معالم السنن كتاب الصلاة
باب
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عَن أبي
سهيل بن مالك عن أبيه أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول جاء
رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر
الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو
يسأل عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس
صلوات في اليوم والليلة قال هل عليّ غيرُهن قال لا إلاّ أن
تطوع قال وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام شهر
رمضان قال هل علي غيره قال لا إلاّ أن تطوع قال وذكر رسول
الله صلى الله عليه وسلم له الصدقة قال فهل علي غيرها قال
لا إلاّ أن تطوع قال فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد
على هذا ولا أنقص فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلح
إن صدق.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود حدثنا إسماعيل بن جعفر
المدني، عَن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عاص بهذا الحديث
بإسناده وقال أفلح
(1/120)
وأبيه إن صدق دخل الجنة وأبيه إن صدق.
قوله عند ذكر الصلاة هل علي غيرهن فقال لا إلاّ أن تطوع
دليل على أن الوتر غير مفروض ولا واجب وجوب حتم ولوكان
فرضاً لكانت الصلوات المفروضة ستا لا خمسا وفيه بيان أن
فرض صلاة الليل منسوخ.
وقوله أفلح وأبيه هذه كلمة جارية على ألسن العرب تستعملها
كثيرا في خطابها تريد بها التوكيد. وقد نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يحلف الرجل بأبيه فيحتمل أن يكون هذا
القول منه قبل النهي ويحتمل أن يكون جرى ذلك منه على عادة
الكلام الجاري على الألسن وهو لا يقصد به القسم كلغو
اليمين المعفوعنه قال الله تعالى {لا يؤاخذكم الله باللغو
في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة: 225]
الآية قالت عائشة هو قول الرجل في كلامه لا والله وبلى
والله ونحو ذلك. وفيه وجه آخر وهو أن يكون النبي صلى الله
عليه وسلم ضمر فيه اسم الله كأنه قال لا ورب أبيه، وإنما
نهاهم عن ذلك لأنهم لم يكونوا يضمرون ذلك في أيمانهم وإنما
كان مذهبهم في ذلك مذهب التعظيم لآبائهم. ويحتمل أن يكون
النهي إنما وقع عنه إذا كان ذلك منه على وجه التوقير له
والتعظيم لحقه دون ما كان بخلافه، والعرب قد تطلق هذا
اللفظ في كلامها على ضربين أحدهما على وجه التعظيم والاخر
على سبيل التوكيد للكلام دون القسم قال ابن ميادة:
أظنت سفاهاً من سفاهة رأيها ... لأهجوها لما هجتنى محارب
فلا وأبيها إنني بعشيرتي ... ونفسي عن ذاك المقام لراغب
وليس يجوزأن يقسم بأب من يهجوه على سبيل الإعظام لحقه.
وقال
(1/121)
آخر لعبيد الله بن عبد الله بن مسعود أحد
الفقهاء السبعة:
لعمر أبي الواشين أيام نلتقي ... لما لا تلاقيها من الدهر
أكثر
يعدون يوماً واحداً إن لقيتها ... وينسون ما كانت على
النادي تهجر
وقال آخر:
لعمر أبي الواشين لا عمر غيرهم …لقد كلفتني خطة لا أريدها
وفيه دليل على أن صلاة الجمعة فريضة، وفيه بيان أن صلاة
العيد نافلة. وكان أبو سعيد الإصطخري يذهب إلى أن صلاة
العيد من فرض الكفاية، وعامة أهل العلم على أنها نافلة.
ومن باب في المواقيت
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني عبد
الرحمن بن فلان بن أبي ربيعة عن حكيم بن حكيم عن نافع بن
جبير بن مطعم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أتاني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين فصلى
بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك وصلى بي العصر
حين كان ظله مثله وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم وصلى بي
العشاء حين غاب الشفق وصلى بي الفجر حين حرم الطعام
والشراب على الصائم فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان
ظله مثله وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه وصلى بي المغرب
حين أفطر الصائم وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل وصلى بي
الفجر فأسفر ثم التفت إلي فقال يا محمد هذا وقت الأنبياء
من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين.
قلت قوله وكانت قدر الشراك ليس قدر الشراك هذا على معنى
التحديد
(1/122)
ولكن الزوال لا يستبان إلاّ بأقل ما يرى من
الفيء، وأقله فيما يقدر هو ما بلغ قدر الشراك أو نحوه وليس
هذا المقدار مما يتبين به الزوال في جميع البلدان إنما
يتبين ذلك في مثل مكة من البلدان التي ينتقل فيها الظل
فإذا كان أطول يوم في السنة واستوت الشمس فوق الكعبة لم ير
لشيء من جوانبها ظل. وكل بلد يكون أقرب إلى وسط الأرض كان
الظل فيه أقصر؛ وماكان من البلدان أبعد من واسطة الأرض
وأقرب إلى طرفيها كان الظل فيه أطول.
وقد اعتمد الشافعي هذا الحديث وعول عليه في بيان مواقيت
الصلاة إذ كان قد وقع به القصد إلى بيان أمر الصلاة في أول
زمان الشرع.
وقد اختلف أهل العلم في القول بظاهره فقالت طائفة وعدل
آخرون عن القول ببعض ما فيه إلى أحاديث أخر وإلى سنن سنها
رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض المواقيت لمّا هاجر
إلى المدينة، قالوا وإنما يؤخذ بالآخر من أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم وسنذكر موضع الاختلاف منهم في ذلك. فمن
قال بظاهر حديث ابن عباس وتوقيت أول صلاة الظهر وآخرها به
مالك وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وبه قال أبو يوسف ومحمد
وقال أبو حنيفة آخر وقت الظهر إذا صار الظل قامتين. وقال
ابن المبارك وإسحاق بن راهويه آخر وقت الظهر أول وقت
العصر.
واحتج بعض من قاله بأن في بعض الروايات أنه صلى الظهر من
اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر من اليوم الأول،
وقد نسب هذا القول محمد بن جرير الطبري إلى مالك بن أنس
وقال لو أن مصليين صليا أحدهما الظهر والآخر العصر في وقت
واحد صحت صلاة كل واحد منهما.
قلت ومعنى هذا الكلام معقول أنه إنما أراد فراغه من صلاة
الظهر اليوم الثاني
(1/123)
في الوقت الذي ابتدأ فيه صلاة العصر من
اليوم الأول وذلك أن هذا الحديث إنما سيق لبيان الأوقات
وتحديد أوائلها وأواخرها دون بيان عدد الركعات وصفاتها
وسائر أحكامها ألا ترى أنه يقول في آخره (الوقت فيما بين
هذين الوقتين) فلو كان الأمر على قدره هو لألجأ من ذلك
الاشكال في أمرالأوقات واحتيج من أجل ذلك إلى أن يعلم
مقدار صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لتعلق الوقت بها
فيزداد بقدرها في الوقت ويحتسب كميتها فيه. والصلاة لا
تقدر بشيء معلوم لا يزيد عليه ولا ينقص منه لأنها قد تطول
في العادة وتقصر. وفي هذا بيان فساد ما ذهبوا إليه ومما
يدل على صحة ما قلناه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ووقت الظهر ما لم يحضر
العصر، وهو حديث حسن ذكره أبو داود في هذا الباب.
واختلفوا في أول وقت العصر فقال بظاهر حديث ابن عباس مالك
والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة أول وقت
العصر أن يصير الظل قامتين بعد الزوال فمن صلى قبل ذلك لا
تجزئه صلاته وخالفه صاحباه.
واختلفوا في آخر وقت العصر، فقال الشافعي آخر وقتها إذا
صار ظل كل شيء مثليه لمن ليس له عذر ولا به ضرورة على ظاهر
هذا الحديث فأما أصحاب العذر والضرورات فآخر وقتها لهم
غروب الشمس قبل أن يصلي منها ركعة على حديث أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أدرك ركعة من العصر
قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها.
وقال سفيان الثوري وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل أول وقت
العصر إذا صار ظل كل شيء مثله ما لم تصفر الشمس. وقال
بعضهم ما لم تتغير الشمس.
(1/124)
وعن الأوزاعي نحو من ذلك ويشبه أن يكون
هؤلاء ذهبوا إلى حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال وقت العصر ما لم تصفر الشمس.
وأما المغرب فقد أجمع أهل العلم على أن أول وقتها غروب
الشمس.
واختلفوا في آخر وقتها فقال مالك والأوزاعي والشافعي لا
وقت للمغرب إلاّ وقت واحد قولاً بظاهر الحديث حديث ابن
عباس وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق وقت
المغرب إلى أن يغيب الشفق.
قلت وهذا أصح القولين للأخبار الثابتة وهي خبر أبي موسى
الأشعري وبريدة الأسلمي وعبد الله بن عمرو. ولم يختلفوا في
أن أول وقت العشاء الآخرة غيبوبة الشفق إلاّ أنهم اختلفوا
في الشفق ما هو فقالت طائفة هو الحمرة، روي ذلك عن ابن عمر
وابن عباس، وهو قول مكحول وطاوس وبه قال مالك وسفيان
الثوري وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد والشافعي وأحمد
وإسحاق.
وروي، عَن أبي هريرة أنه قال: الشفق البياض. وعن عمر بن
عبد العزيز مثله.
وإليه ذهب أبو حنيفة وهو قول الأوزاعي. وقد حكي عن الفراء
أنه قال: الشفق الحمرة وأخبرني أبو عمر، عَن أبي العباس
أحمد بن يحيى قال: الشفق البياض وأنشد لأبي النجم:
حتى إذا الليل جلاه المجتلي ... بين سماطي شفق مُهَوَّل
يريد الصبح وقال بعضهم الشفق اسم للحمرة والبياض معاً إلاّ
أنه إنما يطلق في أحمر ليس بقاني وأبيض ليس بناصع، وإنما
يعلم المراد منه بالأدلة لا بنفس اللفظ كالقُرء الذي يقع
اسمه على الطهر والحيض معاً وكسائر نظائره من الأسماء
المشتركة.
(1/125)
واختلفوا في آخر وقت العشاء الآخرة فروي عن
عمر بن الخطاب وأبي هريرة أن أخر وقتها ثلث الليل، وكذلك
قال عمر بن عبد العزيز وبه قال الشافعي قولا بظاهر حديث
ابن عباس. وقال الثوري وأصحاب الرأي وابن المبارك وإسحاق
بن راهويه آخر وقت العشاء إلى نصف الليل، وحجة هؤلاء حديث
عبد الله بن عمرو قال ووقت العشاء إلى نصف الليل، وكان
الشافعي يقول به إذ هو بالعراق وقد روي عن ابن عباس أنه
قال لا يفوت وقت العشاء إلى الفجر وإليه ذهب عطاء وطاوس
وعكرمة.
واختلفوا في آخر وقت الفجر فذهب الشافعي إلى ظاهر حديث ابن
عباس وهو الإسفار، وذلك لأصحاب الرفاهية ومن لا عذر له
وقال من صلى ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس لم تفته الصبح،
وهذا في أصحاب العذر والضرورات وقال مالك وأحمد من صلى
ركعة من الصبح وطلعت له الشمس أضاف إليها أخرى وقد أدرك
الصبح فجعلوه مدركا للصلاة على ظاهر حديث أبي هريرة. وقال
أصحاب الرأي من طلعت عليه الشمس وقد صلى ركعة من الفجر
فسدت صلاته إلاّ أنهم قالوا فيمن صلى من العصر ركعة أو
ركعتين فغربت الشمس قبل أن يتمها إن صلاته تامة.
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا
شعبة عن قتادة سمع أبا أيوب عن عبد الله بن عمرو عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال وقت الظهر ما لم يحضر العصر
ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ووقت المغرب ما لم يسقط فور
الشفق ووقت العشاء إلى نصف الليل ووقت صلاة الفجر ما لم
تطلع الشمس.
قوله فور الشفق بقية حمرة الشمس في الأفق. وسمي فورا
لفورانه وسطوعه
(1/126)
وروي أيضاً ثور الشفق وهو ثوران حمرته.
ومن باب في وقت صلاة النبي ص
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن سعد بن
إبراهيم عن محمد بن عمرو قال سألنا جابرا عن وقت صلاة رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان يصلي الظهر بالهاجرة
والعصر والشمس بيضاء حية والمغرب إذا غربت الشمس والعشاء
إذا كثر الناس عجل وإذا قلوا أخر والصبح بغَلَس.
قوله والشمس حية يفنببر على وجهين أحدهما أن حياتها شدة
وهجها وبقاء حرها لم ينكسر منه شيء والوجه الآخر أن حياتها
صفاء لونها لم يدخلها التغير.
ومن باب وقت الظهر
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا: حَدَّثنا
عباد بن عباد حدثنا محمد بن عمرو عن سعيد بن الحارث
الأنصاري عن جابر بن عبد الله: قال كنت أصلي الظهر مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم فآخذ قبضة من الحصباء لتبرد في
كفي أضعها لجبهتي أسجد عليها لشدة الحر.
قلت فيه من الفقه تعجيل صلاة الظهر. وفيه أنه لا يجوز
السجود إلاّ على الجبهة ولو جاز السجود على ثوب هو لابسه
أو الاقتصار من السجود على الأرنبة دون الجبهة لم يكن
يحتاج إلى هذا الصنيع، وفيه أن العمل اليسير لا يقطع
الصلاة.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبيدة بن
حميد، عَن أبي مالك الأشجعي سعد بن طارق عن كثير بن مدرك
عن الأسود أن عبد الله بن مسعود قال كان قدر صلاة رسول
الله صلى الله عليه وسلم في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة
أقدام وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام.
(1/127)
قلت وهذا أمر يختلف في الأقاليم والبلدان
ولا يستوي في جميع المدن والأمصار لأن العلة في طول الظل
وقصره هو زيادة ارتفاع الشمس في السماء وانحطاطها فكلما
كانت أعلى وإلى محاذاة الرؤوس في مجراها أقرب كان الظل
أقصر. وكلما كانت أخفض ومن محاذاة الرؤوس أبعد كان الظل
أطول ولذلك ظلال الشتاء تراها أبداً أطول من ظلال الصيف في
كل مكان. وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة
والمدينة وهما من الإقليم الثانى. ويذكرون أن الظل فيهما
في أول الصيف في شهر آذار ثلاثة أقدام وشيء ويشبه أن يكون
صلاته إذا اشتد الحر متأخرة عن الوقت المعهود قبله فيكون
الظل عند ذلك خمسة أقدام.
وأما الظل في الشتاء فإنهم يذكرون أنه في تشرين الأول خمسة
أقدام أو خمسة وشيء وفي الكانون سبعة أقدام أو سبعة وشيء.
فقول ابن مسعود منزل على هذا التقدير في ذلك الإقليم دون
ساتر الأقاليم والبلدان التي هي خارجة عن الإقليم الثاني
والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الهمداني وقتيبة
بن سعيد الثقفي أن الليث حدثهم عن ابن شهاب عن ابن المسيب
وأبي سلمة، عَن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح
جهنم.
معنى الإبراد في هذا الحديث انكسار شدة حر الظهيرة وقال
محمد بن كعب القرظي نحن نكون في السفر فإذا فات الأفياء
وهبت الأرواح قالوا أبردتم فالرواح. قلت ومن تأول على بردى
النهار فقد خرج عن جملة قول الأمة.
(1/128)
وقد اختلف العلماء في تأخير صلاة الظهر في
الصيف والإبراد بها فذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
إلى تأخيرها والإبراد بها في الصيف. وإليه ذهب أصحاب
الرأي، وقال الشافعي تعجيلها أولى إلاّ أن يكون امام جماعة
ينتابه الناس من بعد فإنه يبرد بها في الصيف عند شدة الحر،
وأما من صلاها وحده أو صلاها بجماعة بفناء بيته لا يحضره
إلاّ من بحضرته فإنه يصليها في أول وقتها لأنه لا أذى
عليهم في حرها. ولا يؤخر في الشتاء بحال.
وقوله عليه الصلاه والسلام فيح جهنم معناه سطوع حرها
وانتشاره وأصله في كلامهم السعة والانتشار. ومنه قولهم في
الغادة فيحي فياح، ومكان أفيح أي واسع، وأرض فيحاء أي
واسعة ومعنى الكلام يحتمل وجهين أحدهما أن شدة الحر في
الصيف من وهج حر جهنم في الحقيقة. وروي أن الله تعالى أذن
لجهنم في نفسين نفس في الصيف ونفس في الشتاء فأشد ما
تجدونه من الحر في الصيف فهو من نفسها وأشد ما ترونه من
البرد في الشتاء فهو منها.
والوجه الاخر أن هذا الكلام إنما خرج مخرج التشبيه
والتقريب أي كأنه نار جهنم في الحر فاحذروها واجتنبوا
ضررها.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سماك
بن حرب عن جابر بن سَمُرة أن بلالاً كان يؤذن للظهر إذا
دحضت الشمس.
قوله دحضت معناه زالت وأصل الدحض الزلق يقال دحضت رجله أي
زلت عن موضعها وأدحضت حجة فلان أي أزالتها وأبطلتها.
(1/129)
ومن باب وقت العصر
قال أبو داود: حدثنا القعنبي قال قرأت على مالك عن ابن
شهاب قال عروة ولقد حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر.
قوله قبل أن تظهر معنى الظهور ههنا الصعود يقال ظهرت على
الشيء إذا علوته ومنه قول الله تعالى {ومعارج عليها
يظهرون} [الزخرف: 33] .
قلت وحجرة عائشة ضيقة الرقعة والشمس تقلص عنها سريعاً فلا
يكون مصلياً العصر قبل أن تصعد الشمس عنها إلاّ وقد بكر
بها.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن العلاء بن عبد
الرحمن أنه قال: دخلنا على أنس بن مالك بعد الظهر فقام
يصلي العصر فلما فرغ من صلا ته ذكرنا تعجيل الصلاة أو
ذكرها فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تلك
صلاة المنافقين تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم حتى إذا
اصفرت الشمس وكانت بين قرني الشيطان أو على قرني الشيطان
قام فنقر أربعاً لا يذكرالله فيها إلا قليلا.
قوله كانت بين قرنى الشيطان إختلفوا في تأويله على وجوه
فقال قائل معناه مقارنه الشيطان للشمس عند دنوها للغروب
على معنى ما روي أن الشيطان يقارنها إذا طلعت فإذا ارتفعت
فارقها فإذا استوت قارنها فإذا زالت فارقها فإذا دنت
للغروب قارنها فإذا غربت فارقها فحرمت الصلاة في هذه
الأوقات الثلاثة لذلك.
وقيل معنى قرن الشيطان قوته من قولك أنا مقرن لهذا الأمرأي
مطيق له قوي عليه وذلك لأن الشيطان إنما يقوى أمره في هذه
الأوقات لأنه يسول لعبدة الشمس أن يسجدوا لها في هذه
الأزمان الثلاثة، وقيل قرنه حزبه وأصحابه
(1/130)
الذين يعبدون الشمس يقال هؤلاء قرن أي نشوء
جاؤوا بعد قرن مضى.
وقيل إن هذا تمثيل وتشبيه وذلك أن تأخير الصلاة إنما هو من
تسويل الشيطان لهم وتزيينه ذلك في قلوبهم وذوات القرون
إنما تعالج الأشياء وتدفعها بقرونها فكأنهم لما دافعوا
الصلاة وأخروها عن أوقاتها بتسويل الشيطان لهم حتى اصفرت
الشمس صار ذلك منه بمنزلة ما تعالجه ذوات القرون بقرونها
وتدفعه بأرواقها.
وفيه وجه خامس قاله بعض أهل العلم وهو أن الشيطان يقابل
الشمس حين طلوعها وينتصب دونها حتى يكون طلوعها بين قرنيه
وهما جانبا رأسه فينقلب سجود الكفار للشمس عبادة له. وقرنا
الرأس فوداه وجانباه وسمي ذو القرنين وذلك أنه ضرب على
جانبي رأسه فلقب به.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن
ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الذي تفوته
صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله.
قلت معنى وتر أي نقص أو سلب فبقي وتراً فرداً بلا أهل ولا
مال يريد فليكن حذره من فوتها كحذره من ذهاب أهله وماله.
ومن باب وقت عشاء الآخرة
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عثمان الحمصى حدثنا أبي حدثنا
جرير عن راشد بن سعد عن عاصم بن حميد السكوني أنه سمع معاذ
بن جبل يقول بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة
العتمة فتأخر حتى ظن الظان أنه ليس بخارج والقائل منا يقول
صلى فانا لكذلك حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا
له كما قالوا فقال اعتموا هذه الصلاة فإنكم قد فُضلتم بها
على سائر الأمم ولم تصلها أمة قبلكم.
قوله بقينا النبي صلى الله عليه وسلم معناه انتظرنا يقال
بقيت الرجل أبقيه إذا انتظرته.
(1/131)
وقوله اعتموا هذه الصلاة يريد أخروها، يقال
فلان عاتم القرى إذا لم يقدم العجالة لأضيافه.
وقد روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تسمى
هذه الصلاة العتمة، وقال: لا يغلبنكم الأعراب على اسم
صلاتكم فإنهم يعتمون بحلاب الإبل أي يؤخرونه.
وكان ابن عمر إذا سمع رجلاً يقول العتمة صاح وغضب وقال
إنما هو العشاء.
ومن باب وقت الصبح
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن
عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت انْ كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلَفِّعات
بمُروطهن ما يعرفن من الغلس.
والغلس اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل والغبش قريب منه
إلاّ أنه دونه.
والمروط أكسية تلبس والتلفع بالثوب الاشتمال به. وهو حجة
لمن رأى التغليس بالفجر وهو الثابت من فعل أبي بكر وعمر
وغيرهما من الصحابة رضوان الله عليهم. وبه قال مالك
والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وقال الثوري وأصحاب الرأى: الإسفار بها أفضل.
قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا سفيان عن ابن
عجلان عن عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان عن محمود بن
لبيد عن رافع بن خديج قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: اصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجركم أو أعظم للأجر.
قلت وإلى هذا ذهب الثورى وأصحاب الرأي. وقد احتج من رأى
التغليس بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر
رضي الله عنهما. وقال يحيى بن آدم لا يحتاج مع قول رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى قول وإنما كان يقال سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم
(1/132)
وأبي بكر وعمر ليعلم أن النبي صلى الله
عليه وسلم مات وهو عليها. واحتجوا أيضاً بخبر بشر بن أبي
مسعود الأنصاري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
غلس بالصبح ثم أسفر مرة ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه
الله وهو حديث صحيح الإسناد. وقد ذكره أبو داود في باب قبل
هذا.
قال حدثنا محمد بن سلمه المرادي حدثنا ابن وهب عن أسامة بن
زيد الليثي أن ابن شهاب أخبره عن عروة عن بشير بن أبي
مسعود عن أبيه. وتأولوا حديث رافع بن خديج على أنه إنما
أراد بالإصباح والإسفار أن يصليها بعد الفجر الثاني وجعلوا
مخرج الكلام فيه على مذهب مطابقة اللفظِ اللفظَ وزعموا أنه
قد يحتمل أن أولئك القوم لما أمروا بتعجيل الصلوات جعلوا
يصلونها مابين الفجر الأول والفجر الثاني طلبا للأجر في
تعجيلها فقيل لهم صلوها بعد الفجر الثاني وأصبحوا إذا كنتم
تريدون به الأجر فإن ذلك أعظم لأجوركم.
فإن قيل كيف يستقيم هذا ومعلوم أن الصلاة إذا لم يكن لها
جواز لم يكن فيها أجر. قيل أما الصلاة فلا جواز لها ولكن
أجرهم فيما نووه ثابت كقوله صلى الله عليه وسلم: إذا اجتهد
الحاكم فأخطأ فله أجر ألا تراه قد بطل حكمه ولم يبطل أجره،
وقيل إن الأمر بالاسفار إنما جاء في الليالي المقمرة وذلك
أن الصبح لا يتبين فيها جيدا فأمرهم بزيادة التبيين
استظهارا باليقين في الصلاة.
ومن باب المحافظة على الوقت
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون أخبرنا خالد (هو ابن عبيد
الله الطحان الواسطي) عن داود بن أبي هند، عَن أبي حرب بن
أبي الأسود عن عبد الله بن فضالة عن أبيه قال علمني رسول
الله صلى الله عليه وسلم فكان فيما علمني (وحافظ على
(1/133)
الصلوات الخمس) . قال قلت إن هذه ساعات لي
فيها أشغال فمرني بأمر جامع إذا أنا فعلته أجزأ عني فقال
حافظ على العصرين وما كانت من لغتنا فقلت وما العصران قال
صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها.
يريد بالعصرين صلاة العصر وصلاة الصبح والعرب قد تحمل أحد
الاسمين على الآخر فتجمع بينهما في التسمية طلبا للتخفيف
كقولهم سنة العمرين لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
والأسودين يريدون التمر والماء والأصل في العصرين عند
العرب الليل والنهار قال حميد بن ثور:
ولن يلبث العصران يوم وليلةٌ ... إذا طلبا أن يدركا ما
تيمما
فيشبه أن يكون إنما قيل لهاتين الصلاتين العصران لأنهما
تقعان في طرفي العصرين وهما الليل والنهار.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن حرب الواسطي حدثنا يزيد بن
هارون حدثنا محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار
عن عبد الله الصنابحى قال زعم أبو محمد أن الوتر واجب فقال
عيادة بن الصامت كذب أبو محمد أشهد لسمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: خمس صلوات افترضهن الله من أحسن
وضوءهن وجاء بهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على
الله عهدٌ أن يغفر له. ومن لم يفعل فليس له على الله عهد
إن شاء غفر له وإن شاء عذبه.
قوله كذب أبو محمد يريد أخطأ أبو محمد لم يرد به تعمد
الكذب الذى هو ضد الصدق لأن الكذب إنما يجري في الأ خبار.
وأبو محمد هذا إنما افتى فتيا ورأى رأيا فأخطأ فيما افتى
به وهو رجل من الأنصار له صحبة والكذب عليه
(1/134)
في الأخبار غير جائز والعرب تضع الكذب موضع
الخطأ في كلامها فتقول كذب سمعي وكذب بصري أي زل ولم يدرك
ما رأى وما سمع ولم يحط به قال الأخطل:
كذبتك عينُك أم رأيت بواسط ... ملس الظلام من الرطب خيالا
ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذى وصف له
العسل صدق الله وكذب بطن أخيك. وإنما أنكر عبادة أن يكون
الوتر واجبا وجوب فرض كالصلوات الخمس دون أن يكون واجبا في
السنة ولذلك استشهد بالصلوات الخمس المفروضات في اليوم
والليلة.
ومن باب إذا أخر الصلاة عن
الوقت
قال أبو داود: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم بن دُحَيم
حدثنا الوليد حدثني حسان هو ابن عطية عن عبد الرحمن بن
سابط عن عمرو بن ميمون الأودي قال قدم علينا معاذ بن جبل
اليمن رسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا قال فسمعب
تكبيره مع الفجر رجل أجش الصوت، قال فألقيت عليه محبتي فما
فارقته حتى دفنته بالشام ميتا ثم نظرت إلى أفقه الناس بعده
فأتيت ابن مسعود فلزمته حتى مات فقال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم كيف بكم إذا أتت عليكم أمراء يصلون الصلاة
لغير ميقاتها. قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك يا رسول الله
قال: صل الصلاة لميقاتها واجعل صلاتك معهم سُبحةً.
قوله أجش الصوت هو الذي في صوته جُشة وهي شدة الصوت وفيها
غنة، والسبحة ما يصليه المرء نافلة من الصلوات ومن ذلك
سبحة الضحى.
(1/135)
وفي الحديث من الفقه أن تعجيل الصلوات في
أول أوقاتها أفضل وأن تأخيرها بسبب الجماعة غير جائز، وفيه
أن إعادة الصلاة الواحدة مرة بعد أخرى في اليوم الواحد إذا
كان لها سبب جائزة وإنما جاء النهي عن أن يصلي صلاة واحدة
مرتين في يوم واحد إذا لم يكن لها سبب.
وفيه أن فرضه هو الأولى منهما وأن الأخرى نافلة، وفيه أنه
قد أمربالصلاة مع أئمة الجَور حذرا من وقوع الفرقة وشق عصا
الأئمة.
ومن باب من نام عن صلاة أو
نسيها
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب
أخبرني يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب، عَن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر فسار
ليلة حتى أدركنا الكرى عرَّس وقال لبلال اكلأ لنا الليل
فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته فلم يستيقظ النبي
صلى الله عليه وسلم ولا بلالاً، ولا أحد من أصحابه حتى
ضربتهم النشمس فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم
استيقاظا ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بلال
فقال أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك بأبي أنت وأمي يا رسول الله
فاقتادوا رواحلهم شيئا ثم توضأ النبي صلى الله عليه وسلم
وأمر بلالا فأقام لهم الصلاة وصلى بهم الصبح فلما قضى
الصلاة قال من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى
قال {أقم الصلاة لذكري} [طه: 14] .
الكرى النوم وقوله عرس معناه نزل للنوم والاستراحة.
والتعريس النزول لغير إقامة، وقوله فزع رسول الله معناه
انتبه من نومه يقال أفزعت الرجل من نومه ففزع أي انبهته
فانتبه.
(1/136)
وفي الحديث من الفقه أنهم لم يصلوا في
مكانهم ذلك عندما استيقظوا حتى اقتادوا رواحلهم ثم توضؤوا
ثم أقام بلال وصلى بهم. وقد اختلف الناس في معنى ذلك
وتأويله، فقال بعضهم إنما فعل ذلك لترتفع الشمس فلا تكون
صلاتهم في الوقت المنهي عن الصلاة فيه وذلك أول ما تبزغ
الشمس قالوا والفوائت لا تقضى في الأوقات المنهي عن الصلاة
فيها، وعلى هذا مذهب أصحاب الرأي. وقال مالك والأوزاعي
والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه تقضى الفوائت في
كل وقت نهي عن الصلاة فيه أولم ينه عنها. وإنما نهى عن
الصلاة في تلك الأوقات إذا كانت تطوعا وابتداء من قبل
الاختيار دون الواجبات فإنها تقضى الفوائت فيها إذا ذكرت
أي وقت كان. وروي معنى ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس
رضي الله عنهما وهو قول النخعي والشعبي وحمادة وتأولوا أو
من تأول منهم القصة في قود الرواحل وتأخير الصلاة على أنه
أراد أن يتحول عن المكان الذي أصابته الغفلة فيه والنسيان.
وقد روي هذا المعنى في هذا الحديث من طريق أبان العطار.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا
معمر عن الزهري عن ابن المسيب، عَن أبي هُرَيْرَة وذكر
القصة قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحولوا عن
مكانكم الذي أصابتكم فيه هذه الغفلة وقال فأمر بلالاً فأذن
وأقام وصلى.
قلت وذكر الأذان في هذه الرواية من طريق أبان عن معمر
زيادة وليست في رواية يونس. وقد اختلف أهل العلم في
الفوائت هل يؤذن لها أم لا؟ فقال
(1/137)
أحمد بن حنبل يؤذن للفائت ويقام له وإليه
ذهب أصحاب الرأي.
واختلف قول الشافعي في ذلك فأظهر أقاويله إنه يقام للفوائت
ولا يؤذن لها. وقال أبو داود روى هذا الخبر مالك وابن
عيينة والأوزاعي عن عبد الرزاق عن معمر وابن إسحاق لم يذكر
أحد منهم الأذان في حديث الزهري هذا ولم يسنده منهم أحد
إلاّ الأوزاعي وأبان العطار عن معمر.
قلت وروى هذا الحديث هشام عن الحسن عن عمران بن حصين فذكر
فيه الأذان. ورواه أبو قتادة الأنصاري عن النبي صلى الله
عليه وسلم فذكر الأذان والإقامة والزيادات إذا صحت مقبولة
والعمل بها واجب.
وقد يسأل عن هذا فيقال قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال تنام عيناي ولا ينام قلبي فكيف ذهب عن الوقت ولم
يشعر به وقد تأول بعض أهل العلم على أن ذلك خاص في
أمرالحدث وذلك أن النائم قد يكون منه الحدث وهو لا يشعر به
وليس كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قلبه لا ينام
حتى لا يشعر بالحدث إذا كان منه.
وقد قيل إن ذلك من أجل أنه يوحى إليه في منامه فلا ينبغي
لقلبه أن ينام، فأما معرفة الوقت واثبات رؤ ية الشمس طالعة
فإن ذلك إنما يكون دركه ببصر العين دون القلب فليس فيه
مخالفة للحديث الآخر والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت
عن عبد الله بن رباح الأنصاري حدثنا أبو قتادة أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان في سفر له فمال وملت معه فقال انظر
فقلت هذا راكب هذان راكبان هؤلاء ثلاثة حتى صرنا سبعة فقال
احفظوا علينا صلاتنا، يَعني الفجر فضرب على آذانهم فما
أيقظهم إلاّ حر
(1/138)
الشمس فقاموا فساروا هُنيَّة ثم نزلوا
فتوضؤوا وأذن بلال فصلوا ركعتي الفجر ثم صلوا الفجر وركبوا
فقال بعضهم لبعض قد فرطنا في صلاتنا فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: أنه لا تفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة
فإذا سها أحدكم عن صلاة فليصلها حين يذكرها ومن الغد
للوقت.
قلت قد ذكر الأذان في هذا الحديث كما ترى واسناده جيد فهو
أولى.
وأما هذه اللفظة وهي قوله ومن الغد للوقت فلا أعلم أحدا من
الفقهاء قال بها وجوباً ويشبه أن يكون الأمر به استحبابا
ليحرز فضيلة الوقت في القضاء. وقوله ضرب على آذانهم كلمة
فصيحة من كلام العرب معناه أنه حجب الصوت والحس عن أن يلجا
آذانهم فينتبهوا ومن هذا قوله تعالى {فضربنا على آذانهم في
الكهف سنين عددا} [الكهف: 11] .
قال أبو داود: حدثنا علي بن نصر حدثنا وهب بن جرير حدثنا
الأسود بن شيبان حدثنا خالد بن سمير حدثنا أبو قتادة
الأنصاري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش
الأمراء وذكر القصة قال فلم يوقظنا إلاّ الشمس طالعة فقمنا
وهلين لصلاتنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: رويدا رويدا
حتى تقالت الشمس أو تعالت الشك مني قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم من كان منكم يركع ركعتي الفجر فليركعها فركعوا
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادوا بالصلاة
فنودي بها. فقام فصلى بنا فلما انصرف قال ألا إنا بحمد
الله لم نكن في شيء من أمرالدنيا يشغلنا عن صلاتنا ولكن
أرواحنا كانت بيد الله فأرسلها أنَّى شاء فمن أدرك منكم
صلاة الغداة من غد صالحا فليقض معها مثلها.
قوله فقمنا وهلين يريد فزعين يقال وهل الرجل يوهل إذا فزع
لشيء يصيبه
(1/139)
وقوله تقالت الشمس يريد استقلالها في
السماء وارتفاعها إن كانت الرواية هكذا وهو في سائر
الروايات تعالت ووزنه تفاعلت من العلو، وفى أمره صلى الله
عليه وسلم إياهم بركعتي الفجر قبل الفريضة دليل على أن
قوله فليصلها إذا ذكرها ليس على معنى تضييق الوقت فيه
وحصره بزمان الذكر حتى لا يعدوه بعينه ولكنه على أن يأتي
بها على حسب الإمكان بشرط أن لا يغفلها ولا يتشاغل عنها
بغيرها.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا همام عن قتادة عن
أنس أن النبي ص قال: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا
كفارة لها إلاّ ذلك.
قوله لا كفارة لها إلاّ ذلك يريد أنه لا يلزمه في تركها
غرم أوكفارة من صدقة أو نحوها كما يلزمه في ترك الصوم في
رمضان من غير عذر الكفارة وكما يلزم المحرم إذا ترك شيئا
من نسكه كفارة وجبران من دم وإطعام ونحوه.
وفيه دليل على أن أحدا لا يصلي عن أحد كما يحج عنه وكما
يؤدي عنه الديون ونحوها وفيه دليل أن الصلاة لا تجبر
بالمال كما يجبر الصوم ونحوه.
ومن باب في بناء المسجد
قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح أنا سفيان بن عيينة عن
سفيان الثوري، عَن أبي فزارة عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أمرت بتشييد
المساجد. قال ابن عباس لتُزَخرفُنَّها كما زخرفت اليهود
والنصارى.
التشييد رفع البناء وتطويله وقوله لتُزَخرفُنَّها معناه
لتزيننها، وأصل الزخرف الذهب يريد تمويه المساجد بالذهب
ونحوه، ومنه قولهم زخرف الرجل كلامه إذا موهه وزينه
بالباطل، والمعنى أن اليهود والنصارى إنما زخرفوا المساجد
عندما حرفوا وبدلوا وتركوا العمل بما في كتبهم يقول فأنتم
تصيرون إلى مثل حالهم
(1/140)
إذا طلبتم الدنيا بالدين وتركتم الإخلاص في
العمل وصار أمركم إلى المراياة بالمساجد والمباهاة
بتشييدها وتزيينها.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ومجاهد بن موسى
وهو أتم قالا: حَدَّثنا يعقوب بن إبراهيم حدثني أبي عن
صالح حدثنا نافع عن ابن عمر أن المسجد كان مبنيا على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن وسقفه بالجريد وعمده
خُشُب النخل وغيَّره عثمان وزاد فيه زيادة كثيرة وبنى
جداره بالحجارة المنقوشة والقَصَّة.
العمد السواري يقال عمود وعمد بفتح العين والمين وضمها
والقصة شيء شبه الجص وليس به.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث، عَن أبي
التيَّاح عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه
وسلم أمر ببناء المسجد فأرسل إلى بني النجار فقال: ثامنوني
بحائطكم فقالوا. والله لا نطلب ثمنه إلاّ إلى الله. قال
أنس وكان فيه قبور المشركين فأمر بها رسول الله صلى الله
عليه وسلم فنُبشت وذكر الحديث.
قلت: فيه من الفقه أن المقابر إذا نبشت ونقل ترابها ولم
يبق هناك نجاسة تخالط أرضها فإن الصلاة فيها جائزة وإنما
نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المقبرة إذا كان قد
خالط ترابها صديد الموتى ودماؤهم فإذا نقلت عنها زال ذلك
الاسم وعاد حكم الأرض إلى الطهارة.
وفيه من العلم أنه أباح نبش قبور الكفار عند الحاجة إليه
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه بنبش قبر
أبي رغال في طريقه إلى الطائف وذكر لهم أنه دفن معه غصن من
ذهب فابتدروه فأخرجوه. وفي أمره بنبش قبور المشركين بعدما
جعل أربابها تلك البقعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
دليل على أن الأرض التى يدفن فيها
(1/141)
الميت باقية على ملك أوليائه. وكذلك ثيابه
التي يكفن فيها وأن النباش سارق من حرز في ملك مالك ولوكان
موضع القبر وكفن الميت مبقَّى على ملك الميت حتى ينقطع ملك
الحي عنه من جميع الوجوه لم يكن يجوز نبشها واستباحتها
بغير إذن مالكها.
وفيه دليل أن من لا حرمة لدمه في حياته فلا حرمة لعظامه
بعد مماته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: كسر عظم المسلم
ميتاً ككسره حياً فكان دلالته أن عظام الكفار بخلافه.
ومن باب المساجد تبنى في الدور
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حسين بن علي عن
زائدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: أمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف
وتطَّيب.
قلت في هذا حجة لمن رأى أن المكان لا يكون مسجدا حتى
يسبّله صاحبه وحتى يصلي الناس فيه جماعة ولو كان الأمر يتم
فيه بأن يجعله مسجدا بالتسمية فقط لكان مواضع تلك المساجد
في بيوتهم خارجة عن أملاكهم فدل أنه لا يصح أن يكون مسجداً
بنفس التسمية.
وفيه وجه آخر وهو أن الدور يراد بها المحال التي فيها
الدور.
ومن باب الصلاة عند دخول
المسجد
قال أبو داود: حدثنا القعنبي حدثنا مالك عن عامر بن عبد
الله بن الزبير عن عمرو بن سليم، عَن أبي قتادة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا جاء أحدكم المسجد فليصل
سجدتين قبل أن يجلس.
قلت: فيه من الفقه أنه إذا دخل المسجد كان عليه أن يصلي
ركعتين تحية
(1/142)
المسجد قبل أن يجلس وسواء كان ذلك في جمعة
أو غيرها كان الإمام على المنبر أو لم يكن لأن النبي صلى
الله عليه وسلم عم ولم يخص.
وقد اختلف الناس في هذا فقال بظاهر الحديث الشافعى وأحمد
بن حنبل وإسحاق وإليه ذهب الحسن البصري ومكحول وقالت طائفة
إذا كان الإمام على المنبر جلس ولا يصلي. وإليه ذهب ابن
سيرين وعطاء بن أبي رباح والنخعي وأصحاب الرأي وهو قول
مالك والثوري.
ومن باب في كراهية إنشاد
الضالة في المسجد
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر الجثمي حدثنا حيوة
بن شريح قال: سمعت أبا الأسود يقول أخبرني أبو عبد الله
مولى شداد أنه سمع أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا
أداها الله إليك فإن المساجد لم تبن لهذا.
قوله ينشد معناه يطلب يقال نشدت الضالة إذا طلبتها
وأنشدتها إذا عرفتها وفى رواية أخرى أنه قال لرجل كان ينشد
ضالة في المسجد أيها الناشد غيرك الواجد ويدخل في هذا كل
أمر لم يبن له المسجد من البيع والشراء ونحو ذلك من أمور
معاملات الناس واقتضاء حقوقهم، وقد كره بعض السلف المسألة
في المسجد. وكان بعضهم لا يرى أن يتصدق على السائل المتعرض
في المسجد.
ومن باب كراهية البزاق في
المسجد
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن الفضل السجستاني وهشام بن
عمار وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقيان بهذا الحديث وهذا
لفظ يحيى بن الفضل حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن
مجاهد أبو حزرة عن عُبادة بن الوليد بن عبادة بن
(1/143)
الصامت قال أتينا جابر بن عبد الله وهو في
مسجده فقال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا
هذا وفي يده عُرجون ابن طاب فنظر فرأى في قبلة المسجد
نخامة فأقبل عليها فحَتَّها بالعرجون ثم قال: أيكم يحب أن
يعرض الله عنه إن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه
فلا يبسُقن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبسُق عن يساره تحت
رجله اليسرى فإن عجلت به مادرة فليقل بثوبه هكذا ووضع على
فيه ثم دلكه أروني عبيراً فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله
فجاء بخَلوق في راحته فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم لطخ به على أثر النُخامة قال جابر رضي الله عنه فمن
هناك جعلتم الخَلوق في مساجدكم.
العرجون عود كباسة النخل وسمي عرجونا لانعراجه وهو انعطافه
وابن طاب اسم لنوع من أنواع التمر منسوب إلى ابن طاب كما
نسب سائر ألوان التمر فقيل لون ابن حبيق ولون كذا ولون
كذا.
وقوله فإن الله قبل وجهه تأويله أن القبلة التي أمره الله
عزو جل بالتوجه إليها للصلاة قبل وجهه فليصنها عن النخامة.
وفيه إضمار وحذف واختصار كقوله تعالى {وأشربوا في قلوبهم
العجلس} [البقرة: 93] أي حب العجل وكقوله تعالى {واسأل
القرية} [يوسف: 82] يريد أهل القرية ومثله في الكلام كثير
وإنما أضيفت تلك الجهة إلى الله تعالى على سبيل التكرمة
كما قيل بيت الله وكعبة الله في نحو ذلك من الكلام.
وفيه من الفقه أن النخامة طاهره ولولم تكن طاهرة لم يكن
يأمر المصلي بأن يدلكها بثوبه ولا أعلم خلافا في أن البزاق
طاهر إلاّ أن أبا محمد الكُدانى حدثني قال سمعت الساجي
يقول كان إبراهيم النخعي يقول البزاق نجس.
(1/144)
ومن باب المشرك يدخل
المسجد
قال أبو داود: حدثنا عيسى بن حماد حدثنا الليث عن سعيد
المقبري عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر أنه سمع أنس بن
مالك يقول دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله ثم
قال ايُّكم محمد ورسول الله صلى الله عليه وسلم متكىء بين
ظهرانَيْهم فقلنا هذا الأبيض المتكىء فقال له الرجل يا بن
عبد المطلب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قد أجبتك
فقال يا محمد إني سائلك وساق الحديث.
قلت كل من استوى قاعداً على وطاء فهو متكىء والعامة لا
تعرف المتكىء إلاّ من مال في قعوده معتمدا على أحد شقيه.
وفي الحديث من الفقه جواز دخول المشرك المسجد إذا كانت له
فيه حاجة مثل أن يكون له غريم في المسجد لا يخرج إليه ومثل
أن يحاكم إلى قاض وهو في المسجد فإنه يجوز له دخول المسجد
لإثبات حقه في نحو ذلك من الأمور. وفي إدخاله المسجد جمله
وعقله إياه فيه ثم لم يُهج ولم يمنع منه حجة لقول من زعم
إن بول ما يؤكل لحمه من الحيوان طاهر. وقد زعم بعضهم أنه
إنما قال له قد أجبتك ولم يستأنف له الجواب لأنه كره أن
يدعوه باسم جده وأن ينسبه إليه إذ كان عبد المطلب جده
كافرا غير مسلم وأحب أن يدعوه باسم النبوة والرسالة.
قلت وهذا وجه ولكن قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال
يوم حنين حين حمل على الكفار فانهزموا:
أنا النبي لا كذب …أبا بن عبد المطلب
وقال بعض أهل العلم في هذا إنه لم يذهب بهذا القول مذهب
الانتساب إلى شرف
(1/145)
الآباء على سبيل الافتخار بهم ولكنه ذكرهم
بذلك رؤيا كان رآها عبد المطلب له أيام حياته وكانت إحدى
دلائل نبوته وكانت القصة فيها مشهورة عندهم فعرفهم شأنها
وأذكرهم بها وخروج الأمرعلى الصدق فيها والله أعلم.
ومن باب المواضع التي لا تجوز
فيها الصلاة
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن
الأعمش عن مجاهد عن عُبيد بن عمير، عَن أبي ذر قال. قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: جُعلت لي الأرض طهورا
ومسجدا.
قوله جعلت لي الأرض طهورا ومسجدا فيه إجمال وإبهام.
وتفصيله في حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: جعلت لنا الأرض مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا
ولم يذكره أبو داود في هذا الباب واسناده جيد حدثونا به عن
محمد بن يحيى حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة، عَن أبي مالك عن
رِبْعِيّ بنِ حِِرَاش عن حذيفة.
وقد يحتج بظاهر خبر أبي ذر من يرى التيمم جائزا بجميع
أجزاء الأرض من جص ونورة وزرنيخ ونحوها. وإليه ذهب أهل
العراق. وقال الشافعي لا يجوز التيمم إلاّ بالتراب. قال
والمفسر من الحديث يقضي على المجمل.
وإنما جاء قوله جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا على مذهب
الامتنان على هذه الأمة بأن رخص لها في الطهور بالأرض
والصلاة عليها في بقاعها. وكانت الأمم المتقدمة لا يصلون
الا في كنائسهم وبيعهم وإنما سيق هذا الحديث لهذا المعنى.
وبيان ما يجوز أن يتطهر به منها مما لا يجوز إنما هو في
حديث حذيفة الذي ذكرناه.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد. قال ونا
مسدد
(1/146)
حدثنا عبد الواحد عن عمرو بن يحيى عن أبيه،
عَن أبي سعيد قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
موسى في حديثه فيما يحسب عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: الأرض كلها مسجد إلاّ الحمام والمقبرة.
قلت في هذا الحديث أيضاً اختصار وتفسيره في حديث أنس وجعلت
لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا يريد بالطيبة الطاهرة. رواه
حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس ولم يذكره أيضاً أبو داود
حدثونا به عن علي بن عبد العزيز عن حجاج بن منهال عن حماد.
واختلف العلماء في تأويل هذا الحديث فكان الشافعي يقول إذا
كانت المقبرة مختلطة التراب بلحوم الموتى وصديدها وما يخرج
منهم لم تجز الصلاة فيها للنجلسة فإن صلى رجل في مكان طاهر
منها أجزأته صلاته. قال وكذلك الحمام إذا صلى في موضع نظيف
منه فلا إعادة عليه.
وحكي عن الحسن البصري أنه صلى في المقابر، وعن مالك بن أنس
لا بأس بالصلاة في المقابر. وقال أبو ثور لا يصلي في حمام
ولا مقبرة تعلقا بظاهره وكان أحمد وإسحاق يكرهان ذلك ورويت
الكراهية فيه عن جماعة من السلف.
واحتج بعض من لم يجز الصلاة في المقبرة وإن كانت طاهرة
التربة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلوا في بيوتكم
ولا تتخذوها مقابر. قال فدل ذلك على أن المقبرة ليست بمحل
الصلاة.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود حدثنا ابن وهب حدثني
ابن لَهِيعة ويحيى بن زاهر عن عمار بن سعد المرادي، عَن
أبي صالح الغفاري عن علي
(1/147)
رضي الله عنه قال نهاني رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي في أرض بابل
فإنها ملعونة.
قلت في إسناد هذا الحديث مقال ولا أعلم أحدا من العلماء
حرم الصلاة في أرض بابل، وقد عارضه ما هو أصح منه وهو قوله
صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ويشبه أن
يكون معناه لو ثبت أنه نهاه أن يتخذ أرض بابل وطنا ودارا
للإقامة فتكون صلاته فيها إذا كانت إقامته بها ومخرج النهي
فيه على الخصوص ألا تراه يقول نهاني ولعل ذلك منه إنذار
منه له بما أصابه من المحنة بالكوفة وهي أرض بابل ولم
ينتقل أحد من الخلفاء الراشدين قبله من المدينة.
ومن باب الصلاة في مبارك الإبل
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية
حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي عن عبد
الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال سئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارل الإبل، فقال: لا
تصلوا في مبارك الإبل فانها من الشياطين وسئل عن الصلاة في
مرابض الغنم فقال صلوا فيها فإنها بركة.
اختلف الناس في هذا فذهب إلى إباحة الصلاة في مرابض الغنم
ومنعها في مبارك الإبل وأعطانها جماعة منهم مالك بن أنس
وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وغيرهم. وكان
أحمد يقول لا بأس بالصلاة في موضع فيه أبوال الإبل ما لم
يكن معاطن لأن النهي إنما جاء في المعاطن ولم ير هؤلاء
بالصلاة في مراح البقر بأسا وكان الشافعي يقول إذا صلى
الرجل في أعطان الإبل في ناحية منها ليس فيها شيء من
أبوالها وأبعارها أجزأه وإن كنت أكره الصلاة في شيء منها
اختيارا. وكذلك حكم مرابض الغنم عنده لأنه لا فرق في مذهبه
بين
(1/148)
شيء من الأبوال والأبعار والأرواث في أنها
كلها نجسة، واستشهد لما تأول من ذلك بقوله فإنها من
الشياطين يريد أنها لما فيها من النفور والشرود ربما أفسدت
على المصلي صلاته والعرب تسمي كل مارد شيطانا كأنه يقول إن
المصلي إذا صلى بحضرتها كان مغررا بصلاته لما لا يومن من
نفارها وخبطها المصلي. وهذا المعنى مأمون في الغنم لسكونها
وضعف الحركة إذا هيجت.
وقال بعضهم معنى الحديث أنه كره الصلاة في السهول من الأرض
لأن الإبل إنما تأوي إليها وتعطن إليها، والغنم إنما تبوأُ
وتراح إلى الأرض الصلبة قال والمعنى في ذلك أن الأرض
الخوارة التي يكثر ترابها ربما كانت فيها النجاسة فلا يبين
موضعها فلا يأمن المصلي أن تكون صلاته فيها على نجاسة فأما
العزاز الصلب من الأرض فإنه ضاح بارز لا يخفي موضع النجاسة
إذا كانت فيه.
وزعم بعضهم أنه إنما أراد به المواضع التي يحط الناس
رحالهم فيها إذا نزلوا المنازل في الأسفار، قال ومن عادة
المسافرين أن يكون برازهم بالقرب من رحالهم فتوجد هذه
الأماكن في الأغلب نجسة فقيل لهم لا تصلوا فيها وتباعدوا
عنها.
ومن باب متى يؤمر الغلام
بالصلاة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا إبراهيم بن سعد عن
عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع
سنين وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها.
قلت قوله صلى الله عليه وسلم إذا بلغ عشر سنين فاضربوه
عليها يدل على إغلاظ العقوبة له إذا تركها متعمدا بعد
البلوغ ونقول إذا استحق الصبي الضرب وهو غير بالغ فقد عقل
أنه بعد البلوغ يستحق من العقوبة ما هو أشد من الضرب وليس
(1/149)
بعد الضرب شيء مما قاله العلماء أشد من
القتل.
وقد اختلف الناس في حكم تارك الصلاة فقال مالك والشافعي
يقتل تارك الصلاة، وقال مكحول يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وإليه ذهب حماد بن زيد ووكيع بن الجراح. وقال أبو حنيفة لا
يقتل ولكن يضرب ويحبس.
وعن الزهري أنه قال إنما هو فاسق يضرب ضربا مبرحا ويسجن.
وقال جماعة من العلماء تارك الصلاة حتى يخرج وقتها لغير
عذر كافر، هذا قول إبراهيم النخعي وأيوب وعبد الله بن
المبارك وأحمد وإسحاق.
وقال أحمد لا يكفر أحد بذنب إلاّ تارك الصلاة عمدا واحتجوا
بخبر جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بين العبد
والكفر إلاّ ترك الصلاة.
وقال بعض من احتج لهذه الطائفة أن الصلاة لا تشبه سائر
العبادات ولا يقاس إليها لأنها لم تزل مفتاح شرائع الأديان
وهي دين الملائكة والخلق أجمعين. ولم يكن لله تعالى دين قط
بغير صلاة، وليس كذلك الزكاة والصيام والحج فليس على
الملائكة منها شيء والصلاة تلزمهم كما يلزمهم التوحيد وهي
علم الإسلام الفاصل بين المسلم والكافر في كلام أكثر من
هذا قد ذكره.
ومن باب بدء الأذان
قال أبو داود: حدثنا عباد بن موسى الختلي وزياد بن أيوب
وحديث عباد أتم قالا: حَدَّثنا هشيم، عَن أبي بشر، عَن أبي
عميربن أنس عن عمومة له من الأنصار قال اهتم النبي صلى
الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها فقيل له انصب
رايه عند حضور الصلاة فإذا رأوها اذن بعضهم بعضا فلم يعجبه
ذلك. قال فذكر له القُنُع،
(1/150)
يَعني الشبُّور فلم يعجبه ذلك، وقال هو من
أمراليهود قال فذكر له الناقوس قال هو من أمرالنصارى
فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهم النبي صلى
الله عليه وسلم فأري الأذان في منامه قال فغدا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال يا رسول الله إني
لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم فانظر ما أمرك به عبد
الله بن زيد فافعله فأذن بلال.
قال الشيخ: القنع هكذا قاله ابن داسة وحدثناه ابن
الأعرابي، عَن أبي داود مرتين فقال مرة القنع بالنون ومرة
القبع مفتوحة بالباء وجاء تفسيره بالحديث أنه الشبور وهو
البوق وسألت عنه غير واحد من أهل اللغة فلم يثبتوه لي على
واحد من الوجهين فإن كانت الرواية في الفتح صحيحة فلا أراه
سمي الا لإقناع الصوت وهو رفعه، يقال أقنع الرجل صوته
وأقنع رأسه إذا رفعه.
وأما القبع بالباء فلا أحسبه سمي قبعا إلاّ لأنه يقبع
صاحبه أي يستره، ويقال قبع الرجل رأسه في جيبه إذا أدخله
فيه. وسمعت أبا عمر يقول هو القثع بالثاء المثلثة، يَعني
البوق ولم أسمع هذا الحرف من غيره. وفي قوله يا بلال قم
فانظر ما يأمرك به عبد الله فافعله دليل على أن الواجب أن
يكون الأذان قائماً.
ومن باب كيف الأذان
قال أبو داود: حدثنا محمد بن منصور الطوسي حدثنا يعقوب
حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثنا محمد بن إبراهيم بن
الحارث التيمي عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه
حدثنى أبي عبد الله بن زيد قال لما أمر رسول الله ص
بالناقوس يعمل ليضرب به الناس لجمع الصلاة طاف بي وأنا
نائم رجل يحمل ناقوسا في يده فقلت يا عبد الله اتبيع
الناقوس فقال وما تصنع به فقلت ندعو به إلى الصلاة
(1/151)
قال أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك فقلت
بلى فقال تقول: الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. الله
أكبر، أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن لا إله إلاّ الله
أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي
على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح. حي على الفلاح،
الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلاّ الله.
قال ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال تقول إذا أقمت الصلاة
الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن
محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت
الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلاّ
الله. فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأخبرته بما رأيت فقال: إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى
فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتا
منك فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به قال فسمع بذلك
عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه فقال يا رسول
الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل ما أري فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلله الحمد.
قلت روي هذا الحديث والقصة بأسانيد مختلفة وهذا الإسناد
أصحها.
وفيه أنه ثنى الأذان وأفرد الإقامة وهو مذهب أكثر علماء
الأمصار وجرى به العمل في الحرمين والحجاز وبلاد الشام
واليمن وديار مصر ونواحي المغرب إلى أقصى حجر من بلاد
الإسلام. وهو قول الحسن البصري ومكحول والزهري ومالك
والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
وغيرهم.
وكذلك حكاه سعد القَرَظ وقد كان أذن لرسول الله صلى الله
عليه وسلم في حياته بقبا، ثم استخلفه بلال زمان عمر رضي
الله عنه، فكان يفرد الإقامة ولم يزل ولد أبي محذورة وهم
الذين يلون الأذان بمكة يفردون الإقامة ويحكونه عن جدهم
إلاّ أنه قد روي
(1/152)
في قصة أذان أبي محذورة الذي علمه رسول
الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من حنين ان الأذان تسع
عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة،
وقد رواه أبو داود في هذا الباب، إلاّ أنه قد روي من غير
هذا الطريق أنه أفرد الإقامة غير أن التثنية عنه أشهر إلاّ
أن فيه إثبات الترجيع فيشبه أن يكون العمل من أبي محذورة
ومن ولده بعده إنما استمر على افراد الإقامة إمّا لأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمره بذلك بعد الأمرالأول
بالتثنية، وإما لأنه قد بلغه أنه أمر بلالا بإفراد الإقامة
فاتبعه وكان أمرالأذان ينقل من حال إلى حال ويدخله الزيادة
والنقصان، وليس كل أمور الشرع ينقلها رجل واحد ولا كان وقع
بيانها كلها ضربة واحدة وقيل لأحمد وكان يأخذ في هذا بأذان
بلال أليس أذان أبي محذورة بعد أذان بلال فإنما يؤخذ
بالأحدث فالأحدث من أمررسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
أليس لما عاد إلى المدينة أقر بلالا على أذانه.
وكان سفيان الثوري وأصحاب الرأي يرون الأذان والإقامة مثنى
مثنى على حديث عبد الله بن زيد من الوجه الذي روى فيه
تثنية الإقامة.
وقوله طاف بي رجل يريد الطيف وهو الخيال الذي يلم بالنائم
يقال منه طاف يطيف ومن الطواف يطوف ومن الإحاطة بالشيء
أطاف يطيف.
وفي قوله ألقها على بلال فإنه أندى صوتا منك دليل على أن
من كان أرفع صوتا كان أولى بالأذان لأن الأذان إعلام فكل
من كان الإعلام بصوته أوقع كان به أحق وأجدر. وقوله وثم
استأخر غير بعيد يدل على أن المستحب أن تكون الإقامة في
غير موقف الأذان.
(1/153)
ومن باب في الإقامة
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب عن أيوب،
عَن أبي قلابة عن أنس قال أُمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر
الإقامة وحدثنا حميد بن مسعدة حدثنا إسماعيل عن خالد
الحذاء، عَن أبي قلابة عن أنس مثل حديث وهيب قال إسماعيل
فحدثت به أيوب فقال إلا الإقامة.
قلت قوله (أمر بلال أن يوتر الإقامة) يريد أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم هو البذي أمره بذلك والأمر مضاف إليه
دون غيره لأن الأمرالمطق في الشريعة لا يضاف إلاّ إليه.
وقد زعم بعض أهل العلم أن الآمر له بذلك أبو بكر أو عمر
رضي الله عنهما وهذا تأويل فاسد لأن بلالا لحق بالشام بعد
موت رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف سعد القَرظ على
الأذان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله في رواية إسماعيل عن أيوب إلاّ الإقامة، يريد أنه كان
يفرد ألفاظ الإقامة كلها إلاّ قوله قد قامت الصلاة فإنه
كان يكرر مرتين وعلى هذا مذهب عامة الناس في عامة البلدان
إلاّ في قول مالك فإنه كان يرى أن لا يقال ذلك إلاّ مرة
واحدة، وهكذا يروى في أذان سعد القرظ. وقد اختلفت الروايات
عنه في ذلك أيضاً، وفي هذ الباب سنة أخرى وهي أن المؤذن
يقعد قعدة بين الأذان والإقامة. وقد ذكره أبو داود في حديث
ابن أبي ليلى في قصة الصلاة وأنها أحيلت ثلاثة أحوال، قال
وحدثنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقد
هممت أن آمر رجالا يقومون على الآطام ينادون الناس بحين
الصلاة وذكر قصة رؤيا عبد الله بن زيد إلى أن قال رأيت
رجلا عليه ثوبان أخضران فقام فأذن ثم قعد قعدة ثم قام
الحديث. الآطام جمع الأطم وهي كالحصن المبني بالحجارة.
(1/154)
ومن باب رفع الصوت
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمَري حدثنا شعبة عن
موسى بن أبي عثمان، عَن أبي يحيى، عَن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال المؤذن يغفر له مدى صوته ويشهد له
كل رطب ويابس.
قلت مدى الشيء غايته والمعنى أنه يستكمل مغفرة الله إذا
استوفى وسعه في رفع الصوت فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ
الغاية من الصوت.
وقيل فيه وجه آخر وهو أنه كلام تمثيل وتشبيه يريد أن
المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو تقدر أن يكون ما بين
أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه ذنوب تملأ تلك المسافة
لغفرها الله له.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عَن أبي الزناد عن
الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع
التأذين فإذا قضي النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر
حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه.
التثويب هنا الإقامة والعامة لا تعرف التثويب إلاّ قول
المؤذن في صلاة الفجر الصلاة خير من النوم. ومعنى التثويب
الإعلام بالشيء والإنذار بوقوعه. وأصله أن يلوح الرجل
لصاحبه بثوبه فيديره عند الأمريرهقه من خوف أو عدو، ثم كثر
استعماله في كل اعلام يجهر به صوت، وإنما سميت الإقامة
تثويبا لأنها إعلام بإقامة الصلاة والأذان إعلام بوقت
الصلاة.
ومن باب ما يجب على المؤذن من
تعهد الوقت
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن فُضيل
حدثنا الأعمش
(1/155)
عن رجل، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإمام ضامن والمؤذن
مؤتمن اللهم ارشد الأئمة واغفر للمؤذنين.
قوله الإمام ضامن قال أهل اللغة الضامن في كلام العرب
معناه الراعي والضمان معناه الرعاية قال الشاعر:
رعاكِ ضمان الله يا أم مالك ... ولله أن يشقيك أغنى وأوسع
والإمام ضامن بمعنى أنه يحفظ الصلاة وعدد الركعات على
القوم، وقيل معناه ضامن الدعاء يعمهم به ولا يختص بذلك
دونهم، وليس الضمان الذي يوجب الغرامة من هذا في شيء، وقد
تأوله قوم على معنى أنه يتحمل القراءة عنهم في بعض الأحوال
وكذلك يتحمل القيام أيضاً إذا أدركه راكعا.
ومن باب أخذ الأجر على الأذان
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا
سعيد الجريري، عَن أبي العلى عن مطرف عن عبد الله عن عثمان
بن أبي العاص أنه قال يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال:
أنت إمامهم واقتدِ بأضعفهم واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه
أجراً.
قلت أخذ المؤذن الأجر على أذانه مكروه في مذاهب أكثر
العلماء وكان مالك بن أنس يقول لا بأس به ويرخص فيه وقال
الأوزاعي الإجارة مكروهة ولا بأس بالجعل وكره ذلك أصحاب
الرأي ومنع منه إسحاق بن راهويه.
وقال الحسن أخشى أن لا تكون صلاته خالصة لله وكرهه الشافعي
وقال لا يرزق الإمام المؤذن إلاّ من خمس الخمس سهم النبي
صلى الله عليه وسلم فإنه مرصد لمصالح الدين ولا يرزقه من
غيره.
(1/156)
ومن باب الأذان قبل
دخول الوقت
قال أبو داود: نا موسى بن إسماعيل وداود بن شبيب المعنى
قالا: حَدَّثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن بلالا
أذن قبل طلوع الفجر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يرجع فينادي الا ان العبد قد نام قال أبو داود لم يرو هذا
الحديث عن أيوب إلاّ حماد بن سلمة.
قوله الا ان العبد نام يتأول على وجهين أحدهما أن يكون
أراد به أنه غفل عن الوقت كما يقال نام فلان عن حاجتي إذا
غفل عنها ولم يقم بها. الوجه الآخر أن يكون معناه أنه قد
عاد لنومه إذا كان عليه بقية من الليل يعلم الناس ذلك لئلا
ينزعجوا عن نومهم وسكونهم، ويشبه أن يكون هذا فيما تقدم من
أول زمان الهجرة فإن الثابت عن بلال أنه كان في آخر أيام
رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن بليل ثم يؤذن بعده ابن
أم مكتوم مع الفجر. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم.
وممن ذهب إلى تقديم أذان الفجر قبل دخول وقته مالك
والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق. وكان أبو يوسف يقول:
بقول أبي حنيفة في أن ذلك لا يجوز ثم رجع فقال لا بأس أن
يؤذن للفجر خاصة قبل طلوع الفجر اتباعا للأثر. وكان أبو
حنيفة ومحمد لا يجيزان ذاك قياسا على سائر الصلوات وإليه
ذهب سفيان الثوري.
وذهب بعض أصحاب الحديث إلى أن ذلك جائز إذا كان للمسجد
مؤذنان كما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأما إذا لم
يؤذن فيه إلاّ واحد فإنه لا يجوز أن يفعله إلاّ بعد دخول
الوقت، فيحتمل على هذا أنه لم يكن لمسجد رسول الله صلى
الله عليه وسلم
(1/157)
في الوقت الذي نهى فيه بلالا إلاّ مؤذن
واحد وهو بلال ثم أجازه حين أقام ابن أم مكتوم مؤذنا لأن
الحديث في تأذين بلال قبل الفجر ثابت من رواية ابن عمر.
ومن باب تقام الصلاة ولم يأت
الإمام
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن علي السدوسي حدثنا عون بن
كهمس عن أبيه كهمس قال قمنا بمنى إلى الصلاة والإمام لم
يخرج فقعد بعضنا فقال لي شيخ من أهل الكوفة ما يقعدك قلت
ابن بريدة قال هذا السَمودُ فقال الشيخ حدثنا عبد الرحمن
بن عَوسجة عن البراء بن عازب قال كنا نقوم في الصفوف عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا قبل أن يكبر وذكر
الحديث.
قلت: السمود يفسَّر على وجهين أحدهما أن يكون بمعنى الغفلة
والذهاب عن الشيء يقال رجل سامد هامد أي لاه غافل. ومن هذا
قول الله تعالى {وأنتم سامدون} [النجم: 61] أي لاهون
ساهون، وقد يكون السامد أيضاً الرافع رأسه.
قال أبوعبيد ويقال منه سَمَدَ يَسمِدُ ويسمد سمودا وروي عن
علي أنه خرج والناس ينتظرونه قياما للصلاة فقال ما لي
أراكم سامدين.
وحكي عن إبراهيم النخعي أنه قال كانوا يكرهون أن ينتظروا
الإمام قياما ولكن قعوداً ويقولون: ذلك السَّمود.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز
بن صهيب عن أنس قال أقيمت الصلاة ورسول الله صلى الله عليه
وسلم نجيّ في جانب المسجد فما قام إلى الصلاة حتى نام
القوم.
قوله نجي أى مناج رجلا كما قالوا نديم بمعنى منادم ووزير
بمعنى موازر، وتناجى القوم إذا دخلوا قى حديث سر وهم نجوى
أى متناجون.
(1/158)
وفيه من الفقه أنه قد يجوز له تأخير الصلاة
عن أول وقتها لأمر يحزبه.
ويشبه أن يكون نجواه في مهم من أمرالدين لا يجوز تأخيره
وإلا لم يكن ليؤخر الصلاة حتى ينام القوم لطول الانتظار له
والله أعلم.
ومن باب التشديد في ترك
الجماعة
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عباد حدثنا وكيع عن المسعودي
عن علي بن الأقمر، عَن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود
قال حافظوا على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن فإنهن
من سنن الهدى وإن الله تعالى شرع لنبيه صلى الله عليه وسلم
سنن الهدى ولقد رأيتنا وإن الرجل ليهادى بين رجلين حتى
يقام في الصف وما منكم من أحد إلاّ وله مسجد في بيته
ولوصليتم في بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنة نبيكم ولو
تركتم سنة نبيكم لكفرتم.
قوله ليهادى بين رجلين أي يرفد من جانبيه ويؤخذ بعضديه
يتمشى به إلى المسجد. وقوله لكفرتم أي يؤديكم إلى الكفر
بأن تتركوا شيئا منها حتى تخرجوا من الملة.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن عاصم بن
بهدلة، عَن أبي رزين عن ابن أم مكتوم أنه سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني رجل ضرير البصر
شاسع الدار ولي قائد لا يلاومني فهل من رخصة أن أصلي في
بيتي قال فهل تسمع النداء؟ قال نعم. قال: لا أجد لك رخصة.
قوله لا يلاومني هكذا يروى في الحديث والصواب لا يلايمني
أي لا يوافقني ولا يساعدني، فأما الملاومة فإنها مفاعلة من
اللوم وليس هذا موضعه.
(1/159)
وفي هذا دليل على أن حضور الجماعة واجب ولو
كان ذلك ندبا لكان أولى من يسعه التخلف عنها أهل الضرر
والضعف ومن كان في مثل حال ابن أم مكتوم.
وكان عطاء بن أبي رباح يقول ليس لأحد من خلق الله في الحضر
والقرية رخصة إذا سمع النداء في أن يدع الصلاة. وقال
الأوزاعي لا طاعة للوالدين في ترك الجمعة والجماعات سمع
للنداء أو لم يسمع. وكان أبو ثور يوجب حضور الجماعة، واحتج
هو أو غيره ممن أوجبه بأن الله سبحانه أمرأن يصلى جماعة في
حال الخوف ولم يعذر في تركها فعقل أنها في حال المن أوجب.
وأكثر أصحاب الشافعي على أن الجماعة فرض على الكفاية لا
على الأعيان وتأولوا حديث ابن أم مكتوم على أنه لا رخصة لك
إن طلبت فضيلة الجماعة وأنك لا تحرز أجرها مع التخلف عنها
بحال.
واحتجنوا بقوله صلى الله عليه وسلم صلاة الجماعة تفضل صلاة
الفذ بسبع وعنشرين درجة.
قال أبو داود: حدثنا هارون بن زيد، عَن أبي الزرقاء حدثنا
أبي حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن عابس عن عبد الرحمن بن
أبي ليلى عن ابن أم مكتوم. قال يا رسول الله إن المدينة
كثيرة الهوام والسباع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تسمع
حي على الصلاة حي على الفلاح فحي هلا.
قوله حي هلا كلمة حث واستعجال قال لبيد (ولقد تسمع صوتي
حيّ هل) .
ومن باب المشي إلى الصلاة
قال أبو داود: حدثنا أبو توبة حدثنا الهيثم بن حميد عن
يحيى عن الحارث عن القاسم أبي عبد الرحمن، عَن أبي أمامة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من خرج من بيته
متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم ومن خرج
(1/160)
إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلاّ إياه فأجره
كأجر المعتمر وصلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في
عليين.
تسبيح الضحى يريد به صلاة الضحى وكل صلاة يتطوع بها فهي
تسبيح وسبحة. وقوله لا ينصبه معناه لا يتعبه ولا يزعجه
إلاّ ذلك وأصله من النصب وهو معاناة المشقة يقال أنصبني
هذا الأمر وهو أمر منصب ويقال أمر ناصب أي ذو نصب كقول
النابغة: (كليني لِهَمًّ ما أميمة ناصبِ) .
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عَن
أبي صالح، عَن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء وأتى المسجد لا يريد
إلاّ الصلاة لا ينهزه إلاّ الصلاة لم يخط خطوة إلاّ رفع له
بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد.
قوله لا ينهزه أي لا يبعثه ولا يشخصه إلاّ ذلك، ومن هذا
انتهاز الفرصة وهو الانبعاث لها والمبادرة إليها.
ومن باب الهدي في المشي إلى
المساجد
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري أن عبد الملك
بن عمر حدثهم عن داود بن قيس حدثني سعد بن إسحاق حدثنا أبو
ثمامة الخياط أن كعب بن عجرة أدركه وهو يريد المسجد أدرك
أحدهما صاحبه قال فوجدني وأنا مشبك يدي فنهاني عن ذلك وقال
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا توضأ أحدكم
فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن يده فإنه
في صلاة.
(1/161)
قلت تشبيك اليد هو إدخال الأصابع بعضها في
بعض والاشتباك بها. وقد يفعله بعض الناس عبثا وبعضهم
ليفرقع أصابعه عندما يجده من التمدد فيها، وربمل قعد
الإنسان فشبك بين أصابعه واحتبى بيديه يريد به الاستراحة
وربما استجلب به النوم فيكون ذلك سببا لانتقاض طهره فقيل
لمن تطهر وخرج متوجها إلى الصلاة لا تبشك بين أصابعك لأن
جميع ما ذكرناه من هذه الوجوه على اختلافها لا يلائم شيء
منها الصلاة ولا يشاكل حال المصلي.
ومن باب خروج النساء إلى
المسجد
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد
بن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله
وليخرجن وهن تفلات.
التفل سوء الرائحة يقال امرأة تفلة إذا لم تطيب ونساء
تفلات، وقد استدل بعض أهل العلم بعموم قوله لا تمنعوا إماء
الله مساجد الله، على أنه ليس للزوج منع زوجته من الحج لأن
المسجد الحرام الذي يخرج إليه الناس للحج والطواف أشهر
المساجد وأعظمها حرمة فلا يجوز للزوج أن يمنعها من الخروج
إليه.
ومن باب السعي إلى الصلاة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة أخبرني يونس
عن ابن شهاب حدثنا ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن
أبا هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم
السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. قال أبو داود
وكذا قال الزبيدي وابن أبي ذئب وإبراهيم بن سعد ومعمر
وشعيب بن أبي حمزة
(1/162)
عن الزهري وما فاتكم فأتموا وكذلك روى ابن
مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو قتادة وأنس كلهم
قال فأتموا.
قلت في قوله فأتموا دليل أن الذي أدركه المرء من صلاة
إمامه هو أول صلاته لأن لفظ الاتمام واقع على باق من شيء
قد تقدم سائره. وإلى هذا ذهب الشافعي في أن ما أدركه
المسبوق من صلاة إمامة هو أول صلاته. وقد روي ذلك عن علي
بن أبي طالب، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصري ومكحول
وعطاء والزهري والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وقال سفيان
الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل هو آخر صلاته وإليه ذهب
أحمد بن حنبل.
وقد روي ذلك عن مجاهد وابن سيرين واحتجوا بما روي في هذا
الحديث من قوله وما فاتكم فاقضوا قالوا والقضاء لا يكون
إلاّ للفائت.
قلت قد ذكر أبو داود في هذا الباب أن أكثر الرواة اجتمعوا
على قوله وما فاتكم فأتموا، وإنما ذكر عن شعبة عن سعد بن
إبراهيم، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال صلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقكم. قال وكذا
قال ابن سيرين، عَن أبي هريرة وكذا قال أبو رافع عن أبى
هريرة.
قلت وقد يكون القضاء بمعنى الاداء للأصل كقوله تعالى {فإذا
قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} [الجمعة: 10] وكقوله {فإذا
قضيتم مناسككم} [البقرة: 200] وليس شيء من هذا قضاء لفائت
فيحتمل أن يكون قوله وما فاتكم فاقضوا أي أدوه في تمام
جمعا بين قوله فأتموا وبين قوله فاقضوا ونفيا للاختلاف
بينهما.
ومن باب يصلي معهم إذا كان في
المسجد
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة أخبرني يعلى عن
عطاء
(1/163)
عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه أنه صلى
مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام شاب فلما أن صلى إذا
رجلان لم يصليا في ناحية المسجد فدعا بهما فجيء بهما ترعد
فرائصهما فقال ما منعكما أن تصليا معنا قالا قد صلينا في
رحالنا قال فلا تفعلوا إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك
الإمام. لم يصل فليصل معه فإنها نافلة.
قوله ترعد فرائصهما هي جمع الفريصة وهي لحمة وسط الجنب عند
منبض القلب تفترص عند الفزع أي ترتعد. وفى الحديث من الفقه
أن من صلى في رحله ثم صادف جماعة يصلون كان عليه أن يصلي
معهم أي صلاة كانت من الصلوات الخمس، وهو مذهب الشافعي
وأحمد وإسحاق وبه قال الحسن والزهرى.
وقال قوم يعيد إلاّ المغرب والصبح، كذلك قال النخعي وحكي
ذلك عن الأوزاعي. وكان مالك والثوري يكرهان أن يعيد صلاة
المغرب وكان أبو حنيفة لا يرى أن يعيد صلاة العصر والمغرب
والفجر إذا كان قد صلاهن.
قلت وظاهر الحديث حجة على جماعة من منع عن شيء من الصلوات
كلها ألا تراه يقول إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام
ولم يصل فليصل معه ولم يستثن صلاة دون صلاة.
وقال أبو ثور لا يعاد الفجر والعصر إلاّ أن يكون في المسجد
وتقام الصلاة فلا يخرج حتى يصليها.
وقوله فإنها نافلة يريد الصلاة الآخرة منهما والأولى فرضه.
فأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد الصبح حتى
تطلع الشمس وبعد العصرحتى تغرب فقد تأولوه على وجهين
أحدهما أن ذلك على معنى إنشاء الصلاة ابتداء من غير سبب.
(1/164)
فأما إذا كان لها سبب مثل أن يصادف قوما
يصلون جماعة فإنه يعيدها معهم ليحرز الفضيلة.
والوجه الآخر أنه منسوخ وذلك أن حديث يزيد بن جابر متأخر
لأن في قصته أنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة
الوداع، ثم ذكر الحديث.
وفي قوله فإنها نافلة دليل على أن صلاة التطوع جائزة بعد
الفجر قبل طلوع الشمس إذا كان لها سبب.
وفيه دليل على أن صلاته منفردا مجزية مع القدرة على صلاة
الجماعة وإن كان ترك الجماعة مكروها.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح قال قرأت على ابن وهب
أخبرني عمروعن بكير أنه سمع عفيف بن عمرو بن المسيب يقول
حدثني رجل من أسد بن خزيمة أنه سأل أبا أيوب الأنصاري. قال
يصلي أحدنا في منزله الصلاة ثم يأتي المسجد وتقام الصلاة
فأصلي معهم فقال أبو أيوب سألنا عن ذلك النبي صلى الله
عليه وسلم فقال ذلك له سهم جمع.
قوله سهم جمع يريد أنه سهم من الخير جمع له فيه حظان. وفيه
وجه آخر قال الأخفش سهم جمع يريد سهم الجيش وسهم الجيش
هوالسهم من الغنيمة قال والجمع ههنا الجيش واستدل بقوله
تعالى {يوم التقى الجمعان} [آل عمران: 166] وبقوله {سيهزم
الجمع} [القمر: 45] وبقوله {فلما تراءى الجمعان} [الشعراء:
61] .
ومن باب إذا صلى ثم أدرك
جماعة هل يعيد الصلاة
قال أبو داود: حدثنا أبو كامل حدثنا يزيد بن زُريع حدثنا
حسين عن عمرو بن شعيب عن سليمان بن يسار عن ابن عمر قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(1/165)
لا تصلوا صلاة في يوم مرتين.
قلت هذه صلاة الإيثار والاختيار دون ما كان لها سبب كالرجل
يدرك الجماعة وهم يصلون فيصلي معهم ليدرك فضيلة الجماعة
توفيقا بين الاخبار ورفعا للاختلاف بينهما.
ومن باب من أحق بالإمامة
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة أخبرني إسماعيل
بن رجاء سمعت أوس بن ضَمْعج يحدث، عَن أبي مسعود البدري
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤم القومَ اقرؤهم
لكتاب الله وأقدمهم قراءة فإن كانوا في القراءة سواء
فليؤمهم أقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم
أكبرهم سناً ولا يؤم الرجل في بيته ولا في سلطانه ولا يجلس
على تكرمته إلاّ بإذنة. قال شعبة فقلت لإسماعيل ما تكرمته
فقال فراشه. قال أبو داود وكذلك قال يحيى القطان عن شعبة
وأقدمهم قراءة.
قلت هذه الرواية مخرجة من طريق شعبة على ما ذكره أبو داود.
والصحيح من هذا رواية سفيان عن إسماعيل بن رجاء حدثناه
أحمد بن إبراهيم بن مالك حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي
حدثنا سفيان عن إسماعيل بن رجاء عن أوس بن ضمعج عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن
كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة. فإن كانوا سواء
فأقدمهم هجرة. وإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا.
قلت وهذا هو الصحيح المستقيم في الترتيب وذلك أنه جعل صلى
الله عليه وسلم ملاك أمرالإمامة القراءة وجعلها مقدمة على
سائر الخِصال المذكورة معها. والمعنى في ذلك أنهم
(1/166)
كانوا قوما أُميين لا يقرؤون فمن يعلم منهم
شيئا من القرآن كان أحق بالإمامة ممن لم يتعلم لأنه لا
صلاة إلاّ بقراءة وإذا كانت القراءة من ضرورة الصلاة وكانت
ركناً من أركانها صارت مقدمة في الترتيب على الأشياء
الخارجة عنها. ثم تلا القراءة بالسنة وهي الفقه ومعرفة
أحكام الصلاة وما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها
وبينه من أمرها فإن الإمام إذا كان جاهلا بأحكام الصلاة
وبما يعرض فيها من سهو ويقع من زيادة ونقصان أفسدها أو
أخرجها فكان العالم بها والفقيه فيها مقدَّما على من لم
يجمع علمها ولم يعرف أحكامها. ومعرفة السنة وإن كانت مؤخرة
في الذكر وكانت القراءة مبدوءاً بذكرها فإن الفقيه العالم
بالسنة إذا كان يقرأ من القرآن ما يجوز به الصلاة أحق
بالإمامة من الماهر بالقراءة إذا كان متخلفاً عن درجته في
علم الفقه ومعرفة السنة.
وإنما قدم القارىء في الذكر لأن عامة الصحابة إذا اعتبرت
أحوالهم وجدت أقرأهم أفقههم. وقال أبو مسعود كان أحدنا إذا
حفظ سورة من القرآن لم يخرج عنها إلى غيرها حتى يحكم علمها
أو يعرف حلالها وحرامها أو كما قال. فأما غيرهم ممن تأخر
بهم الزمان فإن أكثرهم يقرأون القرآن ولا يفقهون فقراؤهم
كثير والفقهاء منهم قليل.
وأما قوله فإن استووا في السنة فأقدمهم هجرة فإن الهجرة قد
انقطعت اليوم إلاّ أن فضيلتها موروثة فمن كان من أولاد
المهاجرين أو كان في آبائه وأسلافه من له قدم أو سابقة في
الإسلام أو كان آباؤه أقدم إسلاما فهو مقدم على من لا يعد
لآبائه سابقة أو كانوا قريبي العهد بالإسلام فإذا كانوا
متساوين في هذه الخلال الثلاث فأكبرهم سناً مقدم على من هو
أصغر سنا منه لفضيلة السن.
(1/167)
ولأنه إذا تقدم أصحابه في السن فقد تقدمهم
في الإسلام فصار بمنزلة من تقدمت هجرته، وعلى هذا الترتيب
يوجد أقاويل أكثر العلماء في هذا الباب. قال عطاء بن أبي
رباح يؤمهم أفقههم فإن كانوا في الفقه سواء فأقرأهم فإن
كانوا في الفقه والقراءة سواء فأسنهم. وقال مالك يتقدم
القوم أعلمهم فقيل له أقرأهم قال قد يقرأ من لا يرضى، وقال
الأوزاعي يؤمهم أفقههم.
وقال الشافعي إذا لم تجتمع القراءة والفقه والسن في واحد
قدموا أفقههم إذا كان يقرأ من القرآن ما يكتفي به في
الصلاة وإن قدموا أقرأهم إذا كان يعلم من الفقه ما يلزمه
في الصلاة فحسن.
وقال أبو ثور يؤمهم أفقههم إذا كان يقرأ القرآن وإن لم
يقرأه كله. وكان سفيان وأحمد بن حنبل وإسحاق يقدمون القراء
قولا بظاهر الحديث.
وأما قوله ولا يؤم الرجل في بيته معناه أن صاحب المنزل
أولى بالإمامة في بيته إذا كان من القراءة والعلم بمحل
يمكنه أن يقيم الصلاة. وقد روى مالك بن الحويرث عن النبي
صلى الله عليه وسلم من زار قوماً فلا يؤمهم وليؤمهم رجل
منهم.
وقوله ولا في سلطانه فهذا في الجمعات والأعياد لتعلق هذه
الأمور بالسلاطين فأما في الصلوات المكتوبات فأعلمهم
أولاهم بالإمامة فإن جمع السلطان هذه الفضائل كلها فهو
أولاهم بالإمامة في كل صلاة.
وكان أحمد بن حنبل يرى الصلاة خلف أئمة الجور ولا يراها
خلف أهل البدع.
وقد يتأول أيضاً قوله ولا في سلطانه على معنى ما يتسلط
عليه الرجل من ملكه في بيته أو يكون إمام مسجده في قومه
وقبيلته. وتكرمته فراشه وسريره وما يعد لإكرامه من وطاء
ونحوه.
(1/168)
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا
حماد حدثنا أيوب عن عمرو بن سلمة قال كنا بحاضر يمر بنا
الناس إذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا
مروا بنا فأخبرونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
كذا وقال كذا وكنت غلاما حافظا فحفظت من ذلك قرآنا كثيرا
فانطلق أبي وافدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من
قومه فعلمهم الصلاة وقال يؤمكم أقرؤكم. فكنت أؤمهم وأنا
ابن سبع سنين أو ثمان سنين.
قوله كنا بحاضر. الحاضر القوم النزول على ما يقيمون به ولا
يرحلون عنه. ومعنى الحاضر المحضور فاعل بمعنى مفعول.
وقد اختلف الناس في إمامة الصبي غير البالغ إذا عقل
الصلاة. فممن أجاز ذلك الحسن وإسحاق بن راهويه.
وقال الشافعي يؤم الصبي غير المحتلم إذا عقل الصلاة إلاّ
في الجمعة.
وكره الصلاة خلف الغلام قبل أن يحتلم عطاء والشعبي ومالك
والثوري والأوزاعي. وإليه ذهب أصحاب الرأي. وكان أحمد بن
حنبل يضعف أمرعمرو بن سلمة. وقال مرة دعه ليس بشيء بين.
وقال الزهري إذا اضطروا إليه أمهم.
قلت: وفي جواز صلاة عمرو بن سلمة لقومه دليل على جواز صلاة
المفترض خلف المتنفل لأن صلاه الصبي نافلة.
ومن باب الرجل يؤم القوم وهم
له كارهون
قال أبو داود: حدثنا القعنبي حدثنا عبد الله بن عمر بن
غانم عن عبد الرحمن بن زياد عن عمران بن عبد المعافري عن
عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1/169)
كان يقول: ثلاثةٌ لا تقبل منهم صلاة من
تقدم قوما وهم له كارهون. ورجلٌ أتى الصلاة دِبارا والدبار
أن يأتيها بعد أن تفوته ورجل اعتبد محرره.
قلت يشبه أن يكون هذا الوعيد في الرجل ليس من أهل الإمامة
فيتقحم فيها ويتغلب عليها حتى يكره الناس إمامته. فأما إن
كان مستحقا للإمامة فاللوم على من كرهه دونه. وشكي رجل إلى
علي بن أبي طالب وكان يصلي بقوم وهم له كارهون فقال إنك
لخروط يريد أنك متعسف في فعلك ولم يزده على ذلك. وقوله
وأتى الصلاة دبارا فهو أن يكون قد اتخذه عادة حتى يكون
حضوره الصلاة بعد فراغ الناس وانصرافهم عنها.
واعتباد المحرر يكون من وجهين أحدهما أن يعتقه ثم يكتم
عتقه أو ينكره وهو شر الأمرين. والوجه الآخر أن يستخدمه
كرها بعد العتق.
ومن باب إمامة من صلى بقوم
وقد صلى تلك الصلاة
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا يحيى
بن سعيد عن محمد بن عجلان حدثنا عبيد الله بن مقسم عن جابر
بن عبد الله أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم العشاء ثم يأتي قومه فيصلي بهم تلك الصلاة.
قلت: فيه من الفقه جواز صلاة المفترض خلف المتنفل لأن صلاة
معاذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الفريضة وإذا كان
قد صلى فرضه كانت صلاته بقومه نافلة له.
وفيه دليل على جواز إعادة صلاة في يوم مرتين إذا كان
للإعادة سبب من الأسباب التي تعاد لها الصلوات.
واختلف الناس في جواز صلاة المفترض خلف المتنفل. فقال مالك
إذا اختلفت نية الإمام والمأموم في شيء من الصلاة لم يعتد
المأموم بما صلى معه واستأنف
(1/170)
وكذلك قال الزهري وربيعة. وقال أصحاب الرأي
إن كان الإمام متطوعا لم يجزىء من خلفه الفريضة. وإن كان
الإمام مفترضا وكان من خلفه متطوعا كانت صلاتهم جائزة
وجوزوا صلاة المقيم خلف المسافر. وفرض المسافر عندهم
ركعتان.
وقال الشافعي والأوزاعي وأحمد بن حنبل صلاة المفترض خلف
المتنفل جائزة وهو قول عطاء وطاوس. وقد زعم بعض من لم ير
ذلك جائزاً أن صلاة معاذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
نافلة وبقومه فريضة وهذا فاسد إذ لا يجوز على معاذ أن يدرك
الفرض وهوأفضل العمل مع أفضل الخلق فيتركه ويضيع حظه منه
ويقنع من ذلك
بالنفل الذي لا طائل فيه. ويدل على فساد هذا التأويل قول
الراوي كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء
والعشاء هي صلاة الفريضة وقد قال صلى الله عليه وسلم إذا
أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة فلم يكن معاذ يترك
المكتوبة بعد أن شهدها وقد أقيمت وقد أثنى عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالفقه فقال أفقهكم معاذ.
ومن باب الإمام يصلي من قعود
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أنس
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسا فصرع عنه فجُحِش
شقهُ الأيمن فصلى صلاة من الصلوات وهوقاعد وصلينا وراءه
قعوداً فلما انصرف قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى
قائماً فصلوا قياما وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا
وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد وإذا صلى
جالسا فصلوا جلوسا أجمعين.
قلت وذكر أبو داود هذا الحديث من رواية جابر وأبي هريرة
وعائشة ولم
(1/171)
يذكر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
آخر ما صلاها بالناس وهو قاعد والناس خلفه قيام وهذا آخر
الأمرين من فعله صلى الله عليه وسلم.
ومن عادة أبي داود فيما أنشأه من أبواب هذا الكتاب أن يذكر
الحديث في بابه ويذكر الذي يعارضه في باب آخر على أثره ولم
أجده في شيء من النسخ فلست أدري كيف أغفل ذكر هذه القصة
وهي من أمهات السنن وإليه ذهب أكثر الفقهاء ونحن نذكره
لتحصل فائدتة وتحفظ على الكتاب رسمه وعادته.
حدثنا محمد بن الحسن بن سعيد الزعفراني حدثنا يحيى بن أبي
طالب حدثنا علي بن عاصم أخبرني يحيى بن سعيد عن عبد الله
بن أبي مليكة عن عائشة قالت ثقل رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة الإثنين فلما ناداه بلال صلاة الغداة قال قولوا
له فليقل لأبي بكر فليصل بالناس قال فرجع إلى أبي بكر فقال
له ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس
فتقدم أبو بكر فصلى بالناس وكان أبو بكر إذا صلى لا يرفع
رأسه ولا يلتفت فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة
فخرج يهادي بين رجلين أسامة ورجل آخر فلما رآه الناس تفرجت
الصفوف لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم أبو بكر أنه لا
يتقدمُ ذلك المتقدم أحد فدفعه رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأقامه في مقامه وجعله عن يمينه وقعد رسول الله صلى
الله عليه وسلم فكبر بالناس فجعل أبو بكر يكبر بتكبيره
وجعل الناس يكبرون بتكبير أبي بكر.
قلت وفي إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر عن
يمينه وهومقام المأموم، وفي تكبيره بالناس وتكبير أبي بكر
بتكبيره بيان واضح أن الإمام في هذه الصلاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقد صلى قاعداً والناس من خلفه وهي آخر
صلاة صلاها
(1/172)
بالناس فدل أن حديث أنس وجابر منسوخ. ويزيد
ما قلناه وضوحا ما رواه أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم
عن الأسود عن عائشة قالت لما ثقل رسول الله صلى الله عليه
وسلم وذكر الحديث قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى جلس على يسار أبى بكر وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يصلي بالناس جالسا وأبو بكر قائماً يقتدي به والناس
يقتدون بأبي بكر. حدثونا به عن يحيى بن محمد بن يحيى حدثنا
مسدد حدثنا أبومعاوية. والقياس يشهد لهذا القول لأن الإمام
لا يسقط عن القوم شيئا من أركان الصلاة مع القدرة عليه ألا
ترى أنه لا يحيل الركوع والسجود إلى الإيماء فكذلك لا يحيل
القيام إلى القعود. وإلى هذا ذهب سفيان الثوري وأصحاب
الرأي والشافعي وأبو ثور. وقال مالك لا ينبغي لأحد أن يؤم
بالناس قاعداً وذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ونفر من
أهل الحديث إلى خبر أنس وأن الإمام إذا صلى قاعداً صلى من
خلفه قعودا.
وزعم بعض أهل الحديث أن الروايات اختلفت في هذا فروى
الأسود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إماما
وروى سفيان عنها أن الإمام أبو بكر فلم يجز أن يترك له
حديث أنس وجابر. ويشبه أن يكون أبو داود إنما ترك ذكره
لأجل هذه العلة.
وفي الحديث من الفقه أنه تجوز الصلاة بإمامين أحدهما بعد
الاخر من غير حدث يحدث بالإمام الأول.
وفيه دليل على جواز تقدم بعض صلاة المأموم صلاة الإمام.
وقوله فجحش شقه معناه أنه انسحج جلده والجحش كالخدش أو
أكثر من ذلك.
(1/173)
ومن باب في الرجلين
يؤم أحدهما صاحبه
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن عبد الملك بن أبي
سليمان عن عطاء عن ابن عباس. قال بت في بيت خالتي ميمونة
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطلق القِربة فتوضأ ثم
أوكى القربة ثم قام إلى الصلاة فقمت فتوضأت كما توضأ ثم
جئت فقمت عن يساره فأخذني بيمينه فأدارني وراءه فأقامني عن
يمينه فصليت معه.
قلت: فيه أنواع من الفقه منها أن الصلاة بالجماعة في
النوافل. ومنها أن الاثنين جماعة. ومنها أن المأموم يقوم
عن يمين الإمام إذا كانا اثنين. ومنها جواز العمل اليسير
في الصلاة ومنها جواز الإتمام بصلاة من لم ينو الإمامة
فيها.
ومن باب إذا كانوا ثلاثة كيف
يقومون
قال أبو داود: حدثني القعنبي أراه عن مالك عن إسحاق بن عبد
الله بن أبي طلحة عن أنس أن جدته مليكة دعت النبي صلى الله
عليه وسلم لطعام صنعته فأكل منه ثم قال قوموا فلأصلي لكم.
قال أنس فقمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبس فنضحته
بماء فقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا
واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى لنا ركعتين.
قلت: فيه من الفقه جواز صلاة الجماعة في التطوع وفيه جواز
صلاة المنفرد خلف الصف لأن المرأة قامت وحدها من ورائهما.
وفيه دليل على أن إمامة المرأة للرجال غير جائزة لأنها لما
زحمت عن مساواتهم في مقام الصف كانت من أن تتقدمهم أبعد.
وفيه دليل على وجوب ترتيب مواقف المأمومين وأن الأفضل
يتقدم على من دونه في الفضل. وكذلك قال صلى الله عليه وسلم
ليليني ذوو الأحلام والنهى. وعلى هذا
(1/174)
القياس إذا صلى على جماعة من الموتى فيهم
رجال ونساء وصبيان وخناثى فإن الأفضل منهم يكون الإمام
فيكون الرجل أقربهم منه ثم الصبي ثم الخنثى ثم المرأة فإن
دفنوا في قبر واحبد كان أفضلهم أقربهم إلى القبلة ثم يليه
الذي هو أفضل وتكون المرأة آخرهم إلاّ أنه يكون بينها وبين
الرجل حجاب من لبن ونحوه.
ومن باب الإمام يحدث بعدما
يرفع رأسه
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا عبد
الرحمن بن زياد بن أنعم عن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن
سوادة عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: إذا قضى الإمام الصلاة وقعد فأحدث قبل أن يتكلم
فقد تمت صلاته ومن كان خلفه ممن أتم الصلاة.
قلت هذا الحديث ضعيف وقد تكلم الناس في بعض نقلته وقد
عارضته الأحاديث التي فيها إيجاب التشهد والتسليم ولا أعلم
أحدا من الفقهاء قال بظاهره لأن أصحاب الرأي لا يرون أن
صلاته قد تمت بنفس القعود حتى يكون ذاك بقدر التشهد على ما
رووا عن ابن مسعود. ثم لم يقودوا قولهم في ذلك لأنهم قالوا
إذا طلعت عليه ااشمس أوكان متيمما فرأى الماء وقد قعد
مقدار التشهد قبل أن يسلم فقد فسدت صلاته. وقالوا فيمن
قهقه بعد الجلوس قدر التشهد أن ذاك لا يفسد صلاته ويتوضأ؛
ومن مذهبهم أن القهقهة لا تنقض الوضوء إلاّ أن تكون في
صلاة والأمر في اختلاف هذه الأقاويل ومخالفتها الحديث بين.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن
سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن
علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم.
(1/175)
قلت: في هذا الحديث بيان أن التسليم ركن
الصلاة كما أن التكبير ركن لها وأن التحليل منها إنما يكون
بالتسليم دون الحدث والكلام لأنه قد عرفه بالألف واللام
وعيَّنه كما عيَّن الطهور وعرفه فكان ذلك منصرفا إلى ما
جاءت به الشريعة من الطهارة المعروفة والتعريف بالألف
واللام مع الإضافة يوجب التخصيص كقولك فلان مبيته المساجد
تريد أنه لا مبيت له يأوي إليه غيرها.
وفيه دليل أن افتتاح الصلاة لا يكون إلاّ بالتكبير دون
غيره من الأذكار.
ومن باب ما يؤمر به المأموم من
اتباع الإمام
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن عجلان حدثنا
محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز عن معاوية بن أبى
سفيان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تبادروني
بركوع ولا سجود فإنه مهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني به
إذا رفعت إني قد بَدُنت.
قوله تدركوني إذا رفعت يريد أنه لا يضركم رفع رأس وقد بقي
عليكم شيء منه إذا أدركتموني قائماً قبل أن اسجد وكان صلى
الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يدعو بكلام فيه
طول. وقوله إني قد بدنت يروى على وجهين أحدهما بدنت بتشديد
الدال ومعناه كبر السن يقال بدن الرجل تبدينا إذا أسن
والآخر بدُنت مضمومة الدال غير مشدودة ومعناه زياده الجسم
واحتمال اللحم. وروت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما طعن في السن احتمل بدنه اللحم. وكل واحد من كبر
السن واحتمال اللحم يثقل البدن ويثبط عن الحركة.
ومن باب التشديد فيمن يرفع
رأسه
قبل الإمام أو يضع قبله
قال أبو داود: حدثنا حغص بن عمرحدثنا شعبة عن محمد بن
زياد، عَن أبي
(1/176)
هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: أما يخشى أو لا يخشى أحدكم إذا رفع رأسه والإمام
ساجد أن يحول الله رأسه رأس حمار أو صورته صورة حمار.
قلت واختلف الناس فيمن فعل ذلك فروي عن ابن عمر أنه قال لا
صلاة لمن فعل ذلك. وأما عامة أهل العلم فإنهم قالو قد أساء
وصلاته مجزية غير أن أكثرهم يأمرونه بأن يعود إلى السجود،
وقال بعضهم يمكث في سجوده بعد أن يرفع الإمام رأسه بقدر ما
كان ترك منه.
ومن باب جماع أبواب ما يصلى
فيه
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن
المسيب، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
سئل عن الصلاة في ثوب واحد فقال أو لكلكم ثوبان.
قوله أولكلكم ثوبان لفظه لفظ استفهام ومعناه الإخبار عما
كان يعلم من حالهم من العدم وضيق الثياب يقول فإذا كنتم
بهذه الصفة وليس لكل واحد منكم ثوبان والصلاة واجبة عليكم
فاعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان، عَن أبي الزناد عن
الأعرج، عَن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على منكبه منه
شيء.
يريد أنه لا يتزر به في وسطه ويشد طرفيه على حقويه ولكن
يتزر به ويرفع طرفيه فيخالف بينهما ويشده على عاتقه فيكون
بمنزلة الإزار والرداء.
(1/177)
وهذا إذا كان الثوب واسعا فإذا كان ضيقا
شده على حقويه؛ وقد جاء ذلك في حديث جابر الذي نذكره في
الباب الذي يلي هذا الباب.
ومن باب في الثوب إذا كان ضيقا
قال أبو داود: حدثنا هشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن
الدمشقي ويحيى بن الفضل السجستاني وهذا لفظ يحيى قالوا:
حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو حزرة عن
عبادة بن الوليد بن عبادة قال أتينا جابر بن عبد الله قال
سرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فقام يصلي
وكانت عليّ بردة فذهبت أخالف بين طرفيها فلم تبلغ لى وكانت
لها ذباذب فنكستها ثم خالفت بين طرفيها ثم تواقصت عليها لا
تسقط وذكر صلاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فلما
فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا جابر إذا كان
واسعا فخالف بين طرفيه وإذا كان ضيقا فاشدده على حقوك.
ذباذب الثوب أهدابه وسمي ذباذب لتذبذبها. وقوله تواقصت
عليها معناه أنه ثنى عنقه ليمسك الثوب به كأنه يحكي خلقة
الأوقص من الناس.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب عن
نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما فإن لم يكن إلاّ ثوب
فليتزر ولا يشتمل اشتمال اليهود.
قلت اشتمال اليهود المنهي عنه هو أن يجلل بدنه الثوب
ويسبله من غيرأن يشيل طرفه، فأما اشتمال الصماء الذي جاء
في الحديث فهو أن يجلل بدنه الثوب ثم يرفع طرفيه على عاتقه
الأيسر، هكذا يفسر في الحديث.
(1/178)
ومن باب السدل في
الصلاة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء وإبراهيم بن موسى عن
ابن المبارك عن الحسن بن ذكوان عن سليمان الأحول عن عطاء
قال إبراهيم، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه.
السدل إرسال الثوب حتى يصيب الأرض، وقد رخص بعض العلماء في
السدل في الصلاة. روي ذلك عن عطاء ومكحول والزهري والحسن
وابن سيرين. وقال مالك لا بأس به ويشبه أن يكونوا إنما
فرقوا بين إجازة السدل في الصلاة وبينه في غير الصلاة لأن
المصلي ثابت في مكانه لا يمشي في الثوب الذي عليه. فأما
غير المصلي فإنه يمشي فيه ويسدل وذلك من الخيلاء المنهي
عنه وكان سفيان الثوري يكره السدل في الصلاه وكان الشافعي
يكرهه في الصلاة وفي غير الصلاة.
وقوله وأن يغطي الرجل فاه فإن من عادة العرب التلثم
بالعمائم على الأفواه فنهوا عن ذلك في الصلاة إلاّ أن يعرض
للمصلي التثاؤب فيغطي فمه عند ذلك للحديث الذي جاء فيه.
ومن باب في كم تصلي المرأة
قال أبو داود: حدثنا مجاهد بن موسى حدثنا عثمان بن عمر
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، يَعني ابن دينار عن محمد بن
زيد بن قنفذ عن أمه عن أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله
عليه وسلم أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليهما إزار.
فقال: إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها.
قلت واختلف الناس فيما يجب على المرأة الحرة أن تغطي من
بدنها إذا صلت
(1/179)
فقال الأوزاعي والشافعي تغطي جميع بدنها
إلاّ وجهها وكفيها.
وروي ذلك عن ابن عباس وعطاء وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن
الحارث بن هشام كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها. وقال
أحمد المرأة تصلي ولا يرى منها شيء ولا ظفرها وقال مالك بن
أنس إذا صلت المرأة وقد انكشف شعرها أو صدور قدميها تعيد
ما دامت في الوقت. وقال أصحاب الرأي في المرأة تصلي وربع
شعرها أوثلثه مكشوف، أو ربع فخذها أو ثلثه مكشوف، أو ربع
بطنها أو ثلثه مكشوف فإن صلاتها تنتقض، وإن انكشف أقل من
ذلك لم تنتقض وبينهم اختلاف في تحديده.
ومنهم من قال بالنصف ولا أعلم لشيء مما ذهبوا إليه في
التحديد أصلا يعتمد.
وفي الخبر دليل على صحة قول من لم يجز صلاتها إذا انكشف من
بدنها شيء ألا تراه يقول إذا كان سابغا يغطي ظهور قدميها
فجعل من شرط جواز صلاتها أن لا يظهر من أعضائها شىء.
ومن باب تصلي المرأة بغير خمار
قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى حدثنا حجاج بن منهال حدثنا
حماد عن قتادة عن محمد بن سيرين عن صفية بنت الحارث عن
عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تقبل صلاة
حائض إلاّ بخمار.
قلت يريد بالحائض المرأة التي قد بلغت سن المحيض ولم يرد
به المرأة التي هي في أيام حيضها فإن الحائض لا تصلي بوجه.
ومن باب الرجل يصلي عاقصا شعره
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق عن ابن
جريج حدثنا
(1/180)
عمران بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد المقبري
يحدث عن أبيه أنه رأى أبا رافع مولى النبي صلى الله عليه
وسلم مرَّ بالحسن بن علي وهو يصلي قائماً وقد غرز ضفره في
قفاه فحمله أبو رافع فالتفت حسن إليه مغضبا. فقال أبو رافع
اقبل على صلاتك ولا تغضب فإني سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: ذلك كفل الشيطان، يَعني مقعد الشيطان،
يَعني مغرز ضفره.
يريد بالضفر المضفور من شعره وأصل الضفر الفتل والضفائر هي
العقائص المضفورة.
وأما الكفل فأصله أن يجمع الكساء على سنام البعير ثم يركب
قال الشاعر:
وراكب على البعير مكتفل ... يحفى على آثارها وينتعل
وإنما أمره بإرسال الشعر ليسقط على الموضع الذي يصلي فيه
صاحب من الأرض فيسجد معه.
وقد روي أمرت أن أسجد على سبعة آراب وأن لا أكف شعراً ولا
ثوباً.
ومن باب الصلاة في النعل
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد، عَن أبي
نعامة السعدي، عَن أبي نضرة، عَن أبي سعيد الخدري. قال
بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع
نعليه فوضعهما عن يساره. فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم،
فلما قضى صلاته قال: ما حملكم على إلقاء نعالكم، قالوا
رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا.
قلت: فيه من الفقه أن من صلى وفي ثوبه نجاسة لم يعلم بها
فإن صلاته مجزية ولا إعادة عليه.
(1/181)
وفيه أن الايتساء برسول الله صلى الله عليه
وسلم في أفعاله واجب كهو في أقواله، وهو أنهم لما رأوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم خلع نعليه خلعوا نعالهم.
وفيه من الأدب أن المصلي إذا صلى وحده فخلع نعله وضعها عن
يساره وأما إذا كان مع غيره في الصف وكان عن يمينه وعن
يساره أناس فإنه يضعها بين رجليه. وفيه أن يسير العمل لا
يقطع الصلاة.
ومن باب المصلي إذا خلع نعليه
اين يضعهما
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عثمان بن عمر
حدثنا صالح بن رستم أبو عامر عن عبد الرحمن بن قيس عن يوسف
بن ماهك، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه ولا عن يساره
فتكون عن يمين غيره إلاّ أن لا يكون عن يساره أحد وليضعهما
بين رجليه.
قلت فيه باب من الأدب وهو أن يصان ميامن الإنسان عن كل شيء
يكون محلاً للأذى.
وفيه أن الأدب أن يضع الإنسان نعله إذا أراد الصلاة بين
يديه أو عن يساره إن كان وحده.
وفيه دليل على أنه إن خلع نعله فتركها من ورائه أو عن
يمينه أو متباعدة عنه من بين يديه فتعق بها إنسان فتلف إما
بأن خر على وجهه أو تردى في بئر بقربه أن عليه الضمان،
وهذا كواضع الحجر في غير ملكه وناصب السكين ونحوه لا فرق
بينهما والله أعلم.
(1/182)
ومن باب الصلاة على الخُمرة
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون حدثنا خالد عن الشيباني
عن عبد الله بن شداد قال حدثتني ميمونة بنت الحارث قالت
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الخمرة.
قلت: الخمرة سجادة تعمل من سعف النخل وترمل بالخيوط. وسميت
خمرة لأنها تخمر وجه الأرض أي تستره.
وفيه من الفقه جواز الصلاة على الحصير والبسط ونحوها وكان
بعض السلف يكره أن يصلى إلاّ على جديد الأرض. وكان بعضهم
يجيز الصلاة على كل شيء يعمل من نبات الأرض.
فأما ما يتخذ من أصواف الحيوان وشعورها فإنه كان يكرهه.
ومن باب الرجل يسجد على ثوبه
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا بشير، يَعني ابن
المفضل حدثنا غالب القطان عن بكر بن عبد الله عن أنس قال
كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر
فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد
عليه.
وقد اختلف الناس في هذا فذهب عامة الفقهاء إلى جوازه. مالك
والأوزاعي وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وقال الشافعي لا يجزيه ذلك كما لا يجزيه السجود على كور
العمامة، ويشبه أن يكون تأويل حديث أنس عنده أن يبسط ثوباً
هو غير لابسه.
ومن باب تسوية الصفوف
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا
سماك بن حرب سمعت النعمان بن بشير يقول كان النبي صلى الله
عليه وسلم يُسَوينا في الصفوف كما يقوّم القِدح.
(1/183)
القدح خشب السهم إذا بري وأصلح قبل أن يركب
فيه النصل والريش.
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبان عن قتادة
عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رُصُّوا صفوفكم
وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق فوالذي نفسي بيده إني لأرى
الشيطان يدخل بين خلَل الصف كأنها الحَذَف.
قوله رصوا صفوفكم معناه ضموا بعضها إلى بعض وقاربوا بينها
ومنه رص البناء قال تعالى {كأنهم بنيان مرصوص} [الصف: 4]
والحذف غنم سود صغار، ويقال إنها أكثر ما تكون باليمن.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا
جعفر بن يحيى بن ثوبان أخبرني عمي عمارة بن ثوبان عن عطاء
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
خياركم ألينكم مناكب في الصلاة.
قلت معنى لين المنكب لزوم السكينة في الصلاة والطمأنينة
فيها لا يلتفت ولا يُحاك بمنكبه منكب صاحبه. وقد يكون فيه
وجه آخر وهو أن لا يمتنع على من يريد الدخول بين الصفوف
ليسد الخلل أو لضيق المكان، بل يمكنه من ذلك ولا يدفعه
بمنكبه لتتراص الصفوف وتتكاتف الجموع.
ومن باب ما يستحب أن يلي
الإمام في الصف
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خالد،
عَن أبي معشر عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن عباس عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليليني منكم ذوو الأحلام
والنهى ثم الذين يلونهم، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم واياكم
وهَيشات الأسواق.
قلت إنما أمر صلى الله عليه وسلم أن يليه ذوو الأحلام
والنهى ليعقلوا عنه صلاته، ولكي
(1/184)
يخلفوه في الإمامة إن حدث به حدث في صلاته
وليرجع إلى قولهم إن أصابه سهو أو عرض في صلاته عارض في
نحو ذلك من الأمور.
وهيشات الأسواق ما يكون فيها من الجلبة وارتفاع الأصوات
وما يحدث فيها من الفتن. وأصله من الهوش وهو الاختلاط يقال
تهاوش القوم إذا اختلطوا ودخل بعضهم في بعض وبينهم تهاوش
أي اختلاط واختلاف.
ومن باب في الرجل يصلي وحده
خلف الصف
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب وحفص بن عمر قالا:
حَدَّثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن هلال بن يساف عن عمرو بن
راشد عن وابصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا
يصلي خلف الصف وحده أمره أن يعيد قال سليمان بن حرب
الصلاة.
واختلف أهل العلم فيمن صلى خلف الصف وحده فقالت طائفة
صلاته فاسدة على ظاهر الحديث. هذا قول النخعي وأحمد بن
حنبل وإسحاق بن راهويه.
وحكوا عن أحمد أو عى بعض أصحابه أنه إذا افنتح صلاته
منفردا خلف الإمام فلم يلحق به أحد من القوم حتى رفع رأسه
من الركوع فإنه لا صلاة له ومن تلاحق به بعد ذلك فصلاتهم
كلهم فاسدة وإن كانوا مائة أو أكثر.
وقال مالك والأوزاعي والشافعي صلاة المنفرد خلف الإمام
جائزة، وهو قول أصحاب الرأي. وتأولوا أمره إياه بالإعادة
على معنى الاستحباب دون الإيجاب.
(1/185)
ومن باب الرجل يركع
دون الصف
قال أبو داود: حدثنا حميد بن مسعدة أن يزيد بن زريع حدثهم،
قال: حَدَّثنا سعيد بن أبي عروبة عن زياد الأعلم حدثنا
الحسن أن أبا بكرة حدث أنه دخل المسجد ونبي الله صلى الله
عليه وسلم راكع قال فركعت دون الصف فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: زادك الله حرصا ولا تعد.
قلت فيه دلالة على أن صلاة المنفرد خلف الصف جائزة لأن
جزءاً من الصلاة إذا جاز على حال الانفراد جاز سائر
أجزائها.
وقوله ولا تعد إرشاد له في المستقبل إلى ما هو أفضل ولو لم
يكن مجزياً لأمره بالإعادة، ويدل على مثل ذلك حديث أنس في
صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت المرأة وقيامها
منفردة. وأحكام الرجال والنساء في هذا واحدة وهذا يدل على
أن أمره بالإعادة في حديث وابصة ليس على الإيجاب لكن على
الاستحباب.
وكان الزهري والأوزاعي يقولان في الرجل يركع دون الصف إن
كان قريبا من الصفوف أجزأه وإن كان بعيدا لم يجزئه.
ومن باب الصلاة إلى المتحدثين
والنيام
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد الملك بن
محمد بن أيمن عن عبد الله بن يعقوب بن إسحاق عن من حدثه عن
محمد بن كعب القُرَظي قال قلت له، يَعني لعمر بن عبد
العزيز حدثني عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدثين.
قلت هذا حديث لا يصح عن النبي لضعف سنده وعبد الله بن
يعقوب لم يسم من حدثه عن محمد بن كعب، وإنما رواه عن محمد
بن كعب رجلان كلاهما
(1/186)
ضعيفان تمام بن بزيع وعيسى بن ميمون. وقد
تكلم فيهما يحيى بن معين والبخاري ورواه أيضاً عبد الكريم
أبو أمية عن مجاهد عن ابن عباس. وعبد الكريم متروك الحديث.
قال أحمد ضربنا عليه فاضربوا عليه. قال يحيى بن معين: ليس
بثقة ولا يحمل عنه وعبد الكريم هذا أبو أمية البصري وليس
بالجزري وعبد الكريم الجزري أيضاً ليس في الحديث بذلك إلاّ
أن البصري تالف جدا.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى وعائشة نائمة
معترضة بينه وبين القبلة.
وأما الصلاة إلى المتحدثين فقد كرهها الشافعى وأحمد، وذلك
من أجل أن كلامهم يشغل المصلي عن صلاته. وكان أبوعمر لا
يصلي خلف رجل يتكلم إلاّ يوم الجمعة.
ومن باب الدنو من السترة
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة وحامد بن يحيى وابن
السرح قالوا حدثنا سفيان عن صفوان بن سليم عن نافع بن جبير
عن سهل بن أبي حثمة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال:
إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه
صلاته.
قال عطاء أدنى ما يكفيك أن يكون بينك وبين السترة ثلاثة
أذرع، وبه قال الشافعي وعن أحمد نحو هذا وأخبرني الحسن بن
يحيى بن صالح أخبرنا ابن المنذر أن مالك بن أنس كان يصلي
يوما متباينا عن السترة فمر به رجل وهو لا يعرفه فقال أيها
المصلي ادن من سترتك فجعل يتقدم وهويقرأ {وعلمك ما لم تكن
تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [البقرة: 113] .
(1/187)
ومن باب إذا صلى إلى
سارية
أو نحوها أين يجعلها منه
قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد الدمشقي حدثنا علي بن
عياش حدثني أبو عبيدة الوليد بن كامل عن المهلب بن حجر
البهراني عن ضباعة بنت المقداد بن الأسود عن أبيها. قال ما
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى عود ولا عمود
ولا شجرة إلاّ جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا يصمد
له صمدا.
قلت الصمد القصد يريد أنه لا يجعله تلقاء وجهه والصمد هو
السيد الذي يصمد في الحوائج أي يقصد فيها ويعتمد لها.
ومن باب ما يؤمر المصلي أن
يدرأ المار بين يديه
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن زيد بن أسلم عن
عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبى سعيد الخدري أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع
أحداً يمر بين يديه وليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله
فإنما هو شيطان.
قوله وليدرأه معناه يدفعه ويمنعه عن المرور بين يديه،
والدرء المدافعة وهذا في أول الأمرلا يزيد على الدرء
والدفع فإن أبى ولج فليقاتله أي يعالجه ويعنف في دفعه عن
المرور بين يديه.
وقوله فإنما هو شيطان معناه أن الشيطان يحمله على ذلك وأنه
من فعل الشيطان وتسويله. وقد روي في هذا الحديث من طريق
ابن عمر فليقاتله فإن معه القرين يريد الشيطان.
قلت وهذا إذا كان المصلي يصلي إلى سترة فإن لم تكن سترة
يصلي إليها وأراد المار أن يمر بين يديه فليس له درؤه ولا
دفعه ويدل على ذلك حديثه الاخر.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا سليمان بن
المغيرة عن حميد،
(1/188)
يَعني بن هلال، عَن أبي صالح، عَن أبي
سعيد، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا
صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فإن أراد أحد أن يجتاز
بين يديه فليدفع في نحره فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان.
وفي هذا دلالة على أن العمل القليل لا يقطع الصلاة ما لم
يتطاول.
ومن باب ما يقطع الصلاة
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن حميد بن
هلال عن عبد الله بن الصامت، عَن أبي ذر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: يقطع صلاه الرجل إذا لم يكن بين
يديه قِيدَ أخِرة الرحل الحمارُ والكلب الأسود والمرأة
فقلت ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر من الأبيض قال يا
ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني
فقال الكلب الأسود شيطان. ورواه من طريق ابن عباس فقال
يقطع الصلاة المرأة الحائض.
قوله قيد أخرة الرحل أي قدرها في الطول يقال قيد شبر وقيس
شبر وقدروا أخِرة الرحل ذراعاً.
وقد اختلف للناس فيما يقطع الصلاة من الحيوان فقالت طائفة
بظاهر هذا الخبر. روي ذلك عن ابن عمر وأنس والحسن البصري،
وقالت طائفة يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض وروي
ذلك عن ابن عباس وعطاء بن أبي رباح، وقالت طائفة لا يقطع
الصلاة إلاّ الكلب الأسود روي ذلك عن عائشة وهو قول أحمد
وإسحاق. وقال أحمد وفي قلبي من المرأة والحمار شيء وقالت
طائفة لا يقطع الصلاه شيء روي هذا القول عن علي وعثمان
وكذلك قال ابن المسيب وعبيدة والشعبي وعروة بن للزبير
وإليه ذهب مالك بن أنس
(1/189)
وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وبه قال
الشافعي. وزعم من لا يرى الصلاة يقطعها شىء أن حديث أبي ذر
معارض بخبر أبي سعيد وبخبر ابن عباس وبخبر عائشة، وقد
ذكرها أبو داود على أثر هذا الباب.
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن سعد بن
إبراهيم عن عروة عن عائشة قالت كنت بين النبي صلى الله
عليه وسلم وبين القبلة قال شعبة وأحسبها قالت وأنا حائض.
قال أبو داود: وحدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير
حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يصلي صلاته من الليل وهي معترضة فيما
بينه وبين القبلة.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن منصور عن
الحكم عن يحيى بن الجزار، عَن أبي الصهباء قال تذاكرنا ما
يقطع الصلاة عند ابن عباس قال جئت أنا وغلام من بني عبد
المطلب على حمار ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فنزل
ونزلت فتركنا الحمار أمام الصف فما بالى بذلك.
قال أبو داود: حدثنا عبد الملك بن شعيب بن اليث حدثني أبي
عن جدي عن يحيى بن أيوب عن محمد بن عمر بن علي عن عباس بن
عبد الله بن عباس عن الفضل بن عباس قال أتانا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ونحن في بادية فصلى في صحراء ليس بين
يديه سترة وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه فما بالى
بذلك.
قلت زعم أصحاب أحمد بن حنبل أن حديث أبي ذر قد عارضه حديث
عائشة في المرأة وحديث ابن عباس في الحمار، وأما حديث
الفضل بن عباس ففي إسناده
(1/190)
مقال ثم أنه لم يذكر فيه نعت الكلب، وقد
يجوز أن يكون هذا الكلب ليس بأسود فبقي خبر أبي ذر في
الكلب الأسود لا معارض له فالقول به واجب لثبوته وصحة
إسناده.
ومن باب من قال لا يقطع الصلاة
شيء
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن
مجالد، عَن أبي الوداك، عَن أبي سعيد قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما
استطعتم فإنما هو شيطان.
قلت وقد يحتمل أن يتأول حديث أبي ذر على أن هذه الأشخاص
إذا مرت بين يدي المصلي قطعته عن الذكر وشغلت قلبه عن
مراعاة الصلاة فذلك معنى قطعها للصلاة دون إبطالها من
أصلها حتى يكون فيها وجوب الإعادة.
ومن باب في سترة الإمام
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا هشام
بن الغاز عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم صلى إلى جدار فجاءت بَهْمَة تمر بين يديه
فما زال يدارئها حتى لصق بطنه بالجدار فمرت من ورائه.
البهمة ولد الشاة أول ما يولد يقال ذلك للذكر والأنثى
سواء. وقوله يدارئها هو من الدرء مهموز أي يدافعها وليس من
المداراة التي تجري مجرى الملاينة هذا غير مهموز وذلك
مهموز.
ومن باب رفع اليدين عند افتتاح
الصلاة
قال أبو داود: حدثنا أحمد حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم
عن أبيه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح
الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه
(1/191)
وإذا أراد أن يركع وبعدما يرفع رأسه من
الركوع ولا يرفع بين السجدتين.
وذكر في هذا الباب حديث وائل بن حجر عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه كان يرفع يديه حتى يحاذي بأذنيه وكان
يرفعهما إذا أراد أن يركع وإذا أراد أن يرفع رأسه من
الركوع.
وذكر حديث مالك بن الحويرث قال رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يرفع يديه إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع رأسه من
الركوع حتى يبلغ بهما فروع أذنيه.
وذكر حديث علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة كبر ورفع يديه حذو منكبيه
ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع ويصنعه إذا
رفع من الركوع وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك وكبر.
وذكر حديث أبي حميد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما
منكبيه ثم يركع ثم يرفع رأسه فيرفع يديه حتى يحاذي بهما
منكبيه، ثم ذكر على أثر هذه الأحاديث حديث أبي مسعود ألا
أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ولم يرفع
يده.
وروى حديث البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لا
يعود.
قلت والاختلاف في هذه الأحاديث من وجهين: أحدهما في منتهى
ما يرفع إليه اليد من المنكبين والأذنين. فذهب الشافعي
وأحمد وإسحاق إلى رفعهما إلى المنكبين على حديث ابن عمر
وأبي حميد الساعدي وهو مذهب مالك بن أنس. وذهب سفيان
الثوري وأصحاب الرأي إلى رفعهما إلى الأذنين على حديث
البراء. وحكي لنا، عَن أبي ثور أنه قال كان الشافعي يجمع
بين الحديثين المختلفين وكان
(1/192)
يقول إنما اختلف الحديث في هذا من أجل
الرواة، وذلك أنه كان إذا رفع يديه حاذى بظهر كفه المنكبين
وبأطراف أنامله الأذنين واسم اليد يجمعهما فروى هذا قوم
وروى هذا آخرون من غير تفصيل ولا خلاف بين الحديثين.
والوجه الاخر من الاختلاف فيها رفع اليدين عند الركوع وبعد
رفع الرأس منه وعند القيام من التشهد الأول فذهب أكثر
العلماء إلى أن الأيدي ترفع عند الركوع وعند رفع الرأس
منه، وهو قول أبي بكر الصديق وعلي بن أبى طالب وابن عمر
وأبي سعيد الخدري وابن عباس وأنس وابن الزبير.
وإليه ذهب الحسن البصري وابن سيرين وعطاء وطاوس ومجاهد
والقاسم بن محمد وسالم وقتادة ومكحول وبه قال الأوزاعي
ومالك في آخر أمره والشافعي وأحمد وإسحاق، وذهب سفيان
الثوري وأصحاب الرأي إلى حديث ابن مسعود وهو قول ابن أبى
ليلى وقد روي ذلك عن الشعبي والنخعي.
قلت والأحاديث الصحيحة التي جاءت بإثبات رفع اليدين عند
الركوع وبعد رفع الرأس منه أولى من حديث ابن مسعود
وللإثبات أولى من النفي.
وقد يجوز أن يذهب ذلك على ابن مسعود كما قد ذهب عليه الأخذ
بالركبة في الركوع وكان يطبق بيديه على الأمرالأول وخالفه
الصحابة كلهم في ذلك.
وقد اختلف الناس في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الكعبة فأثبتها بلال ونفاها أسامة فأخذ الناس بقول بلال
وحملوا قول أسامة على أنه سها عنه ولم يحفظه.
وحديث البراء لم يقل أحد فيه ثم لا يعود غير شَريك.
قال أبو داود وقد رواه هشيم وخالد وابن إدريس عن يزيد بن
أبي زياد ولم
(1/193)
يذكروا فيه ثم لا يعود، وذكر عن سفيان بن
عيينة أن يزيد حدثهم به قبل خروجه إلى الكوفة فلم يذكروا
فيه ثم لا يعود. فلما انصرف زاد فيه لا يعود فحمل ذلك منه
على الغلط والنسيان.
وأما ما روى في حديث أبي حميد الساعدي من رفع اليدين عند
النهوض من التنشهد فهو حديث صحيح وقد شهد له بذلك عشرة من
الصحابة منهم أبو قتادة الأنصاري، وقد قال به جماعة من أهل
الحديث ولم يذكره الشافعي والقول به لازم على أصله في قبول
الزيادات.
وأما ما روي في حديث علي رضي الله عنه أنه كان يرفع يديه
عند القيام من السجدتين فلست أعلم أحدا من الفقهاء ذهب
إليه وإن صح الحديث فالقول به واجب. وقد ذكر أبو داود في
هذا الباب حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم وسرده على وجهه، وفيه سنن لا يستغنى عن
ذكرها وألفاط يحتاج إلى تفسيرها فنذكره.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو عاصم حدثنا
عبد الحميد بن جعفر أخبرني محمد بن عمرو بن عطاء قال سمعت
أبو حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم منهم أبو قتادة قال أبو حميد أنا أعلمكم بصلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا فلم فوالله ما كنت
بأكثرنا له تبعاً ولا أقدمنا له صحبة، قال بلى، قالوا
فاعرِض قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى
الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يكبر حتى يقر
كل عظم في موضعه معتدلا ثم يقرأ ثم يكبر فيرفع يديه حتى
يحاذي بهما منكبيه ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه ثم
يعتدل ولا ينصب رأسه ولا يقنع ثم يرفع رأسه فيقول سمع الله
لمن حمده
(1/194)
ثم يرفع يديه حتى يحاذي منكبيه معتدلا ثم
يقول الله أكبر ثم يهوي إلى الأرض فيجافي يديه عن جنبيه ثم
يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتخ أصابع
رجليه إذا سجد ويسجد ثم يقول الله أكبر ويرفع ويثني رجله
اليسرى فيقعد عليها حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم يصنع في
الأخرى مثل ذلك ثم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه حتى
يحاذي بهما منكبيه كما كبر عند افتتاح الصلاة ثم يصنع ذلك
في بقية صلاته حتى كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله
اليسرى وقعد متوركا على شقه الأيسر قالوا صدقت هكذا كان
يصلي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود: وحدثنا قتيبة بن سعيد نا ابن لهيعة عن يزيد
بن أبي حبيب عن محمد بن عمرو بن حَلْحلة عن محمد بن عمرو
العامري وذكر حديث أبي حميد وقال فيه وإذا ركع أمكن كفيه
من ركبتيه وفرج بين أصابعه وهصر ظهره غير مقنع رأسه ولا
صافح بخده.
قلت قوله لا ينصب رأسه هكذا جاء في هذه الرواية ونصب الرأس
معروف ورواه ابن المبارك عن فليح بن سليمان عن عيسى بن عبد
الله سمعه من عباس، عَن أبي حميد فقال فيه كان لا يُصَبّي
رأسه ولا يقنعه، يقال صَبَّى الرجل رأسه يصبيه إذا خفضه
جدا، وقد فسرته في غريب الحديث.
وقوله لا يقنعه معناه لا يرفعه، والإقناع رفع الرأس. ويقال
أيضاً لمن خفض رأسه قد أقنع رأسه والحرف من الأضداد قال
الله تعالى {مهطعين مقنعي رؤوسهم} [إبراهيم: 43] .
وقوله يفتخ أصابع رجليه أي يلينها حتى تنثني فيوجهها نحو
القبلة والفتخ لين واسترسال في جناح الطائر.
وقوله هصر ظهره معناه ثنى ظهره وخفضه، وأصل الهصر أن يأخذ
بطرف
(1/195)
الشيء ثم يجذبه إليه كالغصن من الشجرة
ونحوه فينصهرأي ينكسر من غير بينونة. وقوله ولا صافح بخده
أي غير مبرز صفحة خده مائلا في أحد الشقين.
وفيه من السنة أن المصلي أربعا يقعد في التشهد الأول على
بطن قدمه اليسرى ويقعد في الرابعة متوركا وهو أن يقعد على
وركه ويفضي به إلى الأرض ولا يقعد على رجله كما يقعد في
التشهد الأول، وإليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق.
وكان مالك يذهب إلى أن القعود في التشهد الأول والآخر يجب
أن يكون على وركه ولا يقعد على بطن قدمه في القعدة الأولى
وكذلك يقعد بين السجدتين. وكان سفيان الثوري يرى القعود
على قدمه في القعدتين جميعا، وهو قول أصحاب الرأي. وفيه
أيضاً أنه قعد قعدة بعدما رفع رأسه من السجدة الثانية قبل
القيام.
وقد روي ذلك أيضاً في حديث مالك بن الحويرث وبه قال
الشافعي.
وقال الثوري ومالك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق لا يقعدها
ورووا عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا ينهضون على صدور
أقدامهم.
ومن باب ما يستفتح به الصلاة
من الدعاء
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا
عبد العزيز بن أبي سلمة عن عمه الماجشون بن أبي سلمة عن
عبد الرحمن الأعرج عن عييد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا قام إلى الصلاة كبر ثم قال وجهت وجهي للذي فطر السموات
والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي
ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول
المسلمين. وساقه إلى أن قال لبيك وسعديك والخير كله في
يديك والشر ليس إليك.
(1/196)
قوله والشر ليس إليك سئل الخليل عن تفسيره،
فقال معناه الشر ليس مما يتقرب به إليك. وقال غيره هذا
كقول القائل فلان إلى بني تميم إذا كان عداده فيهم أو صغوه
معهم وكما يقول الرجل لصاحبه أنا بك واليك يريد ان التجاءه
وانتماءه إليه أو نحو هذا من الكلام.
وروى أبو داود في هذا الباب حديث أنس بن مالك أن رجلا جاء
إلى الصلاة وقد حفزه النفس فقال الله أكبر الحمد الله حمدا
كثيرا طيبا مباركا فيه.
قوله حفزه النفس يريد أنه قد جهده النفس من شدة السعي إلى
الصلاة وأصل الحفز الدفع العنيف.
ومن باب من رأى الاستفتاح
بسبحانك اللهم
قال أبو داود: حدثنا حسين بن عيسى حدثنا طلق بن غنام حدثنا
عبد السلام بن حرب الملائي عن بديل بن ميسرة، عَن أبي
الجوزاء عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا استفتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك
وتعالى جدك ولا إله غيرك.
قوله وبحمدك ودخول الواو فيه أخبرني ابن خلاد قال سألت
الزجاج عن ذلك فقال معناه سبحانك اللهم وبحمدك سبحتك،
ومعنى الجد العظمة ههنا.
وقد اختلف العلماء فيما يستفتح به الصلاة من الذكر بعد
التكبير فذهب الشافعي إلى ما رواه عبيد الله بن أبي رافع
عن علي رضي الله عنه، وذهب سفيان وأصحاب الرأي إلى حديث
عائشة، هذا وبه قال أحمد وإسحاق.
وكان مالك لا يقول شيئا من ذلك إنما يكبر ويقرأ الحمد لله
رب العالمين.
(1/197)
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنواع
من الذكر في استفتاح الصلاة. وقد روى أبو داود بعضها وترك
بعضها وهو من الاختلاف المباح فبأيها استفتح الصلاة كان
جائزا وإن استعمل رجل مذهب مالك ولم يقل شيئاً أجزأته
صلاته وكرهناه له.
ومن باب السكتة عند الافتتاح
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يزيد حدثنا سعيد حدثنا
قتادة عن الحسن أن سمرة وعمران بن حصين تذاكرا فحدث سمرة
أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين سكتة إذا
كبر وسكتة إذا فرغ من قراءة {غير المغضوب عليهم ولا
الضالين} [الفاتحة: 7] فأنكر عليه عمران فكتبا في ذلك إلى
أبي بن كعب فكان في كتابه إليهما أن سمرة قد حفظ.
قلت إنما كان يسكتها ليقرأ من خلفه فيهما فلا ينازعوه
القراءة إذا قرأ وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد بن
حنبل.
وقال مالك بن أنس وأصحاب الرأي السكتة مكروهة.
ومن باب من لم يجهر
ببسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو داود: نا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن
أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان رضي
الله عنهم كانوا يفتتحون القراءة بالحمد الله رب العالمين.
قلت قد يحتج بهذا الحديث من لا يرى أن التسمية من فاتحة
الكتاب، وليس المعنى كما توهمه، وإنما وجهه ترك الجهر
بالتسمية بدليل ما روى ثابت البناني عن أنس أنه قال صليت
خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر
وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
(1/198)
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث
بن سعيد عن حسين المعلم عن بديل بن ميسره، عَن أبي الجوزاء
عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح
الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان
إذا ركع لم يُشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك وكان إذا
رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً وكان إذا رفع
رأسه من السجود لم يسجد حتى يستوي قاعداً وكان إذا جلس
يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان يقول في كل
ركعتين التحيات لله وكان ينهى عن عقب الشيطان وعن فرشة
السبع وكان يختم الصلاة بالتسليم.
قولها كان يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين قد يحتمل
أن يكون أرادت به تعيين القراءة فذكرت اسم السورة وعرفتها
بما يتعرف به عند الناس من غيرحذف آية التسمية كما يقال
قرأت البقرة وقرأت آل عمران يراد به السورة التي يذكر فيها
البقرة وآل عمران.
وقولها لم يصوبه أي لم يخفضه وعقب الشيطان هو أن يقعي
فيقعد على عقبيه في الصلاة لا يفترش رجله ولا يتورك وأحسب
أني سمعت في عقب الشيطان معنى غير هذا فسره بعض العلماء لم
يحضرني ذكره. وفرشة السبع أن يفترش يديه وذراعيه في السجود
يمدهما على الأرض كالسبع، وإنما السنة أن يضع كفيه على
الأرض ويقل ذراعيه ويجافي بمرفقيه عن جنبيه.
وفي قولها كان يفتتح الصلاه بالتكبير ويختمها بالتسليم
دليل على انهما ركنان من أركان الصلاة لا تجزي إلاّ بهما
لأن قولها كان يفتتح الصلاة بالتكبير ويختمها بالتسليم
اخبار عن أمر معهود مستدام، وقال صلى الله عليه وسلم: صلوا
كما رأيتموني أصلي.
(1/199)
ومن باب في تخفيف
الصلاة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن عمرو
سمعه من جابر كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم
ثم يرجع فيصلي بقومه فأخر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة
الصلاة وقال مرة العشاء فصلى معاذ مع النبي صلى الله عليه
وسلم ثم جاء يؤم قومه فقرأ البقرة فاعتزل رجل من القوم
فصلى، فقيل نافقت فقال ما نافقت فأتى الرجل النبي صلى الله
عليه وسلم فقال إنا نحن أصحاب نواضح ونعمل بأيدينا وإنه
جاء يؤمنا فقرأ بسوره البقرة فقال ما معاذ أفتان أنت أفتان
أنت اقرأ بكذا اقرأ بكذا، قال أبو الزبير بسبح اسم ربك
الأعلى والليل إذا يغشى فذكرنا لعمرو فقال أراه قد ذكره.
النواضح الإبل التي يستقى عليها، والفتان هو الذي يفتن
الناس عن دينهم ويصرفهم عنه، وأصل الفتنة الامتحان، يقال
فتنت الفضة في النار إذا امتحنتها فأحميتها بالنار لتعرف
جودتها.
وفي الحديث من الفقه جواز صلاة للمفترض خلف المتنفل.
وفيه أن المأموم إذا حزبه أمر يزعجه عن إتمام الصلاة مع
الإمام كان له أن يخرج من إمامته ويتم لنفسه. وقد تأوله
بعض الناس على خلاف ظاهره وزعم أن صلاته مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم نافلة وليس هذا عندنا كما توهمه وذلك أن
العشاء اسم للفريضه دون النافله. ثم لا يجوز على معاذ مع
فقهه أن يترك فضيلة الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى فعل نفسه، هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم إذا
أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة وكيف يجوز عليه أن
يترك المكتوبة وقد أقيمت إلى النافلة التي لم تكتب عليه
ولم يخاطب بها.
(1/200)
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن حبيب حدثنا
خالد بن الحارث حدثنا محمد بن عجلان عن عبيد الله بن مقسم
عن جابر وذكر قصة معاذ قال وقال النبي صلى الله عليه وسلم
للفتى: كيف تصنع يا ابن أخي إذا صليت قال أقرأ: بفاتحة
الكتاب وأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار وإني لا أدري
ما دندنتك ودندنة معاذ.
الدندنة قراءة مبهمة غير مفهومة والهينمة مثلها أو نحوها.
ومن باب تخفيف الصلاة لأمر
يحدث
قال أبو داود: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا عمر بن
عبد الواحد وبشر بن بكر عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير
عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال قال رسول الله: إنى
لأقُومُ إلى الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها فاسمع بكاء
الصبي فأتجوز كراهية أن أشق على أمه.
فيه دليل على أن الإمام وهو راكع إذا أحس برجل يريد الصلاة
معه كان له أن ينتظره راكعا ليدرك فضيلة الركعة في الجماعة
لأنه إذا كان له أن يحذف من طول الصلاة لحاجة الإنسان في
بعض أمور الدنيا كان له أن يزيد فيها لعبادة الله بل هو
أحق بذلك وأولى. وقد كرهه بعض العلماء وشدد فيه بعضهم وقال
أخاف أن يكون شركاً وهو قول محمد بن الحسن.
ومن باب قدر القراءة في الظهر
قال أبو داود: حدثنا مسدد نا عبد الوارث عن موسى بن سالم
نا عبد الله بن عبيد الله قال دخلت على ابن عباس في شباب
من بني هاشم فقلنا لشاب
(1/201)
منا سله أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقرأ في الظهر والعصر فقال لا قال فلعله يقرأ في نفسه قال
خمشاً هذه شر من الأولى.
قوله خمشا دعاء عليه بأن يخمش وجهه أو جلده كما يقال جدعاً
له وصلبا وطعنا ونحو ذلك من الدعاء بالسوء.
قلت وهذا وهم من ابن عباس قد ثبت عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه كان يقرأ في الظهر والعصر من طرق كثيرة منها حديث
أبي قتادة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في
الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين
ويسمعنا الآية أحيانا. ومنها حديث خباب كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر فقيل له بم كنتم
تعرفون قال باضطراب لحيته.
ومن باب قدر القراءة في المغرب
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق عن ابن
جريج حدثني ابن أبي مليكة عن عروة بن الزبير عن مروان بن
الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت ما لك تقرأ في المغرب بقصار
المفصل وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في
المغرب بطولى الطوليين.
قلت أصحاب الحديث يقولون بطول الطِوالين وهو غلط، والطول
الحبل وليس هذا بموضعه إنما هو طُولى الطُوليين يريد أطول
السورتين، وطُولى وزنه فعلى تأنيث أطول، والطوليين تثنية
الطولى، ويقال أنه أراد سورة الأعراف وهذا يدل على أن
للمغرب وقتين كسائر الصلوات.
وقد وردت فيه أخبار أكثرها صحيح. حديث عبد الله بن عمرو
وحديث بريدة وحديث أبي موسى، وقد تقدم الكلام فيها في
موضعها.
(1/202)
ومن باب من ترك
القراءة في صلاته
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن العلاء بن عبد
الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول سمعت
أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى
صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج
غير تمام قال فقلت يا أبا هُرَيْرَة فإني أكون أحيانا وراء
الإمام فغمز ذراعي وقال أقرأ بها يا فارسي في نفسك فإني
سمعت رسول الله يقول: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني
وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدى ولعبدي ما سأل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤا يقول العبد
{الحمد لله رب العالمين} يقول الله حمدني عبدى، يقول العبد
{الرحمن الرحيم} يقول الله اثنى عليّ عبدي، يقول العبد
{مالك يوم الدين} يقول الله عز وجل مجدني عبدي، يقول العبد
{إياك نعبد وإياك نستعين} يقول الله وهذه بيني وبيني عبدي
ولعبدي ما سأل؛ يقول العبد {اهدنا الصراط المستقيم صراط
الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فهؤلاء
لعبدي ولعبدي ما سأل.
قوله فهي خداج معناه ناقصة نقص فساد وبطلان، تقول العرب
أخدجت الناقة إذا ألقت ولدها وهو دم لم يستبن خلقه فهي
مخدج والخداج اسم مبني منه.
وقوله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإنه يريد بالصلاة
القراءة يدل على ذلك قوله عند التفسير له والتفصيل للمراد
منه إذا قال العبد {الحمد الله رب العالمين} يقول الله
حمدني عبدي إلى آخر السورة وقد تسمى القراءة صلاة لوقوعها
في الصلاة وكونها جزءا من أجزائها كقوله تعالى {ولا تجهر
بصلاتك ولا تخافت بها} [الإسراء: 110] قيل معناه القراءة
وقال {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا}
(1/203)
[الإ سراء: 78] أراد صلاة الفجر فسمى
الصلاة مرة قرآنا والقرآن مرة صلاة لانتظام أحدهما الآخر
يدل على صحة ما قلناه. قوله بيني وبين عبدي نصفين والصلاة
خالصة لله لا شرك فيها لأحد فعقل أن المراد به القراءة.
وحقيقة هذه القسم منصرفة إلى المعنى لا إلى متلو اللفظ
وذلك أن السورة من جهة المعنى نصفها ثناء ونصفها مسألة
ودعاء، وقسم الثناء ينتهي إلى قوله {إياك نعبد} وهو تمام
الشطر الأول من السورة وباقي الآية وهو قوله {وإياك
نستعين} من قسم الدعاء والمسألة. ولذلك قال وهذه الآية
بيني وبين عبدي ولو كان المراد به قسم الألفاط والحروف
لكان النصف الآخر يزيد على الأول زيادة بينة فيرتفع معنى
التعديل والتنصيف وإنما هو قسمة المعاني كما ذكرته لك وهذا
كما يقال نصف السنة إقامة ونصفه سفر، يريد به انقسام أيام
السنة مدة للسفر ومدة للإقامة لا على سبيل التعديل
والتسوية بينهما حتى يكونا سواء لا يزيد أحدهما على الآخر،
وقيل لشريح كيف أصبحت قال أصبحت ونصف الناس عليّ غضاب يريد
أن الناس محكوم له ومحكوم عليه، فالمحكوم عليه غضبان عليّ
لاستخراج الحق منه وإكراهي إياه عليه وكقول الشاعر:
إذا مت كان الناس نصفين شامتٌ …بموتي ومثن بالذي كنت أفعل
وقد يستدل بهذا الحديث من لا يرى التسمية آية من فاتحة
الكتاب، وقالوا لو كانت آية منها لذكرت كما ذكر سائر الآي،
فلما بدىء بالحمد لله دل أنه أول آية منها وأن لاحظ
للتسمية فيها.
وقد اختلف الناس في ذلك فقال قوم هي آية من فاتحة الكتاب
وهو قول
(1/204)
ابن عباس وأبي هريرة وسعيد بن جبير وعطاء
وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، وقال آخرون
ليست التسمية من فاتحة الكتلب روي ذاك عن عبد الله بن
المغفل. وإليه ذهب أصحاب الرأي وهو قول مالك والأوزاعي.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد وابن السرح قالا:
حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن
الصامت يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: لاصلاة لمن
لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا قال سفيان لمن يصلي وحده.
قلت هذا عموم لا يجوز تخصيصه إلاّ بدليل.
قال أبو داود: حدثنا النفيلي نا محمد بن سلمة عن محمد بن
إسحاق عن مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال
كنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ رسول الله فثقلت
عليه القراءة فلما فرغ قال لعلكم تقرؤون خلف إمامكم قلنا
نعم هذَّاَّ يا رسول الله قال لا تفعلوا إلاّ بفاتحة
الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها.
قلت هذا الحديث نص بأن قراءة فاتحة الكتاب واجبة على من
صلى خلف الإمام سواء جهر الإمام بالقراءة أو خافت بها
وإسناده جيد لا طعن فيه. والهذ سرد القراءة ومداركتها في
سرعة واستعجال، وقيل أراد بالهذ الجهر بالقراءة وكانوا
يلبسون عليه قراءته بالجهر، وقد روي ذلك في حديث عبادة هذا
من غير هذا الطريق.
وقوله لا تفعلوا يحتمل أن يكون المراد به الهذ من القراءة
وهو الجهر بها ويحتمل أن يكون أراد بالنهي ما زاد من
القراءة على فاتحة الكتاب.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن ابن
أكيمة الليثي، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة
(1/205)
فقال هل قرأ معي أحد منكم آنفا فقال رجل
نعم يا رسول الله قال إني أقول ما لي أنازع القرآن قال
فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيما جهر فيه من الصلوات حين سمعوا ذلك منه.
قلت قوله فانتهى الناس عن القراءة من كلام الزهري لا من
كلام أبي هريرة قال أبو داود وسمعت محمد بن يحيى يقول
فانتهى الناس من كلام الزهري، وكذلك حكاه عن الأوزاعي.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ما لي أنازع القرآن معناه
اداخَل في القرآن وأغالب عليها.
وقد تكون المنازعة بمعنى المشاركة والمناوبة، ومنه منازعة
الناس في النِدام.
قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد
عن قتادة عن زرارة عن عمران بن حصين أن نبي الله صلى الله
عليه وسلم صلى بهم الظهر فلما انفتل قال أيكم قرأ بسبح اسم
ربك الأعلى فقال رجل أنا فقال علمت أن بعضكم خالجنيها.
قوله خالجنيها أي جاذبنيها، والخلج الجذب. وهذا وقوله
نازعنيها سواء وإنما أنكر عليه محاذاته في قراءة السورة
حتى تداخلت القراءتان وتجاذبتا.
وأما قراءة فاتحة الكتاب فإنه مأمور بها في كل حال إن
أمكنه أن يقرأ في السكتتين فعل وإلا قرأ معه لا محالة.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فروي عن جماعة من
الصحابة أنهم أوجبوا القراءة خلف الإمام وروي عن آخرين
أنهم كانوا لا يقرؤون. وافترق الفقهاء فيها على ثلاثة
أقاويل فكان مكحول والأوزاعي والشافعي وأبو ثور يقولون لا
بد من أن يقرأ خلف الإمام فيما يجهر به وفيما لا يجهر.
وقال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق يقرأ
فيما أسر الإمام فيه ولا يقرأ فيما جهر به.
(1/206)
وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي لا يقرأ
أحد خلف الإمام جهر الإمام أو أسر، واحتجوا بحديث رواه عبد
الله بن شداد مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم من كان له
إمام فقراءة الإمام له قراءة.
ومن باب ما يجزي
الأُمي والأعجمي من القراءة
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن
الجراح حدثنا سفيان الثوري، عَن أبي خالد الدالاني عن
إبراهيم السكسكي عن عبد الله بن أبي أوفى قال جاء رجل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني لا أستطيع أن آخذ من
القرآن شيئا فعلمني ما يجزيني قال: سبحان الله والحمد لله
ولا إله إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله؛
قال يا رسول الله هذا لله فما لي؟ قال قل اللهم ارحمني
وعافني واهدني وارزقني.
قلت الأصل أن الصلاة لا تجزي إلاّ بقراءة فاتحة الكتاب
لقوله صلى الله عليه وسلم: لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب،
ومعقول أن وجوب قراءة فاتحة الكتاب إنما هو على من أحسنها
دون من لا يحسنها فإذا كان المصلي لا يحسنها وكان يحسن
شيئا من القرآن غيرها كان عليه أن يقرأ منه قدر سبع آيات
لأن أولى الذكر بعد فاتحة الكتاب ما كان مثلاً لها من
القرآن. فإن كان رجل ليس في وسعه أن يتعلم شيثا من القرآن
لعجز في طبعه أو سوء حفظه أو عجمة لسان أو آفة تعرض له كان
أولى الذكر بعد القرآن ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم
من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: أفضل
الذكر بعد كلام الله عز وجل سبحان الله والحمد لله ولا إله
إلاّ الله والله أكبر.
(1/207)
ومن باب كيف يضع
ركبتيه قبل يديه
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي والحسين بن عيسى قالا:
حَدَّثنا يزيد بن هارون حدثنا شريك عن عاصم بن كليب عن
أبيه عن وائل بن حجر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل
ركبتيه.
قلت واختلف الناس في هذا فذهب أكثر العلماء إلى وضع
الركبتين قبل اليدين وهذا أرفق بالمصلي وأحسن في الشكل وفي
رأي العين.
وقال مالك يضع يديه قبل ركبتيه، وكذلك قال الأوزاعي
وأظنهما ذهبا إلى الحديث الآخر وقد رواه أبو داود في هذا
الباب.
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد العزيز بن
محمد حدثنا محمد بن عبد الله بن الحسن، عَن أبي الزناد عن
الأعرج، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه
قبل ركبتيه.
قلت: حديث وائل بن حجر أثبت من هذا وزعم بعض العلماء أن
هذا منسوخ وروى فيه خبراً عن سلمة بن كهيل عن مصعب بن سعد
قال كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين قبل
اليدين.
ومن باب الإقعاء بين السجدتين
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين حدثنا حجاج بن محمد عن
ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع طاوسا يقول قلنا لابن
عباس في الاقعاء على القدمين في السجود فقال هي السنة قال
قلنا إنا لنراه جفاء بالرجل فقال ابن عباس هي سنة نبيك صلى
الله عليه وسلم.
قلت أكثر الأحاديث على النهي عن الاقعاء في الصلاة، وروي
أنه عقبة الشيطان وقد ثبت من حديث وائل بن حجر وحديث أبي
حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم
(1/208)
قعد بين السجدتين مفترشا قدمه اليسرى.
ورويت الكراهة في الإقعاء عن جماعة من الصحابة وكرهه
النخعي ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وهو
قول أصحاب الرأي وعامة أهل العلم.
وتفسير الاقعاء أن يضع اليتيه على عقبيه ويقعد مستوفزا غير
مطمئن إلى الأرض وكذلك إقعاء الكلاب والسباع إنما هو أن
تقعد على مآخيرها وتنصب أفخاذها.
قال أحمد بن حنبل وأهل مكة يستعملون الاقعاء، وقال طاوس
رأيت العبادلة يفعلون ذاك ابن عمر وابن عباس وابن الزبير،
وروي عن ابن عمر أنه قال لبنيه لا تقتدوا بي في الإقعاء
فإني إنما فعلت هذا حين كبرت. ويشبه أن يكون حديث ابن عباس
منسوخا والعمل على الأحاديث الثابتة في صفة صلاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
ومن باب ما يقول
إذا رفع رأسه من الركوع
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن سمي، عَن أبي صالح
السمان، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك
الحمد فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من
ذنبه.
قلت في هذا دلالة على أن الملائكة يقولون مع المصلي هذا
القول ويستغفرون ويحضرونة بالدعاء والذكر. واختلف الناس
فيما يقوله المأموم إذا رفع رأسه من الركوع فقالت طائفة
يقتصر على ربنا لك الحمد وهو الذي جاء به الحديث لا يزيد
عليه وهو قول الشعبي وإليه ذهب مالك وأحمد بن حنبل.
وقال أحمد إلى هذا انتهى أمرالنبي صلى الله عليه وسلم
وقالت طائفة يقول سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد
يجمع بينهما هذا قول ابن سيرين وعطاء، وإليه ذهب الشافعي
(1/209)
وهو مذهب أبي يوسف ومحمد.
قلت وهذه الزيادة وإن لم تكن مذكورة في الحديث نصا فإنها
مأمور بها الإمام، وقد جاء إنما جعل الإمام ليؤتم به فكان
هذا في جميع أقواله وأفعاله والإمام يجمع بينهما، وكذلك
المأموم وإنما كان القصد بما جاء في هذا الحديث مداركة
الدعاء والمقارنة بين القولين ليستوجب بها دعاء الإمام وهو
قوله سمع الله لمن حمده ليس بيان كيفية الدعاء والأمر
باستيفاء جميع ما يقال في ذلك المقام إذ قد وقعت الغنية
بالبيان المتقدم فيه.
ومن باب صلاة من لا يقيم
صلبه في الركوع والسجود
قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى حدثنا يحيى بن سعيد عن
عبيد الله حدثني سعيد ابن أبي سعيد عن أبيه، عَن أبي هريرة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى
ثم جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع
الرجل فصلى كما كان صلى ثم جاء إلى النبي فقال له ارجع فصل
فإنك لم تصل حتى فعل ذلك ثلاث مرات فقال الرجل والذي بعثك
بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني، قال إذا قمت إلى الصلاة
فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القران ثم اركع حتى تطمئن
راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا
ثم اجلس حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها.
قلت قوله ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ظاهره الإطلاق
والتخيير، والمراد منه فاتحة الكتاب لمن أحسنها لا يجزيه
غيرها بدليل قوله لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب، وهذا في
الإطلاق كقوله تعالى {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج
(1/210)
فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] ثم كان
أقل ما يجزي من الهدي معيناً معلوم المقدار ببيان السنة
وهو الشاة.
وفي قوله ثم افعل ذلك في صلاتك كلها دليل على أن عليه أن
يقرأ في كل ركعة كما كان عليه أن يركع ويسجد في كل ركعة.
وقال أصحاب الرأي إن شاء أن يقرأ في الركعتين الأخرين قرأ
وإن شاء أن يسبح سبح وإن لم يقرأ فيهما شيئا اجزأه.
ورووا فيه عن علي بن أبي طالب أنه قال يقرأ في الأوليين
ويسبح في الأخرين من طريق الحارث عنه.
قلت وقد تكلم في الحارث قديما وممن طعن فيه الشعبي ورماه
بالكذب وتركه أصحاب الصحيح ولوصح ذلك عن علي رضي الله عنه
لم يكن حجة لأن جماعة من الصحابة قد خالفوه في ذلك منهم
أبو بكر وعمر وابن مسعود وعائشة وغيرهم، وسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم أولى ما اتبع بل قد ثبت عن علي رضي
الله عنه من طريق عبيد الله بن أبي رافع أنه كان يأمر أن
يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة وفي
الأخريين بفاتحة الكتاب.
حدثنا محمد بن المكي حدثنا الصايغ حدثنا سعيد بن منصور
حدثنا عبد الرحمن بن زياد حدثنا شعبة عن سفيان بن حسين
سمعت الزهري يحدث عن ابن أبي رافع عن أبيه عن علي رضي الله
عنه بذلك.
وفيه دليل على أن صلاة من لم يقم صلبه في الركوع والسجود
غير مجزية.
وفي قوله إذا قمت إلى الصلاة فكبر دليل على أن غير التكبير
لا يصح به افتتاح الصلاة لأنه إذا افتتحها بغيره كان
الأمربالتكبير قائماً لم يمتثل.
(1/211)
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا
هشام بن عبد الملك والحجاج بن منهال قالا: حَدَّثنا همام
حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن علي بن يحيى بن
خلاد عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم إنه لا يتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما
أمره الله فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه
ورجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله ويحمده ثم يقرأ من القرآن
ما أذن له فيه وساق الحديث إلى أن قال ثم يسجد فيمكن وجهه.
قال هشام وربما قال جبهته من الأرض.
قلت فيه من الفقه أن ترتيب الوضوء وتقديم ما قدمه الله في
الذكر منه واجب وذلك معنى قوله حتى يسبغ الوضوء كما أمره
الله ثم عطف عليه بحرف الفاء الذي يقتضي التعقيب من غير
تراخ.
وفيه دليل على أن السجود لا يجزي على غير الجبهة وأن من
سجد على كور العمامة ولم يسجد معها على شيء من جبهته لم
تجزئه صلاته.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن جعفر بن عبد
الله الأنصاري عن تميم بن محمود عن عبد الرحمن بن شبل قال
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب وافتراش
السبع وأن يُوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعيرُ.
قوله نقرة الغراب هي أن لا يتمكن الرجل من السجود فيضع
جبهته على الأرض حتى يطمئن ساجدا وإنما هو أن يمس بأنفه
أوجبهته الأرض كنقرة الطائر ثم يرفعه، وافتراش السبع أن
يمد ذراعيه على الأرض لا يرفعهما ولا يجافي مرفقيه عن
جنبيه.
وأما إيطان البعير ففيه وجهان أحدهما أن يألف الرجل مكانا
معلوماً من المسجد
(1/212)
لا يصلي إلاّ فيه كالبعصلا يأوي من عطنه
إلاّ إلى مبرك دمث قد أوطنه واتخذه منلخا لا يبرك إلاّ
فيه.
والوجه الآخر أن يبرك على ركبتيه قبل يديه إذا أراد السجود
بروك البعير على المكان الذي أوطنه وأن لا يهوي في سجوده
فيثني ركبتيه حتى يضعهما بالأرض على سكون ومهل.
ومن باب ما يقول في ركوعه
وسجوده
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا ابن المبارك عن
موسى بن أيوب عن عمه عن عقبة بن عامر قال لما نزلت {فسبح
باسم ربك العظيم} [الواقعة: 74] قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت {سبح اسم ربك
الأعلى} [الأعلى: 1] قال اجعلوها في سجودكم.
قلت في هذا دلالة على وجوب التسبيح في الركوع والسجود لأنه
قد اجتمع في ذلك أمر الله وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم
وترتيبه في موضعه من الصلاة فتركه غير جائز وإلى إيجابه
ذهب إسحاق. ومذهب أحمد قريب منه. وروي عن الحسن البصري
نحوا منه، فأما عامة الفقهاء مالك وأصحاب الرأي والشافعي
فانهم لم يروا تركه مفسدا للصلاة.
ومن باب في الدعاء في الركوع
والسجود
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن سليمان بن سحيم
عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن أبيه عن ابن عباس أن
النبي صلى الله عليه وسلم كشف الستارة والناس صفوف خلف أبي
بكر رضي الله عنه فقال أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات
النبوة إلا الرؤ يا الصالحة يراها المسلم أوترى له وإني
نهيت أن اقرأ راكعا أو
(1/213)
ساجدا، فأما الركوع فعظموا الرب فيه، وأما
السجود فاجتهدوا بالدعاء فَقَمِن أن يستجاب لكم.
قلت نهيه عن القراءة راكعا أو ساجدا يشد قول إسحاق ومذهبه
في إيجاب الذكر في الركوع والسجود وذلك أنه إنما أُخلي
موضعهما من القراءة ليكون محلا للذكر والدعاء، وقوله قمن
بمعنى جدير وحري أن يستجاب لكم.
قال أبو داود: حدثنا ابن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور،
عَن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة قالت كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا
وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن.
قلت قولها يتأول القرآن تريد قوله فسبح بحمد ربك إنه كان
تواباً.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبدة
عن عبيد الله عن محمد بن يحيى بن حبان عن عبد الرحمن
الأعرج، عَن أبي هريرة عن عائشة قالت: فقدت رسول الله صلى
الله عليه وسلم ذات ليلة فلمست المسجد فإذا هو ساجد وقدمه
منصوبتان ويقول أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من
عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على
نفسك.
قلت في هذا الكلام معنى لطيف وهوأنه قد استعاذ بالله وسأله
أن يجيزه برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته والرضاء
والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والمؤاخذة بالعقوبة
فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له وهو الله سبحانه استعاذ به
منه لا غير، ومعنى ذلك الاستغفار من التقصير في بلوغ
الواجب من حق عبادته والثناء عليه، وقوله لا أحصي ثناء
عليك أي لا أطيقه ولا أبلغه وفيه إضافة الخير والشر معاً
إليه سبحانه.
(1/214)
ومن باب أعضاء
السجود
قال أبو داود: حدثنا النُفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق
عن التميمي الذي يحدث التفسير عن ابن عباس قال أتيت النبي
صلى الله عليه وسلم من خلفه فرأيت بياض إبطيه وهو مُجَخٍّ
قد فرج يديه.
قوله مجخ يريد أنه قد رفع مؤخره ومال قليلا هكذا يفسر.
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا عباد بن راشد
حدثنا الحسن حدثنا أحمد بن جزء صاحب النبي صلى الله عليه
وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد جافى عضديه
عن جنبيه حتى نأوي له.
قوله نأوي له معناه حتى نرق له قال أويت للرجل آوي له إذا
أصابه شيء فرثيت له.
ومن باب البكاء في الصلاة
قال أبو داود: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام حدثنا
يزيد بن هارون أنا حماد بن سلمة عن ثابت عن مطرف عن أبيه،
قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز
كأزيز الرحاء من البكاء.
قلت أزيز الرحاء صوتها وجرجرتها وفيه من الفقه أن البكاء
في الصلاة لا يفسدها.
ومن باب الفتح على الإمام
قال أبو داود: حدثنا يزيد بن محمد حدثنا هشام بن إسماعيل
حدثنا محمد بن شعيب حدثنا عبد الله بن العلاء بن زَبْر عن
سالم بن عبد الله عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم
صلى صلاة فقرأ فيها فلُبّس عليه فلما انصرف قال لأُبَيّ
صليت معنا قال نعم قال فما منعك.
(1/215)
قلت معقول أنه إنما أراد به ما منعك أن
تفتح عليَّ إذ رأيتني قد لبس عليّ، وفيه دليل على جواز
تلقين الإمام.
قال أبو داود: حدَّثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا محمد بن
يوسف الفريابي عن يونس بن أبي إسحاق، عَن أبي إسحاق عن
الحارث عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: يا علي لا تفتح علي الإمام في الصلاة.
قلت إسناد حديث أُبي جيد وحديث عليّ هذا رواية الحارث وفيه
مقال، وقال داود أبو إسحاق سمع من الحارث أربعة أحاديث ليس
هذا منها. وقد روي عن علي رضي الله عنه نفسه أنه قال إذا
استطعمكم الإمام فأطعموه من طريق أبي عبد الرحمن السلمي
يريد أنه إذا تعايا في القراءة فلقنوه.
واختلف الناس في هذه المسألة فروي عن عثمان بن عفان وابن
عمر رضي الله عنهما أنهما كانا لا يريان به بأسا، وهو قول
عطاء والحسن وابن سيرين ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل
وإسحاق. وروي عن ابن مسعود الكراهة في ذلك وكرهه الشعبي،
وكان سفيان الثوري يكرهه. وقال أبوحنيفة إذا استفتحه
الإمام ففتحه عليه فإن هذا كلام في الصلاة.
ومن باب النظر في الصلاة
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا سفيان بن
عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت صلى النبي صلى الله
عليه وسلم في خَميصة لها أعلام فقال شغلتني أعلام هذه
اذهبوا بها إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانيته.
الخميصة كساء مربع من صوف والانبجانية أراها منسوبة وهي
إلى الغلظ لا علم لها.
(1/216)
وفي الحديث دلالة على أنه إذا استثبت خطاً
مكتوبا وهو في الصلاة لم تفسد صلاته وذلك لأنه يشغله علم
الخميصة عن صلاته حتى يتأمله بالنظر إليه.
ومن باب العمل في الصلاة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عامر بن عبد الله
هو ابن الزبير عن عمرو بن سليم، عَن أبي قتادة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أُمامةَ بنت
زينب، بنت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا سجد وضعها وإذا
قام حملها.
قلت يشبه أن يكون هذا الصنيع من رسول الله لا عن قصد وتعمد
له في الصلاة فلعل الصبية لطول ما ألفته واعتادته من
ملابسته في غير الصلاة كانت تتعلق به حتى تلابسه وهو في
الصلاة فلا يدفعها عن نفسه ولا يبعدها فإذا أراد أن يسجد
وهي علىعاتقه وضعها بأن يحطها أو يرسلها إلى الأرض حتى
يفرغ من سجوده فإذا أراد القيام وقد عادت الصبية إلى مثل
الحالة الأولى لم يدافعها ولم يمنعها حتى إذا قام بقيت
محمولة معه هذا عندي وجه الحديث. ولا يكاد يتوهم عليه أنه
كان يعتمد لحملها ووضعها وإمساكها في الصلاة تارةً بعد
أخرى لأن العمل في ذلك قد يكثر فيتكرر والمصلي يشتغل بذلك
عن صلاته ثم ليس في شيء من ذلك أكثر من قضائها وطراً من
لعب لا طائل له ولا فائدة فيه. وإذا كان علم الخميصة يشغله
عن صلاته حتى يستبدل بها الانبجانية فكيف لا يشتغل عنها
بما هذا صفته من الأمر وفي ذلك بيان ما تأولناه والله
أعلم.
وفي الحديث دلالة على أن لمس ذوات المحارم لا ينقض الطهارة
وذلك أنها لا تلابسه هذه الملابسة إلاّ وقد تمسه ببعض
أعضائها.
(1/217)
وفيه دليل على أن ثياب الأطفال وأبدانهم
على الطهارة ما لم يعلم نجاسة.
وفيه أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة، وفيه أن الرجل إذا
صلى وفي كمه متاع أو على رقبته كارة ونحوها فإن صلاته
مجزية.
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا علي بن المبارك
حدثنا يحيى بن أبي كثير عن ضمضم بن جَوس، عَن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقتلوا الأسودين
في الصلاة الحية والعقرب.
قلت فيه دلالة على جواز العمل اليسير في الصلاة وأن موالاة
الفعل مرتين في حال واحدة لا تفسد الصلاة. وذلك أن قتل
الحية غالباً إنما يكون بالضربة والضربتين فإذا تتابع
العمل وصار في حد الكثرة بطلت الصلاة.
وفي معنى الحية والعقرب كل ضرار مباح القتل كالزنابير
والنشبان ونحوهما، ورخص عامة أهل العلم في قتل الأسودين في
الصلاة إلاّ إبراهيم النخعي. والسنة أولى ما اتبع.
ومن باب رد السلام
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا
عاصم، عَن أبي وائل عن عبد الله قال قدمت على رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت فلم يرد عليّ السلام
فأخذني ما قَدُم وما حدُث فلما قضى رسول الله صلى الله
عليه وسلم الصلاة قال: إن الله يحدث من أمره ما شاء وإن
الله قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة ورد عليّ السلام.
قوله ما قدم وما حدث معناه الحزن والكآبة، يريد أنه قد
عاوده قديم الأحزان واتصل بحديثها، واختلف الناس في المصلي
يسلم عليه فرخصت طائفة في الرد وكان سعيد بن المسيب لا يرى
بذلك بأساً، وكذلك الحسن البصري
(1/218)
وقتادة، وروي، عَن أبي هريرة أنه كان إذا
سلم عليه وهو في الصلاة رده حتى يسمع، وروي عن جابر نحو من
ذلك.
وقال أكثر الفقهاء لا يرد السلام، وروي عن ابن عمر أنه قال
يرد إشارة. وقال عطاء والنخعي وسفيان الثوري إذا انصرف من
الصلاة رد السلام. وقال أبوحنيفة لا يرد السلام ولا يشير.
قلت رد السلام في الصلاة قولاً ونطقاً محظور ورده بعد
الخروج من الصلاة سنة، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم
على ابن مسعود بعد الفراغ من صلاته السلام. والإشارة حسنة،
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشار في الصلاة،
وقد رواه أبو داود في هذا الباب.
قال أبو داود: وحدثنا يزيد بن خالد بن موهب وقتيبة بن سعيد
أن الليث حدثهم عن بكير عن نايل صاحب العباء عن ابن عمر عن
صهيب أنه قال: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
يصلي فسلمت عليه فرد إشارة. قال قتيبة: ولا أعلمه إلاّ قال
إشارة بأصبعه.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن بن
مهدي عن سفيان، عَن أبي مالك الأشجعي، عَن أبي حازم، عَن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا غِرار في
صلاة ولا تسليم. قال أحمد، يَعني أن لا تسلم ولا يسلم عليك
ويغرّر الرجل بصلاته فينصرف وهوفيها شاك.
قلت أصل الغرار نقصان لبن الناقة، يقال غارت الناقة غراراً
فهي مغار إذا نقص لبنها، فمعنى قوله لا غرارأي لا نقصان في
التسليم. ومعناه أن ترد كما يسلم عليك وافيا لا نقص فيه
مثل أن يقال السلام عليكم ورحمة الله فيقول
(1/219)
عليكم السلام ورحمة الله، ولا يقتصر على أن
يقول السلام عليكم أو عليكم حسب، ولا ترد التحية كما
سمعتها من صاحبك فتبخسه حقه من جواب الكلمة.
وأما الغرار في الصلاة فهو على وجهين أحدهما أن لا يتم
ركوعه وسجوده والآخر أن يشك هل صلى ثلاثا أو أربعا فيأخذ
بالأكثر ويترك اليقين وينصرف بالشك، وقد جاءت السنة في
رواية أبي سعيد الخدري أنه يطرح الشك ويبني على اليقين
ويصلي ركعة رابعة حتى يعلم أنه قد أكملها أربعا.
ومن باب تشميت العاطس
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن حجاج الصواف حدثنا
يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار
عن معاوية بن الحكم السلمي، قال صليت مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم فعطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني
القوم بأبصارهم فقلت واثكل أماه ما شأنكم تنظرون إلي
فجعلوا يضربون أيديهم على أفخاذهم فعلمت أنهم يصمتونني
فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي ما ضربني
ولا كهرني ولا سبني، ثم قال إن هذه الصلاة لا يصلح فيها
شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن
أو كما قال قلت يا رسول الله إنا قوم حديث عهد بجاهلية وقد
جاءنا الله بالإ سلام ومنا رجال يأتون الكهان، قال فلا
تأتهم، قال: قلت ومنا رجال يتطيرون قال ذلك شيء يجدونه في
صدورهم فلا يضرهم. قلت ومنا رجال يخطُّون قال كان نبى من
الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذلك. قلت جارية لي كانت ترعى
غنيمات قبل أحد والجوانية إذ اطلعت عليها اطّلاعة فإذا
الذئب قد ذهب بشاة منها وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون
لكني صككتها صكة فعظم ذلك على رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقلت أفلا
(1/220)
أعتقها فقال آتيني بها، فقال فجئت بها فقال
أين الله قالت في السماء قال من أنا قالت أنت رسول الله
قال اعتقها فإنها مؤمنة.
قلت في هذا الحديث من الفقه أن الكلام ناسيا في الصلاة لا
يفسد الصلاة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه أحكلم
الصلاة وتحريم الكلام فيها، ثم لم يأمره بإعادة الصلاة
التي صلاها معه وقد كان تكلم بما تكلم به ولا فرق بين من
تكلم جاهلا بتحريم الكلام عليه، وبين من تكلم ناسيا لصلاته
في أن كل واحد منهما قد تكلم والكلام مباح له عند نفسه.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فممن قال يبني على صلاته
إذا تكلم ناسيا أو جاهلا الشعبي والأوزاعي ومالك والشافعي.
وقال النخعي وحماد بن أبي سليمان وأصحاب الرأي إذا تكلم
ناسيا استقبل الصلاة، وفرق أصحاب الرأي بين أن يتكلم ناسيا
وبين أن يسلم ناسيا فلم يوجبوا عليه الإعادة في السلام كما
أوجبوها عليه في الكلام.
وقال الأوزاعي من تكلم في صلاته عامدا بشي يرد به إصلاح
صلاته لم تبطل صلاته. وقال في رجل صلى العصر فجهر بالقرآن
فقال رجل من ورائه إنها العصر لم تبطل صلاته.
وفي الحديث دليل على أن المصلي إذا عطس فشمته رجل فإنه لا
يجيبه.
واختلفوا إذا عطس وهو في الصلاة هل يحمد الله فقالت طائفة
يحمد الله. روي عن ابن عمر أنه قال: العاطس في الصلاة يجهر
بالحمد؛ وكذلك قال النخعي وأحمد بن حنبل. وهو مذهب الشافعي
إلاّ أنه يستحب أن يكون ذلك في نفسه.
وقوله ما كهرني معناه ما انتهرني ولا أغلظ لي، وقيل الكهر
استقبالك الإنسان
(1/221)
بالعبوس. وقرأ بعض الصحابة فأما اليتيم فلا
تكهر.
وقوله في الطيرة ذلك شيء عفي نفوسهم فلا يضرهم يريد أن ذلك
شيء يوجد في النفوس البشرية وما يعتري الإنسان من قبل
الظنون والأوهام من غير أن يكون له تأثير من جهة الطباع أو
يكون فيه ضرر كما كان يزعمه أهل الجاهلية.
وقوله وهنا رجال يخطون فإن الخط عند العرب فيما فسره ابن
الأعرابي أن يأتي الرجل العراف وبين يديه غلام فيأمره بأن
يخط في الرمل خطوطا كثيرة وهو يقول ابني عيان اسرعا البيان
ثم يأمره أن يمحو منها اثنين اثنين ثم ينظر إلى آخر ما
يبقى من تلك الخطوط فإن كان الباقي منها زوجا فهو دليل
الفلح والظفر وإن كان فردا فهو دليل الخيبة واليأس.
وقوله فمن وافق خطمفذلك يشبه أن يكون أراد به الزجر عنه
وترك التعاطي له إذ كانوا لا يصادقون معنى خط ذلك النبي
لأن خطه كان علما لنبوته وقد انقطعت نبوته فذهبت معالمها.
وقوله آسف كما يأسفون معناه أغضب كما يغضبون ومن هذا قوله
سبحانه {فلما آسفونا انتقمنا منهم} [الزخرف: 55] وأما قول
النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها فإنها مؤمنة ولم يكن ظهر
له من إيمانها أكثر من قوله حين سألها أين الله فقالت في
السماء وسألها من أنا فقالت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فإن هذا السؤال عن امارة الإيمان وسمة أهله وليس بسؤال عن
أصل الإيمان وصفة حقيقته ولو أن كافرا يريد الانتقال من
الكفر إلى دين الإسلام فوصف من الإيمان هذا القدر الذي
تكلمت به الجارية لم يصر به مسلما حتى يشهد أن لا إله إلاّ
الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبرى من
دينه الذي كان يعتقده، وإنما هذا كرجل وامرأة يوجدان في
بيت فيقال للرجل من هذه منك
(1/222)
فيقول زوجتي وتصدقه المرأة فإنا نصدقهما في
قولهما ولا نكشف عن أمرهما ولا نطالبهما بشرائط عقد
الزوجية حتى إذا جاءانا وهما أجنبيان يريدان ابتداء عقد
النكاح بينهما فإنا نطالبهما حينئذ بشرائط عقد الزوجية من
إحضار الولي والشهود وتسمية المهر. كذلك الكافر إذا عرض
عليه الإسلام لم يقتصر منه على أن يقول إني مسلم حنتى يصف
الإيمان بكماله وشرائطه وإذا جاءنا من نجهل حاله بالكفر
والإيمان فقال إني مسلم قبلناه، وكذلك إذا رأينا عليه
أمارة المسلمين من هيئة وشارة ونحوهما حكمنا بإسلامه إلى
أن يظهر لنا منه خلاف ذلك.
ومن باب التأمين وراء الإمام
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد
بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهما أخبراه، عَن أبي
هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أمن
الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له
ما تقدم من ذنبه. قال ابن شهاب فكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول آمين.
قلت فيه دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يجهر بآمين ولولا جهره به لم يكن لمن يتحرى متابعته في
التأمين على سبيل المداركة طريق إلى معرفته فدل أنه كان
يجهر به جهرا يسمعه من وراءه، وقد روى وائل بن حجر أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ ولا الضالين قال آمين
ورفع بها صوته، ورواه أبو داود بإسناده في هذا الباب.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن سُمي مولى أبي
بكر، عَن أبي صالح السمان، عَن أبي هريرة أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا
الضالين فقولوا آمين.
(1/223)
قلت قد احتج به من ذهب إلى أنه لا يجهر
بآمين، وقال ألا ترى أنه جعل وقت فراغ الإمام من قوله ولا
الضالين وقتا لتأمين القوم فلو كان الإمام يقوله جهرا
لاستغني بسماع قوله عن التحين له مراعاة وقته.
وقته قلت وهذا قد كان يجوز أن يستدل به لو لم يكن ذلك
مذكورا في حديث وائل بن حجر الذي تقدم ذكره وإذا كان كذلك
لم يكن فيما استدلوا به طائل. وقد يكون معناه الأمر به
والحض عليه إذا نسيه الإمام يقول لا تغفلوه إذا أغفله
الإمام ولا تتركوه إن نسيه وأمنوا لأنفسكم لتحرزوا به
الأجر.
قلت وقوله إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين معناه
قولوا مع الإمام حتى يقع تأمينكم وتأمينه معاً، فأما قوله
إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه لا يخالفه ولا يدل على أنهم
يؤخرونه عن وقت تأمينه وإنما هو كقول القائل إذا رحل
الأمير فارحلوا يريد إذا أخذ الأمير في الرحيل فتهيؤوا
للارتحال ليكون رحيلكم مع رحيله، وبيان هذا في الحديث
الآخر أن الإمام يقول آمين والملائكة تقول آمين فمن وافق
تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه فأحب أن
يجتمع التأمينان في وقت واحد رجاء المغفرة.
ومن باب صلاة القاعد
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا حسين المعلم عن
عبد الله بن بريدة عن عمران بن حصين أنه سأل النبي صلى
الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعداً فقال: صلاته قائماً
أفضل من صلاته قاعداً وصلاته قاعداً على النصف من صلاته
قائماً وصلاته نائما على النصف من صلاته قاعداً.
قوله صلاته قاعداً على النصف من صلاته قائماً وصلاته نائما
على النصف من
(1/224)
صلاته قاعداً إنما هو في التطوع دون الفرض
لأن الفرض لا جواز له قاعداً والمصلي يقدر على القيام وإذا
لم يكن له جواز لم يكن لشيء من الأجر ثبات.
وأما قوله وصلاته نائما على النصف من صلاته قاعداً فإني لا
أعلم أني سمعته إلاّ في هذا الحديث ولا أحفظ عن أحد من أهل
العلم أنه رخص في صلاة التطوع نائما كما رخصوا فيها قاعداً
فإن صحت هذه اللفظة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن
من كلام بعض الرواة أدرجه في الحديث وقاسه على صلاة القاعد
أو اعتبر بصلاة المريض نائما إذا لم يقدر على القعود فإن
التطوع مضطجعا للقادر على القعود جائز كما يجوز أيضاً
للمسافر إذا تطوع على راحلته، فأما من جهة القياس فلا يجوز
له أن يصلي مضطجعا كما يجوز له أن يصلي قاعداً لأن القعود
شكل من أشكال الصلاة وليس الاضطجاع في شيء من أشكال
الصلاة.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا وكيع
عن إبراهيم بن طَهمان عن حسين المعلم، عَن أبي بريدة عن
عمران بن حصين قال كان بي الناصور فسألت النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فان لم
تستطع فعلى جنب.
قلت وهذا في الفريضة دون النافلة أقام له القعود مقام
القيام عند العجز عنه وأقام صلاته نائما عند العجز عن
القعود مقام القعود.
واختلفوا فيه إذا صلى نائما أي واقعا بالأرض كيف يصلي،
فقال أصحاب الرأي يصلي مستلقيا ورجله إلى القبلة.
وقال الشافعي يصلي على جنبه متوجها إلى القبلة على ما جاء
في الحديث.
(1/225)
ومن باب كيف الجلوس
في التشهد
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل عن عاصم بن
كليب عن أبيه عن وائل بن حجر وذكر صلاة رسول الله وساق
القصة إلى أن قال ثم جلس فافترش رجله اليسرى ووضع يده
اليسرى على فخذه اليسرى وحد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى
وقبض ثنتين وحلق حلقة ورأيته يقول هكذا وحلق بشر الإبهام
والوسطى وأشار بالسبابة.
قلت في هذا الحديث إثبات الإشارة بالسبابة، وكان بعض أهل
المدينة لا يرى التحليق وقال يقبض أصابعه الثلاث ويشير
بالسبابة، وكان بعضهم يرى أن يحلق فيضع أنمله الوسطى بين
عقدي الإبهام وإنما السنة أن يحلق برؤوس الأنامل من
الإبهام والوسطى حتى يكون كالحلقة المستديرة لا يفضل من
جوانبها شيء.
ومن باب التشهد
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سليمان الأعمش
حدثنا شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود قال: كنا إذا
جلسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا
السلام على الله قبل عباده السلام على فلان وفلان فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا السلام على الله
فإن الله هو السلام ولكن إذا جلس أحدكم فليقل (التحيات لله
والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله
وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) فإنكم إذا
قلتم ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض أو بين السماء
والأرض (أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله)
ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به.
قلت قوله التحيات لله فيه إيجاب التشهد لأن الأمرعلى
الوجوب.
(1/226)
وفي قوله عند الفراغ من التشهد ثم ليتخير
من الدعاء أعجبه إليه دليل على أن الصلاة على النبي صلى
الله عليه وسلم ليست بواجبة في الصلاة ولوكانت واجبة لم
يخل مكانها منها ويخيره بين ما شاء من الأذكار والأدعية
فلما وكل الأمر في ذلك إلى ما يعجبه منها بطل التعيين.
وعلى هذا قول جماعة الفقهاء إلاّ الشافعي فإنه قال الصلاة
على النبي في التشهد الأخير واجبة فإن لم يصل عليه بطلت
صلاته؛ وقد قال إسحاق بن راهويه نحوا من ذلك أيضاً ولا
أعلم للشافعي في هذا قدوة وأصحابه يحتجون في ذلك بحديث كعب
بن عجرة وقد رواه أبو داود.
قال أبو داود: نا حفص بن عمر أنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي
ليلى عن كعب بن عجرة قال قلنا أو قالوا يا رسول الله
أمرتنا أن نصلي وأن نسلم عليك فأما السلام فقد عرفناه فكيف
نصلي، قال: قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على
إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد، كما باركت على إبراهيم
إنك حميد مجيد.
قالوا فقوله أمرتنا أن نصلي عليك يدل على وجوبه لأن أمره
لازم وطاعته واجبة. وقوله قولوا اللهم صل على محمد أمر ثان
يحب ائتماره ولا يجوز تركه. قالوا وقد أمرالله بالصلاة
عليه فقال: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا
تسليماً} [الأحزاب: 56] فكان ذلك منصرف إلى الصلاة لأنه
إذا صرف إلى غيرها كان ندبا وإن صرف إليها كان فرضاً إذ لا
خلاف أن الصلاة عليه غير واجبة في غير الصلاة فدل على
وجوبها في الصلاة والله أعلم.
واختلفوا في التشهد هل هو واجب أم لا فروي عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه أنه قال من لم يتشهد فلا صلاة له، وبه
قال الحسن البصري وإليه ذهب
(1/227)
الشافعي ومذهب مالك قريب منه.
وقال الزهري وقتادة وحماد إن ترك التشهد حتى انصرف مضت
صلاته.
وقال أصحاب الرأي التشهد والصلاة على رسول الله صلى الله
عليه وسلم مستحب غير واجب والقعود قدر التشهد واجب.
واختلفوا فيما يتشهد به فذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي
وأحمد بن حنبل إلى تشهد ابن مسعود الذي رويناه في هذا
الباب.
وذهب الشافعي إلى تشهد ابن عباس وقد رواه أبو داود.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة نا الليث، عَن أبي الزبيرعن
سعيد بن جبير وطاوس عن ابن عباس أنه قال كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا القرآن فكان يقول
(التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها
النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول
الله) .
وذهب مالك إلى تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو
التحيات لله الزاكيات لله الطيبات لله.
قلت وأصحها إسنادا وأشهرها رجالا تشهد ابن مسعود وإنما ذهب
الشافعي إلى تشهد ابن عباس للزيادة التي فيه، وهي قوله
المباركات ولموافقته القرآن وهو قوله فسلموا على أنفسكم
تحية من عند الله مباركة. طيبة، ثم ان إسناده أيضاً جيد
ورجاله مرضيون.
قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا الحسن بن
الحر عن القاسم بن مُخيمرة، قال أخذ علقمة بيدي فحدثني أن
عبد الله بن مسعود
(1/228)
أخذ بيده وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخذ بيد عبد الله فعلمه التشهد في الصلاة فذكر مثل حديث
الأعمش إذا قلت هذا أو قضيت هذا فقد قضيت صلاتك وإن شئت أن
تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد.
قلت قد اختلفوا في هذا الكلام هل هو من قول النبي صلى الله
عليه وسلم أو من قول ابن مسعود فإن صح مرفوعا إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ففيه دلالة على أن الصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم في التشهد غير واجبة.
وقوله فقد قضيت صلاتك يريد معظم الصلاة من القراءة والذكر
والخفض والرفع وإنما بقي عليه الخروج منها بالسلام فكنى عن
التسليم بالقيام إذ كان القيام إنما يقع عقب السلام ولا
يجوز أن يقوم بغير تسليم لأنه يبطل صلاته لقوله صلى الله
عليه وسلم: تحريمها التكبير وتحليلها التسليم.
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون حدثنا أبو عوانة عن قتادة
[ح] قال وحدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا
هشام عن قتادة عن يونس بن جبيرعن حِطان بن عبد الله
الرقاشي قال صلى بنا أبو موسى الأشعري فلما جلس في صلاته
قال رجل من القوم أقرت الصلاة بالبر والزكاة فلما انفتل
أبو موسى أقبل على القوم فقال أيكم القائل كلمة كذا وكذا،
قال فأرمّ القوم حتى قالها مرتين، قال فلعلك يا حطان أنت
قائلها قال ما قلتها ولقد رهبت أن تبكعني إلى أن قال إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا صلاتنا فقال إذا كبر
الإمام فكبروا وإذا قرأ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}
[الفاتحة: 7] فقولوا آمين يجبكم الله، وإذا كبر وركع
فكبروا واركعوا فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتلك بتلك. وإذا
(1/229)
قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا
لك الحمد يسمع الله لكم فإن الله قال على لسان نبيه سمع
الله لمن حمده وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا فإن الإمام
يسجد قبلكم ويرفع قبلكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فتلك بتلك.
قوله فأرم القوم يريد أنهم سكتوا مطرقين، يقال أرمّ فلان
حتى ما به نطق ومنه قول الشاعر:
* يَردن والليل مرمُّ طائره *
وقوله رهبت أن تبكعني بها أي تجبهني بها أو تبكتني أو نحو
ذلك من الكلام. قال الأصمعي يقال بكعت الرجل بكعا إذا
استقبلته بما يكره.
وأخبرني أحمد بن إبراهيم بن مالك عن محمد بن حاتم المظفري
قال: قال سليمان بن معبد قلت للأصمعي ما قول الناس الحق
مغضَبة فقال ما بني وهل يسأل عن مثل هذا إلاّ رازم قل ما
بُكِعَ أحد بالحق إلاّ اعزنزم له.
وقوله فتلك بتلك فيه وجهان أحدهما أن يكون ذلك مردودا إلى
قوله وإذا قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين
يجبكم الله يريد ان كلمة آمين يستجاب بها الدعاء الذي
تضمنه السورة أو الآية كأنه قال فتلك الدعوة مضمنة بتلك
الكلمة أو معلقة بها أو ما أشبه ذلك من الكلام.
والوجه الآخر أن يكون ذلك معطوفاً على ما يليه من الكلام
وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا يريد أن صلاتكم متعلقة بصلاة
إمامكم فاتبعوه وائتموا به ولا تختلفوا عليه فتلك إنما تصح
وتثبت بتلك. وكذلك الفصل الآخر وهو قوله وإذا قال سمع الله
لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد يسمع الله لكم إلى أن قال
فتلك بتلك يريد والله أعلم أن الاستجابة مقرونة بتلك
الدعوة
(1/230)
وموصولة بها وقوله سمع الله لمن حمده معناه
استجاب الله دعاء من حمده، وهذا من الإمام دعاء للمأموم
وإشارة إلى قوله ربنا لك الحمد فانتظمت الدعوتان إحداهما
بالأخرى فكان ذلك بيان قوله فتلك بتلك. ومعنى قوله يسمع
الله لكم أي يستجيب لكم ومن هذا قول النبي صلى الله عليه
وسلم: اللهم إني أعوذ بك من قول لا يسمع أي لا يستجاب.
قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي حدثنا وكيع
عن سفيان عن عاصم، عَن أبي عثمان عن بلال أنه قال يا رسول
الله لاتسبقني بآمين.
قلت يبشبه أن يكون معناه أن بلالا كان يقرأ بفاتحة الكتاب
في السكتة الأولى من السكتتين فربما بقي عليه الشيء منها
وقد فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قراءة فاتحة
الكتاب فاستمهله بلال في التأمين مقدار ما يتم فيه بقية
السورة حتى يصادف تأمينه تأمين رسول الله صلى الله عليه
وسلم فينال بركته معه والله أعلم.
وقد تأوله بعض أهل العلم على أن بلالا كان يقيم في الموضع
الذي يؤذن فيه وراء الصفوف فإذا قال قد قامت الصلاة كبر
النبي صلى الله عليه وسلم فربما سبقه ببعض ما يقرؤه
فاستمهله بلال قدر ما يلحق القراءة والتأمين.
ومن باب التصفيق في الصلاة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عَن أبي حازم عن سهل
بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو
بن عوف ليصلح بينهم وحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر
فقال أتصلي بالناس فأقيم فقال نعم فصلى أبو بكر فجاء رسول
الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف
في الصف فصفق الناس وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة فلما
أكثر الناس التصفيق التفت فرأى
(1/231)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك فرفع أبو بكر
يديه فحمد الله على ما أمره رسول الله من ذلك، ثم استأخر
أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم رسول الله صلى الله عليه
وسلم فصلى فلما انصرف قال يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ
أمرتك، قال أبو بكر ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ما لي أراكم أكثرتم التصفيح من نابه شيء في صلاته
فليُسبح فإنما التصفيح للنساء.
قلت في هذا الحديث أنواع من الفقه منها تعجيل الصلاة في
أول وقتها ألا ترى أنهم لما حانت الصلاة ورسول الله غائب
لم يؤخروها انتظارا له.
ومنها أن الالتفات في الصلاة لا يبطلها مالم يتحول المصلي
عن القبلة بجميع بدنه ومنها أنه لم يأمرهم بإعادة الصلاة
لما صفقوا بأيديهم.
وفيه أن التصفيق سنة النساء في الصلاة وهومعنى التصفيح
المذكور في آخر الحديث وهو أن يضرب بظهور أصابع اليمنى صفح
الكف من اليسرى. ومنها أن تقدم المصلي عن مصلاه وتأخره عن
مقامه لحاجة تعرض له غيرمفسد صلاته ما لم يطل ذلك.
ومنها إباحة رفع اليدين في الصلاة والحمد لله والثناء عليه
في إضعاف القيام عندما يحدث للمرء من نعمة لله ويتجدد له
من صنع.
وفيه جواز الصلاة بإمامين أحدهما بعد الآخر. ومنها جواز
الائتمام بصلاة من لم يلحق أول الصلاة.
وفيه أن سنة الرجال عندما ينوبهم شيء في الصلاة التسبيح.
وفيه أن المأموم إذا سبح يريد بذلك إعلام الإمام لم يكن
ذلك مفسدا لصلاته.
(1/232)
ومن باب الاختصار في
الصلاة
قال أبو داود: حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي حدثنا محمد بن
سلمة عن هشام عن محمد، عَن أبي هريرة قال نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الاختصار في الصلاة.
قال أبو داود هو أن يضع يده على خاصرته في الصلاة ويقال إن
ذلك من فعل اليهود وقد روي في بعض الأخبار أن إبليس أهبط
إلى الأرض كذلك. وهوشكل من أشكال أهل المصائب يضعون أيديهم
على الخواصر إذا قاموا في المآتم وقيل هو أن يمسك بيده
مخصرة أي عصا يتوكأ عليها.
ومن باب مسح الحصا
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري، عَن أبي
الأحوص شيخ من أهل المدينة أنه سمع أبا ذر يرويه عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن
الرحمة تواجهه فلا يمسح الحصا.
قلت يريد بمسح الحصا تسويته حتى يسجد عليه وكان كثير من
العلماء يكرهون ذلك. وكان مالك بن أنس لا يرى به بأسا
ويسوي الحصا في صلته غير مرة.
ومن باب تخفيف القعود
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن سعد بن
إبراهيم، عَن أبي عبيدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه
وسلم كان في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف قال قلنا
حتى يقوم قال حتى يقوم.
(1/233)
الرضف الحجارة المحماة واحدتها رضفة، ومنه
المثل خذ من الرضفة ما عليها.
ومن باب السهو
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا حماد عن أيوب عن
محمد، عَن أبي هريرة قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر قال فصلى بنا ركعتين
ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد ووضع يده عليها
يعرف في وجهه الغضب ثم خرج سرعان الناس وهم يقولون قصرت
الصلاة وفي الناس أبو بكر وعمر فهاباه أن يكلماه فقام رجل
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميه ذا اليدين فقال يا
رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة قال لم أنس ولم تقصر
الصلاة قال بلى نسيت يا رسول الله فأقبل رسول الله على
القوم فقال أصدق ذو اليدين فأوموا أي نعم فرجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى مقامه فصلى الركعتين الباقيتين ثم
سلم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع وكبر، قال فقيل
لمحمد سلم في السهو؛ قال لم أحفظ من أبي هريرة ولكن نبئت
أن عمران بن حصين قال ثم سلم.
قلت سرعان الناس مفتوحة السين والراء وهم الذين ينفتلون
بسرعة ويقال لهم أيضاً سرعان بكسر السين وسكون الراء وهو
جمع سريع كقوله رعيل ورعلان وأما قولهم سرعان ما فعلت
فالراء منه ساكنة.
وفي الحديث دليل على أن من قال لم أفعل كذا وكان قد فعله
ناسياً أنه غير كاذب.
وفيه من الفقه أن من تكلم ناسيا في صلاته لم تفسد صلاته،
وكذلك من تكلم غير عالم بأنه في الصلاة وذلك أن رسول الله
كان عنده أنه قد أكمل صلاته فتكلم على أنه خارج من الصلاة.
(1/234)
وأما ذو اليدين ومراجعته النبي صلى الله
عليه وسلم فأمره متأول على هذا المعنى أيضاً لأن الزمان
كان زمان نسخ وتبديل وزيادة في الصلاة ونقصان فجرى منه
الكلام في حال قد يتوهم فيها أنه خارج عن الصلاة لا مكان
وقوع النسخ ومجيء القصر بعد الإتمام، وقد دفع قوم هذا
الحديث وزعموا أنه منسوخ وأنه إنما كان هذا قبل تحريم
الكلام في الصلاة ولولا ذلك لم يكن أبو بكر وعمر وسائر
الصحابة وقد علموا أن الصلاة لم تقصر ليتكلموا وقد بقي
عليهم من الصلاة شيء.
قال الشيخ أما النسخ فلا موضع له ههنا لأن نسخ الكلام كان
بمكة وحدوث هذا الأمرإنما كان بالمدينة لأن روية أبو هريرة
وهو متأخر الإسلام. وقد رواه عمران بن حصين وهجرته متأخرة.
فأما كلام أبي بكر وعمر ومن معهما، ففي رواية حماد عن زيد
عن أيوب وهو الذي رواه أبو داود أنهم أوموا أي نعم فدل ذلك
على أن رواية من روى أنهم قالوا نعم إنما هو على المجاز
والتوسع في الكلام كما يقول الرجل، قلت بيدي وقلت برأسي
وكقول الشاعر:
* قالت له العينان سمعاً وطاعة *
ولو صح أنهم قالوه بألسنتهم لم يكن ذلك جائزا لأنه لم ينسخ
من الكلام ما كان جوابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
لقوله تعالى {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}
[الأنفال: 24] وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على
أبي بن كعب وهو يصلي فدعاه فلم يجبه ثم اعتذر إليه وقال له
كنت في الصلاة فقال ألم تسمع الله تعالى يقول {استجيبوا
لله وللرسول} فدل على أن الكلام في الصلاة إذا كان استجابة
لرسول الله غير منسوخ.
(1/235)
وممن قال إن الكلام ناسيا في الصلاة لا
يقطع الصلاة مالك والأوزاعي والشافعي. وقد روي ذلك عن ابن
عباس وابن الزبير، وكذلك قال عطاء، وقال النخعي وحماد
وأصحاب الرأي الكلام في الصلاة ناسيا يقطع الصلاة كالعمل
سواء.
وفي الحديث دليل على أنه إذا سها في صلاة واحدة مرات أجزأه
لجميعها سجدتان وذلك أنه صلى الله عليه وسلم سها فلم يصل
ركعتين وتكلم ناسيا ثم اقتصر على سجدتين وهو قول عامة
الفقهاء.
وحكي عن الأوزاعي والماجشون صاحب مالك أنهما قالا: يلزمه
لكل سهو سجدتان.
ومن باب إذا صلى خمسا
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم المعنى
قالا نا شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله
قال صلى رسول الله الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة فقال
وما ذاك قال صليت خمسا فسجد سجدتين بعدما سلم.
قلت اختلف أهل العلم في هذا الباب فقال بظاهر هذا الحديث
جماعة منهم علقمة والحسن وعطاء والنخعي والزهري ومالك
والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقال
سفيان الثوري إن كان لم يجلس في الرابعة أحب إلي أن يعيد.
وقال أبو حنيفة إن كان لم يقعد في الرابعة قدر التشهد وسجد
في الخامسة فصلاته فاسدة وعليه أن يستقبل الصلاة. وإن كان
قد قعد في الرابعة قدر التشهد فقد تمت له الظهر والخامسة
تطوع وعليه أن يضيف إليها ركعة ثم يتشهد ويسلم ويسجد سجدتي
السهو وتمت صلاته.
(1/236)
قلت متابعة السنة أولى واسناد هذا الحديث
إسناد لا مزيد عليه في الجودة من إسناد أهل الكوفة. وقال
بعض من صار إلى ظاهر الحديث لا يخلو من أن يكون النبي صلى
الله عليه وسلم قعد في الرابعة أو لو يكن قعد، فإن كان قعد
فيها فإنه لم يضف إليها السادسة وإن كان لم يقعد في
الرابعة فإنه لم يستأنف الصلاة ولكن احتسب بها وسجد سجدتين
للسهو فعلى الوجهين جميعا يدخل الفساد على أهل الكوفة فيما
قالوه والله أعلم.
ومن أبواب السهو
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة نا جربر عن منصور
عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب وليتم
عليه ثم يسلم ويسجد سجدتين.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء نا أبو خالد عن ابن
عجلان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عَن أبي سعيد
الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا شك
أحدكم في صلاته فليلق الشك وليبن على اليقين فإذا استيقن
التمام سجد سجدتين فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة
وإن كانت ناقصة كانت الركعة تماما لصلاته وكانت السجدتان
مرغمتي الشيطان.
قال أبو داود: وحدثنا القعنبي عن مالك عن زيد بن أسلم عن
عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا شك
أحدكم في صلاته فلم يدر صلى ثلاثا أو أربعا فليصل ركعة
ويسجد سجدتين وهوجالس قبل التسليم فإن كانت الركعة التي
صلاها خامسة شفعها بها وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم
الشيطان.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب، عَن أبي
سلمة، عَن أبي
(1/237)
هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا
يدري كم صلى فإذا وجد أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عبد
الرحمن الأعرج عن عبد الله بن بحينة أنه قال صلى بنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم قام فلم يجلس فقام
الناس معه فلما قضى صلاته وانتظرنا تسليمه كبر فسجد سجدتين
وهو جالس قبل التسليم ثم سلم.
قلت روى أبو داود في أبواب السهو عدة أحاديث في أكثر
أسانيدها مقال والصحيح منها والمعتمد عند أهل العلم هذه
الأحاديث الخمسة التي ذكرناها.
فأما حديث أبي هريرة فهو حديث مجمل ليس فيه أكثر من أن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسجدتين عند الشك في الصلاة
وليس فيه بيان ما يصنعه من شيء سوى ذلك ولا فيه بيان موضع
السجدتين من الصلاة وحصل الأمر على حديث ابن مسعود وأبي
سعيد الخدري، وحديث ذي اليدين وابن بحينة وعنها تشعبت
مذاهب الفقهاء وعليها بنيت.
فأما حديث ابن مسعود وهو أنه يتحرى في صلاته ويسجد سجدتين
بعد السلام فهو مذهب أصحاب الرأي. ومعنى التحري عندهم غالب
الظن وأكبر الرأي كأنه شك في الرابعة من الظهر هل صلاها أم
لا فإن كان أكبر رأيه أنه لم يصلها أضاف إليها أخرى ويسجد
سجدتين بعد السلام وإن كان أكبر رأيه أنه في الرابعة أتمها
ولم يضف إليها ركعة وسجد سجدتي السهو بعد السلام وهذا إذا
كان يعتريه الشك في الصلاة مرة بعد أخرى فإن كان ذلك أول
ما سها فإن عليه أن يستأنف الصلاة عندهم.
(1/238)
وأما حديث ابن بحينة وذي اليدين فإن مالكا
اعتبرهما جميعاً وبنى مذهبه عليهما في الوهم إذا وقع في
الصلاة فإن كان من زيادة زادها في صلب الصلاة سجد السجدتين
بعد السلام لأن في خبر ذي اليدين أن النبي صلى الله عليه
وسلم سلم عن ثنتين وهو زيادة في الصلاة وإن كان من نقصان
سجدهما قبل السلام لأن في حديث ابن بحينة أن النبي صلى
الله عليه وسلم قام عن ثنتين ولم يتشهد وهذا نقصان في
الصلاة. وذهب أحمد بن حنبل إلى أن كل حديث منها يتأمل صفته
ويستعمل في موضعه ولا يحمل على الخلاف فكان يقول ترك الشك
على وجهين أحدهما إلى اليقين والآخر إلى التحري. فمن رجع
إلى اليقين فهو أن يلقى الشك ويسجد سجدتي السهو قبل السلام
على حديث أبي سعيد الخدري. وإذا رجح إلى التحري وهو أكبر
الوهم سجد سجدتي السهو بعد التسليم على حديث ابن مسعود.
فأما مذهب الشافعي فعلى الجمع بين الأخبار ورد المجمل منها
إلى المفسر والتفسير إنما جاء في حديث أبي سعيد الخدري وهو
قوله فليلق وليبن على اليقين وقوله إذا لم يدر أثلاثا صلى
أو أربعا فليصل ركعة ويسجد سجدتين وهوجالس قبل السلام.
وقوله فإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بهاتين، وإن
كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان.
وهذه فصول في الزيادات حفظها أبو سعيد الخدري دون غيره من
الصحابة، وقبول الزيادات واجب فكان المصير إلى حديثه أولى.
ومعنى التحري المذكور في حديث ابن مسعود عند أصحاب الشافعي
هو البناء على اليقين على ما جاء تفسيره في حديث أبي سعيد
الخدري.
وحقيقة التحري هو طلب أحرى الأمرين وأولاهما بالصواب
وأحراهما ما جاء
(1/239)
في حديث الخدري من البناء على اليقين لما
كان فيه من كمال الصلاة والاحتياط لها، ومما يدل على أن
التحري قد يكون بمعنى اليقين قوله تعالى {فمن أسلم فأولئك
تحروا رشدا} [الجن: 14] .
وأما حديث ذي اليدين وسجوده فيها بعد السلام فإن ذلك محمول
في مذهبهم على السهو لأن تلك الصلاة قد نسبت إلى السهو
فجرى حكم آخرها على مشاكلة حكم ما قد تقدم منها. وقد زعم
بعضبهم أنه منسوخ بخبر ابي سعيد.
وقد روي عن الزهري أنه قال كلٌ فعلَ رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلاّ أن تقديم السجود قبل السلام آخر الأمرين،
وقد ضعف حديث أبي سعيت الخدري قوم زعموا أن مالكا أرسله عن
عطاء بن يسار ولم يذكر فيه أبا سعيد الخدري، وهذا مما
لايقدح في صحته، ومعلوم عن مالك أنه يرسل الأحاديث وهي
عنده مسنده وذلك معروف من عادته وقد رواه أبو داود من طريق
ابن عجلان عن زيد بن أسلم وذكر أن هشام بن سعد أسنده فبلغ
به أبا سعيد. وقد أسنده أيضاً سليمان بن بلال ثناه حمزة بن
الحارث ومحمد بن أحمد بن زيرك قالا: حَدَّثنا عباس الدوري،
قال: حَدَّثنا موسى بن داود حدثنا سليمان بن بلال عن زيد
بن أسلم عن عطاء بن يسار، عَن أبي سعيد الخدري قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا شك أحدكم في صلاته فلم
يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما
استيقن ثم ليسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم فإن كان صلى
خمسا كان شفعا وإن كان صلى تمام الأربع كانت ترغيما
للشيطان.
قال الشيخ ورواه ابن عباس أيضاً حدثونا به عن محمد بن
إسماعيل الصايغ، قال: حَدَّثنا ابن قعنب حدثنا عبد العزيز
بن محمد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار
(1/240)
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر ثلاثا صلى أم
أربعا فليقم فليصل ركعة ثم يسجد سجدتين وهوجالس قبل السلام
فإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بهاتين وإن كانت
رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان.
قلت وفي هذا الحديث بيان فساد قول من ذهب فيمن صلى خمسا
إلي لأنه يضيف إليها سادسة إن كان قد قعد في الرابعة.
واعتلوا بأن النافلة لا تكون ركعة، وقد نص فيه من طريق ابن
عجلان على أن تلك الركعة تكون نافلة ثم لم يأمره بإضافة
أخرى إليها.
ومن باب من صلى لغير القبلة ثم
علم
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل نا حماد عن ثابت
وحميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا
يصلون نحو بيت المقدس فلما نزلت هذه الآية {فول وجهك شطر
المسجد الحرام} [البقرة: 144] الآية فمر رجل من بني سلمة
فإذا هم ركوع في صلاة الفجر نحو بيت المقدس فقال ألا إن
القبلة قد حولت إلى الكعبة مرتين قال فمالوا كما هم ركوعا
إلى الكعبة.
قلت فيه من العلم أن ما مضى من صلاتهم كان جائزا ولولا
جوازه لم يجز البناء عليه.
وفيه دليل على أن كل شيء له أصل صحيح في التعبد ثم طرأ
عليه الفساد
(1/241)
قبل أن يعلم صاحبه به فإن الماضي منه صحيح،
وذلك مثل أن يجد المصلي بثوبه نجاسة لم يكن علمها حتى صلى
ركعة فإنه إذا رأى النجاسة ألقاها عن نفسه وبنى على ما مضى
من صلاته.
وكذلك هذا في المعاملات فلو وكل رجل رجلا فباع الوكيل
واشترى ثم عزله بعد أيام فإن عقوده التي عقدها قبل بلوغ
الخبر إليه صحيحة.
وفيه دليل على وجوب قبول أخبار الآحاد.
باب ومن أبواب الجمعة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن يزيد بن عبد الله
بن الهاد عن محمد بن إبراهيم، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير يوم طلعت فيه
الشمس يوم الجمعة، وساق الحديث إلى أن قال وما من دابة
إلاّ وهي مُسيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس
شفقاً من الساعة إلاّ الجن والإنس.
قوله مسيخة معناه مصغية يقال أصاخ وأساخ بمعنى واحد.
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله نا حسين بن علي عن
عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عَن أبي الأشعث الصنعاني عن
أوس بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكثروا
عليّ من الصلاة فإن صلاتكم معروضة عليّ قالوا يا رسول الله
وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال إن الله تعالى حرم على
الأرض أجساد الأنبياء.
قوله أرمت معناه بليت وأصله أرممتَ أي صرت رميماً فحذفوا
إحدى الميمين
(1/242)
وهي لغة لبعض العرب كما قالت ظلت أفعل كذا
أي ظللت وكما قيل أحسْت بمعنى أحسست في نظائر لذلك، وقد
غلط في هذا بعض من يفسر القرآن برأيه ولا يعبأ بقول أهل
التفسير ولا يعرج عليهم لجهله، فقال إن قوله فظلتم تفكهون
من ظال يظال وهذا شيء اختلقه من قبل نفسه لم يسبق إليه.
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عيسى،
حَدَّثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني عطاء الخراساني
عن مولى امرأته أم عثمان قال سمعت عليا رضي الله عنه على
منبر الكوفة يقول إذا كان يوم الجمعة غدت الشياطين
براياتها إلى الأسواق فيرمون الناس بالبرايث أو الربايث
وذكر الحديث.
قلت البرايث ليس بشيء إنما هو الربائث وأصله من ربّثت
الرجل عن حاجته إذا حبسته عنها، واحدتها ربيثة، وهي تجري
مجرى العلة، والسبب الذي يعوقك عن وجهك الذي تتوجه إليه.
وقوله يرمون الناس إنما هو يربثون الناس كذلك روي لنا في
غير هذا الحديث.
ومن باب جمعة المملوك والمرأة
قال أبو داود:، حَدَّثنا عباس بن عبد العظيم حدثني إسحاق
بن منصور، حَدَّثنا هُريم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر
عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن النبي صلى الله عليه
وسلم: قال الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلاّ أربعة
عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض.
قلت أجمع الفقهاء على أن النساء لا جمعة عليهن. فأما
العبيد فقد اختلفوا فيهم فكان الحسن وقتادة يوجبان على
العبد الجمعة إذا كان مخارجا، وكذلك قال الأوزاعي وأحسب أن
مذهب داود إيجاب الجمعة عليه.
(1/243)
وقد روي عن الزهري أنه قال: إذا سمع
المسافر الأذان فليحضر الجمعة، وعن إبراهيم النخعي نحو من
ذلك.
وفي الحديث دلالة على أن فرض الجمعة من فروض الأعيان وهو
ظاهر مذهب الشافعي؛ وقد علق القول فيه وقال أكثر الفقهاء
هي من فروض الكفاية وليس إسناد هذا الحديث بذلك، وطارق بن
شهاب لا يصح له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ
أنه قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن باب في الجمعة في القرى
قال أبو داود:، حَدَّثنا قتيبة بن سعيد، حَدَّثنا ابن
إدريس عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن
حنيف عن أبيه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك وكان قائد أبيه
بعدما ذهب بصره عن أبيه كعب بن مالك أنه كان إذا سمع
النداء يوم الجمعة ترحم على أسعد بن زرارة فقلت له إذا
سمعت النداء ترحمت لأسعد قال لأنه أول من جمّع بنا في هزم
النَبيتِ من حَرّة بني بَياضةَ في نَقيع يقال له نقيع
الخَضِمات قلت له كم كنتم يومئذ قال أربعون.
النقيع بطن من الأرض يستنقع فيه الماء مدة فإذا نضب الماء
أنبت الكلأ
(1/244)
ومنه حديث عمر رضي الله عنه أنه حمى النقيع
لخيل المسلمين، وقد يصحف أصحاب الحديث0 فيروونه البقيع
بالباء والبقيع بالمدينة موضع القبور.
وفي الحديث من الفقه أن الجمعة جوازها في القرى كجوازها في
المدن والأمصار لأن حرة بني بياضة يقال قرية على ميل من
المدينة، وقد استدل به الشافعي على أن الجمعة لا تجزىء
بأقل من أربعين رجلا أحرارا مقيمين وذلك أن هذه الجمعة
كانت أول ما شرع من الجمعات فكان جميع أوصافها معتبرة فيها
لأن ذلك بيان لمجمل واجب، وبيان المجمل الواجب واجب.
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز اشتراط عدد الأربعين في
الجمعة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق إلاّ أن عمر قد
اشترط مع عدد الأربعين أن يكون فيها وال قال وليس الوالي
من شرط الشافعي. وقال مالك إذا كان جماعة في القرية التي
بيوتها متصلة وفيها سوق ومسجد يجمع فيه وجبت عليهم الجمعة
ولم يذكر عددا محصورا ومذهبه في الوالي كمذهب الشافعي.
وقال أصحاب الرأي لا جمعة إلاّ في مصر جامع وتنعقد عندهم
بأربعة.
وقال الأوزاعي إذا كانوا ثلاثة صلوا جمعة إذا كان فيهم
الوالي. قال أبو ثور هي كباقي الصلوات في العدد.
قال أبو داود:، حَدَّثنا محمد بن المصفى، حَدَّثنا بقية،
حَدَّثنا شعبة عن المغيرة الضبي عن عبد العزيز بن رفيع،
عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه
من الجمعة وإنا مُجَمّعون.
قال أبو داود:، حَدَّثنا يحيى بن خلف، حَدَّثنا أبوعاصم عن
ابن جريج قال قال عطاء اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد
ابن الزبير فقال عيدان اجتمعا
(1/245)
في يوم واحد فجمعهما جميعا صلاهما ركعتين
بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر.
قلت في إسناد حديث أبي هريرة مقال ويشبه أن يكون معناه لو
صح أن يكون المراد بقوله فمن شاء أجزأه من الجمعة أي عن
حضور الجمعة ولا يسقط عنه الظهر. وأما صنيع ابن الزبير
فإنه لا يجوز عندي أن يحمل إلاّ على مذهب من يرى تقديم
صلاة الجمعة قبل الزوال. وقد روي ذلك عن ابن مسعود.
وروي، عَن أبي عباس أنه بلغه فعل ابن الزبير فقال أصاب
السنة.
وقال عطاء كل عيد حين يمتد الضحى الجمعة والأضحى والفطر.
وحكى ابن إسحاق بن منصور عن أحمد بن حنبل أنه قيل له
الجمعة قبل الزوال أو بعده قال إن صليت قبل الزوال فلا
أعيبه، وكذلك قال إسحاق فعلى هذا يشبه أن يكون ابن الزبير
صلى الركعتين على أنهما جمعة وجعل العيد في معنى التبع
لها.
ومن باب في اللبس يوم الجمعة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله
بن عمرأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى حلة سِيراء عند
باب المسجد تباع فقال يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها
يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة.
قلت الحلة السيراء هي المضلعة بالحرير التي فيها خطوط وهو
الذي يسمونه المسير وإنما سموه مسيرا للخطوط التي فيه
كالسيور، وقيل حلة سيراء كما قالوا ناقة عشراء.
قلت وفي معناه العتابي وما أشبهه من الثياب لا يجوز لبس
شيء من ذلك واستعماله للرجال.
(1/246)
ومن باب التحلق يوم
الجمعة
قال أبو داود: حدثنا مسدد نا يحيى عن ابن عجلان عن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى
عن البيع والشراء في المسجد وأن تنشد فيه ضالة وأن ينشد
فيه شعر ونهى عن الحلق قبل الصلاة يوم الجمعة.
الحلق مكسورة الحاء مفتوحة اللام جماعة الحلقة وكان بعض
مشايخنا يرونه أنه نهى عن الحَلْق بسكون اللام وأخبرني أنه
بقي أربعين سنة لا يحلق رأسه قبل الصلاة يوم الجمعة، فقلت
له إنما هو الحلق جمع الحلقة؛ وإنما كره الاجتماع قبل
الصلاة للعلم والمذاكرة وأمر أن يشتغل بالصلاة وينصت
للخطبة والذكر فإذا فرغ منها كان الاجتماع والتحلق بعد ذلك
فقال قد فرجت عني وجزاني خيراً وكان من الصالحين رحمه
الله.
ومن باب اتخاذ المنبر
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد نا يعقوب بن عبد الرحمن
حدثني أبو حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي قال أرسل
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة امرأة قد سماها
سهل أن مُري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أجلس عليهن إذا
كلمت الناس فأمرته فعملها من طرفاء الغابة، قال فرأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم كبر عليها ثم ركع وهوعليها ثم نزل
القهقرى فسجد في أصل المنبر ثم عاد فلما فرغ أقبل على
الناس فقال أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا ولتعلموا
صلاتي.
قلت: الغابة الغيضة وجمعها غابات وغاب. ومنه قولهم: ليث
غاب، قال الشاعر:
وكنا كالحريق أصاب غابا ... فتخبو ساعة وتهب ساعا
وفيه من الفقه جواز أن يكون مقام الإمام أرفع من مقام
المأموم إذا كان
(1/247)
ذلك لأمر يعلمه الناس ليقتدوا به، وفيه أن
العمل اليسير لا يقطع الصلاة وإنما كان المنبر مرقاتين
فنزوله وصعوده خطوتان وذلك في حد القلة، وإنما نزل القهقرى
لئلا يولي الكعبة قفاه.
فأما إذا قرأ الإمام السجدة وهو يخطب يوم الجمعة فإنه إذا
أراد النزول لم يقهقر ونزل مقبلا على الناس بوجهه حتى يسجد
وقد فعله عمر بن الخطاب.
وعند الشافعي أنه إن أحب أن يفعله فعل فإن لم يفعله أجزأه.
وقال أصحلمب الرأي ينزل ويسجد، وقال مالك لا ينزل ولا يسجد
ويمر في خطبته.
ومن باب الاحتباء والإمام يخطب
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عوف نا عبد الله بن يريد
المقري نا سعيد بن أبي أيوب، عَن أبي مرحوم عن سهل بن معاذ
بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن
الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب.
قلت: إنما نهى عن الاحتباء في ذلك الوقت لأنه يجلب النوم
ويعرض طهارته للانتقاض فنهى عن ذلك وأمربالاستيفاز في
القعود لاستماع الخطبة والذكر.
وفيه دليل على أن الاستناد يوم الجمعة في ذلك المقام مكروه
لأنه بعلة الاحتباء أو أكثر.
ومن باب استئذان المحدث الإمام
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن الحسن المَصِيصي نا حجاج
قال: قال ابن جريج أخبرني هشام بن عروة عن عروة عن عائشة
قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أحدث أحدكم في
صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف.
قلت إنما أمره أن يأخذ بأنفه ليوهم القوم أن به رعافا.
(1/248)
وفي هذا باب من الأخذ بالأدب في ستر العورة
واخفاء القبيح من الأمر والتورية بما هو أحسن منه وليس
يدخل في هذا الباب الرياء والكذب، وإنما هو من باب التجمل
واستعمال الحياء وطلب السلامة من الناس.
ومن باب إذا دخل والإمام يخطب
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن عمرو بن
دينار عن جابر أن رجلا جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله
عليه وسلم يخطب قال أصليت يا فلان، قال لا قال قم فاركع.
قلت فيه من الفقه جواز الكلام في الخطبة لأمر يحدث وإن ذلك
لا يفسد الخطبة وفيه أن الداخل المسجد والإمام يخطب لا
يقعد حتى يصلي ركعتين. وقال بعض الفقهاء إذا تكلم أعاد
الخطبة ولا يصلي الداخل والإمام يخطب والسنة أولى ما اتبع.
ومن باب من أدرك من الجمعة
ركعة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب، عَن أبي
سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة.
قلت دلالته أنه إذا لم يدرك تمام الركعة فقد فاتته الجمعة
ويصلي أربعا لأنه إنما جعله مدركا للجمعة بشرط إدراكه
الركعة فدلالة الشرط تمنع من كونه مدركا لها بأقل من
الركعة، وإلى هذا ذهب سفيان الثوري ومالك والأوزاعي
والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وقد روي ذلك عن
عبد الله بن مسعود وابن عمر وأنس وابن المسيب وعلقمة
والأسود وعروة والحسن والشعبي والزهري.
(1/249)
وقال الحكم وحماد وأبو حنيفة من أدرك
التشهد يوم الجمعة مع الإمام صلى ركعتين.
ومن باب الصلاة بعد الجمعة
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن الحسن حدثنا الحجاج بن
محمد عن ابن جريج قال أخبرني عطاء أنه رأى ابن عمر يصلي
بعد الجمعة فينماز عن مصلاه الذي صلى الجمعة فيه قليلا
غيركثير فيركع ركعتين قال ثم يمشي أنفس من ذلك فيركع أربع
ركعات.
قوله فينماز معناه يفارق مقامه الذي صلى فيه، وهومن قولك
مزت الشيء من الشيء إذا فرقنت بينهما، وقوله أنفس من ذلك
يريد أبعد قليلا.
وقد اختلفت الرواية في عدد الصلاة بعد الجمعة، وقد رواها
أبو داود في هذا الباب على اختلافها روي أربعا وروي ركعتين
في المسجد، وروي أنة كان لا يصلي في المسجد حتى إذا صار
إلى بيته صلى ركعتين.
قلت وهذا والله أعلم من الاختلاف المباح وكان أحمد بن حنبل
يقول إن شاء صلى ركعتين وإن شاء صلى أربعا. وقال أصحاب
الرأي يصلي أربعا وهو قول إسحاق وقال سفيان الثوري يصلي
ركعتين ثم يصلي بعدها أربعا.
ومن كناب العيدين
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا إسحاق بن
عثمان قال حدثني إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية عن جدته أم
عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة جمع
نساء الأنصار في بيت فأرسل إلينا عمر بن الخطاب رضي الله
عنه فقام على الباب فسلم علينا فرددنا عليه السلام ثم قال
أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم وأمرنا بالعيدين
أن نخرج فيهما الحيض والعتَّقَ ولا جمعةَ علينا ونهانا عن
اتباع الجنائز.
(1/250)
العتق جمع عاتق يقال جارية عاتق وهي التي
قاربت الإدراك ويقال بل هي المدركة.
أخبرني أبو عمر أخبرني أبو العباس عن ابن الأعرابي قال:
قالت جارية من الأعراب لأبيها اشتر لي لَوْطا أغطي به
فُرعلي فإني قد عتقت تريد أدركت والفرعل ههنا الشعر واللوط
الإزار.
ومن باب الخطبة في العيد
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل نا عبد الرزاق نا ابن
جريج أخبرني عطاء عن جابر بن عبد الله قال قام رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلى فبدأ بالصلاة قبل
الخطبة ثم خطب الناس فلما فرغ نبي الله صلى الله عليه وسلم
نزل فأتى النساء فذكّرهن وهو يتوكأ على يد بلال وبلال باسط
ثوبه والنساء يلقين فيه صدقة تلقي المرأة فَتَخها.
الفتخ الخواتيم الكبار. واحدتها فتخة.
ومن باب تكبير العيدين
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد نا ابن لَهِيعة عن عقيل
عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات وفي
الثانية خمس تكبيرات.
قلت وهذا قول أكثر أهل العلم، وروي ذلك، عَن أبي هريرة
وابن عمر وابن عباس وأبي سعيد الخدري وبه قال الزهري ومالك
والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وقال الشافعي ليس من السبع تكبيرة الافتتاح ولا من الخمس
تكبيرة القيام.
وقال أبو ثور سبع تكبيرات مع تكبيرة الافتتاح وخمس في
الثانية.
(1/251)
وروي عن ابن مسعود أنه قال يكبر الإمام
أربع تكبيرات متواليات ثم يقرأ ثم يكبر فيركع ويسجد ثم
يقوم فيقرأ ثم يكبر أربع تكبيرات يركع بآخرها، وإليه ذهب
أصحاب الرأي، وكان الحسن يكبر في الأولى خمسا وفي الأخرى
ثلاثا سوى تكبيرتي الركوع.
وروى أبو داود في هذا الباب حديثا ضعيفا، عَن أبي موسى
الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في
العيد أربعاً تكبيره على الجنائز.
قال حدثنا محمد بن العلاء نا زيد بن حباب عن عبد الرحمن بن
ثوبان عن أبيه عن مكحول قال أخبرني أبو عائشة جليس لأبي
هريرة، عَن أبي موسى.
ومن باب إذا لم يخرج الإمام
للعيد يومه
يخرج من الغد
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر نا شعبة عن جعفر بن أبي
وحشية، عَن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن ركبا جاؤوا إلى النبي صلى الله
عليه وسلم يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم أن
يفطروا فإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم.
قلت وإلى هذا ذهب الأوزاعي وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل
وإسحاق في الرجل لا يعلم بيوم الفطر إلاّ بعد الزوال.
وقال الشافعي إن علموا بذلك قبل الزوال خرجوا وصلى الإمام
بهم صلاة العيد وإن لم يعلموا إلاّ بعد الزوال لم يصلوا
يومهم ولا من الغد لأنه عمل في وقت إذا جاز ذلك الوقت لم
يعمل في غيره، وكذلك قال مالك وأبو ثور.
قلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى وحديث أبي
عُمير صحيح فالمصير إليه واجب.
(1/252)
ومن باب الصلاة بعد
صلاة العيد
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة حدثني عدي بن
ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال خرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوم فطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا
بعدها ثم أتى النساء ومعه بلال فأمرهن بالصدقة فجعلت
المرأة تلقي خُرصها سِخابها.
الخرص الحلقة والسخاب القلادة.
وفي الحديث من الفقه أن عطية المرأة البالغة وصدقتها بغير
إذن زوجها جائزة ماضية ولوكان ذلك مفتقرا إلى الأزواج لم
يكن صلى الله عليه وسلم ليأمرهن بالصدقة قبل أن يسأل
أزواجهن الإذن لهن في ذلك.
ومن أبواب الاستسقاء
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي نا عبد
الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عباد بن تميم عن عمه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي فصلى بهم
ركعتين جهر فيهما وحول رداءه فدعا واستسقى واستقبل القبلة.
قلت في قوله خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس
يستسقي دليل على أن السنة في الاستسقاء الخروج إلى المصلى.
وفيه أن الاستسقاء إنما يكون بصلاة.
وذهب بعض أهل العراق إلى أنه لا يصلي ولكن يدعو فقط. وفيه
أنه يجهر بالقراءة فيها وهو مذهب مالك بن أنس والشافعي
وأحمد، وكذلك قال محمد بن الحسن. وفيه أنه يحول رداءه
وتأول على مذهب التفاؤل أي لينقلب ما بهم من الجدب إلى
الخصب.
وقد اختلفوا في صفة تحويل الرداء فقال الشافعي ينكس أعلاه
ويتاخى أن
(1/253)
يجعل ما على شقه الأيمن على شقه الأيسر
ويجعل الجانب الأيسر على الجانب الأيمن.
وقال أحمد بن حنبل يجعل اليمين على الشمال ويجعل الشمال
على اليمين، وكذلك قال إسحاق وقول مالك قريب من ذلك.
قلت إذا كان الرداء مربعا نكسه وإذا كان طيلسانا مدورا
قلبه ولم ينكسه.
قال أبو داود: حدثنا ابن عوف قال قرأت في كتاب عمرو بن
الحارث الحمصي عن عبد الله بن سالم عن الزبيدي عن ابن شهاب
عن عباد بن تميم عن عمه وساق الحديث قال وحول رداعه وجعل
عِطافه الأيمن على عاتقه الأيسر وجعل عطافه الأيسر على
عاتقه الأيمن ثم دعا الله.
أصل العطاف الرداء وإنما أضاف العطاف إلى الرداء ههنا لأنه
أراد أحد شقي العطاف الذي عن يمينه وعن شماله.
قال أبو داود: حدثنا النفيلي وعثمان بن أبي شيبة قالا،
حَدَّثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا هشام بن إسحاق بن عبد الله
بن كنانة، قال أخبرني أبي عن ابن عباس قال خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء وصلى ركعتين كما كان يصلي
في العيد.
قلت في هذا دلالة على أنه يكبر كما يكبر في العيدين، وإليه
ذهب الشافعي وهو قول ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز
ومكحول. وقال مالك يصلي ركعتين كسائر الصلوات لا يكبر فيها
تكبير العيد غير أنه يبدأ بالصلاة قبل الخطبة كالعيد.
ومن باب رفع اليدين في
الاستسقاء
قال أبو داود: حدثنا ابن أبي خلف نا محمد بن عبيد نا مسعر
عن يزيد الفقيرعن جابر رضي الله عنه قال رأيت النبي صلى
الله عليه وسلم يُواكي فقال اللهم اسقنا غيثا
(1/254)
مغيثاً مُغيثا مَريئا مريعا نافعا غير ضار
عاجلا غير آجل قال وأطبقت عليهم السماء.
قوله يواكي معناه التحامل على يديه إذا رفعهما ومدهما في
الدعاء، ومن هذا التوكؤ على العصا وهو التحامل عليها.
وقوله مريعا يروى على وجهين بالياء والباء فمن رواه بالياء
جعله من المراعة وهي للخصب، يقال منه أمرع المكان إذا
أخصب، ومن رواه مربعا بالباء كان معناه منبتا للربيع.
واستدل بفعل النبي صلى الله عليه وسلم من لا يرى الصلاة في
الاستسقاء، وقال ألا ترى أنه اقتصر على الدعاء ولم يصل له.
قال الشيخ قد ثبت الاستسقاء بالصلاة بما ذكره أبو داود في
الأخبار المتقدمة وإنما وجهه وتأويله أنه كان بإزاء صلاة
يريد أن يصليها فدعا في أثناء خطبته بالسقيا فاجتمعت له
الصلاة والخطبة فجزت عن استئناف الصلاة والخطبة كما يطوف
للرجل فيصادف الصلاة المفروضة عند فراغه من الطواف فيصليها
فينوب عن ركعتي الطواف وكما يقرأ السجدة في آخر الركعة
فينوب الركوع عن السجود.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن عبد العزيز
بن صهيب عن أنس قال أصاب أهل المدينة قحط فقام رجل إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقال هلك الكراع
والشاة فسل الله أن يسقينا فمد يده ودعا فهاجت ريح ثم
أنشأت سحابا ثم اجتمع فأرسلت السماءعزاليها فخرجنا نخوض
الماء حتى أتينا منازلنا.
العزالي جمع العزلاء وهم فم المزادة.
(1/255)
ومن باب صلاة الكسوف
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا ابن وهب
عن يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة
قالت خسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فخرج إلى المسجد فقام فكبر وصف الناس وراءه فاقترأ قراءة
طويلة ثم كبر فركع ركوعا طويلا ثم رفع رأسه فقال سمع الله
لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي
أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعا طويلا وهو أدنى
من الركوع الأول ثم قال سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد،
ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك فاستكمل أربع ركعات وأربع
سجدات وانجلت الشمس قبل أن ينصرف.
قلت قوله فكبر وصف الناس حوله. فيه بيان أن السنة أن يصلي
الكسوف جماعة، وإليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل. وقال أهل
العراق يصلون منفردين وعند مالك يصلون لكسوف القمر وحدانا
وفي خسوف الشمس جماعة.
وفيه بيان أنه يركع في كل ركعة ركوعين وهو مذهب مالك
والشافعي وأحمد وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي يركع
ركعتين في كل ركعة ركوع واحد كسائر الصلوات.
وقد اختلفت الروايات في هذا الباب فروى أنس أنه ركع ركعتين
في أربع ركعات وأربع سجدات وروي أنه ركعهما في ركعتين
وأربع سجدات وروي أنه ركع ركعتين في ست ركعات وأربع سجدات.
وروي أنه ركع ركعتين في عشر ركعات وأربع سجدات. وقد ذكر
أبو داود أنواعا منها. ويشبه أن يكون المعنى في ذلك أنه
صلاها مرات وكرات فكانت إذا طالت مدة
(1/256)
الكسوف مد في صلاته وزاد في عدد الركوع
وإذا قصرت نقص من ذلك وحذا بالصلاة حذوها وكل ذلك جائز
يصلي على حسب الحال ومقدار الحاجة فيه.
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن سعد حدثنا عمي نا أبي عن
ابن إسحاق حدثني هشام بن عروة عن سليمان بن يسار عن عروة
عن عائشة قالت كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم فخرج فصلى بالناس فقام فحزرت قراءته فرأيت أنه قرأ
سورة البقرة وحزرت قراءته، يَعني في الركعة الأخرى فرأيت
أنه قرأ سورة آل عمران.
قلت قولها فحزرت قراءته يدل على أنه لم يجهر بالقراءة فيها
ولو جهر لم يحتج فيها إلى الحزر والتخمين. وممن قال لا
يجهر بالقراءة مالك وأصحاب الرأي وكذلك قال الشافعي.
قال أبو داود: حدثنا عباس بن الوليد أخبرني أبي حدثنا
الأوزاعي أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قراءة طويلة يجهر بها في
صلاة الكسوف.
قلت وهذا خلاف الرواية الأولى عن عائشة؛ وإليه ذهب أحمد بن
حنبل وإسحاق بن راهويه وجماعة من أصحاب الحديث قالوا،
وقوله المثبت أولى من قول النافي لأنه حفظ زيادة لم يحفظها
النافي.
قلت وقد يحتمل أن يكون قد جهر مرة وخفت أخرى وكل جائز.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا الأسود
بن قيس حدثني ثعلبة بن عباد عن سمرة بن جندب قال بينما أنا
وغلام من الأنصار
(1/257)
نرمي غرضين لنا حتى إذا كانت الشمس قِيدَ
رمحين أو ثلاثة في عين الناظر من الأفق اسودت حتى آضت
كأنها تَنُّومَةَ فقال أحدنا لصاحبه انطلق بنا إلى المسجد
فوالله ليُحدثن شأن هذه الشمس لرسول الله صلى الله عليه
وسلم في أمته حَدثا قال فدُفعنا إلى المسجد فإذا هو بارز
وذكر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه قام بنا
كأطول ما قام بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتاً.
قلت التنوم نبت لونه إلى السواد ويقال بل هوشجر له ثمركمد
اللون.
وقوله فإذا هو بارز تصحيف من الراوي وإنما هو بأزز أي بجمع
كثير، تقول العرب الفضاء منهم أزز والبيت منهم أزز إذا غص
بهم لكثرتهم، وقد فسرناه في غريب الحديث. وفي قوله فلم
نسمع له صوتا دليل على صحة إحدى الروايتين لعائشة أنه لم
يجهر فيها بالقراءة.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن عطاء
بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال انكسفت الشمس
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلى
الله عليه وسلم فلم يكد يركع ثم ركع فلم يكد يرفع ثم رفع
فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم
سجد فلم يكد يرفع ثم رفع ثم فعل في الأخرى مثل ذلك ثم نفخ
في آخر سجوده فقال أف، ثم قال رب ألم تعدني أن لا تعذبهم
وأنا فيهم، ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون ففرغ من
صلاته وقد امَّحصت الشمس.
قوله امحصت الشمس معناه انجلت، واصل المحص الخلوص يقال
محصت الشيء محصا إذا خلصته من الشوب، فامحص إذا خلص منه.
ومنه التمحيص من الذنوب وهو التطهير منها.
(1/258)
وفي الحديث بيان أن السجود في صلاة الكسوف
يطول كما يطول الركوع وقال مالك لم نسمع أن السجود يطول في
صلاة الكسوف كما يطول الركوع ومذهب الشافعي وإسحاق بن
راهويه تطويل السجود كالركوع.
وفي الحديث دليل على أن النفخ لا يقطع الصلاة إذا لم يكن
له هجاء فيكون كلمة تامة وقوله أف لا تكون كلاما حتى تشدد
الفاء فيكون على ثلاثة أحرف من التأفيف كقولك أف لكذا،
فأما والفاء خفيفة فليس بكلام، والنافخ لا يخرج الفاء في
نفخه مشددة ولا يكاد يخرجها فاء صادقة من مخرجها بين الشفة
السفلى ومقاديم الأسنان العليا ولكنه يفشيها من غير اطباق
السن على الشفة وما كان كذلك لم يكن كلاماً.
وقد قال عامة الفقهاء إذا نفخ في صلاته فقال أف فسدت صلاته
إلاّ أبا يوسف فإنه قال صلاته جائزة.
ومن باب صلاة السفر
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن صالح بن كيسان عن
عروة بن الزبير عن عائشة قالت فرضت الصلاة ركعتين ركعتين
في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر.
قلت هذا قول عائشة عن نفسها وليس برواية عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ولا بحكاية لقوله وقد روي عن ابن عباس مثل
ذلك من قوله فيحتمل أن يكون الأمر في ذلك كما قالاه لأنهما
عالمان فقيهان قد شهدا زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم
وصحباه وإن لم يكونا شهدا أول زمان الشريعة وقت إنشاء فرض
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإن الصلاة فرضت عليه
بمكة ولم تلق عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ
بالمدينة ولم يكن
(1/259)
ابن عباس في ذلك الزمان في سن من يعقل
الأمور ويعرف حقائقها ولا يبعد أن يكون قد أخذ هذا الكلام
عن عائشة فإنه قد يفعل ذلك كثيرا في حديثه وإذا فتشت عن
أكثر ما يرويه كان ذلك سماعا عن الصحابة وإذا كان كذلك فإن
عائشة نفسها قد ثبت عنها أنها كانت تتم في السفر وتصلي
أربعاً أخبرناه محمد بن هاشم أخبرنا الدبري عن عبد الرزاق
عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها كانت تصوم في
السفر وكانت تتم وتصلي أربعا.
وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة فكان أكثر مذاهب علماء
السلف وفقهاء الأمصار على أن القصر هو الواجب في السفر وهو
قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس وروي ذلك عن عمر بن
عبد العزيز والحسن وقتادة، وقال حماد بن أبي سليمان يعيد
من صلى في السفر أربعا، وقال مالك بن أنس يعيد ما دام في
الوقت وقال أحمد بن حنبل السنة ركعتان، وقال مرة أنا أحب
العافية من هذه المسألة. وقال أصحاب الرأي إن لم يقعد
المسافر في التشهد في الركعتين فصلاته فاسدة لأن فرضه
ركعتان فما زاد عليهما كان تطوعا فإن لم يفصل بينهما
بالقعود بطلت صلاته.
وقال الشافعي هو بالخيار إن شاء أتم وإن شاء قصر، وإليه
ذهب أبو ثور. وقد روي الإتمام في السفر عن عثمان وسعد بن
أبي وقاص وقد أتمها ابن مسعود مع عثمان بمنى وهو مسافر
واحتج الشافعي في ذلك بأن المسافر إذا دخل في صلاة المقيم
صلى أربعا ولو كان فرضه القصر لم يكن يأتم مسافر بمقيم.
وأما قول أصحاب الرأي أن الركعتين الأخريين تطوع فإنهم
يوجبونها على المأموم والتطوع لا يجبر عليه أحد فدل على أن
ذلك من صلب صلاته.
(1/260)
قلت والأولى أن يقصر المسافر الصلاة لأنهم
أجمعوا على جوازها.
واختلفوا فيها إذا أتم والإجماع مقدم على الاختلاف.
قال أبو داود: حدثنا خُشيش بن أصرم، حَدَّثنا عبد الرزاق
عن ابن جريج حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار عن
عبد الله بن طبية عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب
رضي الله عنه قصر الناس الصلاة اليوم وإنما قال الله تعالى
{إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} [النساء: 101] فقد ذهب
ذلك اليوم فقال عجبتُ مما عجبتَ منه فذكرت ذلك لرسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا
صدقته.
قلت وفي هذا حجة لمن ذهب إلى أن الإتمام هو الأصل ألا ترى
أنهما قد تعجبا من القصر مع عدم شرط الخوف فلو كان أصل
صلاة المسافر ركعتين لم يتعجبا من ذلك فدل على أن القصر
إنما هوعن أصل كامل قد تقدمه فحذف بعضه وأبقى بعضه. وفي
قوله صدقة تصدق الله بها عليكم دليل على أنه رخصة رخص لهم
فيها، والرخصة إنما تكون إباحة لا عزيمة والله أعلم
بالصواب.
ومن باب متى يقصر الصلاة
المسافر
قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار، حَدَّثنا محمد بن جعفر،
حَدَّثنا شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال سألت أنس بن
مالك عن قصر الصلاة فقال أنس كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ شك شعبة
يصلي ركعتين.
قلت إن ثبت هذا الحديث كانت الثلاثة الفراسخ حدا فيما يقصر
إليه الصلاة إلاّ أني لا أعرف أحدا من الفقهاء يقول به.
(1/261)
وقد روي عن أنس أنه كان يقصر الصلاة فيما
بينه وبين خمسة فراسخ. وعن ابن عمر أنه قال إني لأسافر
الساعة من النهار فأقصر، وعن علي رضي الله عنه أنه خرج إلى
النُخيلة فصلى بهم الظهر ركعتين ثم رجع من يومه.
وقال عمرو بن دينار قال لي جابر بن زيد أقصر بعرفة.
وأما مذاهب فقهاء الأمصار فإن الأوزاعي قال عامة الفقهاء
يقولون مسيرة يوم تام وبهذا نأخذ، وقال مالك يقصر من مكة
إلى عُسفان وإلى الطائف وإلى جدة وهو قول أحمد بن حنبل
وإسحاق بن راهويه وإلى نحو ذلك أشار الشافعي حين قال
ليلتين قاصدتين، وروي عن الحسن والزهري قريب من ذلك قالا
يقصر في مسيرة يومين. واعتمد الشافعي في ذلك قول ابن عباس
حين سئل فقيل له يقصر إلى عرفة قال لا ولكن إلى عسفان وإلى
جدة وإلى الطائف، وروي عن ابن عمر مثل ذلك وهو أربعة برد
وهذا عن ابن عمر أصح الروايتين وقال سفيان الثوري وأصحاب
الرأي لا يقصر إلاّ في مسافة ثلاثة أيام.
ومن باب الجمع بين الصلاتين
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عَن أبي الزبير
المكي، عَن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن معاذ بن جبل
أخبرهم أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة
تبوك فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر
والعصر والمغرب والعشاء فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى
الظهر والعصر ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا.
قلت في هذا بيان أن الجمع بين الصلاتين في غير يوم عرفة
وغير المزدلفة جائز وفيه أن الجمع بين الصلاتين لمن كان
نازلا في السفر غير سائر جائز.
(1/262)
وقد اختلف الناس في الجمع بين الصلاتين في
غير يوم عرفة بعرفة وبالمزدلفة فقال قوم لا يجمع بين
صلاتين ويصلي كل واحدة منهما في وقتها يروى ذلك عن إبراهيم
النخعي وحكاه عن أصحاب عبد الله، وكان الحسن ومكحول يكرهان
الجمع في السفر بين الصلاتين.
وقال أصحاب الرأي إذا جمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر
إلى آخر وقتها وعجل العصر في أول وقتها ولا يجمع بين
الصلاتين في وقت إحداهما، ورووا عن سعد بن أبي وقاص أنه
كان يجمع بينهما كذلك.
وقال كثيرمن أهل العلم يجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما
إن شاء قدم العصر وإن شاء أخر الظهر على ظاهر الأخبار
المروية في هذا الباب، هذا قول ابن عباس وعطاء بن أبي رباح
وسالم بن عبد الله وطاوس ومجاهد، وبه قال من الفقهاء
الشافعي وإسحاق بن راهويه، وقال أحمد بن حنبل إن فعل لم
يكن به بأس.
قلت ويدل على صحة ما ذهب هؤلاء إليه حديث ابن عمرو وأنس عن
النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرهما أبو داود في هذا
الباب.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود العتكي حدثنا حماد عن
أيوب عن نافع أن ابن عمر استُصرخ على صفية وهو بمكة فسار
حتى غربت الشمس وبدت النجوم فقال إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان إذا عجل به أمر في سفر جمع بين هاتين
الصلاتين فسار حتى غاب الشفق ثم نزل فجمع بينهما.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا المفضَّل عن عقيل
عن ابن شهاب عن أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى
(1/263)
وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما.
قال أبو داود: وأخبرني سليمان بن داود المَهري حدثنا ابن
وهب قال أخبرني جابر بن إسماعيل جابر هذا من أهل مصر عن
عقيل بهذا الحديث قال ويؤخر المغرب حتى يجمع بينهما وبين
العشاء حتى يغيب الشفق.
قلت ظاهر اسم الجمع عرفاً لا يقع على من أخر الظهر حتى
صلاها في آخر وقتها وعجل العصر فصلاها في أول وقتها لأن
هذا قد صلى كل صلاة منهما في وقتها الخاص بها وإنما الجمع
المعروف بينهما أن تكون الصلاتان معاً في وقت إحداهما ألا
ترى أن الجمع بينهما بعرفة والمزدلفة كذلك. ومعقول أن
الجمع بين الصلاتين من الرخص العامة لجميع الناس عامهم
وخاصهم ومعرفة أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر
الخاصة فضلاً عن العامة وإذا كان كذلك كان في اعتبار
الساعات على الوجه الذي ذهبوا إليه ما يبطل أن تكون هذه
الرخصة عامة مع ما فيه من المشقة المربية على تفريق الصلاة
في أوقاتها الموقتة.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عَن أبي الزبير عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال صلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً من غير
خوف ولا سفر. وقال مالك أرى ذلك كان في مطر.
قلت وقد اختلف الناس في جواز الجمع بين الصلاتين للممطور
في الحضر فأجازه جماعة من السلف، روي ذلك عن ابن عمر وفعله
عروة وابن المسيب وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن عبد
الرحمن وأبو سلمة وعامة فقهاء المدينة وهو قول مالك
والشافعي وأحمد غير أن الشافعي اشترط في ذلك أن يكون المطر
قائماً وقت افتتاح الصلاتين معاً وكذلك قال أبو ثور ولم
يشترط ذلك غيرهما
(1/264)
وكان مالك يرى أن يجمع الممطور في الطين
وفي حال الظلمة وهو قول عمر بن عبد العزيز. وقال الأوزاعي
وأصحاب الرأي يصلي الممطور كل صلاة في وقتها.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حَدَّثنا
أبومعاوية، حَدَّثنا الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد
بن جبير عن ابن عباس قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا
مطر قال فقلت لابن عباس ما أراد إلى ذلك؟ قال أراد أن لا
تحرَج أمته.
قلت هذا حديث لا يقول به أكثر الفقهاء واسناده جيد إلاّ ما
تكلموا فيه من أمر حبيب، وكان ابن المنذر يقول ويحكيه عن
غير واحد من أصحاب الحديث. وسمعت أبا بكر القفال يحكيه،
عَن أبي إسحاق المروزي قال ابن المنذر ولا معنى لحمل الأمر
فيه على عذر من الأعذار لأن ابن عباس قد أخبر بالعلة فيه
وهو قوله أراد أن لا تحرج أمته.
وحكي عن ابن سيرين أنه كان لا يرى بأساً أن يجمع بين
الصلاتين إذا كانت حاجة أو شيء ما لم يتخذه عادة.
قلت وتأوله بعضهم على أن يكون ذلك في حال المرض قال وذلك
لما فيه من إرفاق المريض ودفع المشقة عنه فحمله على ذلك
أولى من صرفه إلى من لا عذر له ولا مشقة عليه من الصحيح
البدن المنقطع العذر.
وقد اختلف الناس في ذلك فرخص عطاء بن أبي رباح للمريض في
الجمع بين الصلاتين وهو قول مالك وأحمد بن حنبل.
وقال أصحاب الرأي يجمع المريض بين الصلاتين إلاّ أنهم
أباحوا ذلك على شرطهم
(1/265)
في جمع المسافر بينهما، ومنع الشافعي من
ذلك في الحضر إلاّ للممطور.
ومن باب التطوع على الراحلة
والوتر
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حَدَّثنا عبد الله بن
وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه قال كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يُسبح على الراحلة أي وجه توجه
ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبه.
قلت قوله يسبح معناه يصلي النوافل والسبحة النافلة من
الصلاة ومنه سبحة الضحى ولا أعلم خلافاً في جواز النوافل
على الرواحل في السفر إلاّ أنهم اختلفوا في الوتر فقال
أصحاب الرأي لا يوتر على الراحلة وقال النخعي كانوا يصلون
الفريضة والوتر بالأرض وإن أوترت على راحلتك فلا بأس.
وممن رخص في الوتر على الراحلة عطاء ومالك والشافعي وأحمد
بن حنبل، وروي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر، وكان مالك
يقول لا يصلي على راحلته إلاّ في سفر يقصر فيه الصلاة.
وقال الأوزاعي والشافعي قصير السفر وطويله في ذلك سواء
يصلي على راحلته.
وقال أصحاب الرأي إذا خرج من المصر فرسخين أو ثلاثا صلى
على دابته تطوعاً.
وقال الأوزاعي يصلي الماشي على رجله كذلك يومىء إيماء قال
وسواء كان مسافرا أو غير مسافر يصلي على دابته وعلى رجله
إذا خرج من بلده لبعض حاجته.
قلت والوجه في ذلك أن يفتتح الصلاة مستقبلا للقبلة ثم يركع
ويسجد حيث توجهت به راحلته ويجعل السجود أخفض من الركوع.
(1/266)
ومن باب متى يتم
المسافر
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى، حَدَّثنا ابن عُلية،
حَدَّثنا علي بن زيد، عَن أبي نصرة عن عمران بن حصين قال
غزوت مع رسول الله وشهدت الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة
لا يصلي إلاّ ركعتين ويقول يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا
قوم سفر.
قلت هذا العدد جعله الشافعي حدا في القصر لمن كان في حرب
يخاف على نفسه العدو. وكذلك كان حال رسول الله صلى الله
عليه وسلم أيام مقامه بمكة عام الفتح، فأما في حال الأمن
فإن الحد في ذلك عنده أربعة أيام فإذا أزمع مقام أربع أتم
الصلاة، وذهب في ذلك إلى مقام رسول الله صلى الله عليه
وسلم في حجه بمكة وذلك أنه دخل يوم الأحد وخرج يوم الخميس
كل ذلك يقصر الصلاة فكان مقامه أربعة أيام، وقد روي عن
عثمان بن عفان أنه قال من أزمع مقام أربع فليتم وهو قول
مالك بن أنس وأبي ثور.
وقد اختلفت الروايات عن ابن عباس في مقام النبي صلى الله
عليه وسلم بمكة عام الفتح فروي عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أقام سبع عشرة بمكة يقصر الصلاة وعنه أنه أقام
تسع عشرة وعنه أنه أقام خمس عشرة وكل قد ذكره أبو داود على
اختلافه فكان خبر عمران بن حصين أصحها عند الشافعي وأسلمها
من الاختلاف فاعتمده وصار إليه.
وقال أصحاب الرأي وسفيان الثوري إذا أجمع المسافر مقام خمس
عشرة أتم الصلاة، ويشبه أن يكونوا ذهبوا إلى إحدى الروايات
عن ابن عباس. وقال الأوزاعي إذا أقام اثنتي عشرة ليلة أتم
الصلاة وروي ذلك عن ابن عمر.
(1/267)
وقال الحسن بن صالح بن حي إذا عزم مقام عشر
أتم الصلاة وأراه ذهب إلى حديث أنس بن مالك وقد ذكره أبو
داود.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم
المعنى قالا، حَدَّثنا وهيب، حَدَّثنا يحيى بن أبي إسحاق
عن أنس بن مالك قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين حتى رجعنا إلى
المدينة فقلنا هل أقمتم بها شيئاً قال أقمنا عشرا.
وأما أحمد بن حنبل فإنه لا يحدد ذلك بالأيام والليالي ولكن
بعدد الصلوات قال إذا جمع المسافر لاحدى وعشرين صلاة
مكتوبة قصر فإذا عزم على أن يقيم أكثر من ذلك أتم. واحتج
بحديث جابر وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة
لصبح رابعة قال وأقام الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى
الفجر بالأبطح يوم الثامن فكانت صلاته فيها إحدى وعشرين
صلاة.
قلت وهذا التحديد يرجع إلى قريب من قول مالك والشافعي إلاّ
أنه رأى تحديده بالصلوات أحوط وأحصر فخرج من ذلك زيادة
صلاة واحدة على مدة أربعة أيام ولياليهن، وقال ربيعة قولا
شاذا إن من أقام يوما وليلة أتم الصلاة.
ومن باب صلاة الخوف
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور، حَدَّثنا جرير بن عبد
الحميد عن منصور عن مجاهد، عَن أبي عياش الزُّرَقي قال كنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفان وعلى المشركين
خالد بن الوليد فصلينا الظهر فقال المشركون لقد أصبنا
غِرةً لوحملنا عليهم وهم في الصلاة فنزلت آية القصر بين
الظهر والعصر فلما حضرت العصر
(1/268)
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل
القبلة والمشركون أمامه فصف خلف رسول الله صلى الله عليه
وسلم صفُّ وصفَّ بعد ذلك الصف صف آخر فركع رسول الله صلى
الله عليه وسلم وركعوا جميعا ثم سجد وسجد الصف الذين يلونه
وقام الآخرون يحرسونهم فلما صلى هؤلاء السجدتين وقاموا سجد
الآخرون الذين كانوا خلفهم ثم تأخر الصف الذي يليه إلى
مقام الآخرين وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول ثم ركع
رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعا، ثم سجد وسجد
الصف الذي يليه وقام الآخرون يحرسونهم فلما جلس رسول الله
صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه سجد الآخرون ثم جلسوا
جميعا فسلم عليهم جميعا فصلاها بعسفان وصلاها يوم بني
سليم.
قال أبو داود رواه جابر وابن عباس وأبو موسى نحو هذا
المعنى.
قلت صلاة الخوف أنواع وقد صلاها رسول الله صلى الله عليه
وسلم في أيام مختلفة وعلى أشكال متباينة يتوخى في كلًّ ما
هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة وهي على اختلاف صورها
مؤتلفة في المعاني وهذا النوع منها هو الاختيار إذا كان
العدو بينهم وبين القبلة. وإن كان العدو وراء القبلة صلى
بهم صلاته في يوم ذات الرقاع وقد ذكره أبو داود في هذا
الباب.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن يزيد بن رومان عن
صالح بن خوّات عن من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه
العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم
ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى
بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالساً وأتموا
لأنفسهم ثم سلم بهم.
قلت وإلى هذا ذهب مالك والشافعي إذا كان العدو من ورائهم.
(1/269)
وأما أصحاب الرأي فإنهم ذهبوا إلى حديث ابن
عمر.
قال أبو داود: حدثنا مسدد، حَدَّثنا يزيد بن زريع عن معمر
عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة
العدو وانصرفوا فقاموا في مقام أولئك فصلى بهم ركعة أخرى
ثم سلم عليهم ثم قام هؤلاء فقضوا ركعتهم وقام هؤلاء فقضوا
ركعتهم.
قلت وهذا حديث جيد بالإسناد إلاّ أن حديث صالح بن خوات أشد
موافقة لظاهر القرآن لأن الله سبحانه قال {وإذا كنت فيهم
فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك} [النساء: 102]
الآية فجعل إقامة الصلاة لهم كلها لا بعضها وعلى المذهب
الذي صاروا إليه إنما يقيم لهم الإمام بعض الصلاة لا كلها.
ومعنى قوله {فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم} أي إذا صلوا
كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا دخل
أحدكم المسجد فليسجد سجدتين أي فليركع ركعتين ثم قال
{ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا} فكان دليل مفهومه أن هؤلاء قد
صلوا وقوله فليصلوا معك مقتضاه تمام الصلاة وهوعلى قولهم
لا يصلون معه إلاّ بعضها وقد ذكر الطائفتين ولم يذكر
عليهما قضاء فدل أن كل واحدة منهما قد انصرفت عن كمال
الصلاة، وهذا المذهب أحوط للصلاة لأن الصلاة تحصل مؤداة
على سننها في استقبال القبلة وعلى مذهبهم يقع الاستدبار
للقبلة ويكثر العمل في الصلاة، ومن الاحتياط في المذهب
الأول أنهم إذا كانوا خارجين من الصلاة تمكنوا من الحرب إن
كانت للعدو جولة وإذا كانوا في الصلاة لم يقدروا على ذلك
فكان المصير إلى حديث صالح بن خوات أولى والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ، حَدَّثنا أبي،
حَدَّثنا الأشعث عن الحسن، عَن أبي
(1/270)
بكرة قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو فصلى
ركعتين ثم سلم فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم ثم
جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم فكان لرسول
الله صلى الله عليه وسلم أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين.
قلت: وهذا النوع من الصلاة أيضاً جاءت به الرواية على قضية
التعديل وعبرة التسوية بين الطائفتين لا يفضل فيها طائفة
على الأخرى بل كل يأخذ قسطه من فضيلة الجماعة وحصته من
بركة الأسوة.
وفيه دليل على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل.
قال أبو داود: حدثنا مسدد، حَدَّثنا يحيى عن سفيان حدثني
الأشعث بن سليمان عن الأسود بن هلال عن ثعلبة بن زهدم، قال
كنا مع سعيد بن العاص بطَبَرَستان فقال أيكم صلى مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فقال حذيفة أنا فصلى
بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا.
قلت: وهذا قد تأوله قوم من أهل العلم على صلاة شدة الخوف.
وروي عن جابر بن عبد الله أنه كان يقول في الركعتين في
السفر ليستا بقصر إنما القصر واحدة عند القتال.
وقال بعض أهل العلم في قول الله تعالى {فليس عليكم جناح أن
تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} [النساء:
110] إنما هو أن يقصر ويصلي ركعة واحدة عند شدة الخوف قال
وشرط الخوف ههنا معتبر باق ليس كما ذهب إليه من ألغى الشرط
فيه.
قلت: وهذا تأويل قد كان يجوز أن يتأول عليه الآية لولا خبر
عمر بن
(1/271)
الخطاب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن ذلك فقال صدقة تصدق الله بها عليكم
فأقبلوا صدقته، وكان إسحاق بن راهويه يقول أما عند الشدة
تجزيك ركعة واحدة تومىء بها إيماء فإن لم تقدر فسجدة واحدة
فإن لم تقدر فتكبيرة لأنها ذكر الله. ويروى عن عطاء وطاوس
والحسن ومجاهد والحكم وحماد وقتادة في شدة الخوف ركعة
واحدة يومىء بها إيماء.
فأما سائر أهل العلم فإن صلاة شدة الخوف عندهم لا ينقص من
العدد شيئا ولكن يصلي على حسب الإمكان ركعتين أي وجه
يوجهون إليه رجالا وركبانا يومئون إيماء، روي ذلك عن عبد
الله بن عمر وبه قال النخعي والثوري وأصحاب الرأي وهو قول
مالك والشافعي. وأخبرنى الحسن بن يحيى عن ابن المنذر قال:
قال أحمد بن حنبل كل حديث روي في أبواب صلاة الخوف فالعمل
به جائز قال وقال أحمد ستة أوجه أو سبعة يروى فيه كلها
جائز.
ومن باب صلاة الطالب
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن عمرو بن الحجاج أبو معمر
البصري حدثنا عبد الوارث، حَدَّثنا محمد بن إسحاق عن محمد
بن جعفر، عَن أبي عبد الله بن أُنيس عن أبيه قال بعثني
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهُذَلي
وكان نحو عُرنة وعرفات قال اذهب فاقتله فرأيته وحضرت صلاة
العصر فقلت إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة
فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومىء إيماءً نحوه فلما دنوت منه
قال لي من أنت قلت رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل
فجئتك في ذاك قال إني لفي ذاك فمشيت معه ساعة حتى إذا
أمكنني علوته بسيفي حتى برد.
(1/272)
قلت واختلفوا في صلاة الطالب فقال عوام أهل
العلم إذا كان مطلوبا كان له أن يصلي إيماء وإذا كان طالبا
نزل إن كان راكبا وصلى بالأرض راكعا وساجدا، وكذلك قال
الشافعي إلاّ أنه شرط في ذلك شرطا لم يشرطه غيره قال إذا
قل الطالبون عن المطلوبين وانقطع الطالبون عن أصحابهم
فيخافون عودة المطلوبين عليهم فإذا كان هكذا كان لهم أن
يصلوا يومئون إيماء.
قلت وبعض هذه المعاني موجودة في قصة عبد الله بن أنيس.
باب تفريع أبواب التطوع
ومن باب التطوع
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو المغيرة حدثني
عبد الله بن العلاء حدثني عبيد الله بن زياد الكندي عن
بلال أنه حدثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذنه
بصلاة الغداة فشغلت عائشة بلالا بأمر سألته عنه حتى فضحه
الصبح فأصبح جدا وأنه أبطأ عليه بالخروج فقال إني كنت ركعت
ركعتي الفجر فقال يا رسول الله إنك أصبحت جدا وساق الحديث.
قلت فضحه الصبح معناه دهمته فضحة الصبح، والفضحة بياض في
غبرة وقد يحتمل أن يكون معناه أنه لما تبين الصبح جدا ظهرت
غفلته عن الوقت فصار كمن يفتضح بعيب يظهر منه والله أعلم.
وقد رواه بعضهم فصَحه الصبح بالصاد غير المعجمة، قال
ومعناه بان له
الصبح ومنها الإفصاح بالكلام وهو الإبانة باللسان عن
الضمير.
ومن باب إذا أدرك الإمام ولم
يصل ركتي الفجر
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب، حَدَّثنا حماد عن عاصم
عن عبد الله
(1/273)
بن سَرجِس قال جاء رجل والنبي صلى الله
عليه وسلم يصلي الصبح فصلى الركعتين ثم دخل مع النبي صلى
الله عليه وسلم في الصلاة فلما انصرف قال يا فلان أيتهما
صلاتك التي صليت وحدك أو التي صليت معنا.
قلت في هذا دليل على أنه إذا صادف الإمام في الفريضة لم
يشتغل بركعتي الفجر وتركهما إلى أن يقضيهما بعد الصلاة.
وقوله أيتهما صلاتك مسألة إنكار يريد بذلك تبكيته على
فعله.
وفيه دلالة على أنه لا يجوز أن يفعل ذلك وإن كان الوقت
يتسع للفراغ منهما قبل خروج الإمام من صلاته لأن قوله أو
التي صليت معنا يدل على أنه قد أدرك الصلاة مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من الركعتين.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المتوكل حدثنا عبد الرزاق
حدثنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار،
عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا
أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة.
قلت: وفي هذا بيان أنه ممنوع من ركعتي الفجر ومن غيرها من
الصلوات إلاّ المكتوبة.
وقد اختلف الناس في هذا فروي عن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه أنه كان يضرب الرجل إذا رآه يصلي الركعتين والإمام في
الصلاة. وروي الكراهية في ذلك عن ابن عمر وأبي هُرَيْرَة
وكره ذلك سعيد بن جبير وابن سيرين وعروة بن الزبير
وإبراهيم النخعي وعطاء وإليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل.
ورخصت طائفة في ذلك روي ذلك عن ابن مسعود ومسروق والحسن
ومجاهد ومكحول وحماد بن أبي سليمان.
(1/274)
وقال مالك إن لم يخف أن يفوته الإمام
بالركعة فليركع خارجا قبل أن يدخل فإن خاف أن يفوته الركعة
فليدخل مع الإمام فليصل معه.
وقال أبوحنيفة إن خشي أن يفوته ركعة من الفجر في جماعة
ويدرك ركعة يصلي عند باب المسجد ثم دخل فصلى مع القوم، وإن
خاف أن يفوته الركعتان جميعا صلى مع القوم.
ومن باب من فاتته متى يقضيها
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن
نمير عن سعد بن سعيد حدثني محمد بن إبراهيم عن قيس بن عمرو
قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي بعد صلاة
الصبح ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة
الصبح ركعتان، فقال الرجل إني لم أكن صليت الركعتين اللتين
قبلهما فصليتهما الآن فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: فيه بيان أن لمن فاتته الركعتان قبل الفريضة أن
يصليهما بعدها قبل طلوع الشمس وأن النهي عن الصلاة بعد
الصبح حتى تطلع الشمس إنما هو فيمل يتطوع به الإنسان
إنشاءً وابتداءً دون ما كان له تعلق بسبب.
وقد اختلف الناس في وقت قضاء ركعتي الفجر فروي عن ابن عمر
أنه قال يقضيهما بعد صلاة الصبح وبه قال عطاء وطاوس وابن
جريج.
وقال طائفة يقضيهما إذا طلعت الشمس، وبه قال القاسم بن
محمد وهو مذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن
راهويه.
وقال أصحاب الرأي إن أحب قضاهما إذا ارتفعت الشمس فإن لم
يفعل فلا شيء عليه لأنه تطوع.
(1/275)
وقال مالك يقضيهما ضحى إلى وقت زوال الشمس
ولا يقضيهما بعد الزوال.
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن نافع، حَدَّثنا محمد بن
المهاجر عن العباس بن سالم، عَن أبي سلام، عَن أبي أمامة
عن عمرو بن عنبسة السُّلمي أنه قال: قلت يارسول الله أي
الليل اسمع قال جوف الليل الآخر فصل ما شئت فإن الصلاة
مشهودة مكتوبة حتى تصلي الصبح ثم اقصر حتى تطلع الشمس
فترتفع قِيسَ رمح أو رمحين فإنها تطلع بين قرني شيطان
ويصلي لها الكفار ثم صل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة
حتى يعدل الرمح ظله ثم أقصر فإن جنهم تسجر وتفتح أبوابها
فإذا زاغت الشمس فصل ما شئت فإن الصلاة مشهودة حتى تصلي
العصر ثم أقصر حتى تغرب النشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان
ويصلي لها الكفار وساق الحديث.
قلت: قوله أي الليل أسمع، يريد أي أوقات الليل أرجى للدعوة
وأولى بالاستجابه وضع السمع موضع الاجابة كما يقول المصلي
سمع الله لمن حمده، يريد استجاب الله دعاء من حمده. وقوله
جوف الليل الآخر يريد به ثلث الليل الآخر وهو الجزء الخامس
من أسداس الليل، وقيس رمح معناه قدر رمح في رأي العين يقال
هو قيس رمح وقيد رمح بمعنى واحد.
وقوله فإن الصلاة مشهودة مكتوبة، معناه أن الملائكة تشهدها
وتكتب أجرها للمصلي.
ومعنى قوله حتى يعدل الرمح ظله وهو إذا قامت الشمس قبل أن
تزول، فإذا تناهى قصر الظل فهو وقت اعتداله وإذا أخذ في
الزيادة فهو وقت الزوال.
قلت وذكره تسجير جهنم وكون الشمس بين قرني الشيطان وما
أشبه ذلك
(1/276)
من الأشياء التي تذكر على سبيل التعليل
لتحريم شيء أو لنهي عن شيء أمور لا تدرك معانيها من طريق
الحس والعيان، وإنما يجب علينا الإيمان بها والتصديق
بمخبوءاتها والانتهاء إلى أحكامها التي علقت بها وقد ذكرت
فيما تقدم من الكتاب ما قيل في معنى قرني الشيطان وحكيت في
ذلك أقوالا لأهل العلم فأغنى عن إعادتها ههنا.
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة، عَن أبي إسحاق
عن الأسود ومسروق قالا نشهد على عائشة أنها قالت ما من يوم
يأتي على النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ صلى بعد العصر
ركعتين.
قلت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت قد قيل
أنه مخصوص بها، وقيل إن الأصل فيه أنه صلاها يوما قضاء
لفائت ركعتي الظهر وكان صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلا
واظب عليه ولم يقطعه فيما بعد.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله النفيلي حدثنا ابن عُلَية عن
الجُريري عن عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن مغفل قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بين كل أذانين صلاة بين
كل أذانين صلاة لمن شاء.
قلت أراد بالأذانين الأذان والإقامة حمل أحد الاسمين على
الآخر والعرب تفعل ذلك كقولهم الأسودين للتمر والماء،
وإنما الأسود أحدهما، وكقولهم سيرة العمرين يريدون أبا بكر
وعمر رضي الله عنهما وإنما فعلوا ذلك لأنه أخف على اللسان
من أن يثبتوا كل اسم منهما على حدته ويذكروه بخاص صفته،
وقد يحتمل أن يكون ذلك في الأذانين حقيقة الاسم لكل واحد
منهما لأن الأذان في اللغة معناه الإعلام. ومنه قوله تعالى
{وأذان من الله ورسوله} [التوبة: 3] فالنداء
(1/277)
بالصلاة أذان بحضور الوقت والإقامة أذان
بفعل الصلاة.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن منيع، حَدَّثنا عباد بن عباد
عن واصل عن يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر، عَن أبي ذر عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: يصبح على كل سلامى من بني
آدم صدقة فتسليمه على من لقي صدقة وأمره بالمعروف صدقة
ونهيه عن المنكر صدقة وإماطة الأذى عن الطريق صدقة وبضعته
أهله صدقة ويجزي من ذلك كله ركعتا الضحى.
قلت: السُّلامى عظام أصابع اليد والرجل ومعناه عظام البدن
كلها يريد أن في كل عضو ومفصل من بدنه عليه صدقة.
ومن باب صلاة النهار
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن مرزوق أخبرنا شعبة عن يعلى بن
عطاء عن علي بن عبد الله البارقي عن ابن عمر عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى.
قلت: روى هذا الحديث عن ابن عمر نافع وطاوس وعبد الله بن
دينار لم يذكر فيه أحد صلاة النهار إنما هو صلاة الليل
مثنى مثنى، إلاّ أن سبيل الزيادات أن تقبل وقد قال بهذا في
النوافل مالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل، وقد صلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى يوم الفتح ثماني ركعات
يسلم عن كل ركعتين. وصلاة العيد ركعتان والاستسقاء ركعتان
وهذه كلها من صلاة النهار.
قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى، حَدَّثنا معاذ بن معاذ،
حَدَّثنا شعبة حدثني عبد ربه بن سعيد عن أنس بن أبي أنس عن
عبد الله بن نافع عن عبد الله بن الحارث عن المطلب عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصلاة مثنى مثنى وأن تشهد
في كل ركعتين وأن تبأس وتَمَسكن وتقنع بيدك وتقول اللهم
فمن لم يفعل ذلك فهي خداج.
(1/278)
قلت: أصحاب الحديث يغلطون شعبة في رواية
هذا الحديث، قال محمد بن إسماعيل البخاري أخطأ شعبة في هذا
الحديث في مواضع قال عن أنس بن أبي أنس وإنما هو عمران بن
أبي أنس، وقال عن عبد الله بن الحارث وإنما هو عن عبد الله
بن نافع عن ربيعة بن الحارث وربيعة بن الحارث هو ابن
المطلب فقال هو عن المطلب، والحديث عن الفضل بن عباس ولم
يذكر فيه الفضل.
قلت ورواه الليث بن سعد عن عبد ربه بن سعيد عن عمران بن
أبي أنس عن عبد الله بن نافع عن ربيعة بن الحارث عن الفضل
بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصحيح.
وقال يعقوب بن سفيان في هذا الحديث مثل قول البخاري وخطأ
شعبة وصوب الليث بن سعد، وكذلك قال محمد بن إسحاق بن
خزيمة.
وقوله تبأس معناه إظهار البؤس والفاقة وتمسكن من المسكنة،
وقيل معناه السكون والوقار والميم مذيدة فيها واقناع
اليدين رفعهما في الدعاء والمسألة، وقوله اللهم نداء معناه
يا الله، وزعم بعض النحويين أنهم لما أسقطوا ياء من أوله
عوضوا منها الميم في آخره.
وقال بعضهم اللهم معناه يا الله امنا بخير أي اقصدنا بخير
فحذف حذف الإضافة اختصارا؛ والخداج ههنا الناقص في الأجر
والفضيلة.
ومن باب قيام الليل
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عَن أبي
الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو
نام ثلاث عقد يضرب بمكان كل عقدة عليك ليلا طويلا وذكر
الحديث.
قوله قافية رأس أحدكم يريد مؤخر الرأس ومنه سمي آخر بيت
الشعر قافية.
(1/279)
وقلت لأعرابي ورد علينا أين نزلت فقال في
قافية ذلك المكان وسمى لي موضعا عرفته.
ومن باب صلاة الليل
قال أبو داود: حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي حدثنا الوليد
حدثنا الأوزاعي وابن أبي ذيب عن الزهري عن عروة عن عائشة
قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن
يفرغ من صلاة العشاء إلى أن ينصدع الفجر إحدى عشرة ركعة
يسلم من كل ثنتين ويوتر بواحدة ويمكث في سجوده قدر ما يقرأ
أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه فإذا سكت المؤذن بالأول
من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه
الأيمن حتى يأتيه المؤذن.
قلت: قوله سكت بالأول معناه الفراغ من الأذان الأول يريد
أنه لا يصلي ما دام يؤذن فإذا فرغ من الأذان وسكت قام فصلى
ركعتي الفجر.
وقوله ينصدع معناه ينشق.
ومن باب ما يؤمر به من القصد
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن
عجلان عن سعيد المقبري، عَن أبي سلمة عن عائشة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: اكْفَلوا من العمل ما تطيقون
فإن الله لا يمل حتى تملوا.
معناه أن الله سبحانه لا يمل أبدا وإن مللتم، وهذا كقول
الشاعر الشنفرى:
صَلِيتْ مني هُذيل بحرق…… لا يمل الشرَّ حتى تملوا
يريد أنه لا يمل إذا ملوا ولوكان يمل عند ملالهم لم يكن له
عليهم فضل، وقيل معناه أن الله لا يمل من الثواب ما لم
تملوا من العمل، ومعنى يمل يترك
(1/280)
لأن من مل شيئا تركه وأعرض عنه.
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن سعد حدثنا عمي حدثنا أبي
عن ابن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي
صلى الله عليه وسلم بعث إلى عثمان بن مظعون فجاءه فقال يا
عثمان ارغبة عن سنتي فقال لا والله يا رسول الله لكني سنتك
اطلب. قال فإني أنام وأصلي وأصوم وأفطر وأنكح النساء فاتق
الله يا عثمان فإن لأهلك عليك حقا وإن لضيفك عليك حقا وإن
لنفسك عليك حقا فصم وافطر وصل ونم.
قوله إن لأهلك عليك حقا، يريد أنه إذا دأب نفسه وجهدها
ضعفت قواه فلم يتسع لقضاء حق أهله. وقوله وإن لضيفك عليك
حقا، فيه دليل على أن المتطوع بالصوم إذا أضافه ضيف كان
المستحب أن يفطر ويأكل معه ليبسط بذلك منه ويزيد في إيناسه
بمواكلته إياه وذلك نوع من إكرامه وقد قال صلى الله عليه
وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه.
باب تفريع أبواب شهر رمضان
ومن باب قيام شهر رمضان
قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري حدثنا عبدة بن سليمان
عن محمد بن عمرو بن علقمة عن محمد بن إبراهيم، عَن أبي
سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة قالت: كان الناس يصلون في
المسجد في رمضان أوزاعا فأمرني رسول الله صلى الله عليه
وسلم فضربت له حصيرا فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيه وصلى بصلاته الناس وذكر الحديث.
قولها أوزاعاً يريد متفرقين ومن هذا قولهم وزعت الشيء إذا
فرقته وفيه إثبات الجماعة في قيام شهر رمضان، وفيه إبطال
قول من زعم إنها محدثة.
(1/281)
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن
زريع حدثنا داود بن أبي هند عن الوليد بن عبد الرحمن عن
جبير بن نفير، عَن أبي ذر، قال صمنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع
فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل فلما كانت السادسة لم يقم بنا
فلما كانت الخامسة قام بنا حتى إذا ذهب شطر الليل فقلت يا
رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة قال: فقال إن الرجل
إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة، قال فلما
كانت الرابعة لم يقم بنا فلما كانت الثالثة جمع أهله
ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح قال
قلت وما الفلاح، قال السحور ثم لم يقم بنا بقية الشهر.
قلت: أصل الفلاح البقاء وسمي السحور فلاحا إذ كان سبباً
لبقاء الصوم ومعيناً عليه.
قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي وداود بن أمية أن سفيان
أخبرهم، عَن أبي يعفور وقال داود بن أمية عن ابن عبيد بن
نسطاس، عَن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان إذا دخل العشر أحيا الليل وشد المئزر وأيقظ
أهله.
شد المئزر يتأول على وجهين: أحدهما هجران النساء وترك
غشيانهن. والآخَرُ الجد والتشمير في العمل.
أبواب قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله
ومن باب تحزيب القرآن
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا أبو خالد عن
عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى عن عثمان بن عبد الله بن
أوس بن حذيفة عن جده، قال قدمنا على رسول الله صلى الله
عليه وسلم في وفد ثقيف وساق الحديث قال وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يأتينا كل ليلة بعد العشاء فيحدثنا قائماً
على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول
(1/282)
القيام، وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه
قريش، قال كانت سجال الحرب بيننا وبينهم ندال عليهم
ويدالون علينا فلما كانت ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان
يأتينا فيه فقلت لقد أبطأت عنا الليلة قال أنه طرأ عليّ
حزبي من القرآن وكرهت أجيء حتى أتمه.
قوله يراوح بين رجليه هو أن يطول قيام الإنسان حتى يعيا
فيعتمد على إحدى رجليه مرة ثم يتكئ على رجله الأخرى مرة،
وسجال الحرب نوبها وهي جمع سجل وهو الدلو الكبيرة وقد يكون
السجال مصدر ساجلت الرجل مساجلة وسجالا وهو أن يستقي الرجل
من بئر أو ركية فينزع هذا سجلا وهذا سجلا يتناوبان السقي
بينهما.
وقوله ندال عليهم ويدالون علينا يريد أن الدولة تكون لنا
عليهم مرة ولهم علينا أخرى.
وقوله طرأ علي حزبي من القرآن يريد أنه كان قد أغفله عن
وقته ثم ذكره فقرأه وأصله من قولك طرأ عليّ الرجل إذا خرج
عليك فجأة طروءاً فهو طارئ.
قال ابو داود: حدثنا عباد بن موسى حدثنا إسماعيل بن جعفر
عن إسرائيل، عَن أبي إسحاق عن علقمة والأسود، قالا أتى ابن
مسعود رجل فقال إني أقرأ الفصل في ركعة فقال أهذاً كهذَّ
الشعر ونثراً كنثر الدَّقَل.
الهذ سرعة القراءة وإنما عاب عليه ذلك لأنه إذا أسرع
القراءة ولم يرتلها فاته فهم القرآن وإدراك معانيه.
سجود القرآن
ومن باب السجود في صاد
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني
عمرو عن ابن أبي هلال عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي
سرح، عَن أبي سعيد الخدري أنه قال قرأ رسول الله وهو على
المنبر صاد فلما بلغ السجدة نزل فسجد
(1/283)
وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها
فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: إنما هو توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم
للسجود فنزل وسجد وسجدوا.
قوله تشزن الناس معناه استوفزوا للسجود وتهيؤوا له وأصله
من الشزن وهو القلق يقال بات فلان على شزن إذا بات قلقاً
يتقلب من جنب إلى جنب.
واختلف الناس في سجدة صاد فقال الشافعي سجود القرآن أربع
عشرة سجدة في الحج منها سجدتان وفي المفصل ثلاثة وليس في
صاد سجدة.
وقال أصحاب الرأي في الحج سجدة واحدة وأثبتوا السجود في
صاد.
وقال إسحاق بن راهويه سجود القرآن خمس عشرة سجدة وأثبت
السجود في «ص» والسجدتين في «الحج» .
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن الفرات الرازي أخبرنا عبد
الرزاق أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقْرأ عليه القرآن فإذا
مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه.
قلت: فيه من الفقه أن المستمع للقرآن إذا قرئ بحضرته
السجدة يسجد مع القارئ. وقال مالك والشافعي إذا لم يكن قعد
لاستماع القرآن فإن شاء سجد وإن شاء لم يسجد.
وفيه بيان أن السنة أن يكبر للسجدة وعلى هذا مذهب أكثر أهل
العلم. وكذلك يكبر إذا رفع رأسه.
وكان الشافعي وأحمد بن حنبل يقولان يرفع يديه إذا أراد أن
يسجد.
وعن ابن سيرين وعطاء إذا رفع رأسه من السجود يسلم وبه قال
إسحاق بن راهويه
(1/284)
واحتج لهم في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم
تحريمها التكبير وتحليلها التسليم، وكان أحمد بن حنبل لا
يعرف التسليم في هذا.
ومن باب الوتر
باب استحباب الوتر
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عيسى عن
زكريا، عَن أبي إسحاق عن عاصم عن علي رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أهل القرآن أوتروا
فإن الله وتر يحب الوتر.
قلت تخصيصه أهل القرآن بالأمر فيه يدل على أن الوتر غير
واجب ولو كان واجبا لكان عاما وأهل القرآن في عرف الناس هم
القراء والحفاط دون العوام وسل على ذلك أيضاً قوله
للأعرابي ليس لك ولا لأصحابك.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو حفص
الأبار عن الأعمش عن عمرو بن مرة، عَن أبي عبيدة عن عبد
الله عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه فقال أعرابي ما
تقول قال ليس لك ولا لأصحابك.
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد وقتيبة المعنى قالا:
حَدَّثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن راشد
الزوفي عن عبد الله بن أبي مرة الزوفى عن خارجة بن حذافة،
قال أبو الوليد العدوي خرج علينا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر
النعم وهي الوتر فجعلها لكم ما بين صلاة العشاء إلى طلوع
الفجر.
قوله أمدكم بصلاة يدل على أنها غير لازمة لهم ولو كانت
واجبة لخرج الكلام فيه على صيغة لفظ الإلزام فيقول ألزمكم
أو فرض عليكم أو نحو ذلك من الكلام.
وقد روي أيضاً في هذا الحديث أن الله قد زادكم صلاة ومعناه
الزيادة في النوافل
(1/285)
وذلك أن نوافل الصلوات شفع لا وتر فيها،
فقيل أمدكم بصلاة وزادكم صلاة لم تكونوا تصلونها قبل على
تلك الهيئة والصورة وهي الوتر.
وفيه دليل على أن الوتر لا يقضى بعد طلوع الفجر، وإليه ذهب
مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وهو قول عطاء.
وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي يقضي الوتر وإن كان قد صلى
الفجر، وكذلك قال الأوزاعي.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو إسحاق
الطالقاني حدثنا الفضل بن موسى عن عبيد الله بن عبد الله
العتكي عن ابن بريدة عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا.
قلت معنى هذا الكلام التحريض على الوتر والترغيب فيه وقوله
ليس منا معناه من لم يوتر رغبة عن السنة فليس منا.
وقد دلت الأخبار الصحيحة على أنه لم يرد بالحق الوجوب الذي
لا يسع غيره منها خبر عبادة بن الصامت لما بلغه أن أبا
محمد رجلا من الأنصار يقول الوتر حق، فقال كذب أبو محمد ثم
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدد الصلوات
الخمس، ومنها خبر طلحة بن عبيد الله في سؤال الأعرابي؛
ومنها خبر أنس بن مالك في فرض الصلوات ليلة الإسراء.
وقد أجمع أهل العلم على أن الوتر ليس بفريضة إلاّ أنه يقال
إن في رواية الحسن بن زياد، عَن أبي حنيفة أنه قال هو
فريضة وأصحابه لا يقولون بذلك فإن صحت هذه الرواية فإنه
مسبوق بالإجماع فيه.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا همام عن قتادة عن
عبد الله بن شقيق
(1/286)
عن ابن عمر أن رجلا من أهل البادية سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال: مثنى
مثنى والوتر ركعة من آخر الليل.
قلت قد ذهب جماعة من السلف إلى أن الوتر ركعة منهم عثمان
بن عفان وسعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري
وابن عباس وعائشة وابن الزبير وهو مذهب ابن المسيب وعطاء
ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
غير أن الاختيار عند مالك والشافعي وأحمد بن حنبل أن يصلي
ركعتين ثم يوتر بركعة فإن أفرد الركعة كان جائزا عند
الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وكرهه مالك.
وقال أصحاب الرأي الوتر ثلاث لا يفصل بين الشفع والوتر
بتسليمة.
وقال سفيان الثوري الوتر ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة.
وقال الأوزاعي إن فصل بين الركعتين والثالثة فحسن وإن لم
يفصل فحسن.
وقال مالك يفصل بينهما فإن لم يفعل ونسي إلى أن قام في
الثالثة سجد سجدتي السهو.
ومن باب القنوت في الصلاة
قال أبو داود: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا الوليد
حدثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبوسلمة بن
عبد الرحمن، عَن أبي هريرة قال قنت رسول الله صلى الله
عليه وسلم في صلاة العتمة شهرا يقول في قنوته اللهم نج
الوليد بن الوليد اللهم نج سلمة بن هشام، اللهم نج
المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم
اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، قال أبو هريرة وأصبح رسول
الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلم يدع لهم فذكرت له ذلك
فقال أو ما تراهم قد قدموا.
قلت فيه من الفقه إثبات القنوت في غير الوتر.
(1/287)
وفيه دليل على أن الدعاء لقوم بأسمائهم
وأسماء آباءهم لا يقطع الصلاة وأن الدعاء على الكفار
والظلمة لا يفسدها، ومعنى الوطأة ههنا الإيقاع بهم
والعقوبة لهم، ومعنى سني يوسف القحط والجدب وهي السبع
الشداد التي أصابتهم.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن معاوية الجمحي حدثنا ثابت
بن يزيد عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس قال قنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً في الظهر
والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح في دبر كل صلاة إذا
قال سمع الله لمن حمده من الركعة الآخرة يدعوعلى أحياء من
سُليم على رِعَل وذَكوان وعصية ويؤمن من خلفه.
قلت فيه بيان أن موضع القنوت بعد الركوع لا قبله.
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا حماد بن
سلمة عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله
عليه وسلم قنت شهراً ثم تركه.
قلت معنى قوله ثم تركه أي ترك الدعاء على هؤلاء القبائل
المذكورة في الحديث الأول أو ترك القنوت في الصلوات الأربع
ولم يتركه في صلاة الصبح ولا ترك الدعاء المذكور في حديث
الحسن بن علي، وهو قوله اللهم اهدنا فيمن هديت يدل على ذلك
الأحاديث الصحيحة في قنوته إلى آخر أيام حياته.
وقد اختلف الناس في القنوت في صلاة الفجر وفي موضع القنوت
منها، فقال أصحاب الرأي لا قنوت فيها ولا قنوت إلاّ في
الوتر ويقنت قبل الركوع.
وقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يقنت
في صلاة الفجر والقنوت بعد الركوع وقد روي القنوت بعد
الركوع في صلاة الفجر،
(1/288)
عَن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله
عنهم.
فأما القنوت في شهر رمضان فمذهب إبراهيم النخعي وأهل الرأي
وإسحاق ان يقنت في أوله وآخره.
وقال الزهري ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل لا يقنت إلاّ في
النصف الآخر منه واحتجوا في ذلك بفعل أبي بن كعب وابن عمر
ومعاذ القارىء.
[جماع أبواب فضائل القرآن]
ومن باب ثواب قراءة القرآن
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب
حدثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر
الجُهني قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن
في الصُفّة فقال أيكم يحب أن يغدو إلى بُطحان أو العقيق
قيأخذ ناقتين كَوماوين زهراوين بغير إثم ولا قطع رحم قالوا
كلنا يا رسول الله، قال فلأن يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد
فيتعلم آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين.
الكوماء من الإبل العظيمة السنام.
ومن باب الترتيل في القرآن
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان قال حدثني
عاصم بن بهدلة عن زر عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق
ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية
تقرؤها.
قلت جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة،
يقال للقارىء
(1/289)
ارق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي
القرآن فمن استوفى قراءة جميع القرآن استولى على اقصى درج
الجنة ومن قرأ جزءا منها كان رقيه في الدرج على قدر ذلك
فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن
الأعمش عن طلحة عن عبد الرحمن عن عوسجة عن البراء بن عازب
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زينوا القرآن
بأصواتكم.
قلت معناه زينوا أصواتكم بالقرآن هكذا فسره غير واحد من
أئمة الحديث وزعموا أنه من باب المقلوب كما قالوا عرضت
الناقة على الحوض أي عرضت الحوض على الناقة، وكقولهم إذا
طلعت الشعرى واستوى العود على الحرباء أي استوى الحرباء
على العود وكقول الشاعر:
وتركب خيلاً لا هوادة بينها … وتشقى الرماح بالضياطرة
الحمر
وإنما هو تشقى الضياطرة بالرماح.
وأخبرنا ابن الأعرابي حدثنا عباس الدوري حدثنا يحيى بن
معين حدثنا أبو قطن عن شعبة قال نهاني أيوب أن أحدث زينوا
القرآن بأصواتكم.
قلت ورواه معمر عن منصور عن طلحة فقدم الأصوات على القرآن
وهو الصحيح أخبرناه محمد بن هاشم حدثنا الدبري عن عبد
الرزاق أخبرنا معمر عن منصور عن طلحة عن عبد الرحمن بن
عوسجة عن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
زينوا أصواتكم بالقرآن، والمعنى اشغلوا أصواتكم بالقرآن
والهجوا بقراءته واتخذوه شعارا وزينة.
وفيه دليل على هذه الرواية من طريق منصور أن المسموع من
قراءة القارئ
(1/290)
هو القرآن وليس بحكاية للقرآن.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا سفيان بن
عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن أبي مليكة عن عبيد الله بن
أبي نهيك عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ليس منا من لم يتغن بالقرآن.
قلت هذا يتأول على وجوه أحدها: تحسين الصوت والوجه الثاني:
الاستغناء بالقرآن عن غيره، وإليه ذهب سفيان بن عيينة
ويقال تغنى الرجل بمعنى استغنى قال الأعشى:
وكنت امرأ زمنا بالعراق ... عفيف المنازل طويل التغني
أي الاستغناء، وفيه وجه ثالث قاله ابن الأعرابي صاحبنا
أخبرني إبراهيم بن فراس قال: سألت ابن الأعرابي عن هذا
فقال إن العرب كانت تتغنى بالركبان إذا ركبت البل وإذا
جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها فلما نزل القرآن أحب
النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون القرآن هجيراهم مكان
التغني بالركبان.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب
حدثني عمرو بن مالك وحَيْوة عن ابن الهاد عن محمد بن
إبراهيم بن الحارث، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عَن أبي
هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أذِن الله لشيء
ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به.
قوله أذن معناه استمع يقال أذنت للشيء آذن له أذنا مفتوحه
الألف والذال قال الشاعر:
* إن همي في سماع وأذَنْ *
(1/291)
وقوله يجهر به زعم بعضهم أنه تفسير لقوله
يتغنى به، قال وكل من رفع صوته بشيء معلنا به فقد تغنى به،
وقال أبو عاصم أخذ بيدي ابن جريج فوقفني على أشعب فقال غن
ابن أخي ما بلغ من طمعك فقال بلغ من طمعي أنه ما زفت
بالمدينة جارية إلاّ رششت بابي طمعا أن تهدي إليَّ يريد
أخبره معلنا به غير مُسرّ وهذا وجه رابع في تفسير قوله ليس
منا من لم يتغن بالقرآن.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن إدريس عن
يزيد بن أبي زياد عن عيسى بن فايد عن سعد بن عبادة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من امرئ يقرأ القرآن
ثم ينساه إلاّ لقي الله يوم القيامة أجذم.
قال أبوعبيد: الأجذم المقطوع اليد وقال ابن قتيبة: الأجذم
ههنا المجذوم، وقال ابن الأعرابي: معناه أنه يلقى الله
خالي اليدين عن الخير كنى باليد عما تحويه اليد، وقال آخر
معناه لقي الله لا حجة له وقد رويناه عن سويد بن غفلة.
ومن باب أنزل القرآن على سبعة
أحرف
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة
بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القارىء قال: سمعت عمر بن
الخطاب يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا
القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه.
قلت اختلف الناس في تفسير قوله سبعة أحرف فقال بعضهم معنى
الحروف اللغات يريد أنه نزل على سبع لغات من لغات العرب هن
أفصح اللغات وأعلاها في كلامهم قالوا وهذه اللغات متفرقة
في القرآن غير مجتمعة في الكلمة الواحدة
(1/292)
وإلى نحو من هذا أشار أبو عبيد.
وقال القتبي لا نعرف في القرآن حرفاً يقرأ على سبعة أوجه،
وقال ابن الأنباري هذا غلط وقد وجد في القرآن حروف تصح أن
تقرأ على سبعة أحرف منها قوله تعالى {وعبد الطاغوت}
[المائدة: 60] وقوله {أرسله معنا غدا يرتع ويلعب} [يوسف:
12] وذكر وجوهها كأنه يذهب في تأويل الحديث إلى أن بعض
القرآن أنزل على سبعة أحرف لا كله.
وقد ذكر بعضهم فيه وجها آخر قال وهو أن القرآن أنزل
مرخَّصا للقارئ وموسعا عليه أن يقرأه على سبعة أحرف أي
يقرأه بأي حرف شاء منها على البدل من صاحبه ولو أراد أن
يقرأ على معنى ما قاله ابن الأنباري لقيل أنزل القرآن
بسبعة أحرف فإنما قيل على سبعة أحرف ليعلم أنه أريد به هذا
المعنى أي كأنه أنزل على هذا من الشرط أو على هذا من
الرخصة والتوسعة وذلك لتسهل قراءته على الناس ولو أخذوا
بأن يقرؤوه على حرف واحد لشق عليهم ولكان ذلك داعيةً
للزهادة فيه وسببا للنفورعنه.
وقيل فيه وجه آخر وهو أن المراد به التوسعة ليس حصر العدد.
ومن باب الدعاء
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي حدثنا عبد
الملك بن محمد بن أيمن عن عبد الله بن يعقوب بن إسحاق عمن
حدثه عن محمد بن كعب القرظي حدثني عبد الله بن عباس أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من نظر في كتاب أخيه
بغير إذنه فإنما ينظر في النار.
قوله فإنما ينظر في النار إنما هو تمثيل يقول كما يحذر
النار فليحذر هذا الصنيع
(1/293)
إذ كان معلوماً أن النظر إلى النار
والتحديق إليها يضر بالبصر، وقد يحتمل أن يكون أراد بالنظر
إلى النار الدنو منها والصُّليَّ بها لأن النظر إلى الشيء
إنما يتحقق عند قرب المسافة بينك وبينه والدنو منه.
وفيه وجه آخر وهو أن يكون معناه كأنما ينظر إلى ما يوجب
عليه النار فأضمره في الكلام.
وزعم بعض أهل العلم أنه إنما أراد به الكتاب الذي فيه
أمانة أو سر يكره صاحبه أن يطلع عليه أحد دون الكتب التي
فيها علم فإنه لا يحل منعه ولا يجوز كتمانه، وقيل أنه علم
في كل كتاب لأن صاحب الشيء أولى بماله وأحق بمنفعة ملكه
وإنما يأثم بكتمان العلم الذي يسأل عنه، فأما أن يأثم في
منعه كتابا عنده وحبسه عن غيره فلا وجه له والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا حفص بن غياث
عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن عائشة أنها
سُرقت مِلحفة لها فجعلت تدعو على من سرقها فجعل النبي صلى
الله عليه وسلم يقول لا تسبخي عنه.
قوله لا تسبخي عنه معناه لا تخففي عنه بدعائك، وقال أعرابي
الحمد لله على تسبيخ العروق واساغة الريق.
قال أبو داود: حدثنا داود بن أمية حدثنا سفيان بن عيينة عن
محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن كريب عن ابن عباس أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول سبحان الله وبحمده
عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
قوله مداد كلماته أي قدر ما يوازيها في العدد والكثرة،
والمداد بمعنى المدد قال الشاعر:
(1/294)
رأوا بارقات بالأكف كأنها ... مصابيح سرج
أوقدت بمداد
أي بمدد من الزيت وحكى الفراء عن العرب أنهم يجمعون
المُدَّ مدادا قال أنشدني الحارثي:
ما يَزْنَ في البحر بخير سعد ... وخير مد من مداد البحر
فيكون على هذا معناه أنه يسبح الله على قدر كلماته عيار
كيل أو وزن أو ما أشبههما من وجوه الحصر والتقدير، وهذا
كلام تمثيل يراد به التقريب لأن الكلام لا يقع في المكاييل
ولا يدخل في الوزن ونحوذلك.
قال أبو داود: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا الوليد
بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية حدثني محمد بن
أبي عائشة حدثني أبو هريرة قال قال أبوذر يا رسول الله ذهب
أصحاب الدثور بالأجور وذكر الحديث.
الدثور جمع الدثر وهو المال الكثير.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن عمرو بن
مرة عن عبد الله بن الحارث عن طليق بن قيس عن ابن عباس قال
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: رب تقبل
توبتي واغسل حَوبتي.
الحوبة الزلة والخطيئة والحوب الإثم.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن ثابت،
عَن أبي بردة عن الأغر المزني قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أنه ليُغان على قلبي وإني لأستغفر الله في كل
يوم مائة مرة.
قوله يغان معناه يُغطي ويلبس على قلبي، وأصله من الغين وهو
الغطاء وكل حائل بينك وبين شيء فهو غين ولذلك قيل للغيم
غين.
(1/295)
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد أخبرنا
الليث عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أخيه عباد بن أبي
سعيد أنه سمع أبا هريرة يقول: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من الأربع من علم لا ينفع
وقلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعاء لا يسمع.
قوله لا يسمع معناه لا يجاب ومن هذا قول المصلي سمع الله
لمن حمده يريد استجاب الله دعاء من حمده. قال الشاعر:
دعوت الله حتى خفت ألاّ …يكون الله يسمع ما أقول
أي لا يجيب ما أدعو به.
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر حدثني مكي بن
إبراهيم حدثني عبد الله بن سعيد عن صيفي مولى أفلح مولى
أبي أيوب، عَن أبي اليسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يدعو (اللهم إني أعوذ بك من الهدم وأعوذ بك من التردي
ومن الغرق والحرق والهرم وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان
عند الموت وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن
أموت لديغا) .
قلت: استعاذته من تخبط الشيطان عند الموت هو أن يستولي
عليه الشيطان عند مفارقة الدنيا فيضله ويحول بينه وبين
التوبة أو يعوقه عن إصلاح شأنه والخروج من مظلمة تكون قبله
أو يؤيسه من رحمة الله أو يتكره الموت ويتأسف على حياة
الدنيا فلا يرضى بما قضاه الله من الفناء والنُّقلة إلى
الدار الآخرة فيختم له بالسوء ويلقى الله وهوساخط عليه.
وقد روي أن الشيطان لا يكون في حال أشد على ابن آدم منه في
حال الموت يقول لأعوانه دونكم هذا فإنه إن فاتكم اليوم لم
تلحقوه.
(1/296)
بالله نعوذ من شره ونسأله أن يبارك لنا في
ذلك المصرع وأن يختم لنا بخير.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا
قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم
إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سيء الأسقام.
قلت يشبه أن يكون استعاذته من هذه الأسقام لأنها عاهات
تفسد الخلقة وتبقي الشين وبعضها يؤثر في العقل وليست كسائر
الأمراض التي إنما هي أعراض لا تدوم كالحمى والصداع وسائر
الأمراض التي لا تجري مجرى العاهات وإنما هي كفارات وليست
بعقوبات.
ومن كتاب الجنائز
قال أبو داود: حدثنا عبد العزبز بن يحيى حدثنا محمد بن
سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد
قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود عبد الله بن
أُبي في مرضه الذي مات فيه فلما دخل عليه عرف فيه الموت
قال قد كنت أنهاك عن حب اليهود قال فقد أبغضهم أسعد بن
زرارة فَمَهْ فلما مات أتاه ابنه فقال يا رسول الله إن عبد
الله بن أبي قد مات فأعطني قميصك أكفنه فنزع رسول الله صلى
الله عليه وسلم قميصه فأعطاه إياه.
قلت كان أبو سعيد بن الأعرابي يتأول ما كان من تكفين النبي
صلى الله عليه وسلم
(1/297)
عبد الله بن أبي بقميصه على وجهين: أحدهما
أن يكون أراد به تألف ابنه وإكرامه فقد كان مسلما بريئاً
من النفاق، والوجه الآخر أن عبد الله بن أبي كان قد كسا
العباس بن عبد المطلب قميصا فأراد صلى الله عليه وسلم أن
يكافئه على ذلك لئلا يكون لمنافق عنده يد لم يجازه عليها.
وحدثنا بهذه القصة ابن الأعرابي حدثنا سعدان بن نصر حدثنا
سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله
يقول كان العباس بن عبد المطلب بالمدينة فطلبت الأنصار له
ثوبا يكسونه فلم يجدوا قميصا يصلح عليه إلاّ قميص عبد الله
بن أبي فكسوه إياه.
وكان أيضاً حدثنا بالحديث الأول الذي رواه أبو داود زادنا
فيه شيئا لم يذكره أبو داود وقال حدثنا سعدان بن نصر حدثنا
سفيان بن عيينة عن عمرو سمع جابر بن عبد الله قال: أتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر عبد الله بن أبي بعدما
ادخل حفرته فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه أو فخذيه فنفس
فيه من ريقه وألبسه قميصه.
قلت: عبد الله بن أُبي منافق ظاهر النفاق أنزل الله تعالى
في كفره ونفاقه آيات من القرآن تتلى فاحتمل أن يكون صلى
الله عليه وسلم إنما فعل ذلك قبل أن ينزل قوله تعالى {ولا
تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره} [التوبة:
84] واحتمل أن يكون معناه ماذهب إليه ابن الأعرابي من
التأويل والله أعلم.
وفي الحديث دليل على جواز التكفين بالقميص. وفيه دليل على
جواز إخراج الميت من القبر بعد الدفن لعلة أو سبب.
(1/298)
ومن باب فضل العيادة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن الحكم عن
عبد الله بن نافع عن علي رضي الله عنه قال: ما من رجل يعود
مريضا ممسياً إلاّ خرج معه سبعون ألفَ ملكٍ يستغفرون له
حتى يصبح وكان له خريف في الجنة، ومن أتاه مصبحا خرج معه
سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسي وكان له خريف في
الجنة.
قال أبو داود أُسند هذا عن عليّ من غير وجه صحيح عن النبي
صلى الله عليه وسلم.
قوله كان له خريف في الجنة أي مخروف من ثمر الجنة فعيل
بمعنى مفعول، وهذا كحديثه الآخر عائد المريض على مخارف
الجنة، والمعنى والله أعلم أنه بسعيه إلى عيادة المريض
يستوجب الجنة ومخارفها.
ومن باب الخروج من الطاعون
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن ما لك عن ابن شهاب عن عبد
الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن عبد
الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس قال: قال عبد
الرحمن بن عوف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم
بها فلا تخرجوا فرارا منه، يَعني الطاعون.
قلت في قوله لا تقدموا عليه إثبات الحذر والنهي عن التعرض
للتلف وفي قوله لا تخرجوا فرارا منه إثباب التوكل والتسليم
لأمرالله وقضائه فأحد الأمرين تأديب وتعليم والآخر تفويض
وتسليم.
ومن باب موت الفُجأة
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة عن منصور عن
تميم بن
(1/299)
سلمة أو سعد بن عُبيدة عن عبيد بن خالد
السُّلمي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال مرة عن عبيد قال موت
الفجأة اخذة أسف.
الأسف الغضبان ومن هذا قوله تعالى {فلما آسفونا انتقمنا
منهم} [الزخرف: 55] ومعناه والله أعلم أنهم فعلوا ما أوجب
الغضب عليهم والانتقام منهم.
ومن باب فضل من مات في الطاعون
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن عبد
الله بن جابر بن عتيك عن عَتيك بن الحارث بن عتيك وهو جد
عبد الله بن عبد الله أبو أمه أنه خبره أن جابر بن عتيك
أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله
بن ثابت فوجده قد غلب عليه فصاح به رسول الله صلى الله
عليه وسلم فلم يجبه فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال: غلبنا عليك يا أبا الرجيع فصاح النسوة وبكين فجعل
ابن عتيك يسكتهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهن
فإذا وجب فلا تبكين باكية قالوا وما الوجوب يا رسول الله
قال الموت، فقالت ابنته والله إن كنتُ لأرجو أن تكون شهيدا
فإنك قد كنت قضيت جهازك فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: قد وقع أجره على قدر نيته وماتعدون الشهادة قالوا
القتل في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله المطعون شهيد والغريق
شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد وصاحب الحريق
شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيد.
قلت أصل الوجوب في اللغة السقوط قال الله تعالى {فإذا وجبت
جنوبها فكلوا منها} [الحج: 36] وهو أن تميل فتسقط وإنما
يكون ذلك إذا زهقت نفسها، ويقال للشمس إذا غابت قد وجبت
الشمس.
(1/300)
وقوله والمرأة تموت بجمع فهو أن تموت وفي
بطنها ولد.
ومن باب ما يستحب من حسن الظن
بالله عند الموت
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا
الأعمش، عَن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: قبل موته بثلاث لا يموت
أحدكم إلاّ وهو يحسن بالله الظن.
قلت إنما يحسن بالله الظن من حسن عمله فكأنه قال أحسنوا
أعمالكم يحسن ظنكم بالله فإن من ساء عمله ساء ظنه؛ وقد
يكون أيضاً حسن الظن بالله من ناحية الرجاء وتأميل العفو
والله جواد كريم لا آخذنا الله بسوء أفعالنا ولا وكلنا إلى
حسن أعمالنا برحمته.
ومن باب ما يستحب من تطهير
ثياب الميت
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا ابن أبي مريم
أخبرنا يحيى بن أيوب عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم، عَن
أبي سلمة، عَن أبي سعيد الخدري أنه لما حضره الموت دعا
بثياب جدد فلبسها، ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها.
قلت أما أبو سعيد فقد استعمل الحديث على ظاهره، وقد روي في
تحسين الكفن أحاديث وقد تأوله بعض العلماء علي خلاف ذلك
فقال معنى الثياب العمل كنى بها عنه يريد أنه يبعث على ما
مات عليه من عمل صالح أوعمل سيء.
قال والعرب تقول فلان طاهر الثياب إذا وصفوه بطهارة النفس
والبراءة من العيب ودنسُ الثياب إذا كان بخلاف في ذلك
واستدل في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: تحشر الناس
حفاة عراة، فدل ذلك على أن معنى الحديث ليس على الثياب
التي
(1/301)
هي الكفن، وقال بعضهم البعث غير الحشر فقد
يجوز أن يكون البعث مع الثياب والحشر مع العري والحفا
والله أعلم.
ومن باب في التعزية
قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله أخبرنا
المفضل عن ربيعة بن سيف المعافري، عَن أبي عبد الرحمن
الحبُلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قبرنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوما، يَعني ميتا فلما فرغنا
انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفنا معه فلما
حاذى بابه وقف فإذا نحن بامرأة مقبلة قال أظنه عرفها فلما
ذهبت إذا هي فاطمة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما أخرجك يا فاطمة من بيتك؟ قالت أتيت يا رسول الله أهل
هذا البيت فرحّمت إليهم ميتهم أو عزيتهم به، قال لها رسول
الله صلى الله عليه وسلم: فلعلك بلغت معهم الكُدَى قالت
معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر قال لو بلغت معهم
الكدى فذكر تشديداً في ذلك فسألت ربيعة عن الكدى قال
القبور فيما أحسب.
الكدى جمع الكدية وهي القطعة الصلبة من الأرض والقبور إنما
تحفر في المواضع الصلبة لئلا تنهار، والعرب تقول ما هو
إلاّ ضب كُدية إذا وصفوا الرجل بالدهاء والأرب، ويقال أكدى
الرجل إذا حفر فأفضى إلى الصلابة ويضرب به المثل فيمن أخفق
فلم ينجح في طلبته.
ومن باب النوح
قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري عن عبدة وأبي معاوية
المعنى عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: إن الميت ليعذب ببكاء
(1/302)
أهله عليه فذكر ذلك لعائشة فقالت وَهَل
تعني ابن عمر إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على
قبر يهودي فقال إن صاحبه ليعذب وأهله يبكون عليه ثم قرأت
{ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164] ولم يقل عبدة
يهودي.
قلت قد يحتمل أن يكون الأمر في هذا على ما ذهبت إليه عائشة
لأنها قد روت أن ذلك إنما كان في شأن يهودي والخبر المفسر
أولى من المجمل ثم احتجت له بالآية، وقد يحتمل أن يكون ما
رواه ابن عمر صحيحا من غير أن يكون فيه خلاف الآية وذلك
أنهم كانوا يوصون أهليهم بالبكاء والنوح عليهم وكان ذلك
مشهورا من مذاهبهم وهو موجود في أشعارهم كقول القائل وهو
طرَفة:
إذا مت فأنعيني بما أنا أهله ... وشقي عليّ الجيب يا أم
معبد
وكقول لَبيد:
فقوما فقولا بالذي تعلمانه … ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا
الشعر
وقولا هو المرء الذي لا صديقه …أضاع ولا خان الأمين ولا
غدر
إلى الحول ثم اسم لسلام عليكما …ومن يبك حولاً كاملاً فقد
اعتذر
ومثل هذا كثير في أشعارهم وإذا كان كذلك فالميت إنما تلزمه
العقوبة في ذلك بما تقدم من أمره إياهم بذلك وقت حياته،
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سن سنة حسنة فله
أجرها وأجر من عمل بها ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر
من عمل بها، وقولها وهل ابن عمر معناه ذهب وهَله إلى ذلك
يقال وهل الرجل ووهم بمعنى واحد كل ذلك بفتح الهاء فإذا
قلت وهل بكسر الهاء كان معناه فزِع.
وفيه وجه آخر ذهب إليه بعض أهل العلم، قال وتأويله أنه
مخصوص في بعض الأموات الذين وجب عليهم بذنوب اقترفوها وجرى
من قضاء الله سبحانه
(1/303)
فيهم أن يكون عذابه وقت البكاء عليهم،
ويكون كقولهم مطرنا بنوء كذا أي عند نوء كذا، كذلك قوله إن
الميت يعذب ببكاء أهله أي عند بكائهم عليه لاستحقاقه ذلك
بذنبه ويكون ذلك حالا لا سببا لأنا لو جعلناه سببا لكان
مخالفا للقرآن وهو قوله تعالى {لا تزر وازرة ورر أخرى}
[الأنعام: 164] والله أعلم.
ومن باب الشهيد لم يغسل
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب
أخبرني أسامة بن زيد الليثي أن ابن شهاب أخبره أن أنس بن
مالك حدثه أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل
عليهم.
قال وحدثنا ابن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب (ح) قال:
وحدثنا قتيبة حدثنا أبو صفوان عن أسامة عن الزهري عن أنس
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على حمزة وقد مثل به
فقال لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى تأكله العافية
حتى يحشر من بطونها، وقلت الثياب وكثرت القتلى فكان الرجل
والرجلان والثلاثة يكفنون في الثوب الواحد زاد قتيبة
يدفنون في قبر واحد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يسأل أيهم أكثر قرآنا فيقدمه إلى القبلة.
العافية السباع والطير التي تقع على الجيف فتأكلها وتجمع
على العوافي.
وفيه من الفقه أن الشهيد لا يغسل وهو قول عوام أهل العلم.
وفيه أنه لا يصلى عليه وإليه ذهب أكثر العلماء، وقال أبو
حنيفة لا يغسل ولكن يصلى عليه، ويقال ان المعنى في ترك
غسله ما جاء أن الشهيد يأتي يوم القيامة
(1/304)
وكلمه يدمى الريح ريح المسك واللون لون
الدم.
وقد يوجد الغسل في الأحياء مقرونا بالصلاة، وكذلك الوضوء
فلا يجب التطهر على أحد إلاّ من أجل صلاة يصليها، إلاّ أن
الميت لا فعل له فأمرنا أن نغسله ليُصلى عليه فإذا سقط
الغسل سقطت الصلاة والله أعلم.
والحديث مستغنى بنفسه عن الاستشهاد له بدلائل الأصول.
وفيه جواز أن تدفن الجماعة في القبر الواحد وأن أفضلهم
يقدم إلى القبلة وإذا ضاقت الأكفان وكانت الضرورة جاز أن
يكفن الجماعة منهم في الثوب الواحد.
قال أبو داود: حدثنا عباس العنبري حدثنا عثمان بن عمر
حدثنا أسامة عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم
مر بحمزة وقد مثل به ولم يصل على أحد من الشهداء غيره.
قلت قد تأول قوم تركه الصلاة على قتلى أحد على معنى
اشتغاله في ذلك اليوم عنهم وليس هذا بتأويل صحيح لأنه قد
دفنهم مع قيام الشغل ولم يتركهم على وجه الأرض وأكثر
الروايات أنه لم يصل عليهم.
وقد تأول بعضهم ماروي من صلاته على حمزة فجعلها بمعنى
الدعاء زيادة خصوصية له وتفضيلا له على سائر أصحابه.
ومن باب كيف غسل الميت
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك (ح) قال: وحدثنا مسدد
حدثنا حماد بن زيد المعنى عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أم
عطية قالت دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
توفيت ابنته فقال: اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو
(1/305)
أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر واجعلن
في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور فإذا فرغتن فآذنني فلما
فرغنا آذناه فأعطانا حقوة فقال أشعرنها إياه ولم يقل مسدد
دخل علينا.
الحقوة الإزار، وقوله أشعرنها إياه يريد اجعلنه شعارا لها
وهو الثوب الذي يلي جسدها.
وفيه أن عدد الغسلات وتر وأن من السنة أن يكون في آخر
الماء شيء من الكافور وأن يغسل الميت بالسدر أو بما في
معناه من أشنان ونحوه إذا كان على بدنه شيء من الدرن أو
الوسخ.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الأعلى
حدثنا هشام عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت ضفرنا رأسها
ثلاثة.
تريد ثلاثة قرون والضفر أصله الفتل. وفيه دليل على أن
تسريح لحية الميت مستحب.
ومن باب الكفن
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش،
عَن أبي وائل عن خباب قال: قتل مصعب بن عمير يوم أحد ولم
يكن له إلاّ نَمِرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه
وإذا غطينا رجله خرج رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله من الإذخر.
النمرة ضرب من الأكسية وفيه من الفقه أن الكفن من رأس
المال وأن الميت إذا استغرق كفنه جميع تركته كان أحق به من
الورثة.
(1/306)
ومن باب الغسل من
غسل الميت
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك
حدثني ابن أبي ذئب عن القاسم بن عباس عن عمرو بن عمير، عَن
أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من غسل
الميت فليغتسل ومن حمله فليتوضأ.
قلت لا أعلم أحداً من الفقهاء يوجب الاغتسال من غسل الميت
ولا الوضوء من حمله، ويشبه أن يكون الأمر في ذلك على
الاستحباب، وقد يحتمل أن يكون المعنى فيه إن غاسل الميت لا
يكاد يأمن أن يصيبه نضح من رشاش الغسول وربما كان على بدن
الميت نجاسة فإذا أصابه نضحه وهو لا يعلم مكانه كان عليه
غسل جميع البدن ليكون الماء قد أتى على الموضع الذي أصابه
النجس من بدنه. وقد قيل معنى قوله فليتوضأ أي ليكن على
وضوء ليتهيأ له الصلاة على الميت والله أعلم. وفي إسناد
الحديث مقال.
ومن باب الركوب في الجنازة
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا
شعبة عن سماك سمع جابر بن سمرة قال صلى النبي صلى الله
عليه وسلم على ابن الدحداح ونحن شهود ثم أتي بفرس فعقل حتى
ركبه فجعل يتوقص به ونحن نسعى حوله.
التوقص أن ترفع يديها وتثب به وثبا متقاربا واصل الوقص
الكسر.
ومن باب المشي أمام الجنازة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي حدثنا سفيان بن عيينة عن
الزهري عن سالم عن أبيه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما يمشون أمام الجنازة.
(1/307)
قلت أكثر أهل العلم على استحباب المشي أمام
الجنازة، وكان أكثر الصحابة يفعلون ذلك، وقد روي عن علي بن
أبي طالب وأبي هريرة أنهما كان يمشيان خلف الجنازة.
وقال أصحاب الرأي لا بأس بالمشي أمامها والمشي خلفها أحب
إلينا.
وقال الأوزاعي هو سعة وخلفها أفضل، فأما الراكب فلا أعلمهم
اختلفوا في أنه يكون خلف الجنازة.
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن يونس عن زياد
بن جبيرعن أبيه عن المغيرة قال وأحسب أن أهل زياد أخبروني
أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال الراكب يسير
خلف الجنازة والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها وعن
يسارها قريبا منها والسِّقط يصلى عليه ويدعى لوالديه
بالمغفرة والرحمة.
قلت اختلف الناس في الصلاة على السقط فروي عن ابن عمر أنه
قال يصلى عليه وإن لم يستهل وبه قال ابن سيرين وابن
المسيب.
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه كل مانفخ فيه الروح
وتمت له أربعة أشهر وعشر صُلي عليه.
وقال إسحاق وإنما الميراث بالاستهلال، فأما الصلاة فإنه
يصلى عليه لأنه نسمة تامة قد كتب عليه الشقاء والسعادة
فلأي شيء يترك الصلاة عليه.
وروي عن ابن عباس أنه قال إذا استهل ورث وصُلّي عليه.
وعن جابر إذا استهل صلي عليه وإن لم يستهل لم يصل عليه،
وبه قال أصحاب الرأي وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي.
(1/308)
ومن باب الإمام يصلي
على من قتل نفسه
قال أبو داود: حدثنا ابن نُفيل حدثنا زهير حدثنا سماك
حدثني جابر بن سمرة قال نحر رجل نفسه بِمشقَص فأُخبر به
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إذاً لا أصلي عليه.
المشقص نصل عريض وترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة
عليه معناه العقوبة له والردع لغيره عن مثل فعله.
وقد اختلف الناس في هذا فكان عمر بن عبد العزيز لا يرى
الصلاة على من قتل نفسه، وكذلك قال الأوزاعي وقال أكثر
الفقهاء يصلى عليه.
ومن باب فيمن قتلتْه الحدود
قال أبو داود: حدثنا أبو كامل حدثنا أبو عَوانة، عَن أبي
بشر جعفر حدثني نفر من أهل البصرة، عَن أبي برزه الأسلمي
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز بن مالك
ولم ينه عن الصلاة عليه.
قلت كان الزهري يقول يصلى على الذي يقاد منه في حد ولا
يصلى على من قتل في رجم. وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي
الله عنه أنه أمر أن يصلى على شُراحة وقد رجمها وهو قول
أكثر العلماء.
وقال الشافعي لا تترك الصلاة على أحد من أهل القبلة براً
كان أو فاجراً.
وقال أصحاب الرأي والأوزاعي يغسل المرجوم ويصلى عليه، وقال
مالك من قتله الإمام في حد من الحدود فلا يصلى عليه الإمام
ويصلي عليه أهله إن شاؤوا أو غيرهم. وقال أحمد لا يصلي
الإمام على قاتل نفس ولا غالٍّ. وقال أبوحنيفة من قتل من
المحاربين أو صلب لم يصل عليه، وكذلك الفئة الباغية لا
يصلى
(1/309)
على قتلاهم. وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أن
تارك الصلاة إذا قتل لم يصل عليه ويصلى على من سواه ممن
قتل في حد أو قصاص.
ومن باب الصلاة على المسلم
يليه أهل الشرك
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد
بن المسيب، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نعى للناس النجاشي لليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى
فصف بهم وكبر أربع تكبيرات.
قلت: النجاشي رجل مسلم قد آمن برسول الله صلى الله عليه
وسلم وصدقه على نبوته إلا أنه كان يكتم إيمانه، والمسلم
إذا مات وجب على المسلمين أن يصلوا عليه إلاّ أنه كان بين
ظهراني أهل الكفر ولم يكن بحضرته من يقوم بحقه في الصلاة
عليه فلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك إذ هو
نبيه ووليه وأحق الناس به فهذا والله أعلم هو السبب الذي
دعاه إلى الصلاة عليه بظهر الغيب، فعلى هذا إذا مات المسلم
ببلد من البلدان وقد قضى حقه في الصلاة عليه فإنه لا يصلي
عليه من كان ببلد آخر غائبا عنه فإن علم أنه لم يصل عليه
لعائق أو مانع عذر كانت السنة
(1/310)
أن يصلى عليه ولا يترك ذلك لبعد المسافة
فإذا صلوا عليه استقبلوا القبلة ولم يتوجهوا إلى بلد الميت
إن كان في غير جهة القبلة.
وقد ذهب بعض العلماء إلى كراهية الصلاة على الميت الغائب
وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بهذا الفعل
إذ كان في حكم المشاهد للنجاشي لما روي في بعض الأخبار أنه
قد سويت له أعلام الأرض حتى كان يبصر مكانه، وهذا تأويل
فاسد لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فعل شيئا من
أفعال الشريعة كان علينا متابعته والايتساء به والتخصيص لا
يعلم إلاّ بدليل. ومما يبين ذلك أنه صلى الله عليه وسلم
خرج بالناس إلى المصلى فصف بهم فصلوا معه فعلمت أن هذا
التأويل فاسد والله أعلم.
ومن باب الصلاة على الطفل
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا يعقوب بن
إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني عبد الله بن
أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت مات إبراهيم
ابن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهرا فلم
يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت كان بعض أهل العلم يتأول ذلك على أنه إنما ترك الصلاة
عليه لأنه قد استغنى بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن قربة الصلاة كما استغنى الشهداء بقربة الشهادة عن
الصلاة عليهم.
وقد روى عطاء مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على
ابنه إبراهيم. ورواه أبو داود في هذا الباب. حدثنا سعيد بن
يعقوب الطالقاني عن ابن المبارك عن يعقوب بن القعقاع عن
عطاء.
قلت وهذا أولى الأمرين وإن كان حديث عائشة أحسن اتصالا،
وقد روي
(1/311)
أن الشمس قد خسفت يوم وفاة إبراهيم فصلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخسوف فاشتغل بها عن
الصلاة عليه والله أعلم.
ومن باب الصلاة على الجنازة في
المسجد
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا فليح بن سليمان
عن صالح بن عجلان ومحمد بن عبد الله بن عباد عن عباد بن
عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت والله ما صلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلاّ في المسجد.
قال وحدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن أبي ذئب حدثني صالح
مولى التوأمة، عَن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له.
قلت الحديث الأول أصح وصالح مولى التوأمة ضعفوه وكان قد
نسي حديثه في آخر عمره، وقد ثبت أن أبا بكر وعمر رضي الله
عنهما صلي عليهما في المسجد ومعلوم أن عامة المهاجرين
والأنصار شهدوا الصلاة عليهما ففي تركهم إنكاره دليل على
جوازه.
وقد يحتمل أن يكون معناه ان ثبت الحديث متأولاً على نقصان
الأجر وذلك أن من صلى عليها في المسجد فإن الغالب أنه
ينصرف إلى أهله ولا يشهد دفنه وإن من سعى إلى الجبان فصلى
عليها بحضرة المقابر شهد دفنه فأحرز أجر القيراطين وهو
مارواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من
صلى على جنازة فله قيراط ومن شهد دفنها فله قيراطان
والقيراط مثل أحد، وقد يؤجر أيضاً على كثرة خطاه فصار الذي
يصلي عليها في المسجد منقوص الأجر بالإضافة إلى من صلى
عليها برّاً والله أعلم.
(1/312)
ومن باب الدفن عند
طلوع الشمس وعند غروبها
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا
موسى بن علي بن رباح قال سمعت أبي يحدث أنه سمع عقبة بن
عامر قال ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
ينهانا أن يصلى فيهن أو نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس
طزغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل وحين تضيف
الشمس للغروب حتى تغرب أوكما قال.
قوله تضيف معناه تميل وتجنح للغروب يقال ضاف الشيء يضيف
بمعنى مال ومنه اشتق اسم الضيف، ويقال ضفت الرجل إذا ملت
نحوه وكنت له ضيفا وأضفته إذا أملته إلى رحلك فقربته.
واختلف الناس في جوار الصلاة على الجنازة والدفن في هذه
الساعات الثلاث فذهب أكثر أهل العلم إلى كراهية الصلاة على
الجنائز في الأوقات التي تكره الصلاة فيها وروي ذلك عن ابن
عمر وهو قول عطاء والنخعي والأوزاعي، وكذلك قال سفيان
الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وكان
الشافعي يرى الصلاة على الجنائز أي ساعة شاء من ليل أو
نهار وكذلك الدفن أي وقت كان من ليل أو نهار.
قلت قوله الجماعة أولى لموافقته الحديث.
ومن باب أين يقوم الإمام من
الميت إذا صلى عليه
قال أبو داود: حدثنا داود بن معاذ حدثنا عبد الوارث عن
نافع أبي غالب قال صليت خلف أنس بن مالك على جنازة عبد
الله بن عمير فقام عند رأسه
(1/313)
فكبر أربع تكبيرات ثم صلى على امرأة فقام
عند عجيزتها فقيل له هكذا كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يصلي على الجنائز كصلاتك يكبر عليها أربعا ويقوم عند
رأس الرجل وعجيزة المرأة قال نعم. وذكر أنس أنه شهد حنينا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان رجل من المشركين
يحمل على المسلمين فيدمغهم ويحطمهم ثم هزمهم الله وجعل
يجاء بهم فيبايعونه على الإسلام فقال رجل، يَعني من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم إن علي نذراً إن جاء الله
بالرجل الذي كان منذ اليوم يحطمنا لأضربن عنقه وحيء بالرجل
فقال يا رسول الله تبت إلى الله فأمسك رسول الله صلى الله
عليه وسلم لا يبايعه ليفي الرجل بنذره فجعل الرجل يتصدى
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمره بقتله وجعل يهاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتله فلما رأى رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه لا يصنع شيئا بايعه فقال الرجل يا
رسول الله نذري فقال إني لم أمسك منذ اليوم إلاّ لتفي
بنذرك قال يا رسول الله أفلا أومضت إلي فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه ليس لنبي يومض.
قلت الإيماض الرمذ بالعين والإيماء بها، ومنه وميض البرق
وهو لمعانه.
وأما قوله ليس لنبي يومض فإن معناه أنه لا يجوز له فيما
بينه وبين ربه عز وجل أن يضمر شيئا ويظهر خلافه لأن الله
تعالى إنما بعثه بإظهار الدين وإعلان الحق فلا يجوز له
ستره وكتمانه لأن ذلك خداع؛ ولا يحل له أن يؤمن رجلا قي
الظاهر ويخفره في الباطن.
وفي الحديث دليل على أن الإمام بالخيار بين قتل الرجال
البالغين من الأسارى وبين حقن دمائهم ما لم يسلموا فإذا
أسلموا فلا سبيل عليهم.
وقد اختلف الناس في موقف الإمام من الجنازة فقال أحمد يقوم
من المرأة بحذاء وسطها ومن الرجل بحذاء صدره.
(1/314)
وقال أصحاب الرأي يقوم من الرجل والمرأة
بحذاء الصدر.
وأما التكبيرفقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خمس
وأربع فكان آخر ما كان يكبر أربعا وكان علي بن أبي طالب
يكبر على أهل بدر ست تكبيرات وعلى سائر الصحابة خمسا وعلى
سائر الناس أربعا، وكان ابن عباس هى التكبير على الجنازة
ثلاثا.
ومن باب الصلاة على القبر
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا: حَدَّثنا
حماد عن ثابت، عَن أبي رافع، عَن أبي هريرة أن امرأة سوداء
أو رجلا كان يَقُمُّ المسجد ففقده النبي صلى الله عليه
وسلم فسأل عنه فقيل مات فقال ألا آذنتموني به قال دلوني
على قبره فدلوه فصلى عليه.
قوله يقم معناه يكنس والقمام الكُناسة وفيه بيان جواز
الصلاة على القبر لمن لم يلحق الصلاة على الميت قبل الدفن.
ومن باب كراهية الذبح عند
الميت
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن موسى البلخي حدثنا عبد الرزاق
أخبرنا معمر عن ثابت عن أنس قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: لا عَقْر في الإسلام.
قلت كان أهل الجاهلية يعقرون الإبل على قبر الرجل الجواد
يقولون نجازيه على فعله لأنه كان يعقرها في حياته فيطعمها
الأضياف فنحن نعقرها عند قبره لتأكلها السباع والطير فيكون
مطعما بعد مماته كما كان مطعما في حياته.
قال الشاعر:
عقرت على قبر النجاشي ناقتي ... بأبيضَ عَضب أخلصته صياقله
(1/315)
على قبر من لوأنني مت قبله ... لهانت عليه
عند قبري رواحله
ومنهم من كان يذهب في ذلك إلى أنه إذا عقرت راحلته عند
قبره حشر في القيامة راكباً ومن لم يعقر عنه حشر راجلا،
وكان هذا على مذهب من يرى البعث منهم بعد الموت.
ومن باب في البناء على القبر
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا
ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقعد على القبر
وأن يقصص وأن يبنى عليه.
قلت نهيه عن القعود على القبر يتأول على وجهين: أحدهما أن
يكون ذلك في القعود عليه للحديث. والوجه الآخر كراهة أن
يطأ القبر بشيء من بدنه، وقد روي أن النبي ما رأى رجلا قد
اتكأ على قبر فقال لا تؤذ صاحب القبر، والتقصيص التجصيص
والقَصة شيء شبيه بالجص.
ومن باب المشي بين القبور في
النعل
قال أبو داود: حدثنا سهل بن بكار حدثنا الأسود بن شيبان عن
خالد بن سمير السدوسي عن بشير بن نهيك عن بشير مولى رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال بينا أنا أماشي رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا حانت منه نظرة فإذا رجل يمشي في القبور
عليه نعلان فقال يا صاحب السِّبتيتين ويحك الق سِبْتيتك
فنظر الرجل فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خلعهما
فرمى بهما.
قال وحدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبد الوهاب بن
عطاء عن سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه
(1/316)
أصحابه أنه ليسمع قرع نعالهم.
قال الأصمعي السبتية من النعال ما كان مدبوغا بالقرظ.
قلت وخبر أنس يدل على جواز لبس النعل لزائر القبور وللماشي
بحضرتها وبين ظهرانيها.
فأما خبر السبتيتين فيشبه أن يكون إنما كره ذلك لما فيهما
من الخيلاء وذلك أن نعال السبت من لباس أهل الترفه والتنعم
قال الشاعر يمدح رجلاً:
يُحذى نعال السبت ليس بتوأم
وقال النابغة:
رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب
يقول هم أعفاء الفروج لا يحلون أزرهم لريبة، والسباسب عيد
كان لهم في الجاهلية فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن
يكون دخوله المقابر على زي التواضع ولباس أهل الخشوع.
باب ما يقول الرجل إذا مر
بالقبور
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن العلاء بن عبد
الرحمن عن أبيه، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم خرج إلى المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين
وإنا إن شاء الله بكم لاحقون.
قلت: فيه من العلم أن السلام على الموتى كهو على الأحياء
في تقديم الدعاء على الاسم ولا يقدم الاسم على الدعاء كما
تفعله العامة، وكذلك هو في كل دعاء الخير كقوله تعالى
{رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} [هود: 73] وكقوله عز
وجل {سلام على آل ياسين} [الصافات: 130] وقال في خلاف ذلك
{وإن عليكم لعنتي إلى يوم الدين} [ص: 78] فقدم الاسم على
الدعاء وفيه أنه سمى المقابر داراً فدل على أن اسم الدار
قد يقع من جهة
(1/317)
اللغة على الربع العامر المسكون وعلى
الخراب غير المأهول كقول الشاعر:
[يا دار مَيَّة بالعلياء والسند] ثم قال: [أَقْوَت وطال
عليها سالف الأبد] .
وأما قوله وإنا إن شاء الله بكم لاحقون فقد قيل إن ذلك ليس
على معنى الاستثناء الذى يدخل الكلام لشك وارتياب ولكنه
عادة المتكلم يُحسِّن بذلك كلامه ويزينه كما يقول الرجل
لصاحبه إنك إن أحسنت إلي شكرتك إن شاء الله وإن ائتمنتني
لم أخنك إن شاء الله في نحو ذلك من الكلام وهولا يريد به
الشك في كلامه. وقد قيل أنه دخل المقبرة ومعه قوم مؤمنون
متحققون بالإيمان والآخرون يظن بهم النفاق فكان استثناؤه
منصرفا إليهم دون المؤمنين فمعناه اللحوق بهم في الإيمان
وقيل إن الاستثناء إنما وقع في استصحاب الإيمان إلى الموت
لا في نفس الموت.
ومن باب كيف يصنع بالمحرم إذا
مات
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن
منصور عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال وقصت برجل
محرم ناقته فقتلته فأُتي به النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: اغسلوه وكفنوه ولا تغطوا رأسه ولا تقربوه طيبا.
قوله وقصت به ناقته يريد أنها صرعته فدقت عنقه وأصل الوقص
الدق أو الكسر.
وفيه من الفقه أن حرم الرجل في رأسه وإن المحرم إذا مات سن
به سنة الأحياء في اجتناب الطيب.
جاء في النسخه الكتانية ما نصه: آخر الكتاب والحمد لله رب
العالمين
وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم، يتلوه في الثاني كتاب
الزكاة
وكتب بمدينة السلام في المدرسة النظاميه في الجانب الشرقي
وتم في شهر صفر من سنة سبع وثمانين وأربعمائة.
(1/318)
|