معالم السنن كتاب العلم
ومن باب فضل العلم
قال أبو داود: حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا عبد الله بن داود
قال سمعت عاصم بن رجاء بن حيوة يحدث عن داود بن جميل عن
كثير بن قيس قال كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق
فجاءه رجل فقال با أبا الدرداء إني
(4/182)
جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم
لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
جئت لحاجة، قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من
طرق الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضىً لطالب العلم وإن
العالم ليستغفر له من في السموات والأرض والحيتان في جوف
الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر
على سائر الكواكب وأن العلماء ورثة الأنبياء؛ وأن الأنبياء
لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ورَّثوا العلم فمن أخذه أخذ
بحظ وافر.
قال الشيخ: قوله إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم
يتأول على وجوه أحدها أن يكون وضعها الأجنحة بمعنى التواضع
والخشوع تعظيماً لحقه وتوقيراً لعلمه كقوله تعالى {واخفض
لهما جناح الذل من الرحمة} [الإسراء: 24] وقيل وضع الجناح
معناه الكف عن الطيران للنزول عنده كقوله ما من قوم يذكرون
الله إلاّ حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة. وقيل معناه
بسط الجناح وفرشها لطالب العلم لتحمله عليها فتبلغه حيث
يؤمه ويقصده من البقاع في طلبه ومعناه المعونه وتيسير
الننبعي له في طلب العلم والله أعلم.
وقيل في قوله وتستغفر له الحيتان في جوف الماء إن الله قد
قيض للحيتان وغيرها من أنواع الحيوان بالعلم على ألسنة
العلماء أنواعاً من المنافع والمصالح والارفاق فهم الذين
بينوا الحكم فيها فيما يحل ويحرم منها وارشدوا إلى المصلحة
في بابها وأوصوا بالإحسان إليها ونفي الضرر عنها فألهمها
الله الاستغفار للعلماء مجازاة على حسن صنيعهم بها وشفقتهم
عليها.
(4/183)
ومن باب كتابة العلم
قال أبو داود: حدثنا مسدد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا:
حَدَّثنا يحيى عن عبيد الله بن الأخنس عن الوليد بن عبد
الله بن أبي مغيث عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال
كنت اكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا تكتب كل شيء تسمعه ورسول
الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت
عن الكتاب فذكرت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج
منه إلاّ حق.
قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي أخبرنا أبو أحمد حدثنا
كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال دخل زيد بن
ثابت على معاوية فسأله عن حديث فأمر إنساناً فيكتبه، فقال
له زيد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن لا نكتب
شيئاً من حديثه فمحاه.
قال الشيخ: يشبه أن يكون النهي متقدماً وآخر الأمرين
الإباحة، وقد قيل أنه إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن
في صحيفة واحدة لئلا يختلط به ويشتبه على القارىء فأما أن
يكون نفس الكتاب محظوراً وتقييد العلم بالخط منهياً عنه
فلا. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بالتبليغ
وقال ليبلغ الشاهد الغائب فإذا لم يقيدوا ما يسمعونه منه
تعذر التبليغ ولم يؤمن ذهاب العلم وأن يسقط أكثر الحديث
فلا يبلغ آخر القرون من الأمة، وللنسبان من طبع أكثر البشر
والحفظ غير مأمون عليه الغلط، وقد قال صلى الله عليه وسلم
لرجل شكى إليه سوء الحفظ استعن بيمينك، وقال اكتبوها لأبى
شاه خطبة خطبها فاستكتبها وقد كتب رسول الله صلى الله عليه
وسلم كتباً في الصدقات والمعاقل والديات أو كتبت عنه فعمل
بها
(4/184)
الأمة وتناقلتها الرواة ولم ينكرها أحد من
علماء السلف والخلف فدل ذلك على جواز كتابة الحديث والعلم
والله أعلم.
ومن باب كراهية منع العلم
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا
علي بن الحكم عن عطاء، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام
من نار يوم القيامة.
قال الشيخ: الممسك عن الكلام مُمَثَّل بمن ألجم نفسه كما
يقال التقى ملجم وكقول الناس كلم فلان فلاناً فاحتج عليه
بحجة ألجمته أي أسكتته. والمعنى أن الملجم لسانه عن قول
الحق والاخبار عن العلم والاظهار له يعاقب في الآخرة بلجام
من نار.
وخرج هذا على معنى مشاكلة العقوبة الذنب كقوله تعالى
{الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبطه
الشيطان من المس} [البقرة: 275] .
قال وهذا في العلم الذي يلزمه تعليمه إياه ويتعين عليه
فرضه كمن رأى كافراً يريد الإسلام يقول علموني ما الإسلام
وما الدين. وكمن يرى رجلاً حديث العهد بالإسلام لا يحسن
الصلاة وقد حضر وقتها يقول علموني كيف أصلي. وكمن جاء
مستفتياً في حلال أو حرام يقول افتوني وارشدوني فإنه يلزم
في مثل هذه الأمور أن لا يمنعوا الجواب عما سألوا عنه من
العلم، فمن فعل ذلك آثماً مستحقاً للوعيد والعقوبة وليس
كذلك الأمر في نوافل العلم التي لا ضرورة بالناس إلى
معرفتها.
(4/185)
وسئل الفضيل بن عياض عن قوله صلى الله عليه
وسلم طلب العلم فريضة على كل مسلم، فقال كل عمل كان عليلت
فرضاً فطلب علمه عليك فرض،، وما لم يكن العمل به عليك
فرضاً فليس طلب علمه عليك بواجب.
ومن باب توقي الفتيا
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا عيسى عن
الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن الصنابحي عن معاوية أن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغَلوطات.
قال الشيخ: وقد روي أنه نهى عن الأغلوطات، قال الأوزاعي هي
شرار المسائل.
والأغلوطات واحدها أغلوطة وزنها افعولة من الغلط كالأحموقة
من الحُمق والأسطورة من السطر، فأما الغلوطات فواحدها
غَلوطة اسم مبني من الغلط كالحلوبة والركوبة من الحلب
والركوب. والمعنى أنه نهى أن يعترض العلماء بصعاب المسائل
التي يكثر فيها الغلط ليُستزلوا بها ويستسقط رأيهم فيها.
وفيه كراهية التعمق والتكلف كما لا حاجه للإنسان إليه من
المسألة ووجوب التوقف عما لا علم للمسؤول به. وقد روينا،
عَن أبي بن كعب أن رجلاً سأله عن مسألة فيها غموض فقال هل
كان هذا بعد قال لا فقال امهلني إلى أن يكون. وسأل رجل
مالك بن أنس عن رجل شرب في الصلاة ناسياً فقال ولم لم يأكل
ثم.، قال: حَدَّثنا الزهري عن علي بن حسين أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال إن من حسن إسلام المرء تركه ما
لايعنيه.
ومن باب نشر العلم
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة حدثني عمر بن
سليمان من
(4/186)
ولد عمر بن الخطاب عن عبد الرحمن بن أبان
عن أبيه عن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: نضر الله امرأً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه
فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه.
قال الشيخ: قوله نضر الله معناه الدعاء له بالنضارة وهي
النعمة والبهجة يقال بتخفيف الضاد وتثقيلها وأجودهما
التخفيف.
وفي قوله رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه دليل على كراهة
اختصار الحديث لمن ليس بالمتناهي في الفقه لأنه إذا فعل
ذلك فقد قطع طريق الاستنباط والاستدلال لمعاني الكلام من
طريق التفهم وفي ضمنه وجوب التفقه والحث على استنباط معاني
الحديث واستخراج المكنون من سره.
ومن باب الحديث عن بني إسرائيل
قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثني علي بن
مُسهر عن محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوا عن بني إسرائيل
ولا حرج.
قال الشيخ: ليس معناه إباحة الكذب في أخبار بني إسرائيل
ورفع الحرج عمن نقل عنهم الكذب، ولكن معناه الرخصة في
الحديث عنهم على معنى البلاغ وإن لم يتحقق صحة ذلك بنقل
الإسناد، وذلك لأنه أمر قد تعذر في اخبارهم لبعد المسافة
وطول المدة ووقوع الفترة بين زماني النبوة.
وفيه دليل على أن الحديث لا يجوز عن النبي صلى الله عليه
وسلم إلاّ بنقل الإسناد والتثبت فيه.
وقد روى الدراوردي هذا الحديث عن محمد بن عمرو بزيادة لفظ
دل بها على صحة هذا المعنى ليس في رواته علي بن مسهر الذي
رواها أبو داود، عَن أبي هريرة
(4/187)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج حدثوا عني ولا تكذبوا علي.
ومعلوم أن الكذب على بني إسر ائيل لا يجوز بحال فإنما أراد
بقول وحدثوا عني ولا تكذبوا عليّ أي تحرزوا من الكذب عليّ
بأن لا تحدثوا عني إلاّ بما يصح عندكم من جهة الإسناد الذي
به يقع التحرز عن الكذب عليّ.
ومن باب في القصص
قال أبو داود: حدثنا محمود بن خالد حدثنا أبو مسهر حدثنا
عباد بن عباد الخواص عن يحيى بن أبي عمرو السيباني عن عمرو
بن عبد الله السيباني عن عوف بن مالك الأشجعي قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يقص إلاّ أمير أو
مأمور أو مختال.
قال الشيخ: بلغني عن ابن سريج أنه كان يقول هذا في الخطبة
وكان الأمراء يتلون الخطب فيعظون النلس ويذكرونهم فيها
فأما المأمور فهو من يقيمه الإمام خطيباً فيعظ الناس ويقص
عليهم.
فأما المختال فهو الذي نصب لذلك نفسه من غير أن يؤمر له
ويقص على الناس طلباً للرياسة فهو يرائي بذلك ويختال.
وقد قيل إن المتكلمين على الناس ثلاثة أصناف مذكر، وواعظ،
وقاص. فالمذكر الذي يذكر الناس آلاء الله ونعماءه ويبعثهم
به على الشكر له. والواعظ يخوفهم بالله وينذرهم عقوبته
فيردعهم به عن المعاصي. والقاص هو الذي يروي لهم أخبار
الماضين ويسرد عليهم القصص فلا يأمن أن يزيد فيها أو ينقص.
والمذكر والواعظ مأمون عليهما هذا المعنى.
(4/188)
|