معالم السنن

كتاب الصيام
قال أبو داود: حدثنا ابن المثنى حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة: 184] قال كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً والحبلى والمرضع إذا خافتا، يَعني على أولادهما أفطرتا وأطعمتا.
قلت مذهب ابن عباس في هذا أن الرخصة مثبتة للحبلى والمرضع، وقد نسخت في الشيخ الذي يطيق الصوم فليس له أن يفطر ويفدي إلاّ أن الحامل والمرضع وإن كانت الرخصة قائمة لهما فإنه يلزمهما القضاء مع الإطعام، وإنما لزمهما الإطعام مع القضاء لأنهما يفطران من أجل غيرهما شفقة على الولد وإبقاء عليه، وإذا كان الشيخ يجب عليه الإطعام وهو أنه رخص له في الإفطار من أجل نفسه فقد عقل أن من ترخص فيه من أجل غيره أولى بالإطعام وهذا على مذهب الشافعي وأحمد. وقد روي ذلك أيضاً عن مجاهد.
فأما الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم فإنه يطعم ولا قضاء عليه لعجزه. وقد روي ذلك عن أنس وكان يفعل ذلك بعدما أسن وكبر، وهو قول أصحاب الرأي ومذهب الشافعي والأوزاعي. وقال الأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي في الحبلى والمرضع تقضيان ولا تطعمان كالمريض، وكذلك روي عن الحسن وعطاء والنخعي والزهري. وقال مالك بن أنس في الحبلى هي كالمريض تقضي

(2/92)


ولا تطعم، والمرضع تقضي وتطعم.

ومن باب الشهر يكون تسعاً وعشرين
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن الأسود بن قيس عن سعيد بن عمرو، يَعني ابن سعيد بن العاص عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّا أُمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا وخنَس سليمان إصبعه في الثالثة، يَعني تسعا وعشرين.
قوله أمية إنما قيل لمن لا يكتب ولا يقرأ أمي لأنه منسوب إلى أمة العرب وكانوا لا يكتبون ولا يقرؤون، ويقال إنما قيل له أمي على معنى أنه باق على الحال التي ولدته أمه لم يتعلم قراءة ولا كتاباً.
وقوله خنس إصبعه أي أضجعها فأخرها عن مقام أخواتها، ويقال للرجل إذا كان مع أصحابه في مسير أو سفر فتخلف عنهم قد خنس عن أصحابه.
وقوله الشهر هكذا يريد أن الشهر قد يكون هكذا أي تسعاً وعشرين وليس يريد أن كل شهر تسعة وعشرون، وإنما احتاج إلى بيان ما كان موهوماً أن يخفى عليهم لأن الشهر في العرف وغالب العادة ثلاثون فوجب أن يكون البيان فيه مصروفا إلى النادر دون المعروف منه. فلو ان رجلا حلف أو نذر أن يصوم شهرا بعينه فصامه فكان تسعا وعشرين كان بارا في يمينه ونذره ولو حلف ليصومن شهرا لا يعينه فعليه إتمام العدة ثلاثون يوما.
وفي الحديث مستدل لمن رأى الحكم بالإشارة واعمال دلالة الإيماء كمن قال امرأتي طالق وأشار بأصابعه الثلاث فإنه يلزمه ثلاث تطليقات على الظاهر من الحال.
قال أبو داود: حدثنا سليمان حدثنا حماد حدثنا أيوب عن نافع عن ابن

(2/93)


عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأقدروا له فكان ابن عمر إذا كان شعبان تسعا وعشرين نظر له فإن رئي فذلك. وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب أو قترة أصبح مفطراً وإن حال دون منظره سحاب أو قترة أصبح صائماً. قال وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب.
قوله غم عليكم من قولك غممت الشيء إذا غطيته فهومغموم. وقوله فأقدروا له معناه التقدير له بإكمال العدد ثلاثين، يقال قدرت الشيء أقدره قدرا بمعنى قدرته تقديرا ومنه قوله تعالى {فقدرنا فنعم القادرون} [المرسلات: 23] .
وكان بعض أهل العلم يذهب في ذلك غير هذا المذهب ويتأوله على التقدير له بحساب سير القمر في المنازل والقول الأول أشبه ألا تراه يقول في رواية أخرى فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما. حدثناه جعفر بن نصير الخالدي حدثنا الحاوث بن أبي أسامة حدثنا سليمان بن داود حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن ابن المسيب، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غُم عليكم فصوموا ثلاثين يوما.
وقد روي ذلك أيضاً من طريق ابن عمر أخبرنا محمد بن هاشم حدثنا الدبَري عن عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله جعل الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا له ثلاثين يوما.
قلت وعلى هذا قول عامة أهل العلم ويؤكد ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الشك، وكان أحمد يقول إذا لم ير الهلال لتسع وعشرين من شعبان لعلة في السماء

(2/94)


صام الناس وإن كان صحواً لم يصوموا أتباعاً لمذهب ابن عمر.
وقوله وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب يريد أنه كان يفعل هذا الصنيع في شهر شعبان احتياطا للصوم ولا يأخذ بهذا الحساب في شهر رمضان ولا يفطر إلاّ مع الناس، والقتَرة الغبرة في الهواء الحائلة بين الأبصار وبين رؤية الهلال.
قال أبو داود: حدثنا مسداد أن يزيد بن زريع حدثه، قال: حَدَّثنا خاك الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة.
قلت اختلف الناس في تأويله على وجوه فقال بعضهم معناه أنهما لا يكونان تاقصين في الحكم وإن وجدا ناقصين في عدد الحساب.
وقال بعضهم معناه إنهما لا يكادان يوجدان في سنة واحدة مجتمعين في النقصان فإن كان أحدهما تسعا وعشرين كان الآخر ثلاثين على الكمال.
قلت وهذا القول لا يعتمد لأن دلالته تخلف إلاّ أن يحمل الأمر في ذلك على الغالب الأكثر. وقال بعضهم إنما أراد بهذا تفضيل العمل في العشر من ذي الحجة وأنه لا ينقص في الأجر والثواب عن شهر رمضان.

ومن باب إذا أخطأ القوم الهلال
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد الله حدثنا حماد في حديث أيوب عن محمد بن المنكدر، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون.
معنى الحديث أن الخطأ موضوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد فلو أن

(2/95)


قوما اجتهدوا فلم يروا الهلال إلاّ بعد الثلاثين فلم يفطروا حتى استوفوا العدد ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعا وعشرين فإن صومهم وفطرهم ماض فلا شيء عليهم من وزر أو عتب. وكذلك هذا في الحج إذا أخطؤوا يوم عرفة فإنه ليس عليهم إعادته ويجزيهم أضحاهم كذلك؛ وإنما هذا تخفيف من الله سبحانه ورفق بعباده ولو كلفوا إذا أخطؤوا العدد أن يعيدوا أن يأمنوا أن يخطؤوا ثانيا وأن لا يسلموا من الخطأ ثالثا ورابعا فإن ما كان سبيله الاجتهاد كان الخطأ غير مأمون فيه.

ومن باب تقدم الشهر
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت عن مطرف عن عمران بن حصين. وسعيد الجريري، عَن أبي العلاء عن مطرف عن عمران أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل هل صمت من سَرَر شعبان شيئا قال لا قال فإذا أفطرت فصم يوماً، وقال أحدهما يومين.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا حسين عن زائدة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقدموا الشهر بصيام يوم ولا يومين إلاّ أن يكون شيء يصومه أحدكم.
قلت هذان الحديثان متعارضان في الظاهر ووجه الجمع بينهما أن يكون الأول إنما هو شيء كان الرجل قد أوجبه على نفسه بنذره فأمره بالوفاء به أو كان ذلك عادة قد اعتادها في صيام أواخر الشهور فتركه لاستقبال الشهر فاستحب له صلى الله عليه وسلم أن يقضيه.
وأما المنهي عنه في حديث ابن عباس فهو أن يبتدأ المرء متبرعا به من غير

(2/96)


إيجاب نذر ولا عادة قد تعودها فيما مضى والله أعلم.
وسرر الشهر آخره وفيه لغتان يقال سرر الشهر وسراره.
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن العلاء الزُبيدي من كتابه حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الله بن العلاء، عَن أبي الأزهر المغيرة بن فروة قال قام معاوية في الناس بدير مسحل الذي على باب حمص فقال يا أيها الناس إنا قد رأينا الهلال يوم كذا وكذا، وأنا متقدم بالصيام فمن أحب أن يفعله فليفعله قال فقام إليه مالك بن هبيرة فقال يا معاوية أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم شيء من رأيك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صوموا الشهر وسرَّه.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي قال قال الوليد سمعت أبا عمرو، يَعني الأوزاعي يقول سره أوله. قلت أنا أنكر هذا التفسير وأراه غلطا في النقل ولا أعرف له وجها في اللغة، والصحيح ان سره آخره هكذا حدثناه أصحابنا عن إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل حدثنا محمود بن خالد الدمشقي عن الوليد عن الأوزاعي قال سِره آخره وهذا هو الصواب. وفيه لغات يقال سر الشهر وسَرَرُ الشهر وسراره وسمي آخر الشهر سرا لاستسرار القمر فيه.
وأما قوله صوموا الشهر فإن العرب تسمي الهلال الشهر تقول رأيت الشهر أي الهلال وأنشد ابن الأعرابي:
اَبْدانَ من نجد على مَهَل …والشهر مثل قلامة الظفر
أي الهلال ولذا كان أول الشهر مأمورا بصيامه في قوله صوموا الشهر فقد علم أن الأمربصيام سره غير أوله.

(2/97)


ومن باب إذا رُأى الهلال ببلد قبل آخر بليلة
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إسماعيل، يَعني ابن جعفر أخبرني محمد بن أبي حرمله أخبرني كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها فاستهل رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليله الجمعة ثم قدمت المدينة من الشام في آخر الشهر فسألني ابن عباس فقال متى رأيتم الهلال قلت رأيته ليلة الجمعة، قال أنت رأيته قلت نعم ورآه الناس فصاموا وصام معاوية، فقال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين أو نراه، فقلت أفلا نكتفي برؤيه معاوية وصيامه قال لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت اختلف الناس في الهلال يستهله أهل بلد في ليلة ثم يستهله أهل بلد آخر في ليلة قبلها أو بعدها فذهب إلى ظاهر حديث ابن عباس القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وعكرمة وهو مذهب إسحاق وقالوا لكل قوم رؤيتهم.
وقال ابن المنذر قال أكثر الفقهاء إذا ثبت بخبر الناس أن أهل بلد من البلدان قد رأوه قبلهم فعليهم قضاء ما أفطروه، وهو قول أصحاب الرأي ومالك، وإليه ذهب الشافعي وأحمد.

ومن باب كراهة صوم يوم الشك
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير أخبرنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس، عَن أبي إسحاق عن صلة قال كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه فأتى بشاة فتنحى بعض القوم فقال عمار من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.

(2/98)


قلت اختلف الناس في معنى النهي عن صيام يوم الشك فقال قوم إنما نهى عن صيامه إذا نوى به أن يكون عن رمضان. فأما من نوى به صوم يوم من شعبان فهو جائز. هذا قول مالك بن أنس والأوزاعي وأصحاب الرأي، ورخص فيه على هذا الوجه أحمد وإسحاق.
وقالت طائفة لا يصام ذلك اليوم عن فرض ولا تطوع للنهي فيه وليقع الفصل بذلك بين شعبان ورمضان، هكذا قال عكرمة وروي معناه، عَن أبي هريرة وابن عباس.
وكانت عائشة وأسماء ابنتا أبي بكر رضي الله عنهم تصومان ذلك اليوم، وكانت عائشة تقول لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان. وكان مذهب عبد الله بن عمر بن الخطاب صوم يوم الشك إذا كان من ليله في السماء سحاب أو قترة فإن كان صحواً ولم ير الناس الهلال أفطر مع الناس وإليه ذهب أحمد بن حنبل.
وقال الشافعي إن وافق يوم الشك يوما كان يصومه صامه وإلا لم يصمه وهو أن يكون من عادته أن يصوم صوم داود فإن وافق يوم صومه صامه وإن وافق يوم فطره لم يصمه.
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يتقدم أحدكم صوم رمضان بيوم ولا يومين إلاّ أن يكون صوما يصومه رجل فليصم ذلك اليوم.
قلت معناه أن يكون قد اعتاد صوم الاثنين والخميس فيوافق صوم اليوم المعتاد فيصومه ولا يتعمد صومه إن لم تكن له عادة وهذا قريب من معنى

(2/99)


الحديث الأول.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انتصف شعبان فلا تصوموا.
قلت هذا حديث كان يذكره عبد الرحمن بن مهدي من حديث العلاء وروت أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كله ويصله برمضان ولم يكن يصوم من السنة شهرا تاما غيره.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد قال قدم عباد بن كثير المدينة فمال إلى مجلس العلاء فأخذ بيده فأقامه ثم قال اللهم إن هذا يحدث عن أبيه، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا انتصف شعبان فلا تصوموا، فقال العلاء اللهم إن أبى حدثني، عَن أبي هريرة ويشبه أن يكون حديث العلاء أثبت على معنى كراهة صوم يوم الشك ليكون في ذلك اليوم مفطرا أو يكون استحب إجمام الصائم في بقية شعبان ليتقوى بذلك على صيام الفرض في شهر رمضان كما كره للحاج الصوم بعرفة ليتقوى بالإفطار على الدعاء.

ومن باب الشهادة على هلال شهر شوال
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد بن العوام، عَن أبي مالك الأشجعي حدثنا الحسين بن الحارث الجَدَلي جديلة قيس. أن أمير مكة خطب ثم قال عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك لرؤيته فإن لم نره وشهد شاهد عدل نسكنا بشهادتهما قال فسألت الحسين بن

(2/100)


الحارث من أمير مكة، فقال الحارث بن حاطب أخو محمد بن حاطب ثم قال الأمير إن فيكم من هو أعلم بالله ورسوله مني وشهد هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأومأ بيده إلى رجل قال الحسين، فقلت لشيخ إلى جنبي من هذا الذي أومأ إليه الأمير، قال هذا عبد الله بن عمر وصدق كان أعلم بالله منه فقال بذلك أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت لا أعلم اختلافا في أن شهادة الرجلين العدلين مقبولة في رؤية هلال شوال وإنما اختلفوا في شهادة رجل واحد، فقال أكثر العلماء لا يقبل فيه أقل من شاهدين عدلين.
وقد روي عن عمر بن الخطاب من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه أجاز شهادة رجل واحد في أضحى أو فطر، ومال إلى هذا القول بعض أهل الحديث وزعم أن باب رؤية الهلال باب الإخبار فلا يجري مجرى الشهادات ألا ترى أن شهادة الواحد مقبولة في رؤية هلال شهر رمضان فكذلك يجب أن تكون مقبولة في هلال شهر شوال.
قلت لو كان ذلك من باب الإخبار لجاز فيه أن يقول أخبرني فلان أنه رأى الهلال فلما لم يجز ذلك على الحكاية عن غيره علم أنه ليس من باب الإخبار والدليل على صحة ذلك أنه يقول أشهد أني رأيت الهلال كما يقول ذلك في سائر الشهادات ولكن بعض الفقهاء ذهب في أن رؤية هلال رمضان خصوصا من باب الإخبار وذلك لأن الواحد العدل فيه كاف عند جماعة من العلماء واحتج بخبر ابن عمر أنه قال أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم إني رأيت الهلال فأمرالناس بالصيام.

(2/101)


قلت ومن ذهب إلى هذا الوجه أجاز فيه المرأة والعبد.
قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي وإنا لحديثه أتقن قالا: حَدَّثنا مروان وهو ابن محمد عن عبد الله بن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم، عَن أبي بكر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال ترايا الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه.
قلت فيه بيان أن شهادة الواحد العدل في رؤية هلال شهر رمضان مقبولة وإليه ذهب الشافعي في أحد قوليه وهو قول أحمد بن حنبل.
وكان أبو حنيفة وأبو يوسف يجيزان على هلال شهر رمضبان شهادة الرجل الواحد العدل وإن كان عبدا، وكذلك المرأة الواحدة وإن كانت أمة ولا يجيزان في هلال الفطر إلاّ رجلين أو رجلا وامرأتين. وكان الشافعي لا يجيز في ذلك شهادة النساء، وكان مالك والأوزاعي وإسحاق بن راهويه يقولون لا يقبل على هلال شهر رمضان ولا على هلال الفطر أقل من شاهدين عدلين.
وفي قول ابن عمر ترايا الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته وقبوله في ذلك قوله وحده دليل على وجوب قبول أخبار الآحاد وأنه لا فرق بين أن يكون المخبر بذلك منفردا عن الناس وحده وبين أن يكون مع جماعة من الناس فلا يشاركه أصحابه في ذلك.
وقال بعض أهل العراق إذا ترايا الناس الهلال وكان صحواً فقال واحد منهم قد رأيته لم أقبله قال وهذا مثل أن يكون جماعة قد حضروا الإمام يوم الجمعة فأخبر واحد منهم أنه خطب موليا وجهه عن القبلة ولم يصدقه على ذلك الجماعة الحضور فإنه لا يقبل.

(2/102)


قلت وهذا مخالف لما شبهوه به لأن مثل تلك الحال لا يخفى على ذي بصر. والحاد البصر والكليل يستويان في ذلك. وأما الهلال فقد يزل عن بعض أبصار الناس لدقته وضؤلة شخصه ويتجلى لمن كان أحد بصرا وأجود استدراكا. ولو أن جماعة حضروا في محفل فشهد عدلان منهم على رجل من جماعتهم أنه قام فيهم فطلق امرأته وأنكره الباقون كان القول قولهما دون قول من أنكر وإن كانوا كلهم ذوي آذان سميعة واحساس سليم فكذلك هذا لا فرق بين الأمرين.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن بكار بن الريان حدثنا الوليد، يَعني ابن ثور قال وحدثنا الحسن بن علي حدثنا حسين عن زائدة المعنى عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس، قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال، قال الحسن، يَعني هلال رمضان، فقال أتشهد أن لا إله إلاّ الله، قال نعم قال أتشهد أن محمداً رسول الله قال نعم، قال يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا.
قلت وهذا يدل على مثل ما دل عليه خبر ابن عمر، وفيه حجة لمن أجرى الأمر في رؤ ية هلال شهر رمضان مجرى الإخبار ولم يحملها على أحكام الشهادات وفيه أيضاً حجة لمن رأى أن الأصل في المسلمين العدالة، وذلك أنه لم يطلب أن يعلم من الأعرابي غير الإسلام فقط ولم يبحث بعد عن عدالته وصدق لهجته.

ومن باب السحور
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا ابن المبارك عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه، عَن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر.
قلت معنى هذا الكلام الحث على التسحر وفيه الإعلام بأن هذا الدين يسر

(2/103)


لا عسر فيه. وكان أهل الكتاب إذا ناموا بعد الإفطار لم يحل لهم معاودة الأكل والشرب وعلى مثل ذلك كان الأمر في أول الإسلام ثم نسخ الله عز وجل ذلك ورخص في الطعام والشراب إلى وقت الفجر بقوله {كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة: 187] .
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن محمد الناقد حدثنا حماد بن خاك الخياط حدثنا معاوية بن صالح عن يوسف بن سيف عن الحارث بن زياد، عَن أبي رُهم عن العرباض بن سارية قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السحور في رمضان فقال هلم إلى الغداء المبارك.
قلت إنما سماه غداء لأن الصائم يتقوى به على صيام النهار فكأنه قد تغدى والعرب تقول غدا فلان لحاجته إذا بكر فيها وذلك من لدن وقت السحر إلى طلوع الشمس قال:
أمن آل نُعم أنت غادٍ فمبكر
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن عبد الله بن سوادة القشيري عن أبيه قال سمعت سمرة بن جندب يخطب وهو يقول. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق الذي هكذا حتى يستطير.
قوله يستطير معناه يعترض في الأفق وينشر ضوءه هناك قال الشاعر:
لهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبُويرة مستطير
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا ملازم بن عمرو عن عبد الله بن النعمان حدثني قيس بن طلق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلوا واشربوا ولا يَهِيدنكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر.

(2/104)


قوله لا يهيدنكم معناه لا يمنعنكم الأكل وأصل الهيد الزجر، يقال هدت الرجل أهيده هيداً إذا زجرته، ويقال في زجر الدواب يريد هِيْد هِيْد والساطع المرتفع وسطوعها ارتفاعها مصعداً قبل أن يعترض. ومعنى الأحمر ههنا أن يستبطن البياض المعترض أوائل حمرة وذلك أن البياض إذا تتام طلوعه ظهرت أوائل الحمرة والعرب تشبه الصبح بالبلَق في الخيل لما فيه من بياض وحمرة، وقد جعله عمر بن أبي ربيعة شقرة فقال:
فلما تقضى الليل إلاّ أقله …وكادت توالي نجمه تتغوّر
فما راعني إلاّ مناد تحملوا …وقد لاح معروف من الصبح أشقر
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حصين بن نمير قال وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا ابن إدريس المعنى عن حصين عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال لما نزلت هذه الآية {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} [البقرة: 187] قال أخذت عقالا أبيض وعقالا أسود ووضعتهما تحت وسادتي فنظرت فلم أتبين فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال إن وسادك إذاً لعريض طويل إنما هو الليل والنهار.
وقال عثمان إنما هو سواد الليل وبياض النهار. قوله إن وسادك إذاً لعريض فيه قولان أحدهما يريد أن نومك إذاً لكثير وكنى بالوساد عن النوم إذا كان النائم يتوسده أو يكون أراد أن ليلك إذا لطويل إذا كنت لا تمسك عن الأكل والشرب حتى يتبين لك سواد العقال من بياضه.
والقول الآخر أنه كنى بالوساد عن الموضع الذي يضعه من رأسه وعنقه على الوساد إذا نام والعرب تقول فلان عريض القفا إذا كانت فيه غباوة وغفلة.

(2/105)


وقد روي في هذا الحديث من طريق آخر أنه قال إنك عريض القفا والعرب تسمي بياض الصبح أول ما يبدو خيطاً قال النابغة:
فلما تبدت لنا سَدْفة ... ولاح من الصبح خيط أنارا

ومن باب الرجل يسمع النداء والإناء على يده
قال أبو داود: حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا حماد عن محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه.
قلت هذا على قوله إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم أو يكون معناه أن يسمع الأذان وهو يشك في الصبح مثل أن تكون السماء متغمة فلا يقع له العلم بأذانه أن الفجر قد طلع لعلمه أن دلائل الفجر معه معدومة ولو ظهرت للمؤذن لظهرت له أيضاً، فأما إذا علم انفجار الصبح فلا حاجة به إلى أذان الصارخ لأنه مأمور بأن يمسك عن الطعام والشراب إذا تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.

ومن باب وقت فطر الصائم
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع قال وحدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود المعنى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عاصم بن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء الليل من هاهنا وذهب النهار من هاهنا. قال مسدد وغابت الشمس فقد أفطر الصائم.
قوله فقد أفطر الصائم معناه أنه قد صار في حكم المفطر وإن لم يأكل وقيل معناه أنه قد دخل في وقت الفطر وحان له أن يفطر كما قيل أصبح الرجل إذا

(2/106)


دخل في وقت الصبح وأمسى وأظهر كذلك. وفيه دليل على بطلان الوصال.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد حدثنا سليمان الشيباني. قال سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم فلما غربت الشمس قال يا بلال انزل فاجدح لنا فقال يا رسول الله لو أمسيت قال انزل فاجدح لنا قال يا رسول الله إن عليك نهاراً. قال انزل فاجدح لنا فجدح فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم وأشار بأصبعه قبل المشرق.
قوله أجدح لنا الجدح أن يخاض السويق بالماء ويحرك حتى يستوي وكذلك اللبن ونحوه. والمجدح العود المجنح الرأس الذي يخاض به الأشربة ليرق ويستوي.

ومن باب الوصال
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال قالوا فإنك تواصل قال إني لست كهيئتكم أني أطعم وأسقى.
قلت الوصال من خصائص ما أبيح لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محظور على أمته ويشبه أن يكون المعنى في ذلك ما يتخوف على الصائم من الضعف وسقوط القوة فيعجزوا عن الصيام المفروض وعن سائر الطاعلت أو يملوها إذا نالتهم المشقة فيكون سببا لترك الفريضة.
قوله إني لست كهيئتكم إني أطعم وأسقى يحتمل معنيين أحدهما أني أعان على الصيام وأقوى عليه فيكون ذلك بمنزلة الطعام والشراب لكم. ويحتمل أن يكون قد يؤتى على الحقيقة بطعام وشراب يطعمهما فيكون ذلك خصيصا

(2/107)


كرامة لا يشركه فيها أحد من أصحابه والله أعلم.

ومن باب الغيبة للصائم
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم.
قوله لا يرفث يريد لا يفحش والرفث الخنا والفحش. وقوله فليقل إني صائم يتأول على وجهين أحدهما فليقل ذلك لصاحبه نطقا باللسان يرده بذلك عن نفسه. والوجه الآخر أن يقول ذلك في نفسه أي ليعلم أنه صائم فلا يخوض معه ولا يكافئه على شتمه لئلا يفسد صومه ولا يحبط أجر عمله.

ومن باب الاستنشاق للصائم
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن كثير عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه لقيط بن صبرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغ في الاستنشاق إلاّ أن تكون صائماً.
فيه من الفقه أن وصول الماء إلى موضع الدماغ يفطر الصائم إذا كان بفعله وعلى قياس ذلك كل ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو في غيره من حشو جوفه، وقد يستدل بذلك من يوجب الاستنشاق في الطهارة قالوا ولولا وجوبه لكان يطرحه عن الصائم أصلا احتياطاً على صومه فلما لم يفعل ذلك دل على أنه واجب لا يجوز تركه وإلى هذا ذهب إسحاق بن راهويه.

(2/108)


ومن باب من أفطر قبل غروب الشمس
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله ومحمد بن العلاء المعنى قالا: حَدَّثنا أبو أسامة حدثنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أيى بكر قالت أفطرنا يوما في رمضان في غيم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس وقال أسامة قلت لهشام أمروا بالقضاء قال وبُدَّ من ذلك.
قلت اختلف في وجوب القضاء في مثل هذا فقال أكثر أهل العلم القضاء واجب عليه وقال إسحاق بن راهويه وأهل الظاهر لا قضاء عليه ويمسك بقية النهار عن الأكل حتى تغرب الشمس، وروي ذلك عن الحسن البصرى وشبهوه بمن أكل ناسيا في الصوم.
قلت الناسي لا يمكنه أن يحترز من الأكل ناسيا وهذا يمكنه أن يمكث فلا يأكل حتى يتيقن غيبوبة الشمس فالنسيان خطأ في الفعل وهذا خطأ في الوقت والزمان والتحرز منه ممكن.

ومن باب السواك للصائم
قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح حدثنا شريك (ح) وحدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن عاصم بن عبيد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم زاد مسدد في حديثه ما لا أعُدُ ولا أُحصي.
قلت السواك مستحب للصائم والمفطر إلاّ أن قوما من العلماء كرهوا للصائم أن يستاك آخر النهار استبقاء لخلوف فمه، وإلى هذا ذهب الشافعى وهو قول الأوزاعي وروي ذلك عن ابن عمر وإليه ذهب عطاء ومجاهد.

(2/109)


ومن باب الصائم يحتجم
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن هشام، يَعني ابن أبي عبد الله عن يحيى عن ابن أبي كثير، عَن أبي قلابة، عَن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أفطر الحاجم والمحجوم.
قلت اختلف الناس في تأويل هذا الحديث فذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الحجامة تفطر الصائم قولا بظاهر الحديث، هذا قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقالا عليهما القضاء وليست عليهما الكفارة، وعن عطاء قال على من احتجم وهو صائم في شهر رمضان القضاء والكفارة.
وروي عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يحتجمون ليلا منهم ابن عمر وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك. وكان مسروق والحسن وابن سيرين لا يرون للصائم أن يحتجم، وكان الأوزاعي يكره ذلك، وقال ابن المسيب والشعبي والنخعي إنما كرهت الحجامة للصائم من أجل الضعف. وممن كان لا يرى بأسا بالحجامة للصائم سفيان الثوري ومالك بن أنس والشافعي وهو قول أصحاب الرأي.
وتأول بعضهم الحديث فقال معنى أفطر الحاجم والمحجوم أي تعرضا للإفطار أما المحجوم فللضعف الذي يلحقه من ذلك فيؤديه إلى أن يعجز عن الصوم. وأما الحاجم فلأنه لا يؤمن أن يصل إلى جوفه من طعم الدم أو من بعض أجراحه إذا ضم شفتيه على قصب الملازم وهذا كما يقال للرجل يتعرض للمهالك قد هلك فلان وإن كان باقيا سالما. وإنما يراد به أنه قد أشرف على الهلاك وكقوله صلى الله عليه وسلم من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين يريد أنه قد تعرض للذبح.
وقيل فيه وجه آخر وهو أنه مر بهما مساء فقال أفطر الحاجم والمحجوم كأنه

(2/110)


عذرهما بهذا القول إذ كانا قد أمسيا ودخلا في وقت الإفطار كما يقال أصبح الرجل وأمسى وأظهر إذا دخل في هذه الأوقات. وأحسبه قد روي في بعض الحديث.
وقال بعضهم هذا على التغليظ لهما والدعاء عليهما كقوله فيمن صبام الدهر لا صام ولا أفطر. فمعنى قوله أفطر الحاجم والمحجوم على هذا التأويل أي بطل صيامهما فكأنهما صارا مفطرين غير صائمين، وقيل أيضاً معناه حان لهما أن يفطرا كقولك حصد الزرع إذا حان أن يحصد واركب المهر إذا كان له أن يركب.
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائماً محرماً.
قلت وهذا يؤكد قول من رخص في الحجامة للصائم ورأى أن الحجامة لا تفسد الصوم.
وفيه دليل على أن الحجامة لا تضر المحرم مالم يقطع شعرا، وقد تأول حديث ابن عباس من ذهب إلى أن الحجامة تفطر الصائم، فقال إنما احتجم النبي صلى الله عليه وسلم صائما محرما وهو مسافر لأنا لا نعلمه كان محرما وهو مقيم وللمسافر أن يفطر على ما شاء من طعام وجماع وحجامة وغيرها.
قلت وهذا التأويل غير صحيح لأنه قد أثبته حين احتجم صائما ولو كان يفسد صومه بالحجامة لكان يقال أنه أفطر بالحجامة كما يقال أفطر الصائم بشرب الماء وبأكل التمر وما أشبههما ولا يقال شرب ماء صائماً ولا أكل تمراً وهو صائم.

ومن باب الصائم يستقيء عامدا
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا هشام بن حسان

(2/111)


عن محمد بن سيرين، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فليقض. قال أبو داود سمعت أحمد بن حنبل يقول ليس من ذا شيء.
قلت يريد أن الحديث غير محفوظ قال أبو عيسى الترمذي سألت محمد بن إسماعيل البخاري عنه فلم يعرفه إلاّ من طريق عيسى بن يونس وقال ما أراه محفوظا. قال وروى يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن الحكم أن أبا هريرة كان لا يرى القيء يفطر الصائم.
قلت وذكر أبو داود أن حفص بن غياث رواه عن هشام كما رواه عيسى بن يونس.
قلت لا أعلم خلافا بين أهل العلم في أن من ذرعه القيء فإنه لا قضاء عليه ولا في أن من استقاء عامدا أن عليه القضاء، ولكن اختلفوا في الكفارة فقال عامة أهل العلم ليس عليه غير القضاء وقال عطاء عليه القضاء والكفارة وحكي ذلك عن الأوزاعي وهو قول أبي ثور.
قلت وفي إسقاط أكثر العلماء الكفارة عن المستقيء عامداً دليل على أن لا كفارة على من أكل عامداً في نهار رمضان، إلاّ أن المستقيء عامدا مشبه بالآكل متعمدا ومن ذرعه القيء مشبه بالآكل ناسيا.
قلت ويدخل في معنى من ذرعه القيء كل ما غلب عليه الإنسان من دخول الذباب حلقه ودخول الماء جوفه إذا وقع في ماء غَمْر وما أشبه ذلك فإنه لا يفسد صومه شيء من ذلك.

ومن باب الصائم يحتلم نهارا
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن زيد بن أسلم عن رجل

(2/112)


من أصحابه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر من قاء ولا من احتلم ولا من احتجم.
قلت هذا إن ثبت فمعناه من قاء غير عامد ولكن في إسناده رجل لا يعرف وقد رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار، عَن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ أن عبد الرحمن ضعفه أهل الحديث.
وقال أبو عيسى أخطأ فيه عبد الرحمن ورواه غير واحد عن زيد بن أسلم مرسل. اوعبد الرحمن ذاهب الحديث.
قلت حدثني محمد بن الحسين الزعفراني حدثنا ابن أبي خيثمة قال: سمعت يحيى بن معين يقول حديث بني زيد بن أسلم ثلاثتهم ليس بشيء.

ومن باب القبلة الصائم
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود وعلقمة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملك لإرْبه.
قلت هذا يروى على وجهين أرب مفتوحة الألف والراء وإرب مكسورة الألف ساكنة الراء ومعناهما واحد وهو حاجة النفس ووطرها يقال لفلان عند فلان وأرَب وإربه ومأربه أي حاجة والأرب أيضاً العضو.
واختلف الناس في جواز القبلة للصائم فكرهتها طائفة نهى عنها ابن عمر ويروى عن ابن مسعود أنه قال من فعل ذلك قضى يوما مكانه وعن ابن المسيب مثل ذلك. وقال ابن عباس يكره ذلك للشاب ويرخص فيه للشيخ.

(2/113)


وإلى هذا ذهب مالك بن أنس ورخص فيها عمر بن الخطاب وأبو هريرة وعائشة وعطاء والشعبي والحسن. وقال الشافعي لا بأس بها إذا لم يحرك منه شهوة، وكذلك قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقال الثوري لاتفطره والتنزه أحب إليّ.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا الليث (ح) وحدثنا عيسى بن حماد أخبرنا الليث بن سعد عن بكير بن عبد الله عن عبد الملك بن سعيد عن جابر بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه هشِشت فقبلت وأنا صائم قال فقلت يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم، قال أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم. قال عيسى بن حماد في حديثه قلت لا بأس به قال فمه.
قلت في هذا إثبات القياس والجمع بين الشيئين في الحكم الواحد لاجتماعهما في الشبه وذلك أن المضمضة بالماء ذريعة لنزوله إلى الحلق ووصوله إلى الجوف فيكون به فساد الصوم كما أن القبلة ذريعة إلى الجماع المفسد للصوم. يقول فإذا كان أحد الأمرين منهما غير مفطر للصائم فالآخر بمثابته.

ومن باب من أصبح جنباً في شهر رمضنان
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك (ح) وحدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق الأذرمي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن عبد ربه بن سعيد، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن عائشة وأم سلمة زوحي النبي صلى الله عليه وسلم قالتا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً.
قال عبد الله الأذرمي في حديثه في رمضان من جماع غير احتلام ثم يصوم.

(2/114)


قال أبو داود ما أقل من يقول هذه الكلمة، يَعني يصبح جنبا في رمضان وإنما الحديث أنه كان يصبح جنبا ًوهو صائم.
قلت قد أجمع عامة العلماء على أنه إذا أصبح جنبا في رمضان فإنه يتم صومه ويجزئه غير أن إبراهيم النخعي فرق بين أن يكون ذلك منه في الفرض وبين أن يكون في التطوع فقال يجزئه في التطوع ويقضي في الفريضة. وهذه اللفظة التي زادها الأذرمي إن ثبتت فهي حجة عليه من جهة النص وإلا فسائر الأخبار حجة عليه من جهة العموم وكان أبوهريرة يفتي بأن من أصبح جنبا فلا صوم له وكان يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغه حديث عائشة وأم سلمة قال هما أعلم بذلك إنما أخبرنيه الفضل بن العباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم الناس في معنى ذلك فأحسن ما سمعت في تأويل ما رواه أبو هريرة في هذا أن يكون ذلك محمولا على النسخ وذلك أن الجماع كان في أول الإسلام محرما على الصائم في الليل بعد النوم كالطعام والشراب، فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم ذلك اليوم لارتفاع الخطر المتقدم فيكون تأويل قول من أصبح جنبا فلا يصوم أي من جامع في الصوم بعد النوم فلا يجزئه صوم غده لأنه لا يصبح جنبا إلاّ وله أن يطأ قبل الفجر بطرفة عين فكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل بن العباس على الأمرالأول ولم يعلم بالنسخ فلما سمع خبر عائشة وأم سلمة صار إليه. وقد روي عن ابن المسيب أنه قال رجع أبو هريرة عن فتياه فيمن أصبح جنبا أنه لا يصوم.
قلت وقد يتأول ذلك أيضاً على وجه آخر من حيث لا يقع فيه النسخ وهو أن يكون معناه من أصبح مجامعا فلا صوم له والشيء قد يسمى بسم غيره إذا

(2/115)


كان مآله في العاقبة إليه.

ومن باب كفارة من أتى أهله في شهر رمضان
قال أبو داود: حدثنا مسدد ومحمد بن عيسى المعنى قالا: حَدَّثنا سفيان بن عيينة قال مسدد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن، عَن أبي هريرة قال أتي رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال هلكت، فقال ما شأنك قال وقعت على امرأتي في رمضان، قال فهل تجد ما تعتق رقبة قال لا، قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال لا، قال فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا قال لا، قال اجلس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر قال تصدق به، فقال يا رسول الله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت ثناياه قال فأطعمه إياهم.
قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر التنيسي حدثنا ابن أبي فديك حدثنا هشام بن سعد عن ابن شهاب، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عَن أبي هريرة بهذا الحديث وقال فأتى بعَرق قدر خمسة عشر صاعا وقال فيه كله أنت وأهل بيتك وصم يوما واستغفر الله.
قلت في هذا الحديث من الفقه أن على المجامع متعمدا في نهار شهر رمضان القضاء والكفارة وهو قول عوام أهل العلم غير سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وقتادة فإنهم قالوا عليه القضاء ولا كفارة. ويشبه أن يكون حديث أبي هريرة لم يبلغهم. وفيه أنه من قدر على عتق الرقبة لم يجزئه الصيام ولا الإطعام لأن البيان خرج فيه مرتبا فقدم العتق ثم نسق عليه الصيام ثم الإطعام كما رأيت ذلك في كفارة الظهار وهو قول أكثر العلماء إلا أن مالك بن أنس زعم أنه مخير بين عتق الرقبة وصوم شهرين والإطعام.

(2/116)


وحكي عنه أنه قال الإطعام أحب إلي من العتق. وفيه دلالة من جهة الظاهر أن كفارة الإطعام مد واحد لكل مسكين لأن خمسة عشر صاعا إذا قسمت بين ستين لم يخص كل واحد منهم أكثر من مد وإلى هذا ذهب مالك والشافعي.
وقال أصحاب الرأي يطعم كل مسكين نصف صاع. وفي قوله وصم يوماً واستغفر الله بيان أن صوم ذلك اليوم الذي هو القضاء لا يدخل في صيام الشهرين الذي هو الكفارة وهو مذهب عامة أهل العلم غير الأوزاعي فإنه قال يدخل صوم ذلك اليوم في صيام الشهرين قال فإن كفر بالعتق أو بالإطعام صام يوما مكانه.
قلت وفي أمره الرجل بالكفارة لما كان منه من الجنابة دليل على أن على المرأة كفارة مثلها لأن الشريعة قد سوت بين الناس في الأحكام إلاّ في مواضع قام عليه دليل التخصيص وإذا لزمها القضاء لأنها أفطرت بجماع متعمد كما وجب على الرجل وجبت عليها الكفارة لهذه العلة كالرجل سواء وهذا مذهب أكثر العلماء.
وقال الشافعي يجزيهما كفارة واحدة وهي على الرجل دونها. وكذلك قال الأوزاعي إلاّ أنه قال إن كانت الكفارة بالصيام كان على كل واحد منهما صوم شهرين.
واحتجوا لهذا القول بأن قول الرجل أصبت أهلي سؤال عن حكمه وحكمها لأن الإصابة معناها أنه واقعها وجامعها، وإذا كان هذا الفعل قد حصل منه ومنها معاً ثم أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن المسألة فأوجب فيها كفارة واحدة على الرجل ولم يعرض لها بذكر دل أنه لا شيء عليها وأنها مجزئة في الأمرين معاً ألا ترى أنه بعث اُنيساً إلى المرأة التي رميت بالزنا وقال إن اعترفت فارجمها فلم يهمل حكمها لغيبتها عن حضرته فدل هذا على أنه لورأى عليها كفارة لألزمها ذلك

(2/117)


ولم يسكت عنها.
قلت وهذا غير لازم وذلك أن هذا حكاية حال لا عموم لها، وقد يمكن أن تكون المرأة مفطرة بعذر من مرض أو سفر أو تكون مكرهة أو ناسية لصومها أو نحو ذلك من الأمور، وإذا كان كذلك لم يكن ما ذكروه حجة يلزم الحكم بها.
واحتجوا أيضاً في هذا بحرف لا أزال أسمعهم يروونه في هذا الحديث وهو قوله هلكت وأهلكت، قالوا فدل قوله وأهلكت على مشاركة المرأة إياه في الجنابة لأن الإهلاك يقتضي الهلاك ضرورة كما القطع يقتضي الانقطاع.
قلت وهذه اللفظة غير موجودة في شيء من رواية هذا الحديث، وأصحاب سفيان لم يرووها عنه، وإنما ذكروا قوله هلكت حسب. غير أن بعض أصحابنا حدثني أن المعلى بن منصور روى هذا الحديث عن سفيان فذكر هذا الحرف فيه وهو غير محفوظ والمعلى ليس بذاك في الحفظ والاتقان، وفي هذه القصة من رواية عائشة لفظة تدل على صحة ما ذهبنا إليه وقد ذكرها أبو داود في هذا الباب.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرنى عمرو بن الحارث أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه أن محمد بن جعفر بن الزبير حدثه أن عباد بن عبد الله بن الزبير حدثه أنه سمع عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد في رمضان فقال يا رسول الله احترقت فسأله النبي صلى الله عليه وسلم ما شأنك قال أصبت أهلي قال تصدق، قال والله ما لي شيء وما أقدر عليه، قال اجلس فجلس فبينما هو على ذلك إذ أقبل رجل يسوق حماراً عليه طعام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أين المحترق آنفاً فقام الرجل فقال رسول صلى الله عليه وسلم تصدق بهذا

(2/118)


فقال يا رسول الله أعلى غيرنا فوالله إنا لجياع ما لنا شيء قال كلوه.
قلت قوله احترقت يدل على أنه المحترق بالجنابة دون غيره وهذا بإزاء قوله هلكت في حديث أبي هريرة. وقد اختلف الناس في تأويل قوله كله وأطعمه أهلك فقال الزهري هذا خاص لذلك الرجل ولو أن رجلاً فعل ذلك اليوم لم يكن له بد من التكفير.
قلت وهذا من الزهري دعوى لم يحضر عليها برهاناً ولا ذكر فيها شاهداً، وقال غيره هذا منسوخ ولم يذكر في نسخه خبراً يعلم به صحة قوله وأحسن ما سمعت فيه قول أبي يعقوب البويطي، وذلك أنه قال رجل وجبت عليه الرقبة فلم يكن عنده ما يشتري به رقبة فقيل له صم فلم يطق الصوم فقيل له اطعم ستين مسكينا فلم يجد ما يطعم فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بطعام ليتصدق به فأخبر أنه ليس بالمدينة أحوج منه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى فلم ير له أن يتصدق على غيره ويترك عياله فلما نقص من ذلك بقدر ما أطعم أهله لقوت يومهم صار طعاما لايكفي ستين مسكيناً فسقطت عنه الكفارة في ذلك الوقت فكانت في ذمته إلى أن يجدها وصار كالمفلس يمهل ويؤجل وليس في الحديث أنه قال لا كفارة عليك.
وقد ذهب بعضهم إلى أن الكفارة لا تلزم الفقير واحتج بظاهر الحديث.
وأما العَرَق فهو المكتل وأصله السفيفة تنسج من الخوص قبل أن يجعل منها زنبيل فسمي الزنبيل عرقاً لذلك قاله أبوعييد وغيره. وقوله ما بين لابتيها يريد حرتي المدينة واحدة لابة وجمعها لوب.
قلت وظاهر هذا الحديث يدل على أن قدر خمسة عشر صاعاً كاف للكفارة

(2/119)


عن شخص واحد لكل مسكين مد، وقد جعله الشافعي أصلا لمذهبه في أكثر المواضع التي يجب فيها الإطعام إلاّ أنه قد روي في خبر سلمة بن صخر وأوس بن الصامت في كفارة الظهار أنه قال في أحدهما أطعم ستين مسكيناً وسقا ًوالوسق ستون صاعا، وفي الخبر الآخر أنه أتي بعرق. وفسره محمد بن إسحاق بن يسار في روايته ثلاثين صاعا، وإسناد الحديثين لا بأس به وإن كان حديث أبي هريرة أشهر رجالا فالاحتياط أن لا يقتصر على المد الواحد لأن من الجائز أن يكون العرق الذي أتي به النبي صلى الله عليه وسلم المقدر بخمسة عشر صاعا قاصرا في الحكم عن مبلغ تمام الواجب عليه مع أمره إياه أن يتصدق به ويكون تمام الكفارة باقيا عليه إلى أن يؤديه عند اتساعه لوجوده كمن يكون عليه لرجل ستون درهماً فيأتيه بخمسة عشر درهما فيقال لصاحب الحق خذه ولا يكون في ذلك إسقاط ما وراءه من حقه ولا براءة ذمته منه.

ومن باب من أكل وشرب ناسيا
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أيوب وحبيب وهشام عن محمد بن سيرين، عَن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أكلت وشربت ناسياً وأنا صائم قال الله أطعمك وسقاك.
قوله الله أطعمك وسقاك فيه دليل على أن لا قضاء على المفطر ناسياً وذلك أن النسيان من باب الضرورة والضرورات من فعل الله سبحانه ليست من فعل العباد ولذلك أضاف الفعل إلى الله سبحانه وتعالى.
وإلى إسقاط القضاء والكفارة عن الناس ذهب عامة أهل العلم غير مالك بن أنس وربيعة بن أبي عبد الرحمن. فأما إذا وطئ زوجته ناسيا في نهار الصوم

(2/120)


فقد اختلف العلماء في ذلك فقال الثوري وأصحاب الرأي والشافعي وإسحاق مثل قولهم فيمن أكل أو شرب ناسياً، وإليه ذهب الحسن ومجاهد، وقال عطاء والأوزاعي ومالك والليث بن سعد عليه القضاء، وقال أحمد عليه القضاء والكفارة واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الذي وقع على أهله أنسيت أم عمدت.
قلت معناه في هذا اقتضاء العموم من الفعل. والعموم إنما يقتضي من القول دون الفعل. وإنما جاء الحديث بذكر حال وحكاية فعل فلا يجوز وقوعه على العمد والنسيان معاً فبطل أن يكون له عموم. ومن مذهب أبي عبد الله أنه إذا أكل ناسيا لم يفسد صومه لأن الأكل لم يحصل منه على وجه المعصية فكذلك إذا جامع ناسيا. فأما المتعمد لذلك فقد حصل منه الفعل على وجه المعصية فلذلك وجبت عليه الكفارة.

ومن باب تأخير قضاء رمضان
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع عائشة تقول إن كان ليكون عليّ تعني الصوم من رمضان فما استطيع أن أقضيه حتى يأتي شعبان.
قولها فما استطيع أن أقضيه إنما هولاشتغالها بقضاء حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفير الحظ في عشرته.
وفيه دلالة على أن من أخر القضاء إلى أن يدخل شهر رمضان من قابل وهو مستطيع له غير عاجز عنه فإن عليه الكفارة ولولا ذلك لم يكن في ذكرها شعبان وحصرها موضع القضاء فيه فائدة من بين سائر الشهور.

(2/121)


وممن ذهب إلى إيجاب الكفارة على من أخر القضاء إلى أن يدركه شهر رمضان من قابل أبو هريرة وابن عباس وهو قول عطاء والقاسم بن محمد والزهري.
وإليه ذهب مالك وسفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وقال الحسن والنخعي يقضي وليس عليه فدية، وإليه ذهب أصحاب الرأي. وقال سعيد بن جبير وقتادة يطعم ولا يقضي.

ومن باب من مات وعليه صيام
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مات وعليه صيام صام عنه وليه.
قلت هذا فيمن لزمه فرض الصوم إما نذراً وإما قضاء عن رمضان فائت مثل أن يكون مسافراً فيقدم وأمكنه القضاء ففرط فيه حتى مات أو يكون مريضاً فيبرأ ولا يقضي.
وإلى ظاهر هذا الحديث ذهب أحمد وإسحاق وقالا يصوم عنه وليه، وهو قول أهل الظاهر. وتأوله بعض أهل العلم فقال معناه أن يطعم عنه وليه فإذا فعل ذلك فكأنه قد صام عنه وسمي الإطعام صياما على سبيل المجاز والاتساع إذ كان الطعام قد ينوب عنه، وقد قال سبحانه {أو عدل ذلك صياما} [المائدة: 95] فدل على أنهما يتناوبان.
وذهب مالك والشافعي إلى أنه لا يجوز صيام أحد عن أحد وهو قول أصحاب الرأي وقاسوه على الصلاة ونظائرها من أعمال البدن التي لا مدخل للمال فيها واتفق عامة أهل العلم على أنه إذا أفطر في المرض أو السفر ثم لم يفرط في القضاء

(2/122)


حتى مات فإنه لا شيء عليه ولا يجب الإطعام عنه. غير قتادة فإنه قال يطعم عنه وقد حكي ذلك أيضاً عن طاوس.

ومن باب الصوم في السفر
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا: حَدَّثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة الأسلمي قال يا رسول الله إني رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر قال صم إن شئت وافطر إن شئت.
قلت هذا نص في إثبات الخيار في السفر بين الصوم والإفطار. وفيه بيان جواز صوم الفرض للمسافر إذا صامه، وهو قول عامة أهل العلم إلاّ ما روي عن ابن عمر أنه قال: إن صام في السفر قضى في الحضر. وقد روي عن ابن عباس أنه قال لا يجزئه، وذهب إلى هذا من المتأخرين داود بن علي، ثم اختلف أهل العلم بعد هذا في فضل الأمرين منهما.
فقالت طائفة أفضل الأمرين الفطر، وإليه ذهب ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه. وقال أنس بن مالك وعثمان بن أبي العاص أفضل الأمرين الصوم في السفر وبه قال التخعي وسعيد بن جبير وهو قول مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي.
وقالت فرقة ثالثة أفضل الأمرين أيسرهما على المرء لقوله عز وجل {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بك العسر} [البقرة: 185] فإن كان الصوم عليه أيسر صامه وإن كان الفطر أيسر فليفطر وإليه ذهب مجاهد وعمر بن عبد العزيز وقتادة.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح ووهب بن بيان المعنى قالا: حَدَّثنا ابن وهب حدثني معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد أنه حدثه عن قزعة قال أتيت أبا سعيد

(2/123)


الخدري وهو مكثور عليه فانتظرت خلوته فلما خلا سألته عن صيام رمضان في السفر فقال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان عام الفتح فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ونصوم حتى بلغ منزلاً من المنازل فقال إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأصبحنا منا الصائم ومبنا المفطر قال ثم سرنا فنزنا منزلاً فقال إنكم تُصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم فافطروا فكانت عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو سعيد لقد رأيتني أصوم مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك وبعد ذلك.
قلت وزعم بعض أهل العلم أنه اذا أنشأ السفر في رمضان لم يجز له أن يفطر واحتج بقوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185] وفي هذا الحديث دلالة على غلط هذا القائل، ومعنى الآية شهود الشهر كله. وهم شهد بعضه ولم يشهد كله فإنه لم يشهد الشهر.

ومن باب اختيار الفطر
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسى حدثنا شعبة عن محمد بن عبد الرحمن، يَعني ابن سعد بن زرارة عن محمد بن عمرو بن الحسن عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يُظَلل عليه والزحام عليه قال ليس البر الصيام في السفر.
قلت هذا كلام خرج على سبب فهو مقصور على من كان في مثل حاله كأنه قال ليس من البر أن يصوم المسافر إذا كان الصوم يؤديه إلى مثل هذه الحال بدليل صيام النبي صلى الله عليه وسلم في سفره عام الفتح وبدليل خبر حمزة الأسلمي وتخييره بين الصوم والإفطار ولو لم يكن الصوم براً لم يخيره فيه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا أبو هلال الراسبي حدثنبا ابن سوادة

(2/124)


القشيري عن أنس بن مالك رجل من بني عبد الله بن كعب إخوة بني قشير قال أغارت علي خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال فانتهيت أو قال فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأكل فقال اجلس فأصب من طعامنا هذا، قلت إني صائم فقال اجلس احدثك عن الصلاة وعن الصيام إن الله وضع شطر الصلاة أو نصف الصلاة والصوم عن المسافر وعن المرضع والحبلى والله لقد قالهما جميعا أو أحدهما فلهف نفسي أن لا أكون أكلت من طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت قد يجسع نظم الكلام أشياء ذات عدد منسوقة في الذكر مفترقة في الحكم وذلك أن الشطر الموضوع من الصلاة يسقط لا إلى قضاء والصوم يسقط في السفر ترخيصا للمسافر ثم يلزمه القضاء إذا أقام. والحامل والمرضع تفطران إبقاء على الولد ثم تقضيان وتطعمان من أجل أن إفطارهما كان من أجل غير أنفسهما.
وممن أوجب على الحامل والمرضع مع القضاء الإطعام مجاهد والشافعي وأحمد وقال مالك الحبلى تقضي ولا تكفر لأنها بمنزلة المريض والمرضع تقضي وتكفر وقال الحسن وعطاء تقضيان ولا تطعمان كالمريض وهو قول الأوزاعي والثوري وإليه ذهب أصحاب الرأي.

ومن باب متى يفطر الصانم إذا خرج
قال أبو داود: حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا عبد الله بن يحيى حدثني سعيد بن أبي أيوب والليث بن سعد حدثني يزيد بن أبي حبيب أن كليب بن ذُهل الحضرمي أخبره عن عبيد بن جبر قال كنت مع أبي بصرة الغفاري صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان فرفع ثم قرب غداءه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة قال اقترب قلت ألست ترى البيوت، قال أبو بصرة

(2/125)


أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل.
قلت فيه حجة لمن رأى للمقيم الصائم إذا سافر من يومه أن يفطر وهوقول الشعبي وإليه ذهب أحمد بن حنبل.
وعن الحسن أنه قال يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج.
وقال إسحاق بن راهويه إذا وضع رجله في الرحل فله أن يفطر، وحكاه عن أنس بن مالك وشبهوه بمن أصبح صائما ثم مرض في يومه فان له أن يفطر من أجل المرض قالوا وكذلك من أصبح صائما ثم سافر لأن كل واحد من الأمرين سبب للرخصة حدث بعد مضي شيء من النهار.
قلت السفر لا يشبه المرض لأن السفر من فعله وهو الذي ينشئه باختياره والمرض شيء يحدث عليه لا باختياره فهو يعذر فيه ولا يعذر في السفر الذي هو فعل نفسه ولوكان في الصلاة فمرض كان له أن يصلي قاعداً ولو سافر وهو مصل لم يكن له أن يقصر.
وقال أصحاب الرأي لا يفطر إذا سافر يومه ذلك وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي وروي ذلك عن النخعي ومكحول والزهري. قلت وهذا أحوط الأمرين والإقامة إذا اختلط حكمها بحكم السفر غلب حكم المقام.

ومن باب مسيرة ما يفطر فيه
قال أبو داود: حدثنا عيسى بن حماد أخبرنا الليث، يَعني ابن سعد عن يزيد بن أبي حبيب، عَن أبي الخير عن منصور الكلبي أن دحية بن خليفة خرج من قريته من دمشق إلى قدر قرية عقبة من الفسطاط وذلك ثلاثة أميال في رمضان ثم إنه أفطر وأفطر معه أناس وكره آخرون أن يفطروا فلما رجع إلى قريته قال

(2/126)


والله لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن أني أراه إن قوما رغبوا عن هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقول ذلك للذين صاموا ثم قال عند ذلك اللهم اقبضني إليك.
قلت في هذا حجة لمن لم يحد السفر الذي يترخص فيه الافطار بحد معلوم ولكن يراعي الاسم ويعتمد الظاهر واحسبه قول داود وأهل الظاهر. فأما الفقهاء فإنهم لا يرون الإفطار إلاّ في السفر الذي يجوز فيه القصر وهو عند أهل العراق ثلاثة أيام وعند أهل الحجاز ليلتان أو نحوهما وليس الحديث بالقوي وفي إسناده رجل ليس بالمشهور، ثم أن دحية لم يذكر فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر في قصير السفر إنما قال إن قوما رغبوا عن هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعلهم إنما رغبوا عن قبول الرخصة في الافطار أصلا. وقد يحتمل أن يكون دحية إنما صار في ذلك إلى ظاهر اسم السفر، وقد خالفه غير واحد من الصحابة فكان ابن عمر وابن عباس لا يريان القصر والإفطار في أقل من أربعةُ برد وهما أفقه من دحية وأعلم بالسنة.

ومن باب صوم يوم الفطر والنحر
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد وزهير بن حرب وهذا حديثه قالا: حَدَّثنا سفيان عن الزهري، عَن أبي عبيدة قال شهدت العيد مع عمر رضي الله عنه فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام هذين اليومين أما يوم الأضحى فتأكلون من لحم نسككم، وأما يوم الفطر ففطركم من صيامكم.
قوله أما يوم الفطر ففطركم من صيامكم يدل على أنه من نذر صوم ذلك اليوم لم يلزمه صيامه ولا قضاؤه لأن هذا كالتعليل لوجوب الإفطار فيه،

(2/127)


وقد وسم هذا اليوم بيوم الفطر والفطر مضاد للصوم ففى إجازة صومه إبطال لمعنى اسمه.
وقد ذهب عامة أهل العلم إلى أن الصيام لا يجوز في هذين اليومين غير أن أهل العراق ذهبوا إلى أنه لو نذر صومهما لزمه قضاؤه والنذر إنما يلزم في الطاعة دون المعصية وصيام هذين اليومين معصية لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه فالنذر لا ينعقد فيه ولا يصح كما لا يصح من الحائض لو نذرت أن تصوم أيام حيضها.

ومن باب صيام أيام التشريق
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا وهيب حدثنا موسى بن علي (ح) وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن موسى بن علي والأخبار في حديث وهب، قال سمعت أبي أنه سمع عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الاسلام وهي أيام أكل وشرب.
قلت وهذا أيضاً كالتعليل في وجوب الإفطار فيها وأنها مستحقة لهذا المعنى فلا يجوز صيامها ابتداء تطوعا ولانذرا ولا عن صوم التمتع إذا لم يكن المتمتع صام الثلاثة الأيام في العشر وهو قول على رضي الله عنه والحسن وعطاء وغالب مذهب الشافعي.
وقال مالك والأوزاعي وإسحاق يصوم المتمتع أيام التشريق إذا فاتته الثلاث في العشر وروى ذلك عن ابن عمر وعائشة وعروة بن الزبير رضي الله عنهم.

ومن باب صوم تطوع الدهر
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن غيلان بن جرير عن عبد الله بن معبد الزماني عن أبى قتادة أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال

(2/128)


يا رسول الله كيف تصوم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله فلما رأى ذلك عمر رضي الله عنه قال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول فلم يزل عمر يرددها حتى سكن من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله قال لا صام ولا أفطر، قال يا رسول الله كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوما قال أو يطيق ذلك أحد، قال يا رسول الله كيف بمن يصوم يوما ويفطر يوما قال ذاك صيام داود، قال يا رسول الله فكيف بمن يصوم يوما ويفطر يومين قال وددت أنى أطقت ذلك تم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله.
قلت يشبه أن يكون غضب النبي صلى الله عليه وسلم من مسألته إياه عن صومه كراهة أن يقتدي به السائل في صومه فيتكلفه ثم يعجز عنه فعلا أو يسأمه ويمله بقلبه فيكون صياما عن غير نية وإخلاص وقد كان صلى الله عليه وسلم يواصل وهو محرَّم على أمته وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك بعض النوافل خوفا من أن يفرض على أمته إذا فعلوه اقتداء به كما ترك القيام في شهر رمضان بعد أن قام بهم ليلة أو ليلتين ثم لم يخرح إليهم وقال لهم إنه لم يخف علي مكانكم ولكني خفت أن يكتب عليكم ثم لا تقومون أو كما قال.
وقوله لا صام ولا أفطر معناه لم يصم ولم يفطر؛ وقد يوضع لا بمعنى لم كقوله تعالى {فلا صدق ولا صلى} [القيامة: 31] أي لم يصدق ولم يصلي وقد يحتمل أن يكون معناه الدعاء

(2/129)


عليه كراهة لصنعه وزجرا له عن ذلك ويشبه أن يكون الذي نهى عنه من صوم الدهر هو أن يسرد الصيام أيام السنة كلها لا يفطر فيها الأيام المنهي عن صيامها وقد سرد الصوم دهره أبو طلحة الأنصاري وكان لا يفطر في سفر ولا حضر فلم يعبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نهاه عن ذلك.
وقوله وددت أني أطقت ذلك يحتمل أن يكون إنما خاف العجز عى ذلك للحقوق التى تلزمه لنسائه لأن ذلك يخل بحظوظهن منه لا لضعف جبلته عى احتمال الصيام أو قلة صبره عن الطعام في هذه المدة والله أعلم.

ومن باب صوم أشهر الحرم
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سعيد الجريري، عَن أبي السليل عن مُجيبة الباهلية عن أبيها أوعمها أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انطلق فأتاه بعد سنة وقد تغيرت حاله وهيئته فقال يا رسول الله أما تعرفني قال ومن أنت قال أنا الباهلي الذي جئتك عام الأول، قال فما غيرك وقد كنت حسن الهيئة، قال ما أكلت طعاما منذ فارقتك إلاّ بليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم عذبت نفسك، ثم قال صم شهر الصبر ويوما من كل شهر، قال زدني فإن بي قوة، قال صم يومين، قال زدني قال صم ثلاثة أيام، قال زدني قال صم من الحُرم وأترك، صم من الحرم وأترك، صم من الحرم وأترك. وقال بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها.
قلت شهر الصبر هو شهر رمضان، وأصل الصبر الحبس فسمي الصيام صبرا لما فيه من حبس النفس عن الطعام ومنعها عن وطء النساء وغشيانهن في نهار الشهر.
وقوله صم من الحرم فإن الحرم أربعة أشهر وهي التي ذكرها الله في كتابه

(2/130)


فقال {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم} [التوبة: 36] وهي شهر رجب وذي القعدة وذي الحجة والمحرم، وقيل لأعرابي يتفقه كم الأشهر الحرم قال أربعة ثلاثة سرد وواحد فرد.

ومن باب صوم يوم عرفة
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حوشب بن عقيل عن مهدي الهجري حدثنا عكرمة قال كنا عند أبي هريرة في بيته فحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة.
قلت هذا نهي استحباب لا نهي إيجاب، وإنما نهى المحرم عن ذلك خوفا عليه أن يضعف عن الدعاء والابتهال في ذلك المقام، فأما من وجد قوة ولا يخاف معها ضعفا فصوم ذلك اليوم أفضل له إن شاء الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم صيام يوم عرفة يكفر سنتين سنة قبلها وسنة بعدها.
وقد اختلف الناس في صيام الحاج يوم عرفة فروي عن عثمان بن أبي العاص وابن الزبير أنهما كانا يصومانه وقال أحمد بن حنبل إن قدر على أن يصوم صام وإن أفطر فذلك يوم يحتاج فيه إلى قوة. وكان إسحاق يستحب صومه للحاج وكان عطاء يقول أصوم في الشتاء ولا أصوم في الصيف، وكان مالك وسفيان يختاران الإفطار للحاج، وكذلك الشافعي وروي عن ابن عمر أنه قال لم يصمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبوبكر ولا عمر ولا عثمان ولا أصومه أنا.

ومن باب صوم عاشوراء ومن قال هو اليوم التاسع
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب أن إسماعيل بن أمية حدثه أنه سمع أبا غطفان يقول سمعت عبد الله

(2/131)


بن عباس يقول حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله أنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كان العام المقبل صمنا يوم التاسع فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت هذا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل وجهين أحدهما أن يكون أراد بذلك مخالفة اليهود وقد روي ذلك في بعض الحديث والوجه الآخر أن يكون قد أثبت عاشوراء على ما كانوا يثبتونه من الوقت ووصله بيوم قبله كأنه كره أن يصوم يوما فردا لا يوصل بصيام قبله ولا بعده كما نهى أن يصام يوم الجمعة لا يوصل بالخميس ولا بالسبت.
وفيه وجه آخر وهو أن بعض أهل اللغة زعم أن اسم عاشوراء مأخوذ من أعشار أوراد الإبل والعشر عندهم تسعة أيام وذلك أنهم كانوا يحسبون في الإظماء يوم الورود فإذا وردوا يوما وأقاموا في الرعي يومين ثم أوردوا اليوم الثالث قالوا وردنا أربعا وإنما هو اليوم الثالث في الإظماء وإذا أقاموا في الرعي ثلاثا ووردوا اليوم الرابع قالوا وردنا خمسا وعلى هذا الحساب فعاشوراء على هذا القياس إنما هو اليوم اتاسع. وكان ابن عباس يقول يوم عاشوراء هو اليوم التاسع حدثناه ابن السماك حدثنا إبراهيم بن الوليد الحشاش حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد عن علي بن زيد عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس.

ومن باب فضل صيامه
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة عن عبد الرحمن بن مسلمة عن عمه ان أسلم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال صمتم يومكم قالوا لا قال فأتموا يومكم واقضوه.

(2/132)


قلت هذا منه صلى الله عليه وسلم استحباب وليس بايجاب وذلك أن لأوقات الطاعات أذمة ترعى ولا تهمل فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرشدهم إلى ما فيه الفضل والحظ لئلا يغفلوه عند مصادفتهم وقته، وقد صار هذا أصلا في مذاهب العلماء في مواضع مخصوصة.
قال أصحاب الرأي إذا قدم المسافر في بعض نهار الصوم أمسك عن الأكل بقية يومه.
وقال الشافعي فيمن لا يجد ماء ولا ترابا أو كان محبوسا في حش أو مصلوبا على خشبة أنه يصلي على حسب ما يمكنه مراعاة لحرمة الوقت وعليه الإعادة إذا قدر على الطهارة والصلاة.
قلت وقد يحتج أصحاب الرأي بهذا الحديث في جواز تأخير نية صيام الفرض عن أول وقته إلاّ أن قوله صلى الله عليه وسلم واقضوه يفسد هذا الاستدلال.

ومن باب النية في الصيام
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أيوب عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن ابن شهابة عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من يُجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له.
قلت معنى الإجماع أحكام النية والعزيمة، يقال أجمعت الرأي وأزمعت بمعنى واحد.
وفي بيان أن تأخرت نيته للصوم عن أول وقته فإن صومه فاسد.
وفيه دليل على أن تقديم نية الشهر كله في أول ليلة منه لا يجزئه عن الشهر

(2/133)


كله لأن صيام كل يوم من الشهر صيام منفرد بنفسه متميز عن غيره فإذا لم ينوه في الثاني قبل فجره، وفي الثالث كذلك حصل صيام ذلك اليوم صياما لم يجمع له قبل فجره فبطل وهو قول عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر، وإليه ذهب الحسن البصري وبه قال الشافعي وأحمد بن حنبل.
وقال أصحاب الرأي إذا نوى الفرض قبل زوال الشمس أجرأه، وقالوا في صوم النذر والكفاره والقضاء إن عليه تقديم النية قبل الفجر. وقال إسحاق إذا قدم للشهر النية أول ليلة أجزأه للشهر كله وإن لم يجدد النية كل ليلة. وقد زعم بعضهم أن هذا الحديث غير مسند لأن سفيان ومعمرا قد وقفاه عنى حفصة.
قلت وهذا لا يضر لأن عبد الله بن عمرو بن حزم قد أسنده وزيادات الثقات مقبولة.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنا سفيان (ح) وحدثنا عثمان بن أبي شيبة أخبرنا وكيع جميعا عن طلحة بن يحيى عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤنين قالت كان النبي إذا دخل عليَّ قال هل عندكم طعام فإذا قلنا لا قال فإني صائم زاد وكيع فدخل علينا يوما آخر فقلنا يا رسول الله اهدي لنا حَيس فحبسناه لك قال ادنيه قال طلحة فأصبح صائما وأفطر.
قلت فيه نوعان من الفقه أحدهما جواز تأخير نية الصوم عن أول النهار إذا كان متطوعا به ولم يذكر في الحديث إيجاب القضاء، وكان غير واحد من الصحابة يفعل ذلك منهم ابن مسعود وحذيفة وأبو الدردراء وأبو أيوب الأنصاري وبه قال الشافعي وأحمد.
وكان ابن عمر لايصوم تطوعا حتى يجمع من الليل، وقال جابر بن زيد

(2/134)


لا يجزئه في التطوع حتى يبيت النية، وقال مالك في صوم لا أحب أن يصوم أحد إلاّ أن يكون قد نوى الصيام من الليل.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن أم هانىء قالت لما كان يوم فتح مكة جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم هانىء عن يمينه قالت فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته فشرب منه ثم ناوله أم هانىء فشربت منه فقالت يا رسول الله لقد أفطرت وكنت صائمة فقال لها كنت تقضين شيئا فقالت لا قال فلا يضرك إن كان تطوعا.
قلت في هذا بيان أن القضاء غير واجب عليه إذا أفطر في تطوع وهو قول ابن عباس وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال أصحاب الرأي يلزمه القضاء إذا أفطر، وقال مالك بن أنس إذا أفطر من غير علة يلزمه القضاء.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني حيوة بن شريح عن ابن الهاد عن زُميل مولى عروة عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت اهدي لي ولحفصة طعام وكنا صائمتين فأفطرنا ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله إنا أهديت لنا هدية فاشتهيناها فافطرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عليكما صوما مكانه يوما آخر.
قلت قد جاء في هذا الحديث إيجاب القضاء إلاّ أن الحديث إسناده ضعيف وزميل مجهول، والمشهور من هذا الحديث رواية ابن جريج عن الزهري عن عروة، قال ابن جريج قلت للزهري اسمعته من عروة قال لا إنما أخبرنيه رجل

(2/135)


بباب عبد الملك بن مروان فيشبه أن يكون ذلك الرجل هو زميل. هذا ولو ثبت الحديث أشبه أن يكون إنما أمرهما بذلك استحبابا لأن بدل الشيء في أكثر أحكام الأصول يحل محل أصله وهو في الأصل مخير فكذلك في البدل.

ومن باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي سعيد قال جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده فقالت يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت ويفطرني إذا صمت ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال وصفوان عنده قال فسأله عما قالت، فقال يا رسول الله أما قولها يضربني إذا صليت فإنها تقرأ بسورتين وقد نهيتها، قال فقال لو كانت سورة واحدة لكفت الناس. وأما قولها يفطرني فإنها تنطلق فتصوم وأنا رجل شاب ولا أصبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ لا تصوم امرأة إلاّ بإذن زوجها، وأما قولها إني لا أصلي حتى تطلع الشمس فانا أهل بيت قد عرف لنا ذلك ولا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس. قال فإذا استيقظ فصل.
قلت في هذا الحديث من الفقه أن منافع المتعة والعشرة من الزوجة مملوكة للزوج في عامة الأحوال وإن حقها في نفسها محصور في وقت دون وقت.
وفيه أن للزوج أن يضربها ضربا غير مبرح إذا امتنعت عليه من إيفاء الحق واجمال العشرة. وفيه دليل على أنها لو أحرمت بالحج كان له منعها وحصرها لأن حقه عليها معجل وحق الحج متراخ. وإلى هذا ذهب عطاء بن أبي رباح ولم يختلف العلماء في أن له منعها من حج التطوع.

(2/136)


وقوله فإذا استيقظت فصل ثم تركه التعنيف له في ذلك أمرعجيب من لطف الله سبحانه بعباده ومن لطف نبيه ورفقه بأمته ويشبه أن يكون ذلك منه على معنى ملكة الطبع واستيلاء العادة فصار كالشيء المعجز عنه وكان صاحبه في ذلك بمنزلة من يغمى عليه فعذر فيه ولم يؤنب عليه ويحتمل أن يكون ذلك إنما كان يصيبه في بعض الأوقات دون بعض وذلك إذا لم يكن بحضرته من يوقظه ويبعثه من المنام فيتمادى به النوم حتى تطلع الشمس دون أن يكون ذلك منه في عامة الأوقات فإنه قد يبعد أن يبقى الإنسان على هذا في دائم الأوقات وليس بحضرته أحد لا يصلح هذا القدر من شأنه ولا يراعي مثل هذا من حاله ولا يجوز أن يظن به الامتناع من الصلاة في وقتها ذلك مع زوال العذر بوقوع التنبيه والإيقاظ ممن يحضره ويشاهده والله أعلم.

ومن باب الاعتكاف
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل أخبرنا حماد بن ثابت، عَن أبي رافع، عَن أبي ابن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ولم يعتكف عاما فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين ليلة.
قلت فيه من الفقه أن النوافل المعتادة تقضى إذا فاتت كما تقضى الفرائض ومن هذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر الركعتين اللتين فاتتاه لقدوم الوفد عليه واشتغاله بهم.
وفيه مستدل لمن أجاز الاعتكاف بغير صوم ينشئه له وذلك أن صومه في شهر رمضان إنما كان للشهر لأن الوقت مستحق له.
وقد اختلف الناس في هذا فقال الحسن البصري إن اعتكف من غير صيام

(2/137)


أجزأه، وإليه ذهب الشافعي وروي عن علي وابن مسعود أنهما قالا إن شاء صام وإن شاء أفطر، وقال الأوزاعي ومالك لا اعتكاف إلاّ بصوم وهو مذهب أصحاب الرأي وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وهو قول سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ويعلى بن عبيد عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه قالت وإنه أراد مرة أن يعتكف في العشر الأواخر من رمضان قالت فأمر ببنائه فضرب فلما رأيت ذلك أمرت ببنائي فضرب، قالت وأمر غيري من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ببنائه فضرب فلما صلى الفجر نظر إلى الأبنية فقال ما هذا آلبرَّ تردن آلبر تردن قالت فأمر ببنائه فقوض وأمربأبنيتهن فقوضت ثم أخر الاعتكاف إلى العشر الأول من، يَعني من شوال.
قلت فيه من الفقه أن المعتكف يبتدىء اعتكافه أول النهار ويدخل في معتكفه بعد أن يصلي الفجر، وإليه ذهب الأوزاعي وبه قال أبو ثور.
وقال مالك والشافعي وأحمد يدخل في الاعتكاف قبل غروب الشمس إذا أراد اعتكاف شهر بعينه وهو مذهب أصحاب الرأي.
وفيه دليل على أن الاعتكاف إذا لم يكن نذرا كان للمعتكف أن يخرج منه أي وقت شاء، وفيه إباحة ترك عمل البر إذا كان نافلة لآفة يخاف معها حبوط الأجر.

(2/138)


قلت وفي الحديث دليل على جواز اعتكاف النساء وعلى أنه ليس للمرأة أن تعتكف إلاّ بإذن زوجها وعلى أن للزوج أن يمنعها من ذلك بعد الإذن فيه.
وقال مالك ليس له ذلك وقال الشافعي له أن يمنعها من ذلك بعد الإذن، وفيه كالدلالة على أن اعتكاف المرأة في بيتها جائز. وقد حكي جوازه، عَن أبي حنيفة؛ فأما الرجل فلم يختلفوا أن اعتكلفه في بيته غير جائز وإنما شرع الاعتكاف في المساجد. وكان حذيفة بن اليمان يقول لا يكون الاعتكاف إلاّ في المساجد الثلاثة مسجد مكة والمدينة وبيت المقدس. وقال عطاء لا يعتكف إلاّ في مسجد مكة والمدينة، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لا يجوز أن يعتكف إلاّ في الجامع، وكذلك قال الزهري والحكم وحماد.
وقال سعيد بن جبير وأبو قلابة والنخعي يعتكف في مساجد القبائل وهو قول أصحاب الرأي وإليه ذهب مالك والشافعي.

ومن باب المعتكف يدخل البيت للحاجة
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلاّ لحاجة الإنسان.
قلت فيه بيان أن المعتكف لا يدخل بيته إلاّ لغائط أو بول فإن دخله لغيرهما من طعام وشراب فسد اعتكافه.
وقد اختلف الناس في ذلك فقال أبو ثور لا يخرج إلاّ لحاجة الوضوء الذي لا بد له منه. وقال إسحاق بن راهويه لا يخرج إلاّ لغائط أو بول غير أنه فرق

(2/139)


بين الواجب من الاعتكاف والتطوع، وقال في الواجب لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة وفي التطوع يشترط ذلك حين يبتدىء. وقال الأوزاعي لا يكون في الاعتكاف شرط. وقال أصحاب الرأي ليس ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد لحاجة ما خلا الجمعة والغائط والبول، فأما ما سوى ذلك من عيادة مريض وشهود جنازة فلا يخرج له.
وقال مالك والشافعي لا يخرج المعتكف في عيادة مريض ولا شهود جنازة وهو قول عطاء ومجاهد وقالت طائفة للمعتكف أن يشهد الجمعة ويعود المريض ويشهد الجنازة روي ذلك عن علي رضي الله عنه وهو قول سعيد بن جبير والحسن البصري والنخعي.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن هشام بن عروه عن أبيه عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون معتكفا في المسجد فيناولني رأسه من خلل الحجرة فأغسل رأسه. قال مسدد فارجّله وأنا حائض.
قلت فيه من الفقه أن المعتكف ممنوع من الخروج من المسجد إلاّ لغائط أو بول، وفيه أن ترجيل الشعر يجوز للمعتكف وفي معناه حلق الرأس وتلقيم الأظفار وتنظيف البدن من الشعث والدرن.
وفيه أن بدن الحائض طاهر غير نجس، وفيه أن من حلف لا يدخل بيتا فأدخل رأسه فيه وسائر بدنه خارج لم يحنث.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد شبّويه المروزي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن صفية قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني وكان مسكنها

(2/140)


في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما أنها صفية بنت حُيي قالا سبحان الله يا رسول الله، قال إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا أو شرا.
قلت حكي لنا عن الشافعي أنه قال كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم شفقة عليهما لأنهما لو ظنا به ظن سوء كفرا فبادر إلى إعلامهما ذلك لئلا يهلكا.
قلت وفيه أنه خرج من المسجد معها ليبلغها منزلها وفي هذا حجة لمن رأى أن الاعتكاف لا يفسد إذا خرج في واجب وأنه لا يمنع المعتكف من إتيان معروف.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا عبد السلام بن حرب أخبرنا الليث بن أبى سليم عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قال النفيلي قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يعود المريض وهومعتكف فيمر كما هو فلا يعرج يسأل عنه. قال وحدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن عبد الرحمن، يَعني ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلاّ لما لا بد منه ولا اعتكاف إلاّ بصوم ولا اعتكاف إلاّ في مسجد جامع.
قلت قولها السنة إن كانت أرادت بذلك إضافة هذه الأمور إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا فهي نصوص لا يجوز خلافها وإن كانت أرادت به الفتيا على معاني ما عقَلت من السنة فقد خالفها بعض الصحابة في بعض هذه الأمور، والصحابة إذا اختلفوا في مسألة كان سبيلها النظر، على أن أبا داود قد ذكر على أثر هذا الحديث أن غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه إنها قالت السنة فدل ذلك على احتمال أن يكون ما قالته فتوى منها وليس برواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ويشبه

(2/141)


أن يكون أرادت بقولها لا يعود مريضا أي لا يخرج من معتكفه قاصدا عيادته وأنه لا يضيق عليه أن يمر به فيسأله غير معرج عليه كما ذكرته عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديب القاسم بن محمد.
وقولها لا يمس امرأة تريد الجماع وهذا لا خلاف فيه أنه إذا جامع امرأته فقد بطل اعتكافه. وأما المباشرة فقد اختلف الناس فيها فقال عطاء والشافعي إن باشر أو قبل لم يفسد اعتكافه وإن أنزل. وقال مالك يفسده وكذلك قال أصحاب الرأي.
وقولها لا اعتكاف إلاّ بصوم قد ذكرنا الاختلاف في ذلك وقولها لا اعتكاف إلاّ في مسجد جامع فقد يحتمل أن يكون معناه نفي الفضيلة والكمال وإنما يكره الاعتكاف في غير الجامع لمن نذر اعتكافا من جمعة لئلا تفوته صلاة الجمعة فأما من كان اعتكافه دون ذلك فلا بأس به والجامع وغيره سواء في ذلك والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا أبو داود حدثنا عبد الله بن بديل يعنى ابن ورقاء الليثي عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوماً عند الكعبة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال اعتكف وصم.
قلت فيه من الفقه أن نذر الجاهلية إذا كان على وفاق حكم الإسلام كان معمولا به.
وفيه دليل على أن من حلف في كفره ثم أسلم فحنث أن الكفارة واجبة عليه وهذا على مذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة لا تلزمه الكفارة لأن الإسلام قد جب ما قبله.

(2/142)


قلت إذا جاز إيلاؤه في حال الكفر وما كان مأخوذا بحكمه في الإسلام فكذلك سائر إيمانه.
وفيه أيضاً دليل على وقوع ظهار الذمي ووجوب الكفارة عليه فيها والله أعلم.