معالم السنن

كتاب المناسك
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة المعنى قالا: حَدَّثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري، عَن أبي سنان عن ابن عباس أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة قال بل مرة واحدة فمن زاد فتطوع.
قلت لا خلاف بين العلماء في أن الحج لا يتكرر وجوبه إلاّ أن هذا الإجماع إنما حصل منهم بدليل، فأما نفس اللفظ فقد كان موهما التكرار ومن أجله عرض هذا السؤال وذلك أن الحج في اللغة قصد فيه تكرار ومن ذلك قول الشاعر:
يحجون سب الزِّبرقان المزعفرا
يريد أنهم يقصدونه في أمورهم ويختلفون إليه في حاجاتهم مرة بعد أخرى إذ كان سيداً لهم ورئيسا فيهم وقد استدلوا بهذا المعنى في إيجاب العمرة وقالوا إذا كان الحج قصدا فيه تكرار فإن معناه لا يتحقق إلاّ بوجوب العمرة لأن القصد في الحج إنما هو مرة واحدة لا يتكرر.
وفي الحديت دليل على أن المسلم إذا حج مرة ثم ارتد ثم أسلم أنه لا إعادة عليه للحج.
وقد اختلف العلماء في الأمر الواحد من قبل الشارع هل يوجب التكرار أم لا على وجهين فقال بعضهم نفس الأمر يوجب التكرار وذهبوا إلى معنى

(2/143)


اقتضاء العموم منه، وقال الآخرون لا يوجبه ويقع الخلاص منه والخروح من عهدته باستعماله مرة واحدة لأنه إذا قيل له أفعلت ما أمرت به فقال نعم كان صادقاً وإلى هذا ذهب أكثر الناس.

ومن باب المرأة تحج بغير محرم
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلاّ ومعها رجل ذو حرمة منها.
قلت في هذا بيان أن المرأة لا يلزمها الحج إذا لم تجد رجلا ذا محرم يخرج معها وإلى هذا ذهب النخعي والحسن البصري وهو قول أصحاب الرأي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وقال مالك تخرج مع جماعة من النساء.
وقال الشافعي تخرج مع امرأة حرة مسلمة ثقة من النساء.
قلت المرأة الحرة المسلمة الثقة التي وصفها الشافعي لا تكون رجلا ذا حرمة منها وقد حظر النبي صلى الله عليه وسلم عليها أن تسافر إلاّ ومعها رجل ذو محرم منها فإباحة الخروج لها في سفر الحج مع عدم الشريطة التي أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم خلاف السنة فإذا كان خروجها مع غير ذي محرم معصية لم يجز إلزامها الحج وهو طاعة بأمر يؤدي إلى معصية.
وعامة أصحاب الشافعي يحتجون في هذا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الاستطاعة فقال الزاد والراحلة قالوا فوجب إذا قدرت المرأة على هذه الاستطاعة أن يلزمها الحج ويتأولون خبر النهي على الأسفار التي هي متطوعة بها دون السفر الواجب.

(2/144)


قلت وهذا الحديث إنما رواه إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر. وإبراهيم الخوزى متروك الحديث، وقد روي ذلك من طريق الحسن مرسلاً والحجة عند الشافعي لا تقوم بالمراسيل. وشبهها أصحابه بالكافرة تسلم في دار الحرب في أنها تهاجر إلى دار الإسلام بلا محرم وكذلك الأسيرة المسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار قالوا والمعنى في ذلك أنه سفر واجب عليها فكذلك الحج.
قلت ولوكانوا سواء لكان يجوز لها أن تحج وحدها ليس معها أحد من رجل ذي محرم أو امرأة ثقة فلما لم يبح لها في الحج أن تخرج وحدها إلاّ مع امرأة حرة ثقه مسلمة دل على الفرق بين الأمرين.

ومن باب لا صرورة
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة أبو خالد، يَعني سليمان بن حبان الأحمر عن ابن جريج عن عمر عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صرورة في الإسلام.
قلت الصرورة تفسر تفسيرين أحدهما أن الصرورة هو الرجل الذي قد انقطع عن النكاح وتبتل على مذهب رهبانية النصارى ومنه قول النابغة.
لو أنها عرضت لأشمطَ راهبٍ ... عبد الإله صرورةٍ متلبد
والوجه الاخر أن الصرورة هو الرجل الذي لم يحج فمعناه على هذا أن سنة الدين أن لا يبقى أحد من الناس يستطيع الحج فلا يحج حتى لا يكون صرورة في الإسلام وقد يستدل به من يزعم أن الصرورة لا يجوز له أن يحج عن غيره

(2/145)


وتقدير الكلام عنده أن الصرورة إذا شرع في الحج عن غيره صار الحج عنه وانقلب عن فرضه ليحصل معنى النفي فلا يكون صرورة، وهذا مذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال مالك والثوري حجه على ما نواه وإليه ذهب أصحاب الرأي، وقد روي ذلك عن الحسن البصري وعطاء والنخعي.

ومن باب الصبي يحج
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالروحاء فلقي ركباً فسلم عليهم فقال من القوم فقالوا المسلمون فقالوا ومن أنتم قال: رسول الله ففزعت امرأة فأخذت بعضد صبي فأخرجته من محفَّتها فقالت يا رسول الله هل لهذا حج قال نعم ولك أجر.
قلت إنما كان له من ناحية الفضيلة دون أن يكون ذلك محسوباً عن فرضه لو بقي حتى يبلغ ويدرك مدرك الرجال. وهذا كالصلاة يؤمر بها إذا أطاقها وهي غير واجبة عليه وجوب فرض ولكن يكتب له أجرها تفضيلا من الله ويكتب لمن يأمره بها ومن شده إليها أجر. فإذا كان له حج فقد علم أن من سنته أن يوقف به في المواقف ويطاف به حول البيت محمولا إن لم يطق المشي وكذلك السعي بين الصفا والمروة في نحوها من أعمال الحج. وفي معناه المجنون إذا كان مأيوساً من إفاقته.
وفي ذلك دليل على أن حجه إدا فسد أو دخله نقص فإن جبرانه واجب عليه كالكبير وإن اصطاد صيدا لزمه الفداء كما يلزم الكبير.

(2/146)


وفي وجوب هذه الغرامات عليه في ماله كما يلزمه لو أتلف مالا لإنسان فيكون غرمه في ماله أو وجوبها على وليه إذ كان هو الحامل له على الحج والنائب عنه في ذلك نظر وفيه اختلاف بين الفقهاء، وقال بعض أهل العراق لا يحج بالصبي الصغير والسنة أولى ما اتبع.

ومن باب المواقيت
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس وعن ابن طاوس عن أبيه قالا وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن وقال أحدهما ولأهل لليمن يلملم قال فهن لهم ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة وقد كان من دون ذلك. قال ابن طاوس من حيث أنشأ قال وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها.
قلت معنى التحديد في هذه المواقيت أن لا تتعدى ولا تتجاوز إلا باستصحاب الإحرام وقد أجمعوا أنه لو أحرم دونها حتى يوافي الميقات محرماً أجزأه وليس هذا كتحديد مواقيت الصلاة فإنها إنما ضربت حداً لئلا تقدم الصلاة عليها.
وفي الحديث بيان أن المدني إذا جاء من الشام على طريق الجحفة فإنه يحرم من الجحفة ويصير كأنه شامي وإذا أتى اليماني على ذى الحليفة أحرم منه وصار كأنه إنما جاء من المدينة.
وفيه أن من كان منزله وراء هذه المواقيت مما يلي مكة فإنه يحرم من منزله الذي هو وطنه، وفيه أن ميقات أهل مكة في الحج خاصة مكة. والمستحب للمكي أن يحرم قبل أن يخرج إلى الصحراء إذا بلغ طرف البلد أحرم قبل أن يصحر

(2/147)


فأما إذا أراد العمرة فإنه لا يحرم لها من جوف مكة لكنه يخرج إلى أدنى الحل فيحرم منه ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرعبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة فيعمرها من التنعيم.
وفي قوله ممن كان يريد الحج والعمرة بيان أن الإحرام من هذه المواقيت إنما يجب على من كان عند مروره بها قاصدا حجا أو عمرة دون من لم يرد شيئا منهما فلو أن مدنيا مر بذي الحليفة وهولا يريد حجا ولا عمرة فسار حتى قرب من الحرم فأراد الحج أو العمرة فإنه يحرم من حيث حضرته النية ولا يجب عليه دم كما يجب على من خرج من بيته يريد الحج والعمرة فطوى الميقات وأحرم بعدما جاوزه.
وذهب الأوزاعي وأحمد وإسحاق إلى أن عليه دماً إن لم يرجع إلى الميقات ودلالة الحديث توجب أن لا دم عليه.
قال أبو داود: حدثنا هشام بن بهرام المدائني حدثنا المعافى بن عمران عن أفلح عن القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عِرْق.
قال وحدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع، حَدَّثنا سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن ابن عباس قال وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق.
قلت الحديث في العقيق أثبت منه في ذات عرق والصحيح منه أن عمر بن الخطاب وقتها لأهل العراق بعد أن فتحت العراق وكان ذلك في التقدير على موازاة قرن لأهل نجد، وكان الشافعي يستحب أن يحرم أهل العراق من العقيق

(2/148)


فإن أحرموا من ذات عرق أجزأهم وقد تابع الناس في ذلك عمر بن الخطاب إلى زماننا هذا.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبى فديك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يُحَنِّس عن يحيى بن أبي سفيان الأخنس عن جدته حكيمة عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أهل بحجة أو عمره من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة شك عبد الله أيتهما قال.
قلت في هذا جواز تقديم الإحرام على الميقات من المكان البعيد مع الترغيب فيه وقد فعله غير واحد من الصحابة وكره ذلك جماعة أنكر عمر بن الخطاب على عمران بن الحصين إحرامه من البصرة وكرهه الحسن البصرى وعطاء بن أبي رباح ومالك بن أنس. وقال أحمد بن حنبل وجه العمل المواقيت وكذلك قال إسحاق قلت يشبه أن يكون عمر إنما كره ذلك شفقا أن يعرض للمحرم إذا بعدت مسافته آفة تفسد إحرامه ورأى أن ذلك في قصير المسافة أسلم.

ومن باب الحائض تهل بالحج
قال أبو داود: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر حدثنا مروان بن شجاع عن خصيف عن عكرمة ومجاهد عن عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال النفساء والحائض إذا أتتا على الوقت تغتسلان وتحرمان وتقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت.
قلت فيه من العلم استحباب التشبه من أهل التقصير بأهل الفضل والكمال والاقتداء بأفعالهم طمعا في درك مراتبهم ورجاء لمشاركتهم في نيل المثوبة،

(2/149)


ومعلوم أن اغتسال الحائض والنفساء قبل أوان الطهر لا يطهرهما ولا يخرجهما عن حكم الحدث وإنما هو لفضيلة المكان والوقت.
ومن هذا الباب أمرالنبي صلى الله عليه وسلم الأسلميين أن يمسكوا بقية نهار عاشوراء عن الطعام وكذلك القادم في بعض نهار الصوم يمسك بقية نهاره في مذاهب الفقهاء. والعادم الماء والتراب والمصلوب على الخشبة والمحبوس في الحش والمكان القذر يصلون على حسب الطاقة عند بعضهم ولا يجزئهم وعليهم الإعادة عند الإمكان وهذا باب غريب من العلم. وفي أمره صلى الله عليه وسلم الحائض والنفساء بالاغتسال دليل على أن الطاهر أولى بذلك.
وفيه دليل على أن المحدث إذا أحرم أجزأه إحرامه وفيه بيان أن الطواف لا يجوز إلاّ طاهرا وهو قول عامة أهل العلم إلاّ أنه قد حكي، عَن أبي حنيفة أنه قال إذا طاف جنبا وانصرف من مكة لم يلزمه الإعادة ويجبره بدم وعند الشافعي أن الطواف لا يجزئه إلاّ بما يجزىء به الصلاة من الطهارة وستر العورة فإن ترك شيئا منهما أعاد.

ومن باب الطيب عند الإحرام
قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح البزاز حدثنا إسماعيل بن زكريا عن الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.
قلت وبيص المسك بريقه يقال وبص الشيء وبصّ أيضاً بصيصاً إذا برق وفيه من الفقه أن للمحرم أن يتطيب قبل إحرامه بطيب يبقى أثره عليه بعد الإحرام وإن بقاءه بعد الإحرام لا يضره ولا يوجب عليه فدية وهو مذهب

(2/150)


أكثر الصحابة. روي عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يفعل ذلك وأن ابن عباس رئي محرما وعلى رأسه مثل الرُب من الغالية. وقال مسلم بن صُبيح رأيت ابن الزبير وهو محرم وفي رأسه ولحيته من الطيب ما لو كان لرجل لاتخذ عنه رأس مال وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال مالك بن أنس يكره الطيب للمحرم. وقال أبو حنيفة أن تطيب بما يبقى أثره بعد الإحرام كانت عليه الفدية وشبهوه باللباس يستصحب الإحرام والحديث حجة على من كره ذلك. ومما يفرق به بين الطيب واللباس أن سبيل الطيب الاستهلاك وسبيل الثياب الاستبقاء ولذلك صار إذا حلف أن لا يتطيب وعلى بدنه طيب لا يحنث مع ترك إزالته ولو حلف لا يلبس وعليه ثياب لزمه نزعه عن نفسه وإلا حنث.

ومن باب في التلبيد
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يهل ملبّداً.
قلت تلبيد الشعر قد يكون بالصمغ وقد يكون بالعسل وإنما يفعل ذلك بالشعر ليجتمع ويتلبد فلا يتخلله الغبار ولا يصيبه الشعث ولا يقع فيه الدبيب.

ومن باب الهدي
قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا محمد بن سلمة حدثنا محمد بن إسحاق قال قال عبد الله بن نجيح حدثني مجاهد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي عام الحديبية في هدايا رسول الله صلى الله عليه وسلم جملا كان لأبي جهل في رأسه بُرة من فضة يغيظ بذلك المشركين.

(2/151)


قلت فيه من الفقه أن الذكران في الهدي جائزة وقد روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يكره ذلك في الإبل ويرى أن يهدي الإناث منها.
وفيه دليل على جواز استعمال اليسير من الفضة في لجم المراكب من الخيل وغيرها، وفى معناه لو كتبت بغلة بحلقة فضة أو نحوها جاز.
والبره حلقة تجعل في أنف البعير وتجمع على البرين.
وقوله يغيظ بذلك المشركين معناه أن هذا الجمل كان معروفاً بأبي جهل فحازه النبي صلى الله عليه وسلم في سلبه فكان يغيظهم أن يروه في يده وصاحبه قتيل سليب.

ومن باب هدي البقر
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عثمان، قال: حَدَّثنا محمد بن مهران الرازي حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن يحيى، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن.
قلت البقرة تجزي عن سبعة كالبدنة من الإبل، وفيه بيان جواز شركة الجماعة في الذبيحة الواحدة.
وممن أجاز ذلك عطاء وطاوس وسفيان الثوري والشافعي.
وقال مالك بن أنس لا يشتركون في شيء من الهدي والبدن والنسك.
وعن أبي حنيفة أنه قال إن كانوا كلهم يريدون النسك فجائز وإن كان بعضهم يريد النسك وبعضهم اللحم لم يجز وعند الشافعي يجوز على الوجهين معاً.
وفيه دليل على أن القارن لا يلزمه أكثر من شاة وذلك أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن قارنات بدليل قوله لعائشة طوافك بالبيت يكفيك لحجك وعمرتك، ولقولها إن نسائك ينصرفن بحج وعمرة وانصرف بحج. وحكي عن الشعبي أنه

(2/152)


قال على القارن بدنه.
وزعم داود أنه لا شيء على القارن وإنما فر بذلك عن القياس وذلك أن أكثر أهل العلم قاسوا دم القران على دم المتعة إذ هو منصوص عليه ولم يكن عنده في القارن نص فأبطله.
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر التمري وأبو الوليد الطيالسي قالا: حَدَّثنا شعبة عن قتادة قال أبو الوليد قال سمعت أبا حسان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا ببدنته فأشعرها من صفحة سنامها الأيمن ثم سلت الدم عنها وقلدها نعلين ثم أتى براحلته فلما قعد عليها واستوت به على البيداء أهل بالحج.
قلت الإشعار أن يطعن في سنامها بمبضع أو نحو ذلك حتى يسيل دمها فيكون ذلك علَماً أنها بدنه ومنه الشعار في الحروب وهو العلامة التي يعرف بها الرجل صاحبه ويميز بذلك بينه وبين عدوه.
وفيه بيان أن الإشعار ليس من جملة ما نهي عنه من المثلة ولا أعلم أحدا من أهل العلم أنكر الإشعار غير أبي حنيفة وخالفه صاحباه وقالا في ذلك بقول عامة أهل العلم، وإنما المثلة أن يقطع عضو من البهيمة يراد به التعذيب أو تبان قطعة منها للأكل كما كانوا يفعلون ذلك من قطعهم أسنمة الإبل واليات الشاء يبينونها والبهيمة حية فتعذب بذلك، وإنما سبيل الإشعار سبيل ما أبيح من الكي والتبزيغ والتوديج في البهائم وسبيل الختان والفصاد والحجامة في الآدميين؛ وإذا جاز الكي واللدغ بالميسم ليعرف بذلك ملك صاحبه جاز الإشعار ليعلم أنه بدنه نسك فتتميز من سائر الإبل وتصان فلا يعرض لها حتى تبلغ المحل وكيف

(2/153)


يجوز أن يكون الإشعار من باب المثلة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة وأشعر بدنه عام حج وهو متأخر.
وفيه أيضاً من السنة التقليد وهو في الإبل كالإجماع من أهل العلم.
وفيه أن الإشعار من الشق الأيمن وهو السنة، وقد اختلفوا في ذلك فذهب الشافعي وأحمد بن حنبل إلى أن الاشعار في الشق الأيمن.
وقال مالك يشعر في الشق الأيسر وروي ذلك عن ابن عمر.
قلت ويشبه أن يكون هذا من المباح لأن المراد به التشهير والإعلام فبأيهما حصل هذا المعنى جاز والله أعلم.
وقال الشافعي يشعر البقر كالإبل. وقال مالك تشعر إن كانت لها أسنمة وإلا فلا.
وقوله سلت الدم بيده أي أماطه بأصبعه وأصل السلت القطع، ويقال سلت الله أنف فلان أي جدعه.
وقوله استوت على البيداء أي علت فوق البيداء. وقال الخليل أتينا أبا ربيعة الأعرابي وهو فوق سطح فلما رآنا قال استووا يريد اصعدوا.
قال أبو داود: حدثنا هناد حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور والأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي غنماً مقلدة.
فيه من الفقه أن الغنم قد يقع عليها اسم الهدي، وزعم بعضهم أن الغنم لا ينطلق عليها اسم الهدي، وفيه أن الغنم يقلد وبه قال عطاء والشافعي وأحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه.
وقال أصحاب الرأي لا يقلد الغنم وكذلك قال مالك.

(2/154)


ومن باب من بعث بهديه وأقام
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر بن المفضل حدثنا ابن عون عن القاسم بن محمد وعن إبراهيم زعم أنه سمعه منهما ولم يحفظ حديث هذا من حديث هذا ولا حديث هذا من حديث هذا قالا قالت أم المؤمنين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي وأنا فتلت قلائدها بيدي من عهن كان عندنا ثم أصبح فينا حلالاً يأتي ما يأتي الرجل من أهله.
قلت وممن قال بظاهر الحديث فلم ير الرجل يكون بتقليد الهدي محرما حتى يحرم مالك والشافعي، وقال سفيان الثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق إذا أراد الحج وقلد فقد وجب عليه.
وقال أصحاب الرأي إذا ساق الهدي ثم قلده فقد وجب عليه الإحرام فإن لم تكن له نية فهو بالخيار بين حجة أو عمرة، وروي عن ابن عمر أنه كان يقول إذا قلد هديه فقد أحرم وكذلك قال عطاء، والعهن الصوف المصبوغ ألواناً.

ومن باب ركوب البدن
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنه فقال اركبها، فقال إنها بدنه قال اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة.
قال وحدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير، قال سألت جابر بن عبد الله عن ركوب الهدي فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً.
قلت اختلف الناس في ركوب البدن فقال أحمد وإسحاق له أن يركبها ولم

(2/155)


يشترطا منه حاجة إليها. وقال مالك لا بأس أن يركبها ركوباً غير فادح.
وقال الشافعي يركبها إذا اضطر إليها وله أن يحمل المُعْيى والمضطر على هديه وكأنه ذهب إلى حديث جابر. ومن تقدم ذكره ذهبوا إلى حديث أبي هريرة.
وقال أصحاب الرأي ليس له أن يركبها وإن فعل ذلك لضرورة ونقصها الركوب شيئاً ضمن ما نقصها وتصدق به وكذلك قال الثوري.

ومن باب الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن هشام عن أبيه عن ناجية الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بهدي وقال إن عطب منها شيء فانحره ثم أصبغ نعله في دمه ثم خل بينه وبين الناس.
قلت إنما أمره بأن يصبغ نعله في دمه ليعلم المار به أنه هدى فيتجنبه إذا لم يكن محتاجاً ولم يكن مضطراً إلى أكله.
وفي قوله خل بينه وبين الناس دلالة على أنه لايحرم على أحد أن يأكل منه إذا احتاج إليه وإنما حظر على سائقه أن يأكل دونهم.
وقال مالك بن أنس فإن أكل منها شيئاً كان عليه البدل.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الوارث، عَن أبي التيَّاح عن موسى بن سلمة عن ابن عباس قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاناً الأسلمي وبعث معه بثماني عشرة بدنه فقال أرأيت أن أُزحف عليّ منها شيء قال تنحرها ثم تصبغ نعلها في دمها ثم اضربها على صفحتها ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أصحابك أو قال أهل رفقتك.
قوله ازحف معناه أعيى وكلَّ يقال زحف البعير إذا جر فِرسِنه على الأرض

(2/156)


من الإعياء وازحفه السير إذا جهده فبلغ هذه الحال.
وقوله لا تأكل منها أنت ولا أحد من أصحابك يشبه أن يكون معناه حرم عليه ذلك وعلى أصحابه ليحسم عنهم باب التهمة فلا يعتلوا بأن بعضها قد زحف فينحروه إذا قرموا إلى اللحم فيأكلوه واله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا عيسى بن ثور عن راشد بن سعد عن عبد الله بن عامر بن يحيى عن عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر ويوم القر قال وقرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدنات خمس أو ست فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ فلما وجبت جنوبها، قال فتكلم بكلمة خفية لم أفهمها قال قلت ما قال، قال من شاء اقتطع.
قلت يوم القر هو اليوم الذي يلي يوم النحر وإنما سمى يوم القر لأن الناس يقرون فيه بمنى. وذلك لأنهم قد فرغوا من طواف الإفاضة والنحر فاستراحوا وقروا.
وقوله يزدلفن معناه يقتربن من قولك زلف الشيء إذا قرب، ومنه قوله تعالى {وازلفنا ثم الآخرين} [الشعراء: 64] ومعناه والله أعلم القرب والدنو من الهلاك، وإنما سميت المزدلفة لاقتراب الناس إلى منى بعد الإفاضة من عرفات.
وقوله وجبت جنوبها معناه زهقت أنفسها فسقطت على جنوبها، وأصل الوجوب السقوط. وفي قوله من شاء اقتطع دليل على جواز هبة المشاع.
وفيه دلالة على جواز أخذ النثار في عقد الإملاك وأنه ليس من باب النهبى، وإنما هو من باب الإباحة وقد كره ذلك بعض العلماء خوفاً أن يدخل فيما نهى عنه من النهبى.

(2/157)


ومن باب كيف تنحر البدن
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون أخبرنا سفيان عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي رضي الله عنه قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأقسم جلودها وجلالها وأمرني أن لا أعطى الجزار منها شيئاً وقال نحن نعطيه من عندنا.
قلت قوله أمرني أن لا أعطي الجزار منها شيئا أي لا يعطي على معنى الأجره شيئاً منها، فأما أن يتصدق به عليه فلا بأس به، والدليل على هذا قوله نعطيه من عندنا أي أجرة عمله وبهذا قال أكثر أهل العلم.
وروي عن الحسن البصري أنه قال لا بأس أن يعطي الجازر الجلد.
وأما الأكل من لحوم الهدي فما كان منها واجباً لم يحل أكل شيء منه وهو مثل الدم الذي يجب في جزاء الصيد وإفساد الحج ودم المتعة والقران وكذلك ما كان نذراً أوجبه المرء على نفسه وما كان تطوعا كالضحايا والهدايا فله أن يأكل منه ويهدي ويتصدق وهذا كله على مذهب الشافعي.
وقال مالك يؤكل من الهدي الذي ساقه لفساد حجه ولفوات الحج ومن هدي المتمتع ومن الهدي كله الأفدية الأذى وجزاء الصيد وما نذره للمساكين.
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه: لا يؤكل من النذر ولا من جزاء الصيد ويؤكل ما سوى ذلك، وروي ذلك عن ابن عمر، وعند أصحاب الرأى يأكل من هدي المتعة وهدي القران وهدي التطوع لا يأكل مما سواهما.

ومن باب الاشتراط في الحج
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عباد بن العوام عن هلال بن

(2/158)


خباب عن عكرمة عن ابن عباس أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني أريد الحج أَشتَرِطُ قال نعم قالت فكيف أقول. قال قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني.
قلت قد اختلف الناس في هذا المعنى وفي إثبات الاشتراط في الحج فذهب بعضهم إلى أنه خاص لها، وقال يشبه أن يكون بها مرض أو حال كان غالب ظنها أنها تعوقها عن إتمام الحج فقدمت الاشتراط وأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كما أذن لأصحابه في رفض الحج وليس ذلك لغيرهم، قال هذا القائل وسواء قدم المحرم الشرط أو لم يشترط فإنه لا يحل به عامة المحرمين. وأثبت بعضهم معنى هذا الشرط واستدل بهذا الحديث على أن الإحصار لا يقع إلاّ بعدوّ مانع، وأما المرض وسائر العوائق فلا يقع بها الإحلال قال ولو كان يقع به الاحلال لما احتاجت إلى هذا الشرط.
وممن قال لا حصر إلاّ حصر العدو ابن عباس، وروي معناه عن ابن عمر، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أصحاب الرأي لا فرق بين العدو والمرض في أن الإحصار واقع بهما.
وقال سفيان الثوري الإحصار بالكسر والمرض والخوف.
قلت وفي قوله ومحلي من الأرض حيث حبستني دليل على أن المحصر يحل حيث يحبس وينحر هديه هناك حرما كان أو حلاً وكذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حين أحصر نحر هديه وحل. وقال أصحاب الرأي دم الإحصار لا يراق إلاّ في الحرم يقيم المحصر على إحرامه ويبعث بالهدي ويواعدهم يوماً يقدر فيه بلوغ الهدي المنسك فإذا كان ذلك الوقت حل.

(2/159)


ومن باب إفراد الحج
قال أبو داود: حدثنا القعنبي حدثنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج.
قلت لم تختلف الأمة في أن الإفراد والقران والتمتع بالعمرة إلى الحج كلها جائزة غير أن طوائف العلماء اختلفوا في الأفضل منها، فقال مالك والشافعي الافراد أفضل. وقال أصحاب الرأي والثوري القران أفضل. وقال أحمد بن حنبل التمتع بالعمرة إلى الحج هو الأفضل. وكل من هذه الطوائف ذهب إلى حديث، وقد ذكر أبو داود تلك الأحاديث على اختلافها مجملا ومفسرا وعلى حسب ما وقع له من الرواية وسيأتي البيان على شرحها وكشف مواضع الاشكال منها في أماكنها إن شاء الله. غير أن جماعة من الجهال ونفراً من الملحدين طعنوا في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أهل الرواية والنقل من أئمة الحديث وقالوا لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم بعد قيام الإسلام إلاّ حجة واحدة فكيف يجوز أن يكون في تلك الحجة مفردا وقارنا ومتمتعا وأفعال نسكها مختلفة وأحكامها غير متفقة وأسانيدها عند أهل الرواية ونقلة الأخبار جياد صحاح ثم قد وجد فيها هذا التناقض والاختلاف يريدون بذلك توهين الحديث والإزراء به وتصغير شأنه وضعف أمرحملته ورواته.
قلت لو يسروا للتوفيق وأعينوا بحسن المعرفة لم ينكروا ذلك ولم يدفعوه وقد أنعم الشافعي بيان هذا المعنى في كتاب اخنلاف الحديث وجود الكلام فيه وفي اقتصاصه على كماله والوجيز المختصر من جوامع ما قاله فيه أن معلوماً في لغة العرب جواز إضافة الفعل إلى الآمر به كجواز إضافته إلى الفاعل له

(2/160)


كقولك بني فلان داراً إذا أمرببنائها وضرب الأمير فلانا إذا أمر بضربه، وروي رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً وقطع سارق رداء صفوان، وإنما أمر برجمه ولم يشهده وأمر بقطع يد السارق ومثله كثير في الكلام، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم المفرد ومنهم القارن والمتمتع وكل منهم يأخذ عنه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه فجاز أن يضاف كلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على معنى أنه أمر بها وأذن فيها وكل قال صدقاً وروى حقا لا ينكره إلاّ من جهل وعاند والله الموفق.
قلت وقد يحتمل ذلك وجها آخر وهو أن يكون بعضهم سمعه يقول لبيك بحج فحكى أنه أفردها وخفي عليه قوله وعمرة فلم يحك إلاّ ما سمع وهوعائشة، ووعى غيره الزيادة فرواها وهو أنس حين قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبيك بحج وعمرة ولا تنكر الزيادات في الأخبار كما لا تنكر في الشهادات وإنما كان يختلف ويتناقض لو كان الزائد نافيا لقول صاحبه فأما إذا كان مثبتا له وزائدا عليه فليس فيه تناقض ولا تدافع.
وقد يحتمل أيضاً أن يكون الراوي سمع ذلك يقول على سبيل التعليم لغيره فيقول له لبيك بحجة وعمرة يلقنه ذلك، وأما من روى أنه تمتع بالعمرة إلى الحج فإنه قد أثبت ما حكته عائشة من إحرامه بالحج وأثبت ما رواه أنس من العمرة والحج إلاّ أنه أفاد الزيادة في البيان والتمييز بين الفعلين بإيقاعهما في زمانين وهو ما روته حفصة روى عنها عبد الله بن عمر أنها قالت يا رسول الله ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك فقال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر فثبت أنه كان هناك عمرة إلاّ أنه أدخل عليها الحج قبل أن يقضي

(2/161)


شيئا من عمل العمرة فصار في حكم القارن وهذه الروايات على اختلافها في الظاهر ليس فيها تكاذب ولا تهاتر والتوفيق بينهما ممكن وهو سهل الخروج غير متعذر والحمد لله.
وقد روي في هذا عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة إحراما موقوفا وخرج ينتظر القضاء فنزل عليه الوحي وهو على الصفا فأمررسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي أن يجعله عمرة وأمر من كان معه هدي أن يحج.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب عن هشام بن عروه عن أبيه عن عائشة أنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين هلال ذي الحجة فلما كان بذي الحليفة قال من شاء أن يهل بحج فليهل ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل بعمرة فإني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة قالت فكنت فيمن أهل بعمرة قال فلما كان في بعض الطريق حضت فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال ما يبكيك قلت وددت أني لم أكن خرجت العام قال ارفضي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج فلما كان ليلة الصدر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن فذهب بها إلى التنعيم أي فأهلت بعمرة.
قلت احتج من رأى التمتع بقوله صلى الله عليه وسلم لولا أني أهديت لأهللت بعمرة قال فالأفضل ما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تمناه أن يفعله لو كان صادف وقته وزمانه، وقد يحتمل أن يكون معنى قوله لأهللت بعمرة أي لتفردت بعمرة أكون بها متمتعا يطيب بذلك نفوس أصحابه الذين تمتعوا بالعمرة إلى الحج فيكون دلالته حينئذ على معنى الجواز لا على معنى الاختيار.

(2/162)


وقوله ارفضي عمرتك اختلف الناس في معناه فقال بعضهم أتركيها وأخريها على القضاء. وقال الشافعي إنما أمرها أن تترك العمل للعمرة من الطواف والسعي لا أنها تترك العمرة أصلا وإنما أمرها أن تدخل الحج على العمرة فتكون قارنة.
قلت وعلى هذا المذهب تكون عمرتها من التنعيم تطوعا لا عن واجب ولكن أراد أن تطيب بنفسها فاعمرها وكانت قتد سألته ذلك وقد روي ما يشبه هذا المعنى في حديث جابر.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث، عَن أبي الزبير عن جابر قال أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا وأقبلت عائشة مهلة بعمرة حتى إذا كانت بسرف عَرِكت حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة وبالصفا والمروة فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي قال فقلنا حِلَّ ماذا قال الحل كله فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلاّ أربع ليال ثم أهللنا يوم التروية ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تبكي فقال ما شأنك فقالت شأني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت والناس يذهبون إلى الحج الآن فقال إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالبيت وبالصفا وبالمروة ثم قال قد حللت من حجتك وعمرتك جميعا فقالت يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال فاذهب بها عبد الرحمن فاعمرها من التنعيم وذلك ليلة الحَصبة.

(2/163)


قلت هذه القصة كلها تدل على صواب ما تأوله الشافعي من قوله ارفضي عمرتك وعلى أن عمرتها من التنعيم إنما هي تطوع أراد بذلك تطييب نفسها. وفيه دليل على أن الطواف الواحد والسعي الواحد يجزئان القارن عن حجه وعمرته.
وقوله عركت معناه حاضت يقال عركت المرأة تعرك إذا حاضت وامرأة عارك، ونساء عوارك.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة وذكرت القصة في حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروجها معه وساقت الحديث إلى أن قالت فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، فأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحداً.
قلت هذا يؤكد معنى ما قلنا من إجزاء الطواف الواحد للقارن وهو مذهب عطاء ومجاهد والحسن وطاوس وبه قال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وعن الشعبي أن القارن يطوف طوافين وهو قول أصحاب الرأي وكذلك قال سفيان الثوري.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الوهاب الثقفي حدثنا حبيب، يَعني المعلم عن عطاء حدثني جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هو وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم يومئذ هدي إلاّ النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة وكان علي رضي الله عنه قدم من اليمن ومعه الهدي فقال أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة ويطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلاّ من كان معه هدي فقالوا أننطلق إلى منى

(2/164)


وذكورنا تقطر فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت.
قلت إنما أراد بهذا القول والله أعلم استطابة نفوسهم وذلك أنه كان يشق عليهم أن يحلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم محرم ولم يعجبهم أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ويتركوا الإيتساء به والكون معه على كل حال من أحواله فقال عند ذلك هذا القول لئلا يجدوا في أنفسهم من ذلك وليعلموا أن الأفضل لهم ما دعاهم إليه وأمرهم به وأنه لولا أن سنة من ساق الهدي أن لا يحل حتى يبلغ الهدي محله لكان أسوتهم في الإحلال يطيب بذلك نفوسهم ويحمد به صنيعهم وفعلهم، وقد يستدل بهذا من هى أن التمتع بالعمرة إلى الحج أفضل.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة أن محمد بن جعفر حدثهم عن شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هذه عمرة استمتعنا بها فمن لم يكن عنده هدي فليحل الحل كله وقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة.
قلت قول هذه عمرة استمتعنا بها يحتج به من يذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا وتأول من ذهب إلى خلافه على أنه أراد به من تمتع من أصحابه وقد كان فيهم المتمتع والقارن والمفرد وهذا كما يقول الرجل الرئيس في قومه فعلنا كذا وصنعنا كذا وهو لم يباشر بنفسه فعل شيء من ذلك وإنما هوحكاية عن فعل أصحابه يضيفها إلى نفسه على معنى أن أفعالهم صادرة عن رأيه ومنصرفة إلى إذنه.
وقوله دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة مختلف في تأويله يتنازعه الفريقان موجبوها ونافوها فرضاً فممن قال إنها واجبة كوجوب الحج عمر وابن عمر وابن

(2/165)


عباس رضي الله عنهم، وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير وإلى إيجابها ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد.
وقال الثوري في العمرة سمعنا أنها واجبة. وقال أصحاب الرأي ليست العمرة واجبة.
قلت فوجه الاستدلال من قوله دخلت العمرة في الحج لمن ليراها واجبة أن فرضها ساقط بالحج وهومعنى دخولها فيه ومن أوجبها يتأول على وجهين.
أحدهما أن عمل العمرة قد دخل في عمل الحج فلا يرى على القارن أكثر من طواف واحد وسعي واحد كما لا يرى عليه أكثر من إحرام واحد.
والوجه الآخر أنها قد دخلت في وقت الحج وشهوره، وكان أهل الجاهلية لا يعتمرون في أشهر الحج فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بهذا القول.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني حيوة أخبرني أبو عيسى الخراساني عن عبد الله بن القاسم عن سعيد بن المسيب أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه ينهى عن العمره قبل الحج.
قلت في إسناد هذا الحديث مقال وقد اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرتين قبل حجه والأمر الثابت المعلوم لا يترك بالأمرالمظنون وجواز ذلك إجماع من أهل العلم لم يذكر فيه خلاف، وقد يحتمل أن يكون النهي عنه اختيارا واستحباباً وأنه إنما أمر بتقديم الحج لأنه أعظم الأمرين وأهمهما ووقته محصور. والعمرة ليس لها وقت موقوت وأيام السنة كلها تتسع لها، وقد قدم الله اسم الحج عليها

(2/166)


فقال {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] .
قال أبو داود: حدثنا أبو سلمة موسى حدثنا حماد عن قتادة، عَن أبي الشيخ الهنائي هو خيوان بن خلدة ممن قرأ على أبي موسى الأشعري من أهل البصرة أن معاوية بن أبي سفيان. قال يا أصحاب رسول الله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كذا وعن ركوب جلود النمور قالوا نعم. قال فتعلمون أنه نهى أن يقرن بين الحج والعمرة فقالوا أما هذا فلا فقال إنها معهن ولكنكم نسيتم.
قلت جواز القران بين الحج والعمرة إجماع من الأمة ولا يجوز أن يتفقوا على جواز شيء منهي عنه ولم يوافق الصحابة معاوية على هذه الرواية ولم يساعدوه عليها، ويشبه أن يكون ذهب في ذلك إلى تأويل قوله حين أمر أصحابه في حجته بالإحلال فشق عليهم لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وكان قارناً.
فيما دلت عليه هذه القصة فحمل معاوية هذا الكلام منه على النهي.
وفيه وجه آخر وهو أنه قد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال افصلوا بين الحج والعمرة فإنه أتم لحجكم وعمرتكم، ويشبه أن يكون ذلك على معنى الإرشاد وتحري الأجر ليكثر السعي والعمل ويتكرر القصد إلى البيت كما روي عن عثمان أنه سئل عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال إن أتم الحج والعمرة أن لا يكونا في أشهر الحج فلو أفردتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل.

ومن باب القران
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق وعبد العزيز بن صهيب وحميد الطويل عن أنس بن مالك أنهم سمعوه يقول سمعت

(2/167)


رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا يقول لبيك عمرة وحجا لبيك عمرة وحجا.
قلت في هذا بيان أنه قرن بينهما في وقت واحد وفي حرم واحد وأنه لم يكن على معنى الإحرام بأحدهما وإدخال الأخرى عليها.
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين حدثنا حجاج حدثنا يونس، عَن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال كنت مع علي رضي الله عنه حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن قال فأصبت معه أواقي فلما قدم علي رضي الله عنه من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وجدت فاطمة قد لبست ثياباً صببغا وقد نضحت البيت بنضوح فقالت ما لك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه فأحلوا، قال فقلت لها إني أهللت بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي كيف صنعت، قال قلت أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال فإني قد سقت الهدي وقرنت قال فقال لي انحر من البدن سبعا وستين أو ستا وستين وامسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين وامسك لي من كل بدنة منها بضعة.
قلت وفي هذا صريح البيان أنه كان قارنا لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم بما كان نواه وقصده من ذلك.
وفيه دليل على أن عقد الإحرام مبهما من غير تعيين جائز وأن صاحبه بالخيار إن شاء صرفه إلى الحج والعمرة معاً وإن شاء صرفه إلى أحدهما دون الآخر وأنه ليس كالصلاة التي لا تجزىء إلاّ بأن يعين مع العقد والإحرام. وقد استدل بعضهم بقوله وامسك لي من كل بدنة منها ببضعة على جواز أكل القارن والمتمتع

(2/168)


من لحم هديه وهو غير دال على ما قاله لأن سُبع بدنه يجزئه عن نسكه ويكون فيه جبران لنقصه فيحصل الأكل من حصة التطوع دون الواجب.
قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا شعيب بن إسحاق عن ابن جريج أخبرني الحسن بن مسلم عن طاوس عن ابن عباس أن معاوية بن أبي سفيان أخبره قال قصرت عن النبي صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة أو رأيته يقصر عنه على المروة بمشقص.
قلت هذا صنيع من كان متمتعا وذلك أن المفرد والقارن لا يحلق رأسه ولا يقصر شعره إلاّ يوم النحر والمعتمر يقصره عند الفراغ من السعي وفي الروايات الصحيحة أنه لم يحلق ولم يقصر إلاّ يوم النحر بعد رمي الجمار وهي أولى. ويشبه أن يكون ما حكاه معاوية إنما هو في عمرة اعتمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الحجة المشهورة له والمشقص نصل عريض.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك فقال إني لبدت رأسى وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر.
قلت هذا يبين لك أنه قد كانت هناك عمرة ولكنه قد أدخل عليها حجة وصار بذلك قارنا، وهذه الأخبار كلها مؤتلفة غير مختلفة على الوجه الذي ذكرناه ورتبناها. ولم يختلف الناس في أن إدخال الحج على العمرة جائز ما لم يفتتح الطواف بالبيت للعمرة.
واختلفوا في إدخال العمرة على الحج فقال مالك والشافعي لا يدخل عمرة

(2/169)


على الحج، وقال أصحاب الرأي إذا أدخل العمرة على الحج صار قارناً.
قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث عن أبيه. قال قلت يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا قال لكم خاصة.
قلت قد قيل إن الفسخ إنما وقع إلى العمرة لأنهم كانوا يحرمون العمرة في أشهر الحج ولا يستبيحونها فيها ففسخ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج عليهم وأمرهم بالعمرة في زمان الحج ليزولوا عن سنة الجاهلية وليتمسكوا بما سن لهم في الإسلام، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس لمن بعدهم ممن أحرم بالحج أن يفسخه وقد اتفق عوام أهل العلم على أنه إذا فسد حجه مضى فيه مع الفساد.
واختلفوا فيمن أهل بحجتين فقال الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه لا يلزمه إلاّ حجة واحدة. ومن حجتهم في ذلك أن المضي فيهما لا يلزم ولو فعله لم يصح بالإجماع.
وقال أصحاب الرأي يرفض إحداهما إلى قابل ويمضي في الأخرى وعليه دم.
قلت لو لزمتاه لم يكن له رفض إحداهما إلى قابل لأنه لا يكون في معنى الفسخ وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن فسخ الحج كان لهم خاصا دون من بعدهم. وقال سفيان يلزمه حجة وعمرة من عامه ويهريق دما ويحج من قابل، وحكى عن مالك أنه قال يصير قارناً وعليه دم ولا يلزمه على مذهب الشافعي شيء من عمرة ولا دم ولا قضاء من قابل.

ومن باب الرجل يحج عن غيره
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن

(2/170)


يسار عن عبد الله بن عباس قال كان الفضل بن عباس رديف النبي صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر فقالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم وذلك في حجة الوداع.
قلت في هذا الحديث بيان جواز حج الإنسان عن غيره حيا وميتا وأنه ليس كالصلاة والصيام وسائر الأعمال البدنية التي لا تجري فيها النيابة وإلى هذا ذهب الشافعي.
وكان مالك لا يرى ذلك وقال لا يجزئه إن فعل وهو الذي روى حديث ابن عباس، وكان يقول في الحج عن الميت إن لم يوص به الميت إن تصدق عنه وأعتق أحب إلي من أن يحج عنه. وكان إبراهيم النخعي وابن أبي ذئب يقولان لا يحج أحد عن أحد والحديث حجة على جماعتهم.
قلت وفيه دليل على أن فرض الحج يلزم من استفاد مالا في حال كبره وزمانته إذا كان قادرا به على أن يأمر غيره فيحج عنه كما لو قدر على ذلك بنفسه. وقد يتأول بعضهم قولها إن فريضة الله أدركت أبي شيخا فقال معناه أنه أسلم وهو شيخ كبير.
وفيه دليل على أن حج المرأة عن الرجل جائز. وقد منع ذلك بعض أهل العلم وزعم أن المرأة تلبس في الإحرام ما لا يلبسه الرجل فلا يحج عنه إلاّ رجل مثله وحكي عن مالك وعن أبي حنيفة أنهما قالا الزمن لا يلزمه فرض الحج إلاّ أن أبا حنيفة قال إن لزمه الفرض في حال الصحة ثم زمن لم يسقط عنه بالزمانة،

(2/171)


وقال مالك يسقط.
واستدل الشافعي بخبر الخثعمية على وجوب الحج على المعضوب الزمن إذا وجد من يبذل له طاعته من ولده وولد ولده. ووجه ما استدل به من هذا الحديث أنها ذكرت وجوب فرض الحج على أبيها في حال الزمانة وهو قولها إن فريضة الله على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة ولا بد من تعلق وجوبه بأحد أمور أما بمال أو بقوة بدن أو وجود طاعة من ذي قوة وقد علمنا عجزه ببدنه ولم يجر للمال ذكر، وإنما جرى الذكر لطاعتها وبذلها نفسها عنه فدل أن الوجود تعلق به ومعلوم في اللسان أن يقال فلان مستطيع لأن يبني داره إذا كان يجد من يطيعه في ابتنائها كما إذا وجد مالا ينفقه في بنائها وكما لوقدر عليه بنفسه.
قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني وهناد بن السري المعنى واحد قال إسحاق حدثنا عبدة بن سليمان عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة قال من شبرمة قال أخ لي أوقريب لي فقال احججت عن نفسك قال لا قال حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة.
قلت فيه من الفقه أن الصرورة لا يحج عن غيره حتى يحج عن نفسه، وفيه أن حج المرء عن غيره إذا كان قد حج عن نفسه جائز، وفيه أن من أهل بحجتين لم يلزمه إلاّ واحدة ولو كان لاجتماع وجوبهما مساغ في وقت واحد لأشبه أن يجمع عليه الأمرين فدل على أن الإحرام لا ينعقد إلاّ بواحدة.
قلت وقد روي في حديث شبرمة هذا أنه قال له فاجعل هذه عن نفسك

(2/172)


ثم أحجج عن شبرمة هكذا حدثناه الأصم حدثنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد الوهاب الثقفي عن أيوب، عَن أبي قلابة عن ابن عباس وذكر القصة وقال فيها فاجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة هكذا قال عن ابن عباس لم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يوجب أن يكون إحرامه عن شبرمة قد انقلب عن فرضه بنفسه، وقد اختلف الناس في هذا. فقال الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه لا يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه وهو قول الأوزاعي.
وقال أصحاب الرأي له أن يحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه، وقال الثوري نحوا من ذلك وهو قول مالك بن أنس.

ومن باب كيف التلبية
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. قال وكان ابن عمر يزيد فيها لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل.
قلت قوله إن الحمد والنعمة لك فيه وجهان كسر إن وفتحها وأجودهما الكسر أخبرني أبو عمر قال: قال أبو العباس أحمد بن يحيى من قال إن بكسر الألف فقد عم ومن قال أن بفتحها فقد خص والرغباء المسألة، وفيه لغتان يقال الرغباء مفتوحة الراء ممدودة والرغبى مضمومة الراء مقصورة.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن خلاد بن السائب الأنصاري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي

(2/173)


ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال أو قال بالتلبية.
قلت يحتج به من يرى التلبية واجبة وهو قول أبي حنيفة وقال من لم يلب لزمه دم ولا شيء عند الشافعي على من لم يلب.

ومن باب متى يقطع التلبية
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع أخبرنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن الفضل بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى حتى رمى جمرة العقبة.
قال وحدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا يحيى عن عبد الله بن أبي سلمة عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات منا الملبي ومنا المكبر.
قلت ذهب عامة أهل العلم في هذا إلى حديث الفضل بن عباس دون حديث ابن عمر. وقالوا لا يزال يلبي حتى يرمي جمرة العقبة إلاّ أنهم اختلفوا فقال بعضهم يقطعها مع أول حصاة وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي وكذلك قال الشافعي.
وقال أحمد واسحاق يلبي حتى يرمي الجمرة ثم يقطعها. وقال مالك يلبي حتى تزول الشمس يوم عرفة فإذا راح إلى المسجد قطعها.
وقال الحسن يلبي حتى يصلي الغداة من يوم عرفة فإذا صلى الغداة أمسك عنها. وكره مالك التلبية لغير المحرم ولم يكرهها غيره.

ومن باب الرجل يحرم في ثيابه
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا همام سمعت عطاء أخبرنا صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة وعليه أثر

(2/174)


خلوق أوقال صفرة وعليه جبة فقال يا رسول الله كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي فأنزل الله عليه الوحي فلما سري عنه قال أين السائل عن العمرة قال اغسل عنك أثر الخلوق أوقال أثر الصفرة واخلع الجبة عنك واصنع في عمرتك ما صنعت في حجتك.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا أبوعوانة، عَن أبي بشر عن عطاء عن يعلى بن أمية بالقصة قال فيها اخلع جبتك فخلعها من رأسه.
قلت فيه من الفقه أن من أحرم وعليه ثياب مخيطة من قميص وجبة ونحوهما لم يكن عليه تمزيقه وإنه إذا نزعه من رأسه لم يلزمه دم.
وقد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال يشقه وعن الشعبي قال يمزق ثيابه.
قلت وهذا خلاف السنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بخلع الجبة وخلعها الرجل من رأسه فلم يوجب عليه غرامة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. وتمزيق الثوب تضيع له فهوغير جائز، وقد يتوهم من لا يمعن النظر أن أمره إياه بغسل أثر الخلوق والصفرة إنما كان من أجل أن المحرم لا يجوز له أن يتطيب قبل الإحرام بما يبقى أثره بعد الإحرام وليس هذا من أجل ذلك ولكن من قبل أن التضمخ بالزعفران حرام على الرجل في حُرْمه وحله.
حدثنا ابن الأعرابي حدثنا موسى بن سهل الوشا حدثنا إسماعيل بن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل.
وفي الحديث دليل أن المحرم إذا لبس ناسيا فلا شيء عليه لأن الناسي في معنى الجاهل وذلك إن هذا الرجل كان حديث العهد بالإسلام جاهلا بأحكامه فعذره النبي صلى الله عليه وسلم فلم يلزمه غرامة.

(2/175)


ومن باب ما يلبس المحرم
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم ما يترك المحرم من الثياب قال لا يلبس القميص ولا البرنس ولا السراويل ولا العمامة ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين إلاّ أن لا يجد النعلين فمن لم يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين.
قال وحدثنا قتيبة حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى هذا الحديث وزاد ولا تتنقب المرأة الحرام ولا تلبس القفازين.
قلت قوله لا يلبس البرنس دليل على أن كل شيء غطى رأسه من معتاد اللباس كالعمامة والقلانس ونحوهما ومن نادره كالبرنس أو كالحمل يحمله على رأسه والمكتل يضعه فوقه فكل ما دخل في معناه فإن فيه الفدية.
وفيه أن المحرم منهي عن الطيب في بدنه وفي لباسه وفي معناه الطيب في طعامه لأن بغية الناس في تطييب الطعام كبغيتهم في تطييب اللباس.
وفيه أنه إذا لم يجد نعلين ووجد خفين قطعهما ولم يكن ذلك من جملة ما نهي عنه من تضييع المال لكنه مستثنى منه. وكل إتلاف من باب المصلحة فليس بتضييع. وليس في أمرالشريعة إلاّ الاتباع.
وقد اختلف الناس في هذا فقال عطاء لا يقطعهما لأن في قطعهما فسادا، وكذلك قال أحمد بن حنبل وممن قال يقطع كما جاء في الحديث مالك وسفيان والشافعي وإسحاق. قلت أنا أتعجب من أحمد في هذا فإنه لا يكاد يخالف

(2/176)


سنة تبلغه وقلت سنة لم تبلغه ويشبه أن يكون إنما ذهب إلى حديث ابن عباس وليست هذه الزيادة فيه إنما رواها ابن عمر إلاّ أن الزيادات مقبولة. وقول عطاء إن قطعهما فساد يشبه أن يكون لم يبلغه حديث ابن عمر، وإنما الفساد أن يفعل ما نهت عنه الشريعة فأما ما أذن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فليس بفساد وهذا في الرجال دون النساء فأما النساء فإن حرمهن في الوجه والكفين.
وإذا لبست المرأة القفازين فقد اختلفوا في ذلك هل يجب عليها شيء أم لا فذكر أكثر أهل العلم أنه لا شيء عليها وعللوا حديث ابن عمر بأن ذكر القفازين إنما هو من قول ابن عمر ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلق الشافعي القول في ذلك، وقد قال في المرأة إذا اختضبت أنه لا شيء عليها فإن لفت على يديها خرقة لزمتها الفدية.
واختلفوا فيه إذا قطع الخفين هل يلزمه دم أم لا، فقال بعضهم لا شيء عليه لأنه صار بذلك في معنى النعل، وقال آخرون يلزمه الدم لأنه لم يأذن له فيه إلاّ عند عدم النعل.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول السراويل لمن لا يجد الإزار والخف لمن لا يجد النعلين.
قلت وفيه دليل على أنه إذا لم يجد الإزار فلبس السراويل لم يكن عليه شيء وإلى هذا ذهب عطاء والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وحكي ذلك عن الثوري.
وقال مالك ليس له أن يلبس السراويل، وكذلك قال أبو حنيفة ويحكى عنه

(2/177)


أنه قال يفتق السراويل ويتزر به وقالوا هذا كما جاء في الخف أنه يقطع.
قلت والأصل في المال أن تضيعه حرام والرخصة إذا جاءت في لبس السراويل فظاهرها اللبس المعتاد وستر العورة واجب وإذا فتق السراويل واتزر به لم تستتر العورة، وأما الخف فإنه لا يغطي عورة وإنما هو لباس رفق وزينة فلا يشتبهان ومرسل الإذن في لبس السراويل إباحة لا تقتضي غرامة.

ومن باب المحرم يحمل السلاح
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن جعفر هوغندر أخبرنا شعبة، عَن أبي إسحاق قال سمعت البراء يقول لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية صالحهم على أن لا يدخلوها إلاّ بجلبان السلاح فسألته ما جلبان السلاح قال القراب بما فيه.
هكذا جاء تفسير الجلبان في هذا الحديث ولم أسمع فيه من ثقة شيئا، وزعم بعضهم أنه إنما سمي جلبانا لجفائه وارتفاع شخصه، من قولهم رجل جلبان وامرأة جلبانة إذا كانت جسيمة صافية الخلق.
قلت ويشبه أن يكون المعنى في مصالحتهم على أن لا يدخلوها إلاّ بالسيوف في القرب أنهم لم يكونوا يأمنون أهل مكة أن يخفروا الذمة فاشترط حمل السلاح في القرب معهم ولم يشترط شهر السلاح ليكون سمة للصلح وإمارة له.

ومن باب المحرمة تغطي وجهها
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عائشة قالت كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزنا كشفناه.

(2/178)


قلت قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى المحرمة عن النقاب، فأما سدل الثوب على وجهها من رأسها فقد رخص فيه غير واحد من الفقهاء ومنعوها أن تلف الثوب أو الخمار على وجهها أو تشد النقاب أو تتلثم أو تتبرقع.
وممن قال بأن للمرأة أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها عطاء ومالك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق وهو قول محمد بن الحسن وقد علق الشافعي القول فيه.

ومن باب المحرم يظلل
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن سلمة، عَن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي أنيسة عن يحيى بن الحصين عن أم الحصين جدته قالت حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة.
قلت فيه من الفقه أن للمحرم أن يستظل بالمظال نازلاً بالأرض وراكباً على ظهور الدواب ورخص فيه أكثر أهل العلم، إلاّ أن مالك بن أنس وأحمد بن حنبل كانا يكرهان للمحرم أن يستظل راكبا. وروى أحمد عن ابن عمر أنه رأى رجلا قد جعل على رحله عوداً له شعبتان وجعل عليه ثوبا يستظل به وهو محرم فقال له ابن عمر اضح للذي أحرمت له أي أبرز للشمس.
وحدثنا ابن الأعرابي حدثنا إبراهيم بن حميد القاضي حدثنا الرياشي قال رأيت أحمد بن المعدل في الموقف في يوم شديد الحر وقد ضحى للشمس فقلت له يا أبا الفضل هذا أمر قد اختلف فيه فلو أخذت بالتوسعة فأنشأ يقول:
ضحيت له كي أستظل بظله ... إذا الظل أمسى في القيامة قالصا

(2/179)


فوا أسفا إن كان سعيك باطلا ... ويا حسرتا إن كان حجك ناقصا
قلت أحمد بن المعدل هذا بصري مالكي المذهب يعد من زهاد البصرة وعلمائها وأخوه عبد الصمد بن المعدل الشاعر.
وفي الحديث دليل على جواز الوقوف على ظهور الدواب للحاجة تعرض ريثما تقضى وإن قوله لا تتخذوا ظهور الدواب مقاعد إنما هو أن يستوطن ظهورها لغير أرب في ذلك ولا حاجة إليه.

ومن باب المحرم يحتجم
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء عن طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهومحرم.
قلت لم يكره أكثر من كره من الفقهاء الحجامة للمحرم إلاّ من أجل قطع الشعر فإن احتجم في موضع لا شعر عليه فلا بأس به وإن قطع شعرا افتدى. وممن رخص في الحجامة للمحرم سفيان الثوري وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال مالك لا يحتجم المحرم إلاّ من ضرورة لا بد منها. وكان الحسن يرى في الحجامة دما يهريقه.

ومن باب هل يكتحل المحرم
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن أيوب عن موسى عن نُبيه بن وهب، قال اشتكى عمر بن عبيد الله بن معمر عينيه فأرسل إلى أبان بن عثمان قال سفيان وهو أمير ما يصنع بهما فقال أضمدهما بالصبر فإني سمعت عثمان يحدث ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت الصبر ليس بطيب ولذلك رخص له أن يتعالج به، فأن الكحل الذى

(2/180)


لا طيب فيه فلا بأس به للرجال.
قال الشافعي وأنا له في النساء أشد كراهية مني له في الرجال ولا أعلم على واحد منهما الفدية. ورخص في الكحل للمحرم سفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق، وكره الإثمد المحرمة سفيان وأحمد وإسحاق.

ومن باب الاغتسال المحرم
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن زيد بن أسلم عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبيه أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء فقال ابن عباس يغسل المحرم رأسه، وقال المسور بن مخرمة لا يغسل فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب، قال فسلمت عليه فقال من هذا قلت أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم قال فوضع أبو أيوب يده على الثوب وطأطأ حتى بدا إلي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه أصبب قال فصب على رأسه ثم حرك أبو أيوب رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال هكذا رأيته يفعل صلى الله عليه وسلم.
قلت قد رخص للمحرم في غسل رأسه أكثر أهل العلم وكرهه مالك بن أنس وقال يغيب رأسه في الماء ولست أعلم فيه معنى إلاّ أن يكون قد خاف أنه إذا دلك رأسه بيديه انخص شيء من شعره فكره له ذلك من أجله.
وأجمعوا أنه إذا احتلم كان عليه الاغتسال عاماً في جميع بدنه، فأما كراهته تغييب الرأس في الماء فلعله شبهه بتغطية الرأس بالثياب ونحوها ومن شبه الماء وما يفعله من مواراة بدن المنغمس فيه وتغطيته بالثياب لزمه أن يجيز للعريان

(2/181)


إذا انغمس في الماء فغمر عورته أن يصلي وهو في الماء بلا ثياب لأن الماء قد ستر عورته عن الأبصار وما أرى أن أحدا من الفقهاء يقول ذلك إلاّ أن بعض من لا يعبأ بقوله قد قال إن ذلك يجزيه، وقد استحب بعض أهل العلم للعريان إذا لم يجد ثوبا ًيصلي فيه أن يطلي موضع العورة من بدنه بالطين ويصلي.
وقوله بين القرنين يريد العمودين اللذين يشد فيهما الخشبة التي تعلق عليها البكرة.

ومن باب المحرم يتزوج
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن نبيه بن وهب أخي بني عبد الدار أن عمر بن عبيد الله أرسل إلى إبان بن عثمان يسأله وإبان يومئذ أمير الحاج وهما محرمان إني أردت أن أنكح طلحة بن عمر بنت شيبة بن جبير وأردت أن تحضر ذلك فأنكر ذلك عليه إبان وقال سمعت أبي عثمان بن عفان يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينكح المحرم ولا ينكح.
قلت وقد ذهب إلى ظاهر هذا الحديث مالك والشافعي ورأيا النكاح إذا عقد في الإحرام مفسوخا سواء عقده المرء لنفسه أوكان وليا فعقده لغيره.
وقال أصحاب الرأي نكاح المحرم لنفسه وإنكاحه لغيره جائز واحتجوا في ذلك بخبر ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تروج ميمونة وهو محرم.
وتأول بعضهم خبر عثمان على معنى أنه إخبار عن حال المحرم وأنه لاشتغاله بنسكه لا يتسع لعقد النكاح ولا يفرغ له.
وقال بعضهم معنى لا ينكح أي لا يطأ ليس أنه لا يعقد. قلت الرواية الصحيحة لا ينكح المحرم بكسر الحاء على معنى النهي لا على حكاية الحال وقصة إبان في منعه عمر بن عبيد الله من العقد وإنكاره ذلك عليه وهو راوي

(2/182)


الحديث دليل على أن المعنى في ذلك العقد فأما أن المحرم مشغول بنسكه ممنوع من الوطء فهذا من العلم العام المفروغ من بيانه باتفاق الجماعة والعامة من أهل العلم. والخبر الخاص إنما يساق لعلم خاص ومعنى مستفاد لولا الخبر لم يعلم ولم يستقر فلا معنى لقصره على ما لا فائدة له. وعلم أن الظاهر من لفظ النكاح العقد في عرف الناس ولا شك أن قوله ولا ينكح عبارة عن التزويج بلا إشكال فكذلك لا ينكح عبارة عن العقد لأن المعطوف به لا يخالف معنى المعطوف عليه في حكم الظاهر.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان الثوري عن إسماعيل بن أمية عن رجل عن سعيد بن المسيب قال وهم ابن عباس في تزويج ميمونة وهومحرم.
قلت وقد ذكر سعيد بن المسيب أن ما حكاه ابن عباس من ذلك وهم وحديث يزيد بن الأصم وهو ابن أخي ميمونة يؤكد ذلك.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم عن ميمونة قالت تروجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف.
قلت وميمونة أعلم بشأنها من غيرها وأخبرت بحالها وبكيفية الأمر في ذلك العقد وهو من أدل الدليل على وهم ابن عباس.
وذهب الشافعي إلى أن المحرم إذا نكح فالعقد مفسوخ بلا طلقة.

(2/183)


وقال مالك يفسخ بطلقة لأن هذا نكاح مختلف فيه. فيزال الاختلاف بالطلاق احتياطا للفرج.

ومن باب ما يقتل المحرم من الدواب
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عما يقتل المحرم من الدواب فقال خمس لا جناح في قتلهن على من قتلهن في الحل والحرم العقرب والفأرة والغراب والحدأة والكلب العقور.
قال وحدثنا علي بن بحر حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة فذكر الحية والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور.
وقال وحدثنا أحمد بن حنبل حدثنا هشيم أخبرنا يزيد بن أبي زياد حدثنا عبد الرحمن بن أبي نُعْم (1) ، البجلي، عَن أبي سعيد الخدرى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم قال الحية والعقرب والفوسقة ويرمي الغراب ولا يقتله والكلب العقور والحدأة والسبع العادي.
قلت اختلف أهل العلم فيما يقتله المحرم من الدواب فقال الشافعي إذا قتل المحرم شيئا من هذه الأعيان المذكورة في هذه الأخبار فلا شيء عليه وقاس عليها كل سبع ضار وكل شيء من الحيوان لا يؤكل لحمه لأن بعض هذه الأعيان سباع ضارية وبعضها هوام قاتلة وبعضها طير لا يدخل في معنى السباع ولا هي من جملة الهوام وإنما هو حيوان مستخبث اللحم غير مستطاب الأكل وتحريم الأكل يجمعهن كلهن فأعتبره وجعله دليل الحكم.
وقال مالك نحوا من قول الشافعي إلاّ أنه قال لا يقتل المحرم الغراب الصغير.
_________
(1) تصحف في المطبوع إلى: "عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ"، انظر: "التاريخ الكبير" 5/1130، و"الجَرح والتعديل" 5/1400، و"ثقات ابن حبان" 5/112، و"تهذيب الكمال" 17/457، و"تهذيب التهذيب" 6/286.

(2/184)


وقال أصحاب الرأي يقتل الكلب وسائر ما جاء في الخبر وقاسوا عليها الذئب ولم يجعلوا على قاتله فدية وقالوا في السبع والنمر والفهد والخنزير عليه الجزاء إن قتلها إلاّ أن يكون قتد ابتدأه شيء منها فدفعه عن نفسه فقتله فلا شيء عليه. وقالوا في السبع إذا ابتدأه المحرم فعليه قيمته إلاّ أن تكون قيمته أكثر من دم فيكون عليه دم ولا يجاوزه.
وكان سفيان بن عيينة يقول الكلب العقور هو كل سبع يعقر وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عتبة بن أبي لهب فقال اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فافترسه الأسد.
قلت وفي خبر أبي سعيد الخدري ما يدل على صحة ذلك وهو قوله والسبع العادي فكل ما كان هذا الفعل نعتا له من أسد ونمر وفهد ونحوها فحكمه هذا الحكم.
فأما الفويسقة فهى الفأرة وقيل سميت فويسقة لخروجها من حجرها على الناس واغتيالها إياهم في أموالهم بالفساد. وأصل الفسق الخروج ومن هذا سمي الخارج عن الطاعة فاسقا، ويقال فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت عنه.
وقوله في حديث أبي سعيد الخدري ويرمي الغراب ولا يقتله يشبه أن يكون أراد به الغراب الصغير الذي يأكل الحب وهو الذي استثناه مالك من جملة الغربان، وكان عطاء يرى فيه الفدية ولم يتابعه على قوله أحد.
وأخبرني أبو محمد الكراني عن الساجي قال: قال النخعي لا يقتل المحرم الفأرة وأراه قال فإن قتلها ففيها فدية. وأخبرني الحسن بن يحيى عن المنذر في كتاب الاختلاف بنحو منه إلاّ أنه لم يذكر الفدية.

(2/185)


قلت وهذا القول مخالف للنص خارج عن أقاويل أهل العلم.

ومن باب لحم الصيد المحرم
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سليمان بن كثير عن حميد الطويل عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال وكان الحارث خليفة عثمان رضي الله عنه على الطائف فصنع لعثمان طعاما وضع فيه الحجل واليعاقيب ولحوم الوحش فبعث إلى علي بن أبي طالب فجاءه الرسول وهو يخبط لأباعر له فجاء وهو ينفض من يديه فقالوا له كل قال اطعموه قوما حلالا فأنا حُرُم ثم قال علي رضي الله عنه أنشد الله من كان ههنا من أشجع أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله قالوا نعم.
قلت يشبه أن يكون علي رضي الله قد علم أن الحارث إنما اتخذ هذا الطعام من أجل عثمان ولم يحضر معه من أصحابه فلم ير أن يأكله هو ولا أحد ممن بحضرته. فأما إذا لم يصد الطير والوحش من أجل المحرم فقد رخص كثير من العلماء في تناوله. ويدل على ذلك حديث جابر وقد ذكره أبو داود على أثره في هذا الباب.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا يعقوب الإسكندراني عن عمرو هو ابن أبي عمرو عن المطلب عن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصد لكم.
وممن هذا مذهبه عطاء بن أبي رباح ومالك والشافعي وأحمد، وقال مجاهد وسعيد بن جبير يأكل المحرم ما لم يصده إذا كان قد ذبحه حلال.
وإلى نحو من هذا ذهب أصحاب الرأي قالوا لأنه الآن ليس بصيد.

(2/186)


وكان ابن عباس يحرم لحم الصيد على المحرمين في عامة الأحوال ويتلو قوله عز وجل {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً} [المائدة: 96] ويقول الآية مبهمة.
وإلى نحو من ذلك ذهب طاوس وكرهه سفيان الثوري وإسحاق.
واليعاقيب ذكور الحجل والخبط أن يضرب ورق الشجر بعصا ونحوها ليتحات فيعلفه الإبل واسمه الخبط.

ومن باب الفدية
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية عن خالد الواسطي هو ابن عبد الله الطحان عن خالد الحذاء، عَن أبي قلابة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به زمن الحديبية فقال قد آذاك هوام رأسك قال نعم. قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم احلق ثم أذبح شاة نسكاً أو صم ثلاثة أيام أو اطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين.
قلت هذا إنما هو حكم من حلق رأسه لعذر من أذى يكون به وهو رخصة له فإذا فعل ذلك كان مخيراً بين الدم والصدقة والصيام. فأما من حلق رأسه عامداً لغير عذر فإن عليه دماً وهو قول الشافعي وإليه ذهب أبو حنيفة.
وقال مالك هو مخير إذا حلق لغير علة كهو إذا حلقه لعذر.
وقال سفيان الثوري إذا تصدق بالبر أطعم ثلاثة أصوع بين ستة مساكين لكل واحد منهم نصف صاع فإن أطعم تمراً أو زبيباً أطعم صاعاً صاعاً.
قلت هذا خلاف السنة وقد جاء في الحديث ذكر التمر مقدرا بنصف صاع كما ترى فلا معنى لخلافه وقد جاء ذكر الزبيب أيضاً من غير هذا الطريق بنحو هذا التقدير وذكره أبو داود.

(2/187)


قال أبو داود: حدثنا محمد بن منصور حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني أمان، يَعني ابن صالح عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة وذكر الحديث إلى أن قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين فرقا من زبيب أو أنسك شاة قال فحلقت رأسي ثم نسكت.
والفرَق ستة عشر رطلا وهو ثلاثة أصوع. أمره أن يقسمه بين ستة مساكين فهذا في الزبينب نص كما هو نص في التمر.
وقال أصحاب الرأي نحوا من قول سفيان والحجة عليه وعليهم نص الحديث.
قلت فإن حلقه ناسياً فإن الشافعي يوجب عليه الفدية كالعمد سواء، وهو قول أصحاب الرأي والثوري ولم يفرقوا بين عمده وخطأه لأنه إتلاف شيء له حرمة كالصيد.
وقال الشافعي إن تطيب ناسيا فلا شيء عليه. وسوى أصحاب الرأي في الطيب بين عمده وخطأه ورأوا فيه الفدية كالحلق والصيد.
وقال إسحاق بن راهويه لا شيء على من حلق رأسه.

ومن باب هدي المحصر
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن حجاج الصواف حدثني يحيى بن أبي كثير عن عكرمة قال سمعت الحجاج بن عمرو الأنصارى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كسر أو عرج فقد حل وعليه من قابل. قال عكرمة فسألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا صدق.
قلت في هذا الحديث حجة لمن رأى الاحصار بالمرض والعذر للمحرم

(2/188)


من غير حبس العدو وهو مذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي. وقد روي ذلك عن عطاء وعروة والنخعي.
وقال مالك والشافعي وأحمد واسحاق لا حصر إلاّ حصر العدو، وقد روى ذلك عن ابن عباس وروي معناه أيضاً عن ابن عمر وعلل بعضهم حديث الحجاج بن عمرو بأنه قد ثبت عن ابن عباس أنه قال لا حصر إلاّ حصر العدو فكيف يصدق الحجاج فيما رواه من أن الكسر حصر.
وتأوله بعضهم على أنه إنما يحل بالكسر والعرج إذا كان قد اشترط ذلك في عقد الإحرام على معنى حديث ضباعة بنت الزبير. قالوا ولو كان الكسر عذرا لم يكن لاشتراطها معنى ولا كانت بها إلى ذلك حاجة.
وأما قوله وعليه الحج من قابل فإنما هذا فيمن كان حجه عن فرض، فإنما المتطوع بالحج إذا أحصر فلا شيء عليه غير هدي الإحصار. وهذا على مذهب مالك والشافعي. وقال أصحاب الرأي عليه حجة وعمرة وهو قول النخعي. وعن مجاهد والنشعبي وعكرمة عليه حجة من قابل.
قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن ميمون قال سمعت أبا حاضر الحميري يحدث عن ميمون بن مهران قال خرجت معتمرا عام حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة وبعث معي رجال من قومي بهدي فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن ندخل الحرم فنحرت الهدي بمكاني ثم أحللت ثم رجعت فلما كان العام المقبل خرجت لأقضي عمرتي فأتيت ابن عباس فسألته فقال ابدل الهدي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يبدلوا الهدي الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء.

(2/189)


قلت أما من لا يرى عليه القضاء في غير الفرض فانه لا يلزمه بدل الهدي ومن أوجبه فإنما يلزمه البدل لقوله عز وجل {هديا بالغ الكعبة} [المائدة: 95] ومن نحر الهدي في الموضع الذي أحصر فيه وكان خارجا من الحرم فإن هديه لم يبلغ الكعبة فيلزمه إبداله وإبلاغه الكعبة. وفي الحدديث حجة لهذا القول.

ومن باب دخول مكة
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع أن ابن عمر كان إذا قدم مكة بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهاراً ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله.
قلت دخول مكة ليلا جائز ودخولها نهارا أفضل استناناً بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخلها ليلا عام اعتمر من الجعرانة فدل ذلك على جوازه.
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو أسامة حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من كُدي من أعلى مكة ودخل في العمرة من كَدَاء.
كُدَي وكداء ثنيتان وكداء ممدودة قال الشاعر:
أنت ابن معتلج البطاح كديها وكداءها

ومن باب رفع اليد إذا رأى البيت
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين أن محمد بن جعفر حدثهم، قال: حَدَّثنا شعبة قال سمعت أبا قزعة يحدث عن المهاجر المكي قال سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت يرفع يديه فقال ما كنت أرى أحدا يفعل هذا إلاّ اليهود قد حججنا مع

(2/190)


رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن يفعله.
قلت قد اختلف الناس في هذا فكان ممن يرفع يديه إذا رأى البيت سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وضعف هؤلاء حديث جابر لأن مهاجراً راويه عندهم مجهول وذهبوا إلى حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ترفع الأيدي في سبعة مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت وعلى الصفا والمروة والموقفين والجمرتين. وروي عن ابن عمر أنه كان يرفع اليدين عند رؤية البيت وعن ابن عباس مثل ذلك.

ومن باب تقبيل الحجر
قال أبو داود: حدثنا ابن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة عن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر فقبله، فقال إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
قلت فيه من العلم أن متابعة السنن واجبة وإن لم يوقف لها على علل معلومة وأسباب معقولة وأن أعيانها حجة على من بلغته وإن لم يفقه معانيها إلاّ أن معلوماً في الجملة أن تقبيله الحجر إنما هو إكرام له واعظام لحقه وتبرك به وقد فضل الله بعض الأحجار على بعض كما فضل بعض البقاع والبلدان وكما فضل بعض الليالي والأيام والشهور وباب هذا كله التسليم وهو أمرسائغ في العقول جائز فيها غير ممتنع ولا مستنكر. وقد روي في بعض الحديث أن الحجر يمين الله في الأرض والمعنى أن من صافحه في الأرض كان له عند الله عهد فكان كالعهد تعقده الملوك بالمصافحة لمن يريد موالاته والاختصاص به وكما يصفق على أيدي الملوك للبيعة، وكذلك تقبيل اليد من الخدم للسادة والكبراء فهذا كالتمثيل

(2/191)


بذلك والتشبيه به والله أعلم.

ومن باب الطواف الواجب
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرنا يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن.
قلت معنى طوافه على البعير أن يكون بحيث يراه الناس وأن يشاهدوه فيسألوه عن أمر دينهم ويأخذوا عنه مناسكهم فاحتاج إلى أن يشرف عليهم وقد روي في هذا المعنى عن جابر بن عبد الله.
وفيه من الفقه جواز الطواف عن المحمول وإن كان مطيقا للمشي.
وقد يستدل بهذا الحديث من يرى بول ما يؤكل لحمه طاهرا لأن البعير إذا بقي في المسجد المدة التي يقضى فيها الطواف لم يكد يخلو من أن يبول فيه فلو كان بوله ينجس المكان لنزه المسجد عن إدخاله فيه.
والمحجن عود معقف الرأس مع الراكب يحرك به راحلته.

ومن باب الاضطباع في الطواف
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن ابن جريج عن ابن يعلى عن يعلى قال طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطبعا ببرد أخضر.
قلت الاضطباع أن يدخل طرف رداءه تحت ضبعه والضبع العضد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه جعلوا أطراف أرديتهم تحت اباطهم ثم ألقوها على الشق الأيسر من عواتقهم.

(2/192)


ومن باب الرمل
قال أبو داود: حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أبو عاصم الغنوي، عَن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمل بالبيت وإن ذلك سنة، قال صدقوا أو كذبوا قلت ما صدقوا وما كذبوا، قال صدقوا قد رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبوا ليس بسنه أن قريشا قالت زمن الحديبية دعوا محمداً وأصحابه حتى يموتوا موت النغف فلما صالحوه على أن يجيئوا من العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركون من قبل قُعيقعان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه أرملوا بالبيت ثلاثا وليس بسنة، قلت يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بين الصفا والمروة على بعير وأن ذلك سنة قال صدقوا وكذبوا قلت ما صدقوا وما كذبوا، قال صدقوا قد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على بعير وكذبوا ليست بسنة وكان الناس لا يدفعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يضربون عنه فطاف على بعير ليسمعوا كلامه وليروا مكانه ولا تناله أيديهم.
النغف دود يسقط من أنوف الدواب واحدتها نغفة يقال للرجل إذا استحقر واستضعف ما هو إلاّ نغفة.
وقوله ليس بسنة معناه أنه أمر لم يسن فعله لكافة الأمة على معنى القربة كالسنن التي هي عبادات ولكنه شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبب خاص وهو أنه أراد أن يرى الكفار قوة أصحابه وكانوا يزعمون أن أصحاب محمد قد أوهنتهم حمى يثرب ووقذتهم فلم يبق فيهم طرق.

(2/193)


قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الملك بن عمروحدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول فيم الرملان اليوم والكشف عن المناكب وقد اطأ الله الإسلام ونفى الكفر وأهله مع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله أطأ الله الإسلام إنما هو وطأ الله أي ثبته وأرساه والواو قد تبدل همزة.
وفيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يسن الشيء لمعنى فيزول ذلك المعنى وتبقى السنة على حالها. وممن كان يرى الرمل سنة مؤكدة ويرى على من تركه دما سفيان الثوري، وقال عامة أهل العلم ليس على تاركه شيء.

ومن باب الدعاء في الطواف
قال أبو داود: حدثنا ابن السرح حدثنا سفيان، عَن أبي الزبير عن عبد الله بن باباه عن جبير بن مطعم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال الفضل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا يطوف بهذا البيت ويصلي أي ساعة شاء من ليل ونهار.
قلت استدل به الشافعي على أن الصلاة جائزة بمكة في الأوقات المنهي فيها عن الصلاة في سائر البلدان. واحتج له أيضاً بحديث أبي ذر وقوله إلا بمكة فاستثناها من بين البقاع.

(2/194)


وذهب بعضهم إلى تخصيص ركعتي الطواف من بين الصلوات، وقال إذا كان الطواف بالبيت غير محظور في شيء من الأوقات وكان من سنة الطواف أن تصلى الركعتان بعد فقد عقل أن هذا النوع من الصلاة غير منهي عنه.
وقد تأول بعضهم الصلاة في هذا الحديث على معنى الدعاء ويشبه أن يكون هذا معنى الحديث، عَن أبي داود ويدل على ذلك ترجمته الباب بالدعاء في الطواف.

ومن باب الطواف بين الصفا والمروة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذ حديث السن أرأيت قول الله تعالى {إن الصفا والمروة من شعاتر الله} [البقرة: 158] فما أرى على أحد شيئاً ألا يطوف بهما قالت عائشة كلا لو كان كما تقول كانت «فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلّون لمناة وكانت مناة حذو قديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الآية.
قال أبو سليمان قد أعلمت عائشة السبب في نزول الآية بنفي الحرج وأن المعنى في ذلك لم ينصرف إلى نفس الفعل لكن إلى محل الفعل، وذلك أنهم كانوا يعبدون في تلك البقعة الأصنام فتحرجوا أن يتخذوها متعبداً لله تعالى، والأنصاب إن كان هذا اللفظ محفوظا جمع النصب وهو ما ينصب من الأصنام فيعبد من دون الله تعالى إلاّ أن في أكثر الروايات الأنصار، وكانت عائشة ترى أن السعي بين الصفا والمروة فرض، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد

(2/195)


بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وروي عن ابن عباس أنه قال السعي بين الصفا والمروة تطوع وكذلك قال ابن سيرين وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي، وقال سفيان من تركه فعليه دم وقال أصحاب الرأي أن تركه ناسيا جبر بدم.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي وعثمان بن أبي شيبة وهبشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقيان وربما زاد بعضهم على بعض الكلمة ونقص، قالوا حدثنا حاتم بن إسماعيل أخبرنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله وساق الحديث الطويل في قصة حج النبي صلى الله عليه وسلم فالتقطت منه مواضع الحاجة إلى التفسير والتأويل وتركت سائره اختصارا وكراهة للتطويل قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثم أذن في العاشرة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصنع قال اغتسلي واستثفري بثوب واحرمي فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء حتى استوت به ناقته على البيداء أهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك قال جابر لسنا ننوي إلاّ الحج لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا البيت استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فركع ركعتين ثم رجع إلى البيت فاستلم الركن ثم خرج من الباب إلى الصفا. فلما دنا منه قرأ {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] نبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقي عليها حتى رأى

(2/196)


البيت وكبر الله ووحده وقال لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهوعلى كل شيء قدير،
لا إله إلاّ الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك. وقال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة فذكر سعيه بينهما حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلل وليجعلها عمرة فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي فقام سراقة بن جعشم فقال يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه في الأخرى ثم قال دخلت العمرة في الحج هكذا مرتين لا بل لأبد أبد لا بل لأبد أبد، قال وقدم علي رضي الله عنه من اليمن ببدن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ماذا قلت حين فرضت الحج، قال قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن معي الهدي فلا تحلل وساق الحديث إلى أن قال فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له حتى أتى بطن الوادي فخطب الناس فقال إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، إلاّ أن كل شيء من أمرالجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وأول دم أضعه دماؤنا قال عثمان دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وإن لكم عليهن ان لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح
وساق الحديث إلى أن قال، ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر

(2/197)


ثم أقام فصلى العصر لم يصل بينهما شيئاً ثم ركب القصواء حتى أتى الموقف فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا فدفع وقد شنق للقصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رجله ويقول بيده اليمنى السكينة أيها الناس السكينة كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى يصعد حتى أتى المزدلفة فجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين قال عثمان ولم يسبح بينهما شيئا. قالوا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فرقي عليه فاستقبل القبلة فحمد الله وكبره وهلله فلم يزل واقفا حتى أسفر جداً ثم دفع قبل أن تطلع الشمس حتى إذا أتى محسراً فحرك قليلا ثم سلك الطريق حتى أتى الجمرة ورماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم انصرف إلى المنحر فنحر بيده ثلاثا وستين وأمرعليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنه ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم أفاض وذكر بقية الحديث.
قوله مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين ثم أذن في العاشرة فيه دليل على أن فرض الحج ليس على الفور والتعجيل وأنه أمر يدخله المهلة ويجوز تأخيره عن أول وقت وجوبه، ولو كان الأمر به على الفور لم يجز له صلى الله عليه وسلم تركه للحج طول هذه المدة وقد كان ظاهراً بالمدينة يمكنه الخروج غير مصدود عنه إلاّ في بعض الأوقات فلم يفعل ذلك إلاّ في السنة العاشرة.

(2/198)


وفي قوله لأسماء وهي نفساء لم تتعل من نفاسها اغتسلي واستثفري دليل على أن من سنة المحرم الاغتسال، وإن الحائض إذا أرادت الإحرام اغتسلت له كالطاهر. ومعلوم أن الاغتسال لا يصح من النفساء ولكن أمرها أن تفعل ذلك اقتداء بالطواهر أو تشبها بهن. والتشكل بأشكال العبادات ممن لا تصح منه العبادة موجود في مواضع من الأصول وقد أمر صلى الله عليه وسلم الأسلميين بصوم بقية النهار من يوم عاشوراء وكانوا مفطرين صدر ذلك اليوم، والصبي مأمور بالصلاة وهي غير لازمة وقد يصلي المصلوب على الخشبة والمحبوس في الحش أو نحوه وإذا قدر على الصلاة أعادها.
والاستثفار أن تحتجز بثوب وتشده على موضع الدم ليمنع السيلان وهومشبه بثفر الدابة، والقصواء اسم ناقته وسميت قصواء لما قطع من أذنها، يقال قصوت الناقة فهي مقصوة وقصواء وكان القياس أن يقال في الذكر أقصى فلم يقولوه وإنما جاء في نعت المؤنث خاصا.
وفي قوله لما قرأ {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] نبدأ بما بدأ الله به دليل على أنه قد اعتبر تقديم المبدأ بذكره في التلاوة فقدمه وأن الظاهر في حق الكلام أن المبدوء بذكره مقدم في الحكم على ما بعده.
وفيه دليل على أن الطائف إذا بدأ بالمروة على الصفا كان ذلك الشوط ملغى غير معتد به.

(2/199)


وقوله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة إنما هو استطابة لنفوس أصحابه لئلا يجدوا في أنفسهم أنه يأمرهم بخلاف ما يفعله في نفسه. وفيه بيان جواز الأمرين جميعا وأنه لولا ما سبق من سوقه الهدي لحل معهم إلاّ أن السنة فيمن ساق الهدي أن لا ينحره إلاّ بمنى، وقد تقدم الكلام في هذا الباب وهل كان ذلك فسخا لإحرامهم في الحج أو كان الإحرام وقع مبهما على انتظار القضاء ونزول الوحي فيه فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا.
وقول سراقة ألعامنا هذا أم للأبد يدل على وجوب العمرة ولولا وجوب أصله لما توهموا أنه يتكرر ولم يحتاجوا إلى المسألة عنه.
وقوله دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة قد تقدم ذكره وقلنا أن المراد به دخولها في وقت الحج، وكانت قريش لا تعتمر إلاّ في أشهر الحج وقيل دخل أفعالها في اجزاء أفعال الحج فاتحدتا في العمل فلا يطوف القارن أكثر من طواف واحد لهما وكذلك السعي كما لا يحرم لهما إلاّ إحراماً واحداً.
وقوله في وضع دماء الجاهلية ورباهم فإنما بدأ في ذلك بأهل بيته ليعلم أنه حكم عام في جماعة أهل الدين ليس لأحد فيه ترفيه ولا ترخيص.
وفيه دليل على أن الإسلام يلقى الماضي من أحكام الكفر بالعفو والباقي بالرد وهو باب كبير من العلم وقد أشبعت بيانه في كتاب البيوع.
وقوله استحللتم فروجهن بكلمة الله فيه وجوه أحسنها أن المراد به قوله {فامساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229] .
وقوله إن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن معناه أن لا يأذن

(2/200)


لأحد من الرجال يدخل فيتحدث إليهن. وكان الحديث من الرجال إلى النساء من عادات العرب لا يرون ذلك عيبا ولا يعدونه ريبة، فلما نزلت آية الحجاب وصارت النساء مقصورات نهى عن محادثتهن والقعود إليهن، وليس المراد بوطء الفرش هاهنا نفس الزنا لأن ذلك محرم على الوجوه كلها فلا معنى لاشتراط الكراهية فيه ولو كان المراد به الزنا لكان الضرب الواجب فيه هو المبرح الشديد والعقوبة المؤلمة من الرجم دون الضرب الذي ليس بمبرح.
وفيه من الفقه إن صلاتي الظهر والعصر تجمعان بأذان واحد وإقامتين وكذلك المغرب والعشاء تجمعان بالمزدلفة مثل ذلك.
وفيه أن السنة أن يقف الإمام بالموقف إلى أن تغرب الشمس ثم يفيض.
وقوله شنق لها معناه كفها بزمامها والحبال ما كان دون الجبال في الارتفاع واحدها حبل.
وفيه أن الدفع من المزدلفة إنما هو قبل طلوع الشمس. وكان أهل الجاهلية يقفون بها حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير كيما نغير.
وفيه أن التكبير عند رمي الجمار سنة وذلك أن التلبية تقطع عند رميها فيكون التكبير بدلا عنها.
وفيه أن ذبح الرجل نسيكته بيده مستحب وقد قيل في نحر النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثا وستين بدنة أنه إنما بلغ بها هذا العدد لأن سنه كان بلغ عامئذٍ ثلاثاً وستين لتكون لكل سنة بدنة والله أعلم.

(2/201)


ومن باب موضع الوقوف بعرفة
قال أبو داود: حدثنا ابن نفيل حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن عبد الله بن صفوان عن يزيد بن شيبان قال أتانا ابن مربع الأنصاري ونحن بعرفة في مكان يباعده عمرو عن الإمام فقال إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم فقال يقول لكم قفوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث إبراهيم.
المشاعر المعالم وأصله من قولك شعرت بالشيء أي علمته وليت شعري ما فعل فلان أي ليت علمي بلغه وأحاط به يريد قفوا بعرفة خارج الحرم فإن إبراهيم هو الذي جعلها مشعرا وموقفا للحاج، وكان عامة العرب يقفون بعرفة وكان قريش من بينها تقف داخل الحرم وهم الذين كانوا يسمون أنفسهم الحمس وهم أهل الصلابة والشدة في الدين والتمسك به، والحماسة الشدة يقال رجل أحمس وقوم حمس.
وكانوا يزعمون إنا لا نخرج من الحرم ولا نخليه فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من فعلهم وأعلمهم أنه شيء قد أحدثوه من قبل أنفسهم وأن الذي أورث إبراهيم من سنته هو الوقوف بعرفة.
واختلفوا فيمن وقف من عرفة ببطن عرنة فقال الشافعي لا يجزئه حجه. وقال مالك حجه صحيح وعليه دم.

ومن باب الدفع من عرفة
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بيان حدثنا عبيدة حدثنا سليمان الأعمش عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة وعليه السكينة ثم أردف الفضل بن عباس وقال أيها الناس إن البر ليس

(2/202)


بإيجاف الخيل والبل فعليكم بالسكينة قال فما رأيتها رافعة يديها حتى أتى منى.
قوله أفاض معناه صدر راجعا إلى منى وأصل الفيض السيلان يقال فاض الماء إذا سال وأفضته إذا أسلته، والإيجاف الإسراع في السير يقال وجف الفرس وجيفا وأوجفه الفارس ايجافا قال الله تعالى (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} [الحشر: 6] .
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك بن أنس عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال سأل أسامة بن زيد وأنا جالس كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في حجة الوداع حين دفع قال كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص.
العنق السير الوسيع والنص أرفع السير وهو من قولهم نصصت الحديث إذا رفعته إلى قائله ونسبته إليه ونصصت العروس إذا رفعتها فوق المنصة. والفجوة الفرجة بين المكانين، وفي هذا بيان أن السكينة والتؤدة المأمور بها إنما هي من أجل الرفق بالناس لئلا يتصادموا فإذا لم يكن زحام وكان في الموضع سعة سار كيف شاء.

ومن باب الصلاة بجمع
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا.
قلت هذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الجمع بين هاتين الصلاتين بالمزدلفة في وقت الآخرة منهما كما سن الجمع بين الظهر والعصر بعرفة في وقت الأولى منهما ومعناه الرخصة والترفيه دون العزيمة إلاّ أن المستحب متابعة السنة والتمسك بها.
واختلفوا فيمن فرق بين هاتين الصلاتين فصلى كل واحدة منهما في وقتها أو صلاهما قبل أن ينزل المزدلفة، فقال أكثر الفقهاء إن ذلك يجزئه على الكراهة

(2/203)


لفعله. وقال أصحاب الرأي إن صلاهما قبل أن يأتي جمعا كان عليه الإعادة وحكي نحو من هذا عن سفيان الثوري غير أنهم قالوا إن فرق بين الظهر والعصر أجزأه على الكراهة لفعله ولم يروا عليه الإعادة.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن موسى بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال وتوضأ ولم يسبغ الوضوء فقلت له الصلاة فقال الصلاة أمامك فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزل ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا.
قلت قوله الصلاة أمامك يحتج به أصحاب الرأي فيما ذهبوا إليه من إيجاب الإعادة على من صلاها قبل أن يأتي المزدلفة، ومعناه عند من ذهب إلى خلاف مذهبهم الترخيص والترفيه دون العزيمة والإيجاب.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا حماد بن خالد عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال وجمع بينهما بإقامة.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا شبابة عن ابن أبي ذئب في هذا الحديث وقال بإقامة لكل صلاة ولم يناد في الأولى ولم يسبح على أثر واحدة منهما.
قال وحدثنا ابن كثير أخبرنا سفيان، عَن أبي إسحاق عن عبد الله بن مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما قال صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة واحدة.
قلت اختلف الفقهاء في ذلك فقال الشافعي لا يؤذن ويصليهما بإقامتين وذلك أن الأذان إنما سن لصلاة الوقت. وصلاة المغرب لم تصل في وقتها فلا يؤذن لها

(2/204)


كما لا يؤذن للعصر بعرفة وكذلك قال إسحاق.
وقال أصحاب الرأي يؤذن للأولى ويقام لها ثم يقام للأخرى بلا أذان، وقد روي هذا في حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله في قصة الحج أنه فعلها بأذان واقامتين.
وقال مالك يؤذن لكل صلاة ويقام لها فيصليان بأذانين واقامتين.
وقال سفيان الثوري يجمعان بإقامة واحدة على حديث ابن عمر من رواية أبي إسحاق، وقال أحمد أيها فعلت أجزاك.

ومن باب يتعجل من جمع
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثيرأخبرنا سفيان حدثني سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن ابن عباس قال قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات وجعل يلطخ أفخاذنا ويقول أُبيني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس.
اللطخ الضرب الخفيف باليد يقال لطخه بيده لطخا. وهذا رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لضعفة أهله لئلا تصيبهم الحطمة وليس ذلك لغيرهم من الأقوياء وعلى الناس عامة أن يبيتوا بالمزدلفة وأن يقفوا بها حتى يدفعوا مع الإمام قبل أن تطلع الشمس من الغد. وفيه بيان أن الجمرة لا ترمى إلاّ بعد طلوع الشمس. وهذا في رمي الجمرة يوم النحر، فأما في سائر الأيام فإنه لا يرميها حتى تزول الشمس.
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله أخبرنا ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت وكان ذلك

(2/205)


اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَعني عندها.
قلت واختلفوا في رمي الجمرة قبل الفجر فأجازه الشافعي ما دام بعد نصف الليل الأول واحتج بحديث أم سلمة. وقال غيره إنما هذا رخصة خاصة لها فلا يجوز أن يرمي قبل الفجر.
وقال أصحاب الرأي ومالك وأحمد بن حنبل يجوز أن يرمي بعد الفجر قبل طلوع الشمس ولا يجوز قبل ذلك.
قلت والأفضل أن لا يرمي إلاّ بعد طلوع الشمس كما جاء في حديث ابن عباس.

ومن باب يوم الحج الأكبر
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن محمد، عَن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان.
قوله إن الزمان قد استدار كهيئته معنى هذا الكلام أن العرب في الجاهلية كانت قد بدلت أشهر الحرم وقدمت وأخرت أوقاتها من أجل النسيء الذي كانوا يفعلونه وهو ما ذكر الله سبحانه في كتابه فقال {إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما} [التوبة: 37] الآية. ومعنى النسيء تأخير رجب إلى شعبان والمحرم إلى صفر وأصله مأخوذ من نسأت الشيء إذا أخرته ومنه النسيئة في البيع، وكان من جملة ما يعتقدونه من الدين تعظيم هذه الأشهر الحرم فكانوا يتحرجون فيها عن القتال وعن سفك الدماء ويأمن بعضهم بعضا إلى أن تنصرم هذه الأشهر ويخرجوا إلى أشهر الحل فكان أكثرهم يتمسكون

(2/206)


بذلك ولا يستحلون القتال فيها، وكان قبائل منهم يستبيحونها فإذا قاتلوا في شهر حرام حرموا مكانه شهرا آخر من أشهر الحل ويقولون نسأنا الشهر واستمر ذلك بهم حتى اختلط ذلك عليهم وخرج حسابه من أيديهم فكانوا ربما يحجون في بعض السنين في شهر ويحجون من قابل في شهرغيره إلى أن كان العام الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصادف حجهم شهر الحج المشروع وهو ذو الحجة فوقف بعرفة اليوم التاسع منه ثم خطبهم فأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان وعاد الأمر إلى الأصل الذي وضع الله حساب الأشهر عليه يوم خلق السموات والأرض وأمرهم بالمحافظة عليه لئلا تتغير أو تتبدل فيما يستأنف من الأيام فهذا تفسيره ومعناه.
وقوله رجب مضر إنما أضاف الشهر إلى مضر لأنها كانت تشدد في تحريم رجب وتحافظ على ذلك أشد من محافظة سائر القبائل من العرب فأضيف الشهر إليهم لهذا المعنى.
وأما قوله الذي بين جمادى وشعبان فقد يحتمل أن يكون ذلك على معنى توكيد البيان كما قال في أسنان الصدقة فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر ومعلوم أن ابن اللبون لا يكون إلاّ ذكرا ويحتمل أن يكون إنما قال ذلك من أجل أنهم قد كانوا نسؤوا رجبا وحولوه عن موضعه وسموا به بعض الشهور الأخرفنحملوه اسمه فبين لهم أن رجبا هو الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا ما كانوا يسمونه على حساب النسيء.

ومن باب من لم يدرك عرفة
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن إسماعيل حدثنا عامر أخبرني

(2/207)


عروة بن مُضرِّس الطائي قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالموقف، يَعني بجَمْع فقلت جئت يا رسول الله من جبلي طيء أكللت مطيتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل إلاّ وقفت عليه فهل لى من حج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه.
قلت في هذا الحديث من الفقه أن من وقف بعرفات وقفة ما بين الزوال من يوم عرفة إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر فقد أدرك الحج.
وقال أصحاب مالك النهار تبع الليل في الوقوف فمن لم يقف بعرفة حتى تغرب الشمس فقد فاته الحج وعليه حج من قابل، وروى عن الحسن أنه قال عليه هدي من الإبل وحجه تام.
وقال أكثر الفقهاء من صدر من عرفة قبل غروب الشمس فعليه دم وحجه تام وكذلك قال عطاء وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي وأحمد.
وقال مالك والشافعي فيمن دفع من عرفة قبل غروب الشمس ثم رجع إليها قبل طلوع الفجر فلا شيء عليه.
وقال أصحاب الرأي إذا رجع بعد غروب الشمس ووقف لم يسقط عنه الدم، وظاهر قوله من أدرك معنا هذه الصلاة شرط لا يصح الحج إلاّ بشهوده جمعا وقد قال به غير واحد من أعيان أهل العلم، قال علقمة والشعبي والنخعي إذا فاته جمع ولم يقف به فقد فاته الحج ويجعل إحرامه عمرة وممن تابعهم على ذلك ابو عبد الرحمن الشافعي وإليه ذهب محمد بن إسحاق بن خزيمة وأحسب محمد بن جرير الطبري أيضاً واحتجوا أو من احتج منهم بقوله سبحانه {فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [البقرة: 198] وهذا نص والأمر على الوجوب فتركه لا يجوز بوجه.

(2/208)


وقال أكثر الفقهاء إن فاته المبيت بالمزدلفة والوقوف بها أجزأه وعليه دم.
وقوله فقد تم حجه يريد به معظم الحج وهو الوقوف بعوفه لأنه هو الذي يخاف عليه الفوات، فأما طواف الزيارة فلا يخسى فواته وهذا كقوله الحح عرفة أي معظم الحج هو الوقوف بعرفة.
وقوله وقضى تفثه فإن التفث زعم الزجاج أن أهل اللغة لا يعرفونه إلا من التفسير قال وهو الأخذ من الشارب وتقليم الظفر والخروج من الاحرام إلى الإحلال وقال ابن الأعرابي في قوله ثم ليقضوا تفثهم أي قضاء حوائجهم من الحلق والتنظف.

ومن باب يبيت بمكة ليالي منى
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن خلاد حدثنا يحيى عن ابن جريج أخبرني جرير أو ابن جرير الشك من يحيى أنه سمع عبد الرحمن بن فروخ يسأل ابن عمر قال إننا نتبايع بأموال الناس فيأتي أحدنا بمكبة فيبيت على المال فقال أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد بات بمنى وظل.
قلت واختلف أهل العلم في المبيت بمكة ليالي منى لحاجة من حفظ مال ونحوه وكان ابن عباس يقول لا بأس إذا كان للرجل متاع بمكة يخشى عليه ان يأت عن منى.
وقال أصحاب الرأي لا شيء على من كان بمكة أيام منى إذا رمى الجمرة وقد أساء. وقال الشافعي ليست الرخصة في هذا إلاّ لأهل السقاية ومن مذهبه أن في ليلة درهماً وفي ليلتين درهمين وفي ثلاث ليال دم. وكان مالك يرى عليه في ليلة واحدة دماً.

(2/209)


ومن باب الصلاة بمنى
قال أبو داود: حدثنا مسدد أن أبا معاوية بن يزيد وحفص بن غياث حدثاهم وحديث أبى معاوية أتم عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد قال صلى عثمان بمنى أربعا فقال عبد الله صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين زاد حفص ومع عثمان رضي الله عنهم صدراً من إمارته ركعتين ثم أتمها. زاد من هنا، عَن أبي معاوية ثم تفرقت بكم الطرق، قال الأعمش وحدثني معاوية بن قرة عن أشياخه أن عبد الله صلى أربعا فقيل له عبت على عثمان ثم صليت أربعا فقال الخلاف شر.
قلت لو كان المسافر لا يجوز له الإتمام كما لا يجوز له القصر لما يتابعوا عثمان عليه إذ لا يجوز على الملأ من الصحابة متابعته على الباطل فدل ذلك على أن من رأيهم جواز الإتمام وإن كان الاختيار عند كثير منهم القصر. ألا ترى أن عبد الله أتم الصلاة بعد ذلك واعتذر بقول الخلاف شر فلو كان الإتمام لا جواز له لكان الخلاف له خيراً لا شراً. وفي هذا دليل على ما قلناه إلاّ أنه قد روي عن إبراهيم أنه قال إنما صلى عثمان أربعا لأنه كان اتخذها وطنا، وعن الزهري أنه قال إنما فعل ذلك لأنه اتخذ الأموال بالطائف وأراد أن يقيم بها.
قلت وكان من مذهب ابن عباس أن المسافر إذا قدم على أهل أو ماشية أتم الصلاة، وقال أحمد بن حنبل بمثل قول ابن عباس.

ومن باب القصر لأهل مكة
قال أبو داود: حدثنا النفيلي حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق حدثنا حارثة بن وهب الخزاعي قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى والناس أكثر ما كانوا

(2/210)


فصلى بنا ركعتين في حجة الوداع. قال أبو داود حارثة من خزاعة دارهم بمكة. حارثة بن وهب أخو عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأمه.
قلت ليس في قوله فصلى بنا ركعتين دليل على أن المكي يقصر الصلاة بمنى لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مسافرا بمنى فصلى صلاة المسافر ولعله لو سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاته لأمره بالإتمام وقد يترك صلى الله عليه وسلم بيان الأمور في بعض المواطن اقتصارا على ما تقدم من البيان السابق خصوصا في مثل هذا الأمرالذي هو من العلم الظاهر العام، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي بهم فيقصر فإذا سلم التفت فقال أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سَفر.
وقد اختلف الناس في هذا فقال الشافعي يقصر الإمام والمسافرون معه ويقوم أهل مكة فيتمون لأنفسهم، وإليه ذهب سفيان وأحمد وهو قول أصحاب الرأي وقد روي ذلك عن عطاء ومجاهد والزهري، وذهب مالك والأوزاعي وإسحاق إلى أن الإمام إذا قصر قصروا معه وسواء في ذلك أهل مكة وغيرهم.
وحدثني إسماعيل بن محمد بن خشَك بن محرز حدثنا سلمة بن شبيب قال: قال الوليد بن مسلم وافيت مكة وعليها محمد بن إبراهيم وقد كتب إليه أن يقصر الصلاة بمنى وعرفة فقصر فرأيت سفيان الثوري قام فأعاد الصلاة وقام ابن جريج فبنى على صلاته فأتمها، قال الوليد ثم دخلت المدينة فلقيت مالك بن أنس فذكرت ذلك له وأخبرته بفعل الأمير وفعل سفيان وابن جريج، فقال أصاب الأمير وأخطأ ابن جريج ثم قدمت الشام فلقيت الأوزاعي فذكرت له ذلك فقال أصاب مالك وأصاب الأمير وأخطأ سفيان وابن جريج. قال ثم دخلت مصر فلقيت الشافعي فذكرت ذلك له فقال أخطأ الأمير وأخطأ مالك وأخطأ الأوزاعي

(2/211)


وأصاب سفيان وأصاب ابن جريج.
قلت أما ابن جريج فإنما بنى على صلاته لأن من مذهبه أن المفترض يجوز له أن يصلي خلف المتنفل وأعاد سفيان الصلاة لأنه لا يرى للمفترض أن يصلي خلف المتنفل. وكانت صلاة الأمير عنده نافلة حين قصرها وهو مقيم بمكة والياً عليها فاستأنف سفيان صلاته. وكذلك مذهب أصحاب الرأي في هذا.

ومن باب رمي الجمار
قال أبو داود: حدثنا ابن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أبيه، عَن أبي البَدَّاح بن عاصم عن أبيه وهو عاصم بن عدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد أو من بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر.
قلت أراد بيوم النفر هاهنا النفر الكبير وهذا رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم للرعاء لأنهم مضطرون إلى حفظ أموالهم فلو أخذوا بالمقام والمبيت بمنى ضاعت أموالهم وليس حكم غيرهم في هذا كحكمهم.
وقد اختلف الناس في تعيين اليوم الذي يرمي فيه فكان مالك يقول يرمون يوم النحر وإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد وذاك يوم النفر الأول يرمون لليوم الذي مضى ويرمون ليومهم ذلك، وذلك أنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه. وقال الشافعي نحواً من قول مالك، وقال بعضهم هم بالخيار إن شاؤوا قدموا وإن شاؤوا أخروا.

ومن باب الحلق والتقصير
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول

(2/212)


الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم ارحم المحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال اللهم ارحم المحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال والمقصرين.
قلت كان أكثر من أحرم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة ليس معهم هدي وكان صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي ومن كان معه هدي فإنه لا يحلق حتى ينحر هديه فلما أمر من ليس معه هدي أن يحل وجدوا من ذلك في أنفسهم وأحبوا أن يأذن لهم في المقلم على إحرامهم حتى يكملوا الحج وكانت طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بهم فلما لم يكن لهم بد من الاحلال كان القصر في نفوسهم أحب من الحلق فمالوا إلى القصر فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أخرهم في الدعاء وقدم عليهم من حلق وبادر إلى الطاعة وقصر بمن تهيبه وحاد عنه ثم جمعهم في الدعوة وعمهم بالرحمة.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حفص عن هشام عن ابن سيرين عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر ثم رجع إلى منزله بمنى فدعا بذِبح فذبح ثم دعا بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن فحلقه فجعل يقسم بين من يليه الشعرة والشعرتين ثم أخذ بشق رأسه الأيسر فحلقه ثم قال هاهنا أبو طلحة فدفعه إليه.
قلت فيه من السنة أن يبدأ في الحلاق بالشق الأيمن من الرأس ثم بالشق الأيسر وهو من باب ما كان يستحبه صلى الله عليه وسلم من التيمن في كل شيء من طهوره ولباسه ونعله في نحو ذلك من الأمور.
وفيه أن شعر بني آدم طاهر فلا معنى لقول من زعم أن هذا خاص لرسول الله ولو لزم هذا في شعره للزم في منيه مثل ذلك فيقال إن مني سائر الناس

(2/213)


نجس فلما لم يفترق الأمور في ذلك عنده وجب أن لا يفترق كذلك في الشعر. والذبح مكسورة الذال ما يذبح من الغنم والذَبح الفعل.
قلت وفي قوله اللهم ارحم المحلقين وجه آخر وهو أن السنة فيمن لبد رأسه الحلق وإنما يجزىء القصر فيمن لم يلبد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبد رأسه.
وروى عنه أنه قال من لبد رأسه فليحلق من طريق عبد الله العمري عن نافع عن ابن عمر، وروي ذلك أيضاً عن عمر بن الخطاب وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال أصحاب الرأي إن قصر ولم يحلق أجزأه.

ومن باب العمرة
قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري، عَن أبي زائدة حدثنا ابن جريج ومحمد بن إسحاق عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلاّ ليقطع بذلك أمر أهل الشرك فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون إذا عفا الوبَر وبرأ الدبر ودخل صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر.
قوله عفا الوبر معناه كثر واثمر نباته يقال عفا القوم إذا كثر عددهم، ومنه قول الله تعالى {حتى عفوا} [الأعراف: 95] وكانوا لا يعتمرون في الأشهر الحرم حتى تنسلخ.
قال أبو داود: حدثنا أبو كامل حدثنا أبو عوانة عن إبراهيم بن مهاجر، عَن أبي بكر بن عبد الرحمن قال أخبرني رسول مروان الذي أرسل إلى أم معقل قال جاء أبو معقل حاجاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم قالت أم معقل قد علمت أن عليَّ حجة فانطلقا يمشيان حتى دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن علي حجة وإن لأبي معقل بكراً فقال أبو معقل صدقت جعلته في سبيل الله

(2/214)


فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطها فلتحج عليه فإنه في سبيل الله فأعطاها البكر فقالت يا رسول الله إني امرأة قد كبرت وسقمت فهل من عمل يجزىء عني من حجتي فقال عمرة في رمضان تجزء حجة.
قلت فيه من الففه جواز احباس الحيوان. وفيه أنه جعل الحج من السبيل، وقد اختلف الناس في ذلك، وكان ابن عباس لا يرى بأسا أن يعطي الرجل من زكاته في الحج وروي مثل ذلك عن ابن عمر، وكان أحمد وإسحاق يقولان يعطي من ذلك في الحج، وقال سفيان وأصحاب الرأي والشافعي لا تصرف الزكاة إلى الحج وسهم السبيل الغزاة والمجاهدون.

ومن باب الحائض تخرج بعد الإفاضة
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر صفيه بنت حُيَي فقيل إنها قد حاضت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلها حابستنا فقالوا يا رسول الله إنها قد أفاضت قال فلا إذاً.
قلت طواف الإفاضة هو الذي يدعي طواف الزيارة وهو الواجب الذي لا يتم الحج إلاّ به.
وفيه دليل على أن طواف الوداع ليس بواجب وأوجبوا على من تركه دما إلاّ الحائض فإنها إذا تركته لم يلزمها شيء. وفيه دليل على أن الطواف لا يصح من الحائض وأنها لا تدخل المسجد ولا تقرب البيت.
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا أبو عَوانة عن يعلى بن عطاء عن الوليد بن عبد الرحمن عن الحارث بن عبد الله بن أوس قال أتيت عمر بن الخطاب فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض، قال ليكن آخر عهدها

(2/215)


بالبيت، قال فقال الحارث كذلك أفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر اربْتَ عن يديك سألتني عن شيء سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكيما أخالف.
قوله اربت دعاء عليه كأنه يقول سقطت آرابه وهي جمع أرب وهو العضو. قلت وهذا على سبيل الاختيار في الحائض إذا كان في الزمان نفَس وفي الوقت مهلة. فأما إذا أعجلها السير كان لها أن تنفر من غير وداع بدليل خبر صفية، وممن قال أنه لا وداع على الحائض مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وهو قول أصحاب الرأي وكذلك قال سفيان.

ومن باب التحصيب
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب ليكون اسمح لخروجه.
قلت التحصيب إذا نفر الرجل من منى إلى مكة للتوديع أن يقيم بالشعب الذي يخرجه إلى الأبطح حتى يهجع بها من الليل ساعة ثم يدخل مكة وكان هذا شيئا يفعل ثم ترك.

ومن باب من قدم شيئا قبل شيء في حجه
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى يسألونه فجاء رجل فقال يا رسول الله إني لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذبح ولا حرج، وجاء آخر فقال يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي قال ارم ولا حرج، قال فما سئل يومئذٍ عن شيء قدم أو أخر إلاّ قال اصنع ولا حرج.

(2/216)


قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الشيباني عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجا فكان الناس يأتونه فمن قائل يا رسول الله سعيت، يَعني قبل أن أطوف وأخرت شيئا أو قدمت شيئا فكان يقول لا حرج لا حرج إلاّ على رجل اقترض من عرض رجل مسلم وهو ظالم فذلك الذي حَرِج وهلَك.
قلت ظاهر هذا الحديث أنه إذا حلق رأسه قبل أن يذبح أو نحر قبل أن يرمي فلا شيء عليه، وإلى هذا ذهب مجاهد وطاوس وهو قول الشافعي وسواء عندهم فعله ناسيا أو متعمدا.
وقال أحمد وإسحاق فيمن فعل ذلك ساهيا فلا شيء عليه كأنه يرى أن حكم العامد خلاف ذلك ويدل على صحة ما ذهب إليه أحمد قوله في هذا الحديث إني لم أشعر فحلقت.
وذهب قوم إلى أنه إذا قدم شيئا أو أخره كان عليه دم. وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وقتادة وإليه ذهب مالك بن أنس.
وتأول بعض من ذهب إلى هذا القول من أصحاب الرأي. قوله ارم ولا حرج على أنه أراد رفع الحرج في الإثم دون الفدية، قال وقد يجوز أن يكون هذا السائل مفردا فلا يلزمه دم وإذا كان متطوعاً بالدم لم يلزمه في تقديمه وتأخيره شيء.
قلت قوله لا حرج ينتظم الأمرين جميعا الاثم والفدية لأنه كلام عام، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إما متمتعين أو قارنين على ما دلت عليه الأخبار والدم على القارن والمتمتع واجب. على أن السائل عن هذا الحكم لم يكن رجلا

(2/217)


واحداً فقط إنما كانوا جماعة ألا تراه يقول فمن قائل أخرت شيئا أو قدمت شيئا وهؤلاء لا يتفق أن يكونوا كلهم مفردين فكان هذا الاعتراض غير لازم.
وأما قوله سعيت قبل أن أطوف فيشبه أن يكون هذا السائل لما طاف طواف القدوم قرن به السعي، فلما طاف طواف الإفاضة لم يعد السعي فأفتاه بأن لا حرج لأن السعي الأول الذي قرنه بالطواف الأول قد أجزأه.
فأما إذا لم يكن سعى إلى أن أفاض فالواجب عليه أن يؤخر السعي عن الطواف لا يجزيه غير ذلك في قول عامة أهل العلم إلاّ في قول عطاء وحده فإنه قال يجزئه وهو قول كالشاذ لا اعتبار له.
قوله اقترض معناه اغتاب وأصله من القرض وهو القطع.

ومن باب حرم مكة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنما أحلت لي ساعة من النهار ثم هي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلاّ لمنشد فقام عباس أو قال فقال يا رسول الله إلاّ الاذخر قال وزادنا فيه ابن المصفى عن الوليد فقام أبو شاة رجل من أهل اليمن فقال اكتبوا لي يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتبوا لأبي شاة قلت للأوزاعي ما قوله اكتبوا لأبي شاة. قال هذه الخطبة.
قوله إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين. ثم قوله

(2/218)


وإنما أحلت لي ساعة من النهار يستدل بهما من يذهب إلى أن مكة فتحت عنوة لا صلحا. وتأول غيرهم قوله وإنما أحلت لي ساعة من النهار على معنى دخوله إياها من غير إحرام لأنه دخلها وعليه عمامة سوداء.
وقيل إنما أحلت له في تلك الساعة إراقة الدم دون الصيد وقطع الشجر وسائر ما حرم على الناس منه.
وقد سأل بعض الملحدين عن هذا فقال لم كان حبس الفيل في زمان الجاهلية عنها ومنعه منها ومن الإفساد والإلحاد فيها ولم يمنع الحجاج بن يوسف في زمان الإسلام عنها وقد نصب المنجنيق على الكعبة وأضرمها بالنار وسفك فيها الدم الحرام وقتل عبد الله بن الزبير وأصحابه في المسجد وكيف لم يحبس عنها القرامطة وقد سلبوا الكعبة ونزعوا حليتها وقلعوا الحجر وقتلوا العالم من الحاج وخيار المسلمين بحضرة الكعبة. فأجاب عن مسألته بعض العلماء بأن حبس الفيل عنها في الجاهلية كان علما لنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنويها بذكر آبائه إذ كانوا عمار البيت وسكان الوادي فكان ذلك الصنيع ارهاصاً للنبوة وحجة عليهم في إثباتها فلو لم يقع الحبس عنها والذب عن حريمها لكان في ذلك أمران أحدهما فناء أهل الحرم وهم الآباء والأسلاف لعامة المسلمين ولكافة من قام به الدين، والآخر أن الله سبحانه أراد أن يقيم به الحجة عليهم في إثبات نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يجعله مقدمة لكونها وظهورها فيهم فكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عامئذ وكانوا قوماً عرباً أهل جاهلية ليست لهم بصيرة في العلم ولا تقدمة في الحكمة وإنما كانوا يعرفون من الأمور ما كان دركه من جهة الحس والمشاهدة فلو لم يجر الأمر في ذلك على الوجه الذي جرى لم يكن يبقى في أيديهم شيء من دلائل النبوة تقوم به الحجة عليهم في ذلك الزمان

(2/219)


فأما وقد أظهر الله الدين ورفع أعلامه وشرح أدلته وأكثر أنصاره فلم يكن ما حدث عليها من ذلك الصنيع أمراً يضر بالدين أو يقدح في بصائر المسلمين وإنما كان ما حدث منه امتحاناً من الله سبحانه لعباده ليبلو في ذلك صبرهم واجتهادهم ولينيلهم من كرامته ومغفرته ما هو أهل التفضيل به والله يفعل ما يشاء وله الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
وقوله لا يعضد شجرها معناه لا يقطع والعضد القطع قلت وسواء في ذلك ما غرسه الآدميون وما نبت من غير غرس وتنبيت لأن العموم يسترسل على ذلك كله وهو ظاهر مذهب الشافعي، وسمعت أصحاب أبي حنيفة يفرقون بين ما ينبت من الشجر في الحرم وبين ما ينبته الآدميون ويجعلون النهي مصروفا إلى ما أنبته الله تعالى دون غيره.
ويحكى عن مالك أنه قال لا شيء على من قطع شيئا من شجر الحرم وهو قول داود وأهل الظاهر وأما الشافعي فإنه يرى فيه الفدية.
وقوله لا ينفر صيدها معناه لا يتعرض له بالاصطياد ولا يهاج فينفر.
وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال معناه أن يكون الصيد رابضا في ظل الشجرة فلا ينفره الرجل ليقعد فيستظل مكانه وقوله لا تحل لقطتها إلاّ لمنشد فإن المنشد هو المعرف تقول نشدت الضالة إذا طلبتها وأنشدتها إذا عرفتها.
وقد اختلف الناس في حكم ضالة الحرم فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا فرق بينها وبين ضالة الحل. وكان عبد الرحمن بن مهدي يذهب إلى التفرقة بينها وبين ضالة سائر البقاع ويقول ليس لواجدها منها غير التعريف أبدا ولا يملكها بحال ولا يستنفقها ولا يتصدق بها حتى يظفر بصاحبها، وكان يحتج

(2/220)


بقوله لا تحل لقطتها إلاّ لمنشد، ويحكى عن الشافعي نحو من هذا القول.
وفي الحديث دليل على أن كتاب العلم وتدوين أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتخليدها في الصحف جائز وقد رويت الكراهة في ذلك عن بعض السلف.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس في هذه القصة قال ولا يختلي خلاها.
قلت الخلاء الحشيش ومنه سميت المخلاة، وكان الشافعي يقول لا يحتش من الحرم، فأما الرعي فلا بأس به وتفصيل ذلك على مذهبه أن ينظر إلى الحشيش فإن كان يستخلف إذا قطع كان جائزاً قطعه، وكذلك القضيب من أغصان الشجر وإن كان لا يستخلف لم يجز وفيه ما يقصه. ويكره على مذهبه إخراج شيء من أحجار مكة ومن جميع أجزاء أرضها وتربتها لتعلق حرمة الحرم بها إلاّ إخراج ماء زمزم فإنه غير مكروه لما فيه من التبرك والتشفي.
وقال أبوحنيفة ومحمد بن الحسن لا يحتش ولا يرعى وقول أبي يوسف قريب من قول الشافعي.
قلت فأما الشوك فلا بأس بقطعه لما فيه من الضرر وعدم النفع ولا بأس بأن ينتفع بحطام الشجر وما بلي منه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن يوسف بن ماهك عن أمه عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله ألا نبني لك بيتا أو بناء يظلك من الشمس فقال لا إنما هو مُناخ من سبق إليه.
قلت قد يحتج بهذا من لا يرى دور مكة مملوكة لأهلها ولا يرى بيعها وعقد

(2/221)


الإجارة عليها جائز وقد قيل إن هذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم وللمهاجرين من أهل مكة فأنها دار تركوها لله تعالى فلم ير أن يعودوا فيها فيتخذوها وطنا أو يبنوا فيها بناء والله أعلم.

ومن باب في إتيان المدينة
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري عن ابن المسيب، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى.
قلت هذا في النذر ينذر الإنسان أن يصلي في بعض المساجد فإن شاء وفى به وإن شاء صلى في غيره إلاّ أن يكون نذر الصلاة في واحد من هذه المساجد فإن الوفاء يلزمه بما نذره فيها، وإنما خص هذه المساجد بذلك لأنها مساجد الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وقد أمرنا بالاقتداء بهم.
وقال بعض أهل العلم لا يصح الاعتكاف إلاّ في واحد من هذه المساجد الثلاثة وعليه تأول الخبر.

ومن باب في تحريم المدينة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال ما كتبنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ القرآن وما في هذه الصحيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور فمن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه عدل ولا صرف. ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف ومن والى

(2/222)


قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف.
عائر وثور جبلان وزعم بعض العلماء أن أهل المدينة لا يعرفون بالمدينة جبلا يقال له ثور، وإنما ثور بمكة فيرون أن الحديث إنما أصله ما بين عائر إلى أحد، وأما تحريمه المدينة فإنما هو في تعظيم حرمتها دون تحريم صيدها وشجرها.
وقد اختلف الناس في صيد المدينة وشجرها فقال مالك والشافعي وأكثر الفقهاء لا جزاء على من اصطاد في المدينة صيدا واحتجوا بحديث أنس وبقوله صلى الله عليه وسلم يا أبا عمير ما فعل النغير والنغر صيد فلو كان صيد المدينة حراماً لم يجز اصطياده ولا إمساكه في المدينة كهو بمكة، وكان ابن ذئب يرى الجزاء على من قتل صيدا من صيد المدينة أو قطع شجرة من شجرها.
وروي أن سعدا وزيد بن ثابت وأبا هريرة كانوا يرون صيد المدينة حراماً فأما إيجاب الجزاء فلا يصح عن أحد منهم.
وكان الشافعي يذهب في القديم إلى أن من اصطاد في المدينة صيدا أخذ سلبه وروى فيه أثرا عن سعيد وقال في الجديد بخلافه.
وقال ابن نافع سئل مالك عن قطع السدر وما جاء فيه من النهي فقال إنما نهى عن قطع سدر المدينة لئلا توحش وليبقى فيها شجرها فيستأنس بذلك ويستظل بها من هاجر إليها.
وقوله من آوى محدثا فعليه لعنة الله فإنه يروى على وجهين محدثا مكسورة الدال وهو صاحب الحدث وجانيه، ومحدثا مفتوحة الدال وهو الأمرالمحدث والعمل المبتدع الذي لم تجر به سنة ولم يتقدم به عمل.

(2/223)


وقوله لا يقبل منه عدل ولا صرف فإنه يقال في تفسير العدل أنه الفريضة والصرف النافلة. ومعنى العدل هو الواجب الذي لا بد منه ومعنى الصرف الربح والزيادة ومنه صرف الدراهم والدنانير والنوافل زيادات على الأصول فلذلك سميت صرفاً.
وقوله يسعى بها أدناهم فمعناه أن يحاصر الإمام قوما من الكفار فيعطي بعض أهل عسكر المسلمين أمانا ًلبعض الكفار فإن أمانه ماض وإن كان المجير عبداً وهو أدناهم وأقلهم. وهذا خاص في أمان بعض الكفار دون جماعتهم ولا يجوز لمسلم أن يعطي أماناً عاماً لجماعة الكفار فإن فعل ذلك لم يجز أمانه لأن ذلك يؤدي إلى تعطيل الجهاد أصلا وذلك غير جائز.
وقوله فمن أخفر مسلما يريد نقض العهد يقال خفرت الرجل إذا أمنته وأخفرته بالألف إذا نقضت عهده.
وقوله من والى قوما بغير إذن مواليه فإن ظاهره يوهم أنه شرط وليس معناه معنى الشرط حتى يجوز له أن يوالي غير مواليه إذا أذنوا له في ذلك وإنما هو بمعنى التوكيد لتحريمه والتنبيه على بطلانه والإرشاد إلى السبب فيه وذلك أنه إذا استأذن أولياءه في موالاة غيرهم منعوه من ذلك، وإذا استبد به دونهم خفي أمره عليهم فربما ساغ له ما تعاطاه من ذلك فإذا تطاول الوقت وامتد به الزمان عرف من لاء من انتقل إليهم فيكون ذلك سببا لبطلان حق مواليه فهذا وجه ما ذكر من إذنهم.
قال أبو داود: حدثنا حامد بن يحيى حدثنا عبد الله بن الحارث عن محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي عن أبيه عن عروة بن الزبير قال أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من لية حتى إذا كنا عند السدرة وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرف القرن

(2/224)


الأسود حذوها فاستقبل نخبا ببصره ووقف حتى اتفق الناس كلهم ثم قال إن صيد وجٍّ وعِضاهه حَرَم مُحَرم لله وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيف.
قلت القرن جبيل صغير ورابية تشرف على وهدة. وَوَجٍّ ذكروا أنه من ناحية الطائف ونخب أراه جبلا أو موضعا ولست أحقه والعضاه من الشجر ما كان له شوك ويقال للواحدة منه عضة على وزن عوة ويقال عضة وعضاه كما قالوا شفة وشفاه. ولست أعلم لتحريمه وجهاً معنى إلاّ أن يكون ذلك على سبيل الحمى لنوع من منافع المسلمين، وقد يحتمل أن يكون ذلك التحريم إنما كان في وقت معلوم وفي مدة محصورة ثم نسخ. ويدل على ذلك قول وذلك قبل نزول الطائف وحصاره ثقيف ثم عاد الأمر فيه إلى الإباحة كساتر بلاد الحل. ومعلوم أن عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلوا بحضرة الطائف وحصروا أهلها ارتفقوا بما نالته أيديهم من شجر وصيد ومرفق فدل ذلك على أنها حل مباح وليس يحضرني في هذا وجه غير ما ذكرته إلاّ شيء يروى عن كعب الأحبار لا يعجبني أن أحكيه وأعظم أن أقوله وهو كلام لا يصح في دين ولا نظر والله أعلم.

(2/225)