كشف المشكل من حديث الصحيحين

كشف الْمُشكل من مُسْند أبي مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ

أسلم بِمَكَّة، وَهَاجَر إِلَى أَرض الْحَبَشَة، ثمَّ قدم مَعَ أهل السفينتين وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخَيْبَر. وَبَعْضهمْ يُنكر هجرته إِلَى الْحَبَشَة.
وروى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثلثمِائة وَسِتِّينَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَمَانِيَة وَسِتُّونَ.
357 - / 425 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الثَّانِي: " من صلى البردين دخل الْجنَّة ".
البردان: الْغَدَاة وَالْعصر، سميا بالبردين لِأَنَّهُمَا يصليان فِي بردي النَّهَار: وهما طرفاه حِين تذْهب سُورَة الْحر.
358 - / 426 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " وَمَا بَين الْقَوْم وَبَين أَن ينْظرُوا إِلَى رَبهم إِلَّا رِدَاء الْكِبْرِيَاء على وَجهه فِي جنَّة عدن ".
هَذَا يرجع إِلَى الرَّائِي وَهُوَ كَونه فِي جنَّة عدن لَا إِلَى المرئي، لِأَن المرئي لَا تحيط بِهِ الْأَمْكِنَة. ورداء الْكِبْرِيَاء: مَا لَهُ من الْكبر وَالْعَظَمَة،

(1/401)


وَكَأَنَّهُ يَقُول: إِن مَنعهم فلعظمته وَإِن شَاءَ كشف لَهُم بجوده وَكَرمه.
359 - / 429 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: قَالَ معَاذ: يَا أَبَا مُوسَى، كَيفَ تقْرَأ الْقُرْآن؟ قَالَ: أتفوقه تفوقا على فِرَاشِي وَفِي صَلَاتي.
أتفوقه: أَي أفرق حزبي تَخْفِيفًا على نَفسِي فَأَقْرَأهُ فِي مَرَّات لَا فِي مرّة وَاحِدَة، مَأْخُوذ من فوَاق النَّاقة، فَإِنَّهَا تحلب ثمَّ تتْرك حَتَّى تدر، ثمَّ تحلب وقتا بعد وَقت ليَكُون أدر للبنها.
وَقَول معَاذ: أحتسب فِي نومتي مَا أحتسب فِي قومتي. كَلَام فَقِيه، فَإِن الْإِنْسَان إِذا نوى بنومه إِعْطَاء بدنه حَقه والتقوي بذلك على الْعَمَل صَار النّوم كَأَنَّهُ تعبد، وأثيب عَلَيْهِ.
وَقَوله: " لَا نولي هَذَا الْعَمَل أحدا سَأَلَهُ " وَهَذَا لِأَن الْحِرْص على الْولَايَة فِيهِ تُهْمَة وَدَلِيل على حب الدُّنْيَا، فَيَنْبَغِي أَن يحذر خَاطب الْولَايَة. وَمن هَذَا الْجِنْس قَول بعض الْحُكَمَاء: إِذا هرب الزَّاهِد من النَّاس فاطلبه، وَإِذا طَلَبهمْ فاهرب مِنْهُ.
وقلصت الشّفة: ارْتَفَعت.
والمخلاف لأهل الْيمن كالرستاق، والمخاليف: الرساتيق.
360 - / 430 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " على كل مُسلم صَدَقَة ".
وَقد سبق شرح هَذَا الْمَعْنى فِي مُسْند أبي ذَر.

(1/402)


361 - / 433 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: برِئ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الصالقة والحالقة والشاقة.
الصلق: الصياح الشَّديد، وَكَذَلِكَ السلق، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {سلقوكم بألسنة حداد} [الْأَحْزَاب: 19] فالصالقة: الصائحة بالصوت الشَّديد. والحالقة: الَّتِي تحلق شعرهَا للمصيبة. والشاقة: الَّتِي تخرق الثِّيَاب للمصاب.
362 - / 434 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: أَمر لنا بِثَلَاث ذود غر الذرا.
حكى ابْن السّكيت عَن الْأَصْمَعِي أَنه قَالَ: الذود: مَا بَين الثَّلَاث إِلَى الْعشْر، وَلَا يُقَال ذود إِلَّا للنوق. وَقَالَ أَبُو زيد: بل يُقَال للذكور وَالْإِنَاث.
وَقَوله: غر الذرا. يُرِيد أَن ذرا الأسمنة مِنْهُنَّ بيض من سمنهن. والذرا جمع ذرْوَة، وذروة كل شَيْء أَعْلَاهُ.
وَقَوله: أُتِي بِنَهْب إبل. يُرِيد بالنهب الْمغنم.
وَقَوله: أَغْفَلنَا رَسُول الله يَمِينه. أَي غفل عَن يَمِينه بِسَبَب سؤالنا.
قَوْله: " وَمَا أَنا حملتكم وَلَكِن الله حملكم " فِيهِ ثَلَاثَة أوجه:

(1/403)


أَحدهَا: أَن يكون نَاسِيا ليمينه لما أَمر لَهُم بِالْإِبِلِ فَيكون كَقَوْلِه للصَّائِم: " الله أطعمك وسقاك ".
وَالثَّانِي: أَن يقْصد إِفْرَاد الْحق عز وَجل بالمنن.
وَالثَّالِث: أَن الله تَعَالَى لما سَاق هَذِه الْإِبِل فِي وَقت حَاجتهم كَانَ هُوَ الْحَامِل.
363 - / 437 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: " اشفعوا تؤجروا ".
والشفاعة: سُؤال الشَّفِيع يشفع سُؤال الْمَشْفُوع فِيهِ، وَالْمرَاد من الحَدِيث أَنكُمْ تؤجرون فِي الشَّفَاعَة وَإِن لم تقض الْحَوَائِج.
364 - / 439 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: " من مر وَمَعَهُ نبل فليقبض على نصالها بكفه ".
النصال جمع نصل، والنصل: حَدِيدَة السهْم.
وَقَوله: فَمَا متْنا حَتَّى سددنا بَعْضهَا فِي وُجُوه بعض. يُقَال: سددت إِلَيْهِ السهْم: أَي قصدت بِهِ قَصده. وَالْمعْنَى: اقتتلنا بهَا، وَالْإِشَارَة إِلَى الْفِتَن الَّتِي جرت بَينهم.
365 - / 440 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: " من حمل علينا السِّلَاح فَلَيْسَ منا ".
من حمل السِّلَاح على الْمُسلمين لكَوْنهم مُسلمين فَلَيْسَ بِمُسلم، فَأَما إِذا لم يحمل السِّلَاح لأجل الْإِسْلَام فقد اخْتلف الْعلمَاء فِي معنى

(1/404)


قَوْله: " فَلَيْسَ منا " فَقَالَ أَبُو عبيد لَيْسَ متخلقا بأخلاقنا وأفعالنا. وَقَالَ غَيره: لَيْسَ من أهل ديننَا. وَقَالَ قوم: لَيْسَ مثلنَا.
366 - / 441 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: " إِن هَذِه النَّار عَدو لكم فَإِذا نمتم فأطفئوها ".
لما كَانَ الْأَذَى يَقع من الْعَدو وَمن النَّار حسن التَّشْبِيه، وَإِن وَقع الْفرق بِالْقَصْدِ وَعَدَمه.
467 - / 442 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: " الْمُؤمن لِلْمُؤمنِ كالبنيان يشد بعضه بَعْضًا " وَشَبك بَين أَصَابِعه.
ظَاهره الْإِخْبَار وَمَعْنَاهُ الْأَمر، وَهُوَ تحريض على التعاون.
368 - / 443 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: " فَذهب وهلي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَة ".
أَي وهمي، وَالْمعْنَى: ظَنَنْت.
369 - / 445 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: أعتم بِالصَّلَاةِ: أَي أَخّرهَا.
وابهار اللَّيْل: انتصف أَو قَارب.
وَالرسل: التمهل.

(1/405)


370 - / 446 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: " من أحب لِقَاء الله أحب الله لقاءه، وَمن كره لِقَاء الله كره الله لقاءه ".
وَرُبمَا ظن ظان أَن كَرَاهِيَة الْمَوْت تُؤثر فِي لِقَاء الله، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَسَيَأْتِي مكشوفا فِي مُسْند عَائِشَة.
371 - / 447 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: خسفت الشَّمْس على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " افزعوا إِلَى ذكر الله ".
معنى خسفت: انكسفت.
وَيُقَال: فزعت إِلَى كَذَا: إِذا لجأت إِلَيْهِ، وفزعت من كَذَا: إِذا خفته.
وَفِي قَوْله: " لَا يكون لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ " إبِْطَال لما كَانَ عَلَيْهِ أهل الْجَاهِلِيَّة، فَإِنَّهُم كَانُوا يَزْعمُونَ أَن ذَلِك يُوجب حُدُوث حوادث كَمَا يَقُول المنجمون.
فَإِن قيل: مَا فَائِدَة حُدُوث الْكُسُوف؟
فَفِيهِ سبع فَوَائِد:
أَحدهَا: ظُهُور التَّصَرُّف فِي الشَّمْس وَالْقَمَر. وَالثَّانيَِة: أَن يتَبَيَّن عِنْد شينها قبح شَأْن من يَعْبُدهَا.
وَالثَّالِثَة: أَن تنزعج الْقُلُوب المساكنة للغفلة عَن مسكن الذهول؛ فَإِن المواعظ تزعج الْقلب الغافل.
وَالرَّابِعَة: ليرى النَّاس أنموذج مَا سيجري فِي الْقِيَامَة من قَوْله تَعَالَى:

(1/406)


{وَخسف الْقَمَر وَجمع الشَّمْس وَالْقَمَر} [الْقِيَامَة: 8، 9] .
وَالْخَامِسَة: أَنَّهُمَا يؤخذان على حَال التَّمام فيوكسان ثمَّ يلطف بهَا فيعادان إِلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ، فيشار بذلك إِلَى خوف الْمَكْر ورجاء الْعَفو.
وَالسَّادِسَة: أَن يفعل بهما صُورَة عِقَاب من لَا ذَنْب لَهُ ليحذر ذُو الذَّنب.
وَالسَّابِعَة: أَن الصَّلَوَات المفروضات عِنْد كثير من الْخلف عَادَة لَا انزعاج لَهُم فِيهَا وَلَا وجود هَيْبَة، فَأتى بِهَذِهِ الْآيَة وسنت لَهَا الصَّلَاة ليفعلوا صَلَاة على انزعاج وهيبة.
372 - / 448 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أَشْيَاء كرهها، فَلَمَّا أَكثر عَلَيْهِ غضب ثمَّ قَالَ: " سلوني عَمَّا شِئْتُم " فَقَالَ رجل: من أبي؟ فَقَالَ: " أَبوك حذافة ".
إِنَّمَا قَالَ: " سلوني عَمَّا شِئْتُم " غَضبا. فَإِن قيل: فَجَوَابه حكم وَقد قَالَ: " لَا يقْضِي القَاضِي بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان " فَالْجَوَاب أَنه لما كَانَ مَعْصُوما من الزلل تساوى غَضَبه وَرضَاهُ فِي أَنه لَا يَقُول إِلَّا الْحق، وَلِهَذَا قَالَ لعبد الله بن عَمْرو وَقد سَأَلَهُ: أكتب عَنْك مَا تَقول فِي السخط وَالرِّضَا؟ قَالَ: " نعم ".
373 - / 449 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: فنقبت أقدامنا، فَكُنَّا نلف على أَرْجُلنَا الْخرق، فسميت غَزْوَة ذَات الرّقاع، ثمَّ كره أَبُو

(1/407)


مُوسَى إِظْهَار هَذَا.
نقبت بِمَعْنى تقرحت وورمت. وَهَذِه الْغُزَاة كَانَت فِي السّنة الرَّابِعَة من الْهِجْرَة.
وَإِنَّمَا نَدم على إِظْهَار عمله لِأَن عمل السِّرّ يزِيد على عمل الْعَلَانِيَة سبعين ضعفا، وَكَانَ سُفْيَان الثَّوْريّ يَقُول: إِن العَبْد ليعْمَل الْعَمَل سرا، وَلَا يزَال بِهِ الشَّيْطَان حَتَّى يتحدث بِهِ، فينقل من ديوَان السِّرّ إِلَى ديوَان الْعَلَانِيَة. إِلَّا أَن مَقْصُود أبي مُوسَى إِعْلَام النَّاس بصبر الصَّحَابَة ليقتدوا بهم، فيثاب على إِظْهَار هَذَا بِهَذِهِ النِّيَّة.
374 - / 451 - أما الحَدِيث السَّابِع وَالْعشْرُونَ: فقد فسرناه فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
375 - / 452 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: " إِمَّا أَن يحذيك ".
أَي يهب لَك الشَّيْء من ذَلِك. يُقَال: أحذيت الرجل أحذيه: إِذا أَعْطيته الشَّيْء وأتحفته بِهِ.
376 - / 453 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: " وَأَنا النذير الْعُرْيَان ".
الرِّوَايَة بالراء من العري، وَذَلِكَ أَن الربيئة للْقَوْم إِذا كَانَ على مَكَان عَال فَبَصر بالعدو نزع ثَوْبه فألاح بِهِ ينذر، فَيبقى عُريَانا. وَقَالَ بعض أهل اللُّغَة: عري النذير أبلغ فِي الْإِنْذَار؛ لِأَن الْجَيْش إِذا رَأَوْهُ

(1/408)


عُريَانا علمُوا أَن الْأَمر عَظِيم، وأنشدوا:
(لَيْسَ النذير الَّذِي يَأْتِيك مؤتزرا ... مثل النذير الَّذِي يَأْتِيك عُريَانا)

قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: وَقد رُوِيَ لنا: " وَأَنا النذير العربان " بِالْبَاء، فَإِن كَانَ ذَلِك مَحْفُوظًا فَمَعْنَاه المفصح بالإنذار لايكني وَلَا يوري. يُقَال رجل عربان: أَي فصيح اللِّسَان، وَيُقَال: أعرب الرجل بحاجته: إِذا أفْصح بهَا.
وَقَوله: فأدلجوا، إِذا خففت الدَّال كَانَ معنى الْكَلِمَة قطع اللَّيْل كُله بالسير، وَإِذا شددت الدَّال فَهُوَ السّير من آخر اللَّيْل.
وَمعنى اجتاحهم استأصلتهم، وَمِنْه الْجَائِحَة الَّتِي تفْسد الثِّمَار وتهلكها.
377 - / 454 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: " إِن مثل مَا بَعَثَنِي الله بِهِ من الْهدى وَالْعلم كَمثل غيث أصَاب أَرضًا، فَكَانَت مِنْهَا طَائِفَة طيبَة قبلت المَاء فأنبتت الْكلأ والعشب الْكثير، وَكَانَ مِنْهَا أجادب أَمْسَكت المَاء فنفع الله بهَا النَّاس، وَأصَاب طَائِفَة إِنَّمَا هِيَ قيعان ".

(1/409)


قَوْله: " فَكَانَت مِنْهَا طَائِفَة " هَذَا اللَّفْظ الَّذِي ذكره الْحميدِي، وَقد رَوَاهُ البُخَارِيّ بِلَفْظ آخر لم يذكرهُ الْحميدِي: " وَكَانَ مِنْهَا ثغبة " بالثاء والغين الْمُعْجَمَة، والثغبة مستنقع المَاء فِي الْجبَال والصخور، وَهُوَ الثغب أَيْضا. وَقد رَوَاهُ أَحْمد فِي " الْمسند ": " فَكَانَت مِنْهَا طَائِفَة نقية " بِالْقَافِ.
وَأما الأجادب فَهِيَ من الجدب واليبس، وَهَذَا الْمَحْفُوظ فِي الرِّوَايَة. والْحَدِيث يدل على أَن المُرَاد الأَرْض الصلبة الَّتِي تمسك المَاء، وَقَالَ قوم: إِنَّمَا هِيَ أجارد، وَهِي الْمَوَاضِع المتجردة من النَّبَات. وَقد رَوَاهُ أَبُو سُلَيْمَان البستي من طَرِيق أبي كريب فَقَالَ: أُحَارب بِالْحَاء وَالرَّاء، وَلَيْسَ بِشَيْء، قَالَ: وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا هِيَ إخاذات، سَقَطت مِنْهَا الْألف، واحدتها إخاذة: وَهِي الَّتِي تمسك المَاء، وَالرِّوَايَة هِيَ الأولى.
والقيعان جمع قاع.
وَهَذِه أَمْثَال ضربت، فَالْأول: لمن يقبل الْهدى وَيعلم غَيره فينتفع وينفع، وَالثَّانِي: لمن ينفع غَيره بِالْعلمِ وَلَا ينْتَفع. وَالثَّالِث: لمن لَا ينفع وَلَا ينْتَفع. وَيحْتَمل أَن يشار بالطائفة الأولى إِلَى الْعلمَاء بِالْحَدِيثِ وَالْفِقْه، فَإِنَّهُم حفظوا الْمَنْقُول واستنبطوا، فَعم نفعهم. ويشار بالطائفة الْأُخْرَى إِلَى من نقل الحَدِيث وَلم يفهم مَعَانِيه وَلَا تفقه، فَهُوَ يحفظ الْأَلْفَاظ وينقلها إِلَى من ينْتَفع بهَا. ويشار بالقيعان إِلَى من لم يتَعَلَّق بِشَيْء من الْعلم.
378 - / 455 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: على سَرِير مرمل.

(1/410)


أَي منسوج بالسعف. وَقد شرحنا هَذَا فِي مُسْند عمر.
379 - / 457 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ولد لي غُلَام فَأتيت بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَماهُ إِبْرَاهِيم وحنكه بتمرة.
قَالَ أَبُو عبيد: يُقَال: حنكت الصَّبِي وحنكته بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد، فَهُوَ محنوك ومحنك: إِذا مضغت التَّمْر ثمَّ دلكته بحنكه. قَالَ الزّجاج: والحنك سقف الْفَم الْأَعْلَى.
وَفِي هَذَا الحَدِيث تَسْمِيَة الْمَوْلُود قبل السَّابِع على خلاف حَدِيث سَمُرَة.
380 - / 458 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: وَافَقنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين افْتتح خَيْبَر، فَأَسْهم لنا وَمَا أسْهم لأحد غَابَ عَن خَيْبَر مِنْهَا شَيْئا إِلَّا لأَصْحَاب سَفِينَتنَا.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون أَعْطَاهُم عَن رضى مِمَّن شهد الْوَقْعَة أَو من الْخمس الَّذِي هُوَ حَقه.
381 - / 460 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: " وَمِنْهُم حَكِيم إِذا لَقِي الْخَيل قَالَ لَهُم: إِن أَصْحَابِي يأمرونكم أَن تنظروهم ".

(1/411)


أَي تنتظروهم، وَالْمعْنَى: لَا تَبْرَحُوا، وَالْمَقْصُود شجاعته.
382 - / 461 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: " إِن الْأَشْعَرِيين إِذا أرملوا فِي الْغَزْو أَو قل طَعَام عِيَالهمْ بِالْمَدِينَةِ جمعُوا مَا كَانَ عِنْدهم فِي ثوب ثمَّ اقتسموه بَينهم بِالسَّوِيَّةِ، فهم مني وَأَنا مِنْهُم ".
أرملوا: قلت أَزْوَادهم، فمدحهم بالإيثار والمواساة، وأضافهم إِلَيْهِ لِأَنَّهُ غايه الْكَرم، فَقَالَ: " هم مني " يَعْنِي بأفعالهم وَإِن لم يَكُونُوا من أَقَاربه، قَالَ الشَّاعِر:
(وَقلت: أخي، قَالُوا: أَخ ذُو قرَابَة! " ... فَقلت: لَهُم: إِن الشكول أقَارِب)

(نسيبي فِي رَأْيِي وعزمي ومذهبي ... وَإِن خالفتنا فِي الْأُمُور الْمُنَاسب)

383 - / 462 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا يثني على رجل ويطريه فِي الْمَدْح، فَقَالَ: " أهلكتم - أَو قطعْتُمْ - ظهر الرجل ".
الإطراء: الإفراط فِي الْمَدْح، وَلَا يَخْلُو من الْكَذِب. وَأَشَارَ بقوله: " قطعْتُمْ ظهر الرجل " إِلَى تأذيه فِي دينه، فَجعله كَقطع ظَهره.
وَاعْلَم أَن الْمَدْح يشْتَمل على آفتين: إِحْدَاهمَا تتَعَلَّق بالمادح وَهِي الْكَذِب الَّذِي لَا يكَاد يتَخَلَّص مِنْهُ. وَالثَّانيَِة تتَعَلَّق بالممدوح وَهِي تحريكه إِلَى التكبر بفضائله، والطبع كَاف فِي جلب الْكبر وَغَيره من الشَّرّ فَيحْتَاج إِلَى مقاومة تضاده، فَإِذا جَاءَ الْمَدْح أعَان الطَّبْع فَزَاد الْفساد.

(1/412)


384 - / 463 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: جلس على بِئْر أريس وتوسط قفها.
أريس: بِئْر مَعْرُوفَة بِالْمَدِينَةِ. والقف مَا يبْنى حول الْبِئْر ليجلس عَلَيْهِ الْجَالِس.
والحائط: الْبُسْتَان.
385 - / 468 - وَفِي الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: " اربعوا على أَنفسكُم " أَي ارفقوا بهَا.
وَمعنى لَا حول: لَا حِيلَة، يُقَال: مَا لَهُ حِيلَة، وَمَاله حول، وَمَاله احتيال، وَمَاله محتال، وَمَاله محَالة.
386 - / 469 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: قدمت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ منيخ بالبطحاء فَقَالَ لي: " بِمَ أَهلَلْت؟ " قلت: أَهلَلْت بإهلال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: " هَل سقت من هدي؟ " قلت: لَا، قَالَ: " فَطُفْ بِالْبَيْتِ وبالصفا والمروة ثمَّ حل ".
كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أهل بِالْحَجِّ وسَاق الْهَدْي فَمَا أمكنه أَن يحل حَتَّى يتم الْحَج، فَأمر من لم يسق الْهَدْي من أَصْحَابه أَن يفْسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة وَيحل ثمَّ يهل بعد ذَلِك بِالْحَجِّ.
وَقَوله: أَهلَلْت بإهلال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يدل على جَوَاز إرْسَال النِّيَّة من غير تعْيين النَّوْع الَّذِي يُريدهُ من أَنْوَاع الْحَج، ثمَّ لم تَعْيِينه عِنْد

(1/413)


إِرَادَة الشُّرُوع فِي الْأَعْمَال. وَيحْتَمل أَن يكون أَبُو مُوسَى سَأَلَ عَن حَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبر أَنه قَارن فَنوى الْقرَان، فَلَمَّا سَأَلَهُ قَالَ: أَهلَلْت بِمَا أَهلَلْت بِهِ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن مُفردا؛ لِأَن الْهَدْي إِنَّمَا يجب على الْمُتَمَتّع والقارن.
387 - / 470 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ يَوْم عَاشُورَاء يَوْمًا تعظمه الْيَهُود.
قَالَ شَيخنَا أَبُو مَنْصُور اللّغَوِيّ: عَاشُورَاء مَمْدُود، وَلم يجِئ على " فاعولاء " فِي كَلَام الْعَرَب إِلَّا عَاشُورَاء، والضارواء: الضراء، والساروراء: السَّرَّاء، والدالولاء: الدَّالَّة، وخابوراء: مَوضِع. وَهِي القوباء، وكربلاء، وسلاء النّخل: شوكه، الْوَاحِدَة سلاءة، كل ذَلِك مَمْدُود.
وَقَوله: " شارتهم " الشارة: مَا يتجمل بِهِ من اللبَاس.
388 - / 471 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: " وَفضل عَائِشَة على النِّسَاء كفضل الثَّرِيد ".

(1/414)


الْعَرَب تفضل الثَّرِيد لِأَنَّهُ أسهل فِي التَّنَاوُل، وَلِأَنَّهُ يَأْخُذ جَوْهَر المرق.
389 - / 472 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: " لَا أحد أصبرعلى أَذَى سَمعه من الله عز وَجل ".
الصَّبْر: الْحَبْس، وَالْمعْنَى لَا أحد يحبس الْعقُوبَة عَن مخالفه مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ كالحق عز وَجل، فَإِنَّهُ يُمْهل الْمُشرك والعاصي.
390 - / 473 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: " لقد أُوتيت مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد " وَفِي رِوَايَة: لَو علمت أَنَّك تسمع قراءتي لحبرته لَك تحبيرا.
المُرَاد بالمزمار طيب الصَّوْت، وَذكر الْآل صلَة، وَالْمعْنَى من مَزَامِير دَاوُد. ويروى أَنه كَانَ إِذا قَرَأَ دَاوُد وقف الطير.
والتحبير: التحسين والتزيين، والمحبر: الشَّيْء المزين، وَكَانَ يُقَال لطفيل المحبر، لِأَنَّهُ كَانَ يحبر الشّعْر.
وَفِي هَذَا جَوَاز تَحْسِين الصَّوْت وتجويد التِّلَاوَة لأجل انْتِفَاع السامعين، وَلَا يُقَال إِن زِيَادَة التجويد فِي ذَلِك رِيَاء لأجل الْخلق إِذا كَانَ الْمَقْصُود اجتذاب نفعهم: فَأَما الألحان الَّتِي يصنعها قراء هَذَا الزَّمَان فمكروهة عِنْد الْعلمَاء، لِأَنَّهَا مَأْخُوذَة من طرائق الْغناء.

(1/415)


391 - / 475 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد البُخَارِيّ: " مثل الْمُسلمين وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى كَمثل رجل اسْتَأْجر قوما يعْملُونَ لَهُ عملا إِلَى اللَّيْل على أجر مَعْلُوم، فعملوا لَهُ إِلَى نصف النَّهَار، فَقَالُوا: لَا حَاجَة لنا إِلَى أجرك الَّذِي شرطت لنا، وَمَا عَملنَا بَاطِل، واستأجر آخَرين فَقَالَ: أكملوا بَقِيَّة يومكم هَذَا وَلكم الَّذِي شرطت لَهُم من الْأجر، فعملوا حَتَّى إِذا كَانَ حِين صَلَاة الْعَصْر قَالُوا: مَا عَملنَا بَاطِل وَلَك الْأجر الَّذِي جعلت لنا، فاستأجر قوما فعملوا بَقِيَّة يومهم حَتَّى غَابَتْ الشَّمْس واستكملوا أُجْرَة الْفَرِيقَيْنِ، فَذَلِك مثلهم وَمثل مَا قبلوا من هَذَا النُّور ".
هَذَا مثل مَضْرُوب لعمل الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَإِن الْيَهُود طَال زمن عَمَلهم وَزَاد على مُدَّة النَّصَارَى، وَلِأَنَّهُ كَانَ بَين مُوسَى وَعِيسَى - فِي رِوَايَة أبي صَالح ابْن عَبَّاس - ألف سنة وسِتمِائَة سنة وَاثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سنة، وَفِي قَول ابْن إِسْحَق ألف سنة وَتِسْعمِائَة وتسع عشرَة سنة، وَلَا يخْتَلف النَّاس أَنه كَانَ بَين عِيسَى وَنَبِينَا صلى الله عَلَيْهِمَا سِتّمائَة سنة، فَلهَذَا جعل عمل الْيَهُود من أول النَّهَار إِلَى وَقت الظّهْر، وَجعل عمل النَّصَارَى من الظّهْر إِلَى الْعَصْر. ثمَّ قد اتّفق أَيْضا تَقْدِيم الْيَهُود على النَّصَارَى فِي الزَّمَان مَعَ طول عمل أُولَئِكَ وَقصر عمل هَؤُلَاءِ. فَأَما عمل الْمُسلمين فَإِنَّهُ جعل مَا بَين الْعَصْر إِلَى الْمغرب، وَذَاكَ أقل الْكل فِي مُدَّة الزَّمَان.
فَرُبمَا قَالَ قَائِل: فَهَذِهِ الْأمة قد قاربت سِتّمائَة سنة من بعثة

(1/416)


رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكيف يكون زمانها أقل؟
فَالْجَوَاب: أَن عَملهَا أسهل، وأعمار الْمُكَلّفين أقصر، والساعة إِلَيْهِم أقرب، فَجَاز لذَلِك أَي يقلل زمَان عَمَلهم.
والنور: الْإِسْلَام وَالْقُرْآن.
392 - / 477 _ وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " وفكوا العاني ".
يَعْنِي الْأَسير، وفكاكه: السَّعْي فِي إِطْلَاقه.
393 - / 478 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
" إِن أَبْوَاب الْجنَّة تَحت ظلال السيوف ".
هَذَا مثل، وَالْمرَاد بِهِ أَن دُخُول الْجنَّة يكون بِالْجِهَادِ. والظلال جمع ظلّ، فَإِذا دنا الشَّخْص من الشَّخْص صَار تَحت ظلّ سَيْفه.
وَقَوله: فَقَامَ رجل فَكسر جفن سَيْفه - يَعْنِي الغمد. وَإِنَّمَا كسر الغمد على عزم أَلا يغمد السَّيْف، وَهَذَا الرجل كَانَ صَاحب همة عالية، فَلَمَّا صحت عِنْده الْفَضِيلَة جد نَحْوهَا.
394 - / 480 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كثيرا مِمَّا يرفع رَأسه إِلَى السَّمَاء.
فِي هَذَا دَلِيل على اسْتِحْبَاب النّظر إِلَى السَّمَاء لمَكَان الِاعْتِبَار بهَا،

(1/417)


وَقد قَالَ عز وَجل: {قل انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} [يُونُس: 101] {أفلم ينْظرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقهم كَيفَ بنيناها} [ق: 6] وَفِي هَذَا رد على جهلة المتعبدين الَّذين وصفوا بِأَن أحدهم بَقِي سِنِين لَا يرفع رَأسه إِلَى السَّمَاء حَيَاء من الله عز وَجل، وَلَوْلَا جهل هَؤُلَاءِ لعلموا أَن إطراقهم إِلَى الأَرْض فِي بَاب الْحيَاء كرفع الْأَبْصَار إِلَى السَّمَاء، وَلَكِن الْجَهْل يتلاعب بالعباد والزهاد، فَلَا يخلص مِنْهُ إِلَّا علماؤهم.
وَقَوله: " أَنا أَمَنَة لِأَصْحَابِي " الأمنة: الْأَمْن.
وَقَوله: " أَتَى السَّمَاء مَا توعد " إِشَارَة إِلَى تشققها وذهابها.
وَقَوله: " أَتَى أَصْحَابِي مَا يوعدون " إِشَارَة إِلَى وُقُوع الْفِتَن، وَكَذَلِكَ عِنْد ذهَاب أَصْحَابه. وَالْإِشَارَة إِلَى مَجِيء الشَّرّ عِنْد ذهَاب أهل الْخَيْر، فَإِنَّهُ لما كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام بَين أظهرهم كَانَ يبين مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَيَدْعُو إِلَى الصَّوَاب، فَلَمَّا عدم جالت الاراء وَاخْتلفت، إِلَّا أَن كل صَحَابِيّ يسند القَوْل إِلَى الرَّسُول فِي قَول أَو فعل أَو دلَالَة حَال، فَلَمَّا فقدت الصَّحَابَة قل النُّور وقويت الظُّلم.
395 - / 281 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة نَاس من الْمُسلمين بذنوب أَمْثَال الْجبَال يغفرها الله لَهُم ويضعها على الْيَهُود وَالنَّصَارَى ".
فَإِن قيل: كَيفَ يكون هَذَا وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} [فاطر: 18] 417 فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:

(1/418)


احدهما: أَن يكون الْمَعْنى يعذب بِمِثْلِهَا الْيَهُود وَالنَّصَارَى من أَفعَال الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَكَأَنَّهُ سامح الْمُسلمين فِي شَيْء لم يسامح بِهِ غَيرهم.
وَالثَّانِي: أَن يُضَاعف عِقَاب الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَيكون بِقدر جرمهم وجرم غَيرهم، وَله أَن يُضَاعف ويخفف.
396 - / 482 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " الْمُؤمن يَأْكُل فِي معى وَاحِد، وَالْكَافِر يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء ".
المعى مَقْصُورَة وَجَمعهَا أمعاء ممدودة. قَالَ الْفراء: جَاءَ فِي الحَدِيث معى وَاحِدَة، وَوَاحِد أعجب إِلَيّ، وَأكْثر كَلَام الْعَرَب تذكره، وَرُبمَا أنثوه كَأَنَّهُ وَاحِد دلّ على جمع، قَالَ الْقطَامِي:
(كَأَن نسوع رحلي حِين ضمت ... حوالب غزرا ومعى جياعا)

وَلِهَذَا الحَدِيث مَعْنيانِ: أَحدهمَا أَن الْمُؤمن يُسَمِّي الله عز وَجل إِذا أكل، فَيحصل لَهُ شَيْئَانِ: الْبركَة فِي الطَّعَام، وَدفع الشَّيْطَان عَنهُ، فَيكون المتناول مِنْهُ قَلِيلا، فَكَأَن الْمُؤمن قد أكل فِي معى وَاحِد، وَالْكَافِر لَا يُبَارك لَهُ لعدم التَّسْمِيَة، ويتناول الشَّيْطَان مَعَه فَيذْهب من الطَّعَام كثير، فَكَأَنَّهُ قد أكل فِي سَبْعَة أمعاء.
وَالثَّانِي: أَن الْمُؤمن لاستشعاره الْخَوْف، وَنَظره فِي حل الْمطعم، وحذره من حِسَاب الْكسْب، يقل أكله، وَالْكَافِر لَا يهتم بِشَيْء من

(1/419)


ذَلِك فيكثر أكله، وَلِهَذَا الْمَعْنى ترى من قوي خَوفه وحزنه نحيلا، بِخِلَاف أهل الغفلات.
وَقَالَ أَبُو حَامِد الطوسي: معنى هَذَا الحَدِيث أَن الْكَافِر يَأْكُل سَبْعَة أَضْعَاف مَا يَأْكُلهُ الْمُؤمن، أَو تكون شَهْوَته سَبْعَة أَضْعَاف شَهْوَته، فَيكون المعى كِنَايَة عَن الشَّهْوَة، لِأَن الشَّهْوَة هِيَ الَّتِي تقبل الطَّعَام وتأخذه كَمَا تَأْخُذهُ المعى، وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ زِيَادَة عدد معى الْكَافِر على معى الْمُؤمن.
وَقد ذهب أَبُو عبيد إِلَى أَن هَذَا الحَدِيث خَاص فِي رجل بِعَيْنِه كَانَ يكثر الْأكل قبل إِسْلَامه ثمَّ أسلم فنقص ذَلِك، فَذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ فِيهِ هَذَا. وَأهل مصر يروون أَنه أَبُو بصرة الْغِفَارِيّ، قَالَ: وَلَا نعلم للْحَدِيث وَجها غير هَذَا، لِأَنَّك تَجِد من الْمُسلمين من يكثر أكله، وَمن الْكفَّار من يقل أكله. وَقد روى عَطاء بن يسَار عَن جَهْجَاه الْغِفَارِيّ أَنه قدم فِي نفر من قومه يُرِيدُونَ الْإِسْلَام، فَحَضَرُوا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمغرب، فَلَمَّا سلم قَالَ: " ليَأْخُذ كل رجل مِنْكُم بيد جليسه " قَالَ: فَلم يبْق فِي الْمَسْجِد غير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وغيري، فَذهب بِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى منزله، فَحلبَ لي عَنْزًا فَأتيت عَلَيْهَا، حَتَّى حلب لي سَبْعَة أعنز فَأتيت عَلَيْهَا، فَلَمَّا أسلمت دَعَاني إِلَى منزله فَحلبَ لي عَنْزًا فرويت وشبعت، فَقَالَت أم أَيمن: يَا رَسُول الله، أَلَيْسَ هَذَا ضيفنا؟ قَالَ: " بلَى، وَلكنه أكل فِي معى مُؤمن اللَّيْلَة وَأكل قبل ذَلِك فِي معى كَافِر، وَالْكَافِر يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء " قلت: وَإِن كَانَ

(1/420)


هَذَا الحَدِيث ورد على سَبَب فلفظه عَام، ثمَّ إِذا حمل على كَافِر بِعَيْنِه فِي أَنه يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء فَكيف يصنع بِالْمُؤمنِ الْكثير الْأكل، وَإِنَّمَا الْكَلَام وَاقع على الْأَغْلَب، وَالسَّبَب مَا ذكرته لَك وَلَا اعْتِبَار بالنادر.
397 - / 483 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " فَجعله لَهَا فرطا ".
الفرط والفارط: الَّذِي يتَقَدَّم إِلَى المَاء لإِصْلَاح مَا يرد عَلَيْهِ أَصْحَابه.
398 - / 484 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " إِذا عطس أحدكُم فَحَمدَ الله فشمتوه، وَإِذا لم يحمد الله فَلَا تشمتوه ".
قَالَ أَبُو عبيد: التشميت: الدُّعَاء، كَقَوْلِك: يَرْحَمك الله، وكل دَاع بِخَير فَهُوَ مشمت ومسمت، بالشين وَالسِّين، والشين أَكثر. وَقَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: اشتقاق التشميت بالشين الْمُعْجَمَة كَأَنَّهُ الدُّعَاء بالتثبيت على طَاعَة الله، مَأْخُوذ من الشوامت وَهِي القوائم، واشتقاق التسميت بِالسِّين الْمُهْملَة من السمت وَهُوَ الْهَدْي، كَأَنَّهُ رده إِلَى سمته وهديه. وَحكى أَبُو عمر بن عبد الْبر قَالَ: قَالَ ثَعْلَب: معنى التشميت: أبعد الله عَنْك الشماته وجنبك مَا يشمت بِهِ عَلَيْك، وَمعنى التسميت: جعلك الله على سمت حسن.
399 - / 485 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: أَن أَبَا مُوسَى اسْتَأْذن على عمر ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لَهُ، فَذهب ثمَّ استدعاه عمر فَقَالَ: مَا ردك؟ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " الاسْتِئْذَان ثَلَاث " فَقَالَ عمر: لتَأْتِيني

(1/421)


بِبَيِّنَة وَإِلَّا فعلت وَفعلت، فجَاء أبي بن كَعْب فَشهد.
اعْلَم أَن عمر لم يشك فِي خبر أبي مُوسَى، وَإِنَّمَا خَافَ أَن يتهجم غَيره مِمَّن يشك فِيهِ على الرِّوَايَة، فأدب الْغَيْر بِطَلَب الْبَيِّنَة من أبي مُوسَى ليحذر من لَا يصلح للرواية كَمَا قيل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} [الزمر: 65] {فَإِن كنت فِي شكّ} [يُونُس: 94] وكما قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " لَو سرقت فَاطِمَة لقطعتها ".
400 - / 486 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: فِي شَأْن سَاعَة الْجُمُعَة: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " هِيَ مَا بَين أَن يجلس الإِمَام إِلَى أَن تقضى الصَّلَاة ".
أما سَاعَة الْجُمُعَة فَسَيَأْتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " فِي الْجُمُعَة سَاعَة لَا يُوَافِقهَا مُسلم يسْأَل ربه شَيْئا إِلَّا أَتَاهُ " وَهَذَا الحَدِيث قد بَين وَقت تِلْكَ السَّاعَة. وَقد روى جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " التموسها آخر السَّاعَات بعد الْعَصْر " وَمن حَدِيث أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " التمسوها فِيمَا بَين صَلَاة الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس " وَفِي حَدِيث كثير بن عبد الله عَن أَبِيه عَن جده أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ: " مَا بَين فرَاغ الإِمَام من الْخطْبَة إِلَى أَن تقضى الصَّلَاة ". وَهَذَا كثير هُوَ ابْن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف بن

(1/422)


زيد بن ملحة الْمُزنِيّ، ويكنى عَمْرو أَبَا عبد الله، وَله صُحْبَة، وَفِي حَدِيث فَاطِمَة بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْهَا فَقَالَ: " إِذا تدلى نصف عين الشَّمْس للغروب " قَالَ أَبُو بكر الْأَثْرَم: لَا تَخْلُو هَذِه الْأَحَادِيث من وَجْهَيْن: إِمَّا أَن بَعْضهَا أصح من بعض. وَإِمَّا أَن تكون هَذِه السَّاعَة تنْتَقل فِي الْأَوْقَات كانتقال لَيْلَة الْقدر فِي ليَالِي الْعشْر.
401 - / 487 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُسَمِّي لنا نَفسه أَسمَاء فَقَالَ: " أَنا مُحَمَّد، وَأحمد، والمقفي، وَنَبِي التَّوْبَة، وَنَبِي المرحمة " وَفِي رِوَايَة: " الملحمة ".
اعْلَم أَن لنبينا ثَلَاثَة وَعشْرين اسْما: مُحَمَّد، وَأحمد، والماحي، والحاشر، وَالْعَاقِب، والمقفي، وَنَبِي الرَّحْمَة، وَنَبِي التَّوْبَة، وَنَبِي الملحمة، وَالشَّاهِد، والمبشر، والنذير، والضحوك، والقتال، والمتوكل، والفاتح، والأمين، والمصطفى، وَالرَّسُول، وَالنَّبِيّ، والأمي، والقثم. فقد جعلُوا هَذِه كلهَا أَسمَاء، وَمَعْلُوم أَن بَعْضهَا صِفَات.
وَمعنى الماحي: الَّذِي يمحى بِهِ الْكفْر. والحاشر: الَّذِي يحْشر النَّاس على قَدَمَيْهِ؛ أَي يقدمهم وهم خَلفه. وَالْعَاقِب: آخر الْأَنْبِيَاء. والمقفي فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ تبع الْأَنْبِيَاء، وكل من تبع شَيْئا فقد قَفاهُ. والمرحمة بِمَعْنى الرَّحْمَة. والملاحم: الحروب. والضحوك صفته فِي التَّوْرَاة، قَالَ ابْن فَارس: وَإِنَّمَا قيل لَهُ الضحوك، لِأَنَّهُ كَانَ طيب

(1/423)


النَّفس فكها، وَقَالَ: " إِنِّي لأمزح ". والقثم من مَعْنيين: أَحدهمَا: من القثم وَهُوَ الْإِعْطَاء، يُقَال: قثم لَهُ من الْعَطاء يقثم: إِذا أعطَاهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام أَجود من الرّيح الهابة. وَالثَّانِي: من القثم وَهُوَ الْجمع، يُقَال للرجل الجموع للخير قثوم وَقثم.
402 - / 488 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: " إِن الله لَا ينَام، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَن ينَام ".
أَي أَن النّوم يَسْتَحِيل عَلَيْهِ.
والقسط: الْعدْل، يُقَال: أقسط يقسط فَهُوَ مقسط: إِذا عدل، وقسط يقسط فَهُوَ قاسط: إِذا جَار. وَيحْتَمل الْكَلَام مَعْنيين: أَحدهمَا: أَن يشبه الْقسْط بميزان، وَالَّذِي يزن يخْفض وَيرْفَع. وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: يخْفض بِالْعَدْلِ وَيرْفَع بِالْعَدْلِ.
وَأما الْحجاب فَيَنْبَغِي أَن يعلم أَنه حجاب الْمَخْلُوق عَنهُ، لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون محجوبا، لِأَن الْحجاب يكون أكبر مِمَّا يستره ويستحيل عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ أَن يكون جسما أَو جوهرا أَو متناهيا محاذيا، إِذْ جَمِيع

(1/424)


ذَلِك من عَلَامَات الْحَدث.
وَقَوله " لأحرقت سبحات وَجهه " قَالَ أَبُو عبيد: وَيُقَال فِي السبحة إِنَّهَا جلال وَجهه ونوره، وَمِنْه قيل سُبْحَانَ الله، إِنَّمَا هُوَ تَعْظِيم لَهُ وتنزيه. قَالَ: وَلم نسْمع هَذَا الْحَرْف إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث.
403 - / 489 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: " إِن الله عز وَجل يبسط يَده بِاللَّيْلِ ليتوب مسيء النَّهَار، ويبسط يَده بِالنَّهَارِ ليتوب مسيء اللَّيْل حَتَّى تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا ".
لما كَانَت التَّوْبَة كالمبايعة والمعاهدة حصل ضرب مثل هَذَا الْمثل لَهَا. فَأَما طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا فعلامة على امْتنَاع قبُول التَّوْبَة.
404 - / 492 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: قَالَ حطَّان: صليت خلف أبي مُوسَى، فَلَمَّا كَانَ عِنْد الْقعدَة قَالَ رجل من الْقَوْم: أقرَّت الصَّلَاة بِالْبرِّ وَالزَّكَاة، فَلَمَّا سلم أَبُو مُوسَى قَالَ: أَيّكُم الْقَائِل؟ فأرم الْقَوْم. فَقَالَ: لَعَلَّك قلتهَا يَا حطَّان. قلت: مَا قلتهَا، وَلَقَد رهبت أَن تبكعني بهَا.
قَوْله: عِنْد الْقعدَة يَعْنِي حَالَة الْقعُود.
وَقَوله: أقرَّت الصَّلَاة بِالْبرِّ. هَذَا الرجل تكلم بِكَلَام من عِنْده فِي الصَّلَاة، فَلذَلِك أنكر أَبُو مُوسَى.
وأرم الْقَوْم: سكتوا مطرقين، قَالَ الشَّاعِر:

(1/425)


(يردن وَاللَّيْل مرم طَائِره ... )

ورهبت: خفت.
وَيُقَال: بكعت الرجل أبكعه بكعا: إِذا استقبلته بِمَا يكره.
والمغضوب عَلَيْهِم الْيَهُود. والضالون النَّصَارَى.
وَأما قَوْله آمين فَفِي مَعْنَاهَا ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنَّهَا بِمَعْنى: كَذَلِك يكون، حَكَاهُ ابْن الْأَنْبَارِي عَن ابْن عَبَّاس.
وَالثَّانِي: أَن مَعْنَاهَا اللَّهُمَّ استجب، قَالَه الْحسن، وَاخْتَارَهُ الزّجاج.
وَالثَّالِث: أَنه اسْم من أَسمَاء الله عز وَجل، قَالَه مُجَاهِد. وَقَالَ هِشَام بن الْكَلْبِيّ: مَعْنَاهَا: يَا الله، ويضمر الدَّاعِي: استجب. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْمَعْنى: يَا أَمِين، أجب دعاءنا، فَسَقَطت " يَا " كَمَا سَقَطت فِي قَوْله تَعَالَى: {يُوسُف أعرض عَن هَذَا} [يُوسُف: 29] وَمن طول الْألف فَقَالَ آمين أَدخل ألف النداء على ألف أَمِين، كَمَا يُقَال: آزيد، أقبل، وَمَعْنَاهُ: يَا زيد. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: هَذَا القَوْل خطأ عِنْد جَمِيع النَّحْوِيين؛ لِأَنَّهُ إِذا دخل " يَا " على " أَمِين " كَانَ منادى مُفردا، فَحكم آخِره الرّفْع، فَلَمَّا أَجمعت الْعَرَب على فتح نونه دلّ على أَنه غير منادى. وَإِنَّمَا فتحت نونه لسكونها وَسُكُون الْيَاء الَّتِي قبلهَا، كَمَا تَقول لَيْت وَلَعَلَّ.

(1/426)


وَفِي أَمِين لُغَتَانِ: الْقصر وَالْمدّ، وَالنُّون فيهمَا مَفْتُوحَة، قَالَ: وأنشدنا أَبُو الْعَبَّاس عَن ابْن الْأَعرَابِي:
(سقى الله حَيا بَين صارة والحمى ... حمى فيد صوب المدجنات المواطر)

(أَمِين وَأدّى الله ركبا إِلَيْهِم ... بِخَير ووقاهم حمام المقادر)

وأنشدنا أَبُو الْعَبَّاس:
(تبَاعد مني فطحل إِذْ سَأَلته ... أَمِين فَزَاد الله مَا بَيْننَا بعدا)

وأنشدنا أَبُو الْعَبَّاس:
(يَا رب لَا تسلبني حبها أبدا ... وَيرْحَم الله عبدا قَالَ آمينا)

وأنشدني أبي:
(أَمِين وَمن أَعْطَاك مني هوادة ... رمى الله فِي أَطْرَافه فاقفعلت)

وأنشدني أبي:

(1/427)


(فَقلت لَهُ قد هجت لي بارح الْهوى ... أصَاب حمام الْمَوْت أهوننا وجدا)

(أَمِين وأضناه الْهوى فَوق مَا بِهِ ... أَمِين ولاقى من تباريحه جهدا)

وَقَوله: " فَتلك بِتِلْكَ " فِيهِ وَجْهَان:
أَحدهمَا: فَتلك الدعْوَة مُتَعَلقَة بِتِلْكَ الْكَلِمَة. أَي أَن استجابة الدُّعَاء الْمَذْكُور فِي الْفَاتِحَة مُعَلّق بآمين، وَقَول: سمع الله لمن حَمده مُعَلّق بقوله: رَبنَا وَلَك الْحَمد.
وَالثَّانِي: أَن الْإِشَارَة إِلَى الصَّلَاة. وَالْمعْنَى أَن صَلَاتكُمْ معلقَة بِصَلَاة الإِمَام فَاتَّبعُوهُ وَلَا تخالفوه.
وَقَوله: سمع الله لمن حَمده: أَي أجَاب الله من حَمده، وَأنْشد ابْن الْأَعرَابِي:
(دَعَوْت الله حَتَّى خفت أَلا ... يكون الله يسمع مَا أَقُول)

وَقَوله: يسمع الله لكم: أَي يستجيب.
وَقد سبق تَفْسِير مَا أخللنا بِهِ من الحَدِيث.

(1/428)


كشف الْمُشكل من مُسْند جرير بن عبد الله البَجلِيّ

روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة حَدِيث، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ خَمْسَة عشر حَدِيثا.
405 - / 495 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الثَّالِث: كُنَّا جُلُوسًا لَيْلَة مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنظر إِلَى الْقَمَر لَيْلَة أَربع عشرَة فَقَالَ: " إِنَّكُم سَتَرَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ هَذَا، لَا تضَامون فِي رُؤْيَته ".
هَذَا تَشْبِيه بإيضاح الرُّؤْيَة لابالمرئي. وَقَوله: " لَا تضَامون " قد رويت على سِتَّة أوجه:
الرِّوَايَة الأولى: تضَامون بِضَم التَّاء وَالتَّخْفِيف الْمِيم وَعَلَيْهَا أَكثر الروَاة، وَالْمعْنَى: لَا ينالكم ضيم، والضيم: الظُّلم، وَرجل مضيم: مظلوم، وَهَذَا الضيم يلْحق الرَّائِي من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: من مزاحمة الناظرين لَهُ. وَالثَّانِي: من تَأَخره عَن مقَام النَّاظر الْمُحَقق

(1/429)


فَكَأَن الْمُتَقَدِّمين ضاموه، ورؤية الْحق عز وَجل يَسْتَوِي فِيهَا الْكل وَلَا ضيم. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الضيم: الذل وَالصغَار، فَكَأَنَّهُ يذل من سبق بِالرُّؤْيَةِ أَو حرم تحقيقها، وَالْأَصْل " يضيمون " فألقيت فَتْحة الْيَاء على الضَّاد فَصَارَت الْيَاء ألفا لانفتاح مَا قبلهَا.
وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة: تضَامون بِضَم التَّاء وَتَشْديد الْمِيم.
وَالثَّالِثَة: بِفَتْح التَّاء مَعَ تَشْدِيد الْمِيم. حَكَاهُمَا الزّجاج، وَقَالَ: الْمَعْنى فيهمَا: لَا تتضامون: أَي لَا يَنْضَم بَعْضكُم إِلَى بعض، فَيَقُول: هَذَا لهَذَا: أرأيته؟ كَمَا تَفْعَلُونَ عِنْد النّظر إِلَى الْهلَال.
وَالرِّوَايَة الرَّابِعَة: لَا تضَارونَ بِضَم التَّاء.
وَالْخَامِسَة: تضَارونَ بِفَتْح التَّاء وَالرَّاء مَكَان الْمِيم فِي الرِّوَايَتَيْنِ مُشَدّدَة، ذكرهمَا الزّجاج وَقَالَ: الْمَعْنى: لَا تتضارون، أَي لَا يضار بَعْضكُم بَعْضًا بالمخالفة فِي ذَلِك، يُقَال: ضاررت الرجل أضاره مضارة وضرارا: إِذا خالفته. وَقَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: هُوَ " يتفاعلون " من الضرار: أَي لَا يتنازعون ويختلفون، قَالَ الشَّاعِر:
(فيلتئم الصدع صدع الإخاء ... وَيتْرك أهل الضرار الضرارا)

وَالرِّوَايَة السَّادِسَة: تضَارونَ بِضَم التَّاء وَتَخْفِيف الرَّاء. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: تضَارونَ تَفْعَلُونَ من الضير، والضير والضر وَاحِد: أَي لَا يَقع لكم فِي رُؤْيَته ضرّ إِمَّا بالمخالفة والمنازعة، أَو لخفاء المرئي.
وَقَوله: " سَتَرَوْنَ ربكُم عيَانًا " ذكر العيان تَأْكِيد للرؤية وَتَحْقِيق لَهَا.
وَقَوله: " فَإِن اسْتَطَعْتُم أَلا تغلبُوا على صَلَاة قبل طُلُوع الشَّمْس " يَعْنِي الْفجْر، " وَقبل غُرُوبهَا " يَعْنِي: الْعَصْر. وَوجه الْمُنَاسبَة بَين ذكر الرُّؤْيَة والصلاتين أَنَّهُمَا من أفضل الْقرب، فَإِنَّهُ قَالَ عز وَجل فِي صَلَاة

(1/430)


الْفجْر: {وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا} [الْإِسْرَاء: 78] وَقَالَ فِي صَلَاة الْعَصْر: {وَالصَّلَاة الْوُسْطَى} [الْبَقَرَة: 238] فَكَأَنَّهُ يَقُول: دوموا على أفضل الْقرب لتنالوا أفضل العطايا.
406 - / 498 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَال ثمَّ تَوَضَّأ وَمسح على خفيه. قَالَ إِبْرَاهِيم - يَعْنِي النَّخعِيّ: كَانَ أَصْحَاب عبد الله يعجبهم هَذَا الحَدِيث؛ لِأَن إِسْلَام جرير كَانَ بعد نزُول " الْمَائِدَة ".
وَفَائِدَة هَذَا أَنه قد خص عُمُوم الْقُرْآن بِالْحَدِيثِ.
407 - / 499 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " استنصت لي النَّاس " ثمَّ قَالَ: " لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض ".
استنصت: أَي مرهم بالإنصات.
وَقد بَينا فِيمَا تقدم أَنه من قَاتل مُسلما بِلَا تَأْوِيل فَإِنَّمَا قَاتله لإسلامه فيكفر بذلك.
408 - / 500 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: فِي إحراق بَيت كَانَ للجاهلية يُقَال لَهُ الْكَعْبَة اليمانية، قَالَ جرير: مَا جئْتُك حَتَّى تركناها كَأَنَّهَا جمل أجرب.
وَشبه مَا بهَا من آثَار الإحراق وَالنَّقْص بِمَا بالجمل الأجرب.

(1/431)


409 - / 502 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يلوي نَاصِيَة فرس بإصبعيه وَيَقُول: " الْخَيل مَعْقُود بنواصيها الْخَيْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة: الْأجر وَالْغنيمَة ".
النواصي جمع نَاصِيَة، والناصية: مقدم شعر الرَّأْس من الْآدَمِيّ، وَهُوَ من الدَّابَّة شعر الْقَفَا، وَهَذَا مِمَّا ذكر مِنْهُ الْبَعْض وَالْمرَاد الْكل، وَقد يُقَال عَن العَبْد: نَاصِيَة مباركة.
وَقَوله: " الْأجر وَالْغنيمَة " جَامع لفوائد الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
410 - / 503 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن نظرة الْفجأَة فَأمرنِي أَن أصرف بَصرِي. نظرة الْفجأَة: هِيَ وُقُوع الْبَصَر على مَا لم يقْصد بِالنّظرِ، وَتلك حَالَة قد جمعت وصفين: أَحدهمَا: أَنَّهَا لم تقصد، فَلَا إِثْم. وَالثَّانِي: أَن الطَّبْع لَيْسَ بحاضر، لِأَنَّهُ مَتى وَقع الْبَصَر على شخص فصرف فِي الْحَال كَانَ كَأَن الْإِنْسَان لم ير، فَأَما إِذا استدام أَو كرر حضر الطَّبْع فَوَقع الْفساد.
411 - / 504 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " إِذا أَتَاكُم الْمُصدق فليصدر عَنْكُم وَهُوَ رَاض ".
الْمُصدق هَاهُنَا هُوَ السَّاعِي لجمع الزَّكَاة. ومصدقو رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا من خِيَار مصدقيه، فَلَا غش فيهم وَلَا كدر، فَكَأَنَّهُ عرض للمعطين بأنكم أَنْتُم المقصرون فِي أَدَاء الْحق حِين قَالَ وَقد شكوا

(1/432)


مصدقيه: " أرضوا مصدقيكم ".
412 - / 505 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " أَيّمَا عبد أبق فقد بَرِئت مِنْهُ الذِّمَّة ".
ذمَّة الْإِسْلَام أوجبت على السَّيِّد مُرَاعَاة العَبْد وَألا يحْبسهُ وَلَا يُعَاقِبهُ فَإِذا أبق جَازَ لَهُ أَخذه وحبسه وعقوبته.
وَقَوله: " لم تقبل لَهُ صَلَاة " مَحْمُول على إِذا مَا اسْتحلَّ الْإِبَاق، وَبِذَلِك يكفر، فقد يمْتَنع قبُول الصَّلَاة بالمعصية، فَإِنَّهُ قد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " من شرب الْخمر لم تقبل لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ يَوْمًا " وَيجوز أَن يُرَاد بالْكفْر كفر النِّعْمَة، وَالله أعلم.
413 - / 506 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: جَاءَهُ قوم عُرَاة مجتابي النمار أَو العباء، فتمعر وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
النمار جمع نمرة: وَهِي كسَاء من صوف ملون مخطط. واجتابوها: قطعوها فَلَبِسُوهَا، وأصل الجوب الْقطع، وَمِنْه: {جابوا الصخر بالواد} [الْفجْر: 9] .
والعباء جمع، واحده عباءة وعباية: وَهِي ضرب من الأكسية.
تمعر: تغير مِمَّا شقّ عَلَيْهِ من أَمرهم.
والفاقة: الْفقر.

(1/433)


وأصل الكوم مَا ارْتَفع وأشرف.
وَقَوله: كَأَنَّهُ مذهبَة؛ كَانَ شَيخنَا أَبُو الْفضل بن نَاصِر يَقُول بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَالْبَاء، يُشِير إِلَى لون الذَّهَب وإشراقه، كَأَن الْمَعْنى: كَأَنَّهُ مرْآة مذهبَة: أَي مطلية بِالذَّهَب. وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحميدِي: كَأَنَّهُ مدهنة، بِالدَّال غير الْمُعْجَمَة وَالنُّون، قَالَ: والمدهن نقرة فِي الْجَبَل يستنقع فِيهَا مَاء الْمَطَر. والمدهن أَيْضا: مَا جعل فِيهِ الدّهن، والمدهنة من ذَلِك، شبه صفاء وَجهه بإشراق السرُور بصفاء هَذَا المَاء المستنقع فِي الْحجر أَو بصفاء الدّهن.
وَقَوله: " من سنّ فِي الْإِسْلَام سنة حَسَنَة " أَي فعل فعلا جميلا فاقتدي بِهِ وَكَذَلِكَ إِذا فعل فعلا قبيحا فاقتدي بِهِ فليجتهد الْإِنْسَان فِي فعل خير يلْحقهُ ثَوَابه بعد مَوته، وليحذر من فعل شَرّ يُدْرِكهُ إثمه بعد تلفه.
414 - / 507 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " من يحرم الرِّفْق يحرم الْخَيْر ".
وَهَذَا لِأَن عُمُوم الْأَشْيَاء لَا تتمّ إِلَّا بالرفق، فَإِذا حرمه الْإِنْسَان لم يكد غَرَضه يتم.

(1/434)


كشف الْمُشكل من مُسْند أبي جُحَيْفَة وهب بن عبد الله السوَائِي

وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سِتَّة أَحَادِيث.
415 - / 508 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَأَيْت بَيَاضًا تَحت شفته السُّفْلى - العنفقة.
العنفقة: الشّعْر الَّذِي تَحت الشّفة السُّفْلى، وَقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاب يَسِيرا، وَقد ذكرنَا شَيْبه وَمَا روى من خضابه فِي كتاب " الشيب ".
وَقَوله: أبري النبل. النبل: السِّهَام، وبريها إصلاحها. وأريشها: أجعَل لَهَا الريش.
416 - / 509 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة وَهُوَ بِالْأَبْطح، فَخرج بِلَال بوضوئه، فَمن نَاضِح ونائل.
الأبطح والبطحاء والبطيحة: كل مَكَان متسع من الأَرْض.

(1/435)


وَالْوُضُوء بِفَتْح الْوَاو: المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ.
والناضح: الَّذِي يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا يَسِيرا. والنائل ينَال أَكثر من ذَلِك.
والبلل: نداوة الْيَد.
وأتتبع فَاه: أميل مَعَه يَمِينا وَشمَالًا.
وَحي على الصَّلَاة مَعْنَاهُ: هلموا وَأَقْبلُوا. والفلاح: الْفَوْز، وَيُقَال: الْبَقَاء.
والعنزة: الحربة. وركزها: أثبتها فِي الأَرْض.
417 - / 510 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أَمر لنا بِثَلَاثَة عشر قلوصا.
القلوص: النَّاقة الطَّوِيلَة القوائم، وَقيل: القوية على السّير من النوق.
وَقَوله: كَانَ قد شمط. الشمط: اخْتِلَاط الشيب بسواد الشّعْر، وَمِنْه سمي الصَّباح شميطا لاختلاطه بباقي ظلمَة اللَّيْل.
418 - / 511 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
زار سلمَان أَبَا الدَّرْدَاء، فَرَأى أم الدَّرْدَاء متبذلة.
أَي فِي ثِيَاب البذلة: وَهِي خلاف ثِيَاب التجمل والتزين، وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاء من الزهاد، وَكَذَلِكَ كَانَ سلمَان لكنه كَانَ أفقه من أبي الدَّرْدَاء، وَلذَلِك جَاءَ فِي حَدِيث آخر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: " يَا عُوَيْمِر،

(1/436)


سلمَان أفقه مِنْك ".
وَقد مضى خلق كثير من الزهاد وَقلت علومهم، فحملوا على النُّفُوس فَوق الطَّاقَة من التَّعَبُّد وهجر مَا يصلح النَّفس ويقيمها، ظنا مِنْهُم بِأَن المُرَاد من العَبْد ذَلِك، وَمَا أخوفني عَلَيْهِم من الْعقُوبَة بِمَا طلبُوا بِهِ المثوبة، فكم فيهم من سالك طَرِيق الرهبنة وَعِنْده أَنه على الشَّرْع، وَكم فيهم من تزوج وَترك الزَّوْجَة لَا أَيّمَا وَلَا ذَات بعل، وَكم فيهم من تبتل بترك النِّكَاح أصلا وَهَذِه رهبنة، وَكم فيهم من منع نَفسه مَا يصلحها حَتَّى خرج الْأَمر بِهِ إِلَى الْأَمْرَاض الشَّدِيدَة، وَإِنَّمَا الْبدن كالناقة، وَالنَّفس كالراكب، وَمَتى لم يرفق الرَّاكِب بالناقة لم تبلغه، فَعَلَيْك بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا تقتد بمعظم فِي النُّفُوس مَذْكُور بالزهد إِذا كَانَ على خلاف السّنة.
419 - / 512 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: نهى عَن ثمن الدَّم، وَثمن الْكَلْب، وَكسب الْبَغي.
أما ثمن الدَّم فَالْمُرَاد بِهِ أجر الْحجام، وَهَذَا على وَجه الْكَرَاهَة، وَإِنَّمَا كره لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه لَا يعرف قدر مَا يخرج من الدَّم فيتهيأ قطع أُجْرَة لذَلِك. وَالثَّانِي: أَن هَذَا مِمَّا يعين فِيهِ الْمُسلمُونَ بَعضهم بَعْضًا، كَغسْل الْمَيِّت وَدَفنه، فَلَا يَنْبَغِي للْمُسلمِ إِذا احْتَاجَ إِلَيْهِ أَخُوهُ الْمُسلم فِي هَذَا أَن يَأْخُذ عَنهُ أُجْرَة.
وَأما الْكَلْب فعندنا لَا يجوز بَيْعه وَإِن كَانَ معلما. وَقَالَ أَبُو حنيفَة:

(1/437)


يجوز. وَعَن الْمَالِكِيَّة كالمذهبين. والْحَدِيث دليلنا، وَقد روى النَّهْي عَن ثمن الْكَلْب أَبُو جُحَيْفَة، وَأَبُو مَسْعُود البدري، وَجَابِر بن عبد الله، وكل أَحَادِيثهم فِي الصَّحِيح. وَقد ثَبت أَن ظَاهر النَّهْي التَّحْرِيم إِلَّا أَن تظهر قرينَة أَنه نهي تَنْزِيه كَأُجْرَة الْحجام، فَإِنَّهُ لما أعْطى الْحجام أُجْرَة علمنَا أَنه نهي كَرَاهَة. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ثمن الْكَلْب يدل على فَسَاد العقد؛ لِأَن العقد إِذا صَحَّ كَانَ دفع الثّمن مَأْمُورا بِهِ، فَدلَّ نَهْيه على سُقُوط وُجُوبه، وَإِذا بَطل الثّمن بَطل البيع؛ لِأَن البيع إِنَّمَا هُوَ عقد على شَيْء مَعْلُوم، وَإِذا بَطل الثّمن بَطل الْمُثمن، كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: " فجملوها فَبَاعُوهَا وأكلوا أثمانها " فَجعل حكم الثّمن والمثمن سَوَاء.
وَأما الْبَغي فَهِيَ الزَّانِيَة، فَكَانُوا يضْربُونَ على الْإِمَاء الْخراج فيؤدين أُجْرَة أَعمال يعملنها، كالخبز وَغَيره، ويتعبن من خلال ذَلِك، فَيصير كَسْبهنَّ شُبْهَة، فَأَما إِذا لم يعلم لَهَا كسبا إِلَّا الْبَغي فَهُوَ حرَام بحت.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: لعن الواشمة والمستوشمة. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
420 - / 513 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " لَا آكل وَأَنا متكئ ".

(1/438)


الْمَشْهُور فِي معنى هَذَا الحَدِيث أَنه الاتكاء على أحد الْجَانِبَيْنِ، وَفِي ذَلِك شَيْئَانِ: أَحدهمَا: أَنه فعل المتجبرين والمتكبرين. وَالثَّانِي: أَنه يمْنَع من نزُول الطَّعَام كَمَا يَنْبَغِي إِلَى المعى، وَرُبمَا لم يسلم من ضغط يَنَالهُ الْأكل من مجاري طَعَامه. وَكَانَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ يذهب إِلَى مَذْهَب فِيهِ بعد فَيَقُول: المتكئ هَاهُنَا هُوَ الْمُعْتَمد على الوكاء الَّذِي تَحْتَهُ، وكل من اسْتَوَى قَاعِدا على وطاء فَهُوَ متكئ، والاتكاء مَأْخُوذ من الوكاء، فالمتكئ هُوَ الَّذِي أوكأ مقعدته وشدها بالقعود على الوكاء الَّذِي تَحْتَهُ، فَالْمَعْنى: أَنِّي إِذا أكلت لم أقعد مُتكئا على الأوطئة والوسائد فعل من يُرِيد أَن يستكثر من الْأَطْعِمَة، وَلَكِنِّي آكل علقَة فَيكون قعودي مستوفزا. ويروى أَنه كَانَ يَأْكُل مقعيا وَيَقُول: " أَنا عبد آكل مِمَّا يَأْكُل العَبْد ".

(1/439)