معالم السنن كتاب الحدود
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا إسماعيل بن
إبراهيم حدثنا أيوب عن عكرمة أن علياً كرم الله وجهه أحرق
ناساً ارتدوا عن الإسلام فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنه
فقال لم أكن لأحرقهم بالنار ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: لا تعذبوا بعذاب الله وكنت قاتلهم بقول رسول
الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: من بدل دينه فاقتلوه
فبلغ ذلك علياً فقال ويح أم ابن عباس.
قوله ويح أم ابن عباس لفظه لفظ الدعاء عليه ومعناه المدح
له والإعجاب
(3/292)
بقوله وهذا كقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم في أبي بصير ويل أمه مسعر حرب وكقول عمر رضي الله عنه
حين أعجبه قول الوادعي في تفضيل سهمان الخيل على المقاديف
هبلت الوادعي أمه يريد ما أعلمه أو ما أصوب رأيه أو ما
أشبه ذلك الكلام وكقول الشاعر:
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا …وماذا يرد الليل حين يؤوب
ويقال ويح وويس بمعنى واحد وقيل ويح كلمة رحمة وروي ذلك عن
الحسن.
وقد اختلف الناس فيما كان من علي كرم الله وجهه في أمر
المرتدين فروى عكرمة أنه أحرقهم بالنار، وزعم بعضهم أنه لم
يحرقهم بالنار ولكنه حفر لهم أسراباً ودخن عليهم واستتابهم
فلم يتوبوا حتى قتلهم الدخان، واحتج أهل الروية الأولى
بقول الشاعر فيهم.
انشدنا ابن الأعرابي، عَن أبي ميسرة عن الحميدي عن سفيان
بن عيينة عن بعضهم في هذه القصة.
لترم بي المنايا حيث شاءت ... إذا لم ترم بي في الحضرتين
إذا ما قربوا حطباً وناراً ... فذاك الموت نقداً غير دين
زعموا أنه حفر لهم حفراً وأشعل النار وأمر أن يرمى بهم
فيها.
واختلف أهل العلم فيمن قتل رجلاً بالنار فأحرقه بها هل
يفعل به مثل ذلك أم لا، فقال غير واحد من أهل العلم يحرق
القاتل بالنار، وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل
وإسحاق بن راهويه، وروي معنى ذلك عن الشعبي وعمر بن عبد
العزيز.
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه يقتل بالسيف وروي
ذلك عن عطاء.
(3/293)
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سنان الباهلي
حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن رفيع عن عبيد بن
عمير عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله
وأن محمداً رسول الله إلاّ في إحدى ثلاث زنى بعد إحصان
فإنه يرجم. ورجل خرج محارباً لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب
أو ينفى من الأرض. أو يقتل نفساً فيقتل بها.
قلت في هذا الحديث دلالة على أن الإمام بالخيار في
أمرالمحاربين بين أن يقتل أو يصلب أو ينفي من الأرض، وإلى
هذا ذهب مالك بن أنس وأبو ثور.
وروي عن الحسن ومجاهد وعطاء والنخعي، وقال الشافعي تقام
عليهم الحدود بقدر جناياتهم لمن قتل منهم وأخذ مالاً قتل
وصلب، وإذا قتل ولم يأخذ مالاً قتل ولم يصلب ودفع إلى
أوليائه ليدفنوه. ومن أخذ مالاً ولم يقتل قطعت يده اليمنى
ورجله اليسرى وخلي، ومن حضر وهيّب وكثر أو كان ردءاً يدفع
عنهم عزر وحبس، وروي معنى ذلك عن ابن عباس إلاّ أنه قال إن
لم يقتل ولم يأخذ مالاً بقي، وممن ذهب إلى قول ابن عباس
قتادة والنخعي.
وقال الأوزاعى نحواً من ذلك ومذهب أبي حنيفة وأصحابه قريب
من ذلك. وفي قوله أويقتل نفساً فيقتل بها مستدل من جهة
العموم لمن رأى قتل الحر بالعبد.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا قرة بن
خالد حدثنا حميد بن هلال حدثنا أبو بردة، عَن أبي موسى أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن ثم أتبعه
معاذ بن جبل، قال فلما قدم عليه معاذ قال انزل وألقى له
وسادة وإذا رجل عنده موثق؛ قال ما هذا قال هذا كان يهودياً
فأسلم ثم راجع دينه دين السوء قال لا أجلس حتى يقتل قضاء
الله ورسول، قال اجلس نعم قال لا أجلس
(3/294)
حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات فأمر
به فقتل.
قلت الظاهر من هذا الخبر أنه رأى قتله من غير استتابة ولا
استتابة (1) وذهب إلى هذا الرأي عبيد بن عمير وطاوس، وقد
روى ذلك أيضاً عن الحسن البصري.
وروي عن عطاء أنه قال إن كان أصله مسلماً فارتد فإنه لا
يستتاب وإن كان مشركاً فأسلم ثم ارتد فإنه يستتاب.
وقال أكثر أهل العلم لا يقتل حتى يستتاب إلا أنهم اختلفوا
في مدة الاستتابة فقال بعضهم يستتاب ثلاثة أيام فإن تاب
وإلا قتل، روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال
أحمد وإسحاق؛ وقال مالك بن أنس أرى الثلاث حسناً وإنه
ليعجبني.
وقال أبو حنيفة وأصحابه يستتاب ثلاث مرات في ثلاث أيام.
وقال الشافعي في أحد قوليه يستتاب فإن تاب وإلا قتل مكانه،
قال وهذا أقيس في النظر وعن الزهري يستتاب ثلاث مرات فإن
تاب وإلا ضربت عنقه.
قلت وروى أبو داود هذه القصة من طريق الحماني عن يزيد بن
أبي بردة عن أبيه، عَن أبي موسى فقال فيها وكان قد استتيب
قبل ذلك فرواها من طريق المسعودي عن القاسم قال فلم يترك
حتى ضرب عنقه وما استتابه.
ومن باب من سب النبي صلى الله
عليه وسلم
قال أبو داود: حدثنا عباد بن موسى الختلي حدثنا إسماعيل بن
جعغر المدني عن إسرائيل عن عثمان الشحام عن عكرمة حدثنا
ابن عباس رضي الله عنه أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي
صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فنهاها فلا تنتهي فلما كان
ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه
فأخذ المعول فوضعه في بطنها واتكأ عليها
_________
(1) هكذا في الأصل.
(3/295)
فقتلها فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم
دمها.
المعول شبه المشمل ونصنله دقيق ماض، وفيه بيان ان ساب
النبي صلى الله عليه وسلم مقتول وذلك أن السب منها لرسول
الله صلى الله عليه وسلم ارتداد عن الدين ولا أعلم أحداً
من المسلمين اختلف في وجوب قتله ولكن إذا كان الساب ذمياً
فقد اختلفوا فيه فقال مالك بن أنس من شتم النبي صلى الله
عليه وسلم من اليهود والنصارى قتل إلاّ أن يسلم وكذلك قال
أحمد بن حنبل، وقال الشافعي يقتل الذمي إذا سب النبي صلى
الله عليه وسلم وتبرأ منه الذمة.
واحتج في ذلك بخبر كعب بن الأشرف وقد ذكرناه في كتاب
الجهاد.
وحكي، عَن أبي حنيفة أنه قاله لا يقتل الذمي بشتم النبي
صلى الله عليه وسلم ما هم عليه من الشرك أعظم.
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله ونصر بن الفرج
قالا: حَدَّثنا أبو أسامة عن يزيد بن زريع عن يونس بن عبيد
عن حميد بن هلال عن عبد الله بن مطرف عن ابن أبي برزة قال
كنت عند أبي بكر رضي الله عنه فتغيظ على رجل فاشتد عليه
فقلت تأذن لى يا خليفة رسول الله فاضرب عنقه قال فأذهب
كلمتي غضبه فقام فدخل فأرسل إليّ فقال ما الذي قلت آنفاً،
قلت ائذن لي اضرب عنقه قال أكنت فاعلاً لو أمرتك قال نعم؛
قال لا والله ما كانت لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
قلت أخبرني الحسن بن يحيى عن ابن المنذر قال: قال أحمد بن
حنبل في معنى هذا الحديث أي لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلاً
إلا بإحدي الثلاث التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم
كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس
(3/296)
وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل.
قلت وفيه دليل على أن التعزير ليس بواجب وللإمام أن يعزر
فيما يستحق به التأديب وله أن يعفو فلا يفعل ذلك.
ومن باب في المحاربة
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب،
عَن أبي قلابة عن أنس أن قوماً من عكل أو قال من عرينة
قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة
فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا
من أبوالها وألبانها فانطلقوا فلما صحوا قتلوا راعي رسول
الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم فبلغ النبي صلى
الله عليه وسلم خبرهم في أول النهار فأرسل في اثارهم فما
ارتفع النهار حتى جيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم
وسمر أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون.
قال أبو قلابة وهؤلاء قوم قتلوا وكفروا بعد إيمانهم
وحاربوا الله ورسوله.
قوله فاجتووا المدينة معناه عافوا المقام بالمدينة وأصابهم
بها الجوى في بطونهم يقال اجتويت المكان إذا كرهت الإقامة
به لضرر يلحقك فيه واللقاح ذوات الدر من الإبل واحدتها
لقحة.
قوله سمر أعينهم يريد أنه كحلهم بمسامير محماة والمشهور من
هذا في أكثر الروايات سمل باللام أي فقأ أعينهم قال أبو
ذؤيب.
فالعين بعدهم كأن حداقها …سملت بشوك فهي عور تدمع
وفي الحديث من الفقه أن إبل الصدقة قد تجوز لأبناء السبيل
شرب ألبانها وذلك أن هذه اللقاح كانت من إبل الصدقة، روي
ذلك في هذا الحديث من غير
(3/297)
هذا الطريق حدثناه ابن الأعرابي حدثنا
الزعفراني حدثنا عمر حدثنا حماد حدثنا حميد وقتادة وثابت
عن أنس فذكر القصة وقال فبعثهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم في إيل الصدقة وفيه إباحة التداوي بالمحرم عند
الضروري لأن الأبوال كلها نجسة من مأكول اللحم وغير
مأكوله.
قال أبو داود: حدثنا عمر بن عثمان حدثنا الوليد عن
الأوزاعي عن يحيى، عَن أبي قلابة عن أنس بن مالك وذكر
القصة وقال فيها فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قافة
فأتي بهم فأنزل الله عز وجل {إنما جزاء الذين يحاربون الله
ورسوله ويسعون في الأرض فساداً} [المائدة: 33] الآية.
القافة جمع القائف وهو الذي يتبع الأثر ويطلب الضالة
والهارب.
قلت وقد اختلف الناس فيمن نزلت فيه هذه الآية فروي مدرجاً
في هذا الخبر أنها نزلت في هؤلاء، وقد ذكر أبو قلابة أن
هؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله
ورسوله.
وذهب الحسن البصري أيضاً إلى أن الآية إنما نزلت في الكفار
دون المسلمين وذلك أن المسلم لا يحارب الله ورسوله، وقال
أكثر العلماء نزلت الآية في أهل الإسلام، والدليل على ذلك
قوله {إلاّ الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن
الله غفور رحيم} [المائدة: 34] والإسلام يحقن الدم قبل
القدرة وبعدها فعلم أن المراد به المسلمون، فأما قوله
يحاربون الله ورسوله فمعناه يحاربون المسلمين الذين هم حزب
الله وحزب رسوله فأضيف ذلك إلى الله وإلى الرسول إذ كان
هذا الفعل في الخلاف لأمرهما راجعاً إلى مخالفتهما، وهذا
كقوله صلى الله عليه وسلم من آذى لي ولياً فقد بادرني
بالمحاربة.
(3/298)
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا
حماد أخبرنا ثابت عن أنس وذكر الحديث قال ولقد رأيت أحدهم
يكدم الأرض بفيه عطشاً حتى ماتوا.
قوله يكدم الأرض أي يتناولها بفمه ويعض عليها بأسنانه؛
وأصل الكدم العض والعرب تقول في قلة المرعى ما بقيت عندنا
إلا كدامة ترعاها الإبل أي مقدار ما تتناولها بمقاديم
أسنانها.
وقد اختلف الناس في تأويل هذا الصنيع من رسول الله صلى
الله عليه وسلم فروي عن ابن سيرين أن هذا إنما كان منه قبل
أن تنزل الحدود وعن أبي الزناد أنه قال: لما فعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ذلك بهم أنزل الله الحدود فوعظه ونهاه
عن المثلة فلم يعد.
قلت وروى سليمان التيمي عن أنس أن النبي صلى الله عليه
وسلم إنما سمل أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة، حدثنيه
الحسن بن يحيى، عَن أبي المنذر عن الفضل بن سهل الأعرج عن
يحيى بن غيلان عن يزيد بن زريع عن سليمان التيمي يريد أنه
إنما اقتص منهم على أمثال فعلهم.
ومن باب الحد يشفع فيه
قال أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب
الهمداني وقتيبة بن سعيد قالا: حَدَّثنا الليث عن ابن شهاب
عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن
المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها فقالوا
ومن يجترىء إلاّ أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا
أسامة أتشفع في حد من حدود الله ثم قام فاختطب فقال إنما
هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا
سرق الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت
(3/299)
رسول الله صلى الله عليه وسلم سرقت لقطعت
يدها.
إنما أنكر عليه الشفاعة في الحد لأنه إنما تشفع إليه بعد
أن بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتفعوا إليه
فيه فأما قبل أن يبلغ الإمام فإن الشفاعة جائزة والستر على
المذنبين مندوب إليه، وقد روي ذلك عن الزبير بن العوام
وابن عباس رضي الله عنهما وهو مذهب الأوزاعي.
وقال أحمد بن حنبل تشفع في الحد ما لم يبلغ السلطان.
وقال مالك بن أنس من لم يعرف بأذى الناس وإنما كانت تلك
منه زلة فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام.
وفيه دليل على أن القطع لا يزول عن السارق بأن يوهب له
المتاع ولو كان ذلك مسقطاً عنه الحد لأشبه أن يطلب أسامة
إلى المسروق منه أن يهبه منها فيكون ذلك أعود عليها من
الشفاعة.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن جعفر بن مسافر ومحمد بن
سليمان الأنباري قالا: حَدَّثنا ابن أبي فديك عن عبد الملك
بن زيد نسبه جعفر إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل عن محمد
بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلاّ
الحدود.
قلت قال الشافعي في تفسير الهيئة من لم يظهر منه ريبة.
وفيه دليل على أن الإمام مخير في التعزير إن شاء عزر وإن
شاء ترك ولو كان التعزير واجبا كالحد لكان ذو الهيئة وغيره
في ذلك سواء.
ومن باب التلقين في الحد
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن إسحاق
بن
(3/300)
عبد الله بن أبي طلحة، عَن أبي المنذر مولى
أبي ذر، عَن أبي أمية المخزومي أن النبي صلى الله عليه
وسلم أتي بلص قد اعترف اعترافاً ولم يوجد معه متاع فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخالك سرقت قال بلى فأعاد
عليه مرتين أو ثلاثاً فأمر به فقطع.
قلت وجه هذا الحديت عندي والله أعلم أنه ظن بالمعترف
بالسرقة غفلة أو يكون قد ظن أنه لا يعرف معنى السرقة ولعله
قد كان مالاً له أو اختلسه أو نحو ذلك مما يخرج من هذا
الباب عن معاني السرقة والمعترف به قد يحسب أن حكم ذلك حكم
السرقه فوافقه رسول الله صلى الله عليه وسلم واستثبت الحكم
فيه إذ كان من سنته أن الحدود تدرأ بالشبهات، وروي عنه أنه
قال: ادرؤوا الحدود ما استطعتم وأمرنا بالستر على المسلمين
فكره أن يهتكه وهو يجد السبيل إلى ستره فلما تبين وجود
السرقة منه يقيناً أقام الحد عليه وأمر بقطعه.
على أن في إسناد هذا الحديث مقالاً والحديث إذا رواه رجل
مجهول لم يكن حجة ولم يجب الحكم به.
وقد روي تلقين السارق عن جماعة من الصحابة وأتي عمر بن
الخطاب رضي الله عنه برجل فسأله أسرقت قل لا قال فقال لا
فتركه ولم يقطعه.
وروي مثل ذلك، عَن أبي الدرداء وأبي هريرة، وكان أحمد
وإسحاق لا يريان بأساً بتلقين السارق إذا أتي به، وكذلك
قال أبو ثور إذا كان السارق امرأة أو مصعوقاً.
ومن باب ما يقطع فيه السارق
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن الزهري
قال سمعته منه عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يقطع في
(3/301)
ربع دينار فصاعداً قال وحدثنا أحمد بن
صالح، قال: حَدَّثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب
عن عروة وعمرة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله
عليه وسلم القطع في ربع دينار فصاعداً.
قوله القطع في ربع دينار فصاعداً معناه القطع الذي أوجبه
الله في السرقة إنما يجب فيما بلغ منها ربع دينار وكان
مورده مورد التهديد ولذلك عرفه بالألف واللام ليعقل أنه
إشارة إلى معهود، وهذا الحديث هو الأصل فيما يجب فيه قطع
الأيدي وبه تعتبر السرقات وإليه ترد قيمتها ما كانت من
دراهم أو متاع أو غيرها.
وروى ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعثمان بن
عفان وعلي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنها، وبه قال عمر
بن عبد العزيز وهو مذهب الأوزاعي والشافعي، وفيه إبطال
مذهب أهل الظاهر فيما ذهبوا إليه من إيجاب القطع في الكثير
والقليل وهو مذهب الخوارج.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن
ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع
في مجن قيمته ثلاثة دراهم.
قلت وذهب مالك إلى هذا وجعل الحد فيما يجب فيه القطع ثلاثة
دراهم، ورد إليها قيم السرقات مما كانت ذهباً أو متاعاً أو
ما كان من شيء.
وقال أحمد بن حنبل إن سرق ذهباً فبلغ ربع دينار قطع وإن
سرق فضة كان مبلغها ثلاثة دراهم قطع وإن سرق متاعاً بلغ
قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم قولاً بالخبرين معاً.
قلت المذهب الأول في رد القيم إلى ربع الدينار أصح وذلك إن
أصل النقد
(3/302)
في ذلك الزمان الدنانير فجاز أن يقوم بها
الدراهم ولم يجز أن يقوم الدنانير بالدراهم ولهذا كتب في
الصكوك قديماً عشرة دراهم وزن سبعة فصرفت الدراهم
بالدنانير وحصرت بها والدنانير لا تختلف فيها اختلاف
الدراهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ خذ من
كل حالم ديناراً.
وقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قطع سارقاً في
أترجة قومت ثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهماً فدل على أن
العبرة للذهب ومن أجل ذلك قومت الدراهم بها فقيل من صرف
اثني عشر درهما بدينار.
وأما تقويم المجن بالدراهم فقد يحتمل أن يكون ذلك من أجل
أن الشيء التافه قد جرت العادة بتقويمه بالدراهم، وإنما
تقوم الأشياء النفيسة بالدنانير لأنها أنفس من النقود
وأكرم جواهر الأرض فتكون هذه الدراهم الثلاثة التي هي ثمن
المجن قد تبلغ قيمتها ربع دينار والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن السري
العسقلاني وهذا لفظه قالا: حَدَّثنا ابن نمير عن محمد بن
إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه
قال قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يد رجل في مجن قيمته
دينار أو عشرة دراهم.
قلت وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وأصحابه وجعلوه حداً فيما يقطع
فيه اليد وهو قول سفيان الثوري، وقد روى ذلك عن ابن مسعود
رضي الله عنه.
قلت وهذا حكم تنفيذ وليس في موضع التحديد لأنه إذا كان
السارق مقطوعاً في ربع دينار فلأن يكون مقطوعاً في دينار
أولى وكذلك إذا قطع في ثلاثة دراهم يبلغ قيمتها ربع دينار
فهو بأن يقطع في عشرة دراهم أولى.
(3/303)
وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة لا يقطع
الخمس إلاّ في خمسة دراهم وقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه خلاف الرواية الأولى.
ومن باب ما لا قطع فيه
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك بن أنس عن
يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان أن عبداً سرق ودياً
من حائط رجل فغرسه في حائط سيده فاستعدى صاحب الودي على
العبد مروان بن الحكم فسجن مروان العبد وأراد قطع يده
فانطلق سيد العبد إلى رافع بن خديج فسأله عن ذلك فأخبره
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا قطع في ثمر
ولا كثر ومشى معه إلى مروان فحدثه بذلك عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأمر مروان بالعبد فأرسل.
الودي صغار النخل واحدتها ودية والكثر جمار النخل ومعنى
الثمر في هذا الحديث ما كان معلقاً بالنخل قبل أن يجذ
ويحرز وقد تأوله الشافعي قال حوائط المدينة ليست بحرز
وأكثرها يدخل من جوانبها ومن سرق من حائط شيئاً من ثمر
معلق لم يقطع فإذا أواه الجرين قطع ولم يفرق بين الفاكهة
والطعام الرطب وبين الدراهم والدنانير وسائر الأمتعة في
السارق إذا سرق منها شيئاً من حرز أو غير حرز فبلغت قيمته
ما يقطع فيه اليد فإنه مقطوع.
وقال مالك في الثمر مثل قول الشافعي. وقال أبو حنيفة بظاهر
حديث رافع بن خديج فأسقط القطع عمن سرق ثمراً أو كثراً من
حرز أو غير حرز وقاس عليهما سائر الفواكه الرطبة واللحوم
والجبون والألبان والأشربة وسائر ما كان في معناها.
(3/304)
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا
الليث عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد
الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه سأل عن الثمر المعلق قال ما أصاب منه من ذي حاجة غير
متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله
والعقوبة ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن
المجن فعليه القطع.
قلت هذا يؤيد ما ذهب إليه الشافعي في معنى الحديث الأول
ويليق أن الحال لا تختلف في الأموال من جهة أعيانها لكن
تفترق من جهة مواضعها التي تؤويها وتحرزها، وأما الخبنة
فهو ما يحمله الرجل في ثوبه، ويقال أصل الخبنة ذلاذل
الثوب.
والجرين البيدر وهو حرز الثمار وما كان في مثل معناها كما
كان المراح حرز الغنم. وإنما تحرز الأشياء على قدر الإمكان
فيها وجريان العادة في الناس في مثلها. ويشبه أن يكون إنما
أباح لذي الحاجة الأكل منه لأن في المال حق العشر فإذا
أدته الضرورة إليه أكل منه وكان محسوباً لصاحبه مما عليه
من الصدقة وصارت يده في التقدير كيد صاحبها لأجل الضرورة؛
فأما إذا حمل منه في ثوب أو نحوه فإن ذلك ليس من باب
الضرورة إنما هو من باب الاستحلال فيغرم ويعاقب، إلاّ أنه
لا قطع لعدم الحرز ومضاعفة الغرامة نوع من الردع والتنكيل،
وقد قال به غير واحد من الفقهاء وقد بينا أقاويلهم في ذلك
في باب الزكاة.
ومن باب القطع في الخيانة
والخلسة
قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي حدثنا محمد بن بكر حدثنا
ابن جريج حدثنا
(3/305)
الزبير قال جابر بن عبد الله قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليس على المنتهب قطع ومن انتهب نهبة
مشهورة فليس منا.
وبهذا الإسناد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس
على الخائن قطع.
قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي أخبرنا عيسى بن يونس عن
ابن جريج، عَن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه
وسلم مثله فزاد ولا على المختلس قطع.
قلت أجمع عامة أهل العلم على أن المختلس والخائن لا يقطعان
وذلك أن الله سبحانه إنما أوجب القطع على السارق. والسرقة
إنما هي أخذ المال المحفوظ سراً عن صاحبه والاختلاس غير
محترز منه فيه. وقد قيل إن القطع إنما سقط عن الخائن لأن
صاحب المال قد أعان على نفسه في ذلك بائتمانه إياه وكذلك
المختلس وقد يحتمل أن يكون إنما سقط القطع عنه لأن صاحبه
قد يمكنه رفعه عن نفسه بمجاهدته وبالاستغاثة بالناس فإذا
قصر في ذلك ولم يفعل صار كأنه أتي من قبل نفسه.
وحكي عن إياس بن معاوية أنه قال يقطع المختلس، ويحكى عن
داود أنه كان يرى القطع على من أخذ مالاً لغيره سواء أخذه
من حرز أو غير حرز وهذا الحديث حجة عليه.
ومن باب من سرق من حرز
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عمرو بن
حماد بن طلحة حدثنا اسباط عن سماك بن حرب عن حميد ابن أخت
صفوان عن صفوان بن أمية قال كنت نائماً في المسجد على
خميصة لي ثمن ثلاثين درهماً فجاء رجل فاختلسها مني فأخذ
الرجل فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع
فأتيته، فقلت
(3/306)
أتقطعه من أجل ثلاثين درهماً أنا أبيعه
وأنسئه ثمنها، قال فهلا كان هذا من قبل أن تأتيني به.
قلت في هذا دليل على أن الحرز معتبر في الأشياء حسب ما
تعارفه الناس في حرز مثلها وذلك أن النائم في المسجد الذي
ينتابه الناس ولا يحجب عن دخوله أحد لا يقدر من الاحتراز
والتحفظ في ثوبه على أكثر من أن يبسطه فينام عليه أو
يتوسده فيضع رأسه عليه أو يشد طرفاً منه في طرف يديه إلى
نحو ذلك من الأمور فإذا اغتاله مغتال فذهب به كان سارقاً
له من حرز يجب عليه ما يجب على سارق الأموال من الخزائن
المستوثق منها بالاغلاق والاقفال، وفي معناه من وضع نفقته
في كمه فطرّه إنسان فإنه سارق يقطع يده كما لو أخذها من
صندوق أو خزانة وكذلك
هذا فيمن وضع ثوبه بين يديه واستنقع في ماء فأخذه آخذ على
وجه السرقة ويدخل في ذلك من أخرج متاعاً من جوالق أو حل
بعيراً من قطار أو أخذ متاعاً من فسطاط مضروب أو من خيمة
ضربها صاحبها فنام فيها أو على بابها فهذا كله حرز وإنما
ينظر في هذا الباب إلى سيرة الناس وعاداتهم في إحراز أنواع
الأموال على اختلاف أماكنها فكل ما كان مأخوذاً من حرز
مثله وكان مبلغه ما يجب فيه القطع وجب قطع يد سارقه.
واحتج من رأى أن المتاع المسروق لا قطع فيه إذا ملكه
السارق قبل أن يرفع إلى الإمام بقوله فهلا كان هذا قبل أن
تأتيني به، قالوا فقد دل هذا على أنه لو وهبه منه أو أبرأه
من ذلك قبل أن يرفعه إلى الإمام سقط عنه القطع. واختلف
الفقهاء في هذا فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل لا يسقط
عنه القطع وإن وهب منه المتاع أو باعه منه أو أبرأه.
(3/307)
وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا رد السرقة إلى
أهلها قبل أن يرفع إلى الإمام ثم أتي به الإمام فشهد عليه
الشهود لم يقطع.
وقال أبو حنيفة إذا وهب له السرقة لم يقطع وأحسبه لا يفرق
بين ذلك كان قبل رفعه إلى الإمام أو بعده.
ومن باب القطع في العارية إذا
جحدت
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي ومخلد بن خالد المعنى
قالا: حَدَّثنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن
عمر رضي الله عنه أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع
وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها فقطعت يدها.
قلت مذهب عامة أهل العلم أن المستعير إذا جحد العارية لم
يقطع لأن الله سبحانه إنما أوجب القطع على السارق وهذا
خائن ليس بسارق.
وفي قوله لا قطع على الخائن دليل على سقوط القطع عنه، وذهب
إسحاق بن راهويه إلى إيجاب القطع عليه قولاً بظاهر الحديث.
وقال أحمد بن حنبل لا أعلم شيئاً يدفعه، يَعني حديث
المخزومية.
قلت وهذا الحديث مختصر وليس مستقصى لفظه وسياقه وإنما قطعت
المخزومية لأنها سرقت وذلك بين في حديث عائشة رحمها الله
الذي رواه أبو داود في باب قبل هذا.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن الليث عن ابن شهاب عن عروة
عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة
المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها رسول الله صلى
الله عليه وسلم فذكر القصة.
قولها أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت يفصح بالسرقة
ويصرح بذكرها
(3/308)
ويثبت أنها سبب القطع لا جحد العارية وإنما
ذكرت الاستعارة والجحد في هذه القصة تعريفاً لها بخاص
صفتها إذ كانت كثيرة الاستعارة حتى عرفت بذلك كما عرفت
بأنها مخزومية إلاّ أنها لما استمر بها هذا الصنع ترقت إلى
السرقة وتجرأت حيث سرقت فأمرالنبي صلى الله عليه وسلم
بقطعها.
وقد روى مسعود بن الأسود عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا
الخبر قال سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
قلت وبيان هذا الحديث في حديث عائشة رضي الله عنها من
رواية الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا
سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه
الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه
وسلم سرقت لقطعت يدها.
أفلا تراه يتمثل بالسرقة ويذكرها مرة بعد أخرى وفي ذلك
بيان لما قلناه وإنما خلا بعض الروايات عن ذكر السرقة لأن
القصد إنما كان في سياق هذا الحديث إلى إبطال الشفاعة في
الحدود والتغليظ لمن رام تعطيلها ولم يقع العناية بذكر
السرقة وبيان حكمها وما يجب على السارق من القطع إذ كان
ذلك من القطع إذ كان ذلك من العلم المشهور المستفيض في
الخاص والعام وقد أتى ما يجب على السارق من القطع إذ كان
أتى الكتاب على بيانه فلم يضر ترك ذكره والسكوت عنه ههنا
والله أعلم.
ومن باب المجنون يسرق أو يصيب
حداً
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن
الأعمش، عَن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنه قال أتي
عمر رضي الله عنه بمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناساً فأمر
بها عمر رضي الله عنه أن ترجم فمر بها على علي كرم الله
وجهه، فقال ما شأن هذه فقالوا مجنونة بني فلان زنت فأمر
بها أن ترجم، فقال ارجعوا بها ثم أتاه فقال يا أمير
المؤمنين أما علمت أن القلم رفع عن ثلاثة عن المجنون حتى
يبرأ وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يعقل قال بلى
قال فما بال هذه ترجم قال لا شيء قال فأرسلها قال فأرسلها
قال فجعل يكبر.
قلت لم يأمر عمررضي الله عنه برجم مجنونه مطبق عليها في
الجنون ولا يجوز أن يخفى هذا ولا على أحد ممن بحضرته، ولكن
هذه امرأة كانت تجن مرة وتفيق أخرى فرأى عمر رضي الله عنه
أن لا يسقط عنها الحد لما يصيبها من الجنون إذ كان الزنا
منها في حال الإفاقة، ورأى علي كرم الله
(3/309)
وجهه أن الجنون شبهة يدرأ بها الحد عمن
يبتلي به والحدود تدرأ بالشبهات لعلها قد أصابت ما أصابت
وهي في بقية من بلائها فوافق اجتهاد عمر رضي الله عنه
اجتهاده في ذلك فدرأ عنها الحد والله أعلم بالصواب.
ومن باب الغلام يصيب الحد
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان حدثنا عبد
الملك بن عمير حدثنا عطية القرظي قال كنت من سبي قريظة
وكانوا ينظرون فيمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل
فكنت فيمن لم ينبت.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن عبيد الله
أخبرني نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم
الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه.
قلت اختلف أهل العلم في حد البلوغ الذي إذا بلغه الصبي
أقيم عليه الحد، فقال الشافعي إذا احتلم الغلام أو بلغ خمس
عشرة سنة فإن حكمه حكم البالغين
(3/310)
في إقامة الحد عليه وكذلك الجارية إذا بلغت
خمس عشرة سنة أوحاضت.
وأما الانبات فإنه لا يكون حداّ للبلوغ وإنما يفصل به بين
أهل الشرك فيقتل مقاتليهم ويترك غير مقاتليهم بالإنبات.
وقال الأوزاعي وأحمد بن حنبل في بلوغ الغلام خمس عشرة سنة
مثل قول الشافعي. وقال أحمد وإسحاق الإنبات بلوغ يقام به
الحد على من أنبت.
وحكي مثل ذلك عن مالك بن أنس في الإنبات فاما في السن فإنه
قال إذا احتلم الغلام أو بلغ من السن ما لا يتجاوزه غلام
إلاّ احتلم فحكمه حكم الرجال ولم يجعل الخمس عشرة سنة حداً
في ذلك.
وقال سفيان سمعنا أن الحلم أدناه أربع عشرة وأقصاه ثماني
عشرة سنة فإذا جاءت الحدود أخذنا بأقصاها.
وذهب أبو حنيفة إلى أن حد البلوغ في استكمال ثماني عشرة
سنة إلاّ أن يحتلم قبل ذلك، وفي الجارية استكمال سبع عشرة
سنة إلاّ أن تحيض قبل ذلك.
قلت يشبه أن يكون المعنى عند من فرق بين أهل الإسلام وبين
أهل الكفر حين جعل الإنبات في الكفار بلوغاً ولم يعتبره في
المسلمين هو أن أهل الكفر لا يوقف على بلوغهم من جهة السن
ولا يمكن الرجوع إلى قولهم لأنهم متهمون في ذلك لدفع القتل
عن أنفسهم، فأما المسلمون وأولادهم فقد يمكن الوقوف على
مقادير أسنانهم لأن أسنانهم محفوظة وأوقات المواليد فيهم
مؤرخة.
ومن باب الرجل يسرق في الغزو
أيقطع
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب
أخبرني حيوة عن عياش بن عباس القتباني عن شنم بن تبيان
ويزيد بن صبح الأصبحي
(3/311)
عن جنادة بن أبي أمية قال كنا مع بسر بن
أرطأة في البحر فأتي بسارق يقال له مصدر قد سرق بُختية
فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تقطع
الأيدي في السفر ولولا ذلك لقطعته.
قلت يشبه أن يكون هذا إنما سرق البختية في البر ورفعوه
إليه في البحر فقال عند ذلك هذا القول.
وهذا الحديث إن ثبت فإنه يشبه أن يكون إنما أسقط عنه الحد
لأنه لم يكن إماماً وإنما كان أميراً أو صاحب جيش وأمير
الجيش لا يقيم الحدود في أرض الحرب على مذاهب بعض الفقهاء
إلاّ أن يكون الإمام أو يكون أميراً واسع المملكة كصاحب
العراق والشام أو مصر ونحوها من البلدان، فإنه يقيم الحدود
في عسكره وهو قول أبي حنيفة.
وقال الأوزاعي لا يقطع أمير العسكر حتى يقفل من الدرب فإذا
قفل قطع وأما أكثر الفقهاء فإنهم لا يفرقون بين أرض الحرب
وغيرها، ويرون إقامة الحدود على من ارتكبها كما يرون وجوب
الفرائض والعبادات عليهم في دار الإسلام والحرب سواء.
ومن باب الحجة في قطع النباش
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد، عَن أبي
عمران عن المشعث بن طريف عن عبد الله بن الصامت، عَن أبي
ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر
قلت لبيك يا رسول الله وسعديك قال كيف أنت إذا أصاب الناس
موت يكون فيه البيت بالوصيف، يَعني القبر، قلت الله ورسوله
أعلم، قال أو ما خار الله لي ورسوله قال عليك بالصبر أو
قال تصبر.
(3/312)
قلت موضع استدلال أبي داود من الحديث أنه
سمى القبر بيتاً والبيت حرز والسارق من الحرز مقطوع إذا
بلغت سرقته مبلغ ما يقطع فيه اليد.
والوصيف العبد يريد أن الفضاء من الأرض يضيق عن القبور
ويشتغل الناس بأنفسهم عن الحفر لموتاهم حتى تبلغ قيمة
القبر قيمة العبد.
وقد اختلف الناس في قطع النباش فذهب مالك والشافعي وأحمد
بن حنبل وإسحاق إلى أنه يقطع إذا أخذ من القبر ما يكون فيه
القطع؛ وبه قال أبو يوسف وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز
والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وحماد بن أبي سليمان.
وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري لا قطع عليه.
ومن باب إذا سرق أربع مرار
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل
الهلالي حدثنا جدي عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير
عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال جيء بسارق إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله
إنما سرق قال اقطعوه قال فقطع ثم جيء به الثانية، فقال
اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه قال فقطع
ثم جيء به الثالثة فقال اقتلوه قالوا يا رسول الله إنما
سرق قال اقطعوه ثم أتي به الرابعة فقال اقتلوه قالوا يا
رسول الله إنما سرق فقال اقطعوه فأتي به الخامسة فقال
اقتلوه، قال جابر فانطلقنا به فقتلناه ثم ألقيناه في بئر
ورمينا عليه الحجارة.
قلت هذا في بعض إسناده مقال وقد عارض الحديث الصحيح الذي
بإسناده
(3/313)
وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا
يحل دم امرىء مسلم إلاّ بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنى بعد
إحصان أو قتل نفس بغير نفس والسارق ليس بواحد من الثلاثة
فالوقوف عن دمه واحب. ولا أعلم أحداً من الفقهاء يبيح دم
السارق وإن تكررت منه السرقة مرة بعد أخرى إلاّ أنه قد
يخرج على مذاهب بعض الفقهاء أن يبح دمه وهو أن يكون هذا من
المفسدين في الأرض في أن للإمام أن يجتهد في تعزير
المفسدين ويبلغ به ما رأى نن العقوبة وإن زاد على مقدار
الحد وجاوزه وإن رأى القتل قتل.
ويعزى هذا الرأي إلى مالك بن أنس وهذا الحديث إن كان له
أصل فهو يؤيد هذا الرأي؛ وقد يدل على ذلك من نفس الحديث
أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتله لما جيء به أول مرة
ثم كذا في الثانية والثالثة والرابعة إلى أن قتل في
الخامسة فقد يحتمل أن يكون هذا رجلاً مشهوراً بالفساد
مخبوراً بالشر معلوماً من أمره أنه سيعود إلى سوء فعله ولا
ينتهي عنه حتى ينتهي خبره ويحتمل أن يكون ما فعله إن صح
الحديث فإنما فعله بوحي من الله سبحانه واطلاع منه على ما
سيكون منه فيكون معنى الحديث خاصا فيه والله أعلم.
وقد اختلف الناس في السارق إذا سرق مرة فقطعت يده اليمنى
ثم سرق مرة فقطعت رجله اليسرى.
فقال مالك والشافعي وإسحاق بن راهويه إن سرق الثالثة قطعت
يده اليسرى، وإن سرق الرابعة قطعت رجله اليمنى، وإن سرق
بعد ذلك عزر وحبس وقد حكي مثال ذلك عن قتادة.
وقال الشعبي والنخعي وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي وأحمد
بن حنبل إذا
(3/314)
سرق قطعت يده اليمنى فإن سرق الثانية قطعت
رجله اليسرى فإن سرق الثالثة لم يقطع واستودع السجن.
وقد روي مثل ذلك عن علي كرم الله وجهه.
قال أبو داود: حدثنا موسى حدثنا أبو عَوانة عن عمر بن أبي
سلمة عن أبيه، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا سرق المملوك فبعه ولو بنش.
قلت النش وزن عشرين درهما هكذا يفسر.
وفيه دليل على أن السرقة عيب في المماليك يردون بها ولذلك
وقع الحط من ثمنه والنقص من قيمته وليس في هذا الحديث
دلالة على سقوط القطع عن المماليك إذا سرقوا من غير
ساداتهم.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أقيموا الحدود
على ما ملكت أيمانكم.
وقال عامة الفقهاء يقطع العبد إذا سرق، وإنما قصد بالحديث
إلى أن العبد السارق لا يمسك ولا يصحب ولكن يباع ويستبدل
به من ليس بسارق.
وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنه أن العبد لا يقطع إذا
سرق وحكي مثل ذلك عن شريح وسائر الناس على خلافه.
ومن باب في الرجم
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سعيد بن أبي عروبة
عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة
بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا عني
قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورمياً
بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائة وسبي سنة.
قوله خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا إشارة إلى قوله
سبحانه {أو يجعل الله
(3/315)
لهن سبيلا} [النساء: 15] ثم فسر السبيل
فقال الثيب بالثيب يريد إذا زنى الثيب بالثيب وكذلك قوله
البكر بالبكر يريد إذا زنى البكر بالبكر.
واختلف العلماء في تنزيل هذا الكلام ووجه ترتيبه على الآية
وهل هو ناسخ للآية أو مبين لها فذهب بعضهم إلى النسخ، وهذا
على قول من يرى نسخ الكتاب بالسنة.
وقال آخرون بل هو مبين للحكم الموعود بيانه في الآية فكأنه
قال عقوبتهن الحبس إلى أن يجعل الله لهن سبيلا فوقع الأمر
بحبسهن إلى غاية فلما انتهت مدة الحبس وحان وقت مجيء
السبيل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا عني تفسير
السبيل وبيانه ولم يكن ذلك ابتداء حكم منه، وإنما هو بيان
أمر كان ذكر السبيل منطوياً عليه فأبان المبهم منه وفصل
المجمل من لفظه فكان نسخ الكتاب بالكتاب لا بالسنة وهذا
أصوب القولين والله أعلم.
وفي قوله جلد مائة ورمياً بالحجارة حجة لقول من رأى الجمع
بين الحد والرجم على الثيب المحصن إذا زنى.
وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقد استعمل
ذلك في بعض النزناة، وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإلى هذا ذهب الحسن البصري وبه قال إسحاق بن راهويه وهو
قول داود وأهل الظاهر.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجم ولم يجلد،
وإليه ذهب عامة الفقهاء ورأوا أن الجلد منسوخ بالرجم.
وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً ولم يجلده
ورجم اليهوديين ولم يجلدهما،
(3/316)
واحتج الشافعي في ذلك بحديث أبي هريرة في
الرجل الذي استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابنه
الذي زنى بامرأة الرجل، فقال له على ابنك جلد مائة وتغريب
عام وعلى المرأة الرجم واغد يا أنيس على المرأة فإن اعترفت
فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها.
قال فهذا الحديث آخر الأمرين لأن أبا هريرة قد رواه وهو
متأخر الإسلام ولم يعرض للجلد بذكر، وإنما هو الرجم فقط
وكان فعله ناسخاً لقوله الأول.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا وكيع
عن هشام بن سعد أخبرني يزيد بن نعيم بن هزال، قال كان ماعز
بن مالك يتيما في حجر أبي فأصاب جارية من الحي فقال له أبي
ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت لعله
يستغفر لك، وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرج فأتاه
فقال يا رسول الله إني زنيت فأقم علي كتاب الله فأعرض عنه،
فعاد فقال يا رسول الله إني زنيت فأقم علي كتاب الله حتى
قالها أربع مرات، قال صلى الله عليه وسلم إنك قد قلتها
أربع مرات فبمن، قال بفلانة، قال هل ضاجعتها، قال نعم، قال
هل جامعتها قال نعم، قال فأمر به فأخرج إلى الحرة، فلما
رجم فوجد مس الحجارة فخرج يشتد فلقيه عبد الله بن أنيس وقد
عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله ثم أتى
النبي صلى الله عليه وسلم فذكرذلك له فقال هلا تركتموه
لعله أن يتوب فيتوب الله عليه.
قلت اختلف أهل العلم في هذه الأقارير المكررة منه هل كانت
شرطاً في صحة الأقارير بالزنى حتى لا يجب الحكم إلاّ بها،
أم كانت زيادة في التبين والاستثبات لشبهة عرضت في أمره.
(3/317)
فقال قوم هي شرط في صحة الإقرار لا يجب
الحكم عليه بتكريره أربع مرات، وإليه ذهب الحكم بن عيينة
وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق بن
راهويه واحتج من احتج منهم بقوله إنك قد قلتها أربع مرات،
إلاّ أنهم اختلفوا فيه إذا كان كله في مجلس واحد.
فقال أبو حنيفة وأصحابه إقراره أربع مرات في مجلس واحد
بمنزلة إقراره مرة وا حدة.
وقال ابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل إذا أقر أربع مرات في
مجلس واحد رجم.
وقال مالك والشافعي وأبو ثور إذا أقر مرة واحدة رجم كما
إذا أقر مرة واحدة بالقتل قتل وبالسرقة قطع.
وروي ذلك عن الحسن البصري وحماد بن أبي سليمان.
وذهب هؤلاء إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رده مرة
بعد أخرى للشبهة التي داخلته في أمره ولذلك سأل هل به جنة
أوخبل وقال لهم استنكهوه أي لعله شرب ما أذهب عقله وجعل
يستفسره الزنا فقال لعلك قبلت لعلك لمست إلى أن أقر بصريح
الزنا فزالت عند ذلك الشبهة فأمر برجمه وإنما لزم الحكم
عنده بإقراره في الرابعة لأن الكشف إنما وقع به ولم يتعلق
بما قبله.
واستدلوا في ذلك بقول الجهينية لعلك تريد أن ترددني كما
رددت ماعزاً فعلم أن الترديد لم يكن شرطاً في الحكم وإنما
كان من أجل الشبهة.
قالوا وأما قوله قد قلتها أربع مرات فقد يحتمل أن يكون
معناه أنك قلتها أربع مرات فتبينت عند إقرارك في الرابعة
أنك صحيح العقل ليست بك آفة تمنع من قبول قولك فيكون معنى
التكرار راجعاً إلى هذا.
(3/318)
في قوله هلا تركتموه دليل على أن الرجل إذا
أقر بالزنا رجع عنه دفع عنه الحد سواء وقع به الحد أو لم
يقع. وإلى هذا ذهب عطاء بن أبي رباح والزهري وحماد بن أبي
سليمان وأبو حنيفة وأصحابه.
وكذلك قال الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وقال مالك بن أنس وابن أبي ليلى وأبو ثور لا يقبل رجوعه
ولا يدفع عنه الحد وكذلك قال أهل الظاهر.
وروي ذلك عن الحسن البصري وسعيد بن جبير، وروي معنى ذلك عن
جابر بن عبد الله.
وتأولوا قوله هلا تركتموه أي لينظر في أمره ويستثبت المعنى
الذي هرب من أجله.
قالوا ولو كان القتل عنه ساقطاً لصار مقتولاً خطأ وكانت
الدية على عواقلهم فلما لم تلزمهم ديته دل على أن قتله كان
واجباً.
قلت وفي قوله هلا تركتموه على معنى المذهب الأول دليل على
أنه لا شيء على من رمى كافراً فأسلم قبل أن يقع السهم،
وكذلك المأذون له في قتل رجل قصاصاً فلما تنحى عنه عفا ولي
الدم عنه.
وكذلك قال هؤلاء في شارب الخمر إذا قال كذبت فإنه يكف عنه.
وكذلك السارق إذا قال كذبت لم تقطع يده ولكن لا تسقط
الغرامة عنه لأنها حق الآدمي.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن سماك عن جابر
بن سمرة وذكر قصة ماعز ورجمه، قال ثم خطب النبي صلى الله
عليه وسلم إلاّ كلما سيرنا في سبيل الله
(3/319)
خلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس يمنح إحداهن
الكثبة أما أن الله أن يمكني من أحدهم إلاّ نكلته.
معناه نكلته عليهن.
الكثبة القليل من اللبن، وقوله نكلته معناه ردعته
بالعقوبة، منه والنكول في اليمين وهو أن يرتدع فلا يحلف
يقال نكل يُنكل ونكل ينكَل لغتان.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق عن ابن
جريج أخبرني أبو الزبير أن عبد الرحمن بن الصامت ابن عم
أبي هريرة في قصة ماعز أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
والذي نفسي بيده أنه الآن لفي أنهار الجنة يتقمس فيها.
قوله يتقمس معناه ينغمس ويغوص فيها؛ والقاموس معظم الماء
ومنه قاموس البحر.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا
معمر عن الزهري، عَن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال له ابك جنون قال لا قال أحصنت
قال نعم فأمر به فرجم في المصلي فلما أذلقته الحجارة فر.
قوله أذلقته الحجارة معناه أصابته بحدها فعقرته وذلق كل
شيء حده يقال أذلقت السنان إذا أرهفته، والذلاقة في اللسان
خفته وسرعة مروره على الكلام، ويقال لسان ذلق طلق،
والاذلاق أيضاً سرعة الرمي فيكون معناه على هذا أنه لما
تتابع عليه وقع الحجارة وتناولته من كل وجه فر.
وفي قوله ابك جنون دليل على أنه قد ارتاب بأمره ولذلك كان
ترديده إياه وترك الاقتصار به على إقراره الأول.
(3/320)
وفيه دليل على أن المحصن يرجم ولا يجلد.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا
يحيى بن يعلى بن الحارث حدثنا أبي عن غيلان عن علقمة بن
مرثد عن ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم
استنكه ماعزاً.
قلت وفيه دلالة على أنه قد ارتاب بأمره وفيه حجة لمن لم ير
طلاق السكران طلاقاً وهو قول مالك بن أنس والمزني.
قال أبو داود: حدثنا أبو كامل حدثنا يزيد بن زريع عن داود،
عَن أبي نضرة، عَن أبي سعيد وذكر القصة قال فرميناه
بجلاميد الحرة حتى سكت.
قوله سكت يريد مات قال الشاعر عدي بن زيد:
ولقد شفى نفسي وأبرأ داءها …أخذ الرجال بحلقه حتى سكت
ومن باب رجم المرأة الجهنية
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم أن هشاماً الدستوائي
حدثهم عن يحيى، عَن أبي قلابة، عَن أبي المهلب عن عمران بن
حصين أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إنها
زنت وهي حبلى فدعى النبي صلى الله عليه وسلم ولياً لها
فقال له أحسن إليها فإذا وضعت فجىء بها فلما أن وضعت جاء
بها فأمرالنبي صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها ثم
أمر بها فرجمت.
قوله شكت ثيابها أي شدت عليها لئلا تتجرد فتبدو عورتها.
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى
عن بشير بن المهاجر حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه أن
امرأة، يَعني من غامد أتت النبي صلى الله عليه وسلم
(3/321)
فقالت إني قد فجرت فقال ارجعي فرجعت، فلما
كان الغد أتته فقالت لعلك إن ترددني كما رددت ماعز بن مالك
فوالله أني لحبلى، فقال لها ارجعي فرجعت فلما كان الغد
أتته فقال لها ارجعي حتى تلدي فرجعت فلما ولدت أتته بالصبي
فقالت هذا قد ولدته قال ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه فجاءت به
وقد فطمته وفي يده شيء يأكله فأمر بالصبي فدفع إلى رجل من
المسلمين وأمر بها فحفر لها فرجمت.
قلت أما الحديث الأول الذي رواه عمران بن حصين ففيه أنه لم
يستأن بها إلى أن ترضع ولدها ولكنه أمر برجمها حين وضعت.
وكذلك روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه فعل
بشراحة رجمها لما وضعت حملها، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه تترك حتى تضع ما في
بطنها ثم تترك حولين حتى تفطمه.
ويشبه أن يكون قد ذهبا إلى هذا الحديث، إلاّ أن إسناد
الحديث الأول أجود وبشير بن المهاجر ليس بذاك.
وقال أحمد بن حنبل هو منكر الحديث وقال في أحاديث ماعز
كلها إن ترديده إنما كان في مجلس واحد إلاّ ذلك الشيخ بشير
بن مهاجر وذلك عندي منكر الحديث.
قلت قد ذكر في هذا الحديث أنه قد حفر لها وقد اختلفوا في
ذلك فقال بعضهم لا يحفر للرجل ويحفر للمرأة وهو قول أبي
يوسف وأبي ثور.
وقال قتادة يحفر للرجل والمرأة جميعاً. وقال أحمد أكثر
الأحاديث أن
(3/322)
لا يحفر له وقد قيل يحفرله.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلمة عن مالك عن
ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عَن
أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما أخبراه أن رجلين
اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما يا
رسول الله اقضى بيننا بكتاب الله، وقال الآخر وكان أفقههما
أجل يا رسول الله فاقضى بيننا بكتاب الله وائذن لي أن
أتكلم قال تكلم، قال إن ابني كان عسيفاً على هذا، والعسيف
الأجير فزنا بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت
منه بمائة شاة وجارية ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن
على ابني جلد مائة وتغريب عام وإنما الرجم على امرأته فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والذي نفسي بيده لأقضين
بينكما بكتاب الله عز وجل أما غنمك وجاريتك فرد عليك وجلد
ابنه مائة وغربه عاماً وأمر أنيساً الأسلمي أن يأتي بامرأة
الآخر فإن اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها.
قوله والله لأقضين بينكما بكتاب الله يتأول على وجوه أحدها
أن يكون معنى الكتاب الفرض والايجاب يقول لأقضين بينكما
بما فرضه الله وأوجبه إذ ليس في كتاب الله ذكر الرجم
منصوصا متلوا كذكر الجلد والقطع والقتل في الحدود والقصاص.
وقد جاء في الكتاب بمعنى الفرض كقوله عز وجل {كتاب الله
عليكم} النساء: 24] وكقوله {كتب عليكم القصاص} [البقرة:
178] أي فرض، وقال عز وجل {وكتبنا عليهم فيها} [المائدة:
45] أي فرضنا وأوجبنا.
ووجه آخر وهو أن ذكر الرجم وإن لم يكن منصوصاً عليه باسمه
الخاص
(3/323)
فانه مذكور في الكتاب على سبيل الإجمال
والإبهام ولفظ التلاوة منطو عليه وهو قوله {واللذان
يأتيانها منكم فآذوهما} [النساء: 16] والأذى يتسع في معناه
للرجم ولغيره من العقوبة.
وقد قيل إن هذه الآية لما نسخت سقط الاستدلال بها
وبمعناها.
وفيه وجه آخر وهو أن الأصل في ذلك قوله {أو يجعل الله لهن
سبيلا} النساء: 15] فضمن الكتاب أن يكون لهن سبيل فيما بعد
ثم جاء بيانه في السنة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم خذوا
عني قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب
عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم.
ووجه رابع وهو ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه
قال قرأناها فيما أنزل الله الشيخ والشيخة إذا زنيا
فارجموهما البتة وهو ما رفعت تلاوته وبقي حكمه والله أعلم.
وفي الحديث من الفقه أن الرجم إنما يجب على المحصن دون من
لم يحصن.
وفيه دليل على أن للحاكم أن يبدأ باستماع كلام أي الخصمين
شاء.
وفيه أن البيع الفاسد والصلح الفاسد وما جرى مجراهما من
العقود منتقض وأن ما أخذ عليها مردود إلى صاحبه.
وفيه أنه لم ينكر عليه قوله فسألت أهل العلم ولم يعب
الفتوى عليهم في زمانه وهو مقيم بين ظهرانيهم.
وفيه إثبات النفي على الزاني والتغريب له سنة وهو قول عامة
العلماء من السلف وأكثر الخلف وإنما لم ير التغريب منهم
أبو حنيفة ومحمد بن الحسن.
وفيه أنه لم يجمع على المحصن الرجم والجلد.
(3/324)
وفيه أنه لما جاء رسول الله صلى الله عليه
وسلم مستفتياً عن ابنه مخبراً عنه إن زنا بامرأته لم يجعله
قاذفاً لها.
وفيه أنه لم يوقع الفرقة بالزنا بينها وبين زوجها.
وفيه أنه لم يشترط عليها في الاعتراف بالزنا التكرار وإنما
علق الحكم بوجود الاعتراف حسب.
وفيه دليل على جواز الوكالة في إقامة الحدود وقد اختلف
العلماء فيها.
وفيه دليل على أنه لا يجب على الإمام حضور المرجوم بنفسه.
وفيه إثبات الإجارة والحديث فيها قليل وقد أبطلها قوم
لأنها زعموا ليست بعين مرئية ولا صفة معلومة.
وفي الحديث دليل على قبول خبر الواحد.
ومن باب رجم اليهود
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال قرأت على مالك
بن أنس عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال إن اليهود
جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أن رجلاً
منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما تجدون في التوراة في شأن الزناة فقالوا نفضحهم ويجلدون
فقال عبد الله بن سلام كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة
فنشروها فجعل أحدهم يده على آية الرجم ثم جعل يقرأ ما
قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفعها
فإذا فيها آية الرجم فقالوا صدق يا محمد فيها آية الرجم
فأمر بهما رسول الله فرجما قال ابن عمر رضي الله عنه فرأيت
الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة.
قلت هكذا قال يجنأ والمحفوط يحنا أي يكب عليها، يقال حنا
الرجل
(3/325)
يحنا حنوا إذا أكب على الشيء قال كثير:
أعزة لو شهدت غداة بنتم ... حنوء العائدات على وسادي
فيه من الفقه ثبوت أنكحة أهل الكتاب وإذا ثبتت أنكحتهم ثبت
طلاقهم وظهارهم وإيلاؤهم.
وفيه دليل على أن نكاح أهل الكتاب يوجب التحصين إذ لا رجم
إلاّ على المحصن. ولو أن مسلماً تزوج يهودية أو نصرانية
ودخل بها ثم زنا كان عليه الرجم وهو قول الزهري، وإليه ذهب
الشافعي.
وقال أبو حنيفة وأصحابه الكتابية لا تحصن المسلم وتأول
بعضهم معنى الحديث على أنه إنما رجمهما بحكم التوراة ولم
يحملهما على أحكام الإسلام وشرائطه.
قلت وهذا تأويل غير صحيح لأن الله سبحانه يقول {وأن احكم
بينهم بما أنزل الله} [المائدة: 49] وإنما جاءه القوم
مستفتين طمعاً في أن يرخص لهم في ترك الرجم ليعطلوا به حكم
التوراة فأشار عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
كتموه من حكم التوراة ثم حكم عليهم بحكم الإسلام على
شرائطه الواجبة فيه.
وليس يخلو الأمر فيما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم
من ذلك عن أن يكون موافقاً لحكم الإسلام أو مخالفا له فإن
كان مخالفاً فلا يجوز أن يحكم بالمنسوخ ويترك الناسخ.
وإن كان موافقاً له فهو شريعته والحكم الموافق لشريعته لا
يجوز أن يكون مضافاً إلى غيره ولا أن يكون فيه تابعاً لمن
سواه.
وفيه دليل على أن المرجوم لا يشد ولا يربط ولو كان مربوطاً
لم يمكنه أن يحنا عليها ويقيها الحجارة.
(3/326)
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا
عنبسة حدثنا يونس قال: قال محمد بن مسلم سمعت رجل من مزينة
ممن يتبع العلم ويعيه ونحن عند ابن المسيب، عَن أبي هريرة،
قال زنا رجل من اليهود وامرأة فقال بعضهم لبعض اذهبوا بنا
إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون
الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله عز وجل قلنا فتيا نبي
من أنبيائك قال فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس
في المجلس في أصحابه فقالوا يا أبا القاسم ما ترى في رجل
وامرأة منهم زنيا فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيت مدراسهم
فقام على الباب فقال أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على
موسى ما تجدون في التوراة على من زني إذا أحصن قالوا يحمم
ويُجبَّه ويجلد والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار فيقابل
أقفيتهما ويطاف بهما قال وسكت شاب منهم فلما رآه النبي صلى
الله عليه وسلم سكت الظّ به النشدة فقال اللهم إذ نشدتنا
فإنا نجد في التوراة الرجم قال النبي صلى الله عليه وسلم
فما أول ما ارتخصتم في أمر الله قال زنا ذو قرابة من ملك
ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زنا رجل في أسرة من الناس فأراد
رجمه فحال قومه دونه فقالوا لا يرجم صاحبنا حتى تجيء
بصاحبك فترجمه فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم فقال النبي
صلى الله عليه وسلم فإني أحكم بما في التوراة ثم أمر بهما
فرجمهما.
التحميم تسويد الوجه بالحمم والتجبية مفسر في الحديث ويشبه
أن يكون أصله الهمز وهو يجبأ من التجبئة وهو الردع والزجر،
يقال جبأته فجبأ أي ارتدع فقلبت الهمزة هاء، والتجبية
أيضاً أن تنكس رأسه فيحتمل أن يكون المحمول على الحمار إذا
فعل ذلك به نكس رأسه فسمي ذلك الفعل تجبية.
وقد يحتمل أيضاً أن يكون ذلك من الجبه وهو الاستقبال
بالمكروه،
(3/327)
وأصل الجبه إصابة الجبهة يقال جبهت الرجل
إذا أصبت جبهته كما تقول رأسته أصبت رأسه.
وقوله ألظّ به النشدة معناه القسم وألح عليه في ذلك ومنه
قوله صلى الله عليه وسلم ألظوا بيا ذا
الجلال والإكرام أي سلوا الله بهذه الكلمة وواظبوا على
المسألة بها.
والأسرة عشيرة الرجل وأهل بيته.
وفي قوله فإني أحكم بما في التوراة حجة لمن قال يقول أبي
حنيفة إلاّ أن الحديث عن رجل لا يعرف، وقد يحتمل أن يكون
معناه أحكم بما في التوراة احتجاجاً به عليهم وإنما حكم
بما كان في دينه وشريعته فذكره التوراة لا يكون علة للحكم.
ومن باب الرجل يزني بحريمه
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا خالد بن عبد الله حدثنا
مطرف، عَن أبي الجهم عن البراء بن عازب قال بينما أنا أطوف
على إبل لي ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس معهم لواء فجعل
الأعراب يطيفون بي لمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذ أتوا قبة فاستخرجوا منها رجلاً فضربوا عنقه فسألت
عنه فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه.
قوله أعرس كناية عن النكاح والبناء على الأهل وحقيقته
الإلمام بالعرس. وفيه بيان أن نكاح ذوات المحارم بمنزلة
الزنى وأن اسم العقد فيه لا يسقط الحد.
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن قسيط الرقي حدثنا عبيد الله
بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن عدي بن ثابت عن يزيد بن
البراء عن أبيه قال لقيت عمي ومعه راية فقلت أين تريد قال
بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة
أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله.
(3/328)
قلت وفي هذا التصريح بذكر النكاح وظاهره
العقد وقد تأوله بعضهم على الوطء بلا عقد، وهذا تأويل فاسد
ويدل على ذلك ما حدثنا أحمد بن هشام الحضرمي حدثنا أحمد بن
عبد الجبار العطاردي حدثنا حفص بن غياث عن أشعث بن سواد عن
عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال مر بي خالى ومعه لواء
فقلت أين تذهب فقال بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى
رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه.
قلت فهذا جاء بلفظ التزويج كما ترى. ومن ادعى أن هذا
النكاح شبهة فسقط من أجلها الحد فقد أبعد لأن الشبهة إنما
تكون في أمر يشبه الحلال من بعض الوجوه وذوات المحارم لا
تحل بوجه من الوجوه ولا في حال من الأحوال، وإنما هو زنا
محض وإن لقب بالنكاح كمن استأجر أمة فزنى بها فهو زنا وإن
لقب باسم الاجارة ولم يكن ذلك مسقطاً عنه الحد وإن كانت
المنافع قد تستباح بالإجارات.
وزعم بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بقتله
لاستحلال نكاح امرأة أبيه، وكان ذلك مذهب أهل الجاهلية كان
الرجل منهم يرى أنه أولى بامرأة أبيه من الأجنبي فيرثها
كما يرث ماله وفاعل هذا على الاستباحة له مرتد عن الدين
فكان هذا جزاؤه القتل لردته.
قلت وهذا تأويل فاسد ولو جاز أن يتأول ذلك في قتله لجاز أن
يتأول مثله في رجم من رجمه صلى الله عليه وسلم من الزناة
فيقال إنما قتله بالرجم لاستحلال الزنا وقد كان أهل
الجاهلية يستحلون الزنا فلا يجب على من زنى الرجم حتى
يعتقد هذا الرأي وهذا ما لا خفاء بفساده وإنما أمر صلى
الله عليه وسلم بقتله لزناه ولتخطيه الحرمة في أمه.
(3/329)
وقد أوجب بعض الأئمة تغليظ الدية على من
قتل ذا محرم، وكذلك أوجبوا على من قتل في الحرم فألزموه
دية وثلثاً وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه أتي بشارب في
رمضان فضربه حد السكر وزاده عشرين لارتكابه ما حرم الله
عليه في ذلك الشهر.
وقد اختلف العلماء فيمن نكح ذات محرم فقال الحسن البصري
عليه الحد وهو قول مالك بن أنس والشافعي.
وقال أحمد بن حنبل يقتل ويؤخذ ماله، وكذلك قال إسحاق على
ظاهر الحديث وقال سفيان يدرأ عنه الحد إذا كان التزويج
بشهود.
وقال أبو حنيفة يعزر ولا يحد.
وقال صاحباه أما نحن فنرى عليه الحد إذا فعل ذلك متعمداً.
ومن باب الرجل يزني بجارية
امرأته
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا
قتادة عن خالد بن عرفطة عن حبيب بن سالم أن رجلاً يقال له
عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته فرفع إلى النعمان
بن بشير وهو أمير على الكوفة فقال لأقضين فيك بقضية رسول
الله صلى الله عليه وسلم إن كانت احلتها لك جلدتك مائة،
وإن لم تكن أحلتها لك رجمتك بالحجارة فوجدوه أحلتها له
فجلدوه مائة، قال قتادة كتبت إلى حبيب بن سالم فكتب إليَّ
بهذا.
قلت هذا الحديث غير متصل وليس العمل عليه.
قال أبو عيسى سألت محمد بن إسماعيل عنه فقال أنا أنفي هذا
الحديث.
وقد روي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما
إيجاب الرجم
(3/330)
على من وطىء جارية امرأته، وبه قال عطاء بن
أبي رباح وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال الزهري والأوزاعي يجلد ولا يرجم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه فيمن أقر أنه زني بجارية امرأته
يحد وإن قال ظننت أنها تحل لي لم يحده.
وعن الثوري أنه قال إذا كان يعرف بالجهالة يعزر ولا يحد،
وقال بعض أهل العلم في تخريج هذا الحديث أن المرأة إذا
أحلتها له فقد أوقع ذلك شبهة في الوطء فدرىء عنه الرجم،
وإذا درأنا عنه حد الرجم وجب عليه التعزير لما أتاه من
المحظور الذي لا يكاد يعذر بجهله أحد نشأ في الإسلام أو
عرف شيئا من أحكام الدين فزيد في عدد التعزير حتى بلغ به
حد الزنا للبكر ردعاً له وتنكيلاً.
وكأنه نحا في هذا التأويل نحو مذاهب مالك فإنه يرى للإمام
أن يبلغ بالتعزير مبلغ الحد وإن رأى أن يزيد عليه فعل.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق أخبرنا
معمر عن قتادة عن الحسن عن قبيصة بن حريث عن سلمة بن
المحبق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في رجل وقع
على جارية امرأته إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها
مثلها وإن طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها.
قلت هذا حديث منكر وقبيصة بن حريث غير معروف والحجة لا
تقوم بمثله، وكان الحسن لا يبالي أن يروي الحديث ممن سمع.
وقد روي عن الأشعث صاحب الحسن أنه قال بلغني أن هذا كان
قبل الحدود.
قلت لا أعلم أحداً من الفقهاء يقول به، وفيه أمور تخالف
الأصول.
(3/331)
منها إيجاب المثل في الحيوان ومنها استجلاب
الملك بالزنا.
ومنها إسقاط الحد عن البدن وايجاب العقوبة في المال.
وهذه كلها أمور منكرة لا تخرج على مذهب أحد من الفقهاء
وخليق أن يكون الحديث منسوخاً إن كان له أصل في الرواية
والله أعلم.
ومن باب من عمل عمل قوم لوط
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا عبد
العزيز بن محمد عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من وجدتموه يعمل
عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به.
قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن راهويه أخبرنا عبد الرزاق
أخبرنا ابن جريج أخبرني ابن خثيم قال سمعت سعيد بن جبير
ومجاهد يحدثان عن ابن عباس رضى الله تعالى عنه في البكر
يوجد على اللوطية قال يرجم.
قلت في هذا الصنع هذه العقوبة العظيمة وكأن معنى الفقهاء
فيه أن الله سبحانه أمطر الحجارة على قوم لوط فقتلهم بها
ورتبوا القتل المأمور به على معاني ما جاء فيه في أحكام
الشريعة فقالوا يقتل بالحجارة رجماً إن كان محصناً ويجلد
مائة إن كان بكراً ولا يقتل.
وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والنخعي
والحسن وقتادة وهو أظهر قولي الشافعي.
وحكي ذلك أيضاً، عَن أبي يوسف ومحمد.
وقال الأوزاعي حكمه حكم الزاني، وقال مالك بن أنس وإسحاق
بن راهويه يرجم إن أحصن أو لم يحصن وروى ذلك عن الشعبي.
(3/332)
وقال أبو حنيفة يعزر ولا يحد وذلك أن هذا
الفعل ليس عندهم زنا.
وقال بعض أهل الظاهر لا شيء على من فعل هذا الصنيع.
قلت وهذا أبعد الأقاويل من الصواب وأدعاها إلى إغراء
الفجار به وتهوين ذلك بأعينهم وهو قول مرغوب عنه.
ومن باب فيمن أتى بهيمة
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا عبد
العزيز بن محمد حدثني عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن
عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من أتي بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه، قال قلت ما شأن
البهيمة قال ما أراه قال ذلك إلاّ أنه كره أن يؤكل لحمها
وقد عمل بها ذلك العمل.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس أن شريكاً وأبا الأحوص
وأبا بكر بن عياش حدثوهم عن عاصم عن ابن رزين عن ابن عباس
رضي الله عنه قال: ليس على الذي يأتي بهيمة حد.
قال أبو داود وحديث عاصم يضعف حديث عمرو بن أبي عمرو.
قلت يريد أن ابن عباس لو كان عنده في هذا الباب حديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يخالفه.
وقال يحيى بن معين عمرو بن أبي عمرو ليس به بأس وليس
بالقوي.
وقال محمد بن إسماعيل عمرو صدوق ولكن روى عن عكرمة مناكير
ولم يذكر في شيء عمن حديثه أنه سمع من عكرمة.
قلت وقد عارض هذا الحديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن
قتل الحيوان إلاّ لمأكلة.
وقد اختلف العلماء فيمن أتي هذا الفعل فقال إسحاق بن
راهويه يقتل إذا تعمد ذلك
(3/333)
وهو يعلم ما جاء فيه عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم فإن درأ عنه إمام القتل فلا ينبغي أن يدرأ عنه
جلد مائة تشبيهاً بالزنا.
وروي عن الحسن أنه قال يرجم إن كان محصناً ويجلد إن كان
بكراً.
وقال الزهري يجلد مائة أحصن أو لم يحصن.
وقال أكثر الفقهاء يعزر وكذلك قال عطاء والنخعي وبه قال
مالك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل، وكذلك قال أبو حنيفة
وأصحابه وهو أحد قولي الشافعي وقوله الآخر إن حكمه حكم
الزاني.
ومن باب الأمة تزني ولم تحصن
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن
شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عَن أبي هريرة
وزيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل
عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، قال إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت
فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير، قال ابن شهاب لا
أدري في الثالثة أو الرابعة والضفير الحبل.
فيه من الفقه وجوب إقامة الحد على المماليك إلاّ أن حدودهم
على النصف من حدود الأحرار اقوله تعالى {فلهن نصف ما على
المحصنات من العذاب} [النساء: 25] .
ولا يرجم المماليك وإن كانوا ذوي أزواج لأن الرجم لا يتنصف
فعلم أنهم لم بدخلوا في الخطاب ولم يعنوا بهذا الحكم.
وأما قوله إذا زنت ولم تحصن فقد اختلف الناس في هذه اللفظة
فقال بعضهم إنها غير محفوظة.
وقد روي هذا الحديث من طريق غير هذا ليس فيه ذكر الإحصان.
وقال بعضهم إنما هو مسألة عن أمة زنت ولا زوج لها فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: تجلد أي
(3/334)
كما تجلد ذوات الزوج وإنما هو اتفلق حال في
المسؤول عنه وليس بشرط يتعلق به في الحكم فيختلف من أجل
وجوده وعدمه.
وقد اختلف الناس في المملوكة إذا زنت ولا زوج لها، فروي عن
ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لا حد عليها حتى تحصن وكذلك
قال طاوس.
وقرأ ابن عباس {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما
على المحصنات من العذاب} [النساء: 25] وقرأها أحصن بضم
الألف.
وقال أكثر الفقهاء تجلد وإن لم تتزوج ومعنى الإحصان فيهن
الإسلام.
وقرأها عاصم والأعمش وحمزة والكسائي أحصن مفتوحة الألف
بمعنى أسلمن. والضفير الحبل المفتول.
وفيه دليل على أن الزنا عيب في الرقيق يرد به ولذلك حط من
القيمة وهضم من الثمن.
وفيه دليل على جواز بيع غير المحجورعليه ماله بما لا
يتغابن به الناس.
قال أبو داود: حدثنا ابن نفيل حدثنا محمد بن سلمة عن محمد
بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه، عَن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، وقال إن
زنت فليضربها كتاب الله ولا يثرّب عليها.
معنى التثريب التعيير والتبكيت يقول لا يقتصر على أن
يبكتها بفعلها أو يسبها ويعطل الحد الواجب عليها.
وفيه دليل على أن للسيد أن يقيم الحد على مملوكه دون
السلطان.
وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما والحسن
البصري والزهري، وبه قال سفيان الثوري ومالك والأوزاعي
والشافعي.
(3/335)
وقال أبو حنيفة وأصحابه يرفعها إلى السلطان
ولا يتولى إقامة الحد عليها.
في قوله فليضربها كتاب الله دليل على أن الضرب المأمور به
هو تمام الحد المذكور في الكتاب الذي هو عقوبة الزاني دون
ضرب التعزير والتأديب.
وقال أبو ثور في هذا الحديث إيجاب الحد وإيجاب للبيع أيضاً
لا يمسكها إذا زنت أربعاً.
ومن باب إقامة الحد على المريض
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني حدثنا ابن وهب
أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو أمامة عن سهل بن حنيف
أنه أخبره بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من
الأنصار أنه اشتكى رجل منهم حتى أضني فعاد جلدة على عظم
فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها، فلما دخل
عليه رجال من قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال استفتوا لي
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني قد وقعت على جارية دخلت
علي فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا ما
رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به لو حملناه
إليك لتفسخت عظامه ما هو إلاّ جلد على عظم فأمر به رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه
بها ضربة واحدة.
قوله أضني معناه أصابه الضنى وهو شدة المرض وسوء الحال حتى
ينحل بدنه ويهزل، ويقال إن النضى انتكاس العلة.
وفيه من الفقه أن المريض إذا كان ميؤوساً منه ومن معاودة
الصحة والقوة إياه وقد وجب عليه الحد فإنه يتناول بالضرب
الخفيف الذي لا يهده.
وممن قال من العلماء بظاهر هذا الحديث الشافعي، وقال إذا
ضربه ضربة واحدة بما يجمع له من الشماريخ فعلم أن قد وصلت
كلها إليه ووقعت به أجزأه ذلك.
(3/336)
وكان بعض أصحاب الشافعي يقول إذا كان
السارق ضعيف البدن فخيف عليه من القطع التلف لم يقطع.
وقال بعضهم هذا الحديث أصل في وجوب القصاص على من قتل
رجلاً مريضا بنوع من الضرب لو ضرب بمثله صحيحاً لم يهلك
فإنه يعتبر خلقة المقتول في الضعف والقوة وبنيته في احتمال
الألم فإن من الناس من لو ضرب الضرب المبرح الشديد لاحتمله
بدنه وسلم عليه، ومنهم من لا يحتمله ويسرع إليه التلف
بالضرب الذي ليس بالمبرح الشديد فإذا مات هذا الضعيف كان
ضاربه قاتلاً له وكان حكم الآخر بخلافه لقوة هذا وضعف ذلك.
قلت وهذا قول فيه نظر وضبط ذلك غير ممكن واعتباره متعذر
والله أعلم.
وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه لا نعرف الحد إلاّ حداً
واحداً الصحيح والزمن فيه سواء.
قالوا ولو جاز هذا لجاز مثله في الحامل أن تضرب بشماريخ
النخل ونحوه، فلما أجمعوا أنه لا يجري ذلك في الحامل كان
الزمن مثل ذلك.
ومن باب الحد في الخمر
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن على ومحمد بن المثنى وهذا
حديثه قالا: حَدَّثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن محمد بن علي
بن ركانة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لم يَقِت في الخمر حداً.
وقال ابن عباس شرب رجل فسكر فلقي يميل في الفج فانطلق به
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما حاذى بدار العباس رضي
الله عنه انفلت فدخل على العباس فالتزمه فذكر
(3/337)
ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال
أفعلها ولم يأمر فيه بشيء.
قلت في هذا دليل على أن حد الخمر أخف الحدود وإن كان الخطب
فيه أيسر منه في سائر الفواحش.
وقد يحتمل أن يكون إنما لم يتعرض له بعد دخوله دار العباس
رضي الله عنه من أجل أنه لم يكن ثبت عليه الحد بإقرار منه
أو شهادة عدول، وإنما لقي في الفج يميل فظن به السكر فلم
يكشف عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه على ذلك
والله أعلم.
والفج الطريق. وقوله لم يقت أي لم يوقت يقال وقت يقت ومنه
قول الله تعالى {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً
موقوتا} [النساء: 103] .
قال أبو داود: حدثنا مسدد وموسى بن إسماعيل المعنى قالا:
حَدَّثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا عبد الله الداناج
حدثني حضين بن المنذر الرقاشي هو أبو ساسان قال شهد عثمان
بن عفان رضي الله عنه وأتي بالوليد بن عتبة فشهد عليه
حمران ورجل آخر فشهد أحدهما أنه رآه يشربها، يَعني الخمر،
وشهد الآخر أن رآه يتقاياها، قال عثمان رضي الله عنه أنه
لم يتقاياها حتى شربها وقال لعلي كرم الله وجهه أقم عليه
الحد فقال علي للحسين رضي الله عنهما أقم عليه الحد فقال
الحسن رضي الله عنه ولِّ حارَّها من تولى قارَّها، فقال
علي كرم الله وجهه لعبد الله بن جعفر أقم عليه الحد فأخذ
السوط فجلده وعليّ يعد فلما بلغ أربعين قال حسبك جلد النبي
صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر رضي الله عنه
أربعين وجلد عمر رضي الله عنه ثمانين وكلٌ سنة وهذا أحب
إليَّ منه.
قوله ول حارها من تولى قارها مَثَل أي ول العقوبة والضرب
من توليه العمل والنفع. والقار البارد.
(3/338)
وقال الأصمعي معناه ولِّ شديدها من تولى
هينها وكلاهما قريب.
وفي قول علي رضي الله عنه عند الأربعين حسبك دليل على أن
أصل الحد في الخمر إنما هو أربعون وما وراءها تعزير.
وللإمام أن يزيد في العقوية إذا أداه اجتهاده إلى ذلك، ولو
كانت الثمانون حداً ما كان لأحد فيه الخيار، وإلى هذا ذهب
الشافعي.
وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه الحد في الخمر ثمانون ولا
خيار للإمام فيه.
وقوله وكل سنة يريد أن الأربعين سنة قد عمل بها النبي صلى
الله عليه وسلم في زمانه، والثمانون سنة رآها عمر رضي الله
عنه ووافقه من الصحابة علي فصارت سنة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر
وعمر.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان عن عاصم،
عَن أبي صالح عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: إذا شربوا الخمر فاجلدوهم ثم إن شربوا
فاجلدوهم ثم إن شربوا فاجلدوهم ثم إن شربوا فاقتلوهم.
قلت قد يرد الأمر بالوعيد ولا يراد به وقوع الفعل فإنما
يقصد به الردع والتحذير كقوله صلى الله عليه وسلم من قتل
عبده قتلناه ومن جذع عبده جذعناه وهو لو قتل عبده لم يقتل
به في قول عامة العلماء، وكذلك لو جذعه لم يجذع له
بالاتفاق.
وقد يحتمل أن يكون القتل في الخامسة واجبا ثم نسخ لحصول
الإجماع من الأمة على أنه لا يقتل. وقد روي عن قبيصة بن
ذؤيب ما يدل على ذلك.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبدة الضبي حدثنا سفيان حدثنا
الزهري أخبرنا قبيصة بن ذؤيب أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد
فاجلدوه فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه فأتي برجل
قد شرب فجلده ثم أتي به فجلده ثم أتي به فجلده ثم أتي
فجلده ورفع القتل وكانت رخصة.
(3/339)
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري
حدثنا ابن وهب أخبرني أسامة بن زيد أن ابن شهاب حدثه عن
عبد الرحمن بن أزهر قال كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم الآن وهو في الرحال يلتمس رحل خالد بن الوليد
فبينما هو كذلك إذ أتي برجل قد شرب الخمر فقال للناس
اضربوه فمنهم من ضربه بالنعال ومنهم من ضربه بالعصا ومنهم
من ضربه بالميتخة. قال ابن وهب الجريدة الرطبة.
قلت هكذا قال الميتخة الياء قبل التاء وهي اسم للعصا
الخفيفة وهي أيضاً المتيخة التاء المعجمة من فوق قبل الياء
وسميت متيخة لأنها تتوخ أي تأخذ في المضروب من قولك تاخت
أصبعي في الطين.
ومن باب في التعزير
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن
أبي حبيب عن بكير بن عبد الله الأشج عن سليمان بن يسار عن
عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عَن أبي بردة الأنصاري أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا يجلد فوق عشر
جلدات إلاّ في حد من حدود الله.
قلت قد اختلفت أقاويل العلماء في مقدار التعزير ويشبه أن
يكون السبب في اختلاف مقاديره عندهم ما رواه من اختلاف
مقادير الجنايات والأجرام فزادوا في الأدب ونقصوا منه على
حسب ذلك.
وكان أحمد بن حنبل يقول للرجل أن يضرب عبده على ترك الصلاة
وعلى المعصية فلا يضرب فوق عشر جلدات، وكذلك قال إسحاق بن
راهويه.
وكان الشعبي يقول التعزير ما بين سوط إلى ثلاثين.
وقال الشافعي لا يبلغ بعقوبته أربعين وكذلك قال أبو حنيفة
ومحمد بن الحسن.
(3/340)
وقال أبو يوسف التعزير على قدر عظم الذنب
وصغره على قدر ما يرى الحاكم من احتمال المضروب فيما بينه
وبين أقل من ثمانين.
وعن ابن أبي ليلى إلى خمسة وسبعين سوطاً.
وقال مالك بن أنس التعزير على قدر الجرم فإن كان جرمه أعظم
من القذف ضرب مائة أو أكثر.
وقال أبو ثور التعزير على قدر الجناية وتسرع الفاعل في
الشر وعلى ما يكون أنكل وأبلغ في الأدب وإن جاوز التعزير
الحد إذا كان الجرم عظيماً مثل أن يقتل الرجل عبده أو يقطع
منه شيئا أو يعاقبه عقوبة يسرف فيها فيكون العقوبة فيه على
قدر ذلك وما يراه الإمام إذا كان مأموناً عدلاً.
وقال بعضهم لا يبلغ بالأدب عشرين لأنها أقل الحدود وذلك أن
العبد يضرب في شرب الخمر عشرون.
وقد تأول بعض أصحاب الشافعي قوله في جواز الزيادة على
الجلدات العشر إلى ما دون الأربعين أنها لا تزداد بالأسواط
ولكن بالأيدي والنعال والثياب ونحوها على ما يراه الإمام
كما روي فيه حديث عبد الرحمن بن الأزهر.
قلت التعزير على مذاهب أكثر الفقهاء إنما هو أدب يقصر على
مقدار أقل الحدود إذا كانت الجناية الموجبة للتعزير قاصرة
عن مبلغ الجناية الموجبة للحد كما أن أرش الجناية الواقعة
في العضو أبداً قاصر عن كمال ذلك العضو وذلك أن العضو إذا
كان في كله شيء معلوم فوقعت الجناية على بعضه كان معقولاً
أنه لا يستحق فيه كل ما في العضو.
(3/341)
|