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الحفي فِي كَلَام الْعَرَب: المعني بالشَّيْء.
42 - / 43 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: قَالَ عدي بن حَاتِم: ثمَّ أتيت عمر من حِيَال وَجهه: أَي من قبل وَجهه.
وَقَوله: أول صَدَقَة بيضت وَجه رَسُول الله: أَي سر بهَا، فكنى بالتبيض عَن السرُور؛ لِأَن المسرور يشرق وَجهه، بِخِلَاف المغموم.
وأجحفت بهم الْفَاقَة: بِمَعْنى ذهبت بِأَمْوَالِهِمْ فافتقروا.
43 - / 44 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: قَالَ عمر: إِن عجل بِي أَمر فالخلافة شُورَى بَين هَؤُلَاءِ السِّتَّة.
أَي لَا ينْفَرد أحد مِنْهُم بالخلافة إِلَّا بعد تشَاور النَّاس واجتماعهم. والستة: عَليّ، وَعُثْمَان، وَطَلْحَة، وَالزُّبَيْر، وَعبد الرَّحْمَن، وَسعد.
وَقَوله: قد علمت أَن أَقْوَامًا يطعنون فِي هَذَا الْأَمر: أَي لَا يرضون بالذين اخترتهم، وَلَا بالذين يرضى بهم الْمُسلمُونَ، إيثارا لأهوائهم فِيمَن يريدونه.

(1/97)


وَقَوله: أُولَئِكَ الْكَفَرَة. إِن قيل: وَكَيف سماهم بالكفرة؟
فَالْجَوَاب: أَنه إِن عَنى الْمُنَافِقين فهم كفار، ومرادهم الْهوى والعنت. وَإِن عَنى الْمُسلمين فَقَوله يحْتَمل وَجْهَيْن: الأول: أَن أفعالهم فِي ذَلِك أَفعَال الْكَفَرَة من الْخلاف ووفاق الْهوى. وَالثَّانِي: أَنهم قد كفرُوا نعْمَة الله بمخالفتهم الْمُسلمين.
وَقَوله: لَا أدع شَيْئا أهم من الْكَلَالَة. وَقد تكلمنا فِي الْكَلَالَة فِي الحَدِيث السَّابِع من هَذَا الْمسند.
وَقَوله: " يَكْفِيك آيَة الصَّيف " وَهِي آخر سُورَة النِّسَاء، وَإِنَّمَا نَسَبهَا إِلَى الصَّيف لِأَنَّهَا نزلت فِي الصَّيف. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون لم يفته، ووكل الْأَمر إِلَى بَيَان الْآيَة اعْتِمَادًا على علمه وفقهه ليتوصل إِلَى مَعْرفَتهَا بِالِاجْتِهَادِ، وَلَو كَانَ السَّائِل مِمَّن لَا فهم لَهُ لبين لَهُ الْبَيَان الشافي. فَإِن الله عز وَجل أنزل فِي الْكَلَالَة آيَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا فِي الشتَاء، وَهِي الَّتِي فِي أول سُورَة النِّسَاء، وفيهَا إِجْمَال وإبهام لَا يكَاد يبين الْمَعْنى من ظَاهرهَا، ثمَّ أنزل الْآيَة الَّتِي فِي آخر النِّسَاء فِي الصَّيف، وفيهَا زِيَادَة بَيَان.
وَقَوله: إِن أعش أقض فِيهَا. رُبمَا قَالَ قَائِل: فَهَلا قضى قبل مَوته؟
فَالْجَوَاب: أَن قَضَاءَهُ فِيهَا لَا يكون عَن بصر، وَإِنَّمَا يكون عَن اجْتِهَاد، وَالِاجْتِهَاد يحْتَاج إِلَى ترو لَا يحْتَملهُ مَرضه.

(1/98)


وَقَوله: أوصيكم بالأنصار. وَهَذَا اسْم لأهل الْمَدِينَة الَّذين نصروا رَسُول الله وآووه حِين هَاجر إِلَيْهِم.
وَقَوله: إِنَّهُم شعب الْإِسْلَام: الشّعب: طَرِيق بَين جبلين، فشبههم بِالطَّرِيقِ الَّذِي يكتنفه الجبلان.
وَقَوله: إِنَّه مادتكم. الْمَادَّة: أصل الشَّيْء الَّذِي يستمد مِنْهُ، ويستعين بِهِ. وعنى أَنكُمْ تستمدون مِنْهُم الْمَنَافِع، كَمَا يستمد أهل الْبَلَد من أهل الْقرى.
وَقَوله: ورزق عيالكم: يَعْنِي مَا يُؤْخَذ مِنْهُم من الْجِزْيَة.
44 - / 45 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
قَالَ ابْن عمر: مَا سَمِعت عمر يَقُول لشَيْء قطّ: إِنِّي لأظنه كَذَا إِلَّا كَانَ كَمَا يظنّ: بَينا عمر جَالس مر بِهِ رجل جميل، فَقَالَ: لقد أَخطَأ ظَنِّي أَو إِن هَذَا على دينه فِي الْجَاهِلِيَّة، أَو لقد كَانَ كاهنهم، عَليّ الرجل: فدعي لَهُ، فَقَالَ لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: كنت كاهنهم.
أما صِحَة الظَّن فَهُوَ من قُوَّة الذكاء والفطنة، فَإِن الفطن يرى من السمات والأمارات مَا يسْتَدلّ بِهِ على الْخَفي، ثمَّ لَا يستبعد هَذَا من مثل عمر الْمُحدث الملهم. وَقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء: ظن الْعَاقِل كهَانَة. وَقَالَ آخر: إِذا رَأَيْت الرجل موليا علمت حَاله. قيل: فَإِن رَأَيْت وَجهه؟ قَالَ: ذَاك حِين أَقرَأ مَا فِي قلبه كالخط.
وَقد كَانُوا يعتبرون أَحْوَال الرجل بخلقه، قَالَ الشَّافِعِي: احذر

(1/99)


الْأَعْوَر، والأحول، والأعرج، والأحدب، والكوسج، وكل من بِهِ عاهة فِي بدنه، وكل نَاقص الْخلق، فَإِنَّهُم أَصْحَاب خب، وَقَالَ: مَرَرْت فِي طريقي بِفنَاء دَار رجل أَزْرَق الْعين، ناتئ الْجَبْهَة، سناط، فَقلت: هَل من منزل؟ قَالَ: نعم. قَالَ الشَّافِعِي: وَهَذَا النَّعْت أَخبث مَا يكون فِي الفراسة، فأنزلني وأكرمني، فَقلت: أغسل كتب الفراسة إِذْ رَأَيْت هَذَا، فَلَمَّا أَصبَحت قلت لَهُ: إِذا قدمت مَكَّة فسل عَن الشَّافِعِي. فَقَالَ: أمولى لأَبِيك كنت؟ فَقلت: لَا. قَالَ: أَيْن مَا تكلفت لَهُ البارحة؟ فوزنت مَا تكلّف، وَقلت: بَقِي شَيْء آخر؟ قَالَ: كِرَاء الدَّار، ضيقت عَليّ نَفسِي. فوزنت لَهُ، فَقَالَ: امْضِ، أخزاك الله، فَمَا رَأَيْت أشر مِنْك.
قَوْله: ألم تَرَ الْجِنّ وإبلاسها. قَالَ الْفراء: المبلس: الآيس الْمُنْقَطع رجاؤه، وَلذَلِك قيل للَّذي يسكت عِنْد انْقِطَاع حجَّته: قد أبلس. قَالَ العجاج:
(يَا صَاح هَل تعرف رسما مكرسا ... )

(قَالَ: نعم، أعرفهُ وأبلسا ... )

أَي: لم يحر جَوَابا. والمكرس: الَّذِي بعرت فِيهِ الْإِبِل وبولت،

(1/100)


فَركب بعضه بَعْضًا.
وَقَوله: ويأسها من بعد إيناسها. أنست الشَّيْء: أبصرته وأدركته. فَكَأَن الْجِنّ يئست مِمَّا كَانَت تُدْرِكهُ ببعثة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
والقلاص جمع قلُوص: وَهِي النَّاقة الصابرة على السّير. وَقيل: هِيَ الطَّوِيلَة القوائم، والأحلاس جمع حلْس: وَهُوَ مَا يَجْعَل على ظهر الْبَعِير للتوطئة كالبرذعة. وَالْمرَاد بِهَذَا أَن الْجِنّ لما علمت بِظُهُور رَسُول الله تحيرت ويئست من نيل مرادها، فبعدت وَاسْتَوْحَشْت بعد انبساطها وأنسها.
وَقَوله: يَا جليح: اسْم شخص. أَمر نجيح: أَي سريع، من النجاح: وَهُوَ الظفر بالمراد. وَهَذَا من الهواتف المنذرة ببعثة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. أخبرنَا هبة الله بن مُحَمَّد قَالَ: أخبرنَا الْحسن بن عَليّ قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بكر قَالَ: أخبرنَا عبد الله بن أبي زِيَاد قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن كثير عَن مُجَاهِد قَالَ: حَدثنَا شيخ أدْرك الْجَاهِلِيَّة يُقَال لَهُ ابْن عبس قَالَ: كنت أسوق بقرة لآل لنا، فَسمِعت من جوفها: يال ذريح، قَول فصيح، رجل يَصِيح: أَن لَا إِلَه إِلَّا الله. قَالَ: فقدمنا مَكَّة، فَوَجَدنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد خرج بِمَكَّة.
وَقَوله: فَمَا نشبنا أَن قيل: هَذَا نَبِي. أَي: مَا تَأَخّر ذَلِك. وَالْمعْنَى: مَا نشبنا فِي أَمر سوى هَذَا الْأَمر، أَي إِنَّه كَانَ عَاجلا.

(1/101)


45 - / 46 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: لما فدع أهل خَيْبَر عبد الله بن عمر.
الفدع: إِزَالَة المفاصل عَن أماكنها، وَذَلِكَ بِأَن تزِيغ الْيَد عَن عظم الزند، وَالرجل عَن عظم السَّاق.
وَقَوله: عَامل رَسُول الله يهود خَيْبَر على أَمْوَالهم: أَي أَعْطَاهُم الشّجر وَالنَّخْل يعْملُونَ فِيهَا.
وَقَوله: نقركم مَا أقركم الله: يُرِيد: إِن أمرنَا بحقكم بِغَيْر ذَلِك فعلنَا.
وَقَوله: هم تهمتنا: أَي الَّذين نتهمهم بذلك.
والإجلاء: الْإِخْرَاج عَن المَال والوطن على وَجه الإزعاج وَالْكَرَاهَة.
والقلوص: قد ذَكرنَاهَا فِي الحَدِيث الَّذِي قبله.
وَفِي لفظ: كَيفَ بك إِذا رقصت بك راحلتك: أَي خبت بك: وَهُوَ ضرب من الْعَدو. وأرقصها راكبها: إِذا حملهَا على ذَلِك.
والهزيلة: تَصْغِير الْهزْل، وَهُوَ ضد الْجد.
والصفراء: الذَّهَب. والبيضاء: الْفضة. وَالْحَلقَة: السِّلَاح. والمسك بِفَتْح الْمِيم وتسكين السِّين: الإهاب.
والنكث: نقض الْعَهْد.
والشطر: النّصْف.
والرشوة: إِعْطَاء شَيْء لفعل شَيْء.
والسحت: الْحَرَام، وَفِيه لُغَتَانِ سحت وسحت، كشغل وشغل،

(1/102)


وَعمر وَعمر. قَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: هما جَمِيعًا اسْم للشَّيْء المسحوت وليسا بِالْمَصْدَرِ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على جَوَاز الْمُسَاقَاة فِي النّخل وَالْكَرم وَالشَّجر وكل أصل لَهُ ثَمَر، وَهُوَ أَن يدْفع الرجل نخله وَكَرمه إِلَى رجل يعْمل فِيهَا بِمَا يصلحها، وَيكون لَهُ الشّطْر من ثَمَرهَا. فَهَذَا جَائِز عِنْد أَحْمد. وَقَالَ الشَّافِعِي: يجوز الْمُسَاقَاة فِي النّخل وَالْكَرم، وَله فِي بَقِيَّة الشّجر قَولَانِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز بِحَال.
وَقَالَ دَاوُد: لَا يجوز إِلَّا فِي النّخل. وَقَوله: وَكَانَ ابْن رَوَاحَة يخرصها عَلَيْهِم: أَي يحزر ثَمَرهَا.
والوسق: سِتُّونَ صَاعا، والصاع: خَمْسَة أَرْطَال وَثلث.
وَقَوله: فَقَسمهَا عمر بَين من كَانَ شهد خَيْبَر من أهل الْحُدَيْبِيَة: وَذَلِكَ لِأَن أهل الْحُدَيْبِيَة لما انصرفوا عَن الْحُدَيْبِيَة بِالصُّلْحِ وعدهم الله تَعَالَى فتح خَيْبَر. وَخص بهَا من شهد الْحُدَيْبِيَة، فَقَالَ من تخلف عَن الْحُدَيْبِيَة {ذرونا نتبعكم} إِلَى خَيْبَر، فَقَالَ الله عز وَجل: {سَيَقُولُ الْمُخَلفُونَ} الَّذين تخلفوا عَن الْحُدَيْبِيَة {إِذا انطلقتم إِلَى مَغَانِم} وَهِي خَيْبَر {ذرونا نتبعكم يُرِيدُونَ أَن يبدلوا كَلَام الله} أَي مواعيده بغنيمة خَيْبَر لأهل الْحُدَيْبِيَة خَاصَّة {كذلكم قَالَ الله من قبل} إِن غَنَائِم خَيْبَر لمن شهد الْحُدَيْبِيَة.

(1/103)


46 - / 47 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أَن غُلَاما قتل غيلَة، فَقَالَ عمر: لَو اشْترك فِيهَا أهل صنعاء لقتلتهم.
قَالَ أَبُو عبيد: الغيلة: أَن يخدع الْإِنْسَان بالشَّيْء حَتَّى يصير إِلَى مَوضِع يخفى، فَإِذا صَار إِلَيْهِ قتل.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن الْجَمَاعَة يقتلُون بِالْوَاحِدِ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل. وَعَن أَحْمد رِوَايَة: لَا يقتلُون، بل يجب عَلَيْهِم الدِّيَة، وَهُوَ قَول دَاوُد.
47 - / 48 - الحَدِيث الرَّابِع: قَالَ ابْن عمر: لما فتح هَذَانِ المصران أَتَوا عمر فَقَالُوا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن رَسُول الله حد لأهل نجد قرنا، وَإنَّهُ جور عَن طريقنا، وَإِنَّا إِن أردنَا أَن نأتي قرنا شقّ علينا. قَالَ: فانظروا حذوها من طريقكم. قَالَ: فحد لَهُم ذَات عرق.
الْمصر: الْبَلَد. قَالَ ابْن فَارس: إِن الْمصر الْحَد. وَأهل هجر يَكْتُبُونَ فِي شروطهم: اشْترى فلَان الدَّار بمصورها: أَي بحدودها. قَالَ عدي:
(وجاعل الشَّمْس مصرا لاخفاء بِهِ ... بَين النَّهَار وَبَين اللَّيْل قد فصلا)

قَالَ الْمفضل الضَّبِّيّ: وَسميت مصر الْمَعْرُوفَة مصر؛ لِأَنَّهَا آخر

(1/104)


حُدُود الْمشرق وَأول حُدُود الْمغرب، فَهِيَ حد بَينهمَا.
وَالْمرَاد بالمصرين: الْكُوفَة وَالْبَصْرَة. وَلما افْتتح سعد بن أبي وَقاص الْقَادِسِيَّة نزل الْكُوفَة، وخطها لقبائل الْعَرَب، وابتنى بهَا دَارا، ووليها لعمر وَعُثْمَان. وَكَانَ سلمَان الْفَارِسِي يَقُول: الْكُوفَة قبَّة الْإِسْلَام.
وَفِي تَسْمِيَتهَا بِالْكُوفَةِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا من قَوْلهم: تكوف الرمل: إِذا ركب بعضه بَعْضًا. وَالثَّانِي: استدارة النّخل بهَا. وَالثَّالِث: انها من الكوفان، يُقَال: للشر كوفان، وكوفان، ذكرهن ابْن فَارس.
فَأَما الْبَصْرَة فَقَالَ مُصعب بن مُحَمَّد: إِنَّمَا سميت بصرة لِأَنَّهَا كَانَت فِيهَا حِجَارَة سود. وَالَّذِي فتحهَا عتبَة بن غَزوَان، وَهُوَ الَّذِي اختطها.
فَلَمَّا شكا أهل هَاتين البلدتين إِلَى عمر مَا يصعب عَلَيْهِم من قصد قرن حد لَهُم ذَات عرق، وَإِنَّمَا حَدهَا لَهُم لِأَنَّهَا حَذْو قرن: أَي محاذيتها، تَقول: هَذَا حَذْو هَذَا، ووازن هَذَا.
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه حد ذَات عرق، وَلَكِن الصَّحِيح مَا ذَكرْنَاهُ، وَقد تبع النَّاس رَأْي عمر فِي ذَلِك إِلَى زَمَاننَا هَذَا، وَسَيَأْتِي ذكر الْمَوَاقِيت فِي مُسْند ابْن عَبَّاس إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

(1/105)


وَأما نجد فَالْأَصْل فِيهَا الِارْتفَاع، يُقَال للْأَرْض المرتفعة نجد، وخلافها الْغَوْر، لِأَنَّهُ من الهبوط.
والجور. الْميل عَن الْقَصْد.
48 - / 49 - الحَدِيث الْخَامِس: أَن عمر قَرَأَ السَّجْدَة فَلم يسْجد، وَقَالَ: لم يفْرض علينا السُّجُود.
وَهَذَا دَلِيل على أَن سُجُود التِّلَاوَة لَا يجب، وَإِنَّمَا هُوَ سنة، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَدَاوُد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هُوَ وَاجِب. فَأَما إِذا ركع بَدَلا من السُّجُود فَإِنَّهُ لَا يَجْزِي، وَهُوَ قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هُوَ بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ ركع وَإِن شَاءَ سجد. وَأما إِذا قَرَأَ الْإِنْسَان سَجْدَة فَسجدَ ثمَّ أعَاد، فعندنا أَنه يسن أَن يُعِيد السُّجُود. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يُعِيد.
وَعِنْدنَا أَنه لَا يَصح سُجُود التِّلَاوَة إِلَّا بتكبيرة الْإِحْرَام وَالسَّلَام، خلافًا لأَصْحَاب أبي حنيفَة وَبَعض الشَّافِعِيَّة.
49 - / 50 - الحَدِيث السَّادِس: قَالَ ابْن عمر: بَينا عمر فِي الدَّار خَائفًا، إِذْ جَاءَهُ الْعَاصِ بن وَائِل السَّهْمِي وَعَلِيهِ حلَّة حبر وقميص مكفوف بحرير، وَهُوَ من بني سهم، وهم حلفاؤنا فِي الْجَاهِلِيَّة،

(1/106)


فَقَالَ لَهُ: مَا مَالك؟ قَالَ: زعم قَوْمك أَنهم سيقتلونني أَن أسلمت. قَالَ: لَا سَبِيل إِلَيْك، أمنت، فَخرج الْعَاصِ، فلقي النَّاس قد سَالَ بهم الْوَادي، فَقَالَ: أَيْن تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيد ابْن الْخطاب الَّذِي صَبأ قَالَ: لَا سَبِيل إِلَيْهِ. فكر النَّاس.
أما خوف عمر؛ فَلِأَنَّهُ أسلم، وَفعل يَوْم إِسْلَامه مَا كَاد بِهِ الْمُشْركين وغاظهم، فَلذَلِك تواعدوه بِالْقَتْلِ. أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن أَحْمد قَالَ: حَدثنَا أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْحسن قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عُثْمَان بن أبي شيبَة قَالَ: حَدثنَا عبد الحميد بن صَالح قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن أبان عَن إِسْحَق بن عبد الله عَن أبان بن صَالح عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: سَأَلت عمر: لأي شَيْء سميت الْفَارُوق؟ قَالَ: أسلم حَمْزَة قبلي بِثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ شرح الله صَدْرِي لِلْإِسْلَامِ، فَقلت: {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} فَمَا فِي الأَرْض نسمَة أحب إِلَيّ من نسمَة رَسُول الله. فَقلت أَيْن رَسُول الله؟ قَالَت أُخْتِي: هُوَ فِي دَار الأرقم بن الأرقم عِنْد الصَّفَا، فَأتيت الدَّار وَحَمْزَة فِي أَصْحَابه جُلُوس فِي الدَّار، وَرَسُول الله فِي الْبَيْت، فَضربت الْبَاب، فَاسْتَجْمَعَ الْقَوْم، فَقَالَ لَهُم حَمْزَة: مالكم؟ قَالُوا: عمر بن الْخطاب. قَالَ فَخرج رَسُول الله، فَأخذ بِمَجَامِع ثِيَابه ثمَّ نثره نثرة، فَمَا تمالك أَن وَقع على رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: " مَا أَنْت بمنته يَا عمر " قَالَ: قلت: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله. قَالَ: فَكبر أهل الدَّار تَكْبِيرَة سَمعهَا أهل الْمَسْجِد. قَالَ: فَقلت: يَا رَسُول الله، أَلسنا على الْحق إِن متْنا وَإِن

(1/107)


حيينا؟ قَالَ: " بلَى، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّكُم على الْحق إِن متم وَإِن حييتُمْ " قَالَ: فَقلت: فَفِيمَ الاختفاء وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ؟ فأخرجناه فِي صفّين، حَمْزَة فِي أَحدهمَا وَأَنا فِي الآخر، لَهُ كديد ككديد الطحين حَتَّى دَخَلنَا الْمَسْجِد، فَنَظَرت إِلَيّ قُرَيْش وَإِلَى حَمْزَة، فَأَصَابَتْهُمْ كآبة لم يصبهم مثلهَا، فسماني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ الْفَارُوق، وَفرق الله بِي بَين الْحق وَالْبَاطِل.
أما الْعَاصِ بن وَائِل فَهُوَ أَبُو عَمْرو.
والحلة: لَا تكون إِلَّا ثَوْبَيْنِ، قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: الْحلَّة ثَوْبَان: إِزَار ورداء، وَلَا تسمى حلَّة حَتَّى تكون جَدِيدَة تحل عَن طيها.
فَأَما الحبر فَهُوَ نوع من البرود مخطط.
والحلفاء جَمِيع حَلِيف، وَكَانُوا يتحالفون فِي الْجَاهِلِيَّة على الْمُوَالَاة والنصرة، ويتوارثون بذلك.
وسال بهم الْوَادي: سالوا فِيهِ، وَهَذَا تجوز، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لكثرتهم وإسراعهم، فشبههم بالسيل.
وصبأ بِمَعْنى خرج من دين إِلَى دين، يُقَال: صَبأ نَاب الْبَعِير: أَي طلع، وَهُوَ مَهْمُوز.
وَقَوله: فكر النَّاس: أَي رجعُوا.
50 - / 51 - الحَدِيث السَّابِع: أَن عمر قَالَ لأبي مُوسَى: هَل يَسُرك أَن إسْلَامنَا مَعَ رَسُول الله، وهجرتنا مَعَه، وجهادنا مَعَه، وعملنا كُله

(1/108)


مَعَه برد لنا، وَإِن كل عمل عَمِلْنَاهُ بعده نجونا مِنْهُ كفافا، رَأْسا بِرَأْس؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَا وَالله، قد جاهدنا بعد رَسُول الله، وصلينا وصمنا، وعملنا خيرا كثيرا، وَأسلم على أَيْدِينَا بشر كثير، وَإِنَّا لنَرْجُو ذَلِك. قَالَ عمر: لكني أَنا وددت ذَلِك.
برد: بِمَعْنى ثَبت لنا ثَوَابه وخلص.
وَقَوله: كفافا: كِنَايَة عَن الْمُسَاوَاة. يُقَال خرجت من فعلي كفافا: أَي لَا لي شَيْء وَلَا عَليّ شَيْء.
وَالَّذِي تلمحه عمر أَن جد الطَّالِب فِي بداية أمره صَاف عَن الشوائب، وَلِهَذَا أوجب فِرَاقه الْأَهْل وَالْمَال، وَالصَّبْر الشَّديد على الشدائد. وَيحْتَمل أَن يكون عمر إِنَّمَا خَافَ مَا دخل فِيهِ من الْولَايَة.
51 - / 52 - الحَدِيث الثَّامِن: قَالَ عمر: لما مَاتَ عبد الله بن أبي بن سلول دعِي لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليُصَلِّي عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُول الله وَثَبت إِلَيْهِ فَقلت: أَتُصَلِّي على ابْن أبي وَقد قَالَ يَوْم كَذَا: كَذَا وَكَذَا.
كَانَ عبد الله بن أبي سيد الْخَزْرَج فِي آخر جاهليتهم، فَلَمَّا ظهر النَّبِي حسده، ونافق، وَهُوَ ابْن خَالَة أبي عَامر الراهب الَّذِي ترهب فِي الْجَاهِلِيَّة، فَلَمَّا بعث رَسُول الله حسده أَبُو عَامر أَيْضا. وَكَانَ المُنَافِقُونَ خلقا كثيرا، حَتَّى إِنَّه قد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: كَانُوا ثَلَاثمِائَة رجل، وَمِائَة وَسبعين امْرَأَة. وَقد أحصينا من عرفنَا مِنْهُم فِي

(1/109)


كتَابنَا الْمُسَمّى ب " التلقيح "، إِلَّا أَن ابْن أبي كَانَ رَأس الْقَوْم، وَأبي: أَبوهُ، وسلول: اسْم أم أَبِيه، فَهُوَ عبد الله بن أبي بن مَالك. وَيُقَال: ابْن سلول، فسلول أم أبي لَا أم عبد الله، فَتَارَة ينْسب أبي إِلَيْهَا، وَتارَة إِلَى أَبِيه مَالك. هَكَذَا ذكره ابْن سعد.
وَقَوله: " إِنِّي خيرت فاخترت " يُشِير إِلَى قَوْله تَعَالَى: {اسْتغْفر لَهُم أَو لَا تستغفر لَهُم إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ يغْفر الله لَهُم} [التَّوْبَة: 80] وَإِنَّمَا فعل هَذَا رَسُول الله لثَلَاثَة معَان: أَحدهَا: لسعة حلمه عَمَّن يُؤْذِيه. وَالثَّانِي: لرحمة الْخلق عِنْد تلمح جَرَيَان الأقدار عَلَيْهِم. وَالثَّالِث: لإكرام وَلَده، وَكَانَ وَلَده اسْمه عبد الله أَيْضا، وَقد شهد بَدْرًا.
52 - / 53 - الحَدِيث التَّاسِع: لما قدم عُيَيْنَة بن حصن نزل على ابْن أَخِيه الْحر بن قيس بن حصن، وَكَانَ من النَّفر الَّذين يدنيهم عمر، وَكَانَ الْقُرَّاء أَصْحَاب عمر ومشاورته، كهولا كَانُوا أَو شبانا.
أما عُيَيْنَة فَكَانَ اسْمه حُذَيْفَة، فأصابته لقُوَّة فجحظت عينه، فَسُمي عُيَيْنَة، وَهُوَ مَعْدُود فِي الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم.
والقراء: يُرَاد بهم قراء الْقُرْآن. وَيُرَاد بهم أهل التَّعَبُّد والزهد.

(1/110)


وَقَوله: مَا تُعْطِينَا الجزل. الجزل: مَا كثر من الْعَطاء. وَأَصله مَا عظم من الْحَطب، فاستعير للكثير.
وَقَوله: خُذ الْعَفو. الْعَفو: الميسور. يُقَال: خُذ منا مَا عَفا لَك: أَي مَا أَتَاك سهلا بِلَا إِكْرَاه وَلَا مشقة.
وللمفسرين فِي المُرَاد بِهَذَا الْعَفو ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه التجاوز عَن أَخْلَاق النَّاس. قَالَه ابْن الزبير، وَالْحسن، وَمُجاهد. فَيكون الْمَعْنى: لَا تستقص عَلَيْهِم وسامح فِي المخالطة.
الثَّانِي: أَنه المَال، ثمَّ فِي المُرَاد بِهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الزَّكَاة، قَالَه مُجَاهِد. وَالثَّانِي: صَدَقَة كَانَت تُؤْخَذ قبل فرض الزَّكَاة ثمَّ نسخت بِالزَّكَاةِ، رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس.
وَالثَّالِث: أَن المُرَاد بهَا مساهلة الْمُشْركين وَالْعَفو عَنْهُم، ثمَّ نسخ بِآيَة السَّيْف قَالَه ابْن زيد.
قَوْله: {وَأمر بِالْعرْفِ} [الْأَعْرَاف: 199] الْعرف وَالْمَعْرُوف: مَا عرف من طَاعَة الله عز وَجل.
قَوْله: مَا جاوزها عمر: الْمَعْنى أَنه وقف عِنْد سماعهَا عَن إِمْضَاء مَا هم بِهِ من الْعقُوبَة.
53 - / 54 - الحَدِيث الْعَاشِر: عمل بِالْمَعَاصِي حَتَّى أغرق أَعماله.

(1/111)


أَي أبطلها وأفسدها فَذهب نَفعهَا كَمَا تذْهب نفس الغريق بِالْغَرَقِ.
54 - / 55 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: سَمِعت رَسُول الله وَهُوَ بوادي العقيق بقوله: " أَتَانِي اللَّيْلَة آتٍ من رَبِّي فَقَالَ: صل فِي هَذَا الْوَادي الْمُبَارك، وَقل: عمْرَة فِي حجَّة ".
أما وَادي العقيق، فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: هُوَ مِيقَات لأهل الْعرَاق، وَكَانَ الشَّافِعِي يسْتَحبّ أَن يحرم أهل الْعرَاق من العقيق، وَإِن أَحْرمُوا من ذَات عرق أجزأهم.
وَأما الْعمرَة، فَقَالَ الزّجاج: هِيَ الْقَصْد، وكل قَاصد شَيْئا فقد اعتمره، وَكَذَلِكَ الْحَج. وَذكر ابْن الْأَنْبَارِي فِي الْعمرَة قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا أَنَّهَا الزِّيَارَة. وَالثَّانِي: الْقَصْد.
وَفِي الْحَج لُغَتَانِ: فتح الْحَاء، وَكسرهَا. وَقَالَ ثَعْلَب: هُوَ بِالْفَتْح مصدر، وبالكسر اسْم.
وَهَذَا الحَدِيث يحْتَج بِهِ الحنفيون، لِأَن الْقرَان عِنْدهم أفضل. وَقد أجِيبُوا أَن فِي بعض أَلْفَاظه الصَّحِيحَة: عمْرَة وَحجَّة. على أَن لَفْظَة فِي قد تكون بِمَعْنى " مَعَ ". ثمَّ هُوَ مَحْمُول على معنى تحصيلهما جَمِيعًا، لِأَن عمْرَة الْمُتَمَتّع وَاقعَة فِي أشهر الْحَج.

(1/112)


55 - / 56 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: قَالَ عَمْرو بن مَيْمُون: رَأَيْت عمر قبل أَن يصاب بأيام وقف على حُذَيْفَة وَعُثْمَان بن حنيف فَقَالَ: كَيفَ فعلتما؟ أتخافان أَن تَكُونَا قد حملتما الأَرْض مَا لَا تطِيق؟ .
أما قَول عمر لِحُذَيْفَة وَعُثْمَان: أتخافان أَن تَكُونَا حملتما الأَرْض. كَانَ عمر قد بعثهما لأخذ الْخراج، فَقَالَ: أتخافان أَن تكون حملتما الأَرْض مَا لَا تطِيق؟ إِشَارَة إِلَى الْخراج.
والأرامل: جمع أرملة: وَهِي الْمَرْأَة الَّتِي لَا زوج لَهَا. وَيُقَال للرجل إِذا لم تكن لَهُ زَوْجَة أرمل أَيْضا: وَأَرَادَ عمر بغنى الأرامل مَا يفْرض لَهُنَّ فِي بَيت المَال.
والخلل: الفرجة بَين الشَّيْئَيْنِ، بِضَم الْفَاء. فَأَما الفرجة بِفَتْحِهَا فانفراج الْهم.
وَقَوله: أكلني الْكَلْب: ظن عمر أَن كَلْبا قد عضه لما جرح، وَكَانَ يَقُول لَهُم: لقد طعنني وَمَا أَظُنهُ إِلَّا كَلْبا حَتَّى طعنني الثَّالِثَة.
وَقَوله: فطار العلج: أَي أسْرع فِي مَشْيه إِلَى عمر يدْفع النَّاس، فَشبه إسراعه بإسراع الطَّائِر. والعلج: الرجل الشَّديد. وَيُقَال: إِن اشتقاقه من المعالجة: وَهِي مزاولة الشَّيْء، وَيُقَال للأعجمي علج. وَالْأَصْل فِي العلج أَنه حمَار الْوَحْش.
والبرنس: كسَاء، وَهُوَ مُبين فِي الحَدِيث: أَنه طرح عَلَيْهِ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ خميصة كَانَت عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي احتز

(1/113)


رَأسه بعد أَن قتل نَفسه.
وَقَوله: آلصنع؟ يُرِيد: الَّذِي يحسن الصِّنَاعَة. يُقَال: رجل صنع، وَامْرَأَة صناع.
وَكَانَ أَبُو لؤلؤة حدادا نقاشا نجارا، واسْمه فَيْرُوز.
وَقَوله: قَاتله الله، فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: لَعنه الله، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: قَتله الله، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة. وَالثَّالِث: عَادَاهُ الله، ذكره ابْن الْأَنْبَارِي.
وَقَوله: الْحَمد لله الَّذِي لم يَجْعَل ميتتي بيد رجل مُسلم، كَانَ أَبُو لؤلؤة مجوسيا.
وَقَوله: فاحملوني وَقل: يسْتَأْذن عمر. قد سبق اسْتِئْذَانه لعَائِشَة فِي حَيَاته، وَإِنَّمَا أَمرهم بِإِعَادَة الاسْتِئْذَان بعد مَوته ورعا، مَخَافَة أَن تكون أَذِنت لَهُ فِي حَيَاته حَيَاء ومحاباة.
وَقد سمينا السِّتَّة أَصْحَاب الشورى فِي حَدِيث السَّقِيفَة، وَذكرنَا هُنَالك تَفْسِير كَلِمَات فِي هَذَا الحَدِيث.
وَقَوله: يشهدكم عبد الله. طيب قلب ابْنه بِحُضُورِهِ مَعَ الْقَوْم، وَلم يستخلفه لفضل غَيره عَلَيْهِ.
وَفِي الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين قَولَانِ.
أَحدهمَا: أَنهم الَّذين صلوا الْقبْلَتَيْنِ. قَالَه أَبُو مُوسَى، وَسَعِيد بن الْمسيب.
وَالثَّانِي: أَنهم الَّذين أدركوا بيعَة الرضْوَان، قَالَه الشّعبِيّ، وَابْن سِيرِين.

(1/114)


فعلى القَوْل الأول الْإِشَارَة إِلَى من هَاجر قبل تَحْويل الْقبْلَة، والقبلة حولت فِي نصف رَجَب سنة ثِنْتَيْنِ من الْهِجْرَة، وَقيل: فِي نصف شعْبَان، وعَلى الثَّانِي الْإِشَارَة إِلَى من هَاجر قبل الْحُدَيْبِيَة؛ لِأَن بيعَة الرضْوَان فِيهَا كَانَت، وغزوة الْحُدَيْبِيَة كَانَت فِي سنة سِتّ.
وَالْأَنْصَار أهل الْمَدِينَة، سموا بذلك لأَنهم نصروا رَسُول الله.
وَالْمرَاد بِالدَّار الْمَدِينَة. (وتبوءوا) بِمَعْنى نزلُوا الْمَدِينَة. وَالْمعْنَى تبوءوا الدَّار وآثروا الْإِيمَان. (من قبلهم) أَي من قبل هِجْرَة الْمُهَاجِرين.
والأمصار: الْبلدَانِ.
والردء: العون وَالْقُوَّة. يُقَال: فلَان ردء لفُلَان: أَي معينه ومقويه.
وَقد سبق فِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين شرح الْمَادَّة.
وحواشي المَال: مَا لَيْسَ من خِيَاره. وأصل الْحَوَاشِي: النواحي، وَيُشِير بذلك إِلَى الزَّكَاة.
وَأهل الذِّمَّة: أهل الْكتاب. وَإِنَّمَا أوصى بهم ليَقَع الْوَفَاء لَهُم بِمَا عقده الشَّرْع.
والرهط الَّذين ولاهم عمر هم السِّتَّة أهل الشورى.
وَقَوله: لست بِالَّذِي أنافسكم: أَي لَا أحرص على أَن أغلب على مَا تتنافسون فِيهِ.
وآلو: بِمَعْنى أقصر.

(1/115)


وانثال النَّاس عَلَيْهِ: أَي تتابعوا فِي الِاجْتِمَاع إِلَيْهِ. يُقَال: نثل مَا فِي كِنَانَته: أَي صب ذَلِك، فتتابع بعضه خلف بعض.
وابهار اللَّيْل: مَعْنَاهُ انتصف، أَخذ من بهرة الشَّيْء: أَي وَسطه.
وَيُقَال: تهور اللَّيْل: أَي أدبر وانهدم كَمَا يتهور الْبناء، قَالَه أَبُو عبيد.
وَقَوله: وَكَانَ يخْشَى من عَليّ شَيْئا: أَي يحذر أَن يُخَالف،، وَهُوَ الْمشَار إِلَيْهِ بقوله: لَك قرَابَة رَسُول الله والقدم فِي الْإِسْلَام: يَعْنِي السَّابِقَة والمنزلة. وَالْمعْنَى: لَك الْفضل الَّذِي قَدمته لتقدم عَلَيْهِ.
56 - / 57 - الحَدِيث الثَّالِث عشر: قَالَ عبد الرَّحْمَن بن عبد: خرجت لَيْلَة فِي رَمَضَان إِلَى الْمَسْجِد، فَإِذا النَّاس أوزاع متفرقون.
الأوزاع: الْجَمَاعَات المتفرقة.
والرهط: مَا بَين الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة.
وَقَوله: نعمت الْبِدْعَة. الْبِدْعَة: فعل شَيْء لَا على مِثَال تقدم، فسماها بِدعَة لِأَنَّهَا لم تكن فِي زمن رَسُول الله على تِلْكَ الصّفة، وَلَا فِي زمن أبي بكر، وَقد تكون الْبِدْعَة فِي الْخَيْر وَالشَّر، وَإِنَّمَا المذموم من الْبدع مَا رد مَشْرُوعا أَو نافاه.
وَقَوله: الَّتِي ينامون عَنْهَا: يُرِيد صَلَاة آخر اللَّيْل.
57 - / 60 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: جلس عمر على مِنْبَر

(1/116)


رَسُول الله، وَذَلِكَ الْغَد من يَوْم توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَتشهد وَأَبُو بكر صَامت. ثمَّ قَالَ عمر: أما بعد، فَإِنِّي قلت لكم أمس مقَالَة، وَإِنَّهَا لم تكن كَمَا قلت، وَكنت أَرْجُو أَن يعِيش رَسُول الله حَتَّى يدبرنا.
الْإِشَارَة بالمقالة الَّتِي قَالَهَا إِلَى قَوْله: إِن رَسُول الله لم يمت.
ويدبرنا: بِمَعْنى يبْقى بَعدنَا. قَالَ اللغويون: دابر الْقَوْم: آخِرهم؛ لِأَنَّهُ ياتي فِي أدبارهم، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّيْل إِذْ أدبر} [المدثر: 33] أَي تبع النَّهَار فَكَانَ بعد.
قَوْله: فَرَأَيْت عمر يزعج أَبَا بكر: أَي ينهضه بِسُرْعَة. وَكَانَ قد بُويِعَ يَوْم السَّقِيفَة، وَإِنَّمَا كَانَت الْبيعَة الْعَامَّة فِي الْيَوْم الثَّانِي عِنْد الْمِنْبَر.
وَالْآيَة الَّتِي تَلَاهَا أَبُو بكر فِي أول يَوْم مَاتَ الرَّسُول: {وَمَا مُحَمَّد إِلَّا رَسُول} [آل عمرَان: 144] .
وعقرت بِمَعْنى دهشت.
58 - / 61 - الحَدِيث السَّابِع عشر: قَالَ عمر: نهينَا عَن التَّكَلُّف. وَفِي لفظ أَن عمر قَرَأَ: {وَفَاكِهَة وَأَبا} [عبس: 31] وَقَالَ: مَا الْأَب؟ ثمَّ قَالَ: مَا كلفنا، أَو مَا أمرنَا بِهَذَا.
وَهَذَا الحَدِيث يحْتَمل ثَلَاثَة أَشْيَاء:
أَحدهَا: أَن يكون عمر قد علم الْأَب، لِأَنَّهَا كلمة شائعة بَين

(1/117)


الْعَرَب، وَأَنه الَّذِي ترعاه الْبَهَائِم، وَلكنه أَرَادَ تخويف غَيره من التَّعَرُّض للتفسير بِمَا لَا يعلم، كَمَا كَانَ يَقُول: أقلوا الرِّوَايَة عَن رَسُول الله وَأَنا شريككم، يُرِيد الِاحْتِرَاز، فَإِن من احْتَرز قلت رِوَايَته.
وَالثَّانِي: أَن يكون ذَلِك خَفِي عَنهُ كَمَا خَفِي عَن ابْن عَبَّاس معنى {فاطر السَّمَاوَات} [الْأَنْعَام: 14] .
وَالثَّالِث: أَن يكون قد ظن بِهَذِهِ الْكَلِمَة أَنَّهَا تقع على مسميين، فتورع عَن إِطْلَاق القَوْل.
وأصل التَّكَلُّف: تتبع مَا لَا مَنْفَعَة فِيهِ، أَو مَا لَا يُؤمر بِهِ الْإِنْسَان، وَلَا يحصل إِلَّا بِمَشَقَّة. فَأَما إِذا كَانَ مَأْمُورا بِهِ وَفِيه مَنْفَعَة فَلَا وَجه للذم. وَقد فسر رَسُول الله آيَات، وَفسّر كثير من الصَّحَابَة كثيرا من الْقُرْآن. قَالَ الْحسن: وَالله مَا أنزل الله آيَة إِلَّا أحب أَن يعلم فيمَ أنزلت، وماذا عني بهَا.
59 - / 62 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: فحصبني رجل: أَي رماني بالحصباء: وَهِي صغَار الْحَصَا.
60 - / 64 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: أَن عمر اسْتعْمل قدامَة بن مَظْعُون على الْبَحْرين، وَهُوَ خَال ابْن عمر وَحَفْصَة، فَقدم الْجَارُود من الْبَحْرين فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن قدامَة قد شرب مُسكرا، وَإِنِّي إِذا رَأَيْت حدا من حُدُود الله حق عَليّ أَن أرفعه إِلَيْك. فَقَالَ لَهُ عمر: من يشْهد؟ فَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَة. فَدَعَا عمر أَبَا هُرَيْرَة فَقَالَ: علام تشهد؟ فَقَالَ: لم أره حِين شرب، وَقد رَأَيْته سَكرَان يقيء. فَقَالَ: لقد

(1/118)


تنطعت. وَقَالَ عمر: مَاذَا ترَوْنَ فِي جلد قدامَة؟ فَقَالَ الْقَوْم: لَا نرى أَن تجلده مَا دَامَ وجعا، ثمَّ أصبح يَوْمًا وَقد عزم على جلده، فَقَالَ: ايتوني بِسَوْط، فَجَاءَهُ مَوْلَاهُ أسلم بِسَوْط دَقِيق صَغِير، فَأَخذه عمر وَقَالَ: قد أخذتك دقرارة أهلك، ايتوني بِسَوْط غير هَذَا. فَأمر بِهِ فجلد، فغاضب قدامَة عمر، فحجا، حَتَّى قَفَلُوا من حجهم، وَنزل عمر بالسقيا، فَنَامَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ. قَالَ عجلوا عَليّ بِقُدَامَةَ، إِنِّي جَاءَنِي آتٍ فَقَالَ لي: سَالم قدامَة؛ فَإِنَّهُ أَخُوك.
أما قدامَة فَإِنَّهُ أسلم قَدِيما، وَهَاجَر إِلَى أَرض الْحَبَشَة الْهِجْرَة الثَّانِيَة، وَشهد بَدْرًا وَجَمِيع الْمشَاهد مَعَ رَسُول الله، وَلم يذكر عَنهُ أَنه شرب الْخمر، إِنَّمَا شرب شَيْئا فأسكره، فَيحْتَمل أَن يكون شرب قَلِيلا من النَّبِيذ متأولا، فَخرج بِهِ إِلَى السكر، أَو شرب مَا لَا يَظُنّهُ يسكر فَسَكِرَ.
على أَنه قد ذكر فِي هَذَا الحَدِيث تَأْوِيل لَهُ عَجِيب، فَإِنَّهُ قَالَ لعمر: لَو شربت كَمَا يَقُولُونَ مَا كَانَ لَك أَن تجلدني. قَالَ: وَلم؟ قَالَ: لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا إِذا مَا اتَّقوا وآمنوا} [الْمَائِدَة: 93] فَقَالَ عمر: أَخْطَأت التَّأْوِيل، إِذا اتَّقَيْت اجْتنبت مَا حرم الله.
وَفِي الْجُمْلَة، لَا يَنْبَغِي أَن نظن بالصحابة أَنهم تعمدوا الْحَرَام أصلا، وَقد روى مُحَمَّد بن سعد من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: شهد أَبُو بكرَة، وشبل بن معبد، وَنَافِع بن الْحَارِث، وَزِيَاد على الْمُغيرَة بن شُعْبَة بِالْحَدَثِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ بِالْبَصْرَةِ عِنْد عمر، فضربهم

(1/119)


عمر الْحَد غير زِيَاد، فَإِنَّهُ لم يتم الشَّهَادَة عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن عقيل: للفقهاء فِيمَا يَفْعَلُونَ تأويلات، وَمَعْلُوم أَن الْمُتْعَة قد كَانَت عقدا فِي الشَّرْع، وَكَانَ نِكَاح السِّرّ عِنْد قوم من أهل الْمَدِينَة زنا، فَمن عثر على ذَلِك الْفِعْل شهد بِالزِّنَا، والمغيرة سليم، وَلَا يجوز أَن ينْسب الصَّحَابَة إِلَى شَيْء من هَذِه الْأَشْيَاء، فَمن فعل ذَلِك جهل مِقْدَار الْمضرَّة فِي ذَلِك القَوْل، أَو هُوَ زنديق.
وَقَول عمر: لقد تنطعت: التنطع: التعمق والغلو والإفراط فِي التدقيق، يُقَال: تنطع فلَان فِي كَذَا: إِذا بَالغ فِي اجْتِهَاده. وَلم يجلده بقول أبي هُرَيْرَة وَإِنَّمَا جلده بِإِقْرَارِهِ، أَو بِإِثْبَات شَهَادَة عَلَيْهِ.
وَأما جلده وَهُوَ مَرِيض فَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة، وَأحمد بن حَنْبَل، وَعِنْدَهُمَا أَنه لَا يُؤَخر الْحَد عَن الْمَرِيض، سَوَاء كَانَ يُرْجَى بُرْؤُهُ أَو لَا يُرْجَى، فَإِن كَانَ مِمَّن يخَاف عَلَيْهِ التّلف أقيم عَلَيْهِ الْحَد بأطراف الثِّيَاب وَنَحْوهَا، قَالَ أَكثر الْعلمَاء: يُؤَخر الْحَد عَن الْمَرِيض، إِلَّا أَن مَالِكًا وَالشَّافِعِيّ قَالَا: إِذا كَانَ مَرضه لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ أقيم عَلَيْهِ الْحَد فِي الْحَال، إِلَّا أَن الشَّافِعِي يرى اللطف فِي الضَّرْب على مَا نَحْو مَا ذكرنَا، وَمَالك يَقُول: يضْرب الْجلد التَّام.
الدقرارة: الْمُخَالفَة، وَأَصلهَا الشَّيْء الَّذِي لَيْسَ بِمُسْتَقِيم. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: أخذتك دقرارة أهلك: أَي عَادَة أهلك فِي الْخلاف.

(1/120)


وَإِنَّمَا قَالَ: أهلك؛ لِأَن عمر تزوج زَيْنَب بنت مَظْعُون أُخْت قدامَة، فَجَاءَت مِنْهُ بِعَبْد الله وَعبد الرَّحْمَن وَحَفْصَة، فقدامة خالهم، وَأسلم مَوْلَاهُم.
وقفلوا بِمَعْنى رجعُوا، وَبِه سميت الْقَافِلَة.
والسقيا: مَوضِع.
61 - / 65 - الحَدِيث الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: أَن عمر قسم مروطا، فَبَقيَ مِنْهَا مرط جيد، فَقَالَ بعض من عِنْده: أعْط هَذَا ابْنة رَسُول الله الَّتِي عنْدك، يُرِيدُونَ أم كُلْثُوم، فَقَالَ: أم سليط أَحَق بِهِ، فَإِنَّهَا مِمَّن بَايع رَسُول الله، وَكَانَ تزفر لنا الْقرب يَوْم أحد.
المروط جمع مرط: وَهُوَ كسَاء من صوف أَو خَز يؤتزر بِهِ.
وَأم كُلْثُوم بنت عَليّ بن أبي طَالب. وَإِنَّمَا أضافوها إِلَى رَسُول الله لِأَنَّهَا من فَاطِمَة عَلَيْهَا السَّلَام، وَكَانَت فَاطِمَة قد ولدت لعَلي الْحسن وَالْحُسَيْن وَزَيْنَب وَأم كُلْثُوم، فَتزَوج زَيْنَب عبد الله بن جَعْفَر، فَولدت لَهُ عبد الله وعونا، وَمَاتَتْ عِنْده، وَتزَوج أم كُلْثُوم عمر، فَولدت لَهُ زيدا، ثمَّ خلف عَلَيْهَا بعده عون بن جَعْفَر، ثمَّ مَاتَ فخلف عَلَيْهَا مُحَمَّد بن جَعْفَر، فَولدت جَارِيَة، ثمَّ خلف عَلَيْهَا بعده عبد الله بن جَعْفَر فَلم تَلد لَهُ، وَمَاتَتْ عِنْده. وَقد زَاد ابْن إِسْحَق فِي أَوْلَاد فَاطِمَة من عَليّ محسنا، قَالَ: وَمَات صَغِيرا. وَزَاد اللَّيْث بن سعد رقية، قَالَ: وَمَاتَتْ وَلم تبلغ.

(1/121)


وَالسَّبَب فِي تَزْوِيج عمر أم كُلْثُوم أَنه أحب الِاتِّصَال بِنسَب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " كل حسب وَنسب مُنْقَطع يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا حسبي ونسبي " فَخَطَبَهَا من عَليّ. فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّهَا صبية. فَقَالَ: إِنَّك وَالله مَا بك ذَلِك، وَلَكِن قد علمنَا مَا بك، فَأمر عَليّ بهَا، فصنعت، ثمَّ أَمر بِبرد فطواه، ثمَّ قَالَ: انطلقي بِهَذَا إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقولِي: أَرْسلنِي أبي يُقْرِئك السَّلَام وَيَقُول: إِن رضيت الْبرد فأمسكه، وَإِن سخطته فَرده. فَلَمَّا أَتَت عمر قَالَ: بَارك الله فِيك وَفِي أَبِيك، قد رَضِينَا، فَرَجَعت إِلَى أَبِيهَا فَقَالَت: مَا نشر الْبرد، وَلَا نظر إِلَّا إِلَيّ. فَزَوجهَا إِيَّاه وَلم تكن قد بلغت، فأمهرها عمر أَرْبَعِينَ ألفا.
وَأما أم سليط فقد ذَكرنَاهَا فِي المبايعات، وأحصيناهن فِي كتَابنَا المسمي ب " التلقيح ".
وتزفر بِمَعْنى تحمل. يُقَال: زفر يزفر وازدفر: أَي حمل حملا فِيهِ ثقل، والزفر: الْقرْبَة المملوءة مَاء، وَيُقَال للإماء اللواتي يحملنها زوافر. وَكَانَ النِّسَاء يخْرجن فِي الْغَزَوَات يحملن المَاء إِلَى الْجَرْحى فيسقينهم.
62 - / 66 - الحَدِيث الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: قَالَ عمر: لَوْلَا أَن أترك آخر النَّاس ببانا لَيْسَ لَهُم شَيْء، مَا فتحت عَليّ قَرْيَة إِلَّا قسمتهَا كَمَا قسم

(1/122)


رَسُول الله خَيْبَر، وَلَكِنِّي أتركها خزانَة لَهُم يقتسمونها.
قَوْله: ببانا: أَي شَيْئا وَاحِدًا، كَمَا تَقول: هم بأج وَاحِد، وَالْمعْنَى أَنهم يستوون فِي الْفقر والحرمان، إِذْ لَا شَيْء لَهُم يرجعُونَ إِلَيْهِ، وَلذَلِك قَالَ: لكني أتركها خزانَة لَهُم يقتسمونها: أَي يَنْتَفِعُونَ بفوائدها مَعَ بَقَاء أَصْلهَا لَهُم، كالعراق.
63 - / 67 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: أَن عمر سَأَلَ رَسُول الله عَن شَيْء فَلم يجبهُ، ثمَّ سَأَلَهُ فَلم يجبهُ، ثمَّ سَأَلَهُ فَلم يجبهُ. فَقَالَ عمر: ثكلتك أمك، نزرت رَسُول الله.
وَالْمعْنَى: أكثرت عَلَيْهِ السُّؤَال وألححت وأضجرته. وَيُقَال: عَطاء منزور: إِذا استخرج بعد شدَّة وإلحاح.
64 - / 68 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: لحقت عمر امْرَأَة فَقَالَت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، هلك زَوجي وَترك صبية صغَارًا، وَالله مَا ينضجون كُرَاعًا.
قَالَ ابْن فَارس: الكراع من الْإِنْسَان: مَا دون الرّكْبَة، وَمن الدَّوَابّ مَا دون الكعب. وَالْمعْنَى أَنهم لَا يحسنون لصغرهم طبخ هَذَا الْقدر، وَلَا يقدرُونَ على إصْلَاح مَا يَأْكُلُونَهُ.
قَوْلهَا: وخشيت أَن تأكلهم الضبع. والضبع اسْم يَقع على الْحَيَوَان

(1/123)


الْمَعْرُوف، وَهُوَ اسْم للْأُنْثَى مِنْهُ، وَالذكر ضبعان. وَيَقَع على السّنة المجدبة، وَهُوَ المُرَاد فِي هَذَا الحَدِيث.
وَقَوله: فَانْصَرف إِلَى بعير ظهير: وَهُوَ الْقوي الَّذِي يستظهر بقوته على الْحمل.
ونستفيء سهمانهما: أَي نسترجعها، وَهُوَ الْفَيْء، وَسمي فَيْئا لِأَنَّهُ مَال استرجعه الْمُسلمُونَ من أَيدي الْكفَّار، وَالْمعْنَى: نَأْخُذ سهمانهما.
65 - / 69 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: أَن عمر اسْتعْمل مولى لَهُ على الصَّدَقَة، فَقَالَ: ضم جناحك عَن النَّاس، وَأدْخل رب الصريمة وَرب الْغَنِيمَة. وإياي وَنعم ابْن عَفَّان وَابْن عَوْف، فَإِنَّهُمَا إِن تهْلك ماشيتهما يرجعان إِلَى زرع ونخيل، وَإِن رب الصريمة وَالْغنيمَة إِن تهْلك ماشيتهما يأتيني ببنيه فَيَقُول: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أفتاركه أَنا - لَا أبالك. فالماء والكلأ أيسر من الذَّهَب وَالْفِضَّة. وَايْم الله، إِنَّهُم لَيرَوْنَ أَنا قد ظلمناهم، إِنَّهَا لبلادهم ومياههم. قَاتلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَأَسْلمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَام. وَالله لَوْلَا المَال الَّذِي أحمل عَلَيْهِ فِي سَبِيل الله مَا حميت على النَّاس من بِلَادهمْ شبْرًا.
قَوْله: ضم جناحك عَن النَّاس: أَي لَا تحمل ثقلك عَلَيْهِم.
وَقَوله: وَأدْخل رب الصريمة: الصريمة تَصْغِير الصرمة: وَهُوَ القطيع من الْإِبِل نَحْو الثَّلَاثِينَ، وَالْغنيمَة: القليلة.
وَكَانَ عمر قد حمى مرعى لَا يرْعَى فِيهِ إِلَّا الْخَيل الَّتِي يعدها

(1/124)


للْجِهَاد، فَأمره بِإِدْخَال الضُّعَفَاء فِي ذَلِك الْحمى دون الْأَغْنِيَاء، وَلذَلِك قَالَ: وإياي وَنعم ابْن عَفَّان وَابْن عَوْف. وَمَعْنَاهُ: لَا يدْخل نعمهما الْحمى. وحميت بِمَعْنى منعت. والحمى خلاف الْمُبَاح.
66 - / 72 - الحَدِيث الثَّامِن وَالْعشْرُونَ: قَالَ عمر: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة لَا يفيضون من جمع حَتَّى تطلع الشَّمْس، وَيَقُولُونَ: أشرق ثبير. قَالَ: فخالفهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأفاض قبل طُلُوع الشَّمْس.
الْإِفَاضَة من الْمَكَان: سرعَة السّير مِنْهُ إِلَى مَكَان آخر، وَقَالَ الزّجاج: الْإِفَاضَة: الدّفع بِكَثْرَة، يُقَال: أَفَاضَ الْقَوْم فِي الحَدِيث: إِذا انْدَفَعُوا فِيهِ وَأَكْثرُوا التَّصَرُّف.
وَقَوْلهمْ: أشرق ثبير: أَي ادخل أَيهَا الْجَبَل فِي الشروق، وَهُوَ نور الشَّمْس.
وَفِي لفظ عَنْهُم: كَيْمَا نغير: أَي ندفع للنحر. يُقَال: أغار يُغير: إِذا أسْرع وَدفع فِي عدوه.
67 - / 73 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: عَن أبي الْأسود قَالَ: قدمت الْمَدِينَة وَالنَّاس يموتون موتا ذريعا.
عَامَّة الْمُحدثين يَقُولُونَ: الدؤَلِي، وَكَذَلِكَ قَالَ يُونُس النَّحْوِيّ الديل فِي عبد الْقَيْس سَاكِنة الْيَاء، والدول من حنيفَة سَاكن الْوَاو، والدئل فِي كنَانَة رَهْط أبي الْأسود مَهْمُوزَة، فَهُوَ أَبُو الْأسود الدؤَلِي. وَقَالَ ابْن

(1/125)


الْكَلْبِيّ: هُوَ أَبُو الْأسود الديلِي. قَالَ أَبُو عبيد: وَهُوَ الصَّوَاب عندنَا.
والذريع: السَّرِيع الْكثير.
68 - / 74 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: كَانَ عَطاء الْبَدْرِيِّينَ خَمْسَة آلَاف خَمْسَة آلَاف، وَقَالَ عمر: لأفضلنهم على من بعدهمْ.
اعْلَم أَنه لما فتحت الْفتُوح وغنموا خَزَائِن كسْرَى وَغَيرهَا، دون عمر الدَّوَاوِين، وَفرض للنَّاس الأعطية على أقدارهم وتقدمهم فِي الْإِسْلَام، فَبَدَأَ بِالْعَبَّاسِ فَفرض لَهُ خَمْسَة وَعشْرين ألفا، ثمَّ فرض لأهل بدر خَمْسَة آلَاف خَمْسَة آلَاف، ثمَّ فرض لمن بعد بدر إِلَى الْحُدَيْبِيَة أَرْبَعَة آلَاف أَرْبَعَة آلَاف، ثمَّ فرض لمن بعد الْحُدَيْبِيَة إِلَى أَن أقلع أَبُو بكر عَن أهل الرِّدَّة ثَلَاثَة آلَاف ثَلَاثَة آلَاف، وَدخل فِي ذَلِك من شهد الْفَتْح، ثمَّ فرض لأهل الْقَادِسِيَّة، وَأهل الشَّام أَصْحَاب اليرموك أَلفَيْنِ أَلفَيْنِ، وَفرض لِأَزْوَاج رَسُول الله عشرَة آلَاف عشرَة آلَاف، إِلَّا من جرى عَلَيْهِ الْملك، وَفضل عَائِشَة بِأَلفَيْنِ، وَجعل نسَاء أهل بدر على خَمْسمِائَة خَمْسمِائَة، وَنسَاء من بعد بدر إِلَى الْحُدَيْبِيَة على أَرْبَعمِائَة أَرْبَعمِائَة، وَنسَاء من بعد ذَلِك إِلَى الْأَيَّام على ثَلَاثمِائَة ثَلَاثمِائَة، ثمَّ نسَاء أهل الْقَادِسِيَّة على مِائَتَيْنِ مِائَتَيْنِ، ثمَّ سوى بَين النِّسَاء بعد ذَلِك، وَجعل الصّبيان من أهل بدر وَغَيرهم سَوَاء على مائَة مائَة.

(1/126)


69 - / 76 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: أَن عمر فرض للمهاجرين الْأَوَّلين أَرْبَعَة آلَاف، وَفرض لِابْنِ عمر ثَلَاثَة آلَاف وَخَمْسمِائة، فَقيل لَهُ: هُوَ من الْمُهَاجِرين، فَلم نقصته من أَرْبَعَة آلَاف؟ قَالَ: إِنَّمَا هَاجر بِهِ أَبوهُ. يَقُول: لَيْسَ هُوَ كمن هَاجر بِنَفسِهِ.
فِي الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين قَولَانِ قد ذكرناهما فِي الحَدِيث الثَّانِي عشر من هَذَا الْمسند.
وَالَّذِي اعْتَمدهُ عمر فِي حق ابْنه من أحسن المعتمدات، لِأَنَّهُ هَاجر بِهِ وَهُوَ غير محتلم، فَلم ير إِلْحَاقه بالبالغين.
70 - / 77 - الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ: أَن عمر أذن لِأَزْوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي آخر حجَّة حَجهَا فِي الْحَج، وَبعث مَعَهُنَّ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَعُثْمَان بن عَفَّان.
كَانَ أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اسْتَأْذن عمر فِي الْحَج لمَكَان إِمَامَته، وَهُوَ الَّذِي يحجّ بِالنَّاسِ عامئذ، وَإِنَّمَا بعث مَعَهُنَّ عُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن ليحفظا النَّاحِيَة الَّتِي يسرن فِيهَا، فَكَانَ أَحدهمَا بَين أَيْدِيهنَّ، وَالْآخر من ورائهن.
71 - / 78 - الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ: أَن عبدا من رَقِيق الْإِمَارَة وَقع على وليدة من الْخمس، فاستكرهها حَتَّى افتضها، فجلده عمر الْحَد ونفاه، وَلم يجلد الوليدة من أجل أَنه استكرهها.
حد العَبْد إِذا زنى نصف حد الْحر، خَمْسُونَ جلدَة.

(1/127)


وَقَوله: ونفاه، حجَّة لمَالِك، فَإِن عِنْده أَن العَبْد يغرب، وَعِنْدنَا لَا يغرب، فَيحْتَمل قَوْله نَفَاهُ: أبعده من صحبته.
72 - / 79 - الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
أَن عمر رأى حلَّة سيراء تبَاع.
الْحلَّة لَا تكون إِلَّا من ثَوْبَيْنِ، وَقد ذكرنَا هَذَا فِي هَذَا الْمسند. والسيراء: ضرب من البرود مخطط. يُقَال: برد مسير: أَي مخطط، وَلم يحرم من أجل الخطوط، وَلكنهَا كَانَت من حَرِير. وَقَالَ الْخطابِيّ: السيراء: المضلعة بالحرير، وَسميت سيراء لما فِيهَا من الخطوط الَّتِي تشبه السيور.
وَقَوله: " من لَا خلاق ": الخلاق: النَّصِيب.
73 - / 80 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن عمر سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيَنَامُ أَحَدنَا وَهُوَ جنب؟ قَالَ: " نعم، إِذا تَوَضَّأ ".
الْجَنَابَة فِي اللُّغَة: الْبعد، وَفِي تَسْمِيَة الْجنب جنبا قَولَانِ: أَحدهمَا لمجانبة مَائه مَحَله. وَالثَّانِي: لما يلْزمه من اجْتِنَاب الصَّلَاة وَالْقُرْآن وَمَسّ الْمُصحف، وَدخُول الْمَسْجِد. وَيُقَال: رجل جنب، ورجلان جنبان، وَرِجَال جنب، كَمَا يُقَال: رجل رضى، وَقوم رضى.

(1/128)


وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على اسْتِحْبَاب التنظف من الأقذار عِنْد النّوم، لِأَن الْإِنْسَان لَا يكَاد يتَوَضَّأ حَتَّى يغسل مَا بِهِ من أَذَى. وَإِنَّمَا أَمر بذلك عِنْد النّوم لِأَن الْمَلَائِكَة تبعد عَن الْوَسخ وَالرِّيح الكريهة، وَالشَّيَاطِين تتعرض بالأنجاس والأقذار. وَقَالَ عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: إِن الْأَرْوَاح يعرج بهَا فِي منامها إِلَى السَّمَاء، فتؤمر بِالسُّجُود عِنْد الْعَرْش، فَمَا كَانَ مِنْهَا طَاهِرا سجد عِنْد الْعَرْش، وَمَا لَيْسَ بطاهر سجد بَعيدا عَن الْعَرْش. ثمَّ إِن الْوضُوء يُخَفف الْحَدث، وَلِهَذَا يجوز عندنَا للْجنب إِذا تَوَضَّأ أَن يجلس فِي الْمَسْجِد.
74 - / 81 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: قَالَ عمر: يَا رَسُول الله، أصبت أَرضًا لم أصب مَالا أحب إِلَيّ وَلَا أنفس عِنْدِي مِنْهَا، فَقَالَ: " إِن شِئْت تَصَدَّقت بهَا ". فَتصدق بهَا عمر: على أَن لَا تبَاع وَلَا توهب، فِي الْفُقَرَاء وَذَوي الْقُرْبَى الرّقاب والضيف وَابْن السَّبِيل، لَا جنَاح على من وَليهَا أَن يَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ غير مُتَمَوّل مَالا، وَيطْعم.
أنفس بِمَعْنى أفضل. وَإِنَّمَا نبهه على التَّصَدُّق بهَا عِنْد قَوْله: إِنِّي لم أصب مَالا أحب إِلَيّ مِنْهَا؛ لِأَن الْفَضَائِل لَا تنَال إِلَّا ببذل الأحب، قَالَ الله تَعَالَى: {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون} [آل عمرَان: 92] .
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْعلم أَن الرجل إِذا وقف وَقفا فَأحب أَن يشْتَرط لنَفسِهِ أَو لغيره فِيهِ شرطا سوى الْوَجْه الَّذِي جعل الْوَقْف فِيهِ، كَانَ لَهُ ذَلِك، وَعِنْدنَا أَنه إِذا وقف على غَيره وَاسْتثنى أَن ينْفق على نَفسه حَيَاته صَحَّ. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَمُحَمّد: لَا يَصح. وَقد دلّ حَدِيث عمر على صِحَة مَذْهَبنَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: لَا جنَاح على من وَليهَا أَن يَأْكُل. وَإِنَّمَا ولي هَذِه الأَرْض عمر.

(1/129)


75 - / 82 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: قَالَ يحيى بن يعمر: كَانَ أول من قَالَ فِي الْقدر بِالْبَصْرَةِ معبد الْجُهَنِيّ، فَانْطَلَقت أَنا وَحميد بن عبد الرَّحْمَن فَقُلْنَا: لَو لَقينَا أحدا من أَصْحَاب رَسُول الله، فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُول هَؤُلَاءِ، فوفق لنا عبد الله بن عمر دَاخِلا الْمَسْجِد، فاكتنفته أَنا وصاحبي.
قَوْله: فوفق لنا ابْن عمر: أَي قدر لنا لقاؤه فاكتنفته أَنا وصاحبي: أَي صرنا مِمَّا يَلِيهِ.
وَقَوله: سيكل الْكَلَام إِلَيّ: أَي سيقتنع بِقَوْلِي ويعتمد عَليّ فِيمَا أذكر.
قَوْله: يتقفرون الْعلم: أَي يطلبونه ويتبعون أَثَره. يُقَال: فلَان يتقفر الشَّيْء: إِذا طلبه واجتهد فِي الْبَحْث عَنهُ. وَرُبمَا قَرَأَ بعض طلبة الحَدِيث هَذَا فَقدم الْفَاء، وَإِنَّمَا الْقَاف الْمُقدمَة.
وَقَوله: يَزْعمُونَ أَن لَا قدر: أَي أَن الْأَشْيَاء لم يسْبق تقديرها.
وَقَوله: أَن الْأَمر أنف: أَي مُسْتَأْنف لم يتَقَدَّم فِيهِ قدر وَلَا مَشِيئَة. يُقَال: رَوْضَة أنف: إِذا كَانَت وافية الْكلأ، لم يرع مِنْهَا شَيْء، ويعنون أَن مَا نعمله لم يقدر.
وَأما فرقه بَين الْإِسْلَام وَالْإِيمَان فِي السُّؤَال عَنْهُمَا فدليل على الْفرق بَينهمَا.
وَالْمرَاد بِالْإِحْسَانِ حسن الطَّاعَات، وَالْإِشَارَة إِلَى المراقبة؛ فَإِنَّهُ من راقب نظر الله عز وَجل إِلَيْهِ حسنت عِبَادَته، فَإِن عبد كَأَنَّهُ يرى المعبود

(1/130)


كَانَت عِبَادَته أحسن. وَكَانَ بعض السّلف يَقُول: إِذا تَكَلَّمت فاذكر من يسمع، وَإِذا نظرت فاذكر من يرى، وَإِذا تفكرت فاذكر من يعلم.
وَقَوله: فَأَخْبرنِي عَن أمارتها: الأمارة: الْعَلامَة، وَكَذَلِكَ الأمار. وَالْأَمر الْحِجَارَة المنضودة على الطَّرِيق للأمارة.
وَقَوله: أَن تَلد الْأمة ربتها: المُرَاد بِهَذَا أَن الْإِسْلَام يظْهر ويستولي أَهله على بِلَاد الْكفْر فيسيبونهم، فَإِذا ملك الْمُسلم الْجَارِيَة فاستولدها كَانَ الابْن بِمَنْزِلَة رَبهَا، وَالْبِنْت بِمَنْزِلَة ربتها، لِأَنَّهُ ولد سَيِّدهَا. وَفِي لفظ: " وَأَن تَلد الْأمة بَعْلهَا ". وَالْمرَاد بالبعل هَاهُنَا: الْمَالِك. وَكَانَ بعض الْعَرَب قد ضلت نَاقَته، فَجعل يُنَادي: من رأى نَاقَة أَنا بَعْلهَا، فَجعل الصّبيان يَقُولُونَ: يَا زوج النَّاقة.
وَقَوله: " وَأَن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشَّاء " - وَفِي مُسْند أنس: " رعاء البهم " والعالة: الْفُقَرَاء، والعيلة: الْفقر. والبهم: صغَار الْغنم، وَالْمعْنَى أَن الْعَرَب الَّذين كَانُوا لَا يستقرون فِي مَكَان وَإِنَّمَا كَانُوا ينتجعون مواقع الْغَيْث، يسكنون الْبلدَانِ ويتطاولون فِي الْبُنيان، كل ذَلِك لاتساع الْإِسْلَام.
وَفِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث قصَّة آدم ومُوسَى، وفيهَا: " فحج آدم مُوسَى " وَمعنى غَلبه بِالْحجَّةِ.
76 - / 83 - الحَدِيث الْخَامِس: لما كَانَ يَوْم خَيْبَر قتل نفر من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالُوا: فلَان شَهِيد، وَفُلَان شَهِيد، حَتَّى مروا على رجل فَقَالُوا: فلَان شَهِيد، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " كلا، إِنِّي رَأَيْته فِي النَّار فِي بردة غلها - أَو عباءة " ثمَّ قَالَ: " يَا ابْن الْخطاب،

(1/131)


اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاس أَنه لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ ".
النَّفر من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة.
والشهيد: الْقَتِيل فِي سَبِيل الله. وَفِي تَسْمِيَته بالشهيد سَبْعَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن الشَّهِيد هُوَ الْحَيّ، كَأَنَّهُ شَاهد: أَي حَاضر، قَالَ الله سُبْحَانَهُ: {بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} [آل عمرَان: 169] فأرواحهم قد أحضرت الْجنَّة وشهدتها، وَغَيرهم لَا يشهدونها. هَذَا قَول النَّضر بن شُمَيْل.
وَالثَّانِي: أَن الله تَعَالَى وَمَلَائِكَته شهدُوا لَهُ بِالْجنَّةِ: قَالَه ثَعْلَب وَابْن الْأَنْبَارِي.
وَالثَّالِث: لِأَن مَلَائِكَة الرَّحْمَة تشهده.
وَالرَّابِع: لسقوطه بِالْأَرْضِ، وَالْأَرْض الشاهدة بِمَا كَانَ. حكى الْقَوْلَيْنِ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس.
وَالْخَامِس: لقِيَامه بِشَهَادَة الْحق فِي أَمر الله تَعَالَى حَتَّى قتل، قَالَه أَبُو سُلَيْمَان الدِّمَشْقِي.
وَالسَّادِس: لِأَنَّهُ شهد لله سُبْحَانَهُ بالوجود والإلهية بِتَسْلِيم نَفسه للْقَتْل، لما شهد لَهُ غَيره بالْقَوْل، ذكره بعض أهل الْعلم.
فَأَما الرجل الْمَذْكُور فَهُوَ مدعم مولى رَسُول الله، أهداه لَهُ رِفَاعَة ابْن زيد الجذامي، وَكَانَ أسود اللَّوْن، وَكَانَ يُسَافر مَعَ رَسُول الله

(1/132)


ويرحل لَهُ، فَبينا هُوَ يحط رَحل رَسُول الله أَتَاهُ سهم عائر فَقتله، فَقَالَ النَّاس: هَنِيئًا لَهُ الْجنَّة. فَقَالَ رَسُول الله: " كلا وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، إِن الشملة الَّتِي أَخذهَا يَوْم خَيْبَر من الْغَنَائِم لم يصبهَا الْمقسم لتشتعل عَلَيْهِ نَارا ".
والغلول: أَخذ الشَّيْء من الْمغنم فِي خُفْيَة، وَمِنْه الغلالة: وَهِي ثوب يلبس تَحت الثِّيَاب. والغلل: المَاء الَّذِي يجْرِي تَحت الشّجر. والغل: الحقد الكامن فِي الصَّدْر، وأصل الْبَاب الاختفاء.
والعباء: كسَاء يلتحف بِهِ.
وَإِنَّمَا أَمر عمر فَنَادَى: " لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ "؛ لِأَن الْإِيمَان إِذا تحقق منع الْغلُول والمعاصي.
77 - / 84 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: قَالَ عمر: لما كَانَ يَوْم بدر نظر رَسُول الله إِلَى الْمُشْركين وهم ألف، وَأَصْحَابه ثَلَاثمِائَة وَتِسْعَة عشر رجلا، فَاسْتقْبل نَبِي الله الْقبْلَة، ثمَّ مد يَدَيْهِ فَجعل يَهْتِف بربه يَقُول: " اللَّهُمَّ أنْجز لي مَا وَعَدتنِي ".
أما بدر فَقَالَ الشّعبِيّ: هِيَ اسْم بِئْر لرجل يُقَال لَهُ بدر، الْتَقَوْا عِنْدهَا.

(1/133)


وَقَوله: وَأَصْحَابه ثَلَاثمِائَة وَتِسْعَة عشر رجلا. هَذَا قَول مُفْرد لم أر أحدا من أَرْبَاب التواريخ قَالَ بِهِ، فَإِن جَمِيع من شهد بَدْرًا مَعَ من ضرب لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسهمه وأجره فِي عدد ابْن إِسْحَق ثَلَاثمِائَة وَأَرْبَعَة عشر، وَفِي عدد أبي معشر والواقدي ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر، وَفِي عدد مُوسَى بن عقبَة ثَلَاثمِائَة وَسِتَّة عشر، وَقد أحصيت أهل بدر على الْخلاف الْوَاقِع فيهم فِي كتابي الْمُسَمّى " بالتلقيح ".
وَقَوله: فَجعل يَهْتِف بربه. يُقَال: هتف يَهْتِف: إِذا رفع صَوته فِي دُعَاء أَو غَيره.
وَقَوله: " أنْجز لي مَا وَعَدتنِي " إنجاز الْوَعْد: تَعْجِيل الْمَوْعُود، وَلم يكن حد وقتا معينا فِي النَّصْر، فَسَأَلَ تَعْجِيل مَا وعد بِهِ.
قَوْله: " إِن تهْلك هَذِه الْعِصَابَة لَا تعبد فِي الأَرْض ".
الْعِصَابَة: الْجَمَاعَة. واعصوصب الْقَوْم: صَارُوا عصائب. وَعصب الْقَوْم بفلان: أحاطوا بِهِ، وَبِه سميت الْعصبَة: وهم قرَابَة الرجل لِأَبِيهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قطع رَسُول الله على انْقِطَاع الْعِبَادَة بِهَلَاك تِلْكَ الْعِصَابَة؟ أَو لَيْسَ فِي الْقدر إنْشَاء أمثالهم؟ كَيفَ وَقد قَالَ عز وَجل: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يسْتَبْدل قوما غَيْركُمْ} [مُحَمَّد: 38] ؟ فَالْجَوَاب أَنه لَا يجوز أَن يظنّ برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أَرَادَ أَن عدم هَؤُلَاءِ يمْنَع من وجود عَابِد، وَكَيف يقطع على انْقِطَاع المقدورات وَهِي

(1/134)


لَا تتناهى، على أَنِّي قد قَرَأت بِخَط عَليّ بن عقيل مِمَّا أثْبته من خواطره السانحة قَالَ: أقدر معاتبة على بادرة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَوله: " إِن تهْلك هَذِه الْعِصَابَة لَا تعبد " فَأَقُول: يَا مُحَمَّد، أَنا لم أخرجك عَن كونك رَسُولا مُتبعا بقعودهم عَنْك يَوْم عمْرَة الْقَضَاء، أفأخرج أَنا أَن أكون معبودا بهلاكهم. فَهَذِهِ زلَّة عَالم هَذَا كَلَامه، وَهَذَا عِنْدِي فِي غَايَة الْقبْح، وَنسبَة الزلل إِلَى رَسُول الله فِي مثل هَذَا فَوق الْقَبِيح.
ثمَّ قد أسلم بِمَكَّة خلق كثير فِي ثَلَاث عشرَة سنة من النُّبُوَّة، ثمَّ فِي الْمَدِينَة سنتَيْن، وامتد الْإِسْلَام فِي الْأَطْرَاف، وَوَجَبَت الْهِجْرَة، فجَاء الْخلق، فَأخذ من جملَة الْمُسلمين ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر، وَخرج وتخلف عَنهُ عُثْمَان وَطَلْحَة وَسَعِيد بن زيد لأسباب، فقد كَانَ فِي الْمَدِينَة وَحدهَا خلق كثير لم يخرجُوا مَعَه غير من فِي الْبِلَاد، فَلَو هلك من مَعَه لبقي أضعافهم من الْمُسلمين، فَلم تَنْقَطِع الْعِبَادَة، غير أَن من قل علمه بِالنَّقْلِ ظن الَّذين مَعَه هم جَمِيع الْمُسلمين. وَمن الْجَائِز أَن يكون أَشَارَ بِالْعِصَابَةِ إِلَى جَمِيع الْمُسلمين، وَلَو كَانَ كَذَلِك لم يجز أَن يقطع على انْقِطَاع التَّعَبُّد بهلاكهم.
فَإِن قيل: فَإِذا استقبحت هَذَا وَهُوَ الْمَفْهُوم من ظَاهر الْكَلَام، فَمَا المُرَاد بِهِ عنْدك؟
فَالْجَوَاب: أَنا نتكلم فِي لفظ الحَدِيث قبل تَفْسِيره فَنَقُول: قد اخْتلفت أَلْفَاظه، فَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي أَفْرَاده من مُسْند ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " اللَّهُمَّ إِن تشأ لَا تعبد بعد الْيَوْم ". وَرَوَاهُ مُسلم فِي أَفْرَاده من حَدِيث

(1/135)


أنس بن مَالك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنَّك إِن تشأ لَا تعبد فِي الأَرْض " وَعَادَة الروَاة ذكر الْمَعْنى الَّذِي يظنون أَنه الْمَعْنى، وَقد يغلطون فِي الْعبارَات عَنهُ، فَرُبمَا كَانَ حَدِيث عمر مغيرا مِمَّن قد ظن أَنه أَتَى بِالْمَعْنَى.
وعَلى لفظ حَدِيث ابْن عَبَّاس وَأنس يسهل الْجَواب، وَيكون الْمَعْنى: إِنَّك قد جعلت الْأُمُور منوطة بالأسباب، فَإِذا قطعت هَذَا السَّبَب فكأنك قد شِئْت قطع الْعِبَادَة. ويتضمن هَذَا شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَنَّك غَنِي عَن الْعِبَادَة وَنحن فُقَرَاء إِلَيْهَا. وَالثَّانِي: أننا نَخَاف هَلَاك الصَّالِحين فَيبقى أهل الْفساد، فيشمت بِنَا من قَالَ: {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا} [الْبَقَرَة: 30] .
وَإِن نزلنَا على الأشد وتكلمنا على لفظ حَدِيث عمر، فَإِن الْقطع على نفي الْعِبَادَة بِعَدَمِ هَؤُلَاءِ مَحْمُول على أَنه مِمَّا اطلع عَلَيْهِ من الْغَيْب، وَكَانَ مِمَّا اطلع عَلَيْهِ أَن الله تَعَالَى لَا يبْعَث نَبيا بعده، وَلَا يخلق لحفظ قَاعِدَة دينه ونصرته سوى هَؤُلَاءِ، فَأخْبر عَن علم الْحق عز وَجل لَا عَن ظن نَفسه، فَكَأَنَّهُ يَقُول: إِذا هلك هَؤُلَاءِ، الناقلون عني وهم جُمْهُور الْمُؤمنِينَ وخيارهم وَلَا نَبِي بعدِي بطلت الْعِبَادَة؛ لِأَن الْعِبَادَة إِنَّمَا تكون بنشر الشَّرِيعَة. ويتضمن هَذَا القَوْل مِنْهُ نوع غيرَة، تقديرها: أغار أَلا تعبد.
وَلَا يجوز أَن يظنّ برَسُول الله مَا هُوَ منزه عَنهُ من الشطح والزلل فِي القَوْل، مَعَ شَهَادَة الْحق عز وَجل لَهُ بالعصمة فِي كَلَامه بقوله تَعَالَى: {وَمَا ينْطق عَن الْهوى} [النَّجْم: 3] وَقَالَ لَهُ عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: أكتب مَا أسمع مِنْك؟ قَالَ " نعم " قَالَ: فِي السخط وَالرِّضَا؟

(1/136)


قَالَ: " فِي السخط وَالرِّضَا، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لي أَن أَقُول إِلَّا حَقًا ".
وَقَول أبي بكر: كَذَلِك مُنَاشَدَتك رَبك. إِشَارَة إِلَى ترك الإلحاح وَاسْتِعْمَال الرِّفْق.
فَإِن قيل: أَفَكَانَ أَبُو بكر فِي ذَلِك الْمقَام أثبت من رَسُول الله؟
قيل: كلا، غير أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى مَا بِأَصْحَابِهِ من الْهم، فناب عَنْهُم فِي الدُّعَاء، وَكَانَت أول غَزْوَة قَاتل فِيهَا بالأنصار الَّذِي آووه، فَمَا أحب أَن يكون جَزَاء الْقَوْم على إحسانهم الْقَتْل. وَعلم أَن دعاءه مستجاب، فَلذَلِك ألح.
وَقَوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ ربكُم} [الْأَنْفَال: 9] إِذْ من صلَة: {وَيبْطل الْبَاطِل} [الْأَنْفَال: 8] .
وَفِي {تَسْتَغِيثُونَ} قَولَانِ: أَحدهمَا تستنصرون. وَالثَّانِي: تستجيرون. وَالْفرق بَينهمَا أَن الْمُسْتَنْصر يطْلب الظفر، والمستجير يطْلب الْخَلَاص.
وَقَوله: {فَاسْتَجَاب لكم} أَي أجابكم. يُقَال: اسْتَجَابَ وَأجَاب بِمَعْنى، وأنشدوا:
(وداع دَعَا يَا من يُجيب إِلَى الندى ... فَلم يستجبه عِنْد ذَاك مُجيب)

(1/137)


والإمداد: إِعْطَاء الشَّيْء بعد الشَّيْء. والمدد: العون.
فَأَما " مُردفِينَ " فَقَرَأَ جمَاعَة مِنْهُم أَبُو عَمْرو {مُردفِينَ} بِكَسْر الدَّال. قَالَ ابْن عَبَّاس: هم المتتابعون. وَقَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي، تحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مُردفِينَ مثلهم، يُقَال: أردفت زيدا دَابَّتي، فَيكون الْمَفْعُول الثَّانِي محذوفا. وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: جَاءُوا بعدكم. تَقول الْعَرَب: بَنو فلَان مردفونا: أَي يجيئون بَعدنَا.
وَقَرَأَ قوم مِنْهُم نَافِع {مُردفِينَ} بِفَتْح الدَّال. قَالَ الْفراء: فعل ذَلِك بهم وَالْمعْنَى أَن الله أرْدف الْمُسلمين بهم.
وَقَرَأَ أَبُو المتَوَكل " مُردفِينَ " بِفَتْح الرَّاء وَالدَّال مَعَ التَّشْدِيد. وَقَرَأَ أَبُو الجوزاء " مُردفِينَ " بِضَم الرَّاء وَكسر الدَّال مَعَ التَّشْدِيد. قَالَ الزّجاج: يجوز " مُردفِينَ " بِكَسْر الرَّاء مَعَ تَشْدِيد الدَّال. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: الأَصْل مرتدفين، فأدغمت التَّاء فِي الدَّال، فَصَارَت مُردفِينَ، لِأَنَّك طرحت حَرَكَة التَّاء على الرَّاء وَكسرت الرَّاء لالتقاء الساكنين، وَضمّهَا نَافِع لضم الْمِيم.
وَقَوله: أقدم حيزوم: وَهُوَ خطاب الْملك لفرسه. وحيزوم: اسْم الْفرس.
وَقَوله: خطم أَنفه: أَي أُصِيب بضربة أثرت فِيهِ.
والصناديد: الْأَشْرَاف، واحدهم صنديد.

(1/138)


وَقَوله: " أبْكِي للَّذي عرض عَليّ أَصْحَابك من أَخذهم الْفِدَاء، لقد عرض عَليّ عَذَابهمْ ".
إِن قَالَ قَائِل: كَيفَ عرض عَلَيْهِ عَذَابهمْ وَلم يتَقَدَّم إِلَيْهِم فِي ذَلِك نهي؟
فَالْجَوَاب: أَنهم اخْتَارُوا الْفِدَاء وَهُوَ أَهْون الرأيين، فعوتبوا على اخْتِيَار الأوهن، قَالَه ابْن جرير.
فَإِن قيل: كَيفَ أضَاف الْأَمر إِلَى المشيرين إِلَيْهِ وَقد مَال هُوَ إِلَى ذَلِك الرَّأْي؟ وَلم اسْتحق المشير الْعَذَاب؟
فَالْجَوَاب من ثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ظهر مِنْهُ الْميل إِلَى الْفِدَاء وَلم يَأْمر بِهِ، فَاسْتحقَّ الْعَذَاب من تعجل الْأَخْذ من غير أَمر.
وَالثَّانِي: أَن الْعَذَاب لمن طلب عرض الدُّنْيَا من الْقَوْم لَا لمن أَشَارَ، وَلذَلِك جَاءَ التوبيخ بقوله تَعَالَى: {تُرِيدُونَ عرض الدُّنْيَا وَالله يُرِيد الْآخِرَة} ثمَّ أخْبرهُم بالمانع من تعذيبهم على مَا فعلوا بقوله: {لَوْلَا كتاب من الله سبق} [الْأَنْفَال: 68] .
وَفِيه أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحدهَا: لَوْلَا أَن الله كتب فِي أم الْكتاب أَنه سيحل لكم الْغَنَائِم لمسكم فِيمَا تعجلتم من الْغَنَائِم وَالْفِدَاء قبل أَن تؤمروا بذلك عَذَاب عَظِيم. رَوَاهُ ابْن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس.
وَالثَّانِي: لَوْلَا كتاب من الله سبق أَنه لَا يعذب من أَتَى ذَنبا على

(1/139)


جَهَالَة لعوقبتم، رَوَاهُ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس.
وَالثَّالِث: لَوْلَا مَا سبق لأهل بدر أَنه لَا يعذبهم لعذبتم. قَالَه الْحسن.
وَالرَّابِع: لَوْلَا مَا سبق من أَنه يغْفر لمن عمل الْخَطَايَا، ثمَّ علم مَا عَلَيْهِ فَتَابَ. قَالَه الزّجاج.
فَتخرج على هَذِه الْأَقْوَال فِي معنى الْكتاب قَولَانِ: أَحدهمَا أَنه كتاب مَكْتُوب. وَالثَّانِي: أَنه الْقَضَاء.
فَلَمَّا نزل قَوْله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم} [الْأَنْفَال: 69] أخذُوا الْفِدَاء.
وَالْجَوَاب الثَّالِث: أَن يكون أضَاف الْعَذَاب إِلَيْهِم لعز قدره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا يُضَاف الْخَيْر إِلَى الله عز وَجل، وَالشَّر إِلَى إِبْلِيس، لَا لكَون الْقدر لم يشْتَمل الْأَمريْنِ، بل لحسن الْأَدَب بِالْإِضَافَة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {مَا أَصَابَك من حَسَنَة فَمن الله وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك} [النِّسَاء: 79] .
وَقَوله: {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى} [الْأَنْفَال: 67] أصل الْأسر: الشد، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر " أُسَارَى ". قَالَ الْفراء: أهل الْحجاز يَقُولُونَ: أُسَارَى، وَأهل نجد أَكثر كَلَامهم أسرى، وَهُوَ أَجود الْوَجْهَيْنِ فِي الْعَرَبيَّة؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة جريح وجرحى. قَالَ أَبُو عَمْرو: الْأُسَارَى: الَّذين شدوا، والأسرى فِي أَيدي الْعَدو، إِلَّا أَنهم لم يشدوا. وَقَالَ الزّجاج: " فعلى " جمع لكل مَا أُصِيب بِهِ النَّاس فِي أبدانهم وعقولهم،

(1/140)


يُقَال: هَالك وهلكى، ومريض ومرضى، وسكران وسكرى، وَمن قَرَأَ " أُسَارَى " فَهُوَ جمع الْجمع، لِأَن جمع أَسِير أسرى، وَجمع أسرى أُسَارَى.
وَقَوله: (حَتَّى يثخن فِي الأَرْض) أَي يتَمَكَّن فِيهَا فيبالغ فِي قتل أعدائه. وَكَانَ هَذَا أول حَرْب، وَفِي الْمُسلمين ضعف وَقلة، فَلم يكن لاستبقاء الْأَعْدَاء وَجه.
78 - / 85 - الحَدِيث السَّابِع: كتب حَاطِب بن أبي بلتعة إِلَى أهل مَكَّة.
أما حَاطِب فَهُوَ من لخم وَكَانَ نازلا بِمَكَّة وَلَيْسَ من أَهلهَا، فَهَاجَرَ وَترك أَهله هُنَالك، فتقرب إِلَى الْقَوْم ليحفظوه فِي أَهله بِأَن أطلعهم على بعض أسرار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كيدهم وَقصد قِتَالهمْ، وَعلم أَن ذَلِك لَا يضر رَسُول الله لنصر الله عز وَجل إِيَّاه، وَهَذَا الَّذِي فعله أَمر يحْتَمل التَّأْوِيل، وَلذَلِك اسْتعْمل رَسُول الله حسن الظَّن. وَقَالَ فِي بعض الْأَلْفَاظ: " إِنَّه قد صدقكُم ".
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن حكم المتأول فِي اسْتِبَاحَة الْمَحْظُور خلاف حكم الْمُتَعَمد لاستحلاله من غير تَأْوِيل، وَدلّ على أَن من أَتَى مَحْظُورًا أَو ادّعى فِي ذَلِك مَا يحْتَمل التَّأْوِيل كَانَ القَوْل قَوْله فِي ذَلِك وَإِن كَانَ غَالب الظَّن بِخِلَافِهِ.

(1/141)


وَقَول عمر: إِنَّه قد كفر، يحْتَمل وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن عمر تَأَول قَوْله تَعَالَى: {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله} [المجادلة: 22] .
وَالثَّانِي: أَن يكون أَرَادَ كفر النِّعْمَة.
وَفِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث: دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا الْمُنَافِق. وَهَذَا لِأَنَّهُ رأى صُورَة النِّفَاق. وَلما احْتمل قَول عمر وَكَانَ لتأويله مساغ لم يُنكر عَلَيْهِ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَنه الجاسوس الْمُسلم لَا يقتل. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: يسْتَحق الْعقُوبَة المنكلة والتغريب إِلَى بعض الْآفَاق فِي وثاق. وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي: يُعَاقب ويسجن. وَقَالَ مَالك: يجْتَهد فِيهِ الإِمَام. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِذا كَانَ من ذَوي الهيئات كحاطب أَحْبَبْت أَن يتجافى عَنهُ، وَإِن لم يكن مِنْهُم كَانَ للْإِمَام أَن يعزره.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على جَوَاز النّظر إِلَى مَا هُوَ عَورَة من الْمَرْأَة بِموضع الضرورات لأَنهم فتشوا الْمَرْأَة.
وَقَوله: " اعْمَلُوا مَا شِئْتُم " لَيْسَ على الِاسْتِقْبَال، وَإِنَّمَا هُوَ للماضي، وَتَقْدِيره: أَي عمل كَانَ لكم فقد غفر. وَيدل على هَذَا شَيْئَانِ: أَحدهمَا: أَنه لَو كَانَ للمستقبل كَانَ جَوَابه فسأغفر. وَالثَّانِي: أَنه كَانَ يكون إطلاقا فِي الذُّنُوب، وَلَا وَجه لذَلِك، ويوضح هَذَا أَن الْقَوْم خَافُوا من الْعقُوبَة فِيمَا بعد، فَقَالَ عمر: يَا حُذَيْفَة، هَل أَنا مِنْهُم؟

(1/142)


79 - / 86 - الحَدِيث الثَّامِن: " من نَام عَن حزبه من اللَّيْل أَو عَن شَيْء مِنْهُ فقرأه مَا بَين صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الظّهْر كتب لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ من اللَّيْل ".
قد صحف بَعضهم فَقَالَ: من نَام عَن جزئه من الْجُزْء الَّذِي هُوَ الْقطعَة من الشَّيْء، وَإِنَّمَا هُوَ: عَن حزبه بِالْحَاء الْمُهْملَة الْمَكْسُورَة. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: الحزب من الْقُرْآن: الْورْد، وَهُوَ شَيْء يفرضه الْإِنْسَان على نَفسه، يَقْرَؤُهُ كل يَوْم. وَيُقَال: الْقَوْم أحزاب: إِذا كَانُوا قطعا وفرقا، من كل نَاحيَة فرقة. وَقَالَ ابْن جرير الطَّبَرِيّ: يَعْنِي بحزبه: جمَاعَة السُّور الَّتِي كَانَ يقْرؤهَا فِي صلَاتهم بِاللَّيْلِ، وكل جمَاعَة مؤتلفة أَو مُتَفَرِّقَة على شَيْء فَهِيَ حزب، وَمِنْه " الْأَحْزَاب ".
وَاعْلَم أَن مَا بَين الْفجْر إِلَى الظّهْر مُضَاف عِنْد الْعَرَب إِلَى اللَّيْل، يَقُولُونَ: كَيفَ كنت اللَّيْلَة؟ إِلَى وَقت الزَّوَال، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى الْغَدَاة يَقُول فِي بعض الْأَيَّام: " هَل رأى أحد مِنْكُم اللَّيْلَة رُؤْيا " وَقد بنى أَبُو حنيفَة على هَذَا فَقَالَ: إِذا نوى صَوْم الْفَرْض قبل الزَّوَال صَحَّ، فَكَأَنَّهُ نوى من آخر اللَّيْل.
80 - / 87 - الحَدِيث التَّاسِع: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لأخْرجَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى من جَزِيرَة الْعَرَب ".

(1/143)


قَالَ الْخَلِيل: جَزِيرَة الْعَرَب مَعْدِنهَا ومسكنها، وَإِنَّمَا قيل لَهَا جَزِيرَة؛ لِأَن بَحر الْحَبَش وبحر فَارس ودجلة والفرات قد أحَاط بهَا. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: جَزِيرَة الْعَرَب من أقْصَى عدن أبين إِلَى ريف الْعرَاق فِي الطول، وَأما الْعرض فَمن جدة وَمَا والاها من سَاحل الْبَحْر إِلَى أطرار الشَّام.
81 - / 88 - الحَدِيث الْعَاشِر: أَن رجلا تَوَضَّأ فَترك مَوضِع ظفر على قدمه، فَأَبْصَرَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " ارْجع فَأحْسن وضوءك " فَرجع فَتَوَضَّأ ثمَّ صلى.
قد احْتج بِهَذَا بعض أَصْحَابنَا فِي وجوب الْمُوَالَاة؛ لِأَن الْمُوَالَاة عندنَا شَرط فِي صِحَة الْوضُوء، وَهُوَ قَول مَالك، وَعَن أَحْمد لَيْسَ شرطا كَقَوْل أبي حنيفَة، وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ. وَلَا خلاف فِي التَّفْرِيق الْيَسِير أَنه لَا يبطل، وَقد حد أَصْحَابنَا الْكثير: بِأَن يَأْتِي على الْعُضْو زمَان معتدل فِي الْحر وَالْبرد فينشف. وَوجه الْحجَّة فِي الحَدِيث أَن الرجل فهم من قَوْله: " أحسن وضوءك " إِعَادَة الْوضُوء، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: تعلم كَيفَ الْوضُوء، فَلَيْسَ مَا فعلت بِوضُوء.
82 - / 89 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر - قَالَ عمر فِي الضَّب: إِن رَسُول الله لم يحرمه. وَفِي لفظ: إِنَّمَا عافه رَسُول الله.

(1/144)


الضَّب مَعْرُوف، وَهُوَ مُبَاح الْأكل، وعافه بِمَعْنى كرهه، ولكراهته لَهُ سببان:
أَحدهمَا: أَنه لم يتعود أكله، وَسَيَأْتِي فِي مُسْند ابْن عمر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي لحم الضَّب: " كلوا؛ فَإِنَّهُ حَلَال، وَلكنه لَيْسَ من طَعَامي ". وَفِي مُسْند خَالِد بن الْوَلِيد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الضَّب: أحرام هُوَ؟ قَالَ: " لَا، وَلكنه لَيْسَ فِي قومِي، فأجدني أعافه ".
وَالثَّانِي: أَنه خَافَ أَن يكون مِمَّن مسخ. وَسَيَأْتِي فِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث جَابر بن عبد الله أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِي بضب، فَأبى أَن يَأْكُل مِنْهُ وَقَالَ: " لَا أَدْرِي، لَعَلَّه من الْقُرُون الَّتِي مسخت ".
83 - / 90 - الحَدِيث الثَّانِي عشر: قَالَ أَبُو نَضرة: كَانَ ابْن عَبَّاس يَأْمر بِالْمُتْعَةِ، وَكَانَ ابْن الزبير ينْهَى عَنْهَا، فَذكرت ذَلِك لجَابِر بن عبد الله، فَقَالَ: على يَدي دَار الحَدِيث، تَمَتعنَا مَعَ رَسُول الله، فَلَمَّا قَامَ عمر قَالَ: إِن الله كَانَ يحل لرَسُوله مَا شَاءَ بِمَا شَاءَ، وَإِن الْقُرْآن قد نزل مَنَازِله، فَأتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة كَمَا أَمركُم الله، وأبتوا نِكَاح هَذِه النِّسَاء، فَلَنْ أُوتى بِرَجُل نكح امْرَأَة إِلَى أجل إِلَّا رَجَمْته بِالْحِجَارَةِ. وَفِي لفظ: فَافْصِلُوا حَجكُمْ من عُمْرَتكُمْ؛ فَإِنَّهُ أتم لحجكم، وَأتم لعمرتكم.

(1/145)


أما الْمُتْعَة فَإِنَّهَا كَانَت مُبَاحَة أول الْإِسْلَام، وصفتها أَن الرجل كَانَ ينْكح الْمَرْأَة بِشَيْء مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم، لَا بِعقد عِنْد الِاتِّصَال، وَلَا بِطَلَاق عِنْد الِانْفِصَال، ثمَّ نسخ هَذَا بِمَا سَيَأْتِي فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: أَن رَسُول الله نهى عَن مُتْعَة النِّسَاء يَوْم خَيْبَر. وَسَيَأْتِي فِي مُسْند سُبْرَة بن معبد مَا يدل على أَنَّهَا نسخت عِنْد فتح مَكَّة، فقد وَقع الِاتِّفَاق على النّسخ وَإِن اخْتلف فِي الْوَقْت، غير أَن حَدِيث عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام مقدم لثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا: أَن حَدِيث عَليّ مُتَّفق عَلَيْهِ، وَحَدِيث سُبْرَة من أَفْرَاد مُسلم.
وَالثَّانِي: أَن عليا عَلَيْهِ السَّلَام أعلم بأحوال رَسُول الله من غَيره.
وَالثَّالِث: أَنه أثبت تَقْدِيمًا فِي الزَّمَان خَفِي على غَيره.
فكأنهم استعملوا عِنْد فتح مَكَّة مَا كَانُوا أبيحوه من غير علم بالناسخ أَنه قد وَقع، فنهاهم. وَأما فَتْوَى ابْن عَبَّاس فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو من أَمريْن: إِمَّا أَن يكون النَّاسِخ مَا وصل إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَن يكون تَأَول النّسخ فِي حق الْمُضْطَر إِلَى ذَلِك، وَهُوَ مَذْهَب مَتْرُوك.
وَقَول جَابر: على يَدي دَار الحَدِيث: أَي بمشاهدتي وحضوري جرى ذَلِك.
وَقَوله: فَأتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة: اخْتلف الْعلمَاء فِي المُرَاد بإتمامها على

(1/146)


أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن يفصل بَينهمَا، فَيَأْتِي بِالْعُمْرَةِ فِي غير أشهر الْحَج، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ عمر، وَإِلَيْهِ ذهب الْحسن وَعَطَاء.
وَالثَّانِي: أَن يحرم الرجل من دويرة أَهله، قَالَه عَليّ وَطَاوُس وَابْن جُبَير.
وَالثَّالِث: أَنه إِذا شرع فِي أَحدهمَا لم يفسخه حَتَّى يتم، قَالَه ابْن عَبَّاس.
وَالرَّابِع: أَنه فعل مَا أَمر الله فيهمَا، قَالَه مُجَاهِد.
قَوْله: أبتوا نِكَاح هَذِه النِّسَاء. الْبَتّ: الْقطع. وَالْمعْنَى: أمضوه إِمْضَاء لَا اسْتثِْنَاء فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ إِلَى أجل كَانَ غير دَائِم. قَالَ الزّجاج: يُقَال: بت الحكم وأبته: إِذا قطعه.
وَاعْلَم أَن إحكام أَمر النِّكَاح لَازم، وَلذَلِك تواعد على الْمُتْعَة بِالرَّجمِ، بِخِلَاف فصل الْحَج من الْعمرَة؛ فَإِنَّهُ الْأَفْضَل عِنْد قوم، وَجَائِز عِنْد آخَرين.
وَرُبمَا توهم من لَا علم لَهُ أَن عمر نهى عَن الْمُتْعَة لمصْلحَة رَآهَا، وَهَذَا لَا يجوز لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَنه لَيْسَ لَهُ أَن يُغير شرع رَسُول الله، وَلَوْلَا أَنه ثَبت عِنْده النَّاسِخ مَا قَالَ.
وَالثَّانِي: أَنه لَو كَانَ على وَجه الْمصلحَة مَا تواعد عَلَيْهِ بِالرَّجمِ.

(1/147)


84 - / 91 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: قَالَ عمر: إِن رَسُول الله يرينا مصَارِع أهل بدر بالْأَمْس، يَقُول: " هَذَا مصرع فلَان غَدا إِن شَاءَ الله، وَهَذَا مصرع فلَان إِن شَاءَ الله " فو الَّذِي بَعثه بِالْحَقِّ مَا أَخطَأ الْحُدُود الَّتِي حَدهَا رَسُول الله.
المصرع: مَوضِع المصروع، وَهُوَ الْملقى على الأَرْض، يُقَال: صرعت الرجل: إِذا أَلقيته، وَرجل صريع ومصروع.
وإخبار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك من أعظم المعجزات الدَّالَّة على صدقه، لِأَنَّهُ أخبر بِمَا يكون، فَكَانَ كَمَا قَالَ.
وَقَوله: مَا أَنْتُم بأسمع لما أَقُول مِنْهُم. إِن قيل: كَيفَ أخبر بسماعهم وَقد قَالَ عز وَجل: {إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى} [النَّمْل: 80] ؟
فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الله تَعَالَى أحياهم لَهُ، فَسَمِعُوا كَلَامه إِكْرَاما لَهُ وإذلالا لَهُم، هَذَا قَول قَتَادَة. وعَلى هَذَا القَوْل ردَّتْ أَرْوَاحهم وَقت خطابه، كَمَا ترد الرّوح إِلَى الْمَيِّت عِنْد سُؤال مُنكر وَنَكِير، وَلذَلِك قَالَ: " إِنَّهُم ليسمعون قرع نعالكم إِذا وليتم مُدبرين ".
وَالثَّانِي: أَن الله تَعَالَى أوصل صداه إِلَى أَرْوَاحهم، وَإِنَّمَا الْبدن آلَة، وَالله قَادر أَن يُوصل إِلَى الرّوح بِآلَة أُخْرَى، وَبِغير آلَة.

(1/148)


85 - / 92 - الحَدِيث الرَّابِع عشر: لقد رَأَيْت رَسُول الله يظل الْيَوْم يلتوي مَا يجد دقلا يمْلَأ بِهِ بَطْنه.
يُقَال " ظلّ فلَان يفعل كَذَا: إِذا فعله بِالنَّهَارِ، وَبَات يفعل كَذَا إِذا فعله بِاللَّيْلِ.
ويلتوي: يتثنى من الْجُوع.
والدقل من التَّمْر: أردؤه.
وَإِنَّمَا جرى هَذَا على رَسُول الله لثَلَاثَة أَشْيَاء:
أَحدهَا: أَن الْبلَاء يلصق بالأقوياء، وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " نَحن معاشر الْأَنْبِيَاء أَشد النَّاس بلَاء، ثمَّ الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه ".
وَالثَّانِي: ليتأسى بِهِ الْفُقَرَاء فيطيب عيشهم، وَلِهَذَا الْمَعْنى أَمر النَّاس بالتجرد عَن الْمخيط عِنْد الْإِحْرَام لِئَلَّا ينكسر قلب الْفَقِير.
وَالثَّالِث: ليَكُون ذَلِك أقوى دَلِيل على صدقه فِيمَا جَاءَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا الصدْق لطلب الدُّنْيَا، فصبره على الْفقر من أقوى أَدِلَّة صدقه.
86 - / 93 - الحَدِيث الْخَامِس عشر: أَن نَافِع بن الْحَارِث لَقِي عمر بعسفان، وَكَانَ عمر يَسْتَعْمِلهُ على مَكَّة، فَقَالَ: من اسْتعْملت على أهل الْوَادي؟ فَقَالَ: ابْن أَبْزَى فَقَالَ: وَمن ابْن أَبْزَى؟ فَقَالَ: مولى من موالينا. فَقَالَ: أستخلفت عَلَيْهِم مولى؟ فَقَالَ: إِنَّه قَارِئ لكتاب الله، عَالم بالفرائض. فَقَالَ عمر: أما إِن نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد قَالَ: " إِن

(1/149)


الله يرفع بِهَذَا الْكتاب أَقْوَامًا وَيَضَع بِهِ آخَرين ".
أما نَافِع فَلَيْسَ كَمَا نسبه الْحميدِي، إِنَّمَا هُوَ نَافِع بن عبد الْحَارِث، كَذَلِك ذكره مُحَمَّد بن سعد فِي مَوَاضِع، وَذكره ابْن أبي خَيْثَمَة، وَالْبُخَارِيّ فِي " التَّارِيخ ".
وَأما ابْن أَبْزَى فاسمه عبد الرَّحْمَن، وَهُوَ مولى نَافِع.
وَقَوله: إِن الله يرفع بِهَذَا الْكتاب - يَعْنِي الْقُرْآن - أَقْوَامًا. أَرَادَ يرفع حافظيه والعاملين بِهِ، وَيَضَع المضيعين لحقه، المفرطين فِي أمره.
87 - / 94 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: قَالَ عقبَة بن عَامر: كَانَت علينا رِعَايَة الْإِبِل، فَجَاءَت نوبتي، فروحتها بعشي.
قَوْله: جَاءَت نوبتي: كَانُوا يتناوبون فِي رعي الْإِبِل. وَقَوله: فروحتها: الرواح: من زَوَال الشَّمْس إِلَى اللَّيْل وَكَذَلِكَ الْعشي، إِلَّا أَنه أَرَادَ بالْعَشي هَاهُنَا أَوَاخِر الْوَقْت. وَهُوَ الْمسَاء. وَيُقَال: أَرحْنَا إبلنا: أَي رددناها وَقت الرواح. والمراح: حَيْثُ تأوي الْمَاشِيَة بِاللَّيْلِ.
وَقَوله: " فَيحسن وضوءه " إِحْسَان الْوضُوء: إِتْمَامه.
وَقَوله: " يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يقبل عَلَيْهِمَا بِقَلْبِه وَوَجهه " الإقبال بِالْوَجْهِ: ترك الِالْتِفَات وَالنَّظَر إِلَى مَوضِع السُّجُود، وبالقلب: قطع الْفِكر عَنهُ

(1/150)


فِيمَا سوى الْعِبَادَة.
وَقَوله: آنِفا. قَالَ الزّجاج: آنِفا: بِمَعْنى السَّاعَة، وَهُوَ من قَوْلك استأنفت الشَّيْء: إِذا ابتدأته. وروضة أنف: لم ترع، فلهَا أول مرعى. وَقَالَ أَبُو عمر غُلَام ثَعْلَب: معنى آنِفا: مذ سَاعَة.
وإسباغ الْوضُوء: إِتْمَامه.
فَإِن قيل: أَيجوزُ أَن يقطع بِالْجنَّةِ لمن صلى رَكْعَتَيْنِ أحضر فيهمَا قلبه، لقَوْله: " وَجَبت لَهُ الْجنَّة "؟
فَالْجَوَاب: أَنا لَا نقطع لأحد بِعَيْنِه؛ لِأَنَّهُ رُبمَا لم يَأْتِ بالحضور الْمَطْلُوب كَمَا يَنْبَغِي، وَرُبمَا وَجَبت الْجنَّة لشخص ثمَّ حَال بَينه وَبَينهَا عمل من أَعماله القباح، وَلَكنَّا نرجوها لَهُ.
88 - / 95 - الحَدِيث السَّابِع عشر: قَالَ يعلى بن أُميَّة: قلت: لعمر: {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا} [النِّسَاء: 101] فقد أَمن النَّاس. فَقَالَ: عجبت مِمَّا عجبت مِنْهُ، فَسَأَلت رَسُول الله عَن ذَلِك، فَقَالَ: " صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم، فاقبلوا صدقته ".
الْجنَاح: الْإِثْم. وَالْقصر: النَّقْص. والفتنة: الْقَتْل.
وَفِي هَذَا الحَدِيث ثَلَاثَة أوجه.
أَحدهَا: أَنه قد كَانَ الحكم مُتَعَلقا بالخوف، فَلَمَّا زَالَ الْخَوْف أبقى الله حكم الْقصر على وَجه التَّخْفِيف عَن الْمُسَافِر، فَيكون هَذَا من

(1/151)


الْأَحْكَام الَّتِي نطيت بِسَبَب، ثمَّ زَالَ السَّبَب وَبَقِي الحكم، كالرمل.
وَالثَّانِي: أَن الْآيَة إِنَّمَا نزلت على غَالب أسفار رَسُول الله، وأكثرها لم يخل من الْخَوْف، وَنَحْو هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء إِن أردن تَحَصُّنًا} [النُّور: 33] فَخرج النَّهْي على صفة السَّبَب وَإِن لم يكن شرطا فِيهِ، لِأَنَّهُنَّ كن يردن التحصن.
وَالثَّالِث: أَن تحمل على معنى " إِن " كَقَوْلِه تَعَالَى: {وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا إِن كُنْتُم مُؤمنين} [الْبَقَرَة: 278] وَقَوله: {وَأَنْتُم الأعلون إِن كُنْتُم مُؤمنين} [آل عمرَان: 139] وَاعْلَم أَن الْمُسَافِر مُخَيّر بَين الْإِتْمَام وَالْقصر، وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ، وَعَن أبي حنيفَة يتَعَيَّن عَلَيْهِ الْقصر وَلَا يجوز لَهُ الْإِتْمَام، وَعَن أَصْحَاب مَالك كالمذهبين.
ومستند هَذَا الْخلاف أَن الْقصر رخصَة عندنَا وَعند الشَّافِعِي، إِلَّا أَنه مَعَ كَونه رخصَة فَهُوَ عندنَا أفضل من الْإِتْمَام، وَهَذَا أحد قولي الشَّافِعِي. وَعند أبي حنيفَة أَنه عَزِيمَة. وَيدل على قَوْلنَا قَوْله تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح} والجناح إِنَّمَا يرفع فِي الْمُبَاح لَا فِي الْوَاجِب. ثمَّ لَو كَانَ الأَصْل رَكْعَتَيْنِ لم يكن لقَوْله: " صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم " وَجه.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي مُدَّة السّفر الَّتِي يجوز فِيهِ الْقصر، فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: أَقَله سِتَّة عشر فرسخا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: أَقَله مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام سير الْإِبِل. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: مرحلة يَوْم. وَقَالَ دَاوُد: يجوز الْقصر فِي السّفر الطَّوِيل والقصير.
فَأَما مُدَّة الْإِقَامَة الَّتِي إِذا نَوَاهَا بِبَلَدِهِ أتم الصَّلَاة، وَإِن نوى أقل مِنْهَا قصر: فَقَالَ أَصْحَابنَا: إِقَامَة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين صَلَاة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة:

(1/152)


إِقَامَة خَمْسَة عشر يَوْمًا. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: إِقَامَة أَرْبَعَة أَيَّام.
وَعِنْدنَا أَن الْقصر إِنَّمَا يُبَاح للْمُسَافِر إِذا كَانَ سَفَره مُبَاحا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَدَاوُد: يجوز لَهُ إِن لم يكن سَفَره مُبَاحا. ووافقنا مَالك فِي أَنه لَا يجوز للعاصي بِسَفَرِهِ الْفطر وَلَا الْقصر، وَقَالَ: يجوز لَهُ أكل الْميتَة.
فَإِن قَالَ لنا قَائِل: كَيفَ تمْنَعُونَ الْمُضْطَر الْميتَة حَتَّى يَمُوت؟
قُلْنَا: نَحن نقُول لَهُ: تب وكل.
وَقَوله: " صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم " أَي أنعم بذلك كَمَا ينعم الْمُتَصَدّق، فَهُوَ كَقَوْلِه: {وَتصدق علينا} [يُوسُف: 88] . وَفِي هَذَا الحَدِيث رد على من نهى أَن يُقَال: اللَّهُمَّ تصدق علينا، فَإِنَّهُ قد روى سعيد بن مَنْصُور فِي كتاب " السّنَن " عَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَن رجلا قَالَ: تصدق عَليّ تصدق الله عَلَيْك بِالْجنَّةِ. فَقَالَ: إِن الله لَا يتَصَدَّق، وَلَكِن يَجْزِي المتصدقين. وروى أَيْضا أَن مُجَاهدًا قَالَ: لَا تقل تصدق عَليّ، فَإِنَّمَا يتَصَدَّق من يَبْتَغِي الثَّوَاب. وَاعْلَم أَنَّهُمَا إِنَّمَا قَالَا هَذَا بِمُقْتَضى الْعرف وَلم يَقع إِلَيْهِمَا الحَدِيث.
89 - / 96 - الحَدِيث الثَّامِن عشر: عَن جُبَير بن نفير قَالَ: خرجت مَعَ شُرَحْبِيل بن السمط إِلَى قَرْيَة على سَبْعَة عشر أَو ثَمَانِيَة عشر ميلًا،

(1/153)


فصلى رَكْعَتَيْنِ فَقلت لَهُ، فَقَالَ: رَأَيْت عمر بن الْخطاب صلى بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ، فَقلت لَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أفعل كَمَا رَأَيْت رَسُول الله يفعل. أما الْقرْيَة فاسم لما يجمع جمَاعَة من النَّاس، وَهُوَ مَأْخُوذ من الْجمع.
وَأما الْميل فَقَالَ ابْن فَارس: الْميل من الأَرْض قدر مد الْبَصَر.
وَلَا يَخْلُو حَال شُرَحْبِيل من أَمريْن: إِمَّا أَن يكون هَذَا الْمِقْدَار غَايَة سَفَره، فَيكون مِمَّن يرى قصر الصَّلَاة فِي السّفر الْقصير، أَو أَن يكون خرج إِلَى سفر طَوِيل، فَلَمَّا وصل هَذِه الْقرْيَة قصر.
وَقَوله: رَأَيْت عمر صلى بِذِي الحليفة: يُرِيد أَنه قصر فِي السّفر.
90 - / 97 - الحَدِيث التَّاسِع عشر: " إِذا قَالَ الْمُؤَذّن: الله أكبر الله أكبر: فَقَالَ أحدكُم: الله أكبر الله أكبر ... " فَذكر الْأَذَان إِلَى أَن قَالَ عِنْد الحيعلة: " لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه " وَقَالَ فِي آخِره: " فَقَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله، من قلبه دخل الْجنَّة ".
قَالَ ثَعْلَب: قَالَ اللغويون: وَمعنى الله أكبر: الله أكبر، وَاحْتَجُّوا بقول الفرزدق:
(إِن الَّذِي سمك السَّمَاء بنى لنا ... بَيْتا دعائمه أعز وأطول)

قَالَ: وَقَالَ النحويون كالكسائي وَالْفراء: مَعْنَاهُ الله أكبر من كل

(1/154)


شَيْء، فحذفت من، كَمَا تَقول: أَبوك أفضل، أَي من غَيره وَاحْتَجُّوا بقول الشَّاعِر:
(إِذا مَا ستور الْبَيْت أرخين لم يكن ... سراج لنا إِلَّا ووجهك أنور)

وَمعنى أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله: أعلم وَأبين.
فَأَما معنى حَيّ على الصَّلَاة فَقَالَ الْفراء: هلموا إِلَى الصَّلَاة وَأَقْبلُوا عَلَيْهَا. وَفتحت الْيَاء من حَيّ لسكونها وَسُكُون الْيَاء الَّتِي قبلهَا، كليت وَلَعَلَّ.
والفلاح: الْفَوْز.
وَإِنَّمَا يُقَال عِنْد هَذَا: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وَلَا يُقَال كَمَا قَالَ المؤذنون؛ لِأَن مَضْمُون هَذَا الْكَلَام دُعَاء الْمُصَلِّي، فَلَا يُجيب بِمثلِهِ.
وَمعنى لَا حول: لَا حِيلَة. يُقَال: مَا للرجل حول وَلَا حِيلَة وَلَا احتيال.
91 - / 98 - الحَدِيث الْعشْرُونَ: قَالَ عمر: قسم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسما فَقلت: يَا رَسُول الله لغير هَؤُلَاءِ أَحَق بِهِ مِنْهُم. قَالَ: " إِنَّهُم خيروني بَين أَن يَسْأَلُونِي بالفحش، أَو يبخلوني، وَلست بباخل ".
الْقسم بِفَتْح الْقَاف مصدر قسمت، وبكسرها: الْحَظ والنصيب، يُقَال: هَذَا قسمك، وَهَذَا قسمي.

(1/155)


وَالْفُحْش: الزَّائِد فِي الْخُرُوج عَن حد الصَّوَاب، وكل شَيْء جَاوز قدره فَهُوَ فَاحش.
وَيُشبه أَن يكون هَؤُلَاءِ الَّذين أَعْطَاهُم من الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم.
وَقد نبه الحَدِيث على جَوَاز الْإِعْطَاء لحفظ الْعرض.
92 - / 99 - الحَدِيث الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: كَانَ عمر إِذا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَاد أهل الْيمن سَأَلَهُمْ: أفيكم أويس بن عَامر؟
أما الأمداد فقوم يجيئون بعد قوم.
واليمن سميت بذلك لِأَنَّهَا عَن يَمِين الْكَعْبَة.
وأويس تَصْغِير أَوْس، وَأَوْس اسْم للذئب، وأنشدوا:
(مَا فعل الْيَوْم أويس فِي الْغنم ... )

وَقرن مَفْتُوحَة الرَّاء: قَبيلَة. وَقرن بتسكين الرَّاء مَوضِع من مَوَاقِيت الْحَج.
وغبر النَّاس من الغابر: وَهُوَ الْمُتَأَخر عَمَّن تقدمه. والغبرات: البقايا. وَهَكَذَا سمعنَا هَذِه الْكَلِمَة وتفسيرها، وَقد ذكرهَا ابْن جرير فِي " تَهْذِيب الْآثَار " وَقَالَ: أكون فِي غثر النَّاس. قَالَ: وَهِي الْجَمَاعَة

(1/156)


المختلطة من قبائل شَتَّى، يُقَال: أَقبلت غثيرة من النَّاس وغثراء مِنْهُم، ودهماء، وأوزاع، وأوباش، وأوشاب: وهم الْفرق.
وَفِي رِوَايَة أكون فِي خمار النَّاس: أَي فِي زحمتهم حَيْثُ أخْفى. وَإِنَّمَا أَرَادَ الخمول؛ لِأَن الْمُتَقَدّم مشتهر بِخِلَاف الْمُتَأَخر. والخمول إِلَى السَّلامَة أقرب.

(1/157)