كشف المشكل من
حديث الصحيحين كشف الْمُشكل من مُسْند حَارِثَة بن وهب
الْخُزَاعِيّ
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم سِتَّة أَحَادِيث، وَقد غلط أَبُو بكر البرقي
فَقَالَ فِي " تَارِيخه ": جملَة مَا روى حديثان، وَبَيَان
غلطه أَنه قد أخرج لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة
أَحَادِيث.
291 - / 350 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: قَوْله
صلى بِنَا رَسُول الله وَنحن أَكثر مَا كُنَّا قطّ وآمنه
بمنى رَكْعَتَيْنِ.
يُشِير بِهَذَا إِلَى أَن قصر الصَّلَاة لم يقف على
الْخَوْف. وَقد شرحنا هَذَا فِي مُسْند عمر.
292 - / 351 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " حَوْضه مَا بَين صنعاء
وَالْمَدينَة ".
الْإِشَارَة إِلَى أَن طول الْحَوْض بِقدر هَذِه
الْمسَافَة.
293 - / 352 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " يمشي الرجل
بِصَدَقَتِهِ فَيَقُول
(1/348)
الَّذِي أعطيها: لَو جئتنا بهَا بالْأَمْس
قبلتها ".
وَالْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى كَثْرَة المَال فِي آخر
الزَّمَان.
294 - / 353 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " أَلا أخْبركُم
بِأَهْل الْجنَّة؟ كل ضَعِيف متضعف، لَو يقسم على الله
لَأَبَره. أَلا أخْبركُم بِأَهْل النَّار؟ كل عتل جواظ
مستكبر ".
الضَّعِيف: الْفَقِير، والمتضعف بِفَتْح الْعين - ويغلط من
يقْرؤهَا من الْمُحدثين بِالْكَسْرِ؛ لِأَن المُرَاد أَن
النَّاس يستضعفونه ويقهرونه.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: العتل عِنْد الْعَرَب: الشَّديد.
وَقَالَ غَيره: هُوَ الْفظ الغليظ الشَّديد الْخُصُومَة
الَّذِي لَا ينقاد لخير.
فَأَما الجواظ فَفِيهِ خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه
الجموع المنوع. وَالثَّانِي: الشَّديد الصَّوْت فِي
الشَّرّ. وَالثَّالِث: الْقصير الْبَطن. وَالرَّابِع:
المتكبر المختال فِي مَشْيه الفاخر. وَالْخَامِس: أَنه
الْكثير اللَّحْم المختال فِي مَشْيه.
(1/349)
كشف الْمُشكل من مُسْند أبي ذَر
وَاخْتلفُوا فِي اسْمه وَاسم أَبِيه، فَقَالَ قوم: جُنْدُب
بن جُنَادَة بن كَعْب. وَقَالَ آخَرُونَ: جُنْدُب بن
السكن. وَقَالَ بَعضهم: يزِيد بن جُنَادَة. وَقيل: يزِيد
بن أشعر، وَيُقَال: يزِيد بن عشرقة. وَيُقَال: اسْمه
جُنَادَة.
وَكَانَ يتعبد قبل مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَدِيما، وَقَالَ: كنت خَامِسًا فِي الْإِسْلَام، وَرجع
إِلَى بِلَاد قومه وَلم يقدم إِلَّا بعد الخَنْدَق.
روى عَن رَسُول الله مِائَتي حَدِيث، وأحدا وَثَمَانِينَ
حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة
وَثَلَاثُونَ.
295 - / 354 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: أَنه
تزَود وَحمل شنة فِيهَا مَاء حَتَّى قدم مَكَّة. الشنان:
الأسقية الَّتِي قد أخلقت، وَاحِدهَا شن، وكل جلد بَال شن،
وَيُقَال للقربة مِنْهَا شنة، وَهِي أَشد تبريدا للْمَاء
من الجدد.
(1/350)
وَقَوله: مَا أَنى للرجل. أَي: مَا آن.
ويقفوه بِمَعْنى يتبعهُ.
وَقَوله: لأصرخن بهَا: أَي بِكَلِمَة التَّوْحِيد بَين
ظهرانيهم، يَعْنِي الْمُشْركين بِمَكَّة.
وَقَوله: فَثنى علينا الَّذِي قيل لَهُ: أَي أظهره لنا.
وَإِنَّمَا يُقَال النثا بِتَقْدِيم النُّون فِي الشَّيْء
الْقَبِيح، فَإِذا قدمت الثَّاء فَهُوَ الْكَلَام
الْجَمِيل.
وَقَوله: لَا جماع لَك: أَي لَا نَجْتَمِع مَعَك.
والصرمة: الْقطعَة من الْإِبِل نَحْو الثَّلَاثِينَ.
وَقَوله: فنافر أنيس عَن صِرْمَتنَا وَعَن مثلهَا: أَي من
قضى لَهُ بالغلبة أَخذ ذَلِك. وَقَالَ أَبُو عبيد:
المنافرة: أَن يفتخر الرّجلَانِ كل وَاحِد مِنْهُمَا على
صَاحبه ثمَّ يحكما رجلا بَينهمَا، والنافر: الْغَالِب،
والمنفور: المغلوب. يُقَال: قد نفره ينفره وينفره نَفرا:
إِذا غلب عَلَيْهِ.
وَقَوله: فَأتيَا الكاهن فَخير أنيسا عَلَيْهِ: أَي غَلبه
وَقضى لَهُ.
وَقَوله: قد صليت قبل أَن ألْقى رَسُول الله. هَذَا إلهام
الْقُلُوب الطاهرة، وَمُقْتَضى الْعُقُول السليمة،
فَإِنَّهَا توفق للصَّوَاب وتلهم للرشد
وَقَوله: كَأَنِّي خَفَاء. قَالَ أَبُو عبيد: الخفاء
مَمْدُود هُوَ الغطاء، وكل شَيْء غطيته بِشَيْء من كسَاء
أَو ثوب فَذَلِك الغطاء خَفَاء، وَجمعه
(1/351)
أخفية. قَالَ ابْن دُرَيْد: الخفاء كسَاء
يطْرَح على السقاء.
وَقَوله: فَرَاثَ عَليّ: أَي أَبْطَا.
وَقَوله: وضعت قَوْله على أَقراء الشّعْر، قَالَ ابْن
قُتَيْبَة: يُرِيد أَنْوَاعه وطرقه، وَاحِدهَا قري، يُقَال
هَذَا الشّعْر على قري هَذَا.
وَقَوله: فَتَضَعَّفْت رجلا: أَي رَأَيْته ضَعِيفا، فَعلمت
أَنه لَا ينالني بمكروه وَلَا يرتاب مقصدي.
وَقَوله: كَأَنِّي نصب أَحْمَر: أَي قُمْت بعد أَن وَقعت
كَأَنِّي لجَرَيَان دمي أحد الأنصاب: وَهِي حِجَارَة
يذبحون عَلَيْهَا فتحمر بالدماء.
فَأَما زَمْزَم فَقَالَ ابْن فَارس: هُوَ من قَوْلك: زممت
النَّاقة: إِذا جعلت لَهَا زماما تحبسها بِهِ، وَذَلِكَ
أَن جِبْرِيل لما هزم الأَرْض بمقاديم جنَاحه فَفَاضَ
المَاء زمتها هَاجر فسميت بذلك.
وَقَوله: فَمَا وجدت سخْفَة جوع. قَالَ الْأَصْمَعِي:
السخفة: الخفة، وَلَا أَحسب قَوْلهم سخيف إِلَّا من هَذَا.
وَقَوله: فَبينا أهل مَكَّة. قَالَ الزّجاج: مَكَّة لَا
تَنْصَرِف لِأَنَّهَا مُؤَنّثَة. وَهِي معرفَة، وَيصْلح
أَن يكون اشتقاقها من قَوْلهم: امتك
(1/352)
الفصيل مَا فِي ضرع النَّاقة: إِذا مص مصا
شَدِيدا حَتَّى لَا يبقي فِيهِ شَيْئا، فَتكون قد سميت
بذلك لشدَّة الازدحام فِيهَا.
وللعلماء فِي تَسْمِيَة مَكَّة أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحدهَا: لِأَنَّهَا مثابة يؤمها الْخلق من كل فج،
فَكَأَنَّهَا الَّتِي تجلب الْخلق إِلَيْهَا، من قَوْلهم:
امتلك الفصيل مَا فِي ضرع النَّاقة.
وَالثَّانِي: من قَوْلك: مككت الرجل: إِذا رددت نخوته،
فَكَأَنَّهَا تمك من ظلم فِيهَا: أَي تهلكه وتنقصه،
وأنشدوا:
(يَا مَكَّة الْفَاجِر مكي مكا ... وَلَا تمكي مذحجا وعكا)
وَالثَّالِث: سميت بذلك لجهد أَهلهَا.
وَالرَّابِع: لقلَّة المَاء بهَا.
وَقَوله: فِي لَيْلَة قَمْرَاء. القمراء منسوبة إِلَى
الْقَمَر، وَالْمعْنَى: فِي لَيْلَة كَثِيرَة الضَّوْء.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُقَال: لَيْلَة إِضْحِيَان
وإضحيانة وضحيانة: إِذا كَانَت مضيئة.
وَقَوله: ضرب على أصمختهم: الأصمخة جمع صماخ: وَهِي خرق
الْأذن الْبَاطِن الَّذِي يُفْضِي إِلَى الرَّأْس، وَمِنْه
يتَأَدَّى فهم المسموع إِلَى النَّفس، وَهَذَا كِنَايَة
عَن النّوم المفرط، لِأَن الضَّرْب هَاهُنَا: الْمَنْع من
الِاسْتِمَاع، يُقَال: ضرب فلَان على يَد فلَان: إِذا
مَنعه من التَّصَرُّف فِي
(1/353)
مَاله. وَقَالَ الزّجاج: يُقَال لهَذَا
الْخرق الصماخ والسم والمسمع.
قلت: وَقد رَوَاهُ بعض الْمُحدثين بِالسِّين، وَهُوَ غلط،
وَجَمِيع اللغويين ذَكرُوهُ بالصَّاد.
وإساف ونائلة صنمان: أَنبأَنَا أَحْمد بن عَليّ بن
مُحَمَّد بن الْمحلي قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد: على
بن ثَابت قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن مُحَمَّد بن بَشرَان
قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَليّ الْحُسَيْن بن صَفْوَان قَالَ:
حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن أبي بشر عَن ابْن أبي نجيح إِن
إسافا ونائلة رجل وَامْرَأَة حجا من الشَّام قبلهَا وهما
يطوفان، قَالَ: فمسخا حجرين، وَلم يَزَالَا فِي الْمَسْجِد
حَتَّى جَاءَ الله بِالْإِسْلَامِ فأخرجا.
قَوْله: فَمَا تناهتا: أَي مَا رجعتا عَن قَوْلهمَا.
فَقلت: هن مثل الْخَشَبَة - يَعْنِي الذّكر.
فانطلقتا تُوَلْوِلَانِ: أَي تدعوان بِالْوَيْلِ.
وقولهما: لَو كَانَ أحد من أَنْفَارنَا: أَي من قَومنَا،
مَأْخُوذ من النَّفر، والنفر: مابين الثَّلَاثَة إِلَى
الْعشْرَة.
وقولهما: الصَّابِئ: يَعْنِي الْخَارِج من دين قومه.
وقولهما: قَالَ كلمة تملأ الْفَم: أَي كلمة عَظِيمَة.
وَإِنَّمَا أشارتا إِلَى قَوْله: هن مثل الْخَشَبَة.
(1/354)
وتحية الْإِسْلَام: السَّلَام.
وَإِنَّمَا كره انتسابه إِلَى غفار لِأَن هَذِه
الْقَبِيلَة كَانَت تزن بِسَرِقَة الْحَاج.
وَقَوله: فقدعني صَاحبه: أَي كفني وَمَنَعَنِي. يُقَال:
قدعت الرجل وأقدعته: إِذا كففته، وَمِنْه قَول الْحسن:
اقدعوا هَذِه الْأَنْفس فَإِنَّهَا طلعة.
وَقَوله: " إِنَّهَا طَعَام طعم " أَي طَعَام يشْبع مِنْهُ
ويكف الْجُوع.
وغبرت بِمَعْنى بقيت.
وَأما يثرب فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يثرب اسْم أَرض،
ومدينة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نَاحيَة
مِنْهَا. وَقَالَ ابْن فَارس: يرْوى أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم نهى أَن تسمى الْمَدِينَة يثرب، وَذَلِكَ
أَنه اسْم مَأْخُوذ من التثريب: وَهُوَ اللوم وتقبيح
الْفِعْل فِي عين فَاعله، قَالَ الله تَعَالَى: {لَا
تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم} [يُوسُف: 92] أَي: لَا لوم.
وَقَوله: " غفار غفر الله لَهَا، وَأسلم سَالَمَهَا الله "
فِيهِ للْعُلَمَاء قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه دُعَاء لَهما واستغفار، وَإِنَّمَا
اسْتغْفر لهاتين القبيلتين، لِأَنَّهُمَا أسلمتا طَوْعًا
من غير حَرْب، وَكَانَ غفار تزن بِسَرِقَة الْحَاج، فَأحب
أَن يمحو عَنْهُم تِلْكَ السبة السببة، وَأَن يعلم النَّاس
أَن مَا سبق من
(1/355)
ذَلِك مغْفُور بِإِسْلَامِهِمْ.
وَالثَّانِي: أَنه إِخْبَار عَن القبيلتين، فَالْمَعْنى
أَن الله سُبْحَانَهُ منع من أذاهما وحربهما.
والمسالمة: الصُّلْح على ترك الْقِتَال والأذى، وَلما
سالمت أسلم، فَجَاءَت طَوْعًا، فَدخلت فِيمَا دخلت فِيهِ
غفار قَالَ: " أسلم سَالَمَهَا الله ".
وَفِي هَذَا دَلِيل على جَوَاز اخْتِيَار الْكَلَام
المتناسب المتجانس، لِأَنَّهُ قد كَانَ يُمكن أَن يَقُول:
غفار عَفا الله عَنْهَا، فَلَمَّا قَالَ: " غفر الله لَهَا
". وَقَالَ: " أسلم سَالَمَهَا الله " دلّ على اخْتِيَار
ذَلِك. وَإِنَّمَا يخْتَار مثل هَذَا لِأَنَّهُ أحلى فِي
السّمع.
وشنفوا لَهُ: أبغضوه ونفروا مِنْهُ. والشنف: الْمُبْغض.
وتجهموا: أَي تنكرت وُجُوههم فاستقبلوه بالمكروه، يُقَال:
تجهم وَجه الرجل: إِذا كره وَعَبس.
296 - / 355 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: فرج سقف بَيْتِي
وَأَنا بِمَكَّة فَنزل جِبْرِيل ... " أَي كشف وشق.
قَوْله: " ثمَّ جَاءَ بطست ". قَرَأت على شَيخنَا أبي
مَنْصُور اللّغَوِيّ عَن أبي عبيد عَن أبي عُبَيْدَة
قَالَ: وَمِمَّا دخل فِي كَلَام الْعَرَب الطست، وَهُوَ
فَارسي مُعرب. وَقَالَ الْفراء: طَيء تَقول طست، وَغَيرهم
يَقُول طس، وهم الَّذين يَقُولُونَ للص لصت، وجمعهما طسوت
ولصوت عِنْدهم. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: الطس: الطست،
لَكِن الطس بِالْعَرَبِيَّةِ، أَرَادَ أَنهم لما عربوه
قَالُوا طس، وَيجمع طساسا
(1/356)
وطسوسا. قَالَ الراجز:
(ضرب يَد اللعابة الطسوسا ... )
فَإِن قيل: الْإِيمَان وَالْحكمَة كَيفَ يملآن الطست وليسا
بجسم؟
فَالْجَوَاب: أَن هَذَا ضرب مثل لينكشف بالمحس مَا هُوَ
مَعْقُول.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَنه شرح صَدره لَيْلَة
الْمِعْرَاج. وَقد رُوِيَ شرح صَدره فِي زمَان رضاعه عِنْد
حليمة، وَهَذِه زِيَادَة تَطْهِير لمَكَان الزِّيَارَة.
وَقَول الخازن: " وَأرْسل إِلَيْهِ؟ " يحْتَمل هَذَا
الِاسْتِفْهَام وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن يكون إرْسَال مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام
خَفِي عَن ذَلِك الْملك؛ لِأَن الْمَلَائِكَة مشغولون
بِالْعبَادَة، حَتَّى إِن أحدهم لَا يعرف من إِلَى
جَانِبه.
وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: وَأرْسل إِلَيْهِ للعروج
إِلَى السَّمَاء، لِأَن بعثته استفاضت بَين الْمَلَائِكَة.
وَقَوله: " عَن يَمِينه أَسْوِدَة " أَي أشخاص، وَهُوَ من
السوَاد، والسواد: الشَّخْص، يُقَال: سَواد وأسودة كغراب
وأغربة.
وَالنَّسَمُ جمع نسمَة: وَهِي النَّفس.
وَقَوله: حَتَّى ظَهرت: يَعْنِي عَلَوْت وَارْتَفَعت،
لمستوى: وَهُوَ الْمَكَان المستوي المعتدل.
وصريف الأقلام: صَوت حركتها على المخطوط فِيهِ، فَكَأَن
الْإِشَارَة
(1/357)
بذلك إِلَى مَا تكتبه الْمَلَائِكَة من
اللَّوْح من أقضية الله عز وَجل ووحيه.
فَإِن قيل: كَيفَ رأى آدم ومُوسَى والأنبياء وهم مدفونون
فِي الأَرْض؟
فقد أجَاب عَنهُ ابْن عقيل فَقَالَ: شكل الله أَرْوَاحهم
على صور أَجْسَادهم.
وجنابذ اللُّؤْلُؤ قبابه، وَاحِدهَا جنبذة: وَهِي
الْقبَّة، وَقد وَقع فِي بعض النّسخ حنابل بِالْحَاء
الْمُهْملَة وَبعدهَا بَاء. وَفِي نُسْخَة كَذَلِك إِلَّا
أَنه بِالْجِيم الْمُعْجَمَة، وكل ذَلِك تَصْحِيف،
وَالصَّحِيح جنابذ.
297 - / 356 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " إِن المكثرين
هم المقلون يَوْم الْقِيَامَة، إِلَّا من أعْطى الله خيرا
فَنفخ فِيهِ بِيَمِينِهِ وشماله ".
النفخ رمي الشَّيْء بِسُرْعَة.
والقاع: الْمَكَان السهل الَّذِي لَا ينْبت فِيهِ الشّجر،
وَالْجمع القيعان.
والحرة: أَرض ذَات حِجَارَة سود.
وأرغم الله أنف فلَان: ألصقه بالرغام: وَهُوَ التُّرَاب.
الْمَعْنى: وَإِن كره أَبُو ذَر ذَلِك.
فَإِن قيل: كَيفَ الْجمع بَين قَوْله: " من مَاتَ لَا
يُشْرك بِاللَّه شَيْئا دخل الْجنَّة " وَبَين دُخُول
الْمُوَحِّدين بِذُنُوبِهِمْ النَّار؟
فَالْجَوَاب: أَن مآلهم إِلَى الْجنَّة وَإِن دخلُوا
النَّار.
298 - / 357 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أذن مُؤذن رَسُول
الله الظّهْر،
(1/358)
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" أبرد، أبرد " أَو قَالَ: " انْتظر، انْتظر " وَقَالَ: "
إِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم "
الْإِبْرَاد: انكسار وهج الْحر وتوقده، وَذَلِكَ أَن فتور
الْحر بِالْإِضَافَة إِلَى شدته برد. وفيح جَهَنَّم:
التهابها وغليانها، وَهَذَا رفق بالماشي إِلَى الصَّلَاة،
إِمَّا ليمشي فِي الْفَيْء، أَو لينتبه من قائلته، أَو
لَهما. وَسَيَأْتِي فِي مُسْند أبي مُوسَى: " من صلى
البردين دخل الْجنَّة " يَعْنِي الْفجْر وَالْعصر،
لِأَنَّهَا يصليان فِي برد النَّهَار.
299 - / 359 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: كنت مَعَ رَسُول
الله عِنْد غرُوب الشَّمْس فَقَالَ: " أَتَدْرِي أَيْن
تذْهب الشَّمْس؟ " فَقلت: الله وَرَسُوله أعلم. قَالَ: "
تذْهب تسْجد تَحت الْعَرْش ".
رُبمَا أشكل الْأَمر فِي هَذَا الحَدِيث على من لم يتبحر
فِي الْعلم، فَقَالَ: نَحن نرَاهَا تغيب فِي الأَرْض، وَقد
أخبر الْقُرْآن أَنَّهَا تغيب فِي عين حمئة، فَإِذا دارت
تَحت الأَرْض وصعدت، فَأَيْنَ هِيَ من الْعَرْش؟
فَالْجَوَاب: إِن الْأَرْضين السَّبع فِي ضرب الْمِثَال
كقطب رَحا، وَالْعرش لعظم ذَاته كالرحى، فَأَيْنَ سجدت
الشَّمْس سجدت تَحت الْعَرْش، وَذَلِكَ مستقرها.
300 - / 360 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: قَالَ
إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ: كنت أَقرَأ على أبي فِي السدة،
فَإِذا قَرَأَ السَّجْدَة سجد.
(1/359)
قَالَ أَبُو عبيد: السدة: الظلة تكون
بِبَاب الدَّار، وَمِنْه: من يغش سدد السُّلْطَان يقم
وَيقْعد. وَكَانَ عُرْوَة بن الْمُغيرَة يُصَلِّي فِي
السدة، وسدة الْمَسْجِد، وَسمي إِسْمَاعِيل السّديّ
لِأَنَّهُ كَانَ يَبِيع الْخمر فِي سدة الْمَسْجِد،
وَمِنْهُم من يَجْعَل السدة الْبَاب.
فَأَما سُجُوده فِي السدة المضافة إِلَى الْمَسْجِد
فَجَائِز لِأَنَّهُ بقارعة الطَّرِيق، وَسُجُود هَذَا
الرجل مَحْمُول على أَنه قد كَانَ يَأْمر ابْنه عِنْد
الْقِرَاءَة بِالسُّجُود ثمَّ يتبعهُ، لإنه إِنَّمَا يسن
سُجُود السَّامع إِذا سجد الْقَارئ.
وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى: بَيت الْمُقَدّس. وَإِنَّمَا قيل
الْأَقْصَى لبعد الْمسَافَة بَينه وَبَين الْكَعْبَة.
وَقيل: إِنَّه لم يكن وَرَاءه مَوضِع عبَادَة.
فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: " بَينهمَا أَرْبَعُونَ عَاما "،
وَإِنَّمَا بنى الْكَعْبَة إِبْرَاهِيم، وَبنى بَيت
الْمُقَدّس سُلَيْمَان وَبَينهمَا أَكثر من ألف سنة؟
فَالْجَوَاب: أَن الْإِشَارَة إِلَى أول الْبناء وَوضع
أساس المسجدين، وَلَيْسَ أول من بنى الْكَعْبَة
إِبْرَاهِيم، وَلَا أول من بني بَيت الْمُقَدّس
سُلَيْمَان، وَفِي الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ والبانين
كَثْرَة، فَالله أعلم بِمن ابْتَدَأَ. وَقد روينَا أَن أول
من بنى الْكَعْبَة آدم، ثمَّ انْتَشَر وَلَده فِي الأَرْض،
فَجَائِز أَن يكون بَعضهم قد وضع بَيت الْمُقَدّس.
301 - / 361 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: قَالَ أَبُو ذَر:
بشر الكانزين
(1/360)
برضف يحمى عَلَيْهِ فِي نَار جَهَنَّم
فَيُوضَع على حلمة ثدي أحدهم حَتَّى يخرج من نغض كَتفيهِ.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الرضف جمع رضفة: وَهِي حِجَارَة
تحمى بالنَّار.
والناغض: قرع الْكَتف، قيل لَهُ ناغض، لِأَنَّهُ
يَتَحَرَّك إِذا حرك الرجل يَده أَو عدا. وَقَالَ أَبُو
سُلَيْمَان الْخطابِيّ نغض الْكَتف: الشاخص، وأصل النغض
الْحَرَكَة، وَسمي ذَلِك الْموضع من الْكَتف نغضا
لِأَنَّهُ يَتَحَرَّك من الْإِنْسَان فِي مَشْيه وتصرفه،
ويتزلزل يَتَحَرَّك بانزعاج ومشقة.
ويعتريهم: يقصدهم ويغشاهم.
قَوْله: فَإِذا كَانَ الْعَطاء ثمنا لدينك فَدَعْهُ.
الْمَعْنى: إِذا لم يعطوك إِلَّا أَن تسكت عَن إِنْكَار
منكرهم كَانَ كالرشوة، فَدَعْهُ.
وَقَوله: " أرصده لدين " أَي أعده لَهُ. وَكَيف يظنّ
برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يدّخر
المَال وَهُوَ يعلم كَثْرَة المحتاجين إِلَيْهِ، مَعَ أَن
طبعه الْكَرم وسجيته الزّهْد.
302 - / 362 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: رَأَيْت أَبَا
ذَر وَعَلِيهِ حلَّة وعَلى غُلَامه مثلهَا، فَسَأَلته عَن
ذَلِك، فَذكر أَنه سَاب رجلا على عهد رَسُول الله
فَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ.
(1/361)
قد بَينا فِيمَا تقدم أَن الْحلَّة لَا
تكون إِلَّا ثَوْبَيْنِ.
وَقَوله: فَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ، قَالَ لنا ابْن الخشاب:
الفصيح: عيرت فلَانا أمه، وَقد جَاءَ فِي شعر عدي بن زيد:
(أَيهَا الشامت الْمُعير بالدهر ... ... ... )
وَاعْتَذَرُوا عَنهُ فَقَالُوا: إِنَّه كَانَ عباديا وَلم
يكن فصيحا.
وَقَوله: " إِنَّك امْرُؤ " أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي
مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا أَبُو طَاهِر بن سوار قَالَ:
أخبرنَا ابْن رزمة قَالَ: أخبرنَا أَبُو سعيد السيرافي
قَالَ: أخبرنَا ابْن مُجَاهِد قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن
الجهم قَالَ: قَالَ الْفراء: أهل الْحجاز وَأسد وَأهل
الْعَالِيَة من قيس يَقُولُونَ: الْمَرْء وَالْمَرْأَة
فيسكنون الرَّاء ويهمزون، فَإِذا لم يكن فِيهِ ألف وَلَام
قَالُوا: امْرُؤ وَامْرَأَة. وَبَعض قيس يَقُولُونَ:
الامرؤ الصَّالح، والامرأة الصَّالِحَة، وَرُبمَا قَالُوا
هَذَا مرء صَالح، ومرأة صَالِحَة، وَمن الْعَرَب من
يَقُول: هَذَا مرؤ صَالح، فيرفع الْمِيم فِي مَوضِع
الرّفْع، ويخفضها فِي مَوضِع الْخَفْض، وينصبها فِي مَوضِع
النصب.
وَقَوله: " فِيك جَاهِلِيَّة " الْمَعْنى: قد بَقِي فِيك
من أَخْلَاق الْقَوْم، لِأَن من أَخْلَاقهم عُقُوبَة من لم
يجن، والشريعة لَا تَقْتَضِي ذمّ شخص
(1/362)
بِفعل غَيره، وَإِنَّمَا ينشأ هَذَا من
الْكبر، فتواضع أَبُو ذَر بعد ذَلِك حَتَّى سَاوَى
غُلَامه.
والخول: الخدم والتبع.
وَقَوله: " فَإِن كلفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبهُمْ " أَي مَا
يعجزون عَن الْقيام بِهِ.
303 - / 363 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: انْتَهَيْت إِلَى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجَلَست، فَلم أتقار
أَن قُمْت.
قَوْله: فَلم أتقار: أَي لم أتمكن من الِاسْتِقْرَار.
والأظلاف جمع ظلف، والظلف للبقر كالظفر للْإنْسَان،
والحافر للْفرس.
ونفدت: فرغت وانتهت. وَالْإِشَارَة إِلَى من لم يخرج
زَكَاتهَا.
304 - / 364 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: " لَيْسَ من
رجل ادّعى إِلَى غير أَبِيه وَهُوَ يُعلمهُ إِلَّا كفر ".
الادعاء إِلَيّ غير الْأَب مَعَ الْعلم حرَام، فَمن اعْتقد
إِبَاحَة ذَلِك كفر، لمُخَالفَته الْإِجْمَاع، فَخرج عَن
الْإِسْلَام، وَمن لم يفعل ذَلِك مُعْتَقدًا فَفِي معنى
كفره وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنه قد أشبه فعله فعل
الْكفَّار. وَالثَّانِي: أَنه كَافِر للنعمة.
وَقَوله: " لَيْسَ منا " إِن اعْتقد جَوَاز ذَلِك خرج من
الْإِسْلَام، وَإِن لم يعْتَقد فَالْمَعْنى: لم يتخلق
بأخلاقنا.
وَقَوله: " فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " لَفظه
الْأَمر وَمَعْنَاهُ الْخَبَر،
(1/363)
وَالْمَقْصُود: فقد اتخذ مقْعدا من
النَّار.
وَمن دَعَا رجلا بالْكفْر وَلَيْسَ كَذَلِك كَانَ هُوَ
الْكَافِر، لاعْتِقَاده فِي مُسلم أَنه كَافِر.
وحار بِمَعْنى انْقَلب. وَإِذا لم تنْقَلب هَذِه
الْأَشْيَاء عَلَيْهِ انْقَلب إثمها.
305 - / 365 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: " أَي
الرّقاب أفضل؟ " قَالَ: " أَنْفسهَا عِنْد أَهلهَا وأكثرها
ثمنا ".
الْأَنْفس: الْأَفْضَل، وَلذَلِك يغلو ثمنه، فزيد
الثَّوَاب لذَلِك.
وَقَوله: " تعين ضائعا " أَي ذَا ضيَاع من فقر أَو عِيَال
أَو حَالَة قصر عَن الْقيام بهَا. قَالَ
الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذَا هُوَ الَّذِي فِي الحَدِيث،
وَيحْتَمل: صانعا بالنُّون.
وَقَوله: " أَو تصنع لأخرق " وَهُوَ الَّذِي قد تحير ودهش،
فِيمَا يرومه.
وَقَوله: " فَإِنَّهَا صَدَقَة مِنْك على نَفسك " وَذَاكَ
أَنه إِذا كف عَن الشَّرّ. نجى النَّفس من الْإِثْم فَتصدق
عَلَيْهَا بالسلامة.
306 - / 367 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد
البُخَارِيّ:
كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَخذ مضجعه
من اللَّيْل قَالَ: " بِاسْمِك اللَّهُمَّ أَمُوت
وَأَحْيَا ".
(1/364)
ذكر الِاسْم صلَة فِي الْكَلَام، فَهُوَ
كَقَوْلِه: {سبح اسْم رَبك} [الْأَعْلَى: 1] وَالْمعْنَى:
بل أَمُوت وَأَحْيَا بإرادتك وقدرتك.
وَقَوله: " أَحْيَانًا بَعْدَمَا أماتنا " يحْتَمل
وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون الْمشَار إِلَيْهِ بداية
الْخلق وَهِي النُّطْفَة، فَإِنَّهَا كَانَت خَالِيَة عَن
روح. وَالثَّانِي: أَن تكون الْإِشَارَة إِلَى النّوم،
فَشبه بِالْمَوْتِ تجوزا لتعطيل أَفعَال الْحس.
والنشور: الْبَعْث.
307 - / 368 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
عَن أبي ذَر قَالَ: كَانَت الْمُتْعَة فِي الْحَج
لأَصْحَاب مُحَمَّد خَاصَّة. وَفِي رِوَايَة: لَا تصلح
المتعتان إِلَّا لنا خَاصَّة - يَعْنِي مُتْعَة النِّسَاء
ومتعة الْحَج.
هَذَا ظن من أبي ذَر، وَلَيْسَ كَذَلِك. فَأَما مُتْعَة
النِّسَاء فلولا أَنَّهَا نسخت لبقي حكمهَا، وَقد سبق
ذكرهَا ونسخها. وَأما مُتْعَة الْحَج فَحكمهَا بَاقٍ، وَقد
بَينا أَنه الْأَفْضَل عِنْد جمَاعَة من الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ وفقهاء الْأَمْصَار.
308 - / 369 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " ثَلَاثَة لَا
يكلمهم الله: المسبل، والمنان، والمنفق سلْعَته بِالْحلف
الْكَاذِب ".
(1/365)
المسبل: يُرِيد بِهِ إسبال الْإِزَار على
وَجه الْخُيَلَاء. والمنان: يَعْنِي بِالصَّدَقَةِ وَفعل
الْخَيْر. والمنفق سلْعَته بِالْحلف: وَهُوَ أَن يحلف: لقد
أَعْطَيْت بهَا كَذَا، وَمَا أعطي، لتنفق.
309 - / 371 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " من تقرب مني
شبْرًا تقربت مِنْهُ ذِرَاعا ".
الشبر: قدر فتح الْأَصَابِع الْخمس: والذراع: قدر طول
الذِّرَاع إِلَى رُؤُوس الْأَصَابِع. والباع: قدر امتداد
الْيَدَيْنِ. والهرولة: الْإِسْرَاع فِي الْمَشْي. وَهَذِه
كلهَا أَمْثِلَة، وَالْمعْنَى: إِنِّي أربح معاملي، وأتفضل
على مطيعي.
وقراب الأَرْض: مَا يُقَارب ملؤُهَا.
310 - / 372 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " يصبح على كل
سلامى من أحدكُم صَدَقَة ".
السلامى: على وزن " فعالى " وَرُبمَا شدده أَحْدَاث طلبة
الحَدِيث لقلَّة علمهمْ، وَجَمعهَا سلاميات بِفَتْح
الْمِيم وَتَخْفِيف الْيَاء. قَالَ أَبُو عبيد: السلامى
فِي الأَصْل عظم يكون فِي فرسن الْبَعِير، وَيُقَال إِن
آخر مَا يبْقى فِيهِ المخ من الْبَعِير إِذا عجف فِي
السلامى وَالْعين، فَإِذا ذهب
(1/366)
مِنْهُمَا لم يكن لَهُ بَقِيَّة بعد، قَالَ
الراجز:
(لَا يشتكين عملا مَا أنقين ... )
(مَا دَامَ مخ فِي سلامى أَو عين ... )
فَكَأَن معنى الحَدِيث: على كل عظم من عِظَام ابْن آدم
صَدَقَة، لِأَنَّهُ إِذا أصبح الْعُضْو سليما فَيَنْبَغِي
أَن يشْكر، وَيكون شكره بِالصَّدَقَةِ، فالتسبيح والتحميد
وَمَا ذكره يجْرِي مجْرى الصَّدَقَة عَن الشاكر.
وَقَوله: " وَيُجزئ من ذَلِك رَكْعَتَانِ يركعهما من
الضُّحَى " لِأَن الضُّحَى من الصَّباح، وَإِنَّمَا قَامَت
الركعتان مقَام ذَلِك لِأَن جَمِيع الْأَعْضَاء تتحرك
فِيهَا بِالْقيامِ وَالْقعُود فَيكون ذَلِك شكرها.
311 - / 373 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " عرضت عَليّ
أَعمال أمتِي، فَوجدت فِي محَاسِن أَعمالهَا الْأَذَى يماط
عَن الطَّرِيق، وَوجدت فِي مساوئ أَعمالهَا النخاعة تكون
فِي الْمَسْجِد لَا تدفن "
يماط بِمَعْنى ينحى.
والنخاعة والنخامة والبصاق بِمَعْنى، إِلَّا أَن البصاق من
أدنى الْفَم، والنخاعة من أقْصَى الْفَم، وَكَأَنَّهُ
مَأْخُوذ من النخاع.
(1/367)
312 - / 374 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: "
ذهب أهل الدُّثُور بِالْأُجُورِ ".
الدُّثُور جمع دثر: وَهُوَ المَال الْكثير.
وَهَذَا الحَدِيث يتَضَمَّن شكوى الْفُقَرَاء وغبطتهم
للأغنياء، كَيفَ ينالون الْأجر بِالصَّدَقَةِ، وهم لَا
يقدرُونَ، فَأخْبرهُم أَنهم يثابون على تسبيحهم وتحميدهم
وأفعالهم الْخَيْر كَمَا يُثَاب أُولَئِكَ على الصَّدَقَة.
وَقَوله: " وَفِي بضع أحدكُم " الْبضْع: الْفرج،
فَكَأَنَّهُ يَقُول: فِي وَطْء الرجل زَوجته صَدَقَة،
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يعفها وَنَفسه.
313 - / 375 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: " كَمَا ينقص
الْمخيط إِذا دخل الْبَحْر ".
الْمخيط والخياط اسْم للإبرة.
314 - / 376 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: " يقرءُون
الْقُرْآن لَا يُجَاوز حلاقيمهم ".
الحلاقيم جمع حلقوم: وَهُوَ مجْرى النَّفس لَا غير، ومبدؤه
من أقْصَى الْفَم، فَأَما الَّذِي يجْرِي فِيهِ الطَّعَام
فَهُوَ مركب خلف الْحُلْقُوم يُقَال لَهُ المريء.
والرمية: اسْم للمرمي.
وَقد فسروا قَوْله: " هم شَرّ الْخلق " فَقَالُوا: الْخلق:
النَّاس: " والخليقة ": الدَّوَابّ والبهائم.
(1/368)
315 - / 377 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: "
إِذا قَامَ أحدكُم يُصَلِّي فَإِنَّهُ يستره مثل آخِرَة
الرحل، فَإِذا لم يكن بَين يَدَيْهِ مثل آخِرَة الرحل
فَإِنَّهُ يقطع صلَاته الْحمار وَالْمَرْأَة وَالْكَلب
الْأسود " قيل لأبي ذَر: مَا بَال الْأسود من الْأَحْمَر
والأصفر؟ فَقَالَ: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقَالَ: " الْكَلْب الْأسود شَيْطَان ".
آخِرَة الرحل: مؤخرة، فَإِن لم يكن بَين يَدي الْمصلى
ستْرَة فَخط بَين يَدَيْهِ خطا قَامَ مقَام الستْرَة،
فَإِن لم يفعل ذَلِك وَمر بَين يَدَيْهِ كلب أسود بهيم،
وَهُوَ الَّذِي جَمِيعه أسود، فَإِنَّهُ يقطع صلَاته،
وَهَذَا مَذْهَب الْحسن وَمُجاهد وَعَطَاء وَعِكْرِمَة
وَطَاوُس وَمَكْحُول وَأحمد بن حَنْبَل. وَقَالَ أَبُو
حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يقطع. فَأَما الْحمار
وَالْمَرْأَة ففيهما عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ، والْحَدِيث
صَرِيح فِي الْقطع، وَسَيَأْتِي فِي أَفْرَاد مُسلم من
حَدِيث أبي هُرَيْرَة مثل حَدِيث أبي ذَر.
316 - / 378 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: " أَوْصَانِي
خليلي أَن أسمع وَأطِيع وَإِن كَانَ عبدا مجدع الْأَطْرَاف
".
أَي مَقْطُوع الْأَطْرَاف: وَأكْثر مَا يسْتَعْمل الجدع
فِي الْأنف وَالْأُذن، وهما من أَطْرَاف الْإِنْسَان.
(1/369)
317 - / 379 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
عشر: " آنِية الْحَوْض أَكثر من عدد نُجُوم السَّمَاء
وكواكبها فِي اللَّيْلَة الظلماء المصحية ".
والمصحية: الَّتِي ذهب غيمها، وَإِنَّمَا قَالَ الْمظْلمَة
لِأَن ظلمتها مَعَ الصحو أبين للنجوم.
وَقَوله: " لم يظمأ " الظمأ: الْعَطش، مَهْمُوز مَقْصُور،
وَالْمعْنَى لم يعطش " آخر مَا عَلَيْهِ " يَعْنِي أبدا.
وَقَوله: " يشخب " الشخب: مَا امْتَدَّ من اللَّبن حِين
يحلب، وشخبت أوداج الْقَتِيل دَمًا.
وَقَوله: " عرضه مَا بَين عمان " الَّذين سمعناه وحفظناه
من الْمُحدثين " عمان " بِفَتْح الْعين وَتَشْديد الْمِيم،
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: الْمِيم خَفِيفَة.
318 - / 380 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: " إِن أحب
الْكَلَام إِلَى الله سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ ".
قَالَ الزّجاج: لَا اخْتِلَاف بَين أهل اللُّغَة أَن
التَّسْبِيح هُوَ التَّنْزِيه لله عز وَجل عَن كل سوء.
وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: معنى سُبْحَانَ الله: تَنْزِيه
لَهُ من الْأَوْلَاد والصاحبة والشركاء.
وَقَوله: " وَبِحَمْدِهِ " أَي وَبِحَمْدِهِ نبتدئ ونفتتح،
فَحذف الْفِعْل
(1/370)
لدلَالَة الْمَعْنى عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ
عز وَجل: {فَأَجْمعُوا أَمركُم وشركاءكم} [يُونُس: 71]
مَعْنَاهُ: وَادعوا شركاءكم. وَقَالَ الزّجاج: الْمَعْنى:
وَبِحَمْدِهِ سبحته.
319 - / 381 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: أَرَأَيْت
الرجل يعْمل الْخَيْر وَيَحْمَدهُ النَّاس؟ قَالَ: "
تِلْكَ عَاجل بشرى الْمُؤمن ".
وَالْمعْنَى أَن الله تَعَالَى إِذا تقبل الْعَمَل أوقع
فِي الْقُلُوب قبُول الْعَامِل ومدحه، فَيكون مَا أوقع فِي
الْقُلُوب مبشرا بِالْقبُولِ، كَمَا أَنه إِذا أحب عبدا
حببه إِلَى خلقه، وهم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض.
320 - / 383 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: " لَا تحقرن
من الْمَعْرُوف شَيْئا وَلَو أَن تلقى أَخَاك بِوَجْه طليق
".
أَي منطلق، وَهُوَ ضد العبوس، قَالَ جرير: مَا رَآنِي
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا تَبَسم
وَهَذَا من الْمَعْرُوف، لِأَن الْإِنْسَان ينْتَفع بذلك
كَمَا ينْتَفع بِسَائِر الْمَعْرُوف.
321 - / 384 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: سَأَلت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل رَأَيْت رَبك؟
فَقَالَ: " نور، أَنى اراه ".
ذكر أَبُو بكر الْخلال فِي كتاب " الْعِلَل " عَن أَحْمد
بن حَنْبَل أَنه
(1/371)
سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: مَا
زلت مُنْكرا لهَذَا الحَدِيث وَمَا أَدْرِي مَا وَجهه.
وَذكر أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَق بن خُزَيْمَة فِي
هَذَا الحَدِيث تضعيفا فَقَالَ: فِي الْقلب من صِحَة سَنَد
هَذَا الْخَبَر شَيْء، لم أر أحدا من عُلَمَاء الْأَثر فطن
لعِلَّة فِي إِسْنَاده، فَإِن عبد الله بن شَقِيق
كَأَنَّهُ لم يكن يثبت أَبَا ذَر وَلَا يعرفهُ بِعَيْنِه
واسْمه وَنسبه، لِأَن أَبَا مُوسَى مُحَمَّد ابْن الْمثنى
حَدثنَا قَالَ: حَدثنَا معَاذ بن هِشَام قَالَ: حَدثنِي
أبي عَن قَتَادَة عَن عبد الله بن شَقِيق قَالَ: أتيت
الْمَدِينَة، فَإِذا رجل قَائِم على غَرَائِر سود يَقُول:
أَلا ليبشر أَصْحَاب الْكُنُوز بكي فِي الجباه والجنوب
فَقَالُوا: هَذَا أَبُو ذَر، فَكَأَنَّهُ لَا يُثبتهُ
وَلَا يعلم أَنه أَبُو ذَر. وَقَالَ ابْن عقيل: قد أجمعنا
على أَنه لَيْسَ بِنور، وخطأنا الْمَجُوس فِي قَوْلهم:
هُوَ نور. فإثباته نورا مَجُوسِيَّة مَحْضَة، والأنوار
أجسام. والبارئ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ بجسم،
وَالْمرَاد بِهَذَا الحَدِيث: " حجابه النُّور "
وَكَذَلِكَ رُوِيَ فِي حَدِيث أبي مُوسَى، فَالْمَعْنى:
كَيفَ أرَاهُ وحجابه النُّور، فَأَقَامَ الْمُضَاف مقَام
الْمُضَاف إِلَيْهِ.
قلت: من ثَبت رُؤْيَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ربه عز وَجل فَإِنَّمَا ثَبت كَونهَا لَيْلَة الْمِعْرَاج،
وَأَبُو ذَر أسلم بِمَكَّة قَدِيما قبل الْمِعْرَاج
بِسنتَيْنِ ثمَّ رَجَعَ
(1/372)
إِلَى بِلَاد قومه فَأَقَامَ بهَا حَتَّى
مَضَت بدر وَأحد وَالْخَنْدَق، ثمَّ قدم الْمَدِينَة،
فَيحْتَمل أَنه سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم حِين إِسْلَامه: هَل رَأَيْت رَبك، وَمَا كَانَ قد
عرج بِهِ بعد، فَقَالَ: " نور، أَنى أرَاهُ؟ " أَي أَن
النُّور يمْنَع من رُؤْيَته، وَقد قَالَ بعد الْمِعْرَاج
فِيمَا رَوَاهُ عَنهُ ابْن عَبَّاس: " رَأَيْت رَبِّي ".
322 - / 385 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: " إِنَّهَا
أَمَانَة ".
يَعْنِي الْإِمَارَة وَالْولَايَة، وَلما رَآهُ ضَعِيفا
حسن تحذيره، لِأَن الضعْف يعجز عَمَّا يجب عَلَيْهِ من
الِاحْتِيَاط.
وَقَوله: " لَا تولين مَال يَتِيم " الْيَتِيم: من مَاتَ
أَبوهُ وَهُوَ صَغِير. قَالَ الْأَصْمَعِي: الْيُتْم فِي
النَّاس من قبل الْأَب، وَفِي غير النَّاس من قبل الْأُم.
وَقَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: قَالَ ثَعْلَب:
الْيُتْم مَعْنَاهُ فِي كَلَام الْعَرَب الِانْفِرَاد،
فَمَعْنَى يَتِيم مُنْفَرد عَن أَبِيه. وقرأت على شَيخنَا
أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: إِذا بلغ الصَّبِي ذهب
عَنهُ اسْم الْيَتِيم، وكل مُنْفَرد عِنْد الْعَرَب تييم.
قَالَ: وَقيل: أصل الْيُتْم الْغَفْلَة، وَبِه سمي
الْيَتِيم لِأَن يتغافل عَن بره. وَقَالَ أَبُو عَمْرو:
الْيُتْم: الإبطاء، وَمِنْه أَخذ الْيُتْم لِأَن الْبر
يبطأ عَنهُ.
323 - / 386 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: " ستفتحون
مصر، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خيرا؛ فَإِن لَهُم ذمَّة
ورحما ".
(1/373)
أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن أَحْمد
السَّمرقَنْدِي قَالَ: أخبرنَا عمر بن عبيد الله
الْبَقَّال قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن بن بَشرَان
قَالَ: حَدثنَا عُثْمَان بن أَحْمد الدقاق قَالَ: حَدثنَا
حَنْبَل قَالَ: حَدثنِي أَبُو عبد الله - يَعْنِي أَحْمد
بن حَنْبَل قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان - وَسُئِلَ عَن
قَوْله: " فَإِن لَهُم ذمَّة ورحما " قَالَ: من النَّاس من
يَقُول: هَاجر كَانَت قبطية وَهِي أم إِسْمَاعِيل، وَمن
النَّاس من يَقُول: كَانَت مَارِيَة أم إِبْرَاهِيم قبطية.
قَوْله: " فَإِذا رَأَيْت رجلَيْنِ يختصمان فِي مَوضِع
لبنة فَاخْرُج " الْإِشَارَة إِلَى كَثْرَة النَّاس فِيهَا
وازدحامهم.
(1/374)
كشف الْمُشكل من مُسْند حُذَيْفَة بن
الْيَمَان
واليمان من أجداده فنسب إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ
حُذَيْفَة بن حسيل بن جَابر ابْن ربيعَة بن عَمْرو بن جروة
- وَهُوَ الْيَمَان، فَكَانَ جروة قد أصَاب دَمًا فِي
قومه، فهرب إِلَى الْمَدِينَة فحالف بني عبد الْأَشْهَل،
فَسَماهُ قومه الْيَمَان لِأَنَّهُ حَالف اليمانية. وَقيل:
بل الْيَمَان اسْم الحسيل.
روى حُذَيْفَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
حَدِيثا كثيرا، إِلَّا أَنه أخرج لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ
سَبْعَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا.
324 - / 387 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " لَا
تلبسوا الْحَرِير وَلَا الديباج ".
قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ:
الديباج أعجمي مُعرب، وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب، قَالَ
مَالك بن نُوَيْرَة:
(وَلَا ثِيَاب من الديباج نلبسها ... هِيَ الْجِيَاد،
وَمَا فِي النَّفس من دبب)
(1/375)
الدبب: الْعَيْب.
وَيجمع على ديباج ودبابيج، على أَن تجْعَل أَصله مشددا.
وأصل الديباج بِالْفَارِسِيَّةِ ديوباف أَي نساجة الْجِنّ.
وَقَوله: " وَلَا يَأْكُلُون فِي صحافها " الصحاف جمع
صَحْفَة: وَهِي الْقَصعَة.
325 - / 389 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " قتنة الرجل فِي
أَهله وَمَاله ... ".
الْفِتْنَة فِي الأَصْل الاختبار، يُقَال: فتنت الذَّهَب
فِي النَّار: إِذا أدخلته إِيَّاهَا لتعلم جودته من
رداءته، وَالْمرَاد بالفتنة فِي الْأَهْل وَالْمَال: مَا
يَقع من الزلل والذنُوب.
وَقَوله: كموج الْبَحْر - يَعْنِي الْفِتْنَة الْعَامَّة
الْعَظِيمَة.
وَقَوله: تكسر، إِشَارَة إِلَى محيي الفنتة بِشدَّة وَقتل.
وَقد بَين فِي الحَدِيث أَن المُرَاد بِالْبَابِ عمر
وَقَتله.
وَأَحْرَى بِمَعْنى أَجْدَر وأخلق.
وَقَوله: لَيْسَ بالأغاليط - أَي لَيْسَ مِمَّا يغلط فِيهِ
أَو يشكل.
326 - / 390 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " أحصوا لي كم
يلفظ بِالْإِسْلَامِ " فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، أتخاف
علينا وَنحن مَا بَين الستمائة إِلَى السبعمائة. قَالَ: "
إِنَّكُم لَا تَدْرُونَ، لَعَلَّكُمْ أَن تبتلوا "
فابتلينا حَتَّى جعل الرجل منا لَا يُصَلِّي إِلَّا سرا.
(1/376)
ظَاهر هَذَا الحَدِيث يدل على أَن
حُذَيْفَة أسلم بِمَكَّة، لِأَن هَذِه الْأَشْيَاء
إِنَّمَا جرت بِمَكَّة لَا بِالْمَدِينَةِ. وَإِنَّمَا
يَقع الِابْتِلَاء للْمُؤْمِنين بقهر الْكَافرين لَهُم
مَعَ قدرَة المعبود سُبْحَانَهُ على النَّصْر ليسلموا
لأفعاله وليصبروا على قَضَائِهِ.
327 - / 391 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: كَانَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَامَ من اللَّيْل يشوص
فَاه بِالسِّوَاكِ.
قَالَ أَبُو عبيد: الشوص: الْغسْل، وكل شَيْء غسلته فقد
شصته تشوصه شوصا، وَكَذَلِكَ مصته أموصه موصا.
والسواك مَا يستاك بِهِ، وَهُوَ مكسور السِّين، الِاسْم
وَالْفِعْل.
328 - / 392 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: كنت مَعَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَانْتهى إِلَى سباطة
قوم فَبَال قَائِما.
السباطة: ملقى التُّرَاب والقمام وَنَحْو ذَلِك، تكون
بأفنية الْبيُوت مرفقا للنَّاس، وَتَكون فِي الْغَالِب
سهلة لَا يرْتَد مِنْهَا الرشاش على البائل.
وَقَوله: فانتبذت: أَي تنحيت.
والعقب: مُؤخر الْقدَم.
فَإِن قيل: كَيفَ بَال قَائِما وَقد نهى عَن ذَلِك؟
(1/377)
فَالْجَوَاب من أوجه:
أَحدهَا: أَنه قد قيل إِنَّه مَنْسُوخ بنهيه بعد ذَلِك عَن
الْبَوْل قَائِما.
وَالثَّانِي: أَنه كَانَ لمَرض مَنعه الْقعُود، قَالَ
أَبُو هُرَيْرَة: بَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَائِما من جرح كَانَ بمأبضه. وَقَالَ الزّجاج:
المأبض: بَاطِن الرّكْبَة.
وَالثَّالِث: أَنه استشفى بذلك من مرض كَانَ بِهِ. قَالَ
الشَّافِعِي: كَانَت الْعَرَب تستشفي لوجع الصلب بالبول
قَائِما.
وَالرَّابِع: أَنه يحْتَمل أَن يكون الْبَوْل أعجله وَلم
يجد سوى ذَلِك الْمَكَان، وَلم يتَمَكَّن من الْقعُود
لِكَثْرَة الأنجاس فِيهِ.
فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ لِحُذَيْفَة: " ادن " وَكَانَ إِذا
أَرَادَ الْخَلَاء أبعد؟ فَالْجَوَاب أَن السباطة تكون فِي
الأفنية، فَأَرَادَ أَن يسْتَتر بِهِ من النَّاس.
وَفِي رِوَايَة: كَانَ أَبُو مُوسَى يشدد فِي الْبَوْل،
ويبول فِي قَارُورَة، فأورد حُذَيْفَة هَذَا الحَدِيث
ليسهل الْأَمر عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا كَانَ تَشْدِيد أبي
مُوسَى لِأَنَّهُ قد سمع التحذير من الأنجاس، وَقد صَحَّ
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي
القبرين: " إِنَّمَا ليعذبان، وَمَا يعذبان فِي كَبِير،
كَانَ أَحدهمَا لَا يسْتَتر فِي بَوْله ". ولعمري إِن
الِاحْتِرَاز حسن، لكنه يَنْبَغِي أَن يكون بِمِقْدَار.
وَقد رَأينَا فِي زَمَاننَا من يشدد فِي هَذَا تشديدا يعود
بضد
(1/378)
الْمَقْصُود، فَرَأَيْنَا جمَاعَة إِذا
بَال أحدهم يقوم وَيَمْشي، وَيَتَنَحْنَح، ويحط رجلا
وَيرْفَع أُخْرَى، ويطيل ذَلِك الْفِعْل، فَيَعُود
الْبَوْل الَّذِي قد تماسك قاطرا، فَكَأَنَّهُ استحلبه
بذلك الْفِعْل، وَهَذَا لِأَن الْبَوْل يرشح فِي المثانة
دَائِما، وعَلى فَم المثانة عضلة تشدها وتمنع جَرَيَان
الْبَوْل، فَإِذا فعل مَا ذكرنَا حرك العضلة وَفتحهَا،
فيجتمع فِي تِلْكَ المديدة قطرات، فتأتي، وَهَذَا يتَّصل،
وَرُبمَا ضعفت العضلة بِهَذَا الْفِعْل وتجدد سَلس
الْبَوْل، وَهَذَا من وساوس إِبْلِيس وَلَيْسَ من
الشَّرِيعَة، بل يَنْبَغِي للْإنْسَان إِذا بَال وَانْقطع
جَرَيَان الْبَوْل أَن يحتلب بَقِيَّة الْبَوْل بإصبعي
يَده الْيُسْرَى من أصل الذّكر إِلَى رَأسه، ثمَّ ينثر
الذّكر ثَلَاثًا وَيصب المَاء.
329 - / 393 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " ليردن حَوْضِي
أَقوام ثمَّ يختلجون دوني ".
وَهَذَا ذَكرْنَاهُ، وَقد شرحناه فِي مُسْند ابْن
مَسْعُود.
330 - / 394 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: حَدثنَا رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حديثين، قد رَأَيْت
أَحدهمَا، وَأَنا أنْتَظر الآخر. حَدثنَا أَن الْأَمَانَة
نزلت فِي جذر قُلُوب الرِّجَال. ثمَّ حَدثنَا عَن رفع
الْأَمَانَة، قَالَ: " ينَام الرجل نومَة فتقبض
الْأَمَانَة من قلبه فيظل أَثَرهَا مثل أثر الوكت، ثمَّ
ينَام النومة فتقبض الْأَمَانَة من قلبه فيظل أَثَرهَا مثل
أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك، فنفط فتراه منتبرا
وَلَيْسَ فِيهِ شَيْء - ثمَّ أَخذ حَصى فدحرجه على رجله -
فَلَا يكَاد أحد يُؤَدِّي الْأَمَانَة حَتَّى يُقَال
للرجل: مَا أجلده، مَا
(1/379)
أظرفه، وَمَا فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة من
خَرْدَل من إِيمَان ".
الجذر: الأَصْل، وَمِنْه جذر الْحساب، كَقَوْلِك: عشرَة
فِي عشرَة مائَة، فالعشرة جذر الْمِائَة أَي أَصْلهَا
الَّذِي يقوم مِنْهُ هَذَا الْعدَد. وَقَالَ أَبُو عبيد:
الجذر: الأَصْل من كل شَيْء - بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا.
والوكت: أثر الشَّيْء الْيَسِير، وَمِنْه: بسر موكت
بِكَسْر الْكَاف: إِذا بدا فِيهِ شَيْء من الإرطاب.
والمجل: أثر الْعَمَل فِي الْكَفّ، يُقَال: مجلت يَده
ومجلت، لُغَتَانِ.
وَقَوله: فتراه منتبرا: أَي منتفطاً، يَعْنِي ارْتِفَاع
الْجلد وَلَا شَيْء تَحْتَهُ.
وَقَوله: " فَلَا يكَاد أحد يُؤَدِّي الْأَمَانَة " أَي
يقل من يُؤَدِّيهَا. ويكاد بِمَعْنى يُقَارب.
وَقَوله: مَا أجلده: أَي مَا أقواه.
وَقَوله: مَا أظرفه. قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور
اللّغَوِيّ قَالَ: النَّاس يعنون بقَوْلهمْ فلَان ظريف
أَنه حسن اللبَاس لبقه، ويخصونه بذلك، وَلَيْسَ كَذَلِك،
وَإِنَّمَا الظّرْف فِي اللِّسَان والجسم. أخْبرت عَن
الْحسن بن عَليّ عَن الخزاز عَن أبي عمر عَن ثَعْلَب
قَالَ: الظريف يكون حسن الْوَجْه وَحسن اللِّسَان، الظّرْف
فِي الْمنطق والجسم، وَلَا يكون
(1/380)
فِي اللبَاس. وَقَالَ عمر: إِذا كَانَ اللص
ظريفا لم يقطع. مَعْنَاهُ: إِذا كَانَ بليغا جيد الْكَلَام
احْتج عَن نَفسه بِمَا يسْقط عَنهُ الْحَد. وَالْفِعْل من
هَذِه الْكَلِمَة ظرف يظرف فَهُوَ ظريف، وَالْجمع الظرفاء،
وَلَا يُوصف بذلك السَّيِّد وَلَا الشَّيْخ، إِنَّمَا
يُوصف بِهِ الفتيان الأزوال والفتيات الزولات، يَعْنِي
الْخفاف. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الظّرْف فِي
اللِّسَان، والحلاوة فِي الْعَينَيْنِ، والملاحة فِي
الْفَم، وَالْجمال فِي الْأنف. وَقَالَ مُحَمَّد بن يزِيد:
الظريف مُشْتَقّ من الظّرْف: وَهُوَ الْوِعَاء، كَأَنَّهُ
جعل الظريف وعَاء للأدب وَمَكَارِم الْأَخْلَاق.
وَقَوله: ليردنه على ساعيه: أَي رئيسه الَّذِي يحكم
عَلَيْهِ وينصفني مِنْهُ.
331 - / 395 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: " لَا يدْخل
الْجنَّة قَتَّات ".
وَقد فسر فِي الحَدِيث أَنه النمام، قَالَ أَبُو عبيد:
يُقَال: فلَان يقت الْأَحَادِيث قتا: أَي ينمها. وَقَالَ
ابْن الْأَعرَابِي القَتَّات: الَّذِي ينْقل عنْدك مَا
تحدثه بِهِ وتستكتمه إِيَّاه، والقساس الَّذِي يتسمع
عَلَيْك مَا تحدث بِهِ غَيره ثمَّ يَنْقُلهُ عَنْك.
وَقد كشفنا إِشْكَال قَول الْقَائِل بِأَن هَذَا لَيْسَ
بِكفْر، فَكيف يمْنَع دُخُول الْجنَّة، فِي مُسْند ابْن
مَسْعُود.
(1/381)
332 - / 396 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: "
لَأَبْعَثَن إِلَيْكُم أَمينا حق أَمِين "؛ فاستشرف
النَّاس لَهَا، فَبعث أَبَا عُبَيْدَة.
الْأمين مَأْخُوذ من الْأَمْن، فَكَأَن صَاحب الْأَمَانَة
أَمن بِكَوْنِهَا مَعَ الْأمين.
وَمعنى استشرف النَّاس: رفعوا رُءُوسهم ينظرُونَ من
الْمَخْصُوص بِهَذِهِ الصّفة كالمتعجبين.
333 - / 397 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: " إِن مَعَ
الدَّجَّال مَاء وَنَارًا، فَالَّذِي يرى النَّاس أَنه
نَار فماء بَارِد، وَالَّذِي يرى النَّاس أَنه مَاء بَارِد
فَنَار تحرق. وَأَنه ممسوخ الْعين، عَلَيْهَا ظفرة
غَلِيظَة ".
الدَّجَّال: الْكذَّاب، وَقيل: سمي دجالًا لتمويهه على
النَّاس وتلبيسه، يُقَال: دجل: إِذا موه وَلبس، وَسيف
مدجل: إِذا طلي بِالذَّهَب، وبعير مدجل: إِذا كَانَ مطليا
بالقطران، فَسُمي دجالًا لِأَنَّهُ غطى الْحق بباطله.
وَقَوله: فَالَّذِي يرَاهُ النَّاس نَارا مَاء، هَذَا هُوَ
من جنس السحر يبتلى بِهِ الْخلق.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل معجزات الْأَنْبِيَاء إِلَّا
مَا شهد بهَا الْحس؟
فَالْجَوَاب: أَن هَذَا الرجل لَو ادّعى النُّبُوَّة
لاختلطت الْأَدِلَّة وتمكنت الشُّبُهَات وعسر الْفرق،
وَلكنه ادّعى الإلهية، وَيَكْفِي فِي تَكْذِيبه كَونه
جسما، ثمَّ هُوَ رَاكب حمارا، وَهُوَ أَعور.
(1/382)
وَقَوله: عَلَيْهَا ظفرة غَلِيظَة. قَالَ
الزّجاج: الظفرة: جلدَة تبتدئ فِي المأق، وَرُبمَا ألبست
الحدقة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث حَدِيث الَّذِي قَالَ لأَهله:
اجْمَعُوا لي حطبا جزلا.
الْحَطب الجزل: الغليظ. وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور
اللّغَوِيّ قَالَ: النَّاس يَقُولُونَ: حطب زجل،
وَإِنَّمَا هُوَ حطب جزل: وَهُوَ الغليظ من الْحَطب،
وَقيل: الْيَابِس، قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَكِن بهذاك اليفاع فأوقدي ... بجزل إِذا أوقدت لَا
بضرام)
والضرام والشخت ضِدّه، ثمَّ كثر الجزل فِي كَلَامهم حَتَّى
صَار كل مَا كثر جزلا، فَقَالُوا: أعطَاهُ عَطاء جزلا،
وأجزلت للرجل، وجزل لي من مَاله.
وَقَوله: وامتحشت: أَي أحرقت الْعِظَام. والمحش: إحراق
النَّار الْجلد.
وَقَوله: انْظُرُوا يَوْمًا رَاحا: أَي كثير الرّيح.
وَيُقَال للموضع الَّذِي تخترقه الرِّيَاح مروحة. ركب عمر
بن الْخطاب نَاقَة فمشت بِهِ مشيا جيدا، فَقَالَ:
(كَأَن راكبها غُصْن بمروحة ... إِذا تدلت بِهِ أَو شَارِب
ثمل)
(1/383)
فَأَما المروحة الَّتِي يتروح بهَا فمكسورة
الْمِيم.
وَقَوله: فاذروه فِي اليم. أَي انسفوه فِي الْبَحْر. قَالَ
ابْن قُتَيْبَة: واليم: الْبَحْر، بالسُّرْيَانيَّة.
334 - / 398 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: كَانَ
النَّاس يسْأَلُون رَسُول الله عَن الْخَيْر وأسأله عَن
الشَّرّ مَخَافَة أَن يدركني.
أما سُؤَاله عَن الشَّرّ فليجتنبه، قَالَ الشَّاعِر:
(عرفت الشَّرّ لَا للشر لَكِن لتوقيه ... )
(وَمن لَا يعرف الشَّرّ من النَّاس يَقع فِيهِ ... )
والدخن: الكدر وَالْمَكْرُوه. وأصل الدخن فِي الألوان
كدورة إِلَى سَواد. قَالَ أَبُو عبيد: وَلَا أَحْسبهُ أَخذ
إِلَّا من الدُّخان، وَهُوَ شَبيه بلون الْحَدِيد.
وَوجه الحَدِيث أَن الْقُلُوب لَا يصفو بَعْضهَا لبَعض.
وَقَوله: من جلدتنا أَي من أَنْفُسنَا وقومنا، يَعْنِي
الْعَرَب.
فَأمره بالعزلة عِنْد ظُهُور الْآفَات. وَقَوله: " وَلَو
أَن تعض بِأَصْل شَجَرَة " أَشَارَ إِلَى الْعُزْلَة،
لِأَن الشّجر خَارج عَن المدن.
وَالشَّيَاطِين جمع شَيْطَان، قَالَ الْخَلِيل: كل متمرد
عِنْد الْعَرَب شَيْطَان. وَفِي هَذَا الِاسْم قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه من شطن: أَي بعد عَن
(1/384)
الْخَيْر، فعلى هَذَا تكون النُّون
أَصْلِيَّة، قَالَ أُميَّة بن أبي الصَّلْت فِي صفة
سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام:
(أَيّمَا شاطن عَصَاهُ عكاه ... ثمَّ يلقى فِي السجْن
والأغلال)
عكاه: أوثقه.
وَقَالَ النَّابِغَة:
(نأت بسعاد عَنْك نوى شطون ... فَبَانَت والفؤاد لَهَا
رهين)
وَالثَّانِي: أَنه من شاط يشيط: إِذا التهب وَاحْتَرَقَ،
فَتكون النُّون زَائِدَة. وأنشدوا:
( ... ... ... ... ... ... وَقد يشيط على ارماحنا البطل)
أَي يهْلك.
والجثمان: الشَّخْص.
وَالْإِنْس: النَّاس، سموا إنسا لظهورهم.
(1/385)
335 - / 399 - وَفِي الحَدِيث الأول من
أَفْرَاد البُخَارِيّ:
عَن حُذَيْفَة: {وأنفقوا فِي سَبِيل الله وَلَا تلقوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} [الْبَقَرَة: 195]
قَالَ: نزلت فِي النَّفَقَة.
سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة أَن الْأَنْصَار كَانَت تنْفق
وَتَتَصَدَّق، فَأَصَابَتْهُمْ سنة فأمسكوا، فَنزلت هَذِه
الْآيَة؛ قَالَ الضَّحَّاك بن أبي جبيرَة: والسبيل فِي
اللُّغَة: الطَّرِيق. وَإِنَّمَا اسْتعْملت هَذِه
الْكَلِمَة فِي الْجِهَاد لِأَنَّهُ السَّبِيل الَّذِي
يُقَاتل فِيهِ على عقد الدّين. قَالَ الْمبرد: وَأَرَادُوا
بِالْأَيْدِي الْأَنْفس، فَعبر عَن الْكل. و
(التَّهْلُكَة) بِمَعْنى الْهَلَاك، يُقَال: هلك االرجل
يهْلك هَلَاكًا وهلكا وتهلكة، فعلى هَذَا يكون الْهَلَاك
وَاقعا بالبخل، فَإِن كَانَ فِي الْوَاجِبَات فَهُوَ
الْهَلَاك بالإثم، وَإِن كَانَ فِي المندوبات فَهُوَ فَوت
الْفَضَائِل.
336 - / 400 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: إِنَّمَا
النِّفَاق على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَأَما الْيَوْم فَهُوَ الْكفْر أَو الْإِيمَان.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: معنى الحَدِيث أَن
الْمُنَافِقين فِي زمَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لم يَكُونُوا قد أَسْلمُوا، وَإِنَّمَا كَانُوا
يظهرون الْإِسْلَام رِيَاء ونفاقا، ويسرون الْكفْر عقدا،
فَأَما الْيَوْم - وَقد شاع الْإِسْلَام واستفاض - فَمن
نَافق بِأَن يظْهر الْإِسْلَام ويبطن خِلَافه فَهُوَ
مُرْتَد، لِأَن نفَاقه كفر أحدثه بعد قبُول الدّين،
وَإِنَّمَا كَانَ الْمُنَافِق فِي زمَان رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم مُقيما على كفره الأول، فَلم يتشابها.
(1/386)
337 - / 401 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث:
أَن حُذَيْفَة رأى رجلا لم يتم رُكُوعه وَلَا سُجُوده،
فَقَالَ: مَا صليت.
الرُّكُوع من أَرْكَان الصَّلَاة، وَلَا يكون إِلَّا
بإتمامه، وَكَذَلِكَ السُّجُود.
وَقَوله: مَا صليت، يَعْنِي الصَّلَاة الصَّحِيحَة.
والفطرة هَاهُنَا: الدّين وَالْملَّة.
338 - / 402 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: قَالَ حُذَيْفَة:
مَا بَقِي من أَصْحَاب هَذِه الْآيَة إِلَّا ثَلَاثَة،
وَلَا من الْمُنَافِقين إِلَّا أَرْبَعَة. يَعْنِي
بِالْآيَةِ {فَقَاتلُوا أَئِمَّة الْكفْر} [التَّوْبَة:
12] فَقَالَ أَعْرَابِي: مَا بَال هَؤُلَاءِ الَّذين
يبقرون بُيُوتنَا، وَيَسْرِقُونَ أعلاقنا؟ فَقَالَ:
أُولَئِكَ الْفُسَّاق.
يبقرون بِمَعْنى يفتحون. يُقَال: بقرت الشَّيْء: إِذا
فَتحته. وَقد رَوَاهَا قوم: ينقبون، وَالْأول أصح.
والأعلاق: نفائس الْأَمْوَال، وكل شَيْء لَهُ قيمَة أَو
قدر فِي نَفسه ومزية فَهُوَ علق.
339 - / 404 - الحَدِيث السَّادِس: قد تقدم فِي مُسْند أبي
ذَر.
340 - / 405 - الحَدِيث السَّابِع: قَالَ حُذَيْفَة: لقد
أنزل النِّفَاق على قوم خير مِنْكُم، ثمَّ تَابُوا فَتَابَ
الله عَلَيْهِم.
مَقْصُود حُذَيْفَة أَن جمَاعَة من الْمُنَافِقين صلحوا
واستقاموا وَكَانُوا خيرا من أُولَئِكَ التَّابِعين
بمَكَان الصُّحْبَة وَالصَّلَاح. وَمِمَّنْ كَانَ منافقا
(1/387)
فصلح أمره واستقام مجمع وَيزِيد ابْنا
جَارِيَة بن عَامر، كَانَا وأبوهما منافقين، فصلحت حَال
الْوَلَدَيْنِ واستقامت، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِالْحَدِيثِ
إِلَى تقليب الْقُلُوب.
341 - / 406 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: مَا نعلم أقرب
سمتا ودلا وهديا برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من
ابْن أم عبد.
قَالَ أَبُو عبيد: السمت: حسن الْهَيْئَة والمنظر فِي
مَذْهَب الدّين وَلَيْسَ من الزِّينَة، وَلَكِن يكون
لصَاحبه هَيْئَة أهل الْخَيْر ومنظرهم. وَالْهَدْي والدل
من السكينَة. وَالْوَقار فِي الْهَيْئَة والمنظر
وَالشَّمَائِل.
وَقَوله: حَتَّى يتَوَارَى، احْتِرَاز من الشَّهَادَة على
الْبَاطِن المستور.
وَقَوله: لقد علم المحفوظون، يَعْنِي رُءُوس الْقَوْم
الَّذين حفظهم الله من تَحْرِيف أَو تخريف فِي قَول أَو
فعل.
والوسيلة: الْقرْبَة.
وَرُبمَا ظن من يسمع قَوْله ابْن أم عبد أَنه نَسَبهَا
إِلَى ابْنهَا عبد الله بن مَسْعُود، وَلَيْسَ كَذَلِك،
إِنَّمَا هَذِه الْمَرْأَة يُقَال لَهَا أم عبد بنت عبد ود
ابْن سوي بن قريم، أسلمت وبايعت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا نعلمها رَوَت عَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا.
(1/388)
342 - / 407 - وَفِي الحَدِيث الأول من
أَفْرَاد مُسلم:
عَن قيس بن عباد: قَالَ: قلت لعمَّار: أَرَأَيْتُم صنيعكم
هَذَا الَّذِي صَنَعْتُم فِي أَمر عَليّ، أرأيا
رَأَيْتُمُوهُ، أَو شَيْئا عَهده إِلَيْكُم رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُشِير إِلَى قِتَالهمْ مَعَه
ونصرهم إِيَّاه. فَقَالُوا: مَا عهد إِلَيْنَا شَيْئا لم
يعهده إِلَى النَّاس، وَلَكِن حُذَيْفَة أَخْبرنِي ... .
مَعْنَاهُ أَنه مَا عهد إِلَيْنَا شَيْئا، إِنَّمَا عهد
إِلَى حُذَيْفَة فِي أَمر الْمُنَافِقين.
والجمل: الْحَيَوَان الْمَعْرُوف. والخياط: الإبرة. وسمها:
ثقبها، وَفِيه لُغَتَانِ فتح السِّين وَضمّهَا.
والدبيلة: خراج عَظِيم.
وينجم: يظْهر.
343 - / 408 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: عَن جُنْدُب
قَالَ: جِئْت يَوْم الجرعة فَإِذا رجل جَالس. فَقلت:
ليهراقن الْيَوْم دِمَاء. فَقَالَ ذَاك الرجل: كلا وَالله،
قلت: بلَى وَالله: قَالَ فَإِذا الرجل حُذَيْفَة.
الجرعة بِفَتْح الرَّاء: التل من الرمل لَا ينْبت شَيْئا،
وَهَذَا مَكَان نزلوه ليتهيئوا لِلْقِتَالِ، وَذَلِكَ أَن
عُثْمَان بعث سعيد بن الْعَاصِ أَمِيرا على الْكُوفَة،
فَخَرجُوا فَردُّوهُ، فَرجع إِلَى عُثْمَان، فَقَالَ
عُثْمَان: مَا تُرِيدُونَ؟
(1/389)
قَالُوا: الْبَدَل. قَالَ: فَمن
تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: أَبَا مُوسَى. فَبَعثه إِلَيْهِم.
أخبرنَا الْمُبَارك بن عَليّ الصَّيْرَفِي قَالَ: أخبرنَا
شُجَاع بن فَارس قَالَ: أخبرنَا أَبُو طَاهِر مُحَمَّد بن
أَحْمد الْأُشْنَانِي قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحسن عَليّ
ابْن أَحْمد بن عمر الحمامي قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن
مُحَمَّد بن أبي قيس قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن عبيد
قَالَ: حَدثنِي يحيى بن عبد الله الْخَثْعَمِي عَن أبي
عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى: أَن عُثْمَان بن عَفَّان نزع
سعد بن أبي وَقاص عَن الْكُوفَة وَاسْتعْمل الْوَلِيد بن
عقبَة، ثمَّ نَزعه وَبعث سعيد بن الْعَاصِ، فَلم يَدعُوهُ
يدخلهَا.
وَقَالَ الْقرشِي: وَحدثنَا أَبُو خَيْثَمَة قَالَ:
حَدثنَا وهب بن جرير عَن أَبِيه أَن سعيد بن الْعَاصِ توجه
إِلَى الْكُوفَة أَمِيرا، فَقَالَ أهل الْكُوفَة: لَا
وَالله لَا يدخلهَا علينا سعيد وَلَا يَلِي أمرنَا، وبعثوا
إِلَى الأشتر فَقدم عَلَيْهِم، وَخرج أهل الْكُوفَة حَتَّى
نزلُوا الجرعة وَأمرهمْ إِلَى الأشتر، فَلَمَّا قدم سعيد
ركبُوا خيولهم وَأخذُوا رماحهم وَقَالُوا: ارْجع وَرَاءَك،
فَلَا وَالله لَا تلِي أمرنَا، فَرجع.
وَقَالَ جرير عَن الْأَعْمَش عَن زيد بن وهب: لما خرج
النَّاس إِلَى الجرعة قيل لِحُذَيْفَة: أَلا تخرج؟ قَالَ:
لقد علمت أَنهم لن يهريقوا بَينهم محجمة من دم.
وَعَن الْأَعْمَش عَن عَمْرو بن مرّة عَن أبي البخْترِي
عَن أبي ثَوْر الحدائي قَالَ: دفعت إِلَى حُذَيْفَة وَأبي
مَسْعُود يَوْم الجرعة وهما يتحدثان، وَأَبُو مَسْعُود
يَقُول: وَالله مَا كنت أرى أَن ترتد على عقبيها وَلم
يهريقوا
(1/390)
فِيهَا محجمة من دم.
وَفِي الحَدِيث من الْفِقْه: جَوَاز أَن يحلف الرجل على
مَا يظنّ كَمَا حلف جُنْدُب، ثمَّ قَالَ لنَفسِهِ: مَا
هَذَا الْغَضَب؟ وَذَلِكَ أَنه بَان لَهُ أَن الصَّوَاب
لَيْسَ مَعَه فَرجع إِلَى الصَّوَاب.
344 - / 410 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: مَا مَنَعَنِي
أَن أشهد بَدْرًا إِلَّا أَنِّي خرجت أَنا وَأبي الحسيل،
فأخذنا كفار قُرَيْش، فَأخذُوا منا عهد الله وميثاقه أَلا
نُقَاتِل مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فأتيناه فَأَخْبَرنَاهُ، فَقَالَ: " نفي لَهُم بعهدهم ".
فِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه حفظ الْوَفَاء بالعهد
وَلَو للمشرك فِيمَا يُمكن الْوَفَاء بِهِ.
345 - / 411 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: كَانَ بَين رجل
من أهل الْعقبَة وَبَين حُذَيْفَة بعض مَا يكون بَين
النَّاس، فَقَالَ: أنْشدك الله، كم كَانَ أَصْحَاب
الْعقبَة؟ قَالَ: فَقَالَ الْقَوْم: أخبرهُ إِذْ سَأَلَك.
فَقَالَ: كُنَّا نخبر أَنهم أَرْبَعَة عشر، فَإِن كنت
مِنْهُم فقد كَانَ الْقَوْم خَمْسَة عشر، وَأشْهد أَن
اثْنَي عشر مِنْهُم حَرْب لله وَلِرَسُولِهِ فِي
الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الأشهاد، وَعذر ثَلَاثَة قَالُوا:
مَا سمعنَا مُنَادِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَلَا علمنَا بِمَا أَرَادَ الْقَوْم، وَقد كَانَ فِي
حرَّة فَمشى فَقَالَ: " إِن المَاء قَلِيل، فَلَا يسبقني
إِلَيْهِ أحد " فَوجدَ قوما قد سَبَقُوهُ فلعنهم.
(1/391)
هَذَا الحَدِيث يشكل على المبتدئين؛ لِأَن
أهل الْعقبَة إِذا أطْلقُوا فَإِنَّمَا يشار بهم إِلَى
الْأَنْصَار الْمُبَايِعين لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا من ذَاك،
وَإِنَّمَا هَذِه عقبَة فِي طَرِيق تَبُوك، وقف فِيهَا قوم
من الْمُنَافِقين ليفتكوا بِهِ:
أخبرنَا هبة الله بن الْحصين قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَليّ
بن الْمَذْهَب قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ:
حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنَا أبي قَالَ:
حَدثنَا يزِيد قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْوَلِيد - يَعْنِي
ابْن عبد الله بن جَمِيع عَن أبي الطُّفَيْل قَالَ: لما
أقبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غَزْوَة
تَبُوك أَمر مناديا فَنَادَى: إِن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم آخذ الْعقبَة فَلَا يَأْخُذهَا أحد.
فَبَيْنَمَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُودهُ
حُذَيْفَة ويسوقه عمار إِذْ أقبل رَهْط مُتَلَثِّمُونَ على
الرَّوَاحِل غشوا عمارا وَهُوَ يَسُوق برَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَقْبل عمار يضْرب وُجُوه
الرَّوَاحِل، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لِحُذَيْفَة: " قد، قد " حَتَّى هَبَط رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا هَبَط رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم نزل، وَرجع عمار، فَقَالَ: " يَا عمار، هَل
عرفت الْقَوْم " فَقَالَ: قد عرفت عَامَّة الرَّوَاحِل،
وَالْقَوْم مُتَلَثِّمُونَ. قَالَ: " هَل تَدْرِي مَا
أَرَادوا؟ " قَالَ: الله وَرَسُوله أعلم. قَالَ: "
أَرَادوا أَن ينفروا برَسُول الله فَيَطْرَحُوهُ ".
قَالَ أَبُو الْوَلِيد: وَذكر أَبُو الطُّفَيْل فِي تِلْكَ
الْغَزْوَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
للنَّاس - وَذكر لَهُ أَن فِي المَاء قلَّة - فَأمر رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مناديا فَنَادَى أَن لَا يرد
المَاء أحد قبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فورده النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوجدَ قوما قد
وردوه قبله، فلعنهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(1/392)
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدِّمَشْقِي
الْمُفَسّر: أَصْحَاب الْعقبَة خَمْسَة عشر من
الْمُنَافِقين، تَابَ ثَلَاثَة وَمضى اثْنَا عشر على
النِّفَاق، مِنْهُم معتب بن قُشَيْر، ووديعة بن ثَابت،
وَرِفَاعَة بن التابوت، وسُويد، وداعس، وجد بن عبد الله بن
نتيل، والْحَارث بن يزِيد الطَّائِي، وَأَوْس بن قيظي،
وَسعد بن زُرَارَة، وَقيس بن عَمْرو بن سهل، وَهُوَ عَم
قَتَادَة بن النُّعْمَان، وَقد ذكر عَنهُ قَتَادَة أَنه
رأى مِنْهُ مَا يدل على صِحَة إِسْلَامه. وَزيد بن
النَّصِيب، كَذَا قَالَ أَبُو سُلَيْمَان. وَغَيره يَقُول:
اللصيت وَكَانَ يَهُودِيّا منافقا، وسلالة بن الْحمام،
والجلاس بن سُوَيْد، وَقيل: وَكَعب، وَأَبُو لبَابَة،
وَتَابَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة.
346 - / 412 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقِيه وَهُوَ جنب، فحاد عَنهُ
فاغتسل، ثمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: كنت جنبا. فَقَالَ: " إِن
الْمُسلم لَا ينجس ".
وَقد سبق بَيَان تَسْمِيَة الْجَنَابَة بِهَذَا الِاسْم.
وَلَا خلاف فِي طَهَارَة الْآدَمِيّ فِي حَيَاته، فَأَما
إِذا مَاتَ: فَهَل ينجس بِالْمَوْتِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ
عَن أَحْمد وقولان عَن الشَّافِعِي، وَنَصّ أَبُو حنيفَة
على نَجَاسَته.
(1/393)
347 - / 413 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع:
فِي الدَّجَّال: " إِنَّه جفال الشّعْر ".
الْفَاء خَفِيفَة، قَالَ أَبُو عبيد: الجفال: الْكثير
الشّعْر، قَالَ ذُو الرمة:
(وأسود كالأساود مسبكرا ... على المتنين منسدرا جفالا)
المسبكر: المسترسل. والمنسدر: المنتصب، وَبَعْضهمْ يرويهِ
منسدلا.
348 - / 414 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: صليت مَعَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَافْتتحَ الْبَقَرَة فَقلت:
يرْكَع عِنْد الْمِائَة، ثمَّ مضى فَقلت: يُصَلِّي بهَا
فِي رَكْعَة، فَمضى.
هَذَا حَدِيث يدل على طول قيام رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّلَاة، وَقد كَانَ رُكُوعه نَحوا
من قِيَامه. وَهَذَا إِنَّمَا يرْوى عَنهُ فِي صَلَاة
اللَّيْل - أَعنِي طول الْقيام.
والترسل: التثبت.
وَقَوله: إِذا مر بسؤال سَأَلَ. اخْتلفت الرِّوَايَة عَن
أَحْمد رَحْمَة الله عَلَيْهِ: هَل يجوز للْمُصَلِّي فِي
صَلَاة الْفَرْض إِذا مرت بِهِ آيَة رَحْمَة أَن
يسْأَلهَا، أَو آيَة عَذَاب أَن يستعيذ مِنْهُ، فَروِيَ
عَنهُ جَوَاز ذَلِك، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَرُوِيَ
عَنهُ أَنه جَائِز فِي التَّطَوُّع دون الْفَرِيضَة،
وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. وَكَانَ شَيخنَا أَبُو بكر
الدينَوَرِي يتَأَوَّل الحَدِيث فَيَقُول: معنى
(1/394)
يسْأَل ويستعيذ: أَنه يسْأَل بِإِعَادَة
الْآيَة، مثل أَن يقْرَأ: {رَبنَا فَاغْفِر لنا} [آل
عمرَان: 193] فيردد ذَلِك، لَا أَنه يتَكَلَّم بِكَلَام من
عِنْده، وَهَذَا الْأَشْبَه بأصولنا، وَقد قَالَ عَلَيْهِ
السَّلَام: " إِن صَلَاتنَا هَذِه لَا يصلح فِيهَا شَيْء
من كَلَام الْآدَمِيّين ".
349 - / 415 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: " كل مَعْرُوف
صَدَقَة ".
الْمَعْرُوف: فعل الْخَيْر وَالْبر، وَإِنَّمَا كَانَ
الْمَعْرُوف صَدَقَة لِأَنَّهُ لَا يجب.
350 - / 416 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: " تعرض الْفِتَن
على الْقُلُوب كالحصير عودا عودا، فَأَي قلب أشربها نكت
فِيهِ نُكْتَة سَوْدَاء، وَأي قلب أنكرها نكت فِيهِ
نُكْتَة بَيْضَاء حَتَّى تصير على قلبين: أَبيض مثل
الصَّفَا، فَلَا تضره فتْنَة مَا دَامَت السَّمَوَات
وَالْأَرْض، وَالْآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا، لَا يعرف
مَعْرُوفا وَلَا يُنكر مُنْكرا، إِلَّا مَا أشْرب من
هَوَاهُ ... ".
قَوْله: كالحصير، يَعْنِي أَن الْفِتَن تحيط بالقلوب
فَتَصِير الْقُلُوب كالمحصور الْمَحْبُوس. وَقَالَ
اللَّيْث: حَصِير الْجنب: عرق يَمْتَد مُعْتَرضًا على
الْجنب إِلَى نَاحيَة الْبَطن، فَشبه إحاطتها بِالْقَلْبِ
بإحاطة هَذَا الْعرق بالبطن.
(1/395)
وَقَوله: عود عود: أَي مرّة بعد مرّة.
وَمعنى: أشربها: قبلهَا وَسكن إِلَيْهَا.
وَقَوله: نكت فِيهِ: أَي ظهر فِيهِ أثر.
وَقَوله: حَتَّى تصير على قلبين. يَعْنِي الْقُلُوب.
والصفا: الْحجر الأملس.
وَقَوله: مربادا: المرباد والمربد: الَّذِي فِي لَونه
ربدة: وَهِي لون بَين السوَاد والغبرة كلون النعامة،
وَلِهَذَا قيل للنعام ربد.
وَقَوله كالكوز مجخيا. المجخي: المائل، وَيُقَال مِنْهُ:
جخى اللَّيْل: إِذا مَال ليذْهب. وَالْمعْنَى: مائلا عَن
الاسْتقَامَة منكوسا.
وَقد تقدم شرح بعض هَذَا الحَدِيث فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ
من هَذَا الْمسند.
351 - / 417 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: " إِن
حَوْضِي لأبعد من أَيْلَة من عدن، إِنِّي لأذود عَنهُ
الرِّجَال كَمَا يذود الرجل الْإِبِل الغريبة عَن حَوْضه "
قَالُوا: وتعرفنا؟ قَالَ: " نعم. تردون عَليّ غرا محجلين
من آثَار الْوضُوء ".
أذود بِمَعْنى أطْرد، وَهَذَا يحْتَمل وَجْهَيْن: إِمَّا
طرد من لَا يسْتَحق، وَإِمَّا طرد من يجب تَقْدِيم غَيره.
وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث ثَوْبَان أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " إِنِّي لبعقر حَوْضِي أذود
عَنهُ لأهل الْيمن ".
والغرة والتحجيل: نور يعْرفُونَ بِهِ، ثَوابًا للْوُضُوء.
(1/396)
352 - / 418 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي
عشر: " جعلت صُفُوفنَا كَصُفُوف الْمَلَائِكَة ".
صُفُوف الْمَلَائِكَة أَن كل وَاحِد بِجَانِب الآخر.
وَقَوله: " جعلت لنا الأَرْض كلهَا مَسْجِدا " أَي موضعا
للسُّجُود، وَهَذَا خَارج مخرج الامتنان على هَذِه الْأمة؛
لِأَن الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة كَانُوا لَا يصلونَ إِلَّا
فِي كنائسهم وبيعهم، وَهَذَا لفظ عَام خصت مِنْهُ
الْبِقَاع الْمنْهِي عَن الصَّلَاة عَنْهَا بِدَلِيل،
كَمَا خص نِكَاح الذميات فِي عُمُوم قَوْله: {وَلَا
تنْكِحُوا المشركات} [الْبَقَرَة: 221] .
قَوْله: " وَجعلت تربَتهَا لنا طهُورا " فِيهِ دَلِيل على
أَنه إِذا ضرب بِيَدِهِ على حجر لَا غُبَار عَلَيْهِ لم
يجزه، لِأَن التربة التُّرَاب.
353 - / 419 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: " أضلّ الله
عَن الْجُمُعَة من كَانَ قبلنَا ".
إِنَّمَا وَقع إضلال الْقَوْم بمخالفة نَبِيّهم. قَالَ
ابْن عَبَّاس: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ: تفرغوا لله عز
وَجل فِي كل سَبْعَة أَيَّام يَوْمًا، فاعبدوه يَوْم
الْجُمُعَة. فَقَالُوا: لَا، إِلَّا يَوْم السبت. وَقيل:
كَانَ سَبَب اختيارهم السبت أَنهم زَعَمُوا أَن الله
تَعَالَى فرغ يَوْم السبت من الْخلق، فَقَالُوا: فَنحْن
نستريح فِيهِ من عمل الدُّنْيَا ونتشاغل بالتعبد
وَالشُّكْر، فألزموه عُقُوبَة لَهُم. واختارت النَّصَارَى
الْأَحَد وَقَالُوا: هُوَ أول يَوْم بَدَأَ الله فِيهِ
الْخلق، فَهُوَ أولى بالتعظيم. فهدانا الله ليَوْم
الْجُمُعَة، وَهُوَ الْيَوْم
(1/397)
الَّذِي خلق فِيهِ آدم، وَهُوَ سَابق السبت
والأحد، فَنحْن السَّابِقُونَ لَهُم فِي التَّعَبُّد،
وأمتنا - وَإِن تَأَخّر وجودهم - فهم السَّابِقُونَ إِلَى
الْفضل وَإِلَى دُخُول الْجنَّة.
وَقَوله: " الْمقْضِي لَهُم " أَي على جَمِيع الْأُمَم؛
لِأَن حجتهم توجب على من سبقهمْ أَن يتبعهُم.
354 - / 420 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: " فَيقوم
الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تزلف لَهُم الْجنَّة ".
تزلف بِمَعْنى تقرب.
وَقَول إِبْرَاهِيم: " إِنِّي كنت خَلِيلًا من وَرَاء
وَرَاء " أَي من خلف حجاب.
وَقَوله: " وَترسل الْأَمَانَة وَالرحم " الْمَعْنى
أَنَّهُمَا تخلصان القائمين بحقوقهما.
وَشد الرِّجَال: عدوهم.
وَقَوله: " إِلَّا زحفا " أَي أَنهم يعجزون عَن الْمَشْي
فيزحفون كزحف الصَّبِي الصَّغِير.
والكلاليب جمع كَلوب: وَهُوَ مَعْرُوف.
والمخدوش من الخدش: وَهُوَ الْإِصَابَة بأثر قريب، ثمَّ
ينجو على مَا بِهِ.
والمكدوس فِي النَّار: الْملقى فِيهَا.
والخريف: المُرَاد بِهِ هَاهُنَا السّنة.
355 - / 421 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: من الْفِتَن:
" ثَلَاثَة لَا يكدن يذرن شَيْئا ". أَي لعظمهن.
(1/398)
وَقَوله: " ومنهن فتن كرياح الصَّيف ". أَي
فِيهَا بعض الشدَّة، وَإِنَّمَا خص الصَّيف لِأَن ريَاح
الشتَاء أقوى.
قَوْله: فَذهب أُولَئِكَ الرَّهْط كلهم غَيْرِي. يَعْنِي
الَّذِي سمعُوا هَذَا. والرهط: الْعِصَابَة دون الْعشْرَة.
وَيُقَال: بل إِلَى الْأَرْبَعين.
356 - / 422 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: قَالَ رجل:
لَو أدْركْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاتَلت
مَعَه فأبليت. فَقَالَ حُذَيْفَة: أَنْت كنت تفعل ذَلِك؟ .
فِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه أَنه لَا يَنْبَغِي
للْإنْسَان أَن يَدعِي شَيْئا لَا يدْرِي كَيفَ يكون
فِيهِ، فَإِن الصَّحَابَة مَعَ جدهم فِي طلب الشَّهَادَة
توقفوا عَن إجابتهم يَوْم الخَنْدَق حَتَّى قَالَ: " من
يأتيني بِخَبَر الْقَوْم " حَتَّى عين على حُذَيْفَة.
وَقَوله: " لَا تذعرهم " أَي لَا تظهر لَهُم، وَليكن ذهابك
فِي سر. والذعر: الْخَوْف.
وَقَوله: كَأَنِّي أَمْشِي فِي حمام، يُشِير إِلَى حرارة
الْخَوْف.
وَيُصلي ظَهره: يدفئه.
وَقَوله: قررت: أَي أصابني القر.
وَالْعِبَادَة والعباية من الأكسية، كَذَلِك قَالَ ابْن
فَارس.
(1/399)
وَقَوله: " يَا نومان " أَي يَا كثير
النّوم، لِأَن بِنَاء " فعلان " للْمُبَالَغَة كسكران.
(1/400)
|