معالم السنن كتاب القضاء
قال أبو داود: حدثنا نصر بن علي أخبرنا فضيل بن سليمان
حدثنا عمرو بن أبي عمرو عن سعيد المقبري، عَن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ولي القضاء فقد ذبح
بغير سكين.
قال الشيخ: معناه التحذير من طلب القضاء والحرص عليه يقول
من تصدى للقضاء فقد تعرض للذبح فليحذره وليتوقه.
وقوله بغير سكين يحتمل وجهين: أحدهما أن الذبح إنما يكون
في ظاهر العرف بالسكين فعدل به عليه السلام عن غير ظاهر
العرف وصرفه عن سنن العادة إلى غيرها ليعلم أن الذي أراده
بهذا القول إنما هو ما يخاف عليه من هلاك دينه دون هلاك
بدنه.
والوجه الآخر أن الذبح الوجيء الذي يقع به إزهاق الروح
واراحة الذبيحة وخلاصها من طول الألم وشدته إنما يكون
بالسكين لأنه يجهز عليه، وإذا ذبح بغير السكين كان ذبحه
خنقاً وتعذيباً فضرب المثل في ذلك ليكون أبلغ
(4/159)
في الحذر والوقوع فيه.
ومن باب القاضي يخطىء
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا عبد
العزيز يعنى ابن محمد أخبرني يزيد بن عبد الله بن الهاد عن
محمد بن إبراهيم عن بُسر بن سعيد، عَن أبي قيس مولى عمرو
بن العاص عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا
حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر فحدثت به أبا بكر بن حزم فقال
هكذا حدثني أبوسلمة، عَن أبي هريرة.
قال الشيخ: قوله إذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر إنما يؤجر
المخطىء على اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة ولا
يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط. وهذا فيمن كان من
المجتهدين جامعاً لآلة الاجتهاد عارفاً بالأصول وبوجوه
القياس. فأما من لم يكن محلاً للاجتهاد فهومتكلف ولا يعذر
بالخطأ في الحكم بل يخاف عليه أعظم الوزر بدليل حديث ابن
بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: القضاة
ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار، أما الذي في الجنة
فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار في الحكم ورجل
قضى للناس على جهل فهو في النار.
وفيه من العلم ليس كل مجتهد مصيباً، ولو كان كل مجتهد
مصيباً لم يكن لهذا التفسير معنى، وإنما يعطى هذا أن كل
مجتهد معذور لا غير، وهذا إنما هو في الفروع المحتملة
للوجوه المختلفة دون الأصول التي هي أركان الشريعة وأمهات
الأحكام التي لا تحتمل الوجوه ولا مدخل فيها للتأويل. فإن
من أخطأ فيها كان غير معذور في الخطأ وكان حكمه في ذلك
مردوداً.
(4/160)
ومن باب كراهية
الرشوة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا ابن أبي ذئب عن
الحارث بن عبد الرحمن، عَن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو
قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي.
قال الشيخ: الراشي المعطي، والمرتشي الآخذ، وإنما يلحقهما
العقوبة معاً إذا استويا في القصد والإرادة فرشا المعطي
لينال به باطلاً ويتوصل به إلى ظلم، فأما إذا أعطى ليتوصل
به إلى حق أو يدفع عن نفسه ظلماً فإنه غير داخل في هذا
الوعيد.
وروي أن ابن مسعود أخذ في شيء وهو بأرض الحبشة فأعطى
دينارين حتى خُلي سبيله. وروي عن الحسن والشعبي وجابر بن
زيد وعطاء أنهم قالوا لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله
إذا خاف الظلم.
وكذلك الآخذ إنما يستحق الوعيد إذا كان ما يأخذه اما على
حق يلزمه اداؤه فلا يفعل ذلك حتى يُرشا أو عمل باطل يجب
عليه تركه فلا يتركه حتى يصانع ويرشا.
ومن باب كيف القضاء
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون قال أخبرنا شريك عن سماك
عن حنش عن علي عليه السلام قال: بعثني رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى اليمن قاضياً فقلت يا رسول الله ترسلني وأنا
حديث السن ولا علم لي بالقضاء، فقال إن الله سيهدي قلبك
ويثبت لسانك فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع
من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء،
قال فما زلت قاضياً أو ما
(4/161)
أشككت في قضاء بعد.
قال الشيخ: فيه دليل على أن الحاكم لا يقضي على غائب وذلك
لأنه إذا منعه أن يقضي لأحد الخصمين وهما حاضران حتى يسمع
كلام الآخر فقد دل على أنه في الغائب الذي لم يحضره ولم
يسمع قوله أولى بالمنع، وذلك لإمكان أن يكون معه حجة تبطل
دعوى الحاضر.
وممن ذهب إلى أن الحاكم لا يقضي على غائب شريح وعمر بن عبد
العزيز وأبو حنيفة وابن أبي ليلى.
وقال مالك والشافعي يجوز القضاء على الغائب إذا تبين
للحاكم أن فراره واستخفاءه إنما هو فرار من الحق ومعاندة
للخصم.
واحتج لهذه الطائفة بعضهم بخبر هند، وقوله عليه السلام لها
خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف؛ وقال إذا كان الخصم حاضر
زمانه لا يحكم على أحدهما قبل أن يسمع من صاحبه لجواز أن
يكون مع خصمه حجة يدفع بها بينته، فإذا كان الخصم غائباً
لم يجز أن يترك استماع قول خصمه الحاضر إلاّ أنه يكتب في
القضية أن الغائب على حقه إذا حضر وأقام بينته أو جاء
بحجته وهو إذا فعل ذلك فقد استعمل معنى الخبر في استماع
قول الخصم الآخر كاستماعه قول الأول. ولو ترك الحكم على
الغائب لكان ذلك ذريعة إلى إبطال الحقوق.
وقد حكم أصحاب الرأي على الغائب في مواضع. منها الحكم على
الميت وعلى الطفل وقال في الرجل يودع الرجل وديعة ثم يغيب
فإذا ادعت امرأته النفقة وقدمت المودَع إلى الحاكم قضى لها
عليه بها. وقالوا إذا ادعى للشفيع على الغائب أنه باع
عقاره وسلم واستوفى الثمن فإنه يقضى له بالشفعة وكل هذا
حكم على الغائب.
(4/162)
ومن باب قضاء القاضي
إذا أخطأ
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن هشام بن
عروة عن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة قالت قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنا بشر وإنكم تختصمون
إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على
نحو مما أسمع منه فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذ
منه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار.
قال الشيخ: قوله ألحن بحجته أي أفطن لها، واللحن مفتوحة
الحاء الفطنة؛ يقال لحنت الشيء ألحن له لحَناً ولحن الرجل
في كلامه لحناً بسكون الحاء.
وفيه من الفقه وجوب الحكم بالظاهر وأن حكم الحاكم لا يحل
حراماً ولا يحرم حلالاً وأنه متى أخطأ في حكمه فمضى كان
ذلك في الظاهر فأما في الباطن وفي حكم الآخرة فإنه غير
ماض.
وفيه أنه لا يجوز للمقضي له بالشيء أخذه إذا علم أنه لا
يحل له فيما بينه وبين الله، ألا تراه يقول فلا يأخذ منه
شيئاً فإنما اقطع له قطعة من النار. وقد يدخل في هذا
الأموال والدماء والفروج كان ذلك كله حق أخيه وقد حرم عليه
أخذه.
وقد أجمع العلماء في هذا في الدماء والأموال وإنما الخلاف
في أحكام الفروج فقال أبو حنيفة إذا ادعت المرأة على زوجها
الطلاق وشهد لها شاهدان فقضى الحاكم بالتفرقة بينهما وقعت
الفرقة فيما بينها وبين الله وإن كانا شاهدي زور، وجاز لكل
واحد من الشاهدين أن ينكحها، وخالفه أصحابه في ذلك. قال
وقد تعرض في هذا الباب أمور مما يختلف فيه اعتقاد القاضي
وصاحب القضية المحكوم له بها كالرجل يذهب إلى أن الطلاق
قبل النكاح لازم فيتزوج المرأة فيحكم له الحاكم بجواز
النكاح فلا يسعه فيما بينه وبين الله المقام عليه ويلزمه
نصف المهر بالعقد إذا
(4/163)
حكم به الحاكم عليه. ولو أن رجلاً مات ابن
أبيه وخلف أخاه لأبيه وأمه وخلف مالاً فقدم إلى قاض يقول
بقول أبي بكر في توريث الجد والجد يرى رأي زيد لم يسعه أن
يستبد بالمال دون الاخوة ولا يبيح له القاضي شيئاً هو في
علمه أنه حرام عليه. وكذلك هذا فيمن لا يرى توريث ذوي
الأرحام في نحو هذا من الأمور.
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة حدثنا ابن
المبارك عن أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة
قالت أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في
مواريث لهما لم تكن لهما بينة إلاّ دعواهما، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم فذكر مثله فبكى الرجلان وقال كل واحد
منهما حقي لك، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: أما
إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق ثم استَهَما ثم
تحالا.
قال الشيخ: قوله استهما معناه اقترعا والاستهام الاقتراع
ومنه قوله تعالى {فساهم فكان من المدحضين} [الصافات: 411]
وفيه دليل على أن الصلح لا يصح إلاّ في الشيء المعلوم
ولذلك أمرهما بالتوخي في مقدار الحق ثم لم يقنع فيه
بالتوخي حتى ضم إليه القرعة، وذلك أن التوخي إنما هو أكثر
الرأي وغالب الظن والقرعة نوع من البينة فهي أقوى من
التوخي ثم أمرهما بعد ذلك بالتحليل ليكون تصادرهما عن تعين
براءة وافتراقهما عن طيب نفس ورضى.
وفيه دليل على أن التحليل إنما يصح فيما كان معلوم المقدار
غير مجهول الكمية.
ومن باب القاضي يقضي وهو غضبان
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن عبد
الملك بن عمير حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أنه
كتب إلى ابنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(4/164)
لا يقضي الحاكم بين اثنين وهو غضبان.
قال الشيخ: الغضب يغير العقل ويحيل الطباع عن الاعتدال
فلذلك أمرالحاكم بالتوقف في الحكم ما دام به الغضب. فقياس
ما كان في معناه من جوع مفرط وفزع مدهش ومرض موجع قياس
الغضب في المنع من الحكم.
ومن باب اجتهاد الرأي في
القضاء
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر عن شعبة، عَن أبي عون عن
الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل
حمص من أصحاب معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض
لك قضاء قال أقضي بكتاب الله، قال فإن لم تجد في كتاب
الله، قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فإن لم
تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب
الله، قال اجتهد برأيي ولا آلو فضرب رسول الله صلى الله
عليه وسلم صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله
لما يرضي رسول الله.
قال الشيخ: قوله اجتهد برأيي يريد الاجتهاد في رد القضية
من طريق القياس إلى معنى الكتاب والسنة ولم يرد الرأي الذي
يسنح له من قبل نفسه أو يخطر بباله عن غير أصل من كتاب أو
سنة. وفي هذا إثبات القياس وإيجاب الحكم به.
وفيه دليل على أنه ليس للحاكم أن يقلد غيره فيما يريد أن
يحكم به وإن كان المقلد أعلم منه وافقه حتى يجتهد فيما
يسمعه منه فإن وافق رأيه واجتهاده أمضاه وإلا توقف عنه لأن
التقليد خارج من هذه الأقسام المذكورة في الحديث.
وقوله لا آلو معناه لا أقصر في الاجتهاد ولا أترك بلوغ
الوسع فيه.
(4/165)
ومن باب في الصلح
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب
أخبرني سليمان بن بلال (ح) وحدثنا أحمد بن عبد الواحد
الدمشقي حدثنا مروان، يَعني ابن محمد حدثنا سليمان بن بلال
أو عبد العزيز بن محمد شك الشيخ عن كثير بن زيد عن الوليد
بن رباح، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: الصلح جائز بين المسلمين زاد أحمد إلاّ صلحاً حرم
حلالاً أو أحل حراماً، زاد سليمان بن داود وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: المسلمون على شروطهم.
قال الشيخ: الصلح يجري مجرى المعاوضات ولذلك لا يجوز إلاّ
فيما أوجب المال ولا يجوز في دعوى القذف ولا على دعوى
الزوجية وعلى مجهل ولا أن يصالحه من دين له على مال نسيه
لأنه من باب الكال بالكال ولا يجوز الصلح في قول مالك على
الأقرار، ولا يجوز في قول الشافعي على الإنكار. وجوزه
أصحاب الرأي على الأقرار والإنكار معاً. ونوع آخر من الصلح
وهو أن يصالحه في مال على بعضه نقداً وهذا من باب الحظ
والإبراء وإن كان يدعي صلحاً.
وقوله المسلمون على شروطهم فهذا في الشروط الجائزة في حق
الدين دون الشروط الفاسدة وهذا من باب ما أمرالله تعالى من
الوفاء بالعقود.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني
يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عبد الله بن كعب أن كعب بن
مالك أخبره أنه تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فارتفعت
أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في
بيته فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف
سجف حجرته ونادى كعب بن مالك فقال يا كعب، فقال لبيك يا
رسول الله
(4/166)
فأشار له بيده أن ضع الشطر من دينك، قال
كعب قد فعلت يا رسول الله قال النبي صلى الله عليه وسلم:
قم فاقضه.
قال الشيخ: فيه من الفقه أن للقاضي أن يصلح بين الخصمين
وأن الصلح إذا كان على وجه الحط والوضع من الحق يجب نقداً.
وفيه جواز ملازمة الغريم واقتضاء الحق منه في المسجد.
ومن باب في الشهادات
قال أبو داود: حدثنا ابن السرح وأحمد بن سعيد الهمداني
قالا أخبرنا ابن وهب قال أخبرني مالك بن أنس عن عبد الله
بن أبي بكر أن أباه أخبره أن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن
عفان أخبره أن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري أخبره أن
زيد بن خالد الجهني أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته أو يخبر
بشهادته قبل أن يُسألها شك عبد الله بن أبي بكر ايتهما
قال.
قال الشيخ: أما الشهادة في الحق يدعيه الرجل قبل صاحبه
فيخبر بها الشاهد قبل أن يسألها فإنه لا قرار لها ولا يجب
تنجيز الحكم بها حتى يستشهده صاحب الحق فيقيمها عند
الحاكم، وإنما هذا في الشهادة تكون عند الرجل ولا يعلم بها
صاحب الحق فيخبره بها ولا يكتمه إياها.
وقيل هذا في الأمانة والوديعة تكون لليتيم لا يعلم بمكانها
غيره فيخبره بما يعلمه من ذلك، وقيل هذا مثل في سرعة إجابة
الشاهد إذا استشهد لا يمنعها ولا يؤخرها.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: يأتي أقوام فيحلفون ولا
يستحلفون ويشهدون ولا يستشهدون
(4/167)
فإنما هو إذا كان على المعنى الأول. وقيل
أراد بها الشهادات التي يقطع بها على المغيب فيقال فلان في
الجنة وفلان في النار.
وفيه معنى التألي على الله تعالى ولذلك ذم وزجر عنه.
ومن باب فيمن يعين على خصومة
من غير أن يعلم أمرها
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا عمارة
بن غزية عن يحيى بن راشد قال جلسنا لعبد الله بن عمر فخرج
إلينا فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من
قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج
مما قال.
قال الشيخ: الردغة الوحل الشديد، ويقال ارتدغ الرجل إذا
ارتطم في الوحل. وجاء في تفسير ردغة الخبال أنها عصارة أهل
النار.
ومن باب من ترد شهادته
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا محمد بن راشد حدثنا
سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم رد شهادة الخائن والخائنة وذي
الغِمر على أخيه ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها
لغيرهم.
قال الشيخ: قال أبو عبيد لا نراه خص به الخيانة في أمانات
الناس دون ما فرض الله على عباده وائتمنهم عليه فإنه قد
سمى ذلك كله أمانة فقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا
تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}
[الأنفال: 27] فمن ضيع شيئاً مما أمر الله أو ركب شيئاً
مما نهاه الله عنه فليس بعدل لأنه قد لزمه اسم الخيانة.
(4/168)
وأما ذو الغمر فهو الذي بينه وبين المشهود
عليه عداوة ظاهرة فرد شهادته للتهمة.
وقال أبو حنيفة شهادد على العدو مقبولة إذا كان عدلاً.
والقانع السائل والمستطعم وأصل القنوع السؤال، ويقال إن
القانع المنقطع إلى القوم لخدمتهم ويكون في حوائجهم
كالأجير والوكيل ونحوه.
ومعنى رد هذه الشهادة التهمة في جر النفع إلى نفسه لأن
التابع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم من نفع وكل من جر
إلى نفسه بشهادته نفعاً فهي مردودة كمن شهد لرجل على شراء
دار وهو شفيعها، وكمن حكم له على رجل بدين وهو مفلس فشهد
للمفلس على رجل بدين ونحوه.
ومن رد شهادة القانع لأهل البيت بسبب جر المنفعة فقياس
قوله أن يرد شهادة الزوج لزوجته لأن ما بينهما من التهمة
في جر النفع أكثر، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.
والحديث أيضاً حجة على من أجاز شهادة الأب لابنه لأنه يجر
به النفع لما جبل عليه من حبه الميل إليه ولأنه يملك عليه
ماله، وقد قال عليه السلام لرجل أنت ومالك لأبيك، وذهب
شريح إلى جواز شهادة الأب للابن وهو قول المزني وأبو ثور
وأحسبه قول داود.
ومن باب شهادة البدوي على أهل
الأمصار
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني أخبرنا ابن وهب
أخبرني يحيى بن أيوب ونافع بن يزيد عن ابن الهاد عن محمد
بن عمرو عن عطاء بن يسار، عَن أبي هريرة أنه سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول لا تجوز شهادة بدوي على صاحب
قرية.
(4/169)
قال الشيخ: يشبه أن يكون إنما كره شهادة
أهل البدو لما فيهم من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام
الشريعة ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها ولا
يقيمونها على حقها لقصورعلمهم عما يحيلها ويغيرها على
جهتها.
وقال مالك لا تجوز شهادة البدوي على القروي لأن في الحضارة
من يغنيه عن البدوي إلاّ أن يكون في بادية أوقرية. والذي
يشهد بدوياً ويدع جيرته من أهل الحضر عندي مريب.
وقال عامة العلماء شهادة البدوي إذا كان عدلاً يقيم
الشهادة على وجهها جائزة.
ومن باب الشهادة في الرضاع
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن
أيوب عن ابن أبي مليكة قال حدثني عقبة بن الحارث وحدثنيه
صاحب لي عنه وأنا لحديث صاحبي احفظ، قال تزوجت أم يحيى بنت
أبي أهاب فدخلت علينا امرأة سوداء فزعمت أنها ارضعتنا
جميعاً فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأعرض
عني فقلت يا رسول الله إنها لكاذبة، قال وما يدريك وقد
قالت ما قالت دعها عنك.
قال الشيخ: قوله وما يدريك تعليق منه القول في أمرها،
وقوله دعها عنك إشارة منه بالكف عنها من طريق الورع لا من
طريق الحكم، وليس في هذا دلالة على وجوب قبول قول المرأة
الواحدة في هذا وفيما لا يطلع عليه الرجال من أمر النساء
لأن من شرط الشاهد من كان من رجل أو امرأة أن يكون عدلاً
وسبل الشهادات أن تقام عند الأئمة والحكام وإنما هذه امرأة
جاءته فأخبرته بأمر هو من فعلها وهو بين مكذب لها ولم يكن
هذا القول منها
(4/170)
شهادة عند النبي صلى الله عليه وسلم فتكون
سبباً للحكم والاحتجاج به في إجازة شهادة المرأة الواحدة
في هذه وفيما أشبهه من الباب ساقط.
واختلف في عدد من تقبل شهادته من النساء في الرضاع. فقال
ابن عباس شهادة المرأة الواحدة تقبل فيما لا يطلع عليه
الرجال. وأجاز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال، وقد روي
عن الشعبي والنخعي.
وقال عطاء وقتادة لا تجوز في ذلك أقل من أربع نسوة وإليه
ذهب الشافعي.
وقال مالك تجوز شهادة امرأتين وهو قول ابن أبي ليلى وابن
شبرمة.
ومن باب شهادة أهل الذمة في
الوصية في السفر
قال أبو داود: حدثنا زياد بن أيوب حدثنا هشيم أخبرنا زكريا
عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدَقوقاء هذه
ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من
أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه
وقدما بتركته ووصيته فقال الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي
كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحلَفَهما بعد
العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا
وأنها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما.
قال الشيخ: فيه دليل على أن شهادة أهل الذمة مقبولة على
وصية المسلم في السفر خاصة وممن روي عنه أنه قبلها في مثل
هذه الحالة شريح وإبراهيم النخعي وهو قول الأوزاعي.
وقال أحمد لا تقبل شهادتهم إلاّ في مثل هذا الموضع
للضرورة.
وقال الشافعي لا تقبل شهادة الذمي من جه لا على مسلم ولا
على كافر وهو قول مالك.
وقال أحمد لا تجوز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض.
(4/171)
وقال أصحاب الرأي شهادة بعضهم على بعض
جائزة والكفر كله ملة واحدة.
وقال آخرون شهادة اليهودي على اليهودي جائزة ولا تجوز على
النصراني والمجوسي لأنها ملل مختلفة ولا تجوز شهادة أهل
ملة على ملة أخرى. هذا قول الشعبي وابن أبي ليلى وإسحاق بن
راهويه، وحكي ذلك عن الزهري قال وذلك للعداوة التي ذكرها
الله بين هذه الفرق.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا
ابن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد
بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال خرج رجل من بني سهم مع
تميم الداري وعدي بن بَدَّاء فمات السهمي بأرض ليس فيها
مسلم، فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة مخوَّصاً بالذهب
فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجد الجام بمكة
فقالوا اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي
فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبنا قال
فنزلت فيهم {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر
أحدكم الموت} الآية [المائدة: 106] .
قال الشيخ: فيه حجة لمن رأى رد اليمين على المدعي والآية
محكمة لم تنسخ في قول عائشة والحسن البصري وعمرو بن
شرحبيل، وقالوا المائدة آخر ما نزل من القرآن لم ينسخ منها
شيء؛ وتأول من ذهب إلى خلاف هذا القول الآيه على الوصية
دون الشهادة لأن نزول الآية إنما كان في الوصية، وتميم
الدارى وصاحبه عدي بن بداء إنما كانا وصيين لا شاهدين
والشهود لا يحلفون، وقد حلفهما رسول الله صلى الله عليه
وسلم وإنما عبر بالشهادة عن الأمانة التي تحملاها وهو معنى
قوله تعالى {ولا نكتم شهادة الله} [المائدة: 106] أي أمانة
الله، وقالوا معنى قوله {أو آخران من غيركم} [المائدة: 06
1] أي من غير قبيلتكم وذلك أن الغالب في الوصية أن الموصي
يشهد
(4/172)
أقربائه وعشيرته دون الأجانب والأباعد،
ومنهم من زعم أن الآية منسوخة والقول الأول أصح والله
أعلم.
ومن باب إذا علم الحاكم صدق
شهادة الواحد
يجوز له أن يقضي به
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس أن الحكم بن
نافع حدثهم قال أخبرنا شعيب عن الزهري عن عمارة بن خزيمة
أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن
النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرساً من أعرابي فاستتبعه
النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه فأسرع رسول الله
صلى الله عليه وسلم المشى وابطأ الأعرابي فطفق رجال
يعترضون الأعرابي فيساومونه الفرس ولا يشعرون أن النبي صلى
الله عليه وسلم ابتاعه فنادى الأعرابي رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال إن كنت مبتاعاً هذا الفرس وإلا بعته فقام
النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي فقال أو
ليس قد ابتعته منك، قال الأعرابي لا والله ما بعتكه فقال
النبي صلى الله عليه وسلم بلى قد ابتعته منك فطفق الأعرابي
يقول هلم شهيداً فقال خزيمة بن ثابت أنا أشهد أنك قد
بايعته فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال بم
تشهد فقال بتصديقك يا رسول الله فجعل النبي صلى الله عليه
وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين.
قال الشيخ: هذا حديث يضعه كثير من الناس غير موضعه وقد
تذرع به قوم من أهل البدع إلى استحلال الشهادة لمن عرف
عنده بالصدق على كل شىء ادعاه، وإنما وجه الحديث ومعناه أن
النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكم على الأعرابي بعلمه إذ
كان النبي صلى الله عليه وسلم صادقاً باراً في قوله وجرت
شهادة خزيمة في ذلك مجرى التوكيد لقوله والاستظهار بها على
خصمه فصارت في التقدير شهادته له وتصديقه إياه على قوله
كشهادة رجلين في سائر القضايا.
(4/173)
ومن باب القضاء
باليمين والشاهد
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي أن
زيد بن الحباب حدثهم، قال: حَدَّثنا سيف المكي قال عثمان
عن سيف بن سليمان عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن
عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد.
قال الشيخ: يريد أنه قضى للمدعي بيمينه مع شاهد واحد كأنه
أقام اليمين مقام شاهد آخر فصار كالشاهدين. وهذا خاص في
الأموال دون غيرها لأن الراوي وقفه عليها، والخاص لا يتعدى
به محله ولا يقاس عليه غيره واقتضاء العموم منه غير جائز
لأنه حكاية فعل والفعل لا عموم له فوجب صرفه إلى أمر خاص
فلما قال الراوي هو في الأموال كان مقصوراً عليه.
وقد رأى الحكم باليمين مع الشاهد الواحد أجلة الصحابة
وأكثر التابعين. وفقهاء الأمصار، وأباه أصحاب الرأي وابن
أبي ليلى، وقد حكي ذلك أيضاً عن النخعي والشعبي.
واحتج بعضهم في ذلك بقوله عليه السلام البينة على المدعي
واليمين على المدعى عليه، وهذا ليس بمخالف لحديث اليمين مع
الشاهد، وإنما هو في اليمين إذا كان مجرداً وهذه يمين
مقرونه ببينة فكل واحد منهما غير الأخرى فإذا تباين
محلاهما جاز أن يختلف حكماهما.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا عمار بن شعيث بن
عبد الله بن الزُّبَيب العنبري حدثني أبي قال سمعت جدي
الزبيب يقول بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى
بني العنبر فأخذوهم برُكْبة من ناحية الطائف فاستاقوهم إلى
نبي الله صلى الله عليه وسلم فركبت فسبقتهم إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقلت السلام عليك يا نبي الله ورحمة الله
(4/174)
وبركاته أتانا جندك فأخذونا وقد كنا أسلمنا
وخضرمنا آذان النعم فلما قدم بَلْعنبر قال لي نبي الله صلى
الله عليه وسلم هل لكم بينة على أنكم أسلمتم قبل ان تؤخذوا
في هذه الأيام، قلت نعم قال من بينتك قلت سمره رجل من بني
العنبر ورجل آخر سماه له فشهد الرجل وأبى سمرة أن يشهد،
فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم قد أبى أن يشهد لك فتحلف
مع شاهدك الآخر فقلت نعم فاستحلفني فحلفت بالله لقد أسلمنا
يوم كذا وكذا وخضرمنا آذان النعم فقال النبي صلى الله عليه
وسلم اذهبوا فقاسموهم أنصاف الأموال ولا تمسوا ذراريهم
لولا أن الله تعالى لا يحب ضلالة العمل ما رزيناكم
عِقالاً. قال الزبيب فدعتني أمي فقالت هذا الرجل أخذ
زِربيتي فانصرفت إلى نبي الله، يَعني فأخبرته فقال لي
احبسه فأخذت بتلبيبه وقمت معه مكاننا ثم نظر إلينا نبي
الله صلى الله عليه وسلم قائمين، فقال ما تريد بأسيرك
فأرسلته من يدي فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال
للرجل رد على هذا زِربية أمه التي أخذت منها قال يا نبي
الله إنها خرجت من يدي قال فاختلع نبي الله صلى الله عليه
وسلم سيف الرجل فأعطانيه فقال للرجل اذهب فزده آصعا من
طعام، قال فزادني آصعا من شعير.
قال الشيخ: قوله خضرمنا آذان النعم أي قطعنا أطراف آذانها
وكان ذلك في الأموال علامة بين من أسلم وبين من لم يسلم.
والمخضرمون قوم أدركوا الجاهلية وبقوا إلى أن أسلموا ويقال
إن أصل الخضرمة خلط الشيء بالشيء.
وضلالة العمل بطلانه وذهاب نفعه ويقال ضل اللبن في الماء
إذا بطل وتلف.
وقوله ما رزيناكم عقالاً اللغة الفصيحة ما رزأناكم بالهمز
يريد ما أصبنا من أموالكم عقالاً، ويقال ما رزأته زبالاً
أي ما أصبت منه ما تحمله نملة، والزربية الطنفسة.
(4/175)
وفي الحديث استعمال اليمين مع الشاهد في
غير الأموال إلاّ أن إسناده ليس بذاك.
وقد يحتمل أيضاً أن يكون اليمين قد قصد بها ههنا الأموال
لأن الإسلام يعصم المال كما يحقن الدم.
وقد ذهب قوم من العلماء إلى إيجاب اليمين مع البينة
العادلة. كان شريح والشعبي والنخعي يرون أن يستحلف الرجل
مع بينته، واستحلف شريح رجلاً فكأنه تأبى لليمين فقال بئس
ما تثني على شهودي وهو قول سوار بن عبد الله القاضي. وقال
إسحاق إذا استراب الحاكم أوجب ذلك.
ومن باب الرجلين يدعيان شيئاً وليس بينهما بينة
قال أبو داود: حدثنا محمد بن منهال الضرير حدثنا يزيد بن
زريع حدثنا ابن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن
أبيه عن جده أبي موسى الأشعري أن رجلين ادعيا بعيراً أو
دابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس لواحد منهما بينة
فجعله النبي صلى الله عليه وسلم بينهما.
قال الشيخ: يشبه أن يكون هذا البعير أو الدابة كان في
أيديهما معاً فجعله النبي صلى الله عليه وسلم بينهما
لاستوائهما في الملك باليد ولولا ذلك لم يكونا بنفس الدعوى
يستحقانه لو كان الشيء في يد غيره.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا حجاج بن منهال
حدثنا همام عن قتادة بمعنى إسناده أن رجلين ادعيا بعيراً
على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فبعث كل واحد منهما
شاهدين فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين.
قال الشيخ: وهذا مروي بالإسناد الأول، إلاّ أن الحديث
المتقدم أنه لم يكن لواحد منهما بينة وفي هذا إن كل واحد
منهما قد جاء بشاهدين فاحتمل
(4/176)
أن يكون القصة واحدة، إلاّ أن الشهادات لما
تعارضت تساقطت فصارا كمن لا بينة له وحكم لهما بالشيء
نصفين بينهما لاستوائهما في اليد. ويحتمل أن يكون البعير
في يد غيرهما، فلما أقام كل واحد منهما شاهدين على دعواه
نزع الشيء من يد المدعى عليه ودفع إليهما.
وقد اختلف العلماء في الشيء يكون في يدي الرجل فيتداعاه
اثنان ويقيم كل واحد منهما بينة فقال أحمد بن حنبل وإسحاق
بن راهويه يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة صار له. وكان
الشافعي يقول به قديماً ثم قال في الجديد فيه قولان أحدهما
يقضي به بينهما نصفين وبه قال أصحاب الرأي وسفيان الثوري.
والقول الآخر يقرع بينهما وأيهما خرج سهمه حلف لقد شهد
شهوده بحق ثم يقضي له به.
وقال مالك لا أحكم به لواحد منهما إذا كان في يد غيرهما،
وحكي عنه أنه قال هو لأعدلهما شهوداً وأشهرهما بالصلاح.
وقال الأوزاعي يؤخذ بأكثر البينتين عدداً، وحكي عن الشعبي
أنه قال هو بينهما على حصص الشهود.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن منهال حدثنا يزيد بن زريع
حدثنا ابن أبي عروبة عن قتادة عن خِلاس عن أبى رافع، عَن
أبي هريرة أن رجلين اختصما في متاع إلى النبي صلى الله
عليه وسلم ليس لواحد منهمإ بينة، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم استهما على اليمين ما كان أحبا ذلك أو كرها.
قال الشيخ: معنى الاستهام هنا الاقتراع يريدا أنهما
يقترعان فأيهما خرجت
(4/177)
له القرعة حلف وأخذ ما ادعاه، وروي ما يشبه
هذا عن علي رضي الله عنه قال حنش بن المعتمر أتي علي ببغل
وجد في السوق يُباع، فقال رجل هذا بغلي لم ابع ولم أهب
ونزع على قال بخمسة يشهدون، قال وجاء آخر يدعيه يزعم أنه
بغله وجاء بشاهدين، فقال علي رضي الله عنه إن فيه قضاءً
وصلحاً وسوف أبين لكم ذلك كله، أما صلحه أن يباع البغل
فيقسم ثمنه على سبعة أسهم لهذا خمسة ولهذا اثنان، وإن لم
يصطلحوا إلاّ القضاء فإنه يحلف أحد الخصمين أنه بغله ما
باعه ولا وهبه فإن تشاححتما أيكم يحلف أقرعنا بينكما على
الحلف فأيكما قرع حلف قال فقضى بهذا وأنا شاهد.
ومن باب الرجل يحلف على علمه
فيما غاب عنه
قال أبو داود: حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو الأحوص عن
سماك عن علقمة بن وائل بن حجر الحضرمي عن أبيه قال جاء رجل
من حضرموت ورجل من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت
لأبي، فقال الكندي هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق
فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي ألك بينة قال لا،
قال فلك يمينه، قال يا رسول الله أنه فاجر ليس يبالي ما
حلف ليس يتورع من شيء، فقال ليس لك منه إلاّ ذلك.
قال الشيخ: فيه من الفقه أن المدعى عليه يبرأ باليمين من
دعوى صاحبه، وفيه أن يمين الفاجر كيمين البر في الحكم.
وفيه دليل على سقوط التباعة فيما يجري بين الخصمين من
التشاجر والتنازع إذا ادعى على الآخر الظلم والاستحلال ما
لم يعلم خلافه.
(4/178)
ومن باب الحبس في
الدين وغيره
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلى حدثنا عبد
الله بن المبارك عن وَبْر بن أبي دُليلة عن محمد بن ميمون
عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال ليُّ الواجد يُحِل عرضه وعقوبته. قال ابن المبارك
يحل عرضه أي يغلظ له، وعقوبته يحبس له.
قال الشيخ: في الحديث دليل على أن المعسر لا حبس عليه لأنه
إنما أباح حبسه إذا كان واجداً والمعدم غير واجد فلا حبس
عليه.
وقد اختلف الناس في هذا فكان شريح يرى حبس الملي والمعدم،
وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي.
وقال مالك لا حبس على معسر إنما حظه الإنظار. ومذهب
الشافعي ان من كان ظاهر حاله العسر فلا يحبس، ومن كان ظاهر
حاله اليسار حبس إذا امتنع من أداء الحق. ومن أصحابه من
يدعي فيه زيادة شرط وقد بينه.
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عبد
الرزاق عن معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي
صلى الله عليه وسلم حبس رجلاً في تهمة.
قال الشيخ: فيه دليل على أن الحبس على ضربين حبس عقوبة
وحبس استظهار. فالعقوبة لا تكون إلاّ في واجب. وأما ما كان
في تهمة فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به عما وراءه. وقد روي
أنه حبس رجلاً في تهمة ساعة من نهار ثم خلى سبيله.
ومن باب القضاء
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا المثنى بن سعيد
عن قتادة عن بشير
(4/179)
بن كعب العدوي، عَن أبي هريرة عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال إذا تدارأتم في طريق فاجعلوه سبعة
أذرع.
قال الشيخ: هذا في الطرق الشارعة والسلُك النافذة التي كثر
فيها المارة أمر بتوسعتها لئلا تضيق عن الحمولة دون الأزقة
الروابع التي لا تنفذ ودون الطرق التي يدخل منها القوم إلى
بيوتهم إذا اقتسم الشركاء بينهم ربعا وأحرزوا حصصهم وتركوا
بينهم طريقاً يدخلون منه إليها.
ويشبه أن يكون هذا على معنى الارفاق والاستصلاح دون الحصر
والتحديد.
قال أبو داود: حدثنا مسدد وابن أبي خلف قالا: حَدَّثنا
سفيان عن الزهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه.
فنكَسوا فقال مالي أراكم قد أعرضتم لألقينها بين أكتافكم.
قال الشيخ: عامة العلماء يذهبون في تأويله إلى أنه ليس
بإيجاب يحمل عليه الناس من جهة الحكم، وإنما هو من باب
المعروف وحسن الجوار، إلاّ أحمد بن حنبل فإنه رآه على
الوجوب وقال على الحكام أن يقضوا به على الجار ويمضوه عليه
إن امتنع منه.
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود العتَكي حدثنا حماد
حدثنا واصل مولى أبي عيينة، قال سمعت أبا جعفر محمد بن علي
يحدث عن سمرة بن جندب أنه كانت له عَضدُ من نخل في حائط
رجل من الأنصار قال ومع الرجل أهله قال فكان سمرة يدخل إلى
نخله فيتأذى به ويشق عليه فطلب إليه يبيعه فأبى، فطلب إليه
أن يناقله فأبى فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له
فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى فطلب
إليه أن يناقله فأبى، قال فهبه له ولك كذا وكذا أمراً رغبه
فيه فأبى
(4/180)
فقال أنت مُضار فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم للأنصاري اذهب فاقلع نخله.
قال الشيخ: رواه أبو داود عُضداً وإنما هو عضيد من نخيل
يريد نخلا لم تنسق ولم تطل، قال الأصمعي إذا صار للنخلة
جذعة يتناول منه المتناول فتلك النخلة العضيد وجمعه
عضيدات.
وفيه من العلم أنه أمر بإزالة الضرر عنه وليس في هذا الخبر
أنه قلع نخله.
ويشبه أن يكون أنه إنما قال ذلك ليردعه به عن الأضرار.
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا الليث عن
الزهري عن عروة أن عبد الله بن الزبير حدثه أن رجلاً خاصم
الزبير في شِراج الحرة التي يسقون بها فقال الأنصاري سرح
الماء فأبى عليه الزبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
للزبير اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك، قال فغضب الأنصاري
فقال يا رسول الله إن كان ابن عمتك. فتلون وجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ثم قال اسق ثم احبس الماء حتى يرجع
إلى الجَدْر، فقال الزبير فوالله إني لأحسب هذه الآية نزلت
في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم
لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما}
[النساء: 65] .
قال الشيخ: شراج الحرة مجاري الماء الذي يسيل منها واحده
شَرْج، ومنه قول الشاعر يصف دلواً:
قد سقطت في قصة من شرج ... ثم استقلت مثل شدق العلج
وفيه من الفقه أن أصل المياه الأودية والسيول التي لا تملك
منابعها ولم تستنبط بحفر وعمل الإباحه وأن الناس شرع سواء
في الارتفاق بها، وأن من سبق إلى شيء منها فأحرزه كان أحق
به من غيره.
(4/181)
وفيه دليل على أن أهل الشرب الأعلى مقدمون على من هو أسفل
لسبقه إليه وأنه ليس للأعلى أن يحبسه عن الأسفل إذا أخذ
حاجته منه. فأما إذا كان أصل منبع الماء ملك لقوم وهم فيه
شركاء أو كانت أيديهم عليه معاً فإن الأعلى والأسفل فيه
سواء، فإن اصطلحوا على أن يكون نوباً بينهم فهو على ما
تراضوا به وإن تشاحوا اقترعوا فمن خرجت له القرعة كان
مبدوءاً به.
وقد اختلف الناس في تأويل هذا الحديث فذهب بعضهم إلى أن
القول الأول إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم على
وجه المشورة للزبير وعلى سبيل المسألة في أن يطيب نفساً
لجاره الأنصاري دون أن يكون ذلك منه حكماً عليه، فلما
خالفه الأنصاري حكم عليه بالواجب من حكم الدين.
وذهب بعضهم إلى أنه قد كفر حين ظن برسول الله صلى الله
عليه وسلم المحاباة للزبير إذ كان ابن عمته وإن ذلك القول
منه كان ارتداداً عن الدين، وإذا ارتد عن الإسلام زال ملكه
وكان فيئاً فصرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير
إذ كان له أن يضع الفيء حيث أراه الله تعالى.
وفيه مسند لمن رأى جواز نسخ الشيء قبل العمل به. |