معالم السنن

كتاب الطلاق
ومن باب المرأة تسأل زوجها طلاق امرأة له
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك، عَن أبي الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صَحْفَتَها ولتنكح فإنما لها ما قدر لها.
قال الشيخ قوله لتستفرغ صحفتها مثل يريد بذلك الاستئثار عليها بحظها فتكون كمن أفرغ صحفة غيره فكفأ ما في انائه فقلبه في إناء نفسه.

(3/230)


ومن باب كراهية الطلاق
قال أبو داود: حدثنا كثير بن عبيد، قال: حَدَّثنا محمد بن خالد عن معروف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ابغض الحلال إلى الله الطلاق.
قال الشيخ المشهور في هذا عن محارب بن دثار مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه ابن عمر، ومعنى الكراهة فيه منصرف إلى السبب الجالب للطلاق وهو سوء العشرة وقلة الموافقة لا إلى نفس الطلاق فقد أباح الله الطلاق وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه طلق بعض نسائه ثم راجعها، وكانت لابن عمر امرأة يحبها وكان عمر رضي الله عنه يكره صحبته إياها فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا به وقال يا عبد الله طلق امرأتك فطلقها وهو لا يأمر بأمر يكرهه الله.

ومن باب طلاق السنة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم أن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء.
قال الشيخ قوله فتلك العدة التي أمرالله أن يطلق لها النساء، فيه بيان أن الاقراء التي تعتد بها هي الاطهار دون الحيض، وذلك أن قوله فتلك إشارة إلى ما دل الكلام المتقدم.
وقد تقدم ذكر الحيض قبل ذلك فلم يعلق الحكم عليه ثم أتبعه ذكر الطهر

(3/231)


وقال عند ذلك فتلك العدة التي أمر الله فعلم أنه وقت العدة وزمانه.
ومعنى الكلام في قوله لها معنى في يريد إنهاء العدة التي يطلق فيها النساء كما يقول القائل كتبت لخمس خلون من الشهر أي وقت خلا فيه من الشهر خمس ليال وإذا كان وقت الطلاق الطهر ثبت أنه محل العدة، وهو معنى قوله فطلقوهن لعدتهن أي في وقت عدتهن. وبيان ذلك قوله واحصوا العدة فعلم أن العدة التي أمر أن يطلق لها هي التي تحيضها، ومما يؤكد ذلك قوله ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق فدل أن الطهر هو المعتد به في الاقراء ولولا أنه كذلك لأمره بأن يهل حتى يكون آخر وقت الطهر وتشارف الحيض فيقول له حينئذ طلق لأنه إنما نهى عن الطلاق في الحيض لئلا يطول عليها العدة فلم يكن ليجوزه في هذا وذلك المعنى بعينه موجود.
وفي الحديث دليل على أن الطلاق في الحيض بدعة وأن من طلق في الحيض وكانت المرأة مدخولاً بها وقد بقي من طلاقها شيء فان عليه أن يراجعها.
وفي قوله وإن شاء طلق قبل أن يمس دليل على أن من طلق امرأته في طهر كان أصابها فيه فإن عليه مراجعتها لأن كل واحد منهما مطلق لغير السنة وإذا اجتمعا في هذه العلة وجب أن يجتمعا في وجوب حكم الرجعة وهذا على معنى وجوب استعمال حكم السنة فيه.
وقال مالك بن أنس يلزمه لزوماً لا يسعه غير ذلك.
وفيه دليل على أن طلاق البدعة يقع كوقوعه للسنة إذ لو لم يكن واقعاً لم يكن لمراجعته إياها معنى.
وقالت الخوارج والروافض إذا طلق في وقت الحيض لم تطلق.

(3/232)


وفيه دلالة على أنه لا يحتاج في مراجعتها إلى إذن الولي أو رضاء المرأة لأنه أمره بمراجعتها وأطلق فعلها له من غير شرط قرنه به.
وفيه مستدل لمن ذهب إلى أن السنة أن لا يطلق أكثر من واحدة فان جمع بين التطليقتين أو الثلاثة فهو بدعة، وهو قول مالك وأصحاب الرأي. ووجه الاستدلال منه أنه لما أمره أن لا يطلق في الطهر الذي يلي الحيض علم أنه ليس له أن يطلقها بعد الطلقة الأولى حتى يستبرئها بحيضة فيخرج من هذا ان ليس للرجل إيقاع تطليقتين في قرء واحد.
وقال الشافعي إنما هي في الوقت دون العدد وله أن يطلقها واحدة وثنتين وثلاثاً، وتأول أصحابه الخبر على أنه إنما منعه من طلاقها في ذلك الطهر لئلا تطول عليها العدة لأن المراجعة لم تكن تنفعها حينئذ فإذا كان كذلك كان يجب عليه أن يجامعها في الطهر ليتحقق معنى المراجعة، وإذا جامعها لم يكن له أن يطلق لأن الطلاق السني هو الذي يقع في طهر لم يجامع فيه على أن أكثر الروايات أنه قال مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق، هكذا رواية يونس بن جبير عن ابن عمر وكذلك رواية أنس بن سيرين وزيد بن أسلم وأبو وائل، وكذلك رواه سالم عن ابن عمر من طريق محمد بن عبد الرحمن عن سالم وإنما روى هذه الزيادة نافع عنه، وقد روي أيضاً عن سالم من طريق الزهري.
وقد زعم بعض أهل العلم أن من قال لزوجته وهي حائض إذا طهرت فأنت طالق فإنه غير مطلق للسنة، واستدل بقوله ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق،

(3/233)


قال فالمطلق للسنة هو الذي يكون مخيراً في وقت طلاقه بين إيقاع الطلاق وتركه ومن سبق منه هذا القول في وقت الحيض زائل عنه الخيار في وقت الطهر.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا وكيع عن سفيان عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن سالم عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها ثم ليطلقها إذا طهرت أو وهي حامل.
قال الشيخ في هذا بيان أنه إذا طلقها وهي حامل فهو مطلق للسنة ويطلقها أي وقت شاء في الحمل وهو قول عامة العلماء، إلاّ أن أصحاب الرأي اختلفوا فيها فقال أبو حنيفة وأبو يوسف يجعل بين وقوع التطليقتين شهراً حتى يستوفي الطلقات الثلاث.
وقال محمد بن الحسن وزفر لا يوقع عليها وهي حامل أكثر من تطليقة واحدة ويتركها حتى تضع حملها ثم يوقع سائر التطليقات.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي قال حدثني يزيد بن إبراهيم عن محمد بن سيرين قال حدثني يونس بن جبير قال سألت عبد الله بن عمر قال قلت رجل طلق امرأته وهي حائض، قال تعرف عبد الله بن عمر قلت نعم، قال فإن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال مره فليراجعها ثم ليطلقها في قبل عدتها، قال فقلت فيعتد بها قال فمه أرأيت إن عجز واستحمق.
قال الشيخ فيه بيان إن الطلاق في الحيض واقع ولولا أنه قد وقع لم يكن لأمره بالمراجعة معنى.
وفي قوله أرأيت إن عجز واستحمق حذف واضمار كأنه يقول أرأيت إن

(3/234)


عجز واستحمق أسقط عنه الطلاق حمقه أو يبطله عجزه.
وفي قوله ثم ليطلقها في قبل عدتها بيان أنها تستقبل عدتها وتنشئها من لدن وقت وقوع الطلاق وهي حال الطهر.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع قال كيف ترى في رجل طلق امرأته، حائضاً قال طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض فسأل عمر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، فقال عبد الله فردها عليّ ولم يرها شيئاً.
قال الشيخ حديث يونس بن جبير أثبت من هذا، وقال أبو داود جاءت الأحاديث كلها بخلاف ما رواه أبو الزبير، وقال أهل الحديث لم يرْو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا، وقد يحتمل أن يكون معناه أنه لم يره شيئا باتاً يحرم معه المراجعة ولا تحل له إلاّ بعد زوج أو لم يره شيئاً جائزاً في السنة ماضياً في حكم الاختيار وإن كان لازماً على سبيل الكراهة والله أعلم.

ومن باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني بعض بني رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن عكرمة عن ابن عباس قال طلق عبد يزيد أبو ركانة أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ما يغني عني إلاّ كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فدعا بركانة واخوته ثم قال لجلسائه

(3/235)


أترون فلاناً يشبه منه كذا أو كذا من عبد يزيد، قالوا نعم قال لعبد يزيد طلقها ففعل، ثم قال راجع امرأتك أم ركانة، فقال إني طلقتها ثلاثاً يا رسول الله ققال قد علمت ارجعها وتلا {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] الآية.
قال الشيخ في إسناد هذا الحديث مقال لأن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع ولم يسمعه والمجهول لا يقوم به الحجة.
وقد روى أبو داود هذا الحديث بإسناد أجود منه أن ركانة طلق امرأته البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أردت إلاّ واحدة فقال ركانة والله ما أردت إلاّ واحدة فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلقها الثانية في زمان عمر والثالثة في زمان عثمان رضي الله عنهما.
قال أبو داود: حدثنا ابن السرح وإبراهيم بن خالد الكلبي في آخرين قالوا حدثنا الشافعي قال حدثني عمي محمد بن علي بن شافع عن عبد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة وذكر الحديث، قال أبو داود وهذا أولى لأنهم ولد الرجل وأهله وهم أعلم به.
قال الشيخ قد يحتمل أن يكون حديث ابن جريج إنما رواه الراوي على المعنى دون اللفظ وذلك أن الناس قد اختلفوا في البتة، فقال بعضهم هي ثلاثة، وقال بعضهم هي واحدة وكأن الراوي له ممن يذهب مذهب الثلاث فحكي أنه قال إني طلقتها ثلاثا يريد البتة التي حكمها عنده حكم الثلاث والله أعلم.
وكان أحمد بن حنبل يضعف طرق هذه الأحاديث كلها.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حَدَّثنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج، قال أخبرني ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس أتعلم إنما

(3/236)


كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثاً إمارة عمر قال ابن عباس نعم.
قال الشيخ اختلف الناس في تأويل ما روي من هذا عن ابن عباس فقال بعضهم قد كان هذا في الصدر الأول ثم نسخ.
قال الشيخ وهذا لا وجه له لأن النسخ إنما يكون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم والوحي غير منقطع فأما في زمان عمر رضي الله عنه فلا معنى للنسخ، وقد استقرت أحكام الشريعة وانقطع الوحي وإنما هو زمان الاجتهاد والرأي فيما لم يبلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نص وتوقيف وحدثني الحسن بن يحيى عن ابن المنذر، وروى هذا الحديث، ثم روي عن ابن عبد الحكم عن ابن وهب عن سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لرجل طلق امرأته ثلاثا حرمت عليك، قال ابن المنذر فغير جائز أن يظن بابن عباس أن يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ثم يفتي بخلافه.
قال الشيخ ويشبه أن يكون معنى الحديث منصرفا إلى طلاق البتة، لأنه قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ركانة أنه جعل البتة واحدة وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يراها واحدة، ثم تتابع الناس في ذلك فألزمهم الثلاث وإليه ذهب غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم، روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه جعلها ثلاثاً، وكذلك روي عن ابن عمر وكان يقول ابت الطلاق طلاق البتة، وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعروة وعمر بن عبد العزيز والزهري، وبه قال مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد بن حنبل. وهذا كصنيعه بشارب الخمر فإن الحد كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر أربعين

(3/237)


ثم ان عمر لما رأى الناس تتابعوا في الخمر واستخفوا بالعقوبة فيها، قال أرى أن تبلغ فيها حد المفتري لأنه إذا سكر هذى، وإذا هذي افترى وكان ذلك عن ملأ من الصحابة فلا ينكر أن يكون الأمر في طلاق البتة على شاكلته.
وفيه وجه آخر ذهب إليه أبو العباس بن شريح قال يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص من الطلاق الثلاث وهو أن يفرق بين اللفظ كأنه يقول أنت طالق أنت طالق أنت طالق فكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر والناس على صدقهم وسلامتهم ولم يكن ظهر فيهم الخب والخداع، فكانوا يصدقون أنهم أرادوا به التوكيد ولا يريدون الثلاث، فلما رأى عمر رضي الله عنه في زمانه أموراً ظهرت وأحوالاً تغيرت منه من حمل اللفظ على التكرار وألزمهم الثلاث.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الملك بن مروان،، قال: حَدَّثنا أبو النعمان، قال: حَدَّثنا حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس؛ قال أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من إمارة عمر؛ فلما رأى الناس تتابعوا فيها قال أجيزوهن عليهم.
قال الشيخ وهذا تأويل ثالث وهو أن ذلك إنما جاء في طلاق غير المدخول بها، وقد ذهب إلى هذا الرأي جماعة من أصحاب ابن عباس منهم سعيد بن جبير وطاوس وأبو الشعثاء وعطاء وعمرو بن دينار وقالوا من طلق البكر ثلاثاً فهي واحدة. وعامة أهل العلم على خلاف قولهم.
وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن وابن أبي ليلى والأوزاعي والليث بن سعد

(3/238)


ومالك بن أنس فيمن تابع بين كلامه فقال لإمرأته التي لم يدخل بها أنت طالق أنت طالق أنت طالق ثلاثاً لم يحل له حتى تنكح زوجا غيره، غير أن مالكاً قال إذا لم يكن له نية، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي والشافعي وأحمد وإسحاق تبين بالأولى ولا حكم لما بعدها.

ومن باب في سنة طلاق العبد
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب قال حدثني يحيى بن سعيد، قال: حَدَّثنا علي بن المبارك قال حدثني يحيى بن كثير أن عمر بن معتب أخبره أن أبا حسن مولى بني نوفل أخبره أنه استفتى ابن عباس في مملوك كانت تحته مملوكة فطلقها تطليقتين ثم أعتقها بعد ذلك هل يصلح له أن يخطبها قال نعم قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ لم يذهب إلى هذا أحد من العلماء فيما أعلم، وفي إسناده مقال، وقد ذكرأبو داود عن أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق أن ابن المبارك قال (1) أبوالحسن هذا قال لقد تحمل صخرة عظيمة.
قال الشيخ يريد بذلك إنكار ما جاء به من الحديث ومذهب عامة الفقهاء أن المملوكة إذا كانت تحت مملوك فطلقها تطليقين أنها لا تحل له إلاّ بعد زوج.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن مسعود، قال: حَدَّثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن مظاهر عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان قال أبو داود الحديثان جميعا ليس العمل عليهما.
قال الشيخ اختلف العلماء في هذا فقالت طائفة الطلاق بالرجال والعدة بالنساء
_________
(1) هنا بياض في النسخة المصرية قدر كلمة وهي محررة في الطرطوشية (ص298) إلا أن معظمها قد أكلتها الأرضة وتعسر عليّ فهمها ولعلها لما سمع إلخ آدم.

(3/239)


روي ذلك عن ابن عمر وزيد بن ثابت وابن عباس وإليه ذهب عطاء بن أبي رباح وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
وإذا كانت أمة تحت حر فطلاقها ثلاث وعدتها قرءان وإن كانت حرة تحت عبد فطلاقها اثنتان وعدتها ثلاثة اقراء في قول هؤلاء.
وقال أبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري الحرة تعتد ثلاثة اقراء كانت تحت حر أو عبد وطلاقها ثلاث كالعدة، والأمة تعتد قرأين وتطلق بطلقتين سواء كانت تحت حر أو عبد.
قال الشيخ والحديث حجة لأهل العراق إن ثبت ولكن أهل الحديث ضعفوه ومنهم من تأوله على أن يكون الزوج عبداً.

ومن باب الطلاق قبل النكاح
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حَدَّثنا هشام قال وحدثنا عبد الله بن الصباح العطار، قال: حَدَّثنا عبد العزيز بن عبد الصمد قالا: حَدَّثنا الوراق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا طلاق إلاّ فيما تملك ولا عتق إلاّ فيما تملك، ولا بيع إلاّ فيما تملك، زاد ابن الصباح ولا وفاء نذر فيما لا تملك.
قال الشيخ قوله لا طلاق ومعناه نفي حكم الطلاق المرسل على المرأة قبل أن تملك بعقد النكاح وهويقتضي نفي وقوعه على العموم سواء كان في امرأة بعينها أو في نساء لا بأعيانهن.
وقد اختلف الناس في هذا فروي عن علي وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أنهم لم يروا طلاقاً إلاّ بعد النكاح، وروي ذلك عن شريح وابن المسيب وعطاء

(3/240)


وطاوس وسعيد بن جبير وعروة وعكرمة وقتادة وإليه ذهب الشافعي.
وروي عن ابن مسعود إيقاع الطلاق قبل النكاح وبه قال الزهري وإليه ذهب أصحاب الرأي.
وقال مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى إن خص امرأة بعينها أو قال من قبيلة أو بلد بعينه جاز وإن عم فليس بشيء، وكذلك قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن.
وقال سفيان الثوري نحواً من ذلك إذا قال إلى سنة أو وقت معلوم.
وقال أحمد بن حنبل وأبو عبيد إن كان نكح لم يؤمر بالفراق وإن لم يكن نكح لم يؤمر بالتزويج، وقد روي نحواً من هذا عن الأوزاعي.
قال الشيخ وأسعد الناس بهذا الحديث من قال بظاهره وأجراه على عمومه إذ لا حجة مع من فرق بين حال وحال والحديث حديث حسن.
وقال أبو عيسى الترمذي سألت محمد بن إسماعيل فقلت أي شيء أصح في الطلاق قبل النكاح فقال حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وسئل ابن عباس عن هذا فقرأ قوله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} [الأحزاب: 49] الآية.
وقوله ولا بيع إلاّ فيما تملك لا أعلم خلافاً أنه لوباع سلعة لا يملكها ثم ملكها أن البيع لا يصح فيها، فكذلك إذا طلق امرأة لم يملكها ثم ملكها وكذلك هذا في النذر وسنذكر الخلاف فيه في موضعه إن شاء الله.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء، قال: حَدَّثنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير قال حدثني عبد الرحمن بن الحارث عن عمرو بن شعيب بإسناده ومعناه زاد ومن

(3/241)


حلف على قطيعة رحم فلا يمين له.
قال الشيخ هذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون أراد به اليمين المطلقة من الايمان فيكون معنى قوله لا يمين له أي لا يبر في يمينه ولكنه يحنث ويكفر كما روي أنه قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه.
والوجه الآخر أن يكون أراد به النذر الذي مخرجه مخرج اليمين كقوله إن فعلت كذا فلله عليّ أن أذبح ولدي فإن هذه يمين باطلة لا يلزم الوفاء بها ولا يلزمه فيها كفارة ولا فدية، وكذلك هذا فيمن نذر أن يذبح ولده على سبيل التبرر والتقرب فالنذر لا ينعقد فيه والوفاء لا يلزم به وليس فيه كفارة والله أعلم.

ومن باب الطلاق على إغلاق
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري أن يعقوب بن إبراهيم حدثهم قال حدثني أبي، عَن أبي إسحاق عن ثور بن يزيد الحمصي عن محمد بن عبيد الله بن صالح الذي كان يسكن إيلياء عن صفية بنت شيبة عن عائشة رضي الله عنها قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا طلاق ولا عتاق في اغلاق.
قال الشيخ معنى الإغلاق الإكراه وكان عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم لا يرون طلاق المكره طلاقاً.
وهو قول شريح وعطاء وطاوس وجابر بن زيد والحسن وعمر بن عبد العزيز والقاسم وسالم. وإليه ذهب مالك بن أنس والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وكان الشعبي والنخعي والزهري وقتادة يرون طلاق المكره جائزاً.

(3/242)


وإليه ذهب أصحاب الرأي وقالوا في بيع المكره أنه غير جائز.
وقال شريح القيد كره والوعيد كره، وقال أحمد بن حنبل الكره إذا كان القتل أو الضرب الشديد.
وقال أصحاب الشافعي في الكره إنما لا يمضي طلاقه إذا ورى عنه بشيء مثل أن ينوي طلاقاً من وثاق أو نحوه كما يكره على الكفر فيؤدي وهويعتقد بقلبه الايمان.

ومن باب الطلاق على الهزل
قال أبو داود: حدثنا القعنبي، قال: حَدَّثنا عبد العزيز، يَعني ابن محمد عن عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن ماهك، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة.
قال الشيخ اتفق عامة أهل العلم على أن صريح لفظ الطلاق إذا جرى على لسان البالغ العاقل فإنه مؤاخذ به ولا ينفعه أن يقول كنت لاعباً أو هازلاً أو لم أنو به طلاقاً أو ما أشبه ذلك من الأمور.
واحتج بعض العلماء في ذلك بقول الله تعالى {ولا تتخذوا آيات الله هزواً} [البقرة: 231] وقال لو أطلق للناس ذلك لتعطلت الأحكام ولم يشأ مطلق أو ناكح أو معتق أن يقول كنت في قولي هازلاً فيكون في ذلك إبطال أحكام الله سبحانه وتعالى وذلك غير جائز فكل من تكلم بشيء مما جاء ذكره في هذا الحديث لزمه حكمه ولم يقبل منه أن يدعى خلافه وذلك تأكيد لأمر الفروج واحتياط له والله أعلم.
واختلفوا في الخطأ والنسيان في الطلاق فقال عطاء وعمرو بن دينار فيمن

(3/243)


حلف على أمرلا يفعله بالطلاق ففعله ناسياً أنه لا يحنث.
وقال الزهري ومكحول وقتادة يحنث وإليه ذهب مالك وأصحاب الرأي وهو قول الأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى.
وقال الشافعي يحنث في الحكم وكان أحمد بن حنبل يحنثه في الطلاق ويقف عند إيجاب الحنث في سائر الايمان إذا كان ناسياً.

ومن باب ما عنى به الطلاق والنيات فيه
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير، قال: حَدَّثنا سفيان، قال: حَدَّثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص الليثي قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
قال الشيخ قوله إنما الأعمال بالنيات معناه أن صحة الأعمال ووجوب أحكامها إنما يكون بالنية فإن النية هي المصرفة لها إلى جهاتها ولم يرد به أعيان الأعمال لأن أعيانها حاصلة بغير نية ولو كان المراد به أعيانها لكان خلفاً من القول وكلمة إنما مرصدة لإثبات الشيء ونفي ما عداه.
وفي الحديث دليل على أن المطلق إذا طلق بصريح لفظ الطلاق أو ببعض المكاني التي يطلق بها ونوى عدداً من أعداد الطلاق كان ما نواه من العدد واقعا واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، وإلى هذه الجملة ذهب الشافعي. وصرف الألفاظ على مصارف النيات، وقال في الرجل يقول لامرأته أنت طالق ونوى به ثلاثاً إنما تطلق ثلاثاً، وكذلك قال مالك بن أنس وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد

(3/244)


وقد روي ذلك عن عروة بن الزبير.
وقال أصحاب الرأي واحدة وهو أحق بها وكذلك قال سفيان الثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل.
وقال أصحاب الرأي في المكانى مثل قوله أنت بائن أو بتة فإنه يسأل عن نيته فإن لم ينو الطلاق لم يقع عليها طلاق وإن نوى الطلاق فهو ما نوى إن أراد واحدة فواحدة وإن نوى ثنتين فهي واحدة بائنة لأنها كلمة واحدة ولا يقع على اثنتين وإن نوى ثلاثا فهو ثلاث. وإن نوى الطلاق ولم ينو عدداً منه فهي واحدة بائنة، وكذلك كل كلام يشبه الفرقة مما أراد به الطلاق فهو مثل هذا كقوله حبلك على غاربك أو قد خليت سبيلك ولا ملك لي عليك والحقي بأهلك واستبري واعتدي.
قال الشيخ وهذا كله عند الشافعي سواء فإن كان لم يرد به طلاقاً فليس بطلاق وإن أراد طلاقاً ولم ينو عدداً فهو تطليقة واحدة يملك فيها الرجعة وإن نوى ثنتين فهو ثنتان وإن نوى ثلاثاً فهو ثلاث وهذا أشبه بمعنى الحديث والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وسليمان بن داود المهري قالا: حَدَّثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمى، قال سمعت كعب بن مالك فساق قصته في تبوك قال حتى إذا مضت أربعون من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل بها، قال لا بل اعتزلها فلا تقربها، فقلت لامرأتي الحقي بأهلك وكوني عندهم حتى يقضي

(3/245)


الله في هذا الأمر.
قال الشيخ في هذا دلالة على أنه قال لها الحقي بأهلك ولم يرد به طلاقا فإنه لا يكون طلاقا والكنايات كلها على قياسه. وقال أبو عبيد في قوله الحقي بأهلك هو تطليقة يكون فيها البعل مالكاً للرجعة الا أن يكون أراد ثلاثاً.

ومن باب في الخيار
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا أبو عَوانة عن الأعمش، عَن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعد ذلك شيئا.
قال الشيخ فيه دلالة على أنهن لو كن اخترن أنفسهن كان ذلك طلاقاً.
وقد اختلف أهل العلم فيمن يخير امرأته فقال أكثر الفقهاء أمرها بيدها ما لم تقم من محلها فإن قامت ولم تطلق نفسها فقد خرج الأمر من يدها فيما بعد وإلى هذا ذهب مالك والثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي وقد روي ذلك عن شريح ومسروق وعطاء ومجاهد والشعبي والنخعي.
وقال الزهري وقتادة والحسن أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره ولا يبطل خيارها بقيامها من المجلس.
واختلفوا فيه إذا اختارت نفسها فروي عن عمر وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا هي واحدة وهي أحق بها وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وسفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق.

(3/246)


وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال هي واحدة بائنة وبه قال أصحاب الرأي.
وقال مالك بن أنس إذا اختارت نفسها فهي ثلاث وإن اختارت زوجها يكون واحدة وهو أحق بها وروي ذلك عن الحسن البصري.

ومن باب في البتة
قال أبو داود: حدثنا ابن السرح وإبراهيم بن خالد والكلبي وأبو ثور في آخرين قالوا حدثنا محمد بن إدريس الشافعي حدثني عمي محمد بن علي بن شافع عن عبد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال والله ما أردت إلاّ واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما أردت إلاّ واحدة، فقال ركانة والله ما أردت إلاّ واحدة فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلقها الثانية في زمان عمر رضي الله عنه، والثالثة في زمان عثمان رضي الله عنه.
قال أبو داود أول لفظ إبراهيم وآخره لفظ ابن السرح.
قال الشيخ فيه بيان أن طلاق البتة واحدة إذا لم يرد بها أكثر من واحدة وأنها رجعية غير بائن.
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حلفه في الطلاق فدل أن للايمان مدخلاً في الأنكحة وأحكام الفروج كهو في الأموال.
وفيه أن يمين الحكم إنما تصح إذا كان باستحلاف من الحاكم دون ما كان تبرعاً منها من قبل الحالف.
وفيه أن اليمين باسم النساء كاف على التجريد وإن لم يصلها بالتغليظ مثل

(3/247)


أن يقول بالله العظيم أو بالله الذي لا إله إلاّ هو الرحمن الرحيم الطالب الغالب مع سائر ما يقرن به من الألفاط التي قد جرت به عادة بعض الحكام.
وقد اختلف الناس في البتة فذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أنها واحدة يملك الرجعة فيها، وروي نحوه عن سعيد بن جبير.
وقال عطاء يدين فإن أراد واحدة فهي واحدة وإن أراد ثلاثا فثلاث، وهو قول الشافعي، وقال في البتة أنها ثلاث وروي ذلك عن ابن عمر أيضاً وهو قول ابن المسيب وعروة بن الزبير والزهري. وبه قال مالك وابن أبي ليلى والأوزاعي.
وقال أحمد بن حنبل أخشى أن يكون ثلاثاً ولا أجترىء أفتي به.
وقال أصحاب الرأي هي واحدة بائنة إن لم يكن له نية وإن نوى ثلاثاً فهو ثلاث.

ومن باب الوسوسة في الطلاق
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حَدَّثنا هشام عن قتادة عن زرارة بن أوفى، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما لم تتكلم به أو تعمل به وبما حدثت به أنفسها.
قال الشيخ في هذا الحديث من الفقه أن حديث النفس وما يوسوس به قلب الإنسان لا حكم له في شيء من أمور الدين.
وفيه أنه إذا طلق امرأته بقلبه ولم يتكلم به بلسانه فإن الطلاق غير واقع، وإلى هذا ذهب عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وقتادة والثوري وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال الزهري إذا عزم على ذلك وقع الطلاق لفظ به أو لم يلفظ، وإلى هذا

(3/248)


ذهب مالك بن أنس والحديث حجة عليه.
وقد أجمعوا على أنه لوعزم على الظهار لم يلزمه حتى يلفظ به وهوبمعنى الطلاق وكذلك لو حدث نفسه بالقذف لم يكن قذفاً ولو حدث نفسه في الصلاة لم يكن عليه إعادة وقد حرم الله تعالى الكلام في الصلاة فلو كان حديث النفس بمعنى الكلام لكانت صلاته تبطل.
وإما إذا كتب بطلاق امرأته فقد يحتمل أن يكون ذلك طلاقاً لأنه قال ما لم تتكلم به أو تعمل به والكتابة نوع من العمل. إلاّ أنه قد اختلف العلماء في ذلك، فقال محمد بن الحسن إذا كتب بطلاق امرأته فقد لزمه الطلاق. وكذلك قال أحمد بن حنبل، وقال مالك والأوزاعي إذا كتب وأشهد عليه فله أن يرجع ما لم يوجه الكتاب، وإذا وجه الكتاب إليها فقد وقع الطلاق عند الشافعي وإذا كتب ولم يرد به طلاقا لم يقع.
وفرق بعضهم بين أن يكتبه في بياض وبين أن يكتبه على الأرض فأوقعه إذا كتب فيما يكتب فيه من ورق أو لوح ونحوهما وأبطله إذا كتب على الأرض.

ومن باب الرجل يقول لامرأته يا اختي
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن خالد، عَن أبي تميمة الهجيمي أن رجلاً قال لامرأته يا أخية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أختك هي فكره ذلك ونهى عنه.
قال الشيخ إنما كره ذلك من أجل أنه مظنة التحريم وذلك أن من قال لامرأته أنت كأختي وأراد به الظهار كان ظهاراً كما تقول أنت كأمي، وكذلك هذا

(3/249)


في كل امرأة من ذوات المحارم، وعامة أهل العلم أو أكثرهم متفقون على هذا إلاّ أن ينوي بهذا الكلام الكرامة فلا يلزمه الظهار، وإنما اختلفوا فيه إذا لم يكن له نية، فقال كثير منهم لا يلزمه شيء.
وقال أبو يوسف إذا لم يكن له نية فهو تحريم. وقال محمد بن الحسن هو ظهار إذا لم يكن له نية فكره له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول لئلا يلحقه بذلك ضرر في أهل أو يلزمه كفارة في مال.

ومن باب في الظهار
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء المعني قالا: حَدَّثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو عن عطاء قال ابن العلاء بن علقمة بن عياش عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر؛ قال ابن العلاء البياضي كنت امرأً أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً حتى يتابع بي حتى أصبح فظاهرت منها حتى انسلخ شهر رمضان فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فلم ألبث أن نزوت عليها، فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر وقلت امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لا والله؛ فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال أنت بذلك يا سلمة، قلت أنا بذلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين وأنا صابر لأمر الله عز وجل فأحكم فيّ بما أراك الله سبحانه وتعالى، قال حرر رقبة، قلت والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي، قال فصم شهرين متتابعين، فقال وهل أصبت الذي أصبت إلاّ من الصيام، قال فأطعم وسقاً من تمر بين ستين مسكيناً، قلت والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحِشين

(3/250)


ما أملك لنا طعاماً، قال فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي وقد أمرني أو أمر لي بصدقتكم.
قال الشيخ قوله أنت بذاك يا سلمة معناه أنت الملم طاك والمرتكب له، وقوله بتنا وحِشين معناه بتنا مقفرين لا طعام لنا يقال رجل وحش وقوم أوحاش قال الشاعر:
وإن بات وحشاً ليلة لم يضق بها ... ذراعاً ولم يصبح لها وهو خاشع
ويقال لصاحب الدواء توحش أي احتم.
وفيه دليل على أن الظهار الموقت ظهار كالمطق منه وهو إذا ظاهر من امرأته إلى مدة ثم أصابها قبل أنقضاء تلك المدة.
واختلفوا فيه إذا بر فلم يحنث، فقال مالك بن أنس وابن أبي ليلى إذا قال لامرأته أنت عليّ كظهر أمي إلى الليل لزمته الكفارة وإن لم يقربها.
وقال أكثر أهل العلم لا شيء عليه إذا لم يقربها وللشافعي في الظهار الموقت قولان أحدهما أنه ليس بظهار. وفيه دليل على أن معنى العود لما قال في الظهار ليس بأن يكرر اللفظ فيظاهر منها مرتين كما ذهب إليه بعض أهل الظاهر.
وفيه حجة لمن ذهب إلى جواز أن يضع الرجل صدقته في صنف واحد من الأصناف الستة ولا يفرقها على السهام.
وفي قوله أعتق رقبة دليل على أنه إذا أعتق رقبة ما كانت من صغير أوكبير أعور كان أو أعرج فإنها تجزيه إلاّ ما منع دليل الاجماع منه وهو الزمن الذي لا حراك به.

(3/251)


وفيه حجة لأبي حنيفة في أن خمس عشرة صاعاً لا يجزىء عن الكفارة في الظهار، غير أنه قال يجزيه ثلاثون صاعاً من البر لكل مسكين نصف صاع.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي، قال: حَدَّثنا يحيى بن آدم، قال: حَدَّثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة، قالت ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه فأنزل عز وجل آية الظهار فقال يعتق رقبة، قالت لا يجد قال يصوم شهرين متتابعين قالت يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال فليطعم ستين مسكيناً، قالت ما عنده من شيء يتصدق به قال فأتي ساعتئذ بعرق من تمر، قلت يا رسول الله وأنا أعينه بعرق آخر، قال قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكيناً وارجعي إلى ابن عمك. قالت والعرق ستون صاعاً.
قال الشيخ أصل العرق السفيفة التي تنسج من الخوص فتتخذ منها المكاتل والزبل، وقد جاء تفسيره في هذا الحديث أنه ستون صاعاً.
وروى أبو داود عن محمد بن إسحاق أن العرق مكتل يسع ثلاثين صاعاً. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن العرق زنبيل يسع خمسة عشر صاعاً فدل على أن العرق قد يختلف في السعة والضيق فيكون بعض الأعراق أكبر وبعضها أصغر فذهب الشافعي منها إلى التقدير الذي جاء في خبر أبي هريرة من رواية أبي سلمة وهو خمسة عشر صاعاً في كفارة المجامع في شهر رمضان، وكذلك قال الأوزاعي وأحمد بن حنبل لكل مسكين مد، وكذلك قال مالك إلاّ أنه قال بعد هشام وهو مد وثلث.

(3/252)


وذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي إلى حديث سلمة بن صخر وهو أحوط الأمرين، وقد يحتمل أن يكون الواجب عليه ستين صاعاً ثم يؤتى بخمسة عشر صاعاً فيقول له تصدق بها ولا يدل ذلك على أنها تجزيه عن جميع الكفارة ولكنه يتصدق بها في الوقت ويكون الباقي ديناً عليه حتى يجده كما يكون للرجل على صاحبه ستون صاعاً فيجيئه بخمسة عشر صاعاً فإنه يأخذها منه ويطالبه بخمسة وأربعين، إلاّ أن إسناد حديث أبي هريرة أجود وأحسن اتصالاً من حديث سلمة بن صخر.
وقال أبو عيسى سألت محمد بن إسماعيل عن حديث محمد بن إسحاق عن سليمان بن يسار فقال هو مرسل سليمان بن يسار لم يدرك سلمة بن صخر.
وقد روى أبو داود حديث سلمة بن صخر من غير طريق ابن إسحاق وذكر فيه العرق مقداراً لنحو خمسة عشر صاعاً على وفاق حديث أبي هريرة ورواه أبو داود في هذا الباب.
، قال: حَدَّثنا ابن السرح، قال: حَدَّثنا ابن وهب قال أخبرني ابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار، وذكر الحديث قال فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر فأعطاه إياه وهو قريب من خمسة عشر صاعاً فقال تصدق بها فقال يا رسول الله على أفقر مني ومن أهلي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كله أنت وأهلك.
قال الشيخ وقد ذكرت معنى قوله كله أنت وأهلك في كتاب الصيام وكرهت إعادته ههنا.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن هشام بن عروة أن جميلة كانت تحت أوس بن الصامت وكان رجل به لمم فإذا اشتد لممه ظاهر

(3/253)


من امرأته فأنزل الله عز وجل فيه كفارة الظهار.
قال الشيخ معنى اللمم ههنا الإلمام بالنساء وشدة الحرص والتوقان إليهن يدل على ذلك قوله في هذا الحديث من الرواية الأولى كنت امرأً أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، وليس معنى اللمم ههنا الخبل والجنون ولو كان به ذلك ثم ظاهر في تلك الحالة لم يكن يلزمه شيء من كفارة ولا غيرها والله أعلم.

ومن باب الخلع
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن الشماس وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه، فقالت أنا حبيبة بنت سهل، فقال ما شأنك، قالت لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها، فلما جاء ثابت قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه حبيبة بنت سهل وذكرت ما شاء الله أن تذكر، وقالت حبيبة يا رسول الله كل ما أعطاني عندي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ منها فأخذ منها وجلست في أهلها.
قال الشيخ في هذا الحديث دليل على أن الخلع فسخ وليس بطلاق ولو كان طلاقا لاقتضي فيه شرائط الطلاق من وقوعه في طهر لم تمس فيه المطلقة ومن كونه صادراً من قبل الزوج وحده من غير مرضاة المرأة فلما لم يتعرف النبي صلى الله عليه وسلم الحال في ذلك فأذن له في مخالعتها في مجلسه ذلك دل على أن الخلع فسخ وليس بطلاق، ألا ترى أنه لما طلق ابن عمر زوجته وهي حائض أنكر عليه ذلك وأمر بمراجعتها وامساكها حتى تطهر فيطلقها طاهراً قبل أن يمسها.

(3/254)


وإلى هذا ذهب ابن عباس واحتج بقول الله تعالى {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229] قال ثم ذكر الخلع فقال {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229] ثم ذكر الطلاق فقال {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة: 230] فلو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق أربعاً وإلى هذا ذهب طاوس وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور.
وروي عن علي وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم أن الخلع تطليقة بائنة، وبه قال الحسن وإبراهيم النخعي وعطاء وابن المسيب وشريح والشعبي ومجاهد ومكحول والزهري وهو قول سفيان وأصحاب الرأي، وكذلك قال مالك والأوزاعي والشافعي في أحد قوليه وهو أصحهما والله أعلم.
وفي الخبر دليل على أن الخلع جائز على أثر الضرب وإن كان مكروهاً مع الأذى، وفيه أنه قد أخذ منها جميع ما كان أعطاها.
وقد اختلف الناس في هذا فكان سعيد بن المسيب يقول لا يأخذ منها جميع ما أعطاها ولا يزيد على ما ساق إليها شيئاً، وذهب أكثر الفقهاء إلى أن ذلك جائز على ما تراضيا عليه قل ذلك أو كثر.
وفيه دليل على أنه لا سكنى للمختلعة على الزوج.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الرحمن البزار، قال: حَدَّثنا علي بن بحر القطان، قال: حَدَّثنا هشام بن يوسف عن معمر عن عمر بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس اختلعت منه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة.

(3/255)


قال الشيخ هذا أدل شيء على أن الخلع فسخ وليس بطلاق وذلك أن الله تعالى قال {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228] فلو كانت مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد.

ومن باب المملوكة تحت الرجل
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حَدَّثنا حماد عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس أن مغيثاً كان عبداً فقال يا رسول الله اشفع إليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بريرة اتقي الله فإنه زوجك وأبو ولدك، فقالت يا رسول الله تأمرني بذلك قال لا إنما أنا شافع وكان دموعه تسيل على خده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: ألا تعجب من حب مغيث بريرة وبغضها إياه.
قال الشيخ كان الشافعي يقول حديث بريرة هو الأصل في باب المكافأة في النكاح ولا أعلم خلافاً أن الأمة إذا كانت تحت عبد فعتقت أن لها الخيار وإنما اختلفوا فيها إذا كانت تحت حر، فقال مالك والشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد واسحاق لا خيار لها. وقال الشعبي والنخعي وحماد وأصحاب الرأي وسفيان الثوري لها الخيار وأصل هذا الباب حديث بريرة.
وقد اختلفت الروايات فيه عن عائشة رضي الله عنها فروى عنها أهل الحجاز أنها قالت كان زوج بريرة عبداً كذلك رواه عروة بن الزبير والقاسم بن محمد

(3/256)


وروى أهل الكوفة أن زوجها كان حراً كذلك رواه الأسود بن يزيد عنها وقد ذكر أبو داود هذه الأحاديث في هذا الباب فكانت رواية أهل الحجاز أولى لأن عائشة رضي الله عنها عمة القاسم وخالة عروة وكانا يدخلان عليها بلا حجاب والأسود يسمع كلامها من وراء حجاب.
وقد قيل ان قوله كان زوجها حراً إنما هو من كلام الأسود لا من قول عائشة وحديث ابن عباس هذا لم يعارضه شيء وهو يخبر أنه كان عبداً وقد ذكر اسمه وأثبت صفته فدل ذلك على صحة رواية أهل الحجاز. وفي قولها تأمرني بذلك دليل على أن أصل أمره صلى الله عليه وسلم على الحتم والوجوب.

ومن باب المملوكين يعتقان معاً هل تخير المرأة
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب، قال: حَدَّثنا عبيد الله بن عبد المجيد، قال: حَدَّثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن وهب عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها أرادت أن تعتق مملوكين لها، يَعني زوجين فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تبدأ بالرجل قبل المرأة.
قال الشيخ وفي هذا دلالة على أن الخيار بالعتق إنما يكون للأمة إذا كانت تحت عبد ولوكان لها خيار إذا كانت تحت حر لم يكن لتقديم عتق الزوج عليها معنى ولا فيه فائدة.

ومن باب إذا اسلم أحد الزوجين
قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي قال أخبرني أبو أحمد عن إسرائيل عن سماك

(3/257)


عن عكرمة عن ابن عباس قال أسلمت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجت فجاء زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني قد أسلمت وعلمت بإسلامي فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها الآخر وردها إلى زوجها الأول.
قال الشيخ وفي هذا دليل على أن النكاح متى علم بين زوجين فادعت المرأة الفرقة فإن القول في ذلك قول الزوج وإن قولها في إبطال النكاح غير مقبول والشك لا يزحم اليقين. ولا أعلم خلافاً أنه إذا لم يتقدم إسلام أحد الزوجين إسلام الآخر وكانت المرأة مدخولاً بها ثم أسلم الآخر قبل انقضاء العدة فهما على الزوجية في قول الزهري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.
وقال مالك بن أنس إذا أسلم الرجل قبل امرأته وقعت الفرقة إذا عرض عليها الإسلام فلم تقبل.
وقال سفيان الثوري في المرأة إذا أسلمت عرض على زوجها الإسلام فان أسلم فهما على نكاحهما وإن أبى أن يسلم فرق بينهما؛ وكذلك قال أصحاب الرأي إذا كان في دار الإسلام. وإن أسلمت المرأة ثم لحق الزوج بدار الكفر فقد بانت منه لافتراق الدين فإن أسلمت وهما في دار الحرب ولم يخرجا أو واحد منهما إلى دار الإسلام فهو أحق بها إن أسلم قبل أن تنقضي العدة فإذا انقضت العدة فلا سبيل له عليها.
وقال ابن شبرمة تبين منه كما تسلم ولا سبيل له عليها إلاّ بخطبة، وبه قال أبو ثور وروي ذلك عن الحسن وعكرمة وعمر بن عبد العزيز وعطاء وطاوس.

ومن باب إلى متى ترد عليه امرأته إذا أسلم بعدها
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عمرو الرازي، قال: حَدَّثنا سلمة بن الفضل قال

(3/258)


وحدثنا الحسن بن علي، قال: حَدَّثنا يزيد المعنى، عَن أبي إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب رضي الله عنها علي أبي العاص بالنكاح الأول لم يحدث شيئا، قال محمد بن عمرو في حديثه بعد ست سنين، وقال الحسن بن علي بعد سنتين.
قال الشيخ وهذا إن صح فإنه يحتمل أن يكون عدتها قد تطاولت لاعتراض سبب حتى بلغت المدة المذكورة في الحديث إما الطولى منهما وإما القصرى، إلاّ أن حديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس نسخه، وقد ضعف أمره علي بن المديني وغيره من علماء الحديث وقد حدثونا عن محمد بن إسماعيل الصائغ،، قال: حَدَّثنا سعيد بن منصور، قال: حَدَّثنا أبو معاوية، قال: حَدَّثنا الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بنكاح جديد، فقد عارض هذه الرواية رواية داود بن الحصين وفيها زيادة ليست في رواية داود بن الحصين والمثبت أولى من النافي غير أن محمد بن إسماعيل قال حديث ابن عباس أصح في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيب، وقال أبو عيسى الترمذي قال زيد بن هارون العمل في هذا على حديث عمرو بن شعيب وإن كان إسناد حديث ابن عباس أجود.
قال الشيخ وإنما ضعفوا حديث عمرو بن شعيب من قبل الحجاج بن أرطاة لأنه معروف بالتدليس.
وحكي عن محمد بن عقيل أن يحيى بن سعيد قال لم يسمعه حجاج من عمرو.
قال الشيخ وفي الحديث دليل أن افتراق الدارين لا تأثير له في إيقاع الفرقة وذلك أن أبا العاص كان بمكة بعد أن أطلق عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفكه عن أسره

(3/259)


وكان قد أخذ عليه أن يجهز زينب إليه ففعل ذلك وقدمت زينب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقامت بها.
وقد روي أن جماعة من النساء ردهن النبي صلى الله عليه وسلم على أزواجهن بالنكاح الأول منهن امرأة عكرمة بن أبي جهل وكان خرج إلى اليمن وهند بنت عتبة أسلم أبو سفيان خارج الحرم وهي مقيمة بمكة وهي دار حرب لم يستول عليها النبي صلى الله عليه وسلم بعد فلما عاد إليها وأسلمت هند كانا على نكاحهما.
وقد تكلم الناس في ترويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب من أبي العاص ومعلوم أنها لم تزل مسلمة وكان أبو العاص كافراً ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما زوجها منه قبل نزول قوله عز وجل {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [البقرة: 221] ثم أسلم أبو العاص فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعا في الإسلام والنكاح معاً.

ومن باب من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أختان
قال أبو داود: حدثنا مسدد، قال: حَدَّثنا هشيم قال وحدثنا وهب بن بقية قال أخبرنا هشيم عن ابن أبي ليلى عن حميضة بنت الشمردل عن الحارث بن قيس قال مسدد بن عميرة وقال وهب الأسدي قال، أسلمت وعندي ثماني نسوة فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اختر منهن أربعاً، وقال بعضهم في إسناده قيس بن الحارث.
قال الشيخ قوله اختر منهن أربعاً، ظاهره يدل على أن الاختيار في ذلك إليه يمسك من شاء منهن سواء كان عقد عليهن في عقد واحد أو متفرقات

(3/260)


لا يعتبر المتقدمة في العقد ولا المتأخرة منهن لأن الأمر قد فوض إليه في الاختيار من غير استفصال، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأراه قول محمد بن الحسن، وقد روي ذلك عن الحسن البصري.
وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري إن نكحهن في عقد واحد فرق بينه وبينهن وإن كان نكح واحدة بعد الأخرى حبس أربعا منهن الأولى فالأولى وترك سائرهن.
قال الشيخ معنى الاختيار المذكور في الحديث يبطل إذا لم يكن له إلاّ حبس الأوليات فدل ذلك على أنه يختار من شاء منهن الأولى والأخرى في ذلك سواء ومن اعتبر فيهن هذا المعنى لزمه أن يعتبر أوصاف عقودهن فيما مضى فلا يجيز منهل العقود التي خلت عن الشهود والأولياء ولا العقود التي وقعت في أيام العدة من الزوج الأول فإذا لم يكن هذا معتبراً فيها لأنه حكم ثابت من أحكام الجاهلية وقد لقيه الإسلام بالعفو، فكذلك التقديم والتأخير لا فرق بين الأمرين في ذلك فأما الأعيان فإنها قائمة غير فائتة وليست كالأوصاف التى قد فاتت بفوات الزمان الذي قد وقع فيه العقد فلا يقر الزوج على نكاح امرأة من ذوات المحارم اللاتي لو أراد ابتداء العقد عليهن في حال الإسلام لم يحللن.
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن معين، قال: حَدَّثنا وهب بن جرير عن أبيه قال سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أيى حبيب، عَن أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال: قلت يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان قال طلق أيتهما شئت.
قال الشيخ في هذا بيان أن الاختيار إليه في إمساك من شاء منهن من المتقدمة

(3/261)


والمتأخرة. وفيه حجة لمن ذهب إلى أن اختيار إحداهما لا يكون فسخاً لنكاح الأخرى حتى يطلقها.

ومن باب إذا أسلم أحد الأبوين مع من يكون الولد
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي، قال: حَدَّثنا عيسى، قال: حَدَّثنا عبد الحميد بن جعفر قال أخبرني أبي عن جدي رافع بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ابنتي وهي فطيم أو شبهه، وقال رافع ابنتي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقعد ناحيه وقال لها اقعدي ناحية، قال وأقعد الصبية بينهما؛ ثم قال ادعواها فمالت الصبية إلى أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اهدها فمالت إلى أبيها فأخذها.
قال الشيخ في هذا بيان أن الولد الصغير إذا كان بين المسلم والكافر فإن المسلم أحق به، وإلى هذا ذهب الشافعي.
وقال أصحاب الرأي في الزوجين يفترقان بالطلاق والزوجة ذمية ان الأم أحق بأولادها ما لم تزوج ولا فرق في ذلك بين الذمية والمسلمة.

ومن باب اللعان
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمر بن أشقر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي، فقال له يا عاصم أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل سل لي يا عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عويمر والله لا أنتهي حتى أسأل عنها، فأقبل عويمر حتى أتى

(3/262)


رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن فاذهب فأت بها، فقال سهل فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغا قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله ان أمسكتها فطلقها عويمر ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن شهاب فكانت تلك سنة المتلاعنين.
قال الشيخ قوله كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها يريد به المسألة عما لا حاجة بالسائل إليها دون ما به إليه الحاجة، وذلك أن عاصماً إنما كان يسأل لغيره لا لنفسه فأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكراهة في ذلك إيثاراً لستر العورات وكراهة لهتك الحرمات.
وقد وجدنا المسألة في كتاب الله عز وجل على وجهين أحدهما ما كان على وجه التبين والتعلم فيما يلزم الحاجة إليه من أمر الدين. والآخر ما كان على طريق التكلف والتعنت فأباح النوع الأول وأمر به وأجاب عنه فقال تعالى {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء: 7] وقال {فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك} [يونس: 94] وقال في قصة موسى والخضر {فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا} [الكهف: 70] وقال {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران: 187] فأوجب على من يسأل عن علم أن يجيب عنه وأن يبين ولا يكتم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار، وقال عز وجل {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} [البقرة: 189] {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} [البقرة: 222] {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} [الأنفال: 1] ، وقال في النوع الاخر {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} [الإسراء: 85] ، {يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم

(3/263)


أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها} [النازعات: 43] وعاب مسألة بني إسرائيل في قصة البقرة لما كان على سبيل التكلف لما لا حاجة بهم إليه، وقد كانت الغنية وقعت بالبيان المتقدم فيها وكل ما كان من المسائل على هذا الوجه فهو مكروه، فإذا وقع السكوت عن جوابه فإنما هو زجر وردع للسائل؛ وإذا وقع الجواب فهو عقوبة وتغليظ.
وفي قوله هي طالق ثلاثا دليل على أن إيقاع التطليقات الثلاث مباح ولو كان محرماً لأشبه أن يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله في ذلك ويبين بطلانه لمن بحضرته لأنه لا يجوز عليه أن يجري بحضرته باطل فلا ينكره ولا يرده.
وقد يحتج به من يرى أن الفرقة لا تقع بنفس اللعان حتى يفرق بينهما الحكام وذلك أن الفرقة لوكانت واقعة بينهما لم يكن للتطليقات الثلاث معنى.
وقد يحتج بذلك أيضاً من يرى الفرقة بنفس اللعان على وجه آخر وذلك أن الفرقة لو لم تكن واقعة باللعان لكانت المرأة في حكم المطلقات ثلاثاً.
وقد أجمعوا على أنها ليست في حكم المطلقات ثلاثاً تحل له بعد زوج فدل على أن الفرقة واقعة قبل، ويشبه أن يكون إنما دعاه إلى هذا القول أنه لما قيل له لا سبيل لك عليها وجد من ذلك في نفسه فقال كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثاً يريد بذلك تحقيق ما مضى من الفرقة وتوكيده.
وقوله فكانت سنة المتلاعنين يريد التفريق بينهما.
وقد اختلف في الوقت الذي يزول فيه فراش المرأة وتقع فيه الفرقة، فقال مالك والأوزاعي إذا التعن الرجل والمرأة جميعاً وقعت الفرقة، وروي ذلك عن ابن عباس.

(3/264)


وقال الشافعي إذا التعن الرجل وقعت الفرقة وإن لم تكن المرأة التعنت بعد.
وقال أصحاب الرأي الفرقة إنما تقع بتفريق الحاكم بينهما بعد أن يتلاعنا معا.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حَدَّثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، قال إنا لليلة جمعة في المسجد إذ دخل رجل من الأنصار في المسجد، فقال لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فتكلم به جلدتموه أو قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ والله لأسألن عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان من الغد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال اللهم افتح وجعل يدعو فنزلت آية اللعان {والذين يرمون أزواحهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} [النور: 6] هذه الاية فابتلى به ذلك الرجل من بين الناس فجاء هو وامرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاها فشهد الرجل أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين ثم لعن الخامسة عليه إن كان من الكاذبين، قال فذهبت لتلتعن فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مه فأبت ففعلت، فلما أدبرا قال لعلها أن تجيء به أسود جعداً فجاءت به أسود جعداً.
قوله اللهم افتح اللهم احكم أو بين الحكم فيه، والفتاح الحاكم ومنه قوله تعالى {ثم افتح بيننا بالحق. وهو الفتاح العليم} [سبأ: 26] وفي قوله لعلها أن تجيء به أسود جعداً دليل على أن المرأة كانت حاملاً وأن اللعان وقع على الحمل.
وممن رأى اللعان على نفي الحمل مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي.
وقال أبو حنيفه لا يلاعن بالحمل لأنه لا يدري لعله ريح.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، قال: حَدَّثنا ابن وهب عن عياض

(3/265)


بن عبد الله الفهري وغيره عن ابن شهاب عن سهل بن سعد في هذا الخبر قال فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ما صنع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سنه، قال سهل حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبداً.
قوله فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل وجهين أحدهما إيقاع الطلاق وانفاذه وهذا على قول من زعم أن اللعان لا يوجب الفرقة، وأن فراق العجلاني امرأته إنما كان بالطلاق، وهو قول عثمان البتي.
والوجه الآخر أن يكون معناه انفاذ الفرقة الداائمة المتأبدة، وهذا على قول من لا يراها تصلح للزوج بحال وإن أكذب نفسه فيما رماها به. وإلى هذا ذهب الثسافعي ومالك والأوزاعي والثوري ويعقوب وأحمد وإسحاق وشهد لذلك قوله ولا يجتمعان أبداً.
وقال الشافعي إن كانت زوجته أمة فلاعنها ثم اشتراها لم تحل له إصابتها لأن الفرقة وقعت متأبدة فصارت كحرمة الرضاع.
ومذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن أنه إدا كذب نفسه ثبت النسب ولحقه الولد.
وفيه دليل على أن الزوج إذا طلقها قبل العان لم يكن ذلك مانعاً من وجوب اللعان عليه. وقال الحسن والشعبي والقاسم بن محمد في الرجل يقذف زوجته ثم يطلقها ثلاثاً أن يلاعنها، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وذلك أن القذف كان وهي زوجة.
وقال أصحاب الرأي لا حد ولا لعان في ذلك، وهو قول حماد بن أبى سليمان وحكي عن الثوري.

(3/266)


قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار، قال: حَدَّثنا ابن أبي عدي قال أخبرنا هشام بن حسان قال حدثني عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم البينة أو حد في ظهرك قال يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلاً على امرأته يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول البينة وإلا فحد في ظهرك، فقال هلال والذي بعثك بالحق نبياً إني لصادق ولينزلن الله عز وجل في أمري ما يبرىء ظهري من الحد فنزلت {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلاّ أنفسهم} [النور: 6] فقرأ حتى بلغ من الصادقين فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما فجاءا، فقام هلال بن أمية فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب ثم قامت فشهدت فلما كان عند الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين وقالوا لها إنها موجبة؛ قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها سترجع وقالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الاليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن.
قال الشيخ فيه من الفقه أن الزوج إذا قذف امرأته برجل بعينه ثم تلاعنا فإن اللعان يسقط عنه الحد فيصير في التقدير ذكره المقذوف به تبعاً لا يعتبر حكمه وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قال لهلال بن أمية البينة أو حد في ظهرك فلما تلاعنا لم يعرض لهلال بالحد ولا روي في شيء من الأخبار أن شريكاً بن سحماء عفا عنه فعلم أن الحد الذي كان يلزمه بالقذف سقط عنه باللعان وذلك لأنه مضطر إلى ذكر من يقذفها به لإزالة الضرر عن نفسه فلم يحمل أمره على القصد له بالقذف

(3/267)


وادخال الضرر عليه.
وقال الشافعي وإنما يسقط الحد عنه إذا ذكر الرجل وسماه في اللعان فإن لم يفعل ذلك حد له.
وقال أبو حنيفة الحد لازم له وللرجل مطالبته به وقال مالك يحد للرجل ويلاعن للزوجة.
وفي قوله البينة وإلا حد في ظهرك دليل على أنه إذا قذف زوجته ثم لم يأت بالبينة ولم يلاعن كان عليه الحد. وقال أبو حنيفة إذا لم يلتعن الزوج فلا شيء عليه.
وفي قوله عند الخامسة إنها موجبة دليل على أن اللعلن لا يتم إلاّ باستيفاء عدد الخمس. وإليه ذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة إذا جاء بأكثر العدد ناب عن الجميع، وقوله الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل من تائب فيه دليل على أن البينتين إذا تعارضتا تهاترتا وسقطتا.
وفيه دليل على أن الإمام إنما عليه أن يحكم بالظاهر وإن كانت هناك شبهة تعترض وأمور تدل على خلافه، ألا تراه يقول لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن.
والخدلج الساقين هو الغليظه.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي، قال: حَدَّثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس، وذكر قصة هلال بن أمية وساقها بطولها وقال بعد أن ذكر التلاعن ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ولا يرمي ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنها

(3/268)


وقال إن جاءت به أصيهب أريصح أثيبج حمش الساقين سابغ الاليتين فهو للذي رميت به.
قال الشيخ وفيه من الفقه بيان أن اللعان فسخ وليس بطلاق وأنه ليس للملاعنة على زوجها سكنى ولا نفقة، وإليه ذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن اللعان تطليقة بائنة ولها السكنى والنفقة في العدة.
قال الشيخ وفيه بيان أن من رمى الملاعنة أو ولدها إن عليه الحد وهو قول أكثر العلماء.
وقال أصحاب الرأي إن كان جرى اللعان بينهما بالقذف لا على نفي الولد فإن قاذفها يحد، وإن كان لاعنها على ولد نفاه لم يكن على الذي يقذفها حد.
وقال أبوعبيد القاسم بن سلام بعد أن حكى هذا المذهب عنهم وحجتهم فيه ان قالوا معها ولد لا أب له قالوا فإن مات ذلك الولد كان على من يرميها بعده الحد، وتعجب أبو عبيد من سقوط الحد وثبوته لحياة رجل ووفاته وقال لا يصح في رأي ولا نظر.
وفيه دلالة على جواز الاستدلال بالشبه.
وفيه بيان أن من لا يجوز الاستدلال به لا يحكم به إذا كان هناك ما هو أقوى منه في الدلالة على ضد موجبه ولو كان للشبه هنا حكم لوجب عليها الحد إذا جاءت به على النعت المكروه.
وفيه من العلم أن التحلية بالنعوت المعيبة إذا أريد بها التعريف لم تكن غيبه يأثم بها قائلها. والاصيهب تصغير الأصهب وهو الذي يعلوه صهبة وهي كالشقرة

(3/269)


والأريصح تصغير الأرسح وهو خفيف الاليتين أبدلت السين منه صادا، وقد يكون أيضاً تصغير الأرصع أبدلت عينه حاء.
قال الأصمعي الأرصع الأرسخ والأشيج تصغير الأشج وهو الناتىء الثبج والثبج ما بين الكاهل ووسط الظهر والحمش الدقيق الساقين والخدلج العظيم الساقين والجمالي العظيم الخلق شبه خلقه بخلق الجمل، يقال ناقة جمالية إذا شبهت بالفحل من الإبل في عظم الخلق.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلاً لاعن امرأته في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة.
قال الشيخ يحتج به من لا يرى البينونه تقع بين المتلاعنين إلاّ بتفريق الحاكم وذلك لإضافة التفريق بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استشهدوا في ذلك أيضاً بالفسوخ التي يحتاج فيها إلى حضرة الحكام فإنها لا يقع إلاّ بهم.
وذهب الشافعي إلى أن التفريق بينهما واقع بنفس اللعان أو بنفس اللعن، إلاّ أنه لما جرى التلاعن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أضيف التفريق ونسب إلى فعله كما تقوم البينة إما بالشهادة أو بإقرار المدعى عليه فيثبت الحق بهما عليه ثم يضاف الأمر في ذلل إلى قضاء القاضي ولو وجب أن لا يكون التفرقة إلاّ بأمر الحاكم لوجب أن لا ينفى الولد عن الزوج إلاّ بحكم الحاكم لأنه قد نسق عليه في الدكر فقيل فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين وألحق الوك بالأم فإذا جاز أن يلحق الولد بالأم وينقطع نسبه عن الأب من غير صنع للحاكم فيه جاز أن يقع الفرقة بينهما من غير صنع له فيه والله أعلم.

(3/270)


قال وانما معنى قوله فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنبن أي بين أن الفرقة وقعت بينهم باللعان.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن جعغر الوركاني، قال: حَدَّثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سهل بن سعد في خبر المتلاعنين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابصروها فإن جاءت به أدعج العينين عظيم الاليتين فلا أراه إلاّ قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلاّ كاذباً.
قال الشيخ الوحرة دويبة وجمعها وحر، ومنه قيل فلان وحر الصدر إذا دبت العداوه في قلبه كدبيب الوحر.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل قال0 حدثنا سفيان بن عيينة قال سمع عمر وسعيد بن جبير يقول سمعت ابن عمر يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: حسابكما على الله أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها، قال يا رسول الله مالي قال لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كذبت عليها فذلك أبعد لك.
قال الشيخ قوله لا سبيل لك عليها فيه بيان وقوع الفرقة بينهما باللعان خلاف قول عثمان البتي أن اللعان لا يوجب الفرقة.
وفيه دلالة على أن الفرقة باللعان متأبدة ولو كان له عليها سبيل إذا كذب نفسه لاستثناه، فقال إلاّ أن تكذب نفسك فيكون لك عليها حينئذ سبيل فلما أطلق الكلام دل على تأبيد الفرقة.
وفيه بيان أن زوج الملاعنة لا يرجع عليها بالمهر وإن أقرت المرأة بالزنا أو قامت عليها البينة بذلك.

(3/271)


قال الشيخ وهذا في المدخول بها، ألا تراه يقول فهو بما استحللت من فرجها فأما غير المدخول بها فقد اختلف الناس فيها، فقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير يلاعنها ولها نصف الصداق، وإليه ذهب مالك والأوزاعي.
وقال الحكم وحماد لها الصداق كاملاً، وقال الزهري يتلاعنان ولا صداق لها.

ومن باب إذا شك في الولد
قال أبو داود: حدثنا ابن أبي خلف، قال: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن سعيد، عَن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن امرأتي جاءت بولد أسود فقال هل لك من إبل، قال نعم، قال فما ألوانها، قال حمر، قال فهل لك فيها من أورق، قال إن فيها لورقاً، قال فأنّى تراه، قال عسى أن يكون نزعه عرق، قال وهذا عسى أن يكون نزعه عرق.
قال الشيخ هذا القول من السائل تعريض بالريبة كأنه يريد نفي الولد بحكم النبي صلى الله عليه وسلم فإن الولد للفراش ولم يجعل خلاف الشبه واللون دلالة يجب الحكم بها وضرب له المثل بما يوجد من اختلاف الألوان في الإبل وفحلها ولقاحها واحد.
وفي هذا إثبات القياس وبيان أن المتشابهين حكمهما من حيث اشتبها واحد.
وفيه دليل على أن الرجل إذا ولدت له امرأته ولداً فقال ليس مني لم يصر قاذفاً لها بنفس هذا القول لجواز أن يكون ليس منه لكن لغيره بوطء شبهة أو من زوج متقدم.
وفيه دليل على أن الحد لا يجب في المكاني وإنما يجب بالقذف الصريح.

ومن باب ادعاء ولد الزنا
قال أبو داود: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حَدَّثنا معمر عن سليم، يَعني

(3/272)


ابن أبي الذيال قال حدثني بعض أصحابنا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا مساعاة في الإسلام من ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته ومن ادعى ولداً لغير رشدة فلا يرث ولا يورث.
قال الشيخ المساعاة الزنا، وكان الأصمعي يجعل المساعاة في الإماء دون الحرائر وذلك لأنهن يسعين لمواليهن فيكتسبن لهم بضرائب كانت عليهن فأبطل صلى الله عليه وسلم المساعاة في الإسلام ولم يلحق النسب لها وعفا عما كان منها في الجاهلية وألحق النسب به؛ ويقال هذا ولد رِشدة ورَشدة لغتان.
قال أبو داود: حدثنا شيبان بن فروخ، قال: حَدَّثنا محمد بن راشد قال وحدثنا الحسن بن علي، قال: حَدَّثنا يزيد بن هارون، قال: حَدَّثنا محمد بن راشد وهو أشبع عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن كل مستلحق استلحق بعبد أبيه الذي يدعى له ادعاه وورثته فقضى أن من كان من أمة يملكها يوم أصابها فقد لحق بمن استلحق وليس له مما قسم قبله من الميراث شيء وما أدرك من ميراث لم يقسم فله نصيبه ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره، فإن كان من أمة لم يملكها أو من حرة عاهر بها فإنه لا يلحق ولا يورث، وإن كان الذي يدعى له وهو ادعاه فهو ولد زنية من حرة كانت أو أمة.
قال الشيخ هذه أحكام وقعت في أول زمان النشريعة وكان حدوثها بين الجاهلية وبين قيام الإسلام، وفى ظاهر هذا الكلام تعقد وإشكال، وتحرير ذلك وبيانه أن أهل الجاهلية كانت لهم إماء تساعين وهن البغايا اللواتى ذكرهن

(3/273)


الله تعالى في قوله {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} [النور: 33] إذ كان ساداتهن يلمون بهن ولا يجتنبوهن فإذا جاءت الواحدة منهن بولد وكان سيدها يطأها وقد وطئها غيره بالزنا فربما ادعاه الزاني وادعاه السيد فحكم صلى الله عليه وسلم بالولد لسيدها لأن الأمة فراش له كالحرة ونفاه عن الزاني
فإن دعى للزاني مدة وبقي على ذلك إلى أن مات السيد ولم يكن ادعاه في حياته ولا أنكره، ثم ادعاه ورثته بعد موته واستلحقوه فإنه يلحق به ولا يرث أباه ولا يشارك إخوته الذين استلحقوه في ميراثهم من أبيهم إذا كانت القسمة قد مضت قبل أن يستلحقه الورثة وجعل حكم ذلك حكم ما مضى في الجاهلية فعفا عنه ولم يرد إلى حكم الإسلام، فإن أدرك ميراثا لم يكن قد قسم إلى أن ثبت نسبه باستلحاق الورثة إياه كان شريكهم فيه أسوة من يساويه في النسب منهم فإن مات من إخوته بعد ذلك أحد ولم يخلف من يحجبه عن الميراث ورثه فإن كان سيد الأمة أنكر الحمل وكان لم يدعه فإنه لا يلحق به وليس لورثته أن يستلحقوه بعد موته، وهذا شبيه بقصة عبد بن زمعة وسعد بن مالك ودعواهما في ابن أمة زمعة، فقال سعد ابن أخي عهد إليّ فيه أخي، وقال عبد بن زمعة أخي ولد على فراش أبي فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش فصار ابناً لزمعة. وسنذكر هذا الحديث في موضعه من هذا الكتاب ونورده هناك شرحاً وبياناً إن شاء الله تعالى.

(3/274)


ومن باب القافة
قال أبو داود: حدثنا مسدد وعثمان بن أبي شيبة المعنى وابن السرح قالوا حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مسدد وابن السرح يوماً مسروراً، وقال عثمان يعرف أسارير وجهه، فقال أي عائشة ألم تري أن مجززاً المدلجي رأى زيداً وأسامة قد غطيا رؤوسهما بقطيفة وبدت أقدامهما، فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض. قال أبو داود كان أسامة أسود وكان زيد أبيض.
قال الشيخ فيه دليل على ثبوت أمرالقافة وصحة لقولهم في إلحاق الولد وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يظهر السرور إلاّ بما هو حق عنده، وكان الناس قد ارتابوا بأمر زيد بن حارثة وابنه أسامه وكال زيد أبيض وجاء أسامة أسود، فلما رأى الناس في ذلك وتكلموا بقول كان يسوء رسول الله صلى الله عليه وسلم سماعه فلما سمع هذا القول من مجزز فرح به وسري عنه.
وممن أثبت الحكم بالقافة عمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء ومالك والأوزاعي

(3/275)


والشافعي وأحمد وعامة أهل الحديث.
وقال أهل الرأي في الولد المشكل يدعيه اثنان يقضى به لهما وأبطلوا الحكم بالقافة.
واختلفت أقاويلهم في ذلك فقال أبو حنيفة يلحق الولد برجلين وكذلك بامرأتين. وقال أبو يوسف يلحق برجلين ولا يلحق بامرأتين.
وقال محمد يلحق بالآباء وإن كثروا، ولا يلحق إلاّ بأم واحدة.
واختلف القائلون بالقافة إذا قالت إن الولد منهما جميعاً.
قال الشافعي إذا كان الولد كبيراً قيل له انتسب إلى أيهما شئت. وقال أبو ثور يلحق بهما (برهما وبزناته) (1) وقاله عمر.
وقوله تعرف أسارير وجهه، قال أبو عبيد الأسارير الخطوط في الوجه والجبهة.

ومن باب من قال في القرعة إذا تنازعوا في الولد
قال أبو داود: حدثنا مسدد، حَدَّثنا يحيى عن الأجلح عن الشعبى عن عبد الله بن الخليل عن زيد بن أرقم قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من اليمن فقال إن ثلاثة نفر من أهل اليمن أتوا علياً يختصمون إليه في ولد وقد وقعوا على امرأة في طهر واحد، فقال لاثنين طيبا بالولد لهذا فغليا، ثم قال لاثنين طيبا بالولد لهذا فغليا، ثم قال لاثنين طيبا بالولد لهذا فغليا، فقال أنتم شركاء متشاكسون إني مقرع بينكم فمن قرع فله الولد وعليه لصاحبيه ثلثا الدية فأقرع بينهم فجعله لمن قرع فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أضراسه أو نواجذه.
قال الشيخ: فيه دليل على أن الولد لا يلحق بأكثر من أب واحد؛ وفيه إثبات القرعة في أمر الولد وإحقاق القارع وللقرعة مواضع غير هذا في العتق
_________
(1) كذا في الأصل.

(3/276)


وتساوي البينتين في الشيء يتداعاه اثنان فصاعداً. وفي الخروج بالنساء في الأسفار وفي قسم المواريث وإفراز الحصص بها. وقد قال بجميع وجوهها نفر من العلماء ومنهم من قال بها في بعض هذه المواضع ولم يقل بها في بعض.
وممن ذهب إلى ظاهره إسحاق بن راهويه وقال هو السنة في دعوى الولد. وقال به الشافعي قديماً وقيل لأحمد في حديث زيد هذا فقال حديث القافة أحب إليَّ وقد تكلم بعضهم في إسناده.

ومن باب وجوه النكاج التي كان يتناكح بها أهل الجاهلية
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حَدَّثنا عنبسة بن خالد حدثني يونس بن يزيد قال: قال محمد بن مسلم بن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته فيصدقها ثم ينكحها.
ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إن أحب وإنما يفعل رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع.
ونكاح آخر يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم قد عرفتم الذى كان من أمركم وقد ولدت وهو ابنك يا فلان فتسمي من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها.

(3/277)


ونكاح رابع يجتمع الناس الكثير لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات يكنّ علماً لمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت فوضعت حملها أجمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلاّ نكاح أهل الإسلام اليوم.
قال الشيخ الطمث دم الحيض، وقولها التاطه معنى استلحقته، وأصل اللواط الإلصاق.

ومن باب الولد للفراش
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور ومسدد قالا: حَدَّثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن أمة زمعة، فقال سعد أوصاني أخي عتبة إذا قدمت مكة أن انظر إلى ابن أمة زمعة فأقبضه فإنه ابنه. وقال عبد بن زمعة أخي ابن أمة أبي ولد على فراش أبي فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شبهاً بيناً بعتبة فقال الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة، زاد مسدد وقال هو أخوك يا عبد.
قال الشيخ: قد ذكرنا أن أهل الجاهلية كانوا يقتنون الولائد ويضربون عليهم الضرائب فيكتسبن بالفجور، وكان من سيرتهم إلحاق النسب بالزناة إذا ادعوا الولد كهو في النكاح، وكانت لزمعة أمة كان يلم بها وكانت له عليها ضريبة فظهر بها حمل كان يظن أنه من عتبة بن أبي وقاص وهلك عتبة كافراً لم يسلم فعهد إلى سعد أخيه أن يستلحق الحمل الذي بان في زمعة وكان لزمعة ابن يقال له عبد فخاصم سعد عبد بن زمعة في الغلام الذي ولدته الأمة

(3/278)


فقال سعد هو ابن أخي على ما كان عليه الأمر في الجاهلية. وقال عبد بن زمعه بل هو أخي ولد على فراش أبي على ما استقر حكم الإسلام فقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد بن زمعة وأبطل دعوى الجاهلية.
قال الشيخ فيه إثبات الدعوى في الولد كهي في الأملاك والأموال وأن الأمة فراش كالحرة، وأن للورثة أن يقروا بوارث لم يكن وأنهم إذا اجتمعوا على ذلك ثبت نسبه ولحق بأبيهم، فإن قيل إن جميع ورثة زمعة لم يقروا بأن هذا الغلام ابن لزمعة، وإنما جرى في هذه القصة ذكر عبد بن زمعة فقد قيل قد روي أنه لم يكن لزمعة معه يوم مات وارث غير عبد بن زمعة وكان عبد بمنزلة جميع الورثة، وقد لا ينكر أنه إن ثبت كون سودة من الورثة أن تكون قد وكلت أخاها بالدعوى أو تكون قد أقرت بذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يذكر في القصة.
قال الشيخ: والاعتبار في هذا إنما هو بقول من استحق المال بالإرث سواء كان ذلك من نسب أو زوجية فلو كان له ابن واحد فادعى أخاً ألق به لأنه جميع الورثة وإن كانت معه زوجة فأنكرت لم يثبت النسب ولو كان الوارث بنتاً واحدة فأقرت به لم تلحو لأنها لا ترث جميع المال إلاّ ان تكون معتقة فتلحق لأنها ترث جميع المال نصف بالنسب والباقي بالولاء، كل هذا على مذهب الشافعي.
وفى قوله احتجبي منه يا سودة حجة لمن ذهب إلى أن من فجر بامرأة حرمت على أولاده، واليه ذهب أهل الرأي وسفيان الثوري والأوزاعى وأحمد لأنه لما رأى الشبه بعتبة علم أنه من مائه فأجراه في النحريم مجرى النسب وأمرها

(3/279)


بالاحتجاب منه. وقال مالك والشافعي وأبو ثور لا تحرم عليه، وتأولوا قوله لسودة احتجبي منه على معنى الاستحباب والاستظهار بالتنره عن الشبه وقد كان جائزاً أن لا يردها لو كان أخاً لها ثابت النسب. ولأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ماليس لغيرهن من النساء لقوله تعالى {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} [الأحزاب: 32] الآية.
ويستدل بالشبه في بعض الأمور لنوع من الاعتبار ثم لا يقطع الحكم به، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة الملاعنة إن جاءت به كذا وكذا فما أراه إلاّ كذب عليها، وإن جاءت به كذا وكذا فما اراه إلا صدق عليها فجاءت به على النعت المكروه ثم لم يحكم به، وإنما حكم بالشبه في موضع لم يوجد منه شيء أقوى منه كالحاكم بالفاقة. وأبطل معنى الشبه في الملاعنة لأن وجود الفراش أقوى منه.
وهذا كما يحكم في الحادثة بالقياس إذا لم يكن فيها نص في هذا الباب فإذا وجد فيها ظاهر ترك له القياس.
وفي قوله هو أخوك يا عبد بن زمعة ما قطع الشبه ورفع الأشكال.
وفي بعض الروايات احتجبي منه فإنه ليس لك بأخ وليس بالثابت.
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قام رجل فقال يا رسول الله إن فلاناً ابني عاهرت بأمه في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا دعوة في الإسلام ذهب أمر الجاهلية الولد للفراش وللعاهر الحجر.
قال الشيخ: الدعوة بكسر الدال ادعاء الولد. وقوله الولد للفراش يريد

(3/280)


لصاحب الفراش. وقوله وللعاهر الحجر يحسب أكثر الناس أن معنى الحجر هنا الرجم بالحجارة، وليس الأمر كذلك لأنه ليس كل زان يرجم وإنما يرجم بعض الزناة وهوالمحصن؛ ومعنى الحجر هنا الحرمان والخيبة كقولك إذا خيبت الرجل وآيسته من الشيء ما لك غير التراب وما في يدك غير الحجر ونحوه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا جاءك صاحب الكلب يطلب ثمنه فاملأ كفه تراباً، يريد أن الكلب لا ثمن له فضرب المثل بالتراب الذي ليست له قيمة ومثله قول الشاعر:
تراب لأهلي لا ولا نعمةً لهم……لشد إذا ما قد تعبدني أهلي
أي لا طاعة لهم ولا قبول لقولهم ولذلك عطف عليه بلا، ولو كان معناه الإثبات لم يسبق عليه بحرف النفي.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا مهدي بن ميمون أبو يحيى حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رباح قال زوجني أهلي أمة لهم رومية فوقعت عليها فولدت غلاماً أسود مثلي فسميته عبد الله، ثم وقعت عليها فولدت غلاماً أسود مثلي فسميته عبيد الله، ثم طبن لها غلام لأهلي رومي يقال له يوحنا فراطنها بلسانه فولدت غلاماً كأنه وزغة من الوزغات فقلت لها ما هذا فقالت هذا ليوحنه فرفعنا إلى عثمان أحسبه قال مهدي قال فسألهما فاعترفا فقال لهما أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قضى أن الولد للفراش وأحسبه قال فجلدها وجلده وكانا مملوكين.

(3/281)


قال الشيخ: قوله طِبن معناه فطن يقال طبن الرجل للشيء وتبن طبناً وطبانة إذا فطن له ومعناه أنه فطن للشر وخبثها، قال كثير: طبن العدو لها فغير حالها.

ومن باب من هو أحق بالولد
قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد السلمي حدثنا الوليد، عَن أبي عمرو، يَعني الأوزاعي حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقان لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت أحق به ما لم تنكحي.
قال الشيخ: الحواء اسم للمكان الذي يحوي الشيء، والحواء أيضاً أخبية تضرب ويدانى بينها يقال هذا حواء واحدة، ومعنى هذا الكلام معنى الادلاء بزيادة الحرمة وذلك أنها شاركت الأب في الولادة ثم استبدت بهذه الأمرر خصوصاً وهى معاني الحضانة من حيث لا شركة للأب فيها فاستحقت التقدم عند المنازعة في أمر الولد.
ولم يختلفوا أن الأم أحق بالولد الطفل من الأب ما لم تتزوج فإذا فإذا تزوجت فلا حق لها في حضانة، فإن كانت لها أم فأمها تقوم مقامها ثم الجدات من قبل الأم أحق به ما بقيت منهن واحدة.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق وأبو عاصم عن ابن جريج أخبرني زياد عن هدل بن أسامة أن أبا ميمونه سلمى مولى من أهل المدينة رجل صدق قال بينما أنا جالس مع أبي هريرة جاءته امرأة فارسية معها ابن لها فادعياه وقد طلقها زوجها، فقالت يا أبا هريرة ورطنت بالفارسيه زوجى

(3/282)


يريد أن يذهب بابني فقال أبو هريرة استهما عليه ورطن لها بذلك فجاء زوجها فقال من يحاقنى في ولدي فقال أبو هريرة اللهم إني لا أقول هذا إلاّ أني سمعت امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قاعد عنده فقالت يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استهما عليه فقال زوجها من يحاقني في ولدي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به.
قال الشيخ: وهذا في الغلام الذي قد عقل واستغنى عن الحضانة فإذا كان كذلك خير بين أبويه.
واختلف فيه فقال الشافعي إذا صار ابن سبع أو ثماني سنين خير، وقال أحمد يخير إذا كبر. وقال أهل الرأي والثوري الأم أحق بالغلام حتى يأكل وحده ويلبس وحده والجارية حتى تحيضى ثم الأب أحق الوالدين.
وقال مالك الأم أحق بالجواري وإن حضن حتى ينكحن والغلمان فهي أحق بهم حتى يحتلموا.
ويشبه أن يكون من ترك التخيير وصار إلى أن الأب أحق به إذا استغنى عن الحضانة إنما ذهب إلى أن الأم إنما حظها الحضانة لأنها أرفق به فإذا جاوز الولد حق المحضانة فإنه إلى الأب أحوج للمعاش والأدب، والأب أبصر بأسبابهما وأوفى له من الأم ولو ترك الصبي واختياره مال إلى البطالة.

ومن باب في نفقة المبتوتة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن

(3/283)


حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فتسخطته فقال والله ما لك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال لها ليس لك عليه نفقة وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال إن تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي في بيت ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك وإذا حللت فآذنيني قالت فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطاني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وأما معاوية فصعلوك لا مال له انكحي أسامة بن زيد قالت فكرهته ثم قال انكحي أسامة بن زيد فنكحته فجعل الله فيه خيراً كثيراً واغتبطت.
قال الشيخ: معنى البتة هنا الطلاق وقد روي أنها كانت آخر تطليقة بقيت لها من الثلاث. وفيه دليل أن المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها، واختلف فيها فقالت طائفة لا نفقة لها ولا سكنى إلاّ أن تكون حاملاً وروي ذلك عن ابن عباس وأحمد وروي عن فاطمة أنها قالت لم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة.
وقالت طائفة لها السكنى والنفقة حاملاً كانت أو غير حامل. وقاله عمر وسفيان وأهل الرأي.
وقالت طائفة لها السكنى ولا نفقة قاله مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي وابن المسيب والحسن وعطاء والشعبي، واحتجوا بقوله {أسكنوهن} الآية فأوجب السكنى عاماً، وأن نقل النبي صلى الله عليه وسلم إياها من بيت أحمائها إلى بيت ابن أم مكتوم فليس فيه إبطال السكنى بل فيه إثباته وإنما هو اختيار لموضع السكنى.
واختلف في سبب ذلك فقالت عائشة كانت فاطمة في مكان وحش فخيف

(3/284)


عليها فرخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتقال.
وقال ابن المسيب إنما نقلت عن بيت حمائها لطول لسانها وهو معنى قوله {ولا يخرجن إلاّ أن يأتين بفاحشة مبينة} [الطلاق: 1] الآية وقد بيناه.

ومن باب المبتوتة تخرج بالنهار
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير عن جابر قال طلقت خالتي ثلاثاً فخرجت تجّد نخلاً لها فلقيها رجل فنهاها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال لها: اخرجي فجدي نخلك لعلك ان تصدقي منه أو تفعلي خيراً.
قال الشيخ: وجه استدلال أبي داود منه في أن للمعتدة من الطلاق أن تخرج بالنهار هو أن النخل لا يجد عادة إلاّ نهاراً، وقد نهي عن جداد الليل ونخل الأنصار قريب من دورهم فهي إذا خرجت بكرة للجداد رجعت إلى بيتها للمبيت. وهذا في المعتدة من التطليقات الثلاث.
فأما الرجعية فإنها لا تخرج ليلاً ولا نهاراً.
وقال أبو حنيفة لا تخرج المبتوتة ليلاً ولا نهاراً كالرجعية. وقال الشافعي تخرج نهاراً لا ليلاً على ظاهر الحديث.

ومن باب احداد المتوفى عنها
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن حميد عن نافع عن زينب بنت أبي سلمة، قالت سمعت أمي أم سلمة تقول جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا مرتين أو ثلاثا كل ذلك

(3/285)


يقول لا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت احداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول، قال حميد فقلت لزينب وما ترمى بالبعرة على رأس الحول، فقالت زينب كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حشاً ولبست شر ثيابها ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطى بعره فترمى بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيبب أو غيره.
قال الشيح: قال القعنبي تفتض هو من فضضت الشيء إذا كسرته أو فرقته ومنه فض خاتم الكتاب {ولانفضوا من حولك} [آل عمران: 159] أي تكسر ما كانت فيه من العدة وتخرج منه بالدابة. والحش البيت الصغير، ومعنى رميها بالبعرة أى كأنها تقول كان جلوسها بالبيت وحبسها نفسها سنة كالرمية بالبعير في جنب ما كان يجب في حق الزوج.

ومن باب في المتوفى عنها تنتقل
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عميرة عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم فقتلوه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإني لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم قالت فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له فقال كيف قلت فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي قالت

(3/286)


فقال امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً قالت فلما كان عثمان بن عفان أرسل الي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به.
قال الشيخ: فيه أن للمتوفى عنها زوجها السكنى وأنها لا تعتد إلاّ في بيت زوجها. وقال أبو حنيفة لها السكنى ولا تبيت إلاّ في بيتها وتخرج نهاراً إذا شاءت. وبه قال مالك والثوري والشافعي وأحمد وقال محمد (ابن الحسن) المتوفى عنها لا تخرج في العدة. وعن عطاء وجابر والحسن وعلي وابن عباس وعائشة تعتد حيث شاءت.
وفي قوله لا حتى يبلغ الكتاب أجله بعد إذنه لها في الانتقال دليل على جواز وقوع نسخ النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يفعل.

ومن باب ما تجتنب المعتدة
قال أبو داود: حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا إبراهيم بن طهمان حدثني هشام بن حسان (ح) وحدثنا عبد الله بن الجراح القهستاني عن عبد الله، يَعني ابن أبي بكر السهمي عن هشام وهذا لفظ ابن الجراح عن حفصة عن أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحد المرأة فوق ثلاث إلاّ على زوج فانها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلاّ ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيباً إلاّ أدنى طهرتها إذا طهرت من محيضها نبيذة من قسط أو أظفار قال يعقوب مكان عصب إلاّ مغسولاً وزاد يعقوب ولا تختضب.
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا إبراهيم بن طهمان حدثني بديل عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة

(3/287)


زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا المشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل.
العصب من الثياب ما عصب غزله فصبغ قبل أن ينسج كالبرود والحبر ونحوه والممشق ما صبغ بالمنشق وهو يشبه المغرة. وقوله بنبذة من قسط يريد اليسير منه والنبيذ القليل من الشيء والنبيذة تصغيره وظهور الهاء فيه لأنه نوى بها القطعة منه.
واختلف فيما تجتنبه المحد من الثياب فقال الشافعي كل صبغ كانت زينة أو وشي كان لزينة في ثوب أو يلمع كان من العصب والحبرة فلا تلبسه الحاد غليظاً كان أو رقيقاً.
وقال مالك لا تلبس مصبوغاً بعصفر أو ورس أو زعفران.
قال الشيخ ويشبه أن لا يكره على مذهبهم لبس العصب والحبر ونحوه وهو أشبه بالحديث من قول من منع منه.
وقالوا لا تلبس شيئا من الحلي وقال مالك لا خاتماً ولا حلة. والخضاب مكروه في قول الأكثر.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني مخرمة عن أبيه قال سمعت المغيرة بن الضحاك يقول أخبرتني أم حكيم بنت أسيد عن أمها أن زوجها توفي وكانت تشتكي عينيها فتكتحل بالجلاء قال أحمد الصواب بكحل الجلاء فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة فسألتها عن كحل الجلاء فقالت لا تكتحلي به إلاّ من أمر لا بد منه يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتمسحينه بالنهار ثم قالت عند ذلك أم سلمة دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3/288)


حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبراً فقال ما هذا يا أم سلمة فقلت إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب قال أنه يشب الوجه فلا تجعليه إلاّ بالليل وتنزعينه بالنهار ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب قالت قلت بأي شيء امتشط يا رسول الله قال: بالسدر تغلفين به رأسك.
قال الشيخ: كحل الجلاء هو الاثمد لجلوه البصر ومعنى يشب الوجه أي يوقد اللون وأصله من نشبت النار أنشبها إذا أوقدتها. واختلف في الكحل فقال الشافعي كل كحل كان زينة لا خير فيه كالاثمد ونحوه مما يحسن موقعه في عينها، فأما الكحل الفارسي ونحوه إذا احتاجت إليه فلا بأس إذ ليس فيه زينة بل يزيد العين مَرَهاً وقبحاً.
ورخص في الكحل عند الضرورة أهل الرأي ومالك بالكحل الأسود ونحوه عن عطاء والنخعي.

ومن باب في عدة الحامل
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية فيسألها عن حديثها وعما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استفتته فكتب عمر بن عبد الله بن عتبة يخبره أن سبيعة أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وهو ممن شهد بدراً فتوفي عنها في حجة

(3/289)


الوداع وهي حامل فلم تنشب ان وضعت حملها بعد وفاته فلما تعالت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال لها مالي أراك متجملة لعلك ترتجين النكاح إنك والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي.
قال الشيخ: تعالت من نفاسها أي طهرت من دمها واختلف العلماء فيه فقال علي وابن عباس تنتظر المتوفى عنها آخر الأجلين، ومعناه أن تمكث حتى تضع حملها فإن كانت مدة الحمل من وقت وفاة زوجها أربعة أشهر وعشراً فقد حلت وإن وضعت قبل ذلك تربصت إلى أن تستوفي المدة.
وقال عامة العلماء انقضاء عدتها من ضع الحمل طالت المدة أو قصرت، وهو قول عمر وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة ومالك والأوزاعي والثوري وأهل الرأي والشافعي.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء قال عثمان حدثنا وقال ابن العلاء أخبرنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله، قال من شاء لاعنته لأنزلت سورة النساء القصرى بعد الأربعة الأشهر وعشر.
قال الشيخ: يريد سورة الطلاق إذ أن نزول هذه السورة كان بعد نزول البقرة فقال في الطلاق {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملن} [الطلاق: 4] وفي البقرة {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً} [البقرة: 234] الآية فظاهر كلامه يدل على أنه

(3/290)


حمله على النسخ فذهب إلى أن ما في سورة الطلاق ناسخ لما في سورة البقرة، وعامة العلماء لا يحملونه على النسخ بل يرتبون إحدى الآيتين على الأخرى فيجعلون التي في سوره البقرة في عدد الحوابل وهذه في الحوامل.

ومن باب في عدة أم الولد
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد أن محمد بن جعفر حدثهم (ح) وحدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن مطر عن رجاء بن حيوة عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص قال لا تلبسوا علينا سنة قال ابن مثنى سنة نبينا صلى الله عليه وسلم عدة المتوفى عنها أربعة أشهر وعشر، يَعني أم الولد.
قال الشيخ: لا تلبسوا علينا سنة نبينا يحتمل وجهين أحدهما أن يريد بذلك سنة كان يرويها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصاً والآخر أن يكون ذلك منه على معنى السنة في الحرائر ولو كان معنى السنة التوقيف لأشبه أن يصرح به وأيضاً فإن التلبيس لا يقع في النصوص إنما يكون غالبا في الرأي.
وتأوله بعضهم على أنه إنما جاء في أم ولد بعينها كان أعتقها صاحبها ثم تزوجها وهذه إذا مات عنها مولاه الذي هو زوجها كانت عدتها أربعة أشهر وعشراً إن لم تكن حاملاً بلا خلاف بين العلماء.
واختلف في عدة أم الولد فذهب الأوزاعي وإسحاق في ذلك إلى حديث عمرو بن العاص وقالا تعتد أم الولد أربعة أشهر وعشراً كالحرة. وقال ابن المسيب وابن جبير والحسن وابن سيرين.
وقال الثوري وأهل الرأي عدتها ثلاث حيض وقاله علي وابن مسعود وعطاء والنخعي.
وقال مالك والشافعي وأحمد عدتها حيضة، وقاله ابن عمر وعروة والقاسم

(3/291)


والشعبي والزهري.

ومن باب المبتوتة
لا يرجع إليها زوجها حتى تنكح غيره
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته فتزوجت زوجاً غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها أتحل لزوجها الأول قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحل للأول حتى تذوق الآخر ويذوق عسيلتها.
قال الشيخ: العسيلة تصغير العسل وقيل إن الهاء إنما ثبتت فيها على نية اللذة. وقيل إن العسل تؤنث وتذكر.
وقال ابن المنذر فيه دلالة على أنه إن واقعها وهي نائمة أو مغمى عليها لا تحس باللذة فإنها لا تحل للزوج الأول لأنها لم تذق العسيلة، وإنما يكون ذواقها بأن تحس باللذة.