معالم السنن كتاب الطهارة
من باب التخلي عند قضاء الحاجة
أخبرنا أبو الحسن على بن الحسن أنا أبو سليمان حمد بن محمد
بن إبراهيم نا أبو بكر بن داسة نا أبو داود حدثنا مُسدد
حدثنا عيسى بن يونس حدثنا إسماعيل بن عبد الملك عن الزبير
عن جابر بن عبد الله «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا
أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد» .
البراز بالباء المفتوحة اسم للفضاء الواسع من الأرض كنوا
به عن حاجة الإنسان كما كنوا بالخلاء عنه يقال تبرز الرجل
إذا تغوط وهو أن يخرج إلى البراز كما يقال تخلى إذا صار
إلى الخلا وأكثر الرواة يقولون البراز بكسر الباء وهو غلط
وإنما البراز مصدر بارزت الرجل في الحرب مبارزة وبرازاً.
وفيه من الأدب استحباب التباعد عند الحاجة عن حضرة الناس
إذا كان في براح من الأرض. ويدخل في معناه الاستتار
بالأبنية وضرب الحجب وإرخاء الستور وإعماق الآبار والحفائر
في نحو ذلك في الأمور الساترة للعورات.
ومن باب الرجل يتبوأ لبوله
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا أبو
التيَّاح قال حدثني شيخٌ أن عبد الله بن عباس كتب إلى أبي
موسى يسأل عن أشياء فكتب إليه أبو موسى أني كنت مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يبول
(1/9)
فأتى دَمِثاً في أصل جدار فبال ثم قال:
«إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتَدْ لِبَوله» .
الدمث المكان السهل الذي يُخد فيه البول فلا يرتد على
البائل. يُقال للرجل إذا وُصف باللين والسهولة أنه لدمث
الخلق وفيه دماثة. وقوله فليرتد أي ليطلب وليتحر، ومنه
المثل إن الرائد لا يكذب أهله، وهو الرجل يبعثه القوم يطلب
لهم الماء والكلأ، يقال رادهم يرودهم رياداً وارتاد لهم
ارتياداً.
وفيه دليل على أن المستحب للبائل إذا كانت الأرض التي يريد
القعود عليها صلبة أن يأخذ حجراً أو عوداً فيعالجها به
ويثير ترابها ليصير دمثاً سهلاً فلا يرتد بوله عليه.
قلت: ويشبه أن يكون الجدار الذي قعد إليه النبي صلى الله
عليه وسلم جداراً عادياً غير مملوك لأحد من الناس فإن
البول يضر بأصل البناء ويوهي أساسه وهو عليه السلام لا
يفعل ذلك في ملك أحد إلاّ بإذنه، أو يكون قعوده متراخياً
عن جذمه!!! فلا يصيبه البول فيضر به.
ومن باب ما يقول إذا دخل
الخلاء
قال أبو داود: حدثنا عمرو هو ابن مرزوق البصري حدثنا شعبة
عن قتادة عن النَّضر بن أنس عن زيد بن أرقم عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: «إنّ هذه الحُشُوش محتَضرَةٌ فإذا أتى
أحدكم الخلاء فليقل أعوذ بالله من الخُبُثِ والخَبائِث» .
الحشوش الكنف وأصل الحش جماعة النخل الكثيفة وكانوا يقضون
حوائجهم إليها قبل أن يتخذوا الكنف في البيوت وفيه لغتان
حَش وحُش. ومعنى محتضرة أي تحضرها الشياطين وتنتابها.
والخُبث بضم الباء جماعة الخبيث، والخبائث جمع الخبيثة
يريد ذكران الشياطين وإناثهم، وعامة أصحاب الحديث يقولون
الخبث
(1/10)
ساكنة الباء وهو غلط والصواب الخبُث مضمومة
الباء، وقال ابن الأعرابي أصل الخبث في كلام العرب المكروه
فإن كان من الكلام فهو الشتم وإن كان من المِلل
فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من
الشراب فهو الضار.
ومن باب كراهة استقبال القبلة
عند الحاجة
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن
إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن سليمان، قال: قيل: «لقد
علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، قال أجل لقد نهانا أن
نستقبل القِبلَة بغائط أو بول وأن نستنجي باليمين وأن
يستنجي أحدنا بأقلَّ من ثلاثة أحجار أو يستنجي برجيعٍ أو
عظمٍ» .
الخِراءة مكسورة الخاء ممدودة الألف أدب التخلي والقعود
عند الحاجة، وأكثر الرواة يفتحون الخاء ولا يمدون الألف
فيفحش معناه. ونهيه عن الاستنجاء باليمين في قول أكثر
العلماء نهي تأديب وتنزيه وذلك أن اليمين مرصدة في أدب
السنة للأكل والشرب والأخذ والإعطاء ومصونة عن مباشرة
السفل والمغابن وعن مماسة الأعضاء التي هي مجاري الأثفال
والنجاسات. وامتهنت اليسرى في خدمة أسافل البدن لإماطة ما
هنالك من القذارات وتنظيف ما يحدث فيها من الدنس والشعث.
وقال بعض أهل الظاهر إذا استنجى بيمينه لم يجزه كما لا
يجزيه إذا استنجى برجيع أو عظم واحتج بأن النهي قد اشتمل
على الأمرين معاً في حديث واحد فإذا كان أحد فصليه على
التحريم كان الفصل الآخر كذلك.
(1/11)
قلت والفرق بين الأمرين أن الرجيع نجس وإذا
لاقى نجاسة لم يزلها بل يزيدها نجاسة وليس كالحجر الطاهر
الذي يتناول الأذى فيزيله عن موضعه ويقطعه عن أصله، وأما
اليمين فليست هي المباشرة لموضع الحدث وإنما هي آلة يتناول
بها الحجر الملاقي للنجاسة، والشمال في هذا المعنى كاليمين
إذ كل واحدة منهما تعمل مثل عمل الأخرى في الإمساك بالحجر
واستعماله فيما هنالك، والرجيع النجس لا يعمل عمل الحجر
الطاهر ولا ينظف تنظيفه، فصار نهيه عن الاستنجاء باليمين
نهي تأديب وعن الرجيع نهي تحريم، والمعاني هي المصرفة
للأسماء والمرتبة لها.
وحاصل المعنى أن المزيل للنجاسة الرجيع لا اليد، وفي قوله
وأن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار بيان أن الاستنجاء
بالأحجار أحد الطهرين وأنه إذا لم يستعمل الماء لم يكن بد
من الحجارة أو ما يقوم مقامها وهو قول سفيان الثوري ومالك
بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل، وفي قوله أن يستنجي أحدنا
بأقل من ثلاثة أحجار البيان الواضح أن الاقتصار على أقل من
ثلاثة أحجار لا يجوز وإن وقع الإنقاء بما دونها. ولو كان
القصد به الإنقاء حسب لم يكن لاشتراط عدد الثلاث معنى ولا
في ترك الاقتصار على ما دونها فائدة إذ كان معلوماً أن
الإنقاء قد يقع بالمسحة الواحدة وبالمسحتين فلمّا اشترط
العدد لفظاً وكان الإنقاء من معقول الخبر ضمناً دل على أنه
إيجاب للأمرين معاً، وليس هذا كالماء إذا أنقى كفى لأن
الماء يزيل العين والأثر فحل محل الحس والعيان ولم يحتج
فيه إلى استظهار بالعدد، والحجر لا يزيل الأثر وإنمّا يفيد
الطهارة من طريق الاجتهاد،
(1/12)
فصار العدد من شرطه استظهاراً كالعدة
بالأقراء لما كانت دلالتها من جهة الظهور والغلبة على سبيل
الاجتهاد شرط فيها العدد وإن كانت براءة الرحم قد تكون
بالقرء الواحد. ألا ترى أن الأمة تستبرأ بحيضة واحدة
فتكفي. فأمّا وضع الحمل الذي دلالته من باب اليقين
والإحاطة فإنه لم يحتج فيه إلى شيء من العدد، فكذلك الماء
والحجارة في معانيها.
وعند أصحاب الرأي أن الإنقاء إذا وقع بالحجر الواحد كفى
غير أن مرجع جملة قولهم في ذلك إلى أنه استحباب لا إيجاب،
وعلى هذا تأولوا الحديث، وذلك أنهم يقولون إن كانت النجاسة
هناك أكثر من قدر الدرهم فإنه لا يطهره إلاّ الماء وإن كان
بقدر الدرهم فلم يزله بالحجارة أو بما يقوم مقامها وصلى
أجزأه. فجاء من هذا أنه إذا أمر بالاستنجاء فإن ذلك منه
على سبيل الاستحباب دون الإيجاب.
قلت ولا ينكر على مذهبهم أن يكون المراد بالاستنجاء
الإنقاء ويدخله مع ذلك التعبد بزيادة العدد، وقد قالوا في
غسل النجاسات بإيجاب الثلاث، فإن لم تزل فإن الزيادة عليها
واجبة حتى يقع الإنقاء، وقد أجاز الشافعي ثلاث امتساحات
بحروف الحجر الواحد وأقامها مقام ثلاثة أحجار. ومذهبه في
تأويل الخبر أن معنى الحجر أوفى من اسمه وكل كلام كان
معناه أوسع من اسمه فالحكم للمعنى وكأنه قال: الحجر وحروفه
وجوانبه والاستنجاء غير واقع بكل الحجر لكن ببعضه، فأبعاض
الحجر الواحد كأبعاض الأحجار.
وأما نهيه عن الاستنجاء بالعظم فقد دخل فيه كل عظم من ميتة
أو ذكيّ لأن الكلام على إطلاقه وعمومه، وقد قيل إن المعنى
في ذلك أن العظم زلج لا يكاد يتماسك فيقلع النجاسة وينشف
البلة، وقيل إن العظم لا يكاد يعرى
(1/13)
من بقية دسم قد علق به. ونوع العظام قد
يتأتى فيه الأكل لبني آدم لأن الرخو الرقيق منه قد يتمشمش
في حالة الوُجد والرفاهية والغليظ الصلب منه يدق ويستف عند
المجاعة، وقد حرم الاستنجاء بالمطعوم والرجيع والعذرة.
وسُمي رجيعاً لرجوعه عن حالة الطهارة إلى الاستحالة
والنجاسة.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد، حَدَّثنا ابن
المبارك عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم، عَن أبي
صالح، عَن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «إنمّا أنا لكم بمنزلة الوالد أُعلِّمُكم فإذا أتى
أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا
يَسْتَطِبْ بيمينه» ، وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن
الرَّوثِ والرِمَّة.
قوله إنمّا أنا لكم بمنزلة الوالد كلام بسط وتأنيس
للمخاطبين لئلا يحتشموه ولا يستحيوا عن مسألته فيما يعرض
لهم من أمر دينهم كما لا يستحي الولد عن مسألة الوالد فيما
عنّ وعرض له من أمر. وفي هذا بيان وجوب طاعة الآباء وأن
الواجب عليهم تأديب أولادهم وتعليمهم ما يحتاجون إليه من
أمر الدين.
وقوله ولا يستطب بيمينه أي لا يستنجي بها وسمى الاستنجاء
استطابة لما فيه من إزالة النجاسة وتطهير موضعها من البدن
يقال استطاب الرجل إذا استنجى فهو مستطيب وأطاب فهو مطيب
ومعنى الطيب ههنا الطهارة، ومن هذا قوله تعالى {فتيمموا
صعيدا طيباً} [النساء: 43] وسمى رسول الله صلى الله عليه
وسلم المدينة طابة ومعناه طهارة التربة وهي سبخة فدل ذلك
على جواز التيمم بالسباخ وقيل معناه الطهارة من النفاق.
وأصل الاستنجاء في اللغة الذهاب إلى النجوة من الأرض لقضاء
الحاجة والنجوة المرتفعة منها كانوا يستترون بها إذا قعدوا
للتخلي فقيل على هذا قد
(1/14)
استنجى الرجل أي أزال النجو عن بدنه.
والنجو كناية عن الحدث كما كنى عنه بالغائط وأصل الغائط
المطمئن من الأرض كانوا ينتابونه للحاجة فكنوا به عن نفس
الحدث كراهية لذكره بخاص اسمه. ومن عادة العرب التعفف في
ألفاظها واستعمال الكناية في كلامها وصون الألسنة عما تصان
الأسماع والأبصار عنه.
وقيل أصل الاستنجاء نزع الشيء عن موضعه وتخليصه منه، ومنه
قولهم نجوت الرطب واستنجيته إذا جنيته واستنجيت الوتر إذا
خلصته من أثناء اللحم والعظم قال الشاعر:
فتبازت فتبارخت لها ... قعدة الجازر يستنجي الوتر وفي قوله
يأمرنا بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة دليل على أن
أعيان الحجارة غير مختصة بهذا المعنى دون غيرها من الأشياء
التي تعمل عمل الحجارة وذلك أنه لما أمر بالأحجار ثم
استثنى الروث والرمة فخصهما بالنهي دل على أن ما عدا الروث
والرمة قد دخل في الإباحة وأن الاستنجاء به جائز ولو كانت
الحجارة مخصوصة بذلك وكان كل ما عداها بخلاف ذلك لم يمكن
لنهيه عن الروث والرمة وتخصيصها بالذكر معنى، وإنما جرى
ذكر الحجارة وسبق اللفظ إليها لأنها كانت أكثر الأشياء
التي يستنجى بها وجوداً وأقربها متناولاً، والرمة العظام
البالية ويقال إنها سميت رمة لأن الإبل ترمها أي تأكلها
قال لبيد:
والّنيب إن تعر مني رمة خَلَقاً ... بعد الممات فأنى كنت
اتّئر
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن عطاء
بن يزيد، عَن أبي أيوب رواية قال إذا أتيتم الغائط فلا
تستقبلوا القبلة ولا بول ولكن شرقوا وغربوا، فقدمنا الشام
فوجدنا مراحيض قد بنيت
(1/15)
قبل القبلة فكنا ننحرف عنها ونستغفر الله.
قوله شرقوا وغربوا هذا خطاب لأهل المدينة ولمن كانت قبلته
عنى ذلك السمت فأما من كانت قبلته إلى جهة المغرب أو
المشرق فإنه لا يغرب ولا يشرق، والمراحيض جمع المرحاض وهو
المغتسل يقال رحضت الثوب إذا غسلته.
وقد اختلف الناس في تأويل ما اختلف من الأخبار في استقبال
القبلة وتخريجها فذهب أبو أيوب إلى تعميم النهي والتسوية
في ذلك بين الصحارى والأبنية وهو مذهب سفيان الثوري. وذهب
عبد الله بن عمر إلى أن النهي عنه إنمّا جاء في الصحارى،
فأما الأبنية فلا بأس باستقبال القبلة فيها، وكذلك قال
الشعبي وإليه ذهب مالك والشافعي وقد قيل إن المعنى هو أن
الفضاء من الأرض موضع للصلاة ومتعبد للملائكة والإنس والجن
فالقاعد فيه مستقبلا للقبلة ومستدبرا لها مستهدف للأبصار،
وهذا المعنى مأمون في الأبنية.
قلت الذي ذهب إليه ابن عمر ومن تابعه من الفقهاء أولى لأن
في ذلك جمعا بين الأخبار المختلفة واستعمالها على وجوهها
كلها، وفي قول أبي أيوب وسفيان تعطيل لبعض الأخبار وإسقاط
له.
وقد روى أبو داود عن ابن عمر أنه قال: ارتقيت على ظهر
البيت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على لبنتين
مستقبل بيت المقدس لحاجته. قال حدثناه عبد الله بن مسلمة
عن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه
واسع بن حبان عن عبد الله بن عمر.
وروي أيضاً عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن تستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها.
قال حدثناه محمد بن بشار نا وهب
(1/16)
بن جرير نا أبي قال سمعت محمد بن إسحاق
يحدث عن أبان بن صالح عن مجاهد عن جابر بن عبد الله.
قلت وفي هذا بيان ما ذكرناه من صحة مذهب من فرق بين البناء
والصحراء غير أن جابراً توهم أن النهي عنه كان على العموم
فحمل الأمر في ذلك على النسخ.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا
عمرو بن يحيى، عَن أبي زيد عن معقل بن أبي معقل الأسدي.
قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين
ببول أو غائط.
أراد بالقبلتين الكعبة وبيت المقدس وهذا يحتمل أن يكون على
معنى الاحترام لبيت المقدس إذ كان مرة قبلة لنا. ويحتمل أن
يكون ذلك من أجل استدبار الكعبة لأن من استقبل بيت المقدس
بالمدينة فقد استدبر الكعبة.
ومن باب كراهية الكلام على
الخلاء
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة نا عبد
الرحمن بن مهدي حدثنا عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير
عن هلال بن عياض قال حدثني أبو سعيد قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول (لا يخرج الرجلان يضرمان الغائط
كاشفين عورتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك) .
قوله يضرمان الغائط قال أبو عمر صاحب أبي العباس يقال ضربت
الأرض
(1/17)
إذا أتيت الخلا وضربت في الأرض إذا سافرت.
ومن باب أيرد السلام وهو يبول
قال أبو داود: حدثنا عثمان وأبو بكر ابنا أبي شيبة قالا:
حَدَّثنا عمر بن سعد عن سفيان عن الضحاك بن عثمان عن نافع
عن ابن عمر. قال مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو
يبول فسلم فلم يرد عليه. قال أبو داود وروى ابن عمر وغيره
أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم ثم رد على الرجل السلام.
وفي رواية المهاجر بن قنفذ أنه توضأ ثم اعتذر إليه فقال
إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلاّ على طهر.
قلت وفي هذا دلالة على أن السلام الذي يحيي به الناس بعضهم
بعضا اسم من أسماء الله عز وجل. وقد روي ذلك في حديث
حدثناه محمد بن هاشم حدثنا الدّبري عن عبد الرزاق حدثنا
بشر بن رافع عن يحيى بن أبي كثير، عَن أبي سلمة، عَن أبي
هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن السلام
اسم من أسماء الله فأفشوه بينكم» .
وفي الحديث من الفقه أنه قد تيمم في الحضر لغير مرض ولا
جرح. وإلى هذا ذهب الأوزاعي في الجنب يخاف إن اغتسل أن
تطلع الشمس قال يتيمم ويصلي قبل فوات الوقت.
وقال أصحاب الرأي إذا خاف فوات صلاة الجنازة والعيدين
يتيمم وأجزأه.
وفيه أيضاً حجة للشافعي فيمن كان محبوسا في حش أو نحوه فلم
يقدر على الطهارة بالماء أنه يتيمم ويصلي على حسب الإمكان
إلاّ أنه يرى عليه الإعادة إذا قدر عليها، وكذلك قال في
المصلوب وفيمن لا يجد ماءً ولا ترابا أنه يصلي ويعيد وزعم
أن لأوقات الصلاة أذمة!!! تُرعى ولا تُعطل حُرُماتها، ألا
ترى أن النبي
(1/18)
صلى الله عليه وسلم أمر أن ينادى في يوم
عاشوراء من لم يأكل فليصمه ومن أكل فليمسك بقية النهار.
ومعلوم أن صوم بعض النهار لا يصح وقد يمضى في فاسد الحج
وإن كان غير محسوب له عن فرضه.
ومن باب الاستبراء من البول
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب وهناد بن السري قالا:
حَدَّثنا وكيع، حَدَّثنا الأعمش قال سمعت مجاهدا يحدث عن
طاوس عن ابن عباس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم على
قبرين فقال إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير أما هذا فكان
لا يستبرىء أو لا يستنزه من البول وأما هذا فكان يمشي
بالنميمة ثم دعا بعسيب رطب فشقه باثنين ثم غرس على هذا
واحداً وعلى هذا واحداً وقال لعله يخفف عنهما العذاب ما لم
ييبسا.
قوله وما يعذبان في كبير معناه أنهما لم يعذبا في أمر كان
يكبر عليهما أو يشق فعله لو أرادا أن يفعلاه وهو التنزه من
البول وترك النميمة ولم يرد أن المعصية في هاتين الخصلتين
ليست بكبيرة في حق الدين وأن الذنب فيهما هين سهل.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فكان لا يستنزه من
البول دلالة على أن الأبوال كلها نجسة مجتنبة من مأكول
اللحم وغير مأكوله لورود اللفظ به مطلقاً على سبيل العموم
والشمول وفيه إثبات عذاب القبر، وأما غرسه شق العسيب على
القبر وقوله ولعله يخفف عنهما ما لم ييبسا فإنه من ناحية
التبرك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه بالتخفيف
عنهما، وكأنه صلى الله عليه وسلم جعل مدة بقاء النداوة
فيهما حدا لما وقعت به المسألة من تخفيف العذاب عنهما وليس
ذلك من أجل أن في الجريد الرطب
(1/19)
معنى ليس في اليابس والعامة في كثير من
البلدان تفرش الخوص في قبور موتاهم وأراهم ذهبوا إلى هذا
وليس لما تعاطوه من ذلك وجه والله أعلم.
ومن باب البول قائماً
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن سليمان، عَن
أبي وائل عن حذيفة قال أتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
سباطة قوم فبال قائماً ثم دعا بماء فمسح على خُفيه قال
فذهبتُ أتباعد فدعاني حتى كنت عند عقبه.
السباطة مُلقى التراب والقِمام ونحوه تكون بفناء الدار
مرفقا للقوم ويكون ذلك في الأغلب سهلاً منثالاً يخد فيه
البول فلا يرتد على البائل.
وأما بوله قائماً فقد ذكر فيه وجوه منها أنه لم يجد للقعود
مكانا فاضطر إلى القيام إذ كان ما يليه من طرف السباطة
مرتفعا عاليا وقيل إنه كان برجله جرح لم يتمكن من القعود
معه وقد روي ذلك في حديث حدثت به عن محمد بن عقيل.
قال: حدثني يحيى بن عبد الله الهمداني،، قال: حَدَّثنا
حماد بن غسان الجعفي حدثنا معن بن عيسى القزاز عن مالك بن
أنس، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بال قائماً من جرح كان بمأبضه.
وحدثونا عن الشافعي أنه قال: كانت العرب تستشفي لوجع الصلب
بالبول قائماً فنرى أنه لعلة. كان به إذ ذاك وجع الصلب
والله أعلم.
وروي عن عمر أنه بال قائماً وقال البول قائماً أحصن للدبر
يريد به أنه إذا تفاج قاعداً استرخت مقعدته، وإذا كان
قائماً كان أحصن لها، والثابت عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم والمعتاد من فعله أنه كان يبول قاعداً وهذا هو
الاختيار وهو
(1/20)
المستحسن في العادات، وإنما كان ذلك الفعل
منه نادرا لسبب أو ضرورة دعته إليه وفي الخبر دليل على أن
مدافعة البول ومصابرته مكروهة لما فيه من الضرر والأذى،
وفيه جواز المسح من الحدث على الخفين.
وأما قوله فدعاني حتى كنت عند عقبه فالمعنى في إدنائه إياه
مع إبعاده في الحاجة إذا أرادها أن يكون سترا بينه وبين
الناس، وذلك أن السباطة إنمّا تكون في الأفنية والمحال
المسكونة أو قريبة منها ولا تكاد تلك البقعة تخلو من
المارة.
ومن باب المواضع التي نهي عن
البول فيها
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا إسماعيل بن جعفر
عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عَن أبي هريرة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا اللاعنين قيل وما
اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس
وظلهم.
قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن سويد الرملي وعمر بن الخطاب
أبو حفص وحديثه أتمُّ أن سعيد بن الحكم حدثهم قال أخبرني
نافع بن يزيد، قال: حَدَّثنا حيوة بن شريح أن أبا سعيد
الحِميري حدثه عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: اتقوا الملاعن الثلاث البَراز في الموارد
وقارعة الطريق والظل.
قوله اتقوا اللاعنين يريد الأمرين الجالبين للّعن الحاملين
الناس عليه والداعِيَين إليه، وذلك أن من فعلهما لعن وشتم
فلما صارا سببا لذلك أضيف إليهما الفعل فكان كأنهما
اللاعنان، وقد يكون اللاعن أيضاً بمعنى الملعون فاعل بمعنى
مفعول كما قالوا سر كاتم أي مكتوم وعيشة راضية أي مرضية،
والملاعن مواضع اللعن والموارد طرق الماء وأحدها موردة
والظل هنا يراد به مستظل الناس الذي اتخذوه مقيلا
(1/21)
ومناخا ينزلونه وليس كل ظل يحرم القعود
للحاجة تحته فقد قعد النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته تحت
حايش من النخل وللحايش لا محالة ظل، وإنما ورد النهي عن
ذلك في الظل يكون ذرىً للناس ومنزلاً لهم.
باب البول قي المستحم
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل والحسن بن علي قالا:
حَدَّثنا عبد الرزاق حدثنا معمر حدثني أشعثُ عن الحسن عن
ابن مُغفل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا
يبولنّ أحدكم في مستحمه ثم يغتسل فيه فإن عامة الوسواس
تكون منه.
المستحم المغتسل وسمي مستحماً باسم الحميم وهو الماء الحار
الذي يغتسل به وإنما نهى عن ذلك إذا لم يكن المكان جَددا
صلبا أولم يكن مسلك ينفذ فيه البول ويسيل فيه الماء فيوهم
المغتسل أنه أصابه من قطره ورشاشه فيورثه الوسواس.
ومن باب ما يقول إذا خرج من
الخلاء
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن محمد حدثنا هاشم بن القاسم
حدثنا إسرائيل عن يوسف من أبى بُردة عن أبيه قال حدثتني
عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الغائط
قال غُفرانك.
الغفران مصدر كالمغفرة وإنما نصبه بإضمار الطلب والمسألة
كأنه يقول اللهم إني أسألك غفرانك كما تقول اللهم عفوك
ورحمتك تريد هب لي عفوك ورحمتك وقيل في تأويل ذلك وفي
تعقيبه الخروج من الخلاء بهذا الدعاء قولان أحدهما أنه قد
استغفر من تركه ذكر الله تعالى مدة لبثه على الخلاء، وكان
صلى الله عليه وسلم لا يهجر ذكر الله إلاّ عند الحاجة
فكأنه رأى هجران الذكر في تلك الحالة تقصيرا وعده على نفسه
ذنبا فتداركه بالاستغفار.
(1/22)
وقيل معناه التوبة من تقصيره في شكر النعمة
التي أنعم الله تعالى بها عليه فأطعمه ثم هضمه ثم سهل خروج
الأذى منه فرأى شكره قاصرا عن بلوغ حق هذه النعم ففزع إلى
الاستغفار منه والله أعلم.
ومن باب كراهة مس الذكر في
الاستبراء
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل
قالا: حَدَّثنا أبان حدثنا يحيى عن عبد الله بن قتادة عن
أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بال أحدكم
فلا يمس ذكره بيمينه وإذا شرب فلا يشرب نفساً واحداً.
إنما كره مس الذكر باليمين تنزيها لها عن مباشرة العضو
الذي يكون منه الأذى والحدث وكان صلى الله عليه وسلم يجعل
يمناه لطعامه وشرابه ولباسه ويسراه لما عداها من مهنة
البدن. وقد تعرض ههنا شبهة ويشكل فيه مسألة فيقال قد نهى
عن الاستنجاء باليمين ونهى عن مس الذكر باليمين فكيف يعمل
إذا أراد الاستنجاء من البول فإنه إن أمسك ذكره بشماله
احتاج إلى أن يستنجي بيمينه، وان أمسكه بيمينه يقع
الاستنجاء بشماله فقد دخل في النهي. فالجواب أن الصواب في
مثل هذا أن يتوخى الاستنجاء بالحجر الضخم الذي لا يزول عن
مكانه بأدنى حركة تصيبه أو بالجدار أو بالموضع الناتىء من
وجه الأرض وبنحوها من الأشياء، فإن أدته الضرورة إلى
الاستنجاء بالحجارة والنبل ونحوها فالوجه أن يتأتى لذلك
بأن يلصق مقعدته إلى الأرض ويمسك الممسوح بين عقبيه
ويتناول عضوه بشمال فيمسحه به وينزه عنه يمينه.
وسمعت ابن أبي هريرة يقول حضرت مجلس المحاملي، وقد حضر شيخ
من أهل أصفهان نبيل الهيئة قدم أيام الموسم حاجا فأقبلت
عليه وسألته عن مسألة
(1/23)
من الطهارة فضجر وقال: مثلي يسأل عن مسائل
الطهارة. فقلت لا والله إن سألتك إلاّ عن الاستنجاء نفسه
وألقيت عليه هذه المسألة فبقي متحيرا لا يحسن الخروج منها
إلى أن فهمته.
وأما نهيه عن الشرب نفساً واحداً فنهي تأديب وذلك أنه إذا
جرعه جرعاً واستوفى ريه نفساً واحداً تكابس الماء في موارد
حلقه وأثقل معدته. وقد روي أن الكُباد من العب وهو إذا قطع
شربه في أنفاس ثلاثة كان أنفع لريه وأخف لمعدته وأحسن في
الأدب وأبعد من فعل ذوي الشره.
ومن باب الاستتار في الخلاء
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا عيسى عن
ثور عن الحصين الجبراني، عَن أبي سعد، عَن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: من استجمر فليوتر ومن فعل
فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن أتى الغائط فليستتر فإن لم
يجد إلاّ أن يجمع كثيباً من رمل فليستدبره فإن الشيطان
يلعب بمقاعد ابن آدم.
قوله من استجمر فليوتر الاستجمار الاستنجاء بالأحجار ومنه
رمي الجمار في الحج، وهي الحصا التي يرمى بها في أيام منى،
وحدثني محمد بن الحسين بن عاصم وإبراهيم بن عبد الله
القصار ومحمد بن الحباب قالوا حدثنا محمد بن إسحاق بن
خزيمة قال سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول سئل ابن عيينة عن
معنى قوله صلى الله عليه وسلم من استجمر فليوتر فسكت ابن
عيينة، فقيل له أترضى بما قال مالك؟ فقال وما قال مالك؟
قيل قال مالك الاستجمار الاستطابة بالأحجار. فقال ابن
عيينة إنمّا مثلي ومثل مالك كما قال الأول:
(1/24)
وابن اللبون إذا ما لز في قرن…… لم يستطع
صولة البزل القناعيس
وقوله صلى الله عليه وسلم: من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج
معناه التخيير بين الماء الذي هو الأصل في الطهارة وبين
الأحجار التي هي للترخيص والترفيه يريد أن الاستنجاء ليس
بعزيمة لا يجوز تركها إلى غيره لكنه إن استنجى بالحجارة
فليجعلها وتراً ثلاثاً وإلا فلا حرج إن تركه إلى غيره،
وليس معناه رفع الحرج في ترك التعبد أصلا بدليل حديث سلمان
الذي رويناه متقدما وهو قوله نهانا أن يستنجي أحدنا بأقل
من ثلاثة أحجار، وفيه وجه آخر وهو رفع الحرج في الزيادة
على الثلاث، وذلك أن ما جاوز الثلاث في الماء عدوان وترك
للسنة. والزيادة في الأحجار ليست بعدوان وإن صارت شفعا
وقوله صلى الله عليه وسلم إن الشيطان يلعب بمقاعد ابن آدم،
فمعناه أن الشياطين تحضر تلك الأمكنة وترصدها بالأذى
والفساد لأنها مواضع يهجر فيها ذكر الله وتكشف فيها
العورات، وهو معنى قوله إن هذه الحشوش محتضرة فأمر عليه
السلام بالتستر ما أمكن وأن لا يكون قعود الإنسان في براح
من الأرض تقع عليه أبصارالناظرين فيتعرض لانتهاك الستر أو
تهب عليه الريح فيصيبه نشر البول عليه والخلاء فيلوث بدنه
وثيابه وكل ذلك من لعب الشيطان به وقصده إياه بالأذى
والفساد.
وفي قوله: من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج، دليل على أن
أمر النبي صلى الله عليه وسلم على الوجوب واللزوم ولولا أن
ذلك حكم الظاهر منه ما كان يحتاج فيه إلى بيان سقوط وجوبه
وإزالة الإثم والحرج فيه.
(1/25)
ومن باب ما ينهى أن
يستنجى به
قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن مَوْهب
الهمداني حدثني المفضل بن فضالة عن عياش بن عباس القِتباني
أن شُييم بن بينان أخبره عن شيبان القتباني عن رُوَيفع بن
ثابت قال إن كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليأخذ نضو أخيه على أن له النصف مما يغنم ولنا النصف
وإن كان أحدنا ليطير له النصلُ والريشُ وللآخر القدح. ثم
قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رويفع لعل
الحياة ستطول بك بعدي فأخبر الناس أنه من عقد لحيته أو
تقلد وتراً أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً منه
بريء.
النضو ههنا البعير المهزول يقال بعير نضو وناقة نضو ونضوة
وهو الذي أنضاه العمل وهزله الكد والجهد، وفي هذا حجة لمن
أجاز أن يعطي الرجل فرسه أو بعيره على شطر ما يصيبه
المستأجر من الغنيمة، وقد أجازه الأوزاعي وأحمد ولم يجز
أكثر الفقهاء، وإنما رأوا في مثل هذا أجرة المثل. وقوله
وإن كان أحدنا ليطير له النصل أي يصيبه في القسمة يقال طار
لفلان النصف ولفلان الثلث إذا وقع له ذلك في القسمة والقدح
خشب السهم قبل أن يراش ويركب فيه النصل، وفيه دليل على أن
الشيء المشترك بين الجماعة إذا احتمل القسمة وطلب أحد
الشركاء المقاسمة كان له ذلك ما دام ينتفع بالشيء الذي
يخصه منه وان قل ونزر وذلك لأن القدح قد ينتفع به عريا من
الريش والنصل، وكذلك قد ينتفع بالنصل والريش وإن لم يكونا
مركبين في قدح. فأما ما لا ينتفع بقسمته أحد من الشركاء
وكان في ذلك الضرر والإفساد للمال كاللؤلؤة تكون بين
الشركاء ونحوها من الشيء الذي إذا فرق بين أجزائه بطلت
قيمته وذهبت منفعته فإن المقاسمة لا تجب فيه
(1/26)
لأنها حينئذ من باب إضاعة المال ويبيعون
الشيء ويقتسمون الثمن بينهم على قدر حقوقهم منه.
وأما نهيه عن عقد اللحية فإن ذلك يفسر على وجهين: أحدهما
ما كانوا يفعلونه من ذلك في الحروب كانوا في الجاهلية
يعقدون لحاهم وذلك من زي الأعاجم يفتلونها ويعقدونها، وقيل
معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد وذلك من فعل أهل التوضيع
والتأنيث.
وأما نهيه عن تقليد الوتر فقد قيل إن ذلك من أجل العوذ
التي يعلقونها عليه والتمائم التي يشدونها بتلك الأوتار
وكانوا يرون أنها تعصم من الآفات وتدفع عنهم المكاره فأبطل
النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من فعلهم ونهاهم عنه وقد قيل
إن ذلك من جهة الأجراس التي يعلقونها بها. وقيل أنه نهى عن
ذلك لئلا تختنق الخيل بها عند شدة الركض.
قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شُريح الحمصي حدثنا ابن عياش
عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن عبد الله بن الديلمي عن
عبد الله بن مسعود قال قدم وفد الجن على رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقالوا يا محمد انه أمتك أن يستنجوا بعظم
أو روثة أو حممةٍ فإن الله جعل لنا فيها رزقاً قال فنهى
النبي صلى الله عليه وسلم.
الحمم الفحم وما أحرق من الخشب والعظام ونحوهما،
والاستنجاء به منهي عنه لأنه جعل رزقاً للجن فلا يجوز
إفساده عليهم، وفيه أيضاً أنه إذا مس ذلك المكان وناله
أدنى غمز وضغط تفتت لرخاوته فعلق به شيء منه متلوثاً بما
يلقاه من تلك النجاسة وفي معناه الاستنجاء بالتراب وفتات
المدر ونحوهما.
(1/27)
ومن باب الاستنجاء
بالماء
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية عن خالد الواسطي عن خالد
الحذاء عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم دخل حائطا ومعه غلام معه ميْضأةٌ وهو
أصغرنا فوضعها عند السدرة فقضى حاجته فخرج علينا وقد
استنجى بالماء.
الميضأة شبه المطهرة تسع من الماء قدر ما يتوضأ به وفيه من
العلم أن حمل الخادم الماء إلى المغتسل غير مكروه وأن
الأدب فيه أن يليه الأصاغر من الخدم دون الكبار. وفيه
استحباب الاستنجاء بالماء وإن كانت الحجارة مجزية. وقد كره
قوم من السلف الاستنجاء بالماء وزعم بعض المتأخرين أن
الماء نوع من المطعوم فكرهه لأجل ذلك، والسنة تقضي على
قوله وتبطله، وكان بعض القراء يكره الوضوء في مشارع المياه
الجارية وكان يستحب أن يؤخذ له الماء في ركوة أو ميضأة،
وزعم أنه من السنة لأنه لم يبلغه أن النبي صلى الله عليه
وسلم توضأ على نهر أو شرع في ماء جار، قلت وهذا عندي من
أجل أنه لم يكن بحضرته المياه الجارية والأنهار المطردة،
فأما من كان في بلاد ريف وبين ظهراني مياه جارية فأراد أن
يشرع فيها ويتوضأ منها كان له ذلك من غير حرج في حق دين
ولا سنة.
ومن باب السواك
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد عن سفيان، عَن أبي
الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة يرفعه قال: لولا أن أشق
على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء وبالسواك عند كل صلاة.
فيه من الفقه أن السواك غير واجب وذلك أن لولا كلمة تمنع
الشيء لوقوع
(1/28)
غيره فصار الوجوب بها ممنوعا ولو كان
السواك واجبا لأمرهم به شق أو لم يشق.
وفيه دليل أن أصل أوامره على الوجوب ولولا أنه إذا أمرنا
بالشيء صار واجبا لم يكن لقوله لأمرتهم به معنى وكيف يشفق
عليهم من الأمر بالشيء وهو إذا أمر به لم يجب ولم يلزم
فثبت أنه على الوجوب ما لم يقم دليل على خلافه.
وأما تأخيره العشاء فالأصل أن تعجيل الصلوات كلها أولى
وأفضل وإنما اختار لهم تأخير العشاء ليقل حظ النوم وتطول
مدة انتظار الصلاة وقد قال صلى الله عليه وسلم: إن أحدكم
في صلاة ما
دام ينتظر الصلاة.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا أحمد بن
خالد حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عبد
الله بن عبد الله بن عمر قال قلت: أرأيت توضؤ ابن عمر لكل
صلاة طاهرا أو غير طاهر عم ذلك فقال حدثته أسماء بنت زيد
بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر حدثها أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا أو
غير طاهر فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك لكل صلاة.
قال يحتج بهذا الحديث من يرى أن المتيمم لا يجمع بين صلاتي
فرض بتيمم واحد وأن عليه أن يتيمم لكل صلاة فريضة. قال
وذلك لأن الطهارة بالماء كانت مفروضة عليه لكل صلاة وكان
معلوماً أن حكم التيمم الذي جعل بدلا عنها مثلها في الوجوب
فلما وقع التخفيف بالعفو عن الأصل ولم يذكر سقوط التيمم
كان باقيا على حكمه الأول وهو قول علي بن أبي طالب وابن
عمر رضي الله عنهما والنخعي وقتادة وإليه ذهب مالك
والشافعي وأحمد وإسحاق. فإن سئل على هذا فقيل فهلا كان
التيمم تبعاً له في السقوط كهو في الوجوب؟ قيل الأصل أن
(1/29)
الشيء إذا ثبت وصار شرعاً لم يزل عن محله
إلا بيقين نسخ وليس مع من أسقطه إلاّ معنى يحتمل ما ادعاه
ويحتمل غيره، والنسخ لا يقع بالقياس ولا بالأمور التي فيها
احتمال.
ومن باب الرجل يستاك بسواك
غيره
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا عنبسة بن عبد
الواحد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يستن وعنده رجلان أحدهما أكبر من
الآخر فأوحى إليه في فضل السواك أن كَبِّر أي أعط السواك
أكبرهما.
قوله يستن معناه يستاك وأصله مأخوذ من السن، وهو إمرارك
الشيء الذي فيه حزونة على شيء آخر ومنه المسن الذي يشحذ به
الحديد ونحوه يريد أنه كان يدلك أسنانه.
وفيه من الأدب تقديم حق الأكبر من جماعة الحضور وتبديته
على من هو أصغر منه وهو السنة في السلام والتحية والشراب
والطيب ونحوها من الأمور. وفي معناه تقديم ذي السن بالركوب
والحذاء والطست وما أشبه ذلك من الإرفاق.
وفيه أن استعمال سواك الغير ليس بمكروه على ما يذهب إليه
بعض من يتقزز إلاّ أن السنة فيه أن يغسله ثم يستعمله.
ومن باب غسل السواك
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين حدثنا وكيع عن زكريا بن
أبي زائدة عن مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب، عَن أبي الزبير
عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عشر من
الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية
(1/30)
والسواك والاستنشاق بالماء وقص الأظفار
وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء،،
يَعني الاستنجاء بالماء.
قال مصعب بن شيبة ونسيت العاشرة إلاّ أن تكون المضمضة. وفي
رواية عمار بن ياسر أن رسول الله قال إن من الفطرة المضمضة
والاستنشاق وذكر نحوه ولم يذكر إعفاء اللحية وزاد والختان
قال والانتضاح ولم يذكر انتقاص الماء.
قوله صلى الله عليه وسلم: عشر من الفطرة فسر أكثر العلماء
الفطرة في هذا الحديث بالسنة وتأويله أن هذه الخصال من سنن
الأنبياء الذين أمرنا أن نقتدي بهم لقوله سبحانه {فبهداهم
اقتده} [الأنعام: 90] وأول من أُمر بها إبراهيم صلوات الله
عليه وذلك قوله تعالى {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات
فأتمهن} [البقرة: 124] . قال ابن عباس أمره بعشر خصال ثم
عددهن فلما فعلهن قال إني جاعلك للناس إماما أي ليقتدي بك
ويستن بسنتك وقد أمرت هذه الأمة بمتابعته خصوصا وبيان ذلك
في قوله تعالى {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا}
[النحل: 123] ويقال إنها كانت عليه فرضاً وهن لنا سنة.
وأما إعفاء اللحية فهو إرسالها وتوفيرها كره لنا أن نقصها
كفعل بعض الأعاجم وكان من زي آل كسرى قص اللحى وتوفير
الشوارب فندب صلى الله عليه وسلم أمته إلى مخالفتهم في
الزي والهيئة.
ويقال عفا الشعر والنبات إذا وفا وقد عفوته وأعفيته لغتان
قال تعالى {حتى عفوا} [الأعراف: 95] أي أكثروا.
وأما غسل البراجم فمعناه تنظيف المواضع التي تتشنج ويجتمع
فيها الوسخ وأصل البراجم العقد التي تكون في ظهور الأصابع،
والرواجب ما بين البراجم
(1/31)
وواحدة البراجم بُرجمة.
وأما الختان فإنه وإن كان مذكورا في جملة السنن فإنه عند
كثير من العلماء على الوجوب وذلك أنه شعار الدين وبه يعرف
المسلم من الكافر، وإذا وجد المختون بين جماعة قتلى غير
مختتنين صلى عليه ودفن في مقابر المسلمين.
وحكي، عَن أبي العباس بن شريح أنه كان يقول لا خلاف أن ستر
العورة واجب فلولا أن الختان فرض لم يجز هتك حرمة المختون
بالنظر إلى عورته.
وأما انتضاح الماء الاستنجاء وأصله من النضح وهو الماء
القليل، وانتقاص الماء الاستنجاء به أيضاً كما فسروه.
وقد يستدل بهذا الحديث من يرى المضمضة والاستنشاق غير
واجبين في شيء من الطهارات ويراهما سنه كنظائرهما المذكورة
معهما، إلاّ أنه قد يجوز أن يفرق بين القراين التي يجمعها
نظم واحد بدليل يقوم على بعضها فيحكم له بخلاف حكم
صواحباتها.
وقد روي أنه كره من الشاة سبعا: الدم، والمرارة، والحيا،
والغدة، والذكر والأنثيين، والمثانة. والدم حرام بالإجماع
وعامة المذكورات معه مكروهه غير محرمة.
باب
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن منصور
وحُصين عن أبى وائل عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك.
قوله يشوص معناه يغسل يقال شاصه يشوصه، وماصه يموصه بمعنى
واحد إذا غسله.
(1/32)
ومن باب فرض الوضوء
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن قتادة،
عَن أبي المليح عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غُلول.
فيه من الفقه أن الصلوات كلها مفتقرة إلى الطهارة وتدخل
فيها صلاة الجنازة والعيدين وغيرهما من النوافل كلها.
وفيه دليل أن الطواف لا يجزي بغير طهور لأن النبي صلى الله
عليه وسلم سماه صلاة فقال الطواف صلاة إلاّ أنه أبيح فيه
الكلام.
وفي قوله ولا صدقة من غلول بيان أن من سرق مالاً أو خانه
ثم تصدق به لم يجز وإن كان نواه عن صاحبه وفيه مستدل لمن
ذهب إلى أنه إن تصدق به على صاحب المال لم تسقط عنه تبعته.
وإن كان طعاما فأطعمه إياه لم يبرأ منه ما لم يعلمه بذلك.
وإطعام الطعام لأهل الحاجة صدقة ولغيرهم معروف وليس من
أداء للحقوق ورد الظلامات.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن
سفيان، عَن أبي عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله
عنه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الصلاة
الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم.
فيه من الفقه أن تكبيرة الافتتاح جزء من إجراء الصلاة وذلك
لأنه أضافها إلى الصلاة كما يضاف إليها سائر أجزائها من
ركوع وسجود، وإذا كان كذلك لم يجز أن تعري مباديها عن
النية لكن تضامها كما لا يجزيه إلاّ بمضامة سائر شرائطها
(1/33)
من استقبال القبلة وستر العورة ونحوهما.
وفيه دليل أن الصلاة لا يجوز افتتاحها إلاّ بلفظ التكبير
دون غيره من الأذكار وذلك لأنه قد عينه بالألف واللام
اللتين هما للتعريف والألف واللام مع الإضافة يفيدان السلب
والإيجاب وهو أن يسلبا الحكم فيما عدا المذكور ويوجبان
ثبوت المذكور، كقولك فلان مبيته المساجد أي لا مأوى له
غيرها، وحيلة الهم الصبر أي لا مدفع له إلاّ بالصبر ومثله
في الكلام كثير.
وفيه دليل على أن التحليل لا يقع بغير السلام لما ذكرنا من
المعنى ولو وقع بغيره لكان ذلك خُلْفا في الخبر.
ومن باب الماء يكون في الفلاة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة
والحسن بن علي وغيرهم قالوا حدثنا أبو أسامة عن الوليد بن
كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عمر عن
أبيه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما
ينوبه من الدواب والسباع فقال صلى الله عليه وسلم إذا كان
الماء قلتين لم يحمل الخبث.
هذا لفظ ابن العلاء وقال عثمان والحسن بن علي ومحمد بن
عباد بن جعفر قال أبو داود: حدثنا أبو كامل حدثنا يزيد بن
زُريع عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد
الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء يكون في الفلاة فذكر
معناه.
(1/34)
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا
حماد حدثنا عاصم بن المنذر عن عبيد الله بن عبد الله بن
عمر قال حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إذا كان الماء قلتين لا ينجس.
قلت قد تكون القلة الإناء الصغير الذي تقله الأيدي ويتعاطى
فيه الشرب كالكيزان ونحوها، وقد تكون القلة الجرة الكبيرة
التي يقلها القوي من الرجال إلاّ أن مخرج الخبر قد دل على
أن المراد به ليس النوع الأول لأنه إنما سئل عن الماء الذي
يكون بالفلاة من الأرض في المصانع والوهاد والغدرَان
ونحوها. ومثل هذه المياه لاتحمل بالكوز والكوزين في العرف
والعادة لأن أدنى النجس إذا أصابه نجسه فعلم أنه ليس معنى
الحديث.
وقد روي من غير طريق أبي داود من رواية ابن جريج إذا كان
الماء قلتين بقلال هجر. أخبرناه محمد بن هاشم حدثنا الدبري
عن عبد الرزاق عن ابن جريج. وذكر الحديث مرسلا وقال في
حديثه بقلال هجر قال وقلال هجر مشهورة الصنيعة معلومة
المقدار لا تختلف كما لا تختلف المكائل والصيعان والقرب
المنسوبة إلى البلدان المحدودة على مثال واحد وهي أكبر ما
يكون من القلال وأشهرها لأن الحد لا يقع بالمجهول ولذلك
قيل قلتين على لفظ التثنية ولوكان وراءها قلة في الكبر
لأشكلت دلالته فلما ثناها دل على أنه أكبر القلال لأن
التثنية لا بد لها من فائدة وليست فائدتها إلاّ ما ذكرناه،
وقد قدر العلماء القلتين بخمس قرب، ومنهم من قدرها
بخمسمائة رطل.
ومعنى قوله لم يحمل الخبث أي يدفعه عن نفسه كما يقال فلان
لا يحتمل الضيم
(1/35)
إذ كان يأباه ويدفعه عن نفسه فأما من قال
معناه أنه يضعف عن حمله فينجس فقد أحال لأنه لو كان كما
قال لم يكن إذاً فرق بين ما بلغ من الماء قلتين وبين ما لم
يبلغهما، وإنما ورد هذا مورد الفصل والتحديد بين المقدار
الذي ينجس والذي لا ينجس ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه
وسلم فإنه لا ينجس من رواية عاصم بن المنذر.
وممن ذهب إلى هذا في تحديد الماء، الشافعي وأحمد بن حنبل
وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد وأبو ثور وجماعة من أهل
الحديث، منهم محمد بن إسحاق بن خزيمة.
وقد تكلم بعض أهل العلم في إسناده من قبل أن بعض رواته،
قال عن عبد الله بن عبد الله، وقال بعضهم عبيد الله بن عبد
الله، وليس هذا باختلاف يوجب توهينه لأن الحديث قد رواه
عبيد الله وعبد الله معا. وذكروا أن الرواة قد اضطربوا
فيه، فقالوا مرة عن محمد بن جعفر بن الزبير ومرة عن محمد
بن عباد بن جعفر، وهذا اختلاف من قبل أبي أسامة حماد بن
أسامة القرشي.
ورواه محمد بن إسحاق بن يسار عن محمد بن جعفر بن الزبير،
فالخطأ من إحدى روايتيه متروك والصواب معمول به وليس في
ذلك ما يوجب توهين الحديث وكفى شاهدا على صحته أن نجوم
الأرض من أهل الحديث قد صححوه وقالوا به وهم القدوة وعليهم
المعول في هذا الباب.
وقد يستدل بهذا الحديث من يرى سؤر السباع نجسا لقوله وما
ينوبه من الدواب والسباع فلولا أن شرب السباع منه ينجسه لم
يكن لمسألتهم عنه ولا لجوابه إياهم بهذا الكلام معنى، وقد
يحتمل أن يكون ذلك من أجل أن السباع إذا وردت المياه
خاضتها وبالت فيها وتلك عادتها وطباعها وقل ماتخلو أعضاؤها
من لوث أبوالها ورجيعها، وقد ينتابها أيضاً في جملة السباع
الكلاب وأسْآرها
(1/36)
نجسة ببيان السنة.
ومن باب في بئر بضاعة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن
الوليد بن كثيرعن محمد بن كعب عن عبيد الله بن عبد الله بن
رافع بن خديج، عَن أبي سعيد الخدري أنه قيل يا رسول الله
أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر تطرح فيها الحيض ولحوم الكلاب
والنتن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء طهور لا
ينجسه شيء.
قد يتوهم كثير من الناس إذا سمع هذا الحديث ان هذا كان
منهم عادة وأنهم كانوا يأتون هذا الفعل قصدا وتعمدا وهذا
ما لا يجوز أن يظن بذمي بل بوثني فضلا عن مسلم ولم يزل من
عادة الناس قديما وحديثا مسلمهم وكافرهم تنزيه المياه
وصونها عن النجاسات فكيف يظن بأهل ذلك الزمان وهم أعلى
طبقات أهل الدين وأفضل جماعة المسلمين. والماء في بلادهم
أعز والحاجة إليه أمس أن يكون هذا صنيعهم بالماء وامتهانهم
له، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تغوط في
موارد الماء ومشارِعِه فكيف من اتخذ عيون الماء ومنابعه
رصدا لأنجاس ومطرحا للأقذار، هذا ما لا يليق بحالهم، وإنما
كان هذا من أجل أن هذه البئر موضعها في حَدور من الأرض وأن
السيول كانت تكسح هذه الأقذار من الطرق والأفنية وتحملها
فتلقيها فيها وكان الماء لكثرته لا يؤثر فيه وقوع هذه
الأشياء ولا يغيره فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
شأنها ليعلموا حكمها في الطهارة والنجاسة فكان من جوابه
لهم أن الماء لا ينجسه شيء يريد الكثير منه الذي صفته صفة
ماء هذه البئر في غزارته وكثرة جمامه لأن السؤال إنمّا وقع
عنها
(1/37)
بعينها فخرج الجواب عليها، وهذا لا يخالف
حديث القلتين إذ كان معلوماً أن الماء في بئر بضاعة يبلغ
القلتين فأحد الحديثين يوافق الآخر ولا يناقضه والخاص يقضي
على العام ويبينه ولا ينسخه.
قال أبو داود: حدثنا مسدد نا أبو الأحوص حدثنا سماك عن
عكرمة عن ابن عباس قال اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله
عليه وسلم في جفنة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ
منها أو ليغتسل فقالت له يا رسول الله إني كنت جنبا فقال
رسول الله: إن الماء لا يُجنب.
قوله لا يجنب، معناه لا ينجس وحقيقته أنه لا يصير بمثل هذا
الفعل إلى حال يجتنب فلا يستعمل، وأصل الجنابة البعد،
ولذلك قيل للغريب جنب أي بعيد وسمي المجامع ما لم يغتسل
جنبا لمجانبته الصلاة وقراءة القرآن كما سمي الغريب جنبا
لبعده عن أهله ووطنه.
وقد روي أربع لا يجنبن: الثوب والإ نسان والأرض والماء،
وفسروه أن الثوب إذا أصابه عرق الجنب والحائض لم ينجس.
والإنسلن إذا أصابته الجنابة لم ينجس وإن صافحه جنب أو
مشرك لم ينجس. والماء إن أدخل يده فيه جنب أو اغتسل فيه لم
ينجس. والأرض إن اغتسل عليها جنب لم تنجس.
ومن باب البول في الماء الراكد
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن محمد بن عجلان قال
سمعت أبي يحدث، عَن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه
من الجنابة. الماء الدائم هو الراكد الذي لا يجري، ونهيه
عن الاغتسال فيه يدل على أنه
(1/38)
يسلبه حكمه كالبول فيه يسلبه حكمه إلاّ أن
الاغتسال فيه لا ينجسه لأن بدن المؤمن ليس بنجس والبول
ينجسه لنجاسته في نفسه.
وفيه دليل على أن الوضوء بالماء المستعمل غير جائز وإنما
ينجس الماء بالبول فيه إذا كان دون القلتين بدليل ما تقدم
من الحديث.
وفيه دليل على أن حكم الماء الجاري بخلاف الراكد لأن الشيء
إذا ذكر بأخص أوصافه كان حكم ما عداه بخلافه. والمعنى فيه
أن الماء الجاري إذا خالطه النجس دفعه الجزء الثاني الذي
يتلوه فيه فيغلبه فيصير في معنى المستهلك ويخلفه الطاهر
الذي لم يخالطه النجس والماء الراكد لا يدفع النجس عن نفسه
إذا خالطه لكن يداخله ويقارُّه فمهما أراد استعمال شيء منه
كان النجس فيه قائماً والماء في حد القلة فكان محرما.
ومن باب الوضوء بسؤر الكلب
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زائدة في حديث
هشام عن محمد، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مراراً
أولاهن بالتراب. قال أبو داود وكذلك أيوب وحبيب بن الشهيد
عن محمد.
في هذا الحديث من الفقه أن الكلب نجس الذات ولولا نجاسته
لم يكن لأمره بتطهير الإناء من ولوغه معنى. والطهور يقع في
الأصل إما لرفع حدث أو لازالة نجس والإناء لا يلحقه حكم
الحدث فعلم أنه قصد به إزالة النجس وإذا ثبت أن لسانه الذي
يتناول به الماء نجس يجب تطهير الإناء منه علم أن سائر
أجزائة وأبعاضه في النجاسة بمثابة لسانه فبأي جزء من أجزاء
بدنه ماسه وجب تطهيره
(1/39)
وفيه البيان الواضح أنه لا يطهره أقل من
عدد السبع وأن تعفيره بالتراب واجب. وإذا كان معلوماً أن
التراب أنمّا ضم إلى الماء استظهارا في التطهير وتوكيدا له
لغلظ نجاسة الكلب فقد عقل أن الأشنان وما أشبهه من الأشياء
التي فيها قوة الجلاء والتهير بمنزلة التراب في الجواز.
وفي دليل على أن الماءالمولوغ فيه نجس لأن الذي قد مسه
الكلب هو الماء دون الإناء فلولا أن الماء نجس لم يجب
تطهير الإناء منه.
ويؤيد ذلك قوله في رواية أخرى إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم
فليهرقه وليغسله سبعا من طريق علي بن مُسهر عن الأعمش، عَن
أبي صالح، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
حدثناه غير واحد من أصحابنا قالوا حدثنا محمد بن إسحاق بن
خزيمة حدثنا محمد بن يحيى حدثنا إسماعيل بن خليل حدثنا علي
بن مسهر. ولو كان المولوغ فيه باقيا على طهارته لم يأمر
بإراقته، وقد يكون لبنا وزيتا ونحو ذلك من المطعوم وقد نهى
صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. وذهب بعض أهل الظاهر
إلى أن الماء طاهر وأن غسل الإناء تعبد، وقد دل الحديث على
فساد هذا القول وبطلانه.
وذهب مالك والأوزاعي إلى أنه إذا لم يجد ماءً غيره توضأ
به، وكان سفيان الثوري يقول يتوضأ به إذا لم يجد ماء غيره.
ثم يتيمم بعده. فدل هذا من فتواهم على أن الماء المولوغ
فيه عندهم ليس على النجاسة المحضة، وخالفهم من سواهم من
أهل العلم ومنعوا التطهير به وحكموا بنجاسته.
وفي الخبر دليل على أن الماء القليل إذا حلته نجاسة فسد،
وفيه دليل على تحريم بيع الكلب إذ كان نجس الذات فصار
كسائر النجاسات.
(1/40)
ومن باب في سؤر
الهرة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن إسحاق بن عبد الله
بن أبي طلحة عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة عن كبشة بنت كعب
بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة أن أبا قتادة دخل فسكبت
له وضوءا فجاعت هرة فشربت منه فأصغى لها الإناء حتى شربت
قالت كبشة فرآني أنظر إليه فقال أتعجبين ما بنت أخي فقلت
نعم. فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: إنها
ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات.
فيه من الفقه أن ذات الهرة طاهرة وأن سؤرها غير نجس وأن
الشرب منه والوضوء به غير مكروه.
وفيه دليل على أن سؤر كل طاهر الذات من السباع والدواب
والطير وإن لم يكن مأكول اللحم طاهر.
وفيه دليل على جواز بيع الهر إذ قد جمع الطهارة والنفع.
وقوله إنها من الطوافين أو الطوافات عليكم يتأول على وجهين
أحدهما أن يكون شبهها بخدم البيت وبمن يطوف على أهله
للخدمة ومعالجة المهنة كقوله تعالى {طوافون عليكم بعضكم
على بعض} [النور: 58] ، يَعني المماليك والخدم وقال تعالى
{يطوف عليهم ولدان مخلدون} [الواقعة: 17] وقال ابن عمر
إنمّا هي ربيطة من ربائط البيت والوجه الآخر أن يكون شبهها
بمن يطوف للحاجة والمسألة يريد أن الأجر في مواساتها
كالأجر في مواساة من يطوف للحاجة ويتعرض للمسألة.
(1/41)
ومن باب الوضوء بفضل
وضوء المرأة
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيىعن سفيان حدثني منصور
عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت كنت اغتسل أنا ورسول
الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ونحن جنبان.
فيه دليل على أن الجنب ليس بنجس، وأن فضل وضوء المرأة
طاهركفضل وضوء الرجل. وروى أبو داود في هذا الباب حديثا
آخر في النهي عن فضل طهور المرأة.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار نا أبو داود [زاد في
المتن، يَعني الطيالسي] حدثنا شعبة عن عاصم، عَن أبي حاجب
عن الحكم بن عمرو وهو الأقرع أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة.
فكان وجه الجمع بين الحديثين أن ثبت حديث الأقرع أن النهي
إنما وقع عن التطهير بفضل ما تستعمله المرأة من الماء وهو
ما سال وفضل عن أعضائها عند التطهر به دون الفضل الذي
تسئره في الإناء، وفيه حجة لمن رأى أن الماء المستعمل لا
يجوز الوضوء به. ومن الناس من يجعل النهي في ذلك على
الاستحباب دون الإيجاب، وكان ابن عمر يذهب إلى النهي عن
فضل وضوء المرأة، إنما هو إذا كانت جنبا أو حائضا فإذا
كانت طاهرا فلا بأس به.
وإسناد حديث عائشة في الإباحة أجود من إسناد خبر النهي.
وقال محمد بن إسماعيل: خبر الأقرع لا يصح. والصحيح في هذا
الباب حديث عبد الله بن سرجس وهو موقوف ومن رفعه فقد أخطأ.
(1/42)
ومن باب الوضوء بماء
البحر
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن
صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة من آل الأزرق أن المغيرة بن
أبي بردة وهو من بني عبد الدار أخبره أنه سمع أبا هريرة
يقول: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول
الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن
توضأنا به عطشنا أفتوضأ بماء البحر؟ فقال صلى الله عليه
وسلم هو الطهور ماؤه الحل ميتته.
في هذا الحديث أنواع من العلم منها أن المعقول من الطهور
والغسول المضمنين في قوله تعالى {إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] الآية إنما كان عند السامعين
له والمخاطبين به الماء المفطور على خلقته السليم في نفسه
الخلي من الأعراض المؤثرة فيه ألا تراهم كيف ارتابوا بماء
البحر لما رأوا تغيره في اللون وملوحة الطعم حتى سألوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفتوه عن جواز التطهير
به.
وفيه أن العالم والمفتي إذا سئل عن شيء وهو يعلم أن
بالسائل حاجة إلى معرفة ما وراءه من الأمور التي يتضمنها
مسألته أو تتصل بمسألته كان مستحبا له تعليمه إياه
والزيادة في الجواب عن مسألته ولم يكن ذلك عدوانا في القول
ولا تكلفا لما لا، يَعني من الكلام ألا تراهم سألوه عن ماء
البحر حسب، فأجابهم عن مائه وعن طعامه لعلمه بأنه قد
يعوزهم الزاد في البحر كما يعوزهم الماء العذب، فلما
جمعتهم الحاجة منهم انتظمهما الجواب منه لهم.
وأيضاً فإن علم طهارة الماء مستفيض عند الخاصة والعامة،
وعلم ميتة البحر وكونها حلالا مشكل في الأصل، فلما رأى
السائل جاهلا بأظهر الأمرين
(1/43)
غير مستبين للحكم فيه علم أن أخفاهما
أولاهما بالبيان ونظير هذا قوله للرجل الذي أساء الصلاة
بحضرته فقال له صل فإنك لم تصل فأعادها ثلاثا كل ذلك يأمره
بإعادة الصلاة إلى أن سأله الرجل أن يعلمه الصلاة فابتدأ
فعلمه الطهارة ثم علمه الصلاة وذلك والله أعلم لأن الصلاة
شيء ظاهر تشتهره الأبصار، والطهارة أمر يستخلي به الناس في
ستر وخفاء فلما رآه صلى الله عليه وسلم جاهلا بالصلاة حمل
أمره على الجهل بأمر الطهارة فعلمه إياها.
وفيه وجه آخر وهوأنه لما أعلمهم بطهارة ماء البحر وقد علم
أن في البحر حيوانا قد يموت فيه والميتة نجس احتاج إلى أن
يعلمهم أن حكم هذا النوع من الميتة حلال بخلاف سائر
الميتات لئلا يتوهموا أن ماءه ينجس بحلولها إياه.
وفيه دليل على أن السمك الطافي حلال وأنه لا فرق بين ما
كان موته في الماء وبين ما كان موته خارج الماء من حيوانه.
وفيه مستدل لمن ذهب إلى أن حكم جميع أنواع الحيوان التي
تسكن البحر إذا ماتت فيه الطهارة، وذلك بقضية العموم إذا
لم يستثن نوعا منها دون نوع.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن ما كان له في البر مثل ونظير
مما لا يؤكل لحمه كالإنسان المائي والكلب والخنزير فإنه
محرم، وما له مثل في البر يؤكل فإنه مأ كول.
وذهب آخرون إلى أن هذا الحيوان وإن اختلف صورها فإنها كلها
سموك، والجريث يقال له حية الماء وشكله شكل الحيات ثم أكله
جائز فعلم أن اختلافها في الصور لا يوجب اختلافها في حكم
الإباحة، وقد استثنى هؤلاء من جملتها الضفدع لأن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع.
(1/44)
ومن باب أيصلي الرجل
وهو حاقن
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد، عَن
أبي حزرة، قال: حَدَّثنا عبد الله بن محمد أخو القاسم بن
محمد قال كنا عند عائشة فجيء بطعامها فقام القاسم بن محمد
يصلي فقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا
يصلي بحضرة الطعام ولا هو يدافعه الأخبثان.
إنما أمر صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بالطعام لتأخذ النفس
حاجتها منه فيدخل المصلي في صلاته وهو ساكن الجأش لا
تنازعه نفسه شهوة الطعام فيعجله ذلك عن إتمام ركوعها
وسجودها وإيفاء حقوقها وكذلك إذا دافعه البول فإنه يصنع به
نحوا من هذا الصنيع، وهذا إذا كان في الوقت فضل يتسع لذلك،
فأما إذا لم يكن فيه متسع له ابتدأ الصلاة ولم يعرج على
شيء سواها.
قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد حدثنا أحمد بن علي
حدثنا ثور عن يزيد بن شريح الحضرمي، عَن أبي حي المؤذن،
عَن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل
لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصلي وهو حاقن حتى يتخفف
ولا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوماً إلا
بإذنهم ولا يخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم) .
قوله لا يحل لرجل أن يؤم قوما إلاّ بإذنهم يريد أنه إذا لم
يكن باقرئهم ولا بافقههم لم يجز له الاستبداد عليهم
بالإمامة فأما إذا كان جامعا لأوصاف الإمامة بأن يكون أقرأ
الجماعة وأفقههم فإنهم عند ذلك يأذنون له لا محالة في
الإمامة بل يسألونه ذلك ويرغبون إليه فيها وهو إذ ذاك
أحقهم بها أذنوا له أو لم يأذنوا.
وإنما هذا كقوله صلى الله عليه وسلم: من تولى قوما بغير
إذن مواليه فعليه لعنة الله، والمعنى
(1/45)
أنه لا يجوز له أن يتولى غير مواليه إلاّ
أنه إذا أراد أن يوالي قوما فاستأذن مواليه فلم يأذنوا له
ومنعوه امتنع من ذلك وبقي على أصل ولائه لم يحدث عنه
انتقالا ولا له استبدالاً، وليس معناه أنه لو أذنوا له في
ذلك جازت موالاته إياهم، ولكن الإشارة وقعت بالاذن إلى
المنع مما يقع الاستئذان له.
وقد قيل إن النهي عن الإمامة إلاّ بالاستئذان انما هو إذا
كان في بيت غيره فأما إذا كان في سائر بقاع الأرض فلا حاجة
به إلى الاستئذان وأولاهم بالإمامة أقرؤهم وأفقههم على
ماجاء معناه في حديث أبي مسعود البدري.
ومن باب اسباغ الوضوء
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثنا منصور
عن هلال بن يساف، عَن أبي يحيى عن عبد الله بن عمرو أن
النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوماً تلوح أعقابهم فقال:
ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء.
فيه من الفقه أن المسح لا يجوز على النعلين وأنه لا يجوز
ترك شيء من القدم وغيره من أعضاء الوضوء لم يمسه الماء قل
ذلك أوكثر لأنه صلى الله عليه وسلم لا يتوعد على ما ليس
بواجب.
ومن باب التسمية على الوضوء
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا محمد بن موسى عن
يعقوب بن سلمة عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه.
قلت قد ذهب بعض أهل العلم إلى ظاهر لفظ الحديث فأوجب إعادة
الوضوء إذا ترك التسمية عامدا وهو قول إسحاق بن راهويه.
(1/46)
قال آخرون معناه نفي الفضيلة دون الفريضة
كما روي لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد أي في الأجر
والفضيلة، وتأوله جماعة من العلماء على النية وجعلوه ذكر
القلب. وقالوا وذلك أن الأشياء قد تعتبر بأضدادها فلما كان
النسيان محله القلب كان محل ضده الذي هو الذكر بالقلب
وإنما ذكرُ القلب النية والعزيمة.
ومن باب يدخل يده في الاناء
قبل أن يغسلها
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عَن
أبي رزين وأبي صالح، عَن أبي هريرة قال. قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا قام أحدكم من الليل فلا يغمس يده في
الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات فإنه لا يدري أين باتت يده.
قلت: قد ذهب داود ومحمد بن جربر إلى إيجاب غسل اليد قبل
غمسها في الإناء ورأيا أن الماء ينجس به إن لم تكن اليد
مغسولة، وفرق أحمد بين نوم الليل ونوم النهار. قال وذلك
لأن الحديث إنما جاء في ذكر الليل في قوله إذا قام أحدكم
من الليل ولأجل أن الانسان لا يتكشف لنوم النهار ويتكشف
غالبا لنوم الليل فتطوف يده في أطراف بدنه فربما أصابت
موضع العورة وهناك لوث من أثر النجاسة لم ينقه الاستنجاء
بالحجارة فإذا غمسها في الماء فسد الماء بمخالطة النجاسة
إياه، وإذا كان بين اليد وبين موضع العورة حائل من ثوب أو
نحوه كان هذا المعنى مأموناً.
وذهب عامة أهل العلم إلى أنه غمس يده في الإناء قبل غسلها
فإن الماء طاهر ما لم يتيقن نجاسة بيده وذلك لقوله فإنه لا
يدري أين باتت يده فعلقه بشكل وارتياب، والأمر المضمن
بالشك والارتياب لا يكون واجبا وأصل الماء الطهارة وبدن
الإنسان على حكم الطهارة كذلك، وإذا ثبتت الطهارة يقينا
(1/47)
لم تزل بأمر مشكوك فيه.
وفي الخبر دليل على أن الماء القليل إذا وردت عليه النجاسة
وإن قلت غيرت حكمه لأن الذي يعلق باليد منها من حيث لا يرى
قليل، وكان من عادة القوم في طهورهم استعمال ما لطف من
الآنية كالمخاضب والمراكن والركاء والأداوي ونحوها من
الآنية التي تقصر عن قدر القلتين.
وفيه من الفقه أن القليل من الماء إذا ورد على النجاسة على
حد الغلبة والكثرة أزالها ولم يتنجس بها لأن معقولا ان
الماء الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبه من
الإناء على يده أقل من الماء الذي أبقاه في الإناء; ثم قد
حكم للأقل بااطهارة والتطهير وللأكثر بالنجاسة فدل على
الفرق بين الماء واردا على النجاسة ومورودا عليه النجاسة.
وفيه دليل على أن غسل النجاسة سبعا مخصوص به بعض النجاسات
دون بعض وأن ما دونها من العدد كاف لإزالة سائر الأنجاس،
والعدد الثلاثة في هذا الخبر احتياط واستظهار باليقين لأن
الغالب أن الغسلات الثلاث إذا توالت على نجاسة عين أزالتها
وأذهبتها، وموضع النجاسة ههنا غير مرئي العين فاحتيج إلى
الاستظهار بالعدد ليتيقن إزالتها ولو كانت عينها مرئية
لكانت الكفاية واقعة بالغسلة الواحدة مع الإزالة.
وفيه من الفقه أن موضع الاستنجاء مخصوص بالرخصة في جواز
الصلاة مع بقاء أثر النجاسة عليه وأن ما عداه غير مقيس
عليه.
وفي الحديث من العلم أن الأخذ بالوثيقة والعمل بالاحتياط
في طب العبادات أولى.
(1/48)
ومن باب صفة وضوء
النبي صلى الله عليه وسلم
قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني حدثنا
محمد، يَعني ابن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن طلحة عن
يزيد بن ركانة عن عبيد الله الخولاني عن ابن عباس قال دخل
علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد أهرق الماء فدعا بوضو
فأتيناه بتور فيه ماء فقال يا بن عباس ألا أريك كيف كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ قلت بلى فأصغى الإناء
على يده فغسلها ثم أدخل يده اليمنى فأفرغ بها على الأخرى
ثم غسل كفيه ثم تمضمض واستنثر ثم أدخل يديه في الإناء
جميعا فأخذ بهما حفنة من ماء فضرب بها على وجهه ثم ألقم
إبهامه مأقبل من أُذُنيه ثم الثانية ثم الثالثة مثل ذلك ثم
أخذ بكفه اليمنى قبضةً من ماء فصبها على ناصيته فتركها
تستن على وجهه ثم غسل ذراعيه إلى المرفقين ثلاثا ثلاثا ثم
مسح رأسه وظهور أذنيه ثم أدخل يديه جميعا فأخذ حفنة من ماء
فضرب بها على رجله وفيه النعل ففتلها بها ثم الأخرى مثل
ذلك قال قلت وفي النعلين قال في النعلين قال قلت وفي
النعلين قال وفي النعلين قال قلت وفي النعلين قال وفي
النعلين.
قوله استنثر معناه استنشق الماء ثم أخرجه من أنفه وأصله
مأخوذ من النثرة وهي الأنف، ويقال نثر الرجل نثرا إذا عطس.
وقوله تستن على وجهه معناه تسيل وتنصب يقال سننت الماء إذا
صببته صبا سهلا، وفيه أن مسح باطن الأذن مع الوجه وظاهرهما
مع الرأس، وكان الشعبي يذهب إلى أن باطن الأذنين من الوجه
وظاهرهما من الرأس.
(1/49)
وأما مسحه على الرجلين وهما في النعلين فإن
الروافض ومن ذهب مذهبهم في خلاف جماعة المسلمين يحتجون به
في إباحة المسح على الرجلين في الطهارة من الحدث واحتج
بذلك أيضاً بعض أهل الكلام وهو الجُبائي زعم أن المرء مخير
بين غسل الرجل ومسحها.
وحكي ذلك أيضاً عن محمد بن جرير محتجين بقوله تعالى
{وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} [المائدة: 6] قالوا
والقراءة بالخفض في أرجلكم مشهورة وموجبها المسح.
وهذا تأويل فاسد مخالف لقول جماعة الأمة.
فأما احتجاجهم بالقراءة في الآية فلا درَكَ لهم فيها لأن
العطف قد يقع مرة على اللفظ المجاور ومرة على المعنى
المجاور، فالأول كقولهم جحر ضبٍ خربٍ والخرب من نعت الجحر
وهو مرفوع وكقول الشاعر: كأن نسج العنكبوت المرمل
وقول الآخر:
معاوي إننا بشر فاسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا
وإذا كان الأمر في ذلك على مذهب اللغة وحكم الاعراب سواء
في الوجهين وجب الرجوع إلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم
وقد ثبت عنه أنه قال: ويل للأعقاب من النار.
فثبت أن استيعاب الرجلين غسلا واجب.
قلت وقد يكون المسح في كلام العرب بمعنى الغسل.
أخبرني الأزهري حدثنا أبو بكر بن عثمان، عَن أبي حازم، عَن
أبي زيد الأنصاري. قال المسح في كلام العرب يكون غسلا
ويكون مسحا، ومنه يقال للرجل إذا توضأ فغسل أعضاءه قد
تمسح، ويقال مسح الله ما بك أي
(1/50)
أذهبه عنك وطهرك من الذنوب.
وأما هذا الحديث فقد تكلم الناس فيه، قال أبو عيسى سألت
محمد بن إسماعيل عنه فضعفه، وقال ما أدري ما هذا. وقد
يحتمل أن ثبت الحديث أن يكون تلك الحفنة من الماء قد وصلت
إلى ظاهر القدم وباطنه وإن كان في النعل ويدل على ذلك قوله
ففتلها بها ثم الأخرى مثل ذلك، والحفنة من الماء إنما كفت
مع الرفق في مثل هذا. فأما من أراد المسح على بعض القدم
فقد يكفيه ما دون الحفنة وقد روي في غير هذه الرواية عن
علي رضي الله عنه أنه توضأ ومسح علي نعليه وقال هذا وضوء
من لم يحدث. وإذا احتمل الحديث وجهاً من التأويل يوافق قول
الأمة فهو أولى من قول يكون فيه مفارقتهم والخروج من
مذاهبهم.
والعجب من الروافض تركوا المسح على الخفين مع تظاهر
الأخبار فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم واستفاضة علمه
على لسان الأمة وتعلقوا بمثل هذا التأويل من الكتاب وبمثل
هذه الرواية من الحديث ثم اتخذوه شعارا حتى إن الواحد من
غلاتهم ربما تألى فقال برئت من ولاية أمير المؤمنين ومسحت
على خفي إن فعلت كذا.
وحدثني إبراهيم بن فراس حدثنا أحمد بن علي المروزي حدثنا
ابن أبي الجوال أن الحسن بن زيد عتب على كاتب له فحبسه
وأخذ ماله فكتب إليه من الحبس.
أشكو إلى الله ما لقيت ... أحببت قوماً بهم بليت
لا أشتم الصالحين جهرا …ولا تشيعت ما بقيت
أمسح خفي ببطن كفي ... ولو على جيفة وطيت
قال فدعا به من الحبس ورد عليه ماله وأكرمه.
قال أبو داود: حدثنا مسدد وقتيبة عن حماد بن زيد عن سنان
بن ربيعة
(1/51)
عن شهر بن حوشب، عَن أبي أمامة وذكر وضوء
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يمسح الماقين قال وقال الأذنان من الرأس.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة قال حماد لا أدري هو قول النبي
صلى الله عليه وسلم أو من أبي أمامة، يَعني قصة الأذنين.
الماق طرف العين الذي يلي الأنف، وفيه ثلاث لغات ماق ومأق
مهموز وموق، فالماق يجمع على الآماق وموق يجمع على المآقي.
وقوله الأذنان من الرأس فيه بيان أنهما ليستا من الوجه كما
ذهب إليه الزهري وأنه ليس باطنهما من الوجه وظاهرهما من
الرأس كما ذهب إليه الشعبي.
وممن ذهب إلى أنهما من الرأس ابن المسيب وعطاء والحسن وابن
سيرين وسعيد بن جبير والنخعي وهو قول الثوري وأصحاب الرأي
ومالك وأحمد بن حنبل. وقال الشافعي هما سنة على حيالهما
ليستا من الوجه ولا من الرأس. وتأول أصحابه الحديث على
وجهين: أحدهما: أنهما يمسحان مع الرأس تبعاً له؛ والآخر:
أنهما يمسحان كما يمسح الرأس ولا يغسلان كالهمجه وإضافتهما
إلى الرأس إضافة تشبيه وتقريب، لا إضافة تحقيق، وإنما هو
في معنى دون معنى، كقول: مولى القوم منهم، أي في حكم
النصرة والموالاة، دون حكم النسب واستحقاق الإرث. ولو أوصى
رجل لبني هاشم لم يعط مواليهم ومولى اليهودي لا يؤخذ
بالجزية.
وفائدة الكلام ومعناه عندهم إبانة الأذن عن الوجه في حكم
الغسل وقطع الشبهة فيها لما بينهما من الشبه في الصورة،
وذلك أنهما وجدتا في أصل الخلقة بلا شعر وجعلتا محلا لحاسة
من الحواس ومعظم الحواس محله الوجه فقيل الأذنان من الرأس
ليعلم أنهما ليستا من الوجه.
(1/52)
ومن باب في
الاستنثار
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد في آخرين قالوا حدثنا
يحيى بن سليم عن إسماعيل بن كثير عن عاصم بن لقيط بن صَبرة
عن أبيه لقيط بن صبرة. قال كنت وافد بني المُنتفق أو في
وفد بني المنتفق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما
قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نصادفه في
منزله وصادفنا عائشة أم المؤمنين قال فأمرت لنا بخزيرة
فصنعت لنا. قال واوتينا بقناع قال والقناع طبق فيه تمر. ثم
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هل أصبتم شيئا أو
أمر لكم بشيء قال قلنا نعم يا رسول الله قال فبينما نحن مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس إذ دفع الراعي غنمه إلى
المراح ومعه سخلة تيعر. قال ما ولدت يا غلام قال بهمة. قال
فاذبح لنا مكانها شاة ثم قال: لا تحسِبن، ولم يقل لا
تحسَبن أنا من أجلك ذبحناها، لنا غنم مائة لا نريد أن
تزيد، فإذا ولد الراعي بهمة ذبحنا مكانها شاة. قال: قلت:
يا رسول الله إن لي امرأة وإن في لسانها شيئا،، يَعني
البذا، قال: فطلقها إذاً، قال: قلت: يا رسول الله! إن لها
صحبة، ولي منها ولد. قال: فمرها، يقول عظها، فإن يك فيها
خير فستفعل، ولا تضرب ظَعِينتك كضربك أُميتك. قلت: يا رسول
الله! أخبرني عن الوضوء، قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين
الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلاّ أن تكون صائما.
قوله: أمرت لنا بخزيرة، فإن الخزيرة من الأطعمة ما اتخذ
بدقيق ولحم، والخزيرة حساء من دقيق ودسم، والقناع الطبق،
وسمي قناعا لأن أطرافه أقنعت إلى داخل، أي عطفت.
وقوله تيعر من اليُعار وهو صوت الشاة، وقوله ما ولَّدت
هومشددة اللام
(1/53)
على معنى خطاب الشاهد. وأصحاب الحديث
يروونه على معنى الخبر يقولون ما ولدت خفيفة اللام ساكنة
التاء أي ما ولدت الشاة، وهو غلط يقال ولَّدت الشاة إذا
أحضرت ولادها فعالجتها حتى يبين منها الولد وأنشدني أبو
عمر في ذكر قوم:
إذا ما ولَّدوا يوماً تنادوا …أجديٌ تحت شاتك أم غلام
والبهمة ولد الشاة أول ما يولد يقال للذكر والأنثى بهمة.
وقوله لا تحسبن أنا من أجلك ذبحناها معناه ترك الاعتداد به
على الضيف والتبرؤ من الرياء.
وقوله ولا تحسبن مكسورة السين إنما هو لغة عُليا مضر
وتحسبن بفتحها لغة سفلاها وهو القياس عند النحويين لأن
المستقبل من فعل مكسورة العين يفعل مفتوحتها كقولهم علم
يعلم وعجل يعجل إلاّ أن حروفا شاذة قد جاءت نحو نعِم ينعِم
ويئس ييئس وحسب يحسب، وهذا في الصحيح، فأما المعتل فقد جاء
فيه ورِم يرِم ووثق يثق وورع يرِع وورِي يرِي.
وقوله لا تضرب ظعينتك كضربك أميتك فإن الظعينة هي المرأة
وسميت ظعينة لأنها تظعن مع الزوج وتنتقل بانتقاله. وليس في
هذا ما يمنع من ضربهن أويحرمه على الأزواج عند الحاجة إليه
فقد أباح الله تعالى ذلك في قوله {فعظوهن واهجروهن في
المضاجع} [النساء: 34] وإنما فيه النهي عن تبريح الضرب كما
يضرب المماليك في عادات من يستجيز ضربهم، ويستعمل سوء
الملكة فيهم. وتمثله بضرب المماليك لا يوجب إباحة ضربهم،
وإنما جرى ذكره في هذا على طريق الذم لأفعالهم ونهاه عن
الاقتداء بها.
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ضرب المماليك إلاّ في
الحدود وأمرنا بالإحسان إليهم وقال: من لم يوافقكم منهم
فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله.
فأما ضرب الدواب فمباح لأنها لا تتأدب بالكلام ولا تعقل
معاني الخطاب
(1/54)
كما يفعل الإنسان، وإنما يكون تقويمها
غالبا بالضرب، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرك
بعيره بمحجنه ونخس جمل جابر رضي الله عنه حين أبطأ عليه
فسبق الركب حتى مايملك رأسه.
وفي الحديث من الفقه أن الاستنشاق في الوضوء غير واجب ولو
كان فرضاً فيه لكان على الصائم كهو على المفطر، ونرى أن
معظم ما جاء من الحث والتحريض على الاستنشاق في الوضوء
إنما جاء لما فيه من المعونه على القراءة وتنقية مجرى
النفس النذي يكون به التلاوة. وبإزالة ما فيه من الثفل تصح
مخارج الحروف.
وقال ابن أبي ليلى وإسحاق بن راهويه إذا ترك الاستنشاق في
الوضوء أعاد الصلاة وكذلك إذا ترك المضمضة.
وفي الحديث دليل على أن ما وصل إلى الدماغ من سعوط ونحوه
فإنه يفطر الصائم كما يفطره ما يصل إلى معدته إذا كان ذلك
من فعله أو بإذنه.
وفي الحديث دليل على أنه بالغ في الاستنشاق ذاكرا لصومه
فوصل الماء إلى دماغه فقد أفسد صومه.
وقوله أخبرني عن الوضوء فان ظاهر هذا السؤال يقتضي الجواب
عن جملة الوضوء إلاّ أنه صلى الله عليه وسلم لما اقتصر في
الجواب على تخليل الأصابع والاستنشاق علم أن السائل لم
يسأله عن حكم ظاهر الوضوء وإنما سأله عما يخفى من حكم
باطنه وذلك لأن آخذ الماء قد يأخذه بجمع الكف وضم الأصابع
بعضها إلى بعض فيسد خصاص ما بينها فربما لم يصل الماء إلى
باطن الأصابع وكذلك هذا في باطن أصابع الرجل لأنها ربما
ركب بعضها بعضا حتى تكاد تلتحم فقدم له الوصاة بتخليلها
ووكد القول فيها لئلا يغفلها والله أعلم.
(1/55)
ومن باب تخليل
اللحية
قال أبو داود: حدثنا أبو توبة حدثنا أبو المليح عن الوليد
بن زَرْوان عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم
إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه يُخلل به لحيته
وقال هكذا أمرني ربي.
قلت قد أوجب بعض العلماء تخليل اللحية وقال إذا تركه عامدا
أعاد الصلاة وهو قول إسحاق بن راهويه وأبي ثور. وذهب عامة
العلماء إلى أن الأمر به استحباب وليس بإيجاب ويشبه أن
يكون المأمور بتخليله من الحي على سبيل الوجوب ما رق من
الشعر منها فتراءى ما تحتها من البشرة.
ومن باب المسح على العمامة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن
ثورعن راشد بن سعد عن ثوبان قال بعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب
والتساخين.
العصائب العمائم سميت عصائب لأن الرأس يعصب بها والتساخين
الخفاف. ويقال إن أصل ذلك كل ما يسخن به القدم من خف وجورب
ونحوه.
وقد اختلف أهل العلم في المسح على العمامة فذهب إلى جوازه
جماعة من السلف وقال به من فقهاء الأمصار الأوزاعي وأحمد
بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وداود. وقال أحمد قد
جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من خمسة أوجه وشرط من
جوز المسح على العمامة أن يعتم الماسح عليها بعد كمال
الطهارة كما يفعله من يريد المسح على الخفين.
وروي عن طاوس أنه قال لا يمسح على العمامة التي لا تجعل
تحت الذقن.
(1/56)
وأبى المسح على العمامة أكثر الفقهاء
وتأولوا الخبرفي المسح على العمامة على معنى أنه كان يقتصر
على مسح بعض الرأس فلا يمسحه كله مقدمه ومؤخره ولا ينزع
عمامته من رأسه ولا ينقضها وجعلوا خبر المغيرة بن شعبة
كالمفسر له; وهوأنه وصف وضوءه ثم قال ومسح بناصيته وعلى
عمامته فوصل مسح الناصية بالعمامة. وإنما وقع أداء الواجب
من مسح الرأس بمسح الناصية إذ هي جزء من الرأس وصارت
العمامة تبعاً له كما روي أنه مسح أسفل الخف وأعلاه، ثم
كان الواجب في ذلك مسح أعلاه وصار مسح أسفله كالتبع له.
والأصل أن الله تعالى فرض مسح الرأس وحديث ثوبان محتمل
للتأويل فلا يترك الأصل المتيقن وجوبُه بالحديث المحتمل
ومن قاسه على مسح الخفين فقد أبعد لأن الخف يشق نزعه ونزع
العمامة لا يشق.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب حدثني
معاوية بن صالح عن عبد العزيز بن مسلم، عَن أبي معقل عن
أنس بن مالك قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ
وعليه عمامة قطرية فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم
رأسه ولم ينقض العمامة.
قلت وهذا يشهد لما تأولوه في معنى الحديث الأول والقِطر
نوع من البرود فيه حمرة.
ومن باب المسح على الخفين
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا أبي عن
الشعبي قال سمعت عروة بن المغيرة بن شعبة يذكرعن أبيه قال
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ومعي إداوة
فخرج لحاجته ثم أقبل فتلقيته بالإداوة
(1/57)
فأفرغت عليه فغسل كفيه ووجهه ثم أراد أن
يخرج ذراعيه وعليه جبة من صوف من جباب الروم ضيقة الكمين
فضاقت فادَّرعهما ادراعا ثم أهويت إلى الخفين لأنزعهما
فقال دع الخفين فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان
فمسح عليهما.
قوله ادرعهما معناه أنه نزع ذراعيه عن الكمين وأخرجهما من
تحت الجبة وزنه افتعل من درع إذ مد ذراعه كما يقال ادكر من
ذكر.
وفي قوله أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان دليل على أن
المسح على الخفين لا يجوز إلاّ بأن يلبسا على كمال الطهارة
وأنه إذا غسل إحدى رجليه فلبس عليها أحد الخفين ثم غسل
رجله الأخرى ثم لبس الخف الآخر لم يجزئه لأنه جعل طهارة
القدمين معاً قبل لبس الخفين شرطا لجواز المسح عليهما وعلة
لذلك والحكم المعلق بشرط لا يصح إلاّ من جود شرطه وهو قول
مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وفيه جواز الاستعانة في
الطهارة والوضوء بالخادم ونحوه.
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا شعبة، عَن
أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد سمع أبا عبد الله وهومولى
بني تيم بن مرة، عَن أبي عبد الرحمن السلمي أن بلالا سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كان يخرج يقضي حاجته
فآتيه بالماء فيتوضأ ويمسح على عمامته ومُوقيه.
الموق نوع من الخفاف معروف وساقه إلى القصر.
قال أبو داود: حدثنا علي بن الحسين الدرهمي حدثنا ابن داود
عن بكير بن عامر، عَن أبي زرعة بن عمرو بن جرير. أن جريراً
بال ثم توضأ ومسح
(1/58)
على الخفين قال ما يمنعني أن أمسح وقد رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح قالوا إنما كان ذلك قبل
نزول المائدة. قال ما أسلمت إلاّ بعد نزول المائدة.
أراد القوم بهذا القول أن المسح على الخفين كان رخصة ثم
نسخ بقوله سبحانه {وأرجلكم إلىالكعبين} في صورة المائدة.
فقال جرير ما أسلمت إلاّ بعد نزول المائدة أي ما صحبت رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلاّ بعد إسلامي. وقد رأيته يمسح
على خفيه يريد به إثبات المسح على الخفين وأنه غير منسوخ،
وفي هذا من قول الصحابة دلالة على أنهم كانوا يرون نسخ
السنة بالقرآن.
وقد روى قوم من الشيعة عن علي رضي الله عنه أنه قال إنما
كان المسح على الخفين قبل نزول المائدة ثم نهى عنه فصارت
الإباحة منسوخة. هذا أمرلايصح عن على رضى الله عنه. وقد
ثبت عنه أنه قال لو كان الدين بالقياس أو بالرأى لكان باطن
الخف، أولى بالمسح من ظاهره، إلا أنى رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يمسح ظاهر خفيه.
وقد ذكره أبو داود حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حفص بن غياث
حدثنا الأعمش، عَن أبي إسحاق عن عبد خير عن علي رضي الله
عنه بمعناه.
ومن باب فى التوقيت في المسح
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين حدثنا عمرو بن الربيع بن
طارق حدثنا يحيى بن أيوب عن عبد الرحمن بن رزين عن محمد بن
يزيد وهو ابن أبي زياد عن أيوب بن قَطَن عن أُبَي بن عمارة
أنه قال يا رسول الله أمسح على الخفين قال نعم قال يوم قال
ويومين قال وثلاثة قال نعم وما شئت.
قلت والأصل في التوقيت أنه للمقيم يوم وليلة وللمسافر
ثلاثة أيام ولياليهن
(1/59)
هكذا روي في خبر خزيمة بن ثابت وخبر صفوان
بن عسال وهو قول عامة الفقهاء غير أن مالكا قال يمسح من
غير توقيت قولا بظاهر هذا الحديث.
وتأويل الحديث عندنا أنه جعل له أن يرتخص بالمسح ما شاء
وما بدا له كلما احتاج إليه على مر الزمان إلاّ أنه لا
يعدو شرط التوقيبت، والأصل وجوب غسل الرجلين فإذا جاءت
الرخصة في المسح مقدرة بوقت معلوم لم يجز مجاوزتها إلاّ
بيقين، والتوقيت في الأخبار الصحيحة إنما هو اليوم والليلة
للمقيم والثلاثة الأيام ولياليهن للمسافر.
فأما رواية منصور عن إبراهيم التيمي، عَن أبي عبد الله
الجدلي عن خزيمة بن ثابت أنه قال ولو استزدناه لزادنا. فإن
الحكم وحماداً قد روياه عن إبراهيم فلم يذكروا فيه هذا
الكلام ولو ثبت لم يكن فيه حجة لأنه ظن منه وحسبان، والحجة
إنما تقوم بقول صاحب الشريعة لا بظن الراوي.
وقال محمد بن إسماعيل ليس في التوقيت في المسح على الخفين
شيء أصح من حديث صفوان بن عسال المرادي.
ورأيت أن أذكر حديث صفوان إذ كان المعول عليه وفيه ألفاظ
فيها معان تحتاج إلى شرح وتفسير ونحن نذكر وجوهها إن شاء
الله.
حدثنا ابن الأعرابي وإسماعيل بن محمد الصفار، قال:
حَدَّثنا سعدان بن نصر حدثنا سفيان بن عيينة عن عاصم بن
أبي النجود عن زر بن حبيش. قال أتيت صفوان بن عسال فقال ما
جاء بك قلت ابتغاء العلم. قال فإن الملائكة تضع أجنحتها
لطالب العلم رضى بما يطلب قلت حاك في صدري المسح على
الخفين بعد الغائط والبول وكنت امرأً من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم فأتيتك أسألك هل سمعت منه
(1/60)
في ذلك شيئاً فقال نعم كان يأمرنا إذا كنا
سفرا أو مسافرين لا ننزع خفافنا ثلاثةَ أيام ولياليهن إلاّ
من جنابة لكن من غائط وبول ونوم. قلت هل سمعته يذكر الهوى،
قال نعم بينما نحن في مسير إذ ناداه أعرابي بصوت له جَهوري
يا محمد فأجابه على نحو ذلك هاؤم قلنا ويحك أوويلك اغضُض
من صوتك فإنك قد نهيت عن ذلك. فقال والله لا أغضض من صوتي،
قال أرأيتَ رجلا أحب قوما ولما يلحق بهم قال المرء مع من
أحب. قال ثم لم يزل يحدثنا حتى قال إن من قِبَل المغرب
باباً للتوبة مسيرة أربعين سنة أو سبعين سنة فتحه الله
للتوبة يوم خلق السموات والأرض فلا يغلقه حتى تطلع الشمس
منه.
قوله إن الملائكة تضع أجنحتها فيه ثلاثة أوجه أحدها أن
يكون معنى وضع الجناح من الملائكة بسط أجنحتها وفرشها
لطالب العلم لتكون وطاءً له ومعونة إذا مشى في طلب العلم.
والوجه الثاني أن يكون ذلك بمعنى التواضع من الملائكة
تعظيما لحقه وتوقيرا لعلمه فتضم أجنحتها له وتخفضها عن
الطيران كقوله تعالى {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}
[الإسراء: 24] .
والوجه الثالث أن يكون وضع الجناح يراد به النزول عند
مجالس العلم والذكر وترك الطيران كما روي أنه قال صلى الله
عليه وسلم قال: ما من قوم يذكرون الله عز وجل إلاّ حفت بهم
الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله
فيمن عنده.
قلت وهذه الكلمة لم يرفعها سفيان في هذه الرواية ورفعها
حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن صفوان بن عسال وقد رواه
أيضاً أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1/61)
وقوله سفرا هوجمع سافر كما يقال تاجر وتجر
وراكب وركب. وقوله لكن من غائط وبول كلمة لكن موضوعة
للاستدراك وذلك لأنه قد تقدمه نفي واستثناء وهو قوله كان
يأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلاّ من
جنابة ثم قال لكن من بول وغائط ونوم فاستدركه بلكن ليعلم
أن الرخصة إنما جاءت في هذا النوع من الأحداث دون الجنابة
فإن المسافر الماسح على خفه إذا أجنب كان عليه نزع الخف
وغسل الرجل مع سائر البدن وهذا كما تقول ما جاءني زيد لكن
عمرو وما رأيت زيداً لكن خالداً.
ويشبه أن يكون رفع النبي صلى الله عليه وسلم صوته في جواب
الأعرابي. وقوله هاؤم يمد به صوته من ناحية الشفقة عليه
لئلا يحبط عمله وذلك لما جاء من الوعيد في قوله تعالى {ولا
ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر
بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 2]
فعذره عليه السلام لجهله وقلة علمه ورفع صوته حتى كان فوق
صوته أومثله لفرط رأفته وشفقته على أمته.
وفيه أنه أقام المحبة والمشايعة في الخير والطاعة مقام
العمل بهما وجعل المرء مع من أحب.
وفيه دليل على استحباب احتمال دالة التلامذة والصبر على
أذاهم لما يُرجى من عاقبته من النفع لهم.
ومن باب المسح على الجوربين
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان،
عَن أبي قيس الأودي عن هذيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين
والنعلين.
(1/62)
قوله والنعلين هو أن يكون قد لبس النعلين
فوق الجوربين. وقد أجاز المسح على الجوربين جماعة من السلف
وذهب إليه نفر من فقهاء الأمصار منهم سفيان الثوري وأحمد
وإسحاق وقال مالك والأوزاعي والشافعى لا يجوز المسح على
الجوربين قال الشافعي إلاّ إذا كانا منعلين يمكن متابعة
المشي فيهما. وقال أبو يوسف ومحمد يُمسح عليهما إذا كانا
ثخينين لا يشقان. وقد ضعف أبو داود هذا الحديث وذكر أن عبد
الرحمن بن مهدي كان لا يحدث به.
ومن باب في الانتضاح
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان الثوري عن
منصور عن مجاهد عن سفيان بن الحكم الثقفي أو الحكم بن
سفيان قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بال توضأ
وينتضح.
الانتضاح ههنا الاستنجاء بالماء وكان من عادة أكثرهم أن
يستنجوا بالحجارة لا يمسون الماء، وقد يتناول الانتضاح
أيضاً على رش الفرج بالماء بعد الاستنجاء به ليرفع بذلك
وسوسة الشيطان.
ومن باب في تفريق الوضوء
قال أبو داود: حدثنا هارون بن معروف حدثنا ابن وهب عن
جريربن حازم أنه سمع قتادة، قال: حَدَّثنا أنس بن مالك أن
رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضأ وترك على
قدمه مثل موضع الظفر فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ارجع فأ حسن وضوءك.
دلالة هذا الحديث أنه لا يجوز تفريق الوضوء وذلك لأنه قال
ارجع فأحسن وضوءك وظاهر معناه إعادة الوضوء في تمام،
ولوكان تفريقه جائزاً لأشبه
(1/63)
أن يقتصر فيه على الأمر بغسل ذلك الموضع أو
كان يأمرة بإمساسه الماء في ذلك وأن لا يأمره بالرجوع إلى
المكان الذي يتوضأ فيه.
ومن باب إذا شك في الحديث
قال ابوداود: حدثنا قتيبه حدثنا سفيان عن الزهرى عن سعيد
بن المسيب وعباد بن تميم عن عمه شكا إلى النبي صلى الله
عليه وسلم الرجل يجد الشيء في الصلاة حتى يخيل إليه قال لا
ينفتل حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً.
قوله حتى يسمع صوتاً او يجد ريحاً معناه حتى يتيقن الحدث
ولم يرد به الصوت نفسه ولا الريح نفسها حسب وقد يكون
أطروشاً لا يسمع الصوت وأخشم لا يجد الريح ثم تنتقض طهارته
إذا تيقن وقوع الحدث منه كقوله صلى الله عليه وسلم في
الطفل إذا استهل صلى عليه ومعناه أن تعلم حياته يقيناً
والمعنى إذا كان أوسع من الاسم كان الحكم له دون الاسم.
وفي الحديث من الفقه أن الشك لا يزحم اليقين.
وفيه دليل على أنه إذا تيقن النكاح وشك في الطلاق كان على
النكاح المتقدم إلى أن يتيقن الطلاق.
وقال مالك: إذا شك في الحدث لم يصل إلاّ مع تجديد الوضوء
إلاّ أنه قال إذا كان في الصلاة فاعترضه الشك مضى في صلاته
وأحد قوليه حجة عليه في الآخر.
ومن باب الوضوء من القبله
قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى وعبد الرحمن
قالا: حَدَّثنا سفيان، عَن أبي رَوق عن إبراهيم التيمي عن
عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قبلها
ولم يتوضأ.
قال يحتج به من يذهب إلى أن الملامسة المذكورة في الآية
معناها الجماع
(1/64)
دون اللمس بسائر البدن إلاّ أن أبا داود
ضعف هذا الحديث فقال هو منقطع لأن التيمي لم يسمع من عائشة
وضعف حديث الأعمش عن حبيب عن عروة عن عائشة. وحكي عن يحيى
بن سعيد أنه قال هو شبه لا شيء قال وليس هذا بعروة بن
الزبير إنما هو عروة المزني.
ومن باب الوضوء من مس الذكر
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد
الله بن أبي بكر عن عروة بن الزبير عن مروان عن بسرة بنت
صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من مس ذكره
فليتوضأ.
قد ذهب إلى إيجاب الوضوء من مس الذكر جماعة من السلف منهم
عمر وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة رضوان
الله عليهم.
وهو مذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق إلاّ أن الشافعي
لا يرى نقص الطهارة إلاّ أن يمسه بباطن كفه0وقال الأوزاعي
وأحمد إذا مسه بساعده أو بظهركفه انتقض طهره كهو إذا مسه
ببطن كفه سواء.
وكان علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعمار وحذيفة
وأبو الدرداء رضوان الله عليهم لا يرون مسه نا قضاً للطهر.
وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وهو قول سفيان الثوري.
وكان مالك بن أنس يذهب إلى أن الأمر فيه على الاستحباب لا
على الإيجاب وروى أبو داود في الرخصة فيه حديث قيس بن طلق،
قال: حَدَّثنا مسدد حدثنا ملازم بن عمرو الحنفي حدثنا عبد
الله بن بدر عن قيس بن طلق عن أبيه، قال قدمنا على نبي
(1/65)
الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل كأنه
بدوي فقال يا رسول ما ترى في مس الرجل ذكره بعدما يتوضأ
فقال وهل هو إلا مضغة منه أو بضعة منه.
قال أبو داود ورواه الثوري وشعبة وابن عيينة عن محمد بن
جابر عن قيس بن طلق عن أبيه بإسناده ومعناه، وقال في
الصلاة واحتج من رأى فيه الوضوء بأن خبر بسرة متأخر لأن
أبا هُرَيْرَة رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو متأخر
الإسلام وكان قدوم طلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم
في بدء الإسلام وهو إذ ذاك يبني مسجد المدينة أول زمن
الهجرة، وإنما يؤخذ بآخر الأمرين. وتأولوا خبر طلق على أنه
أراد به المس ودونه حائل. واستدلوا على ذلك برواية الثوري
وشعبة وابن عيينة أنه سأله عن مسه في الصلاة والمصلي لا
يمس فرجه من غير حائل بينه وبينه.
وحدثنا الحسن بن يحيى حدثنا أبو بكر بن المنذر قال بلغني
عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين أنهما اجتمعا فتذاكرا
الوضوء من الذكر وكان أحمد يرى فيه الوضوء ويحيى لا يرىذلك
وتكلما في الأخبار التي رويت في ذلك فحصل أمرهما على أن
اتفقا على إسقاط الإحتجاج بالخبرين معاً خبر بسره وخبر
طلق، ثم صارا إلى الآثار المرويه عن الصحابه في ذلك فصار
أمرهما ألى أن احتج أحمد بحديث ابن عمر فلم يمكن يحيى
دفعه.
ومن باب الوضوء من لحوم الابل
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاويه
حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي عن عبد
الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال سئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل فقال توضؤوا
(1/66)
منها. وسئل عن لحوم الغنم فقال لا تتوضؤوا
منها وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال لا تصلوا في
مبارك الإبل فإنها من الشياطين. وسئل عن الصلاة في مرابض
الغنم فقال صلوا فيها فإنها بركة.
قلت قد ذهب عامة أصحاب الحديث إلى إيجاب الوضوء من أكل
لحوم الإبل قولا بظاهر هذا الحديث وإليه ذهب أحمد بن حنبل.
وأما عامة الفقهاء فمعنى الوضوء عندهم متأول على الوضوء
الذي هو النظافة ونفى الزهومة كما ُروي توضؤوا من اللبن
فان له دسماً وكما قال صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في
أعطان الإبل وليس ذلك من أإجل أن بين الأمرين فرقاً في باب
الطهارة والنجاسة لأن الناس على أحد قولين: إما قائل يرى
نجاسة الأبوال كلها أو قائل هى طهارة بول ما يؤكل لحمه
والغنم والإبل سواء عند الفريقين في القضيتين معاً.
وإنما نهى عن الصلاة في مبارك الإبل لأن فيها نفاراً
وشراداً لا يؤمن أن تتخبط المصلي إذا صلى بحضرتها أو تفسد
عليه صلاته، وهذا المعنى مأمون من الغنم لما فيها من
السكون وقلة النفار، ومعلوم أن في لحوم الإبل من الحرارة
وشدة الزهومة ما ليس في لحوم الغنم فكان معنى الأمر
بالوضوء منه منصرفاً إلى غسل اليد لوجود سببه دون الوضوء
الذي هو من أجل رفع الحدث لعدم سببه والله أعلم.
ومن باب الوضوء من مس لحم
النيء
قال أبو داود: حدثقا محمد بن العلا حدثنا مروان بن معا ويه
حدثنا هلال بن ميمون الجهني عن عطاء بن زيد الليثي قال
هلال لا أعلمه إلاّ، عَن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى
الله عليه وسلم مرَّ بغلام يسلخ شاة فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم
(1/67)
تنح حتى أريك فأدخل يده بين الجلد واللحم
فدحس بها حتى توارت إلى الإبط ثم مضى فصلى للناس ولم
يتوضأ.
قوله حتى أريك معناه أعلمك ومنه قوله تعالى {وأرنا
مناسكنا} [البقرة: 128] وقوله فدحس بها إلى الإبط أي أدخل
ملئ يده بذراعها إلى الإبط والدحس كالدس ويقال للسنبلة إذا
امتلأت واشتد حبها قد دحست، ومعنى الوضوء في هذا الحديث
غسل اليد والله أعلم.
ومن باب الوضوء مما مست النار
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن
مسعود عن جامع بن شداد عن المغيرة بن عبد الله عن المغيرة
بن شعبة قال ضفت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فأمر
بجنب فشوي وأخذ الشفرة فجعل يحز لي بها منه قال فجاء بلال
فأذنه بالصلاة فألقى الشفرة وقال ما له تربت يداه وقام
يصلي.
قول تربت يداه كلمة يقولها العرب عند اللوم والتأنيب،
ومعناه الدعاء عليه بالفقر والعدم وهم يطلقونها في كلامهم،
وهم لا يريدون وقوع الأمر كما قالوا عقرى حلقى، وكقولهم
هبلته أمه، فإن هذا الباب لما كثر في كلامهم ودام
استعمالهم له في خطابهم صار عندهم بمعنى اللغو، كقولهم لا
والله وبلى والله وذلك من لغو اليمين الذي لا اعتبار به
ولا كفارة فيه، ويقال ترب الرجل إذا افتقر وأترب بالألف
إذا استغنى، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: فعليك بذات
الدين تربت يداك.
قلت وليس هذا الصنيع من رسول الله بمخالف لقول إذا حضر
العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء وإنما هو للصائم
الذي قد أصابه الجوع وتاقت
(1/68)
نفسه إلى الطعام فأمر بأن يصيب من الطعام
قدر ما يسكن به شهوته لتطمئن نفسه في الصلاة فلا تنازعه
شهوة الطعام وهذا فيمن حضره الطعام أوان العادة غداء وعشاء
وهو متماسك في نفسه لا يزعجه الجوع ولا يعجله عن إقامة
الصلاة وإيفاء حقها.
وفي الخبر دليل على أن الأمر بالوضوء مما غيرت النار
استحباب لا أمر إيجاب. وفيه جواز قطع اللحم بالسكين وقد
جاء النهي عنه في بعض الحديث ورويت الكراهة فيه وأمر
بالنهي ويشبه أن يكون المعنى في ذلك كراهية زي العجم
واستعمال عادتهم في الأكل بالأخلة والبارجين على مذهب
النخوة والترفع عن مس الأصابع الشفتين والفم وليس يضيق
قطعه بالسكين واصلاحه به والجز منه إذا كان اللحم طابقاً
أو عضواً كبيراً كالجنب ونحوه فإذا كان عُراقاً ونحوه
فنهشه مستحب على مذهب التواضع وطرح الكبر وقطعه بالسكين
مباح عند الحاجة إليه غير ضيق.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح حدثنا عبد
الملك بن أبي كريمة من خيار المسلمين حدثنا عبيدبن ثمامة
المرادي. قال قدم علينا مصر عبد الله بن الحارث بن جزء
الزُبيدي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مر
رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل وبرمته على النار فقال
له: أطابت برمتك قال نعم بأبي أنت وأمي فتناول منها بضعة
فلم يزل يعلكها حتى أحرم بالصلاة.
قوله يعلكها أي يلوكها في فمه والعلك مضغ ما لا يطاوع
الأسنان.
ومن باب الوضوء من الدم
قال أبو داود: حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا ابن
المبارك عن
(1/69)
محمد بن إسحاق حدثني صدقة بن يسار عن عقيل
بن جابر عن جابر قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم في غزوة ذات الرقاع فأصاب رجل امرأه رجل من المشركين
فحلف أن لا أنتهي حتى أهريق دماً في أصحاب محمد فخرج يتبع
أثره ونزل النبي صلى الله عليه وسلم فقال مَن رجل يكلؤنا
فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقال كونا بفم
الشعب فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب اضطجع المهاجري وقام
الأ نصارى يصلي وأتى الرجل، فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة
للقوم فرماه بسهم فوضعه فيه ونزعه حتى رماه بثلاثة أسهم ثم
ركع ثم سجد ثم أنبه صاحبه فلما عرف أنهم قد نذروا به هرب
ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال سبحان الله
ألا أنبهتني أول ما رمى قال كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن
أقطعها.
ربيئة القوم هو الرقيب الذي يشرف على المرقب ينظر العدو من
أي وجه يأتي فينذر أصحابه، وقوله نذروا به أي شعروا به
وعلموا بمكانه.
وقد يحتج بهذا الحديث من لا يرى خروج الدم وسيلانه من غير
السبيلين ناقضا للطهارة ويقول لو كان ناقضا للطهارة لكانت
صلاة الأنصاري تفسد بسيلان الدم أول ما أصابته الرمية ولم
يكن يجوز له بعد ذلك أن يركع ويسجد وهو محدث، وإلى هذا ذهب
الشافعي.
وقال أكثر الفقهاء: سيلان الدم من غير السبيلين ينقض
الوضوء وهذا أحوط المذهبين وبه أقول.
وقول الشافعي قوي في القياس ومذاهبهم أقوى في الاتباع ولست
أدري
(1/70)
كيف يصح هذا الاستدلال من الخبر والدم إذا
سال أصاب بدنه وجلده وربما أصاب ثيابه ومع إصابة شيء من
ذلك وإن كان يسيرا لا تصح الصلاة عند الشافعي إلاّ أن يقال
إن الدم كان يخرج من الجراحة على سبيل الذرق حتى لا يصيب
شيئا من ظاهر بدنه ولئن كان كذلك فهو أمر عجب.
ومن باب الوضوء من النوم
قال أبو داود: حدثنا شاذ بن فياض حدثنا هشام الدستواني عن
قتادة عن أنس قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا
يتوضؤون.
في هذا الحديث من الفقه أن عين النوم ليس بحدث ولوكان حدثا
لكان على أي حال وجد ناقضا للطهارة كسائر الأحداث التي
قليلها وكثيرها وعمدها وخطؤها سواء في نقض الطهارة، وإنما
هو مظنة للحدث موهم لوقوعه من النائم غالبا فإذا كان بحال
من التماسك والاستواء في القعود المانع من خروج الحدث منه
كان محكوما له بالسلامة، وبقاء الطهارة المتقدمة فإذا زال
عن مستوى القعود بأن يكون مضطجعا أو راكعا أو ساجدا أو
قائماً أو مائلا إلى أحد شقيه أو على حال يسهل معها خروج
الحدث من حيث لا يشعر بذلك كان أمره محمولا على أنه قد
أحدث لأنه قد يكون منه الحدث في تلك الحالة غالبا ولوكان
نوم القاعد ناقضا للطهارة لم يجز على عامة أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم والوحي ينزل عليه أن
يصلوا محدثين بحضرته فدل على أن النوم إذا كان بهذه الصفة
غير ناقض للطهور.
وفي قوله كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون
العشاء الآخرة حتى تخفق
(1/71)
رؤوسهم دليل على أن ذلك أمركان يتواتر منهم
وأنه قد كثر حتى صار كالعادة لهم وأنه لم يكن نادرا في بعض
الأحوال وذلك يؤكد ما قلناه من أن عين النوم ليس بحدث.
وقوله تخفق رؤوسهم معناه تسقط أذقانهم على صدورهم وهذا لا
يكون إلاّ عن نوم مثقل. قال ذو الرمة يذكر سرى الليل وغلبة
النوم:
وخافق الرأس وسط الكور قلت له …زع بالزمام وجوف الليل
مركوم
قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شريح في آخرين قالوا حدثنا
بقية عن الوضين بن عطاء عن محفوط بن علقمة عن عبد الرحمن
بن عائذ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: وكاء السِّه العينان فمن نام
فليتوضأ. السه اسم من أسماء الدبر والوكاء الرباط الذي يشد
به القربة ونحوها من الأوعية وفي بعض الكلام الذي يجري
مجرى الأمثال حفظ ما في الوعاء بشد الوكاء.
وفي هذا الحديث ما يؤيد ماقلناه من أن النوم عينه ليس بحدث
وإنما ينتقض به الطهر إذا كان مع إمكان انحلال الوكاء
غالبا فأما مع إمساكه بأن يكون واطدا بالأرض فلا.
ومن أهل العلم من يذهب إلى أن النوم قليله وكثيره حدث إلاّ
أنه لا يسمى هذا النوع منه نوما مطلقا إنما يسميه نعاسا
قال وذلك لأنه إذا وجد منه النوم عدم معه التماسك أصلا
وأنشد فيه قول الشاعر:
وسنان أثقله النعاس فرنَّقت ... في عينه سنة وليس بنائم
وقال المفضل الضبي السنة في الرأس والنوم في القلب ويشهد
لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: تنام عيناي ولا ينام
قلبي.
(1/72)
ومن باب الرجل يطأ
الاذى برجله
قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري، عَن أبي معاوية عن
الأعمش عن شقيق قال قال عبد الله كنا لا نتوضأ من موطىء
ولا نكُف شعرا ولا ثوبا.
الموطىء ما يوطأ من الأذى في الطرق وأصله الموطوء بالواو
وإنما أراد بذلك أنهم كانوا لا يعيدون الوضوء للأذى إذا
أصاب أرجلهم لأنهم كانوا لا يغسلون أرجلهم ولا ينظفونها من
الأذى إذا أصابها.
وقوله لا نكف شعرا ولا ثوبا أي لا نقيها من التراب إذا
صلينا صيانة لهما عن التتريب ولكن نرسلهما حتى يقعا بالأرض
فيسجدا مع الأعضاء.
ومن باب في المذي
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عَن أبي
النَّضر عن سليمان بن يسار عن المقداد بن الأسود أن علي بن
أبي طالب رضي الله عنه أمره أن يسأل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا
عليه فإن عندي ابنته وأنا أستحي أن أسأله. قال المقداد
فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إذا وجد
أحدكم ذلك فلينضح فرجه وليتوضأ وضوءه للصلاة.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا هشام
بن عروة عن عروة أن عليا رضي الله عنه قال للمقداد وذكر
نحو هذا. قال فسأله المقداد فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ليغسل ذكره وأنثييه.
قوله فلينضح فرجه معناه ليغسله بالماء وأمر بغسل الأنثيين
استظهارا بزيادة التطهير لأن المذي ربما انتشر فأصاب
الأنثيين ويقال إن الماء البارد إذا أصاب
(1/73)
الأنثيين رد المذي وكسر من غربه فلذلك أمره
بغسلهما.
وفيه من الفقه أن المذي نجس وأنه ليس فيه إلاّ الوضوء.
ومن باب الإكسال
قال أبو داود: حدثنا محمد بن مهران البزاز الرازي حدثنا
مبشر الحلبي عن محمد أبي غسان، عَن أبي حازم عن سهل بن سعد
حدثني أُبيّ بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء
من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في
بدء الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد.
قال معنى الماء من الماء إنما هو وجوب الاغتسال بالماء من
أجل خروج الماء الدافق وكان الحكم في صدر الاسلام أن
مخالطة الرجل المرأة حتى يلتقي الختانان منهما من غير
إترال لا يوجب الاغتسال فأحد الماءين المذكورين في الخبر
هو المني والماء الآخر الغسول الذي يغسل به. ثم نسخ ذلك
واستقر الحكم على أن الختانين إذا التقيا فقد وجب الغسل
سواء كان هناك إنزال أو لم يكن، وقد بقي على المذهب الأول
جماعة من الصحابة لم يبلغهم خبر التقاء الختانين. منهم سعد
بن أبي وقاص وأبو أيوب الأنصاري وأبو سعيد الخدري ورافع بن
خديج وزيد بن خالد وممن ذهب إلى قولهم سليمان الأعمش ومن
المتأخرين داود بن علي. وروى شريك عن داود عن عكرمة عن ابن
عباس في قوله الماء من الماء قال إنما ذلك في الاحتلام.
وفي قوله الماء من الماء مستدل لمن ذهب إلى طهارة المني
وذلك أنه سماه ماء
(1/74)
وهذا الاسم على إطلاقه لا يكون إلاّ في
الطاهر ألا ترى أنه قال لايقولن أحدكم أرقت ماء وليقل
بُلْتُ فمنع إطلاق هذا الاسم على النجاسة.
ومن باب الجنب يؤخر الغسل
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة عن علي
بن مدرك، عَن أبي زُرعة بن عمرو بن جرير عن عبد الله بن
نُجيّ عن أبيه عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب.
قوله لا تدخل الملائكة بيتا يريد الملائكة الذين ينزلون
بالبركة والرحمة دون الملائكة الذين هم الحفظة فإنهم لا
يفارقون الجنب وغير الجنب.
وقد قيل أنه لم يرد بالجنب ههنا من أصابته جنابة فأخر
الاغتسال إلى أوان حضور الصلاة ولكنه الذي يجنب فلا يغتسل
ويتهاون به ويتخذه عادة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد
كان يطوف على نسائه في غسل واحد، وفي هذا تأخير الاغتسال
عن أول وقت وجوبه. وقالت عائشة كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم ينام وهوجنب من غير أن يمس ماء.
وأما الكلب فهو أن يقتني كلبا ليس لزرع ولا ضرع أو صيد،
فأما إذا كان يرتبطه للحاجة إليه في بعض هذه الأمور أو
لحراسة داره إذا اضطر إليه فلا حرج عليه. وأما الصورة فهي
كل صورة من ذوات الأرواح كانت لها أشخاص منتصبة أو كانت
منقوشة في سقف أوجدار أومصنوعة في نمط أومنسوجة في ثوب أو
ما كان فإن قضية العموم تأتي عليه فليجتنب وبالله التوفيق.
(1/75)
ومن باب الجنب يقرأ
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عمرو بن
مُرة عن عبد الله بن سلمة قال دخلت على عليّ أنا ورجلان
رجل منا ورجل من بني أسد فبعثهما علي رضي الله عنه وجها.
وقال إنكما عِلجان فعالجا عن دينكما. فدخل المخرج ثم خرج
فدعا بماء فأخذ منه حفنة فتمسح بها ثم جعل يقرأ القرآن
فأنكروا ذلك فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن ويأكل معنا ولم يكن يحجبُه
أو قال يحجزُه عن القرآن شيء ليس الجنابة.
قوله إنكما علجان يريد الشدة والقوة على العمل يقال رجل
عَلج وعُلج إذا كان قوي الخلقة وثيق البنية، وقوله عالجا
عن دينكما أي جاهدا وجالدا.
وقوله ليس الجنابة معناه غير الجنابة، وحرف ليس لها ثلاثة
مواضع أحدها أن تكون بمعنى الفعل ترفع الاسم وتنصب الخبر
كقولك ليس عبد الله عاق وتكون بمعنى لا كقولك رأيت عبد
الله ليس زيدا تنصب به زيدا كما تنصب بلا وتكون بمعنى غير،
كقولك ما رأيت أكرم من عمرو ليس زيد أي غير زيد وهو يجر ما
بعده.
وفي الحديث من الفقه أن الجنب لا يقرأ القرآن وكذلك الحائض
لا تقرأ لأن حدثها أغلظ من حدث الجنابة. وكان أحمد بن حنبل
يرخص للجنب أن يقرأ الآية ونحنوها وكان يوهن حديث علي هذا
ويضعف أمرعبد الله بن سلمة وكذلك قال مالك في الجبنب أنه
لا يقرأ الآية ونحوها. وقد حكي عنه أنه قال تقرأ الحائض
ولا يقرأ الجبنب لأن الحائض إذا لم تقرأ نسيت القرآن لأن
أيام
(1/76)
الحيض تتطاول ومدة الجنابة لا تطول، وروي
عن ابن المسيب وعكرمة أنهما كانا لا يريان بأسا بقراءة
الجنب القرآن وأكثر العلماء على تحريمه.
ومن باب الجنب يدخل المسجد
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا
الأفلتُ بن خليفة حدثتني جسرة بنت دجاجة قالت سمعت عائشة
رضي الله عنها تقول جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال وجهوا هذه البيوت
عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب.
وجوه البيوت أبوابها ولذلك قيل لناحية البيت التي فيها
الباب وجه الكعبة.
وقوله وجهوا هذه البيوت عن المسجد أي احرفوا وجوهها يقال
وجهت الرجل إلى ناحية كذا إذا جعلت وجهه إليها ووجهته عنها
إذا صرفته عن جهتها إلى جهة غيرها.
وفي الحديث بيان أن الجنب لا يدخل المسجد وظاهر قوله صلى
الله عليه وسلم فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب يأتي على
مقامه في المسجد ومروره فيه.
وقد اختلف العلماء في ذلك فقال أصحاب الرأي لا يدخل الجنب
المسجد إلاّ بأحد الطهرين وهو قول سفيان الثوري فإن كان
مسافرا ومر على مسجد فيه عين ماء تيمم بالصعيد ثم دخل
المسجد واستقى. وقال مالك والشافعي ليس له أن يقعد في
المسجد وله أن يمر فيه عابر سبيل. وتأول الشافعي قوله
تعالى {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] الآية.
على أن المراد به المسجد وهو موضع الصلاة وعلى هذا تأوله
أبوعبيدة معمر بن المثنى. وكان أحمد بن حنبل وجماعة من أهل
الظاهر يجيزون للجنب دخول المسجد إلاّ أن أحمد كان يستحب
له أن يتوضأ
(1/77)
إذا أراد دخوله وضعفوا هذا الحديث وقالوا
افلتُ راويه مجهول لا يصح الاحتجاج بحديثه، والآية على
مذهب هؤلاء الطائفة المتقدمة متأولة على أن عابري سبيل هم
المسافرون تصيبهم الجنابة فيتيممون ويصلون، وقد روي ذلك عن
ابن عباس.
ومن باب الجنب يصلي بالقوم وهو
ناس
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن زياد
الأعلم عن الحسن، عَن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم دخل في صلاة الفجر فأومأ بيده أَنْ مكانكم ثم جاء
ورأسه يقطر ماء فصلى بهم.
قلت في هذا الحديث دلالة على أنه إذا صلى بالقوم وهو جنب
وهم لا يعلمون بجنابته إن صلاتهم ماضية ولا إعادة عليهم
وعلى الإمام الإعادة وذلك أن الظاهر من حكم لفظ الخبر أنهم
قد دخلوا في الصلاة معه ثم استوقفهم إلى أن اغتسل وجاء
فأتم الصلاة بهم، وإذا صح جزء من الصلاة حتى يجوز البناء
عليه جاز سائر أجزائها، والاقتداء بالإمام طريقه الاجتهاد،
وإنما كلِفَ المأموم الظاهِرَ من أمره وليس عليه الإحاطة
لأنه يتعذر دركها فإذا أخطأ فيما حكمه الظاهر لم ينقض عليه
فعله كالحاكم لا ينقض عليه حكمه فيما طريقه الاجتهاد وإن
أخطأ فيه ولا سبيل للمأموم إلى معرفة طهاره الإمام ولا عتب
عليه إن عزب عنه علمها وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه
ولا يعلم له مخالف وإليه ذهب الشافعي.
وفي الحديث دليل على أن افتتاح المأموم صلاته قبل الإمام
لا تبطل صلاته وفيه حجة لمن ذهب إلى البناء على الصلاة في
الحدث.
(1/78)
ومن باب في الرجل يجد البِلةَ في منامه
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حماد بن خالد
الخياط حدثنا عبد الله العمري عن عبيد الله عن القاسم عن
عائشة قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد
البلل ولا يذكر احتلام قال يغتسل وعن الرجل يرى أنه قد
احتلم ولا يجد البلل قال لا غسل عليه. فقالت أم سليم
المرأة ترى ذلك أعليها الغسلُ قال نعم إنما النساء شقائق
الرجال.
قلت ظاهر هذا الحديث يوجب الاغتسال إذا رأى البلة وإن لم
يتيقن أنها الماء الدافق. وروي هذا القول عن جماعة من
التابعين هم عطاء والشعبي والنخعي وقال أحمد بن حنبل أعجب
إليّ أن يغتسل إلاّ رجلا به أبردة.
وقال أكثر أهل العلم لا يجب عليه الاغتسال حتى يعلم أنه
بلل الماء الدافق واستحبوا أن يغتسل من طريق الاحتياط ولم
يختلفوا أنه إذا لم ير الماء وإن كان رأى في النوم أنه قد
احتلم فإنه لا يجب عليه الاغتسال، وعبد الله بن عمر العمري
ليس بالقوي عند أهل الحديث.
وقوله النساء شقائق الرجال أي نظائرهم وأمثالهم في الخلق
والطباع فكأنهن شققن من الرجال.
وفيه من الفقه إثبات القياس والحاق حكم النظير بالنظير وأن
الخطاب إذا ورد بلفظ الذكور كان خطابا بالنساء إلا مواضع
الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها، وفيه ما دل على فساد
قول من زعم من أهل الظاهر أن من أعتق شركاً له في جارية
بينه وبين شريكه وكان موسراً فإنه لا يقوَّم عليه نصيب
شريكه ولا تعتق الجارية لأن الحديث إنما ورد في العبد دون
الأمة.
(1/79)
ومن باب الغسل من
الجنابة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو عاصم عن
حنظلة عن القاسم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة جاء بشيء نحو الحِلاب فأخذ
بكفيه فبدأ بشِق رأسه الأيمن ثم الأيسر ثم أخذ بكفيه فقال
بهما على رأسه.
الحلاب إناء يسع قدر حلبة ناقة، وقد ذكره محمد بن إسماعيل
في كتابه وتأوله على استعمال الطيب في الطهور وأحسبه توهم
أنه أريد بالمحلب الذي يستعمل في غسل الأيدي. وليس هذا من
الطيب في شيء وإنما هوعلى ما فسرتم لك ومنه قول الشاعر:
صاح هل رأيت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في
الحلاب
قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي حدثنا الحارث بن وجيه
حدثنا مالك بن دينار عن محمد بن سيرين، عَن أبي هريرة قال:
قال رسول الله: تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا
البشرة.
ظاهر هذا الحديث يوجب نقض القرون والضفائر إذا أراد
الاغتسال من الجنابة لأنه لا يكون شعره كله شعرة شعرة
مغسولا إلاّ بنقضها وإليه ذهب إبراهيم النخعي وقال عامة
أهل العلم إيصال الماء إلى أصول الشعر وإن لم ينقض شعره
يجزيه. والحديث ضعيف والحارث بن وجيه مجهول وقد يحتج به من
يوجب الاستنشاق في الجنابة لما في داخل الأنف من الشعر.
واحتج بعضهم في إيجاب المضمضة بقوله وأنقوا البشرة وزعم أن
داخل الفم من البشرة، وهذا خلاف قول أهل اللغة لأن البشرة
عندهم هي ما ظهر من البدن
(1/80)
فباشره البصر من الناظر إليه، وأما داخل
الأنف والفم فهو الأدمة والعرب تقول فلان مُؤدَم مُبشر إذا
كان حسن الظاهر مخبوء الباطن كذلك أخبرني أبو عمر، عَن أبي
العباس أحمد بن يحيى.
ومن باب في المرأة هل تنقض
شعرها عند الغسل
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن
أيوب بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد عن عبد الله بن رافع
مولى أم سلمة عن أم سلمة أن امرأة من المسلمين قالت يا
رسول اللهإ ني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للجنابة. قال
إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حَثَيات من ماء ثم تفيضي على
ساتر جسدك فإذا أنت قد طهرت.
قولها أشد ضفر رأسي أي فتل الشعر وإدخال بعضه في بعض يقال
ضفرت الشعر إذا فعلت ذلك به وضفرت شراك النعل ونحوه
والعقائص يقال لها الضفاير.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم فإذا أنت قد طهرت دليل على
أنه إذا انغمس في الماء أوبلل به بدنه من غير دلك باليد
وامرار بها عليه فقد أجزأه، وهو قول عامة الفقهاء إلاّ
مالك فانه قال إذا اغتسل من الجنابة فانه لا يجزيه حتى
يُمر يده على جسده. وكذلك قال في الوضوء إذا غمس يده أو
رجله في الماء لم يجزئه وإن نوى الطهارة حتى يمر يديه على
رجليه يتدلك بهما.
وفيه دليل على أن الفيضة الواحدة من الماء إذا عمت تجزيه
وأن الغسلات الثلاث إنما هي على الاستحباب وليست على
الوجوب.
(1/81)
ومن باب في مؤاكلة
الحائض ومجامعتها
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا
ثابت عن أنس أن أسيد بن حُضير وعباد بن بشر أتيا النبي صلى
الله عليه وسلم فسألاه أن يأذن لهما في وطء النساء في
المحيض خلافا لليهود فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى ظننا أنه قد وجد عليهما قال فخرجا واستقبلتهما
هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في
آثارهما فسقاهما فظننا أنه لم يجد عليهما.
قوله تمعر وجهه معناه تغير والأصل في التمعر قلة النضارة
وعدم إشراق اللون ومنه المكان الأمعر وهو الجدب الذي ليس
فيه خصب.
وقوله فظننا أنه لم يجد عليهما يريد علمنا فالظن الأول
حسبان والآخر علم ويقين، والعرب تجعل الظن مرة حسباناً
ومرة علما ويقينا لاتصال طرفيه بهما فمبدأ العلم ظن وآخره
يقين قال الله تعالى {الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم}
[البقرة: 46] معناه يوقنون.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن
مِسعَر عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة قالت كنت
أتعرّق العظم وأنا حائض فأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم
فيضع فمه في الموضع الذي فيه وضعته.
العظم العراق بما عليه من اللحم تريد أني كنت انتهسه وآخذ
ما عليه من اللحم.
ومن باب الحائض تناول من
المسجد
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن
ثابت بن عبيد عن القاسم عن عائشة قالت قال لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ناوليني الخمرة من المسجد فقلت إني
حائض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن حيضتك ليست في
يدك.
(1/82)
الخمرة السجادة التي يسجد عليها المصلي
ويقال سميت خمرة لأنها تخمر وجه المصلي عن الأرض أي تستره.
وقوله ليست حيضتك في يدك الحيضة بكسر الحاء الحال التي
تلزمها الحائض من التجنب والتحيض كما قالوا القعدة والجلسة
يريدون حال القعود والجلوس.
وأما الحيضة مفتوحة الحاء فهي الدفعة من دفعات دم الحيض.
وفي الحديث من الفقه أن للحائض أن تتناول الشيء بيدها من
المسجد وأن من حلف لا يدخل دارا أو مسجدا فإنه لا يحنث
بإدخال يده أو بعض جسده فيه ما لم يدخله بجميع بدنه.
ومن باب في اتيان الحائض
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة حدثني الحكم
عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم عن ابن عباس عن النبي
صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال
يتصدق بدينار أو بنصف دينار.
قلت قد ذهب إلى إيجاب الكفارة عليه غير واحد من العلماء
منهم قتادة والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وبه قال
الشافعي قديما ثم قال في الجديد لا شيء عليه.
قلت ولا ينكر أن يكون فيه كفارة لأنه وطء محظور كالوطء في
رمضان وقال أكثر العلماء لا شيء عليه ويستغفر الله وزعموا
أن هذا الحديث مرسل أو موقوف على ابن عباس (ولا يصح متصلا
مرفوعا والذمم برية إلاّ أن تقوم الحجة بشغلها وكان ابن
عباس) يقول إن أصابها في فور الدم تصدق بدينار وإن كان في
آخره فنصف دينار.
(1/83)
وقال قتادة دينار للحائض ونصف دينار إذا
أصابها قبل أن تغتسل وكان أحمد ابن حنبل يقول هو مخير بين
الدينار والنصف الدينار. وروي عن الحسن أنه قال عليه ما
على من وقع على أهله في شهر رمضان.
ومن باب في الرجل يصيب
من أهله دون الجماع
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن
الشيباني عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا في فوح حيضنا أن
نتزر ثم يباشرنا وأيكم كان يملك إربه كما كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يملك إربه.
فوح الحيض معظمه وأوله ومثله فَوعة الدم، يقال فاح وفاع
بمعنى واحد وجاء في الحديث النهي عن السير في أول الليل
حتى تذهب فوعته يريد إقبال ظلمته كما جاء النهي عن السير
حتى يذهب فحمة العشاء. وقولها أيكم يملك إربه يروى على
وجهين. أحدهما الإرب مكسورة الألف والآخر الأرب مفتوحة
الألف والراء وكلاهما معناه وطر النفس وحاجتها يقال لفلان
عندي أرب وإرب أي بغية وحاجة.
ومن باب في المرأة تستحاض
ومن قال تدع الصلاة عدد الأيام التي كانت تحيض
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن
سليمان بن يسارعن أم سلمة أن امرأة كانت تُهَراقُ الدماء
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتت لها أم سلمة
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لتنظر عدة الليالي
والأيام التي كانت تحيضهن في الشهر قبل أن يصيبها الذي
أصابها فلتترك الصلاة
(1/84)
قدر ذلك من الشهر فإذا خلَّفت ذلك فلتغتسل
ثم لتستثفربثوب ثم لتصلّ.
قلت هذا حكم المرأة يكون لها من الشهر أيام معلومة تحيضها
في أيام الصحة قبل حدوث العلة، ثم تستحاض فتهريق الدماء
ويستمر بها السيلان. أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن تدع الصلاة من الشهر قدر الأيام التي كانت تحيضهن قبل
أن يصيبها ما أصابها، فإذا استوفت عدد تلك اليام اغتسلت
مرة واحدة وصار حكمها حكم الطواهر في وجوب الصلاة والصوم
عليها وجواز الطواف إذا حجت وغشيان الزوج إياها، إلاّ أنها
إذا أرادت أن تصلي توضأت لكل صلاة تصليها لأن طهارتها
طهارة ضرورية فلا يجوز أن تصلي بها صلاتي فرض كالمتيمم
ولولا أنها قد كانت تحفظ عدد أيامها التي كانت تحيضها أيام
الصحة لم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم: لتنظر عدد الأيام
والليالي التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي
أصابها معنى. إذ لا يجوز أن يردها إلى رأيها ونظرها في أمر
هي غير عارفة بكنهه والاستثفار أن تشد ثوبا تحتجز به يمسك
موضع الدم ليمنع السيلان وهومأخوذ من الثفر.
وفيه من الفقه أن المستحاضة يجب عليها أن تستثفر وأن تعالج
نفسها بما يسد المسلك ويرد الدم من قطن ونحوه كما قال في
حديث حمنة أنعت لك الكرسف وقال لها تلجمي واستثفري.
وفيه دليل على أنها إذا لم تفعل ذلك كان عليها إعادة
الوضوء إذا خرج منها دم. وإنما جاء قوله صلى الله عليه
وسلم تصلي المستحاضة وإن قطر الدم على الحصير فيمن قد
تعالجت بالاستثفار ونحوه فإذا جاء بعد ذلك شيء غالب لا
يرده الثفر حتى تقطر لم يكن عليها إعادة الوضوء. فأما إذا
لم تكن قدمت العلاج فهي غير معذورة
(1/85)
وإنما أتيت من قبل نفسها فلزمها الوضوء.
وهكذا حكم من به سلس البول يجب عليه أن يسد المجرى بقطن
ونحوه، ثم يشده بالعصائب فإن لم يفعل فقطر أعاد الوضوء.
وفي هذا الباب حروف منها أن عائشة قالت رأيت مِركنها مَلآن
دما والمرْكنُ شبه الجفنة الكبيرة ومنها قوله إذا أتاك
قرؤك فلا تصلي وإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء
إلى القرء يريد بالقرء هنا الحيض يقال قرء وقرء ويجمع على
القروء وحقيقة القرء الوقت الذي يعود فيه الحيض أو الطهر
ولذلك قيل للطهر قرء كما قيل للحيض قرء، وذهب إلى أن
الأقراء في العدة الحيض عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإلى
أنها الأطهار عائشة. وروي ذلك أيضاً عن زيد بن ثابت ومنها
قوله صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك عرق وليست بالحيضة،
يريد أن ذلك علة حدثت بها من تصدع العروق فاتصل الدم وليس
بدم الحيض الذي يقذفه الرحم لميقات معلوم فيجري مجرى سائر
الأثفال والفضول التي تستغني عنها الطبيعة فتقذفها عن
البدن فتجد النفس راحة لمفارقتها وتخلصها عن ثفلها وأذاها.
ومن باب من قال إذا أقبلت
الحيضة فدعي الصلاة
قال أبو داود: حدثنا ابن أبي عقيل ومحمد بن سلمة المصريان
قالا: حَدَّثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن ابن شهاب عن
عروة بن الزبير وعمرة عن عائشة أن أم حبيبة بنت جحش ختنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم: استحيضت سبع سنين. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه ليست بالحيضة ولكن
هذا عرق فاغتسلي وصلي.
قال أبو داود: زاد الأوزاعي في هذا الحديث عن الزهري عن
عروة
(1/86)
أن عائشة رضي الله عنها قالت فأمرها النبي
إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي.
قلت وهذا خلاف الأول وهو حكم المرأة التي تميز دمها فتراه
زمانا أسود ثخينا فذلك إقبال حيضها ثم تراه رقيقا مشرقا
فذلك حين إدبار الحيضة ولا يقول لها رسول الله صلى الله
عليه وسلم هذا القول إلاّ وهي تعرف إقبالها وإدبارها
بعلامة تفصل بها بين الأمرين وبين ذلك حديثه الآخر.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا ابن أبي عدي عن
محمد، يَعني ابن عمرو حدثني ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن
فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى
الله عليه وسلم: إذا كان دم الحيضة فإنه دم أسود يعرف فإذا
كان ذلك فامسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي
فإنما هو عرق.
قال أبو داود: وقد روى أنس بن سيرين عن ابن عباس في
المستحاضة قال إذا رأت الدم البحراني فلا تصلي وإذا رأت
الطهر ولو ساعة فلتغتسل وتصلي. قلت فهذا يبين لك أن الدم
إذا تميز كان الحكم له وإن كانت لها أيام معلومة. واعتبار
الشيء بذاته وبخاص صفانه أولى من اعتباره بغيره من الأشياء
الخارجة عنه فإذا عدمت التمييز فالاعتبار للأيام على معنى
حديث أم سلمة.
وقول ابن عباس إذا رأت الدم البحراني يريد الدم الغليظ
الواسع الذي يخرج من قعر الرحم ونسب إلى البحر لكثرته
وسعته والتبحر التوسع في الشيء والانبساط فيه.
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب حدثنا عبد الملك بن عمرو
حدثنا زهير بن محمد حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن
إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمه عمران بن طلحة عن أمه حمنة
بنت جحش قالت: كنت أستحاض حيضة كثيرة
(1/87)
شديدة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
استفتيه وأخبره فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش فقلت يا
رسول الله إني امرأة أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها
قد منعتني الصلاة والصوم فقال: أنعت لك الكُرسُف فإنه يذهب
الدم. قالت هو أكثر من ذلك قال فاتخذي ثوباً فقالت هو أكثر
من ذلك إنما اثُج ثجا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر وإن قويت
عليهما فأنت أعلم وقال لها إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان
فتحيِّضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي حتى
إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثا وعشرين ليلة أو
أربعا وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإن ذلك يجزيك وكذلك
فافعلي كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن ميقات حيضهن
وطهرهن وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين
وتجمعين بين الصلاتين الظهر والعصر وتؤخرين المغرب وتعجلين
العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي وتغتسلين
مع الفجر فافعلي وصومي إن قدرت على ذلك. قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهذا أعجب الأمرين إليّ.
قال أبو داود: روى هذا الحديث عمرو بن ثابت عن ابن عقيل لم
يجعل قوله وهذا أعجب الأمرين إليّ كلام النبي صلى الله
عليه وسلم جعله كلام حمنة.
قلت وهذا خلاف الحكم الأول في حديث أم سلمة وخلاف الحكم
الثاني في حديث عائشة وإنما هي امرأة مبتدأة لم يتقدم لها
أيام ولا هي مميزة لدمها وقد استمر بها الدم حتى غلبها فرد
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها إلى العرف الظاهر
(1/88)
والأمر الغالب من أحوال النساء كما حمل
أمرها في تحيضها كل شهر مرة واحدة على الغالب من عاداتهن
ويدل على ذلك قوله كما تحيض النساء ويطهرن من ميقات حيضهن
وطهرهن، وهذا أصل في قياس أمرالنساء بعضهن على بعض في طب
الحيض والحمل والبلوغ وما أشبه هذا من أمورهن ويشبه أن
يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم على غير وجه التخيير بين
الستة والسبعة لكن على معنى اعتبارحالها بحال من هي مثلها
وفي مثل سنها من نساء أهل إقليمها فإن كانت عادة مثلها
منهن أن تقعد ستا قعدت ستا وإن سبعا فسبعا.
وفيه وجه آخر وذلك أنه قد يحتمل أن تكون هذه المرأة قد ثبت
لها فيما تقدم أيام ستة أو سبعة، إلاّ أنها قد نسيتها فلا
تدري أيتهما كانت فأمرها أن تتحرى وتجتهد وتبني أمرها على
ما تتيقنه من أحد العددين. ومن ذهب إلى هذا استدل بقوله في
علم الله أي فيما علم الله من أمرك من ستة أوسبعة.
وقد ترك بعض العلماء القول بهذا الخبر لأن ابن عقيل راويه
ليس بذلك وصار في المبتدأة التي لا تمييز للدم معها إلى
أنها تحتاط وتأخذ باليقين فلا تترك الصلاة إلاّ أقل مدة
الحيض عنده وهي يوم وليلة، ثم تغتسل وتصلي سائر الشهرلأن
الصلاة لا تسقط بالشك وإلى هذا مال الشافعي في أحد قوليه.
وقوله أنعت لك الكرسف يريد القطن وقولها أثج ثجا، الثج شدة
السيلان.
وقوله إنما هي ركضة الشيطان فإن أصل الركض الضرب بالرجل
والإصابة بها يريد به الإضرار والإفساد كما تركض الدابة
وتصيب برجلها ومعناه والله أعلم
(1/89)
أن الشيطان قد وجد بذلك طريقا إلى التلبيس
عليها في أمردينها ووقت طهرها وصلاتها حتى أنساها ذلك فصار
في التقدير كأنه ركضة نالتها من ركضاته وإضافة النسيان في
هذا إلى فعل الشيطان كهو في قوله سبحانه {فأنساه الشيطان
ذكر ربه} [يوسف: 42] وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن
نساني الشيطان شيئا من صلاتي فسبحوا أوكما قال أي إن لبس
علي.
ومن باب المستحاضة تغتسل لكل
صلاة
قال أبو داود: حدثنا هناد عن عبدة عن ابن إسحاق عن الزهري
عن عروة عن عائشة أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت في عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأمرها بالغسل لكل صلاة. قال
وحدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر حدثنا عبد
الوارث عن الحسين عن يحيى بن أبي كثير، عَن أبي سلمة قال
أخبرتني زينب بنت أبي سلمة أن امرأة كانت تهراق الدم وكانت
تحت عبد الرحمن بن عوف وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أمرها أن تغتسل عند كل صلاة وتصلى.
قلت هذا الحديث مختصر وليس فيه ذكر حال هذه المرأة لا بيان
أمرها وكيفية شأنها في استحاضتها وليس كل امرأة مستحاضة
يجب عليها الاغتسال لكل صلاة وإنما هي فيمن تبتلى وهي لا
تميز دمها أوكانت لها أيام فنسيتها فهي لا تعرف موضعها ولا
عددها ولا وقت انقطاع الدم عنها من أيامها المتقدمة فإذا
كانت كذلك فإنها لا تدع شيئا من الصلاة وكان عليها أن
تغتسل عند
(1/90)
كل صلاة لأنه قد يمكن أن تكون ذلك الوقت قد
صادف زمن انقطاع دمها فالغسل عليها عند ذلك واجب. ومن كان
هذا حالها من النساء لم يأتها زوجها في شيء من الأوقات
لإمكان أن تكون حائضا وعليها أن تصوم شهر رمضان كله مع
الناس وتقضيه بعد ذلك لتحيط علما بأن قد استوفت عدد ثلاثين
يوما في وقت كان لها أن تصوم فيه وإن كانت حاجة طافت
طوافين بينهما خمسة عشر يوما لتكون على يقين من وقوع
الطواف في وقت حكمها فيه حكم الطهارة وهذا على مذهب من رأى
أكثر أيام الحيض خمسة عشر يوما.
ومن باب من قال تجمع بين
الصلاتين
وتغتسل لهما غسلا واحداً
قال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى حدثنا محمد بن
سلمة عن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن
عائشة أن سهلة بنت سُهيل استحيضت فأتت النبي صلى الله عليه
وسلم فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة فلما جهدها ذلك أمرها أن
تجمع بين الظهر والعصر بغسل والمغرب والعشاء بغسل وتغتسل
للصبح.
قلت وهذه والأولى سواء وحالهما حال واحدة إلاّ أن النبي
صلى الله عليه وسلم لما رأى الأمر قد طال عليها وقد جهدها
الاغتسال لكل صلاة رخص لها في الجمع بين الصلاتين لما
يلحقه من مشقة السفر.
وفيه حجة لمن رأى للمتيمم أن يجمع بين صلاتي فرض بتيمم
واحد لأن علتهما واحدة وهي الضرورة وإلى هذا ذهب أبو حنيفة
وأصحابه وهو قول ابن المسيب وسفيان الثوري والحسن والزهري.
وقال مالك والشافعي وأحمد
(1/91)
وإسحاق يتيمم لكل فريضة ولا يجمع به بين
فريضتين. وقد روي ذلك عن علي وابن عمر وابن عباس وبه قال
النخعي والشعبي وقتادة.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن
الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة قالت جاءت
فاطمة بنت أبي حُبيش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وذكر الحديث إلى أن قال لها ثم اتغسلي ثم صلي وتوضئي لكل
صلاة.
ثم ان أبا داود ذكر طرق هذا الحديث وضعف أكثرها، يَعني
الوضوء عند كل صلاة. قال ودل على ضعف حديث حبيب بن أبي
ثابت عن عائشة وذكرت الحديث قالت فكانت تغتسل لكل صلاة.
قلت أما قول أكثر الفقهاء فهو الوضوء لكل صلاة وعليه العمل
في قول عامتهم. ورواية الزهري لا تدل على ضعف حديث حبيب بن
أبي ثابت لأن الاغتسال لكل صلاة في حديث الزهري مضاف إلى
فعلها وقد يحتمل أن يكون ذلك اختيارا منها.
وأما الوضوء لكل صلاة في حديث حبيب فهو مروي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ومضاف إليه وإلى أمره إياها بذلك
والواجب هو الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به
دون ما فعلته وأتته من ذلك.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن سُمي
مولى أبي بكر أن القعقاع وزيد بن أسلم أرسلاه إلى سعيد بن
المسيب يسأله كيف تغتسل المستحاضة قال تغتسل من ظهر إلى
ظهر وتتوضأ لكل صلاة فإن غلبها الدم استثفرت بثوب.
(1/92)
قال أبو داود قال مالك إني لا أظن حديث ابن
المسيب من ظهر إلى ظهر إنما هو من طهر إلى طهر ولكن الوهم
دخل فيه فقلبه الناس فقالوا من ظهر إلى ظهر.
قلت ما أحسن ما قال مالك وما أشبهه بما ظنه من ذلك لأنه لا
معنى للاغتسال من وقت صلاة الظهر إلى مثلها من الغد ولا
أعلمه قولا لأحد من الفقهاء وإنما هو من طهر إلى طهر وهو
وقت انقطاع دم الحيض. وقد يجيء ما روي من الاغتسال من ظهر
إلى ظهر في بعض الأحوال لبعض النساء وهو أن تكون المرأة قد
نسيت الأيام التي كانت عادة لها ونسيت الوقت أيضاً، إلاّ
أنها تعلم أنها كلما انقطع دمها في أيام العادة كان وقت
الظهر فهذه يلزمها أن تغتسل عند كل ظهر وتتوضأ لكل صلاة ما
بينها وبين الظهر من اليوم الثاني، فقد يحتمل أن يكون سعيد
إنما سئل عن امرأة هذا حالها فنقل الراوي الجواب ولم ينقل
السؤال على التفصيل والله أعلم.
ومن باب من لم يذكر الوضوء إلاّ عند الحدث
قال أبو داود: حدثنا زياد بن أيوب حدثنا هشيم حدثنا أبو
بشر عن عكرمة أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت فأمرها النبي
صلى الله عليه وسلم أن تنتظر أيام إقرائها ثم تغتسل وتصلي
فإن رأت شيئا من ذلك توضأت وصلت.
قال أبو داود وكان ربيعة لا يرى على المستحاضة وضوءا عند
كل صلاة إلاّ أن يصيبها حدث غير الدم فتوضأ.
قلت: الحديث لا يشهد لما ذهب إليه ربيعة، وذلك أن قوله فإن
رأت شيئا من ذلك توضأت وصلت يوجب عليها الوضوء ما لم تتيقن
زوال تلك العلة وانقطاعها عنها وذلك لأنها لا تزال ترى
شيئا من ذلك أبدا إلاّ أن تنقطع عنها
(1/93)
العلة وقد يحتمل أن يكون قوله فإن رأت
يمعنى فإن علمت شيئا من ذلك ورؤية الدم لا تدوم أبدا وقال
أهل التفسير قوله تعالى {وأ رنا مناسكنا} [البقرة: 128]
معناه علّمنا. وقول ربيعة شاذ ليس عليه العمل وهذا الحديث
منقطع وعكرمة لم يسمع من أم حبيبة بنت جحش.
ومن باب في المرأة ترى الصفرة
والكدرة
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن قتادة
عن أم الهُذيل عن أم عطية قالت كنا لا نعد الكدرة والصفرة
بعد الطهر شيئا.
قلت اختلف الناس في الصفرة والكدرة بعد الطهر والنقاء فروي
عن عليّ أنه قال ليس ذلك بحيض ولا تترك لها الصلاة ولتتوضأ
ولتصلي. وهو قول سفيان الثوري والأوزاعي.
وقال سعيد بن المسيب إذا رأت ذلك اغتسلت وصلت به قال أحمد
بن حنبل.
وعن أبي حنيفة إذا رأت بعد الحيض وبعد انقطاع الدم الصفرة
أو الكدرة يوما أو يومين ما لم يجاوز العشرة فهو من حيضتها
ولا تطهر حتى ترى البياض خالصا.
واختلف قول أصحاب الشافعي في هذا فالمشهور من مذهب أصحابه
أنها إذا رأت الصفرة أو الكدرة بعد انقطاع دم العادة ما لم
يجاوز خمسة عشر يوما فإنها حيض. وقال بعضهم إذا رأتها في
أيام العادة كان حيضا ولا يعتبرها فيما جاوزها، فأما البكر
إذا رأت أول ما رأت الدم صفرة أو كدرة فإنهما لا تعدان في
قول أكثر الفقهاء حيضا وهو قول عائشة وعطاء.
وقال بعض أصحاب الشافعي حكم المبتدأة بالصفرة والكدرة حكم
الحيض.
(1/94)
ومن باب في وقت
النفساء
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا علي بن
عبد الأعلى، عَن أبي سهل عن مُسَّة عن أم سلمة قالت كانت
النفساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقعد بعد
نفاسها أربعين يوما أو أربعين ليلة.
قلت: النفاس في قول أكثر الفقهاء أربعون يوما وقد روي ذلك
عن عمر بن الخطاب وابن عباس وأنس بن مالك وهو قول سفيان
الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. قال
أبوعبيد وعلى هذا جماعة الناس. وروي عن الشعبي وعطاء أنهما
جعلا النفاس أقصاه شهرين وإليه ذهب الشافعي وقال به مالك
في الأول ثم رجع عنه وقال يسئل النساء عن ذلك ولم يحد فيه
حدا.
وعن الأوزاعي تقعد كامرأة من نسائها من غير تحديد.
فأما أقل النفاس فساعة عند الشافعي وكذلك قال مالك
والأوزاعي وإلى هذا مال محمد بن الحسن.
فأما أبو حنيفة فإنه قال أقل النفاس خمسة وعشرون يوما.
وقال أبو يوسف أدنى ما تقعد له النفساء أحد عشر يوما، فإن
رأت الطهر قبل ذلك فيكون أدناه زائدا على أكثر الحيض بيوم.
وعن الأوزاعي في امرأة ولدت ولم تر دما قال تغتسل وتصلي من
وقتها وحديث مُسة أثنى عليه محمد بن إسماعيل وقال مسة هذه
أزدية واسم أبي سهل كثير بن زياد وهو ثقة وعلي بن عبد
الأعلى ثقة.
ومن باب الاغتسال من الحيض
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عمرو الرازي حدثنا سلمة،
يَعني ابن الفضل
(1/95)
حدثنا محمد، يَعني ابن إسحاق عن سليمان بن
سُحيم عن أمية بنت أبي الصلت عن امرأة من غفار سماها أن
النبي صلى الله عليه وسلم أردفها على حقيبة رحله فحاضت قال
فنزلت وإذا بها دم مني [وكانت أول حيضة حضتها قال فتقبضت
إلى الناقة واستحييت فلما رأى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما بي ورأى الدم قال ما لك] لعلك نَفِست قلت نعم قال
فأصلحي من نفسك ثم خذي إناءً من ماء فاطرحي فيه ملحا ثم
اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم [ثم عودي لمركبك قالت فلما
فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر رضخ لنا من الفيء]
قالت وكانت لا تطهر من حيض إلاّ جعلت في طهورها ملحا
[وأوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت.
فيه من الفقه أنه استعمل الملح في غسل الثياب وتنقيته من
الدم، والملح مطعوم فعلى هذا يجوز غسل الثياب بالعسل إذا
كان ثوباً من إبريسم يفسده الصابون وبالخل إذا أصابه الحبر
ونحوه ويجوز على هذا التدلك بالنخالة وغسل الأيدي بدقيق
الباقلّي والبطيخ ونحو ذلك من الأشياء التي لها قوة
الجلاء.
وحدثونا عن يونس بن عبد الأعلى قال: دخلت الحمام بمصر
فرأيت الشافعي يتدلك بالنخالة.
وقوله نفست أي حضت يقال نفست المرأة مفتوحة النون مكسورة
الفاء إذا حاضت ونفست بضم النون إذا أصابها النفاس.
قلت: وفي هذا الباب من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه
وسلم علم المرأة كيف تغتسل
(1/96)
من الحيض فقال لها خذي فرصة ممسكة. الفرصة
القطعة من القطن أو الصوف تفرص أي تقطع، وقد طيِبت بالمسك
أو بغيره من الطيب فتتبع بها المرأة أثر الدم ليقطع عنها
رائحة الأذى. وقد تتأول أن الممسكة على معنى الإمساك دون
الطيب يقال مسَّكت الشيء وأمسكته يريد أنها تمسكها بيدها
فتستعملها.
وقال هذا القائل متى كان المسك عندهم بالحال التي يمتهن في
هذا فيتوسعوا في استعماله هذا التوسع.
ومن باب التيمم
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النُفيلي حدثنا أبو
معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها
قالت بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسيَد بن حُضير
وأبا سامعة في طلب قلادة أضلتها عائشة فحضرت الصلاة فصلوا
بغير وضوء فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له
فأنزل الله سبحانه آية التيمم فقال لها أسيد بن حضير يرحمك
الله ما نزل بك امرٌ تكرهينه إلاّ جعل الله للمسلمين ولكِ
فرجا.
قوله فصلوا بغير وضوء حجة لقول الشافعي فيمن لا يجد ماء
ولا ترابا أنه لا يترك الصلاة إذا حضر وقتها على حال وذلك
أن القوم الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب
العقد كانوا على غير ماء ولم يكن رخص لهم بعد في التيمم
بالتراب وإنما نزلت آية التيمم بعدُ فكانوا في معنى من لا
يجد اليوم ماءً ولا ترابا ولوكانوا ممنوعين من الصلاة وتلك
حالهم لأنكره النبي صلى الله عليه وسلم حين أعلموه ذلك
ولنهاهم عنه فيما يستقبلونه إذ لا يجوز سكوته على باطل
يراه ولا تأخيره البيان
(1/97)
في واجب عن وقته، إلاّ أن الشافعي يرى
إعادة هذه الصلاة إذا زالت الضرورة وكان الإمكان.
وقد احتج بعض من ذهب إلى أنه لا يصلي إذا لم يجد ماء ولا
ترابا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة
بغير طهور. قال وهذا لا يجد طهوراً فلا صلاة عليه.
قال وهذا لا يسقط عنه الصلاة ألا تراه يقول: لا يقبل الله
صلاة حائض إلاّ بخمار وهي إذا لم تجد ثوبا صلت عريانة
فكذلك هذا إذا لم يجد طهورا صلى على حسب الإمكان.
وقد يؤمر الطفل بالطهارة والصلاة ويحج به ولا يصح في
الحقيقة شيء منها وتؤمر المستحاضة بالصلاة وطهرها غير
صحيح.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب
أخبرني يونس عن ابن شهاب أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة
حدثه عن عمار بن ياسر أنه كان يحدث أنهم تمسحوا وهم مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصعيد لصلاة الفجر فضربوا
بأكفهم الصعيد ثم مسحوا بوجوههم مسحة واحدة ثم عادوا
فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فمسحوا بأيديهم كلها إلى
المناكب والآباط من بطون أيديهم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى وابن أبي خلف قالا:
حَدَّثنا يعقوب حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد
الله عن ابن عباس عن عمار وذكر الحديث.
(1/98)
قلت: لم يختلف أحد من أهل العلم أنه لا
يلزم المتيمم أن يمسح بالتراب ما وراء المرفقين وإنما جرى
القوم في استيعاب اليد بالتيمم على ظاهر الاسم وعموم اللفظ
لأن ما بين مناط المنكب إلى أطراف الأصابع كله اسم لليد.
وقد يقسم بدن الإنسان على سبعة آراب اليدان والرجلان ورأسه
وظهره وبطنه ثم قد يفصل كل عضو منها فيقع تحته اسما خاصة
كالعضد في اليد والذراع والكف واسم اليد يشتمل على هذه
الأجزاء كلها.
وإنما يترك العموم في الأسماء ويصار إلى الخصوص بدليل يفهم
أن المراد من الاسم بعضه لا كله، ومهما عدم دليل الخصوص
كان الواجب إجراء الاسم على عمومه واستيفاء مقتضاه برمته.
وفي هذا الحديث حجة لمن ذهب إلى إدخال الذراع في المرفقين
في التيمم وهو قول ابن عمر وابنه سالم والحسن والشعبي.
وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري وهو قول مالك والشافعي.
ووجه الاحتجاج له من صنيع عمار وأصحابه أنهم رأوا إجراء
الاسم على العموم فبلغوا بالتيمم إلى الآباط وقام دليل
الإجماع في إسقاط ما وراء المرفقين فسقط وبقي ما دونهما
على الأصل لاقتضاء الاسم إياه.
ويؤيد هذا المذهب أن التيمم بدل من الطهارة بالماء والبدل
يسد مسد الأصل ويحل محله وإدخال المرفقين في الطهارة
بالماء واجب فليكن التيمم بالتراب كذلك.
وقد يقول من يخالف في هذا لوكان حكم التيمم حكم الطهارة
بالماء لكان التيمم على أربعة أعضاء، فيقال له إن العضوين
المحذوفين لا عبرة بهما لأنهما
(1/99)
إذا سقطا سقطت المقايسة عليهما. فأما
العضوان الباقيان فالواجب أن يراعى فيهما حكم الأصول
ويستشهد لهما بالقياس ويستوفى شرطه في أمرهما كركعتي السفر
قد اعتبر فيهما حكم الأصل وإن كان الشطر الآخر ساقطا. وذهب
هؤلاء إلى حديث ابن عمر.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن إبراهيم أبو علي الموصلي
حدثنا محمد بن ثابت العبدي حدثنا نافع قال انطلقت مع ابن
عمر في حاجة إلى ابن عباس فقضى ابن عمر حاجته. وكان من
حديثه يومئذ أن قال مر رجل على رسول الله صلى الله عليه
وسلم في سكة من السكك وقد خرج من غائط أو بول فسلم عليه
فلم يرد عليه حتى إذا كاد الرجل يتوارى في السكة ضرب بيده
على الحائط ومسح بها وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ثم
رد على الرجل.
ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه
والكفين وهو قول عطاء بن أبي رباح ومكحول، وبه قال
الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وعامة أصحاب الحديث.
وذكر أبو داود في هذا الباب حديث ابن أبزى من طريق أبي
قتادة وهو أصح الأحاديث وأوضحها.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع
حدثنا سعيد عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن عبد الرحمن بن
أبزى عن أبيه عن عمار بن ياسر قال سألت رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن التيمم فأمرني ضربة واحدة للوجه والكفين.
وروي من طريق الأعمش عن سلمة بن كهيل عن ابن أبزى عن عمار.
وذكر الحديث فقال يا عمار إنما كان يكفيك هكذا ثم ضرب بيده
إلى الأرض
(1/100)
أحدهما على الأخرى ثم مسح وجهه والذراعين
إلى نصف الساعد ولم يبلغ المرفقين ضربة واحدة.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حفص عن الأعمش
قالوا فالمعول في هذا إنما هو على تعليم النبي صلى الله
عليه وسلم إياهم لا على فعلهم الأول واجتهادهم من حيث سبق
إلى أوهامهم في وجوب استيعاب اليد كلها.
قالوا وحديث ابن عمر لا يصح لأن محمد بن ثابت العبدي ضعيف
جدا لا يحتج بحديثه.
قلت وهذا المذهب أصح في الرواية والمذهب الأول أشبه
بالأصول وأصح في القياس. واختلفوا في نفض الكفين أو النفخ
فيهما، فقال مالك ينفضهما نفضا خفيفا. وقال أصحاب الرأي
ينفضهما، وقال الشافعي إذا علقت الكفان غباراً كثيرا نفض.
وقال أحمد بن حنبل لا يضرك نفضت أولم تنفض.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا أبو
معاوية عن الأعمش عن شقيق، قال كنت جالساً بين عبد الله
وأبي موسى فقال أبو موسى يا أبا عبد الرحمن أرأيت لو أن
رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً، قال أبو موسى كيف تصنعون
بهذه الآية {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً
} [النساء: 43] فقال عبد الله لو أرخص لهم في هذا لأوشكوا
إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد.
فقال له أبو موسى ألم تسمع قول عمار لعمر بعثني رسول الله
صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت
في الصعيد كما تتمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه
وسلم فذكرت ذلك له، فقال إنما كان يكفيك أن تضع هكذا فضرب
بيده على الأرض فنفضها ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه
على شماله على الكفين ثم مسح
(1/101)
وجهه. وقال عبد الله أفلم تر عمر لم يقنع
بقول عمار.
قلت في دلالة هذا الحديث أن مذهب عمر في تأويل آية
الملامسة أن المراد بها غير الجماع وإن اللمس باليد ونحوه
ينقض الطهارة.
وكذلك مذهب ابن مسعود ولولا أنه كذلك عندهما لم يكن لهما
عذر في ترك التيمم مع ورود النص فيه.
ومن باب الجنب يتيمم
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عَون ومسدد قالا: حَدَّثنا
خالد الواسطي عن خالد الحذاء، عَن أبي قلابة عن عمرو بن
بُجدان، عَن أبي ذر. قال كانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس
والست فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ثكلتك أمك ما
أبا ذر إن الصعيد الطيب وضوءُ المسلم ولو إلى عشر سنين
فإذا وجدت الماء فأمسَّه جلدك.
قلت يحتج من هذا الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم الصعيد
الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين من يرى أن للمتيمم أن
يجمع بتيممه بين صلوات كثيرة وهومذهب أصحاب أبي حنيفة
ويحتجون أيضاً بقوله فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك في إيجاب
انتقاض طهارة المتيمم بوجود الماء على عموم الأحوال سواء
كان في صلاة أو غيرها.
ويحتج به من يرى إذا وجد من الماء ما لا يكفي لكمال
الطهارة أن يستعمله في بعض أعضائه ويتيمم للباقي. وكذلك
فيمن كان على بعض أعضائه جرح فإنم يغسل ما لا ضررعليه في
غسله ويتيمم للباقي منه. وهو قول الشافعي ويحتج به أصحابه
أيضاً في أن لا يتيمم في مصر لصلاة فرض ولا جنازة ولا عيد
لأنه
(1/102)
واجد للماء فعليه أن يمسه جلده.
ومعنى قوله ولو إلى عشر سنين، أي أن له أن يفعل التيمم مرة
بعد أخرى وإن بلغت مدة عدم الماء واتصلت إلى عشر سنين وليس
معناه أن التيمم دفعة واحدة يكفيه لعشرسنين.
ومن باب إذا خاف الجنب البرد
لم يغتسل
قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى حدثنا وهب بن جرير حدثنا
أبي قال سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب عن
عمران بن أنس عن عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص. قال
احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن
اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك
للنبي صلى الله عليه وسلم فقال يا عمرو صليت بأصحابك وأنت
جنب فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت إني سمعت الله
يقول {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء:
29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا.
قلت فيه من الفقه أنه جعل عدم إمكان استعمال الماء كعدم
عين الماء وجعله بمنزلة من خاف العطش ومعه ماء فأبقاه
لشفته وتيمم خوف التلف.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فشدد فيه عطاء بن أبي
رباح وقال يغتسل وإن مات واحتج بقوله {وإن كنتم جنبا
فاطهروا} [المائدة: 6] وقال الحسن نحوا من قول عطاء. وقال
مالك وسفيان يتيمم وهو بمنزلة المريض، وأجازه أبوحنيفة في
الحضر، وقال صاحباه لا يجزيه في الحضر. وقال الشافعي إذا
خاف على نفسه من شدة البرد تيمم وصلى وأعاد صلاة صلاها
كذلك ورأى أنه من العذر النادر وإنما جاءت الرخص النامة في
الأعذار العامة.
(1/103)
قال أبو داود: حدثنا موسى بن عبد الرحمن
الأنطاكي حدثنا محمد بن سلمة عن الزبير بن خريق عن عطاء عن
جابر. قال خرجنا في سفر فأصاب رجلاً معنا حجر فشجه في رأسه
فاحتلم، فقال لأصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم، فقالوا
لا نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات. فلما
قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرناه بذلك فقال
قتلوه قتلهم الله الا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي
السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب أويُعصب شك موسى على
جرحه خِرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده.
قلت في هذا الحديث من العلم أنه عابهم بالفتوى بغير علم
وألحق بهم الوعيد بأن دعا عليهم وجعلهم في الإثم قتلة له.
وفيه من الفقه أنه أمر بالجمع بين التيمم وغسل سائر بدنه
بالماء ولم ير أحد الأمرين كافيا دون الآخر.
وقال أصحاب الرأي إن كان أقل أعضائه مجروحاً جمع بين الماء
والتيمم، وإن كان الأكثر كفاه التيمم وحده وعلى قول
الشافعي لا يجزيه في الصحيح من بدنه قل أو كثر إلاّ الغسل.
ومن باب في المتيمم يجد الماء
بعدما صلى في الوقت
قال أبو داود: حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي حدثنا عبد الله
بن نافع عن الليث بن سعد عن بكر بن سوادة عن عطاء بن يسار،
عَن أبي سعيد الخدري قال خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة
وليس معهما ماء فتيمما وصليا، ثم وجدا الماء في الوقت
فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الاخر، ثم أتيا رسول
الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذى لم يعد
الصلاة: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك
(1/104)
وقال للذي توضأ وأعاد لك الأجر مرتين.
قال أبو داود، ذكر أبي سعيد الخدري في هذا الحديث ليس
بمحفوظ إنما هو عن عطاء بن يسار.
قلت في هذا الحديث من الفقه أن السنة تعجيل الصلاة للمتيمم
في أول وقتها كهو للمتطهر بالماء؛ وقد اختلف الناس في هذه
المسألة فروي عن ابن عمر أنه قال: يتلوَّم مابينه وبين آخر
الوقت وبه قال عطاء وأبوحنيفة وسفيان. وهوقول أحمد بن حنبل
وإلى نحو من ذلك ذهب مالك، إلاّ أنه قال إن كان في موضع لا
يرى فيه وجود الماء يتيمم وصلى في أول وقت الصلاة.
وعن الزهري لا يتيمم حتى يخاف ذهاب الوقت واختلفوا في
الرجل يتيمم فيصلي ثم يجد الماء قبل خروج الوقت، فقال عطاء
وطاوس وابن سيرين ومكحول والزهري يعيد الصلاة، واستحبه
الأوزاعي ولم يوجبه، وقالت طائفة لا إعادة عليه روي ذلك عن
ابن عمر وبه قال الشعبي وهو مذهب مالك وسفيان وأصحاب الرأي
والشافعي وأحمد وإسحاق.
ومن باب في الغسل يوم الجمعة
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة حدثنا معاوية
عن يحيى أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة أخبره
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بينا هو يخطب يوم الجمعة إذ
دخل رجل فقال عمر أتحتبسون عن الصلاة فقال الرجل ما هو إلا
أن سمعت النداء فتوضأت فقال عمر رضي
(1/105)
الله عنه والوضوء أيضاً أو لم تسمعوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا جاء أحدكم الجمعة
فليغتسل.
فيه دلالة على أن غسل يوم الجمعة غير واجب ولو كان واجبا
لأشبه أن يأمره عمر رضي الله عنه بأن ينصرف فيغتسل فدل
سكوت عمر رضي الله عنه ومن معه من الصحلبة على أن الأمر به
على معنى الاستحباب دون الوجوب.
وقد ذكر في هذا الخبر من غير هذا الوجه أن الرجل الذي دخل
المسجد هو عثمان بن عفان وفي رواية أخرى دخل رجل من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يجوز عليهما وعلى عمر
ومن بحضرته من المهاجرين والأنصار أن يجتمعوا على ترك
واجب.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن صفوان
بن سليم عن عطاء بن يسار، عَن أبي سعيد الخدري أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: غسل يوم الجمعة واجب على كل
محتلم.
قلت قوله واجب معناه وجوب الاختبار والاستحباب دون وجوب
الفرض كما يقول الرجل لصاحبه حقك علي واجب وأنا أوجب حقك
وليس ذلك بمعنى اللزوم الذي لا يسع غيره ويشهد لصحة هذا
التأويل حديث عمر رضي الله عنه الذي تقدم ذكره.
وقد اختلف الناس في وجوب الغسل يوم الجمعة فكان الحسن يراه
واجباً وقد حكي ذلك عن مالك بن أنس، وقال ابن عباس هوغير
محتوم.
وذهب عامة الفقهاء إلى أنه سنة وليس بفرض ولم تختلف الأمة
في أن صلاته مجزية إذا لم يغتسل فلما لم يكن الغسل من شرط
صحتها دل أنه استحباب كالاغتسال
(1/106)
للعيد وللإحرام الذي يقع الاغتسال فيه
متقدماً لسببه ولو كان واجباً لكان متأخراً عن سببه
كالاغتسال للجنابة والحيض والنفاس.
.قال أبو داود: حد، حَدَّثنا يزيد بن خالد بن موهب وعبد
العزيز بن يحيى قالا: حَدَّثنا محمد بن سلمة عن محمد بن
إبراهيم، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي أمامة بن سهل،
عَن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه
ومس من طيب إن كان عنده، ثم أتى الجمعة فلم يتخط أعناق
الناس ثم صلى ما كتب الله له ثم أنصت إذا خرج إمامُه حتى
يفرغ من صلاته كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي
قبلها، قال ويقول أبو هريرة وزيادة ثلاثة أيام ويقول إن
الحسنة بعشر أمثالها.
قلت وقرانه بين غسل الجمعة وبين لبس أحسن ثيابه ومسه للطيب
يدل على أن الغسل مستحب كاللباس والطيب. وقوله كانت كفارة
لما بينها وبين جمعته التى قبلها، يريد بذلك ما بين الساعة
التي تصلى فيها الجمعة إلى مثلها من الجمعة الأخرى لأنه لو
كان المراد به ما بين الجمعتين على أن يكون الطرفان وهما
يوما الجمعة غير داخلين في العدد لكان لا يحصل من عدد
الحسوب له أكثر من ستة أيام.
ولو أراد ما بينهما على معنى إدخال الطرفين فيه بلغ العدد
ثمانية فإذا ضمت إليها الثلاثة الأيام المزيدة التي ذكرها
أبو هريرة صار جملتها إما أحد عشر يوماً على أحد الوجهين،
وإما تسعة أيام على الوجه الآخر فدل أن المراد به ما قلنا
على سبيل التكسير لليوم ليستقيم الأمرفي تكميل عدد العشرة.
وقد اختلف الفقهاء فيمن أقر لرجل بما بين درهم إلى عشرة
دراهم. فقال أبو حنيفة يلزمه تسعة دراهم وقال أبو يوسف
ومحمد يلزمه عشرة دراهم ويدخل فيه
(1/107)
الطرفان والواسطة، وقال أبو ثور لا يلزمه
أكثر من ثمانية دراهم ويسقط الطرفان.
وهو قول زفر. وهذا أغلب وجوه ما يذهب إليه أصحاب الشافعي.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن حاتم الجراجرائي نا ابن
المبارك عن الأوزاعي حدثني حسان بن عطية حدثنا الأشعث
الصنعاني حدثنا أوس بن أوس الثقفي. قال سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: من غسل يوم الجمعة واغتسل ثم بكر
وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ كان
له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها.
قوله غسل واغتسل وبكر وابتكر اختلف الناس في معناهما فمنهم
من ذهب إلى أنه من الكلام المظاهر الذي يراد به التوكيد
ولم تقع المخالفة بين المعنيين لاختلاف اللفظين. وقال ألا
تراه يقول في هذا الحديث ومشى ولم يركب ومعناهما واحد،
وإلى هذا ذهب الأثرم صاحب أحمد.
وقال بعضهم: قوله غسل معناه غسل الرأس خاصة وذلك لأن العرب
لهم لِمم وشعور، وفي غسلها مؤونة فأفرد ذكر غسل الرأس من
أجل ذلك.
وإلى هذا ذهب مكحول. وقوله واغتسل معناه غسل سائرالجسد.
وزعم بعضهم أن قوله غسل معناه أصاب أهله قبل خروجه إلى
الجمعة ليكون أملك لنفسه وأحفظ في طريقه لبصره. قال ومن
هذا قول العرب فحل غُسَلة إذا كان كثير الضراب.
وقوله بكر وابتكر زعم بعضهم أن معنى بكر أدرك باكورة
الخطبة وهي أولها، ومعنى وابتكر قدم في الوقت. وقال ابن
الأنباري معنى بكر تصدق قبل خروجه. وتأول في ذلك ما روي في
الحديث من قوله باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها.
(1/108)
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن
مالك عن سمي، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة
ثم راح فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعه الثانية فكأنما
قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً ومن
راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة
الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة
يستمعون الذكر.
قوله راح إلى الجمعة معناه قصدها وتوجه إليها مبكرا قبل
الزوال وإنما تأولناه على هذا المعنى لأنه لا يجوز أن يبقى
عليه بعد الزوال من وقت الجمعة خمس ساعات، وهذا جائز في
الكلام أن يقال راح لكذا ولأن يفعل كذا بمعنى أنه قصد
إيقاع فعله وقت الرواح كما يقال للقاصدين إلى الحج حجاج
ولما يحجوا بعد، وللخارجين إلى الغزو غزاة ونحو ذلك من
الكلام.
فأما حقيقة الرواح فإنما هي بعد الزوال يقال غدا الرجل في
حاجته إذا خرج فيها صدر النهار وراح لها إذا كان ذلك في
عجز النهار أو في الشطر الآخر منه. وأخبرني الحسن بن يحيى،
عَن أبي بكر بن المنذر، قال كان مالك بن أنس يقول لا يكون
الرواح إلاّ بعد الزوال، وهذه الأوقات كلها في ساعة واحدة.
قلت كأنه قسم اثساعة التي تحين فيها الرواح للجمعة أقساماً
خمسة فسماها ساعات على معنى التشبيه والتقريب كما يقول
القائل قعدت ساعة وتحدثت ساعة ونحوه يريد جزءاً من الزمان
غير معلوم، وهذا على سعة مجاز الكلام وعادة الناس في
الاستعمال.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن بشر
حدثنا زكريا
(1/109)
حدثنا مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيبب العنزي
عن عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها حدثته
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من أربع من الجنابة
ويوم الجمعة ومن الحجامة ومن غسل الميت.
قلت قد يجمع النظم قرائن الألفاظ والأسماء المختلفة
الأحكام والمعاني ترتبها وتنزلها فأما الاغتسال من الجنابة
فواجب بالاتفاق، وأما الاغتسال للجمعة فقد قام الدليل على
أنه كان يفعله ويأمر به استحباباً. ومعقول أن الاغتسال من
الحجامة إنما هو لإماطة الأذى، ولما لا يؤمن أن يكون قد
أصاب المحتجم رشاش من الدم فالاغتسال منه استظهار بالطهارة
واستحباب للنظافة.
وأما الاغتسال من غسل الميت فقد اتفق أكثر العلماء على أنه
على غير الوجوب.
وقد روي، عَن أبي هُرَيْرَة عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: من غسل ميتاً فليغتسل.
وروي عن ابن المسيب والزهري معنى ذلك، وقال النخعي وأحمد
وإسحاق يتوضأ غاسل الميت وروي عن ابن عمر وابن عباس أنهما
قالا ليس على غاسل الميت غسل، وقال أحمد لا يثبت في
الاغتسال من غسل الميت حديث.
وقال أبو داود حديث مصعب بن شيبة ضعيف ويشبه أن يكون من
رأى الاغتسال منه إنما رأى ذلك لما لا يؤمن أن يصيب الغاسل
من رشاش المغسول نضح وربما كانت على بدن الميت نجاسة فأما
إذا علمت سلامته منها فلا يجب الاغتسال منه والله أعلم.
ومن باب الرخصة في ترك الغسل
يوم الجمعة
قال أبو داود: حدثنا مسددحدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن
سعيد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت كان الناس مهان
أنفسهم فيروحون
(1/110)
إلي الجمعة بهيأتهم فقيل لهم لو أغتسلتم.
المهان جمع الماهن وهو الخادم يريد أنهم كاموا يتولون
المهنة لأنفسهم في الزمان الأول حين لم يكن لهم خدم
يكفونهم المهنة والأنسان إذا باشر العمل الشاق حمي بدنه
وعرق سيما في البلد الحار فربما تكون منه الرائحة الكريهة
فأمروا بالأغتسال تنظيفاً للبدن وقطعاً للرائحة.
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا همام عن
قتادة عن الحسن عن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: من توضأ فبها ونعمت ومن اغتسل فهو أفضل.
قوله فبها قال الأصمعي معناه فبالسنة أخذ، وقوله ونعمت
يريد ونعمت الخصلة ونعمت الفعلة أو نحو ذلك، وإنما ظهرت
التاء التي هي علامة التأنيث لإظهار السنة أو الخصلة أو
الفعلة، وفيه البيان الواضح أن الوضوء كاف للجمعة وإن
الغسل لها فضيلة لا فريضة.
ومن باب في الرجل يُسْلِم يؤمر بالغسل
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير العبدي حدثنا سفيان
حدثنا الأغر عن خليفة بن حصين عن جده قيس بن عاصم قال أتيت
النبي صلى الله عليه وسلم أريد الإسلام فأمرني أن اغتسل
بماء وسدر.
قلت هذا عند أكثر أهل العلم على الاستحباب لا على الإيجاب،
وقال الشافعي إذا أسلم الكافر أحببت له أن يغتسل فإن لم
يفعل ولم يكن جنباً أجزأه أن يتوضأ ويصلي. وكان أحمد بن
حنبل وأبو ثور يوجبان الاغتسال على الكافر إذا أسلم قولاً
بظاهر الحديث قالوا ولا يخلو المشرك في أيام كفره من جماع
أو احتلام
(1/111)
وهو لا يغتسل ولو اغتسل لم يصح منه ذلك لأن
الاغتسال من الجنابة فرض من فروض الدين لا يجزيه إلاّ بعد
الإيمان كالصلاة والزكاة ونحوهما.
وكان مالك يرى أن يغتسل الكافر إذا أسلم.
واختلفوا في المشرك يتوضأ في حال شركه ثم يسلم. فقال أصحاب
الرأي له أن يصلي بالوضوء المتقدم في حال شركه، ولكنه
لوكان تيمم ثم أسلم لم يكن له أن يصلي بذلك التيمم حتى
يستأنف التيمم في الإسلام إن لم يكن واجداً للماء. والفرق
بين الأمرين عندهم أن التيمم مفتقر إلى النية ونية العبادة
لا تصح من مشرك والطهارة بالماء غير مفتقرة إلى النية فإذا
وجدت من المشرك صحت في الحكم كما توجد من المسلم سواء.
وقال الشافعي إذا توضأ وهو مشرك أو تيمم ثم أسلم كان عليه
إعادة الوضوء للصلاة بعد الإ سلام، وكذلك التيمم لا فرق
بينهما ولكنه لو كان جنباً فاغتسل ثم أسلم فإن أصحابه قد
اختلفوا في ذلك فمنهم من قال يجب عليه الاغتسال ثانياً
كالوضوء سواء وهذا أشبه.
ومنهم من فرق بينهما فرأى عليه أن يتوضأ على كل حال ولم ير
عليه الاغتسال فإن أسلم وقد علم أنه لم يكن أصابته جنابة
قط في حال كفره فلا غسل عليه في قولهم جميعاً، وقول أحمد
في الجمع بين إيجاب الاغتسال والوضوء عليه إذا أسلم أشبه
بظاهر الحديث وأولى.
ومن باب المرأة تغسل ثوبها
الذي تلبسه في حيضتها
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا إبراهيم بن نافع
سمعت الحسن، يَعني ابن مسلم يذكر عن مجاهد قال قالت عائشة
ما كان لإحدانا إلا ثوب
(1/112)
واحد فيه تحيض فإن أصابه شيء من دم بلته
بريقها ثم قصعته به.
قولها قصعته بريقها معناه دلكته به ومنه قصع القملة إذا
شدخها بين أظفاره فأما فصع الرطبة فهو بالفاء وهو أن
يأخذها بين إصبعه فيغمزها أدنى غمز فتخرج الرطبة خالعة
قشرها.
قال أبو داود: نا النفيلي حدثنا محمد بن سلمة حدثنا محمد
بن إسحاق عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر قال
سمعت امرأة تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تصنع
إحدانا بثوبها إذا رأت الطهر لتصلي فيه. قال: تنظر فإن رأت
فيه دماً فلتقرصه بشيء من ماء ولتنضح ما لم تر وتصلي فيه.
أصل القرص أن يقبض بأصبعه على الشيء ثم يغمز غمزاً جيداً،
والنضح الرش وقد يكون أيضاً بمعنى الغسل والصب.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثني يحيى عن سفيان حدثني ثابت
الحداد حدثني عدي بن دينار قال سمعت أم قيس بنت محصَن سألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يكون في الثوب
فقال حكيه بضلع واغسليه بماء وسدر.
قوله اغسليه بماء دليل على أن النجاسات إنما تزال بالماء
دون غيره من المائعات لأنه إذا أمر بإزالتها بالماء
فأزالها بغيره كان الأمر باقياً لم يمتثل، وإذا وجب ذلك
عليه في الدم بالنص كان سائر النجاسات بمثابته لا فرق
بينهما في القياس وإنما أمربحكه بالضلع ليتقلع المستجسد
منه اللاصق بالثوب ثم تتبعه الماء ليزيل الأثر.
(1/113)
ومن باب الصلاة في شُعُر النساء
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا
الأشعث عن محمد بن سيرين عن عبد الله بن شقيق عن عائشة
قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي في شُعُرنا
أو لُحفنا قال عبيد الله شك أبي.
الشعر جمع الشعار وهو الثوب الذي يستشعره الإنسان أي يجعله
مما يلي بدنه والدثار ما يلبسه فوق الشعار.
ومن باب الرخصة فيه
قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح حدثنا سفيان، عَن أبي
إسحاق الشيباني سمعه من عبد الله بن شداد يحدثه عن ميمونة
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وعليه مرط وعلى بعض
أزواجه منه وهي
حائض وهو يصلي وهوعليه.
قال: المرط ثوب يلبسه الرجال والنساء يكون إزاراً ويكون
رداء، وقد يتخذ من صوف ويتخذ من خز وغيره.
ومن باب المني يصيب الثوب
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن
إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت كنت افرك المني من ثوب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه.
قلت في هذا دليل على أن المني طاهر ولوكان عينه نجساً لكان
لا يطهر الثوب بفركه إذا يبس كالعذرة إذا يبست لم تطهر
بالفرك. وممن كان يرى فرك المني ولا يأمر بغسله سعد بن أبي
وقاص، وقال ابن عباس امسحه عنك بإذخرة أو خرقة ولا تغسله
إن شئت إنما هو كالبزاق أو المخاط، وكذلك قال عطاء وقال
الشافعي المني طاهر وقال أحمد يجزيه أن يفركه.
(1/114)
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد البصري
حدثنا سليم بن أخضر حدثنا عمرو بن ميمون قال: سمعت سليمان
بن يسار يقول سمعت عائشة تقول إنها كانت تغسل المني من ثوب
رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ثم أرى فيه بقعة أو
بقعاً.
قلت هذا لا يخالف حديث الفرك وإنما هذا استحباب واستظهار
بالنظافة كما قد يغسل الثوب من النخامة والمخاط ونحوه
والحديثان إذا أمكن استعمالهما لم يجز أن يحملا على
التناقض.
وقد ذهب إلى غسل المني من الثوب عمر بن الخطاب وسعيد بن
المسيب وقال مالك غسله من الثوب أمر واجب وإليه ذهب الثوري
والأوزاعي. وقال أبو حنيفة: المني نجس، إلاّ أنه قال: يجوز
فرك اليابس منه بلا غسل للأثر فيه، وغسل الرطب.
ومن باب بول الصبي يصيب الثوب
قال أبو داود: حدثنا مسدد وأبو توبة المعنى قالا: حدثنا
أبو الأحوص عن سماك عن قابوس عن لبابة بنت الحارث قالت كان
الحسين بن علي في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال
عليه فقلت البس ثوبا آخر وأعطني إزارك حتى أغسله. قال:
إنما يغسل من بول الأنثى وينضح من بول الذكر.
قلت معنى النضح في هذا الموضع الغسل إلاّ أنه غسل بلا مرس
ولا دلك وأصل النضح الصب، ومنه قيل للبعير الذي يستقى عليه
الناضح فأما غسل بول
(1/115)
الجارية فهو غسل يستقصى فيه فيمرس باليد
ويعصر بعده، وقد يكون النضح بمعنى الرش أيضاً.
وممن قال بظاهر هذا الحديث علي بن أبي طالب وإليه ذهب عطاء
بن أبي رباح والحسن البصري وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل
وإسحاق قالوا ينضح بول الغلام ما لم يطعم، ويغسل بول
الجارية وليس ذلك من أجل أن بول الغلام ليس بنجس ولكنه من
أجل التخفيف الذي وقع في إزالته؛ وقالت طائفة يغسل بول
الغلام والجارية معاً.
وإليه ذهب النخعي وأبو حنيفة وأصحابه وكذلك قال سفيان
الثوري.
ومن باب الأرض يصيبها البول
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وابن عبدة في
آخرين وهذا لفظ ابن عبدة، قال: حَدَّثنا سفيان عن الزهري
عن سعيد، عَن أبي هريرة أن أعرابياً دخل المسجد ورسول الله
صلى الله عليه وسلم جالس فصلى ركعتين ثم قال اللهم ارحمني
ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً فقال النبي صلى الله عليه
وسلم لقد تحجرت واسعاً ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد
وأسرع الناس إليه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال
إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين صبوا عليه سجلاً من
ماء أو قال: ذنوباً من ماء.
قوله لقد تحجرت واسعاً أصل الحجر المنع، ومنه الحجر على
السفيه وهو منعه من التصرف في ماله وقبض يده عليه يقول له
قد ضيعت من رحمة الله ما وسّعه ومنعت منها ما أباحه،
والسجل الدلو الكبيرة وهي السجيلة أيضاً، والذنوب الدلو
الكبيرة أيضاً.
وفي هذا دليل أن الماء إذا ورد على النجاسة على سبيل
المكاثرة والغلبة طهرها
(1/116)
وأن غسالة النجاسات طاهرة ما لم يبن
للنجاسة فيها لون أوريح ولو لم يكن ذلك الماء طاهراً لكان
المصبوب منه على البول أكثر تنجيساً للمسجد من البول نفسه
فدل ذلك على طهارته. وليس في خبر أبي هُرَيْرَة ولا في
خبرمتصل ذكر لحفر المكان ولا لنقل التراب.
فأما حديث عبد الله بن معقل بن مقرن أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال لهم: خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه
وأهريقوا على مكانه ماء، فإن أبا داود قد ذكره في هذا
الباب وضعفه وقال هو مرسل وابن معقل لم يدرك النبي صلى
الله عليه وسلم.
قلت وإذا أصابت الأرض نجاسة ومطرت مطرا عاما كان ذلك مطهرا
لها وكانت في معنى صب الذنوب وأكثر. وفي قوله إنما بعثتم
ميسرين ولم تبعثوا معسرين دليل على أن أمرالماء على
التيسير والسعة في إزالة النجاسات به والله أعلم.
ومن باب في طهور الأرض إذا
يبست
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب
أخبرني يونس عن ابن شهاب حدثني حمزة بن عبد الله بن عمر
قال قال ابن عمر: كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم وكنت فتى شابا عَزَبا وكانت الكلاب تبول
وتقبل وتدبر في المسجد فلم يكونوا يَرُشون شيثا من ذلك.
قوله كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد يتأول على
أنها كانت تبول خارج المسجد في مواطنها وتقبل وتدبر في
المسجد عابرة إذ لا يجوز أن تترك الكلاب وانتياب المسجد
حتى تمتهنه وتبول فيه وإنما كان إقبالها وإدبارها في أوقات
نادرة ولم يكن على المسجد أبواب فتمنع من عبورها فيه.
وقد اختلف الناس في هذه المسألة فروي، عَن أبي قلابة أنه
قال: جفوف
(1/117)
الأرض طهورها وقال أبو حنيفة ومحمد بن
الحسن: الشمس تزيل النجاسة عن الأرض إذا ذهب الأثر، وقال
الشافعي وأحمد الأرض إذا أصابتها النجاسة لا يطهرها إلاّ
الماء.
ومن باب الأذى يصيب الذيل
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن محمد بن
عمارة بن عمرو بن حزم عن محمد بن إبراهيم عن أم ولد
لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنها سألت أم سلمة زوج
النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي
في المكان القذر فقالت أم سلمة قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: يطهره ما بعده.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي وأحمد بن
يونس قالا: حَدَّثنا زهير حدثنا عبد الله بن عيسى عن موسى
بن عبد الله بن يزيد أن امرأة من بني عبد الأشهل قالت قلت
يا رسول الله إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة فكيف نفعل إذا
مطرنا، قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها. قالت قلت: بلى
قال: فهذه بهذه.
قوله يطهره ما بعده كان الشافعي يقول إنما هو فيما جُر على
ما كان يابسا لا يعلق بالثوب منه شيء، فأما إذا جر على رطب
فلا يطهر إلاّ بالغسل.
وقال أحمد بن حنبل ليس معناه إذا أصابه بول ثم مر بعده على
الأرض أنها تطهره ولكنه يمر بالمكان فيقذره ثم يمر بمكان
أطيب منه فيكون هذا بذاك ليس على أنه يصيبه منه شيء.
وقال مالك: إن الأرض يطهر بعضها بعضا إنما هو أن يطأ الأرض
القذرة ثم يطأ الأرض اليابسة النظيفة فإن بعضها يطهر بعضا
فأن النجاسة مثل البول
(1/118)
ونحوه يصيب الثوب أو بعض الجسد فإن ذلك لا
يطهره إلاّ الغسل.
قلت وهذا إجماع الأمة وفي إسناد الحديثين مقال لأن الأول
عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن وهي مجهولة لا يعرف
حالها في الثقة والعدالة والحديث الآخر عن امرأة من بني
عبد الأشهل والمجهول لا تقوم به الحجة في الحديث.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو المغيرة عن
الأوزاعي قال أُنبئت أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدث عن
أبيه، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إذا وطىء بنعله أحدكم الأذى فإن التراب له طهور.
قلت كان الأوزاعي يستعمل هذا الحديث على ظاهره وقال يجزئه
أن يمسح القذر في نعله أو خفه بالتراب ويصلي فيه.
وذكر هذا الحديث في غير هذه الرواية عن ابن عجلان عن سعيد
بن أبي سعيد وروي مثله في جوازه عن عروة بن الزبير وكان
النخعي يمسح النعل أو الخف يكون فيه السرقين عند طب المسجد
ويصلي بالقوم.
وقال أبو ثور في الخف والنعل إذا مسحهما بالأرض حتى لا يجد
له ريحا ولا أثرا رجوت أن يجزئه.
وقال الشافعي لا تطهر النجاسات إلاّ بالماء سواء كانت في
ثوب أو حذاء.
ومن باب الإعادة من النجاسة
تكون في الثوب
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا أبو معمر
حدثنا
(1/119)
عبد الوارث حدثتنا أم يونس بنت شداد قالت حدثتني حماتي أم
جَحْدرٍ العامرية عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لبس كساء كان علينا من الليل فصلى الغداة ثم جلس فقال
رجل يا رسول الله هذه لُمعة من دم فقبض رسول الله صلى الله
عليه وسلم على ما يليها فبعث بها إليّ مصرورة في يد الغلام
فقال اغسلي هذه وأجفِّيها وارسلي به إليّ فدعوت بقصعتي
فغسلتها ثم أجففتها فأحرتها إليه فجاء رسول الله صلى الله
عليه وسلم نصف النهار وهو عليه.
قولها فأحرتها معناه رددتها إليه يقال حار الشيء يحور
بمعنى رجع ومنه قوله تعالى {أنه ظن أن لن يحورا} أي لا
يبعث ولا يرجع إلينا في القيامة للحساب. |