معالم السنن

كتاب الأشربة
ومن باب تحريم الخمر
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا أبو حيان حدثني الشعبي عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قال نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل.

(4/261)


قال الشيخ: فيه البيان الواضح أن قول من زعم من أهل الكلام أن الخمر إنما هو عصير العنب النيء الشديد منه وإن ما عدا ذلك فليس بخمر باطل.
وفيه دليل على فساد قول من زعم أن لا خمر إلاّ من العنب والزبيب والتمر ألا ترى أن عمر ضي الله عنه أخبر أن الخمر حرمت يوم حرمت وهي تتخذ من الحنطة والشعير والعسل كما أخبر أنها كانت تتخذ من العنب والتمر وكانوا يسمونها كلها خمراً، ثم ألحق عمر رضي الله عنه بها كل ما خامر العقل من شراب وجعله خمراً إذ كان في معناها لملابسته العقل ومخامرته إياه، وفيه إثبات القياس والحاق حكم الشيء بنظيره.
وفيه دليل على جواز إحداث الاسم للشيء من طريق الاشتقاق بعد أن لم يكن.

ومن باب الخمر مما هي
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا يحيى بن آدم حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من العنب خمراً وإن من التمر خمراً وإن من العسل خمراً وإن من البر خمراً وإن من الشعير خمراً.
قال الشيخ: فيه تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بما قال عمر رضي الله عنه وأخبر عنه في الحديث الأول من كون الخمر عن هذه الأشياء، وليس معناه أن الخمر لا يكون إلاّ من هذه الخمسة بأعيانها وإنما جرى ذكرها خصوصاً لكونها معهودة في ذلك الزمان فكل ما كان في معناها من ذرة وسلت ولب ثمرة وعصارة شجرة فحكمه حكمها كما قلناه في الربا ورددنا إلى الأشياء الأربعة المذكورة في الخبر كل ما كان في معناها من غير المذكور فيه.

(4/262)


قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا يحيى، عَن أبي كثير وهو يزيد بن عبد الرحمن، عَن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة.
قال الشيخ: هذا غير مخالف لما تقدم ذكره من حديث النعمان بن بشير وإنما وجهه ومعناه أن معظم ما يتخذ من الخمر إنما هو من النخلة والعنبة وإن كانت الخمر قتد تتخذ أيضاً من غيرهما وإنما هو من باب التأكيد لتحريم ما يتخذ من هاتين الشجرتين لضراوته وشدة سورته وهذا كما يقال الشبع في اللحم والدفء في الوبر ونحو ذلك من الكلام. وليس فيه نفي الشبع عن غير اللحم ولا نفي الدفء عن غير الوبر ولكن فيه التوكيد لأمرهما والتقديم لهما على غيرهما في نفس ذلك المعنى والله أعلم.

ومن باب في الخمر تتخذ خلاً
قال أبو داود: حدثنا زهير بن حرب حدثنا وكيع عن سفيان عن السدي، عَن أبي هبيرة عن أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً قال أهرقها قال أفلا أجعلها خلاً قال لا.
قال الشيخ: في هذا بيان واضح أن معالجة الخمر حتى تصير خلاً غير جائز ولو كان إلى ذلك سبيل لكان مال اليتيم أولى الأموال به لما يجب من حفظه وتثميره والحيطة عليه، وقد كان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. وفي إراقته إضاعته فعلم بذلك أن معالجته لا تطهره ولا ترده إلى المالية بحال، وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وكره ذلك سفيان وابن المبارك.

(4/263)


وقال مالك لا أحب لمسلم ورث خمراً أن يحبسها يخللها ولكن إن فسدت خمر حتى تصير خلاً لم أر بأكله بأساً؛ وقيل لابن المبارك كيف يتخذ الخل بأن لا يأثم الرجل، قال انظر خلاً نقيفاً فصب عليه قدر ما لا يغلبه العصير، فإن غلبه العصير لم يغل. وقال أحمد نحواً من ذلك، وقال ما يعجبني أن يكون في بيت الرجل المسلم خمر ولكن يصب على العصير من الخل حتى يتغير، ورخص في تخليل الخمر ومعالجتها عطاء بن أبي رباح وعمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب أبو حنيفة وشبهه بعضهم بدباغ جلد الميتة، وقال هو محرم يستباح بالعلاج ويستصلح له فكذلك الخمر، وهذا غير مشبه لذلك وإنما يجوز القياس مع عدم النص وههنا نص من السنة وقد منع منه وفي الدباغ نص سنة رخص فيه ودعا إليه فالواجب علينا متابعة كل منهما وترك قياس أحدهما على الآخر.
وقد فرق العلماء في الحكم بين أشياء تتغير بذاتها وبين ما يصير منها إلى التغير بفعل فاعل كالرجل يموت حتف أنفه فيرثه ابنه ولو قتله الابن لم يرثه.
وقد حرم الله صيد الحرم في الحرم، فلو خرج الصيد فأخذ في الحل جاز أكله ولو أخرجه مخرج فذبحه خارج الحرم لم يحل.

ومن باب النهي عن المسكر
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود ومحمد بن عيسى في آخرين قالوا حدثنا حماد، يَعني ابن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وكل مسكر حرام، ومن مات وهو يشرب الخمر يدمنها لم يشربها في الآخرة.
قال الشيخ: قوله كل مسكر خمر يتأول على وجهين أحدهما أن الخمر اسم

(4/264)


لكل ما وجد فيه السكر من الأشربة كلها؛ ومن ذهب إلى هذا زعم أن للشريعة أن تحدث الأسماء بعد أن لم تكن. كما لها أن تضع الأحكام بعد أن لم تكن.
والوجه الآخر أن يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة ووجوب الحد على شاربه وإن لم يكن عين الخمر، وإنما ألحق بالخمر حكماً إذ كان في معناها. وهذا كما جعل النباش في حكم السارق والمتلوط في حكم الزاني وإن كان كل واحد منهما يختص في اللغة باسم غير الزنى وغير السرقة.
وقوله من مات وهو يشرب الخمر يدمنها فإن مدمن الخمر هو الذي يتخذها ويعاقرها، وقال النضر بن شميل من شرب الخمر إذا وجدها فهو مدمن للخمر وإن لم يتخذها.
وقوله لم يشربها في الآخرة معناه لم يدخل الجنة لأن شراب أهل الجنة خمر إلاّ أنه لا غول فيها ولا نزف.
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب، عَن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البِتْع فقال كل شراب أسكر فهو حرام.
قال الشيخ: البتع شراب يتخذ من العسل وفي هذا إبطال كل تأول يتأوله أصحاب تحليل الأنبذة في أنواعها كلها وافساد قول من زعم أن القليل من المسكر مباح، وذلك أنه سئل عن نوع واحد من الأنبذة فأجاب عنه بتحريم الجنس فدخل فيه القليل والكثير منها. ولو كان هناك تفصيل في شيء من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يبهمه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا إسماعيل، يَعني ابن جعفر عن داود

(4/265)


بن بكر بن الفُرات عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام.
قال الشيخ: هذا أوضح البيان أن الحرمة شاملة لأجزاء المسكر وأن قليله ككثيره في الحرمة، والاسكار في هذا الحديث وإن كان مضافاً إلى كثيره فان قليله مسكر على سبيل التعاون كالزعفران يطرح اليسير منه في الماء فلا يصبغه حتى إذا أمدَّ بجزء بعد جزء منه فإذا كثر ظهر لونه وكان الصبغ والتلوين مضافاً إلى جميع أجزائه على سبيل التعاون.
وتأوله بعضهم تأولاً فاسداً فقال إنما وقعت الإشارة بقول فقليله حرام إلى الشربة الآخرة أو إلى الجرعة التي يحدث السكر عقيب شربها لأن الفعل إنما يضاف إلى سببه وسبب السكر هو الشربة الآخرة التي حدث السكر على أثرها لا ما تقدمها منه حين السكر معدوم.
قلت وهذا تأويل فاسد إذ كان مستحيلاً في العقول وشهادات المعارف أن يعجز كثير الشيء عما يقدر عليه قليله. ولو كان الأمر على ما زعموه لكان لقائل أن يقول إن الله حرم علينا شيئاً لم يجعل لنا طريقاً إلى معرفة عينه لأن الشارب لا يعلم متى يقع السكر به ومن أي أجزاء الشراب يحدث فيه وهذا فاسد لا وجه له، ولو توهمنا الجزء الآخر مشروباً مفرداً عن غيره غير مضاف ولا مجموع إلى ما تقدمها لم يتوهم وجود السكر فيه حين انضم إلى سائر الأجزاء توهمنا وجوده فعلمنا أن السكر إنما حصل بمجموع أجزائه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا مهدي بن ميمون حدثنا عثمان الأنصاري عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4/266)


يقول كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرَق فملء الكف منه حرام.
قال الشيخ: الفرق مكيلة تسع ستة عشر رطلاً وفي هذا أبين البيان أن الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشراب المسكر.
وفيه حجة على من زعم أن الإسكار لا يضاف إلى الشراب لأن ذلك من فعل الله سبحانه.
قلت والأمر وإن كان صحيحاً في إضافة الفعل إلى الله عز وجل فإنه قد يصح أن يضاف إلى الشراب على معنى أن الله تعالى قد أجرى العادة بذلك كما أن إضافة الاشباع إلى الطعام والارواء إلى الشراب صحيح إذ كان قد أجرى الله العادة به.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن الوليد عن عبيدة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وقال كل مسكر حرام.
قال الشيخ: الميسر القمار، والكوبة يفسر بالطبل ويقال هو النرد ويدخل في معناه كل وتر ومزهر في نحو ذلك من الملاهي والغناء.
قال أبو عبيد الغبيراء هو السُّكُرْكة يعمل من الذرة شراب يصنعه الحبشة.
وفي قوله كل مسكر حرام دليل على تحريم الوضوء بالنبيذ المسكر.
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا أبو شهاب عبد ربه بن نافع عن الحسن بن عمرو الفُقيمي عن الحكم بن عتيبة عن شهر بن حوشب عن أم سلمة قالت نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر.
قال الشيخ: المفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأطراف وهو

(4/267)


مقدمة السكر نهى عن شربه لئلا يكون ذريعة إلى السكر والله أعلم.

ومن باب في الأوعية
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا منصور بن حبان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما قالا نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزفَّت والحنتم والنَّقير.
قال الشيخ: الدباء القرع قال أبو عبيد قد جاء تفسيرها في الحديث، عَن أبي بكرة أنه قال اما الدباء فإنا معاشر ثقيف كنا بالطائف نأخذ الدباء فنخرط فيها عناقيد العنب ثم ندفنها حتى تهدر ثم تموت.
وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة ثم ينبذون الرطب والبسر ويدعونه حتى يهدر ثم يموت، وأما الحنتم فجرار كانت تحمل إلينا فيها الخمر وأما المزفت فهذه الأوعية التي فيها الزفت.
قلت وإنما نهى عن هذه الأوعية لأن لها ضراوة يشتد فيها النبيذ ولا يشعر بذلك صاحبها فتكون على غرر من شربها.
وقد اختلف الناس في هذا فقال قائلون كان هذا في صلب الإسلام ثم نسخ بحديث بريدة الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كنت نهيتكم عن الأوعية فاشربوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكراً، وهذا أصح الأقاويل.
وقال بعضهم الخطر باق وكرهوا أن ينتبذوا في هذه الأوعية وإليه ذهب مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وإسحاق، وقد روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما.
قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية عن نوح بن قيس حدثنا عبد الله بن عون

(4/268)


عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد القيس أنهاكم عن النقير والمقيَّر والحنْتم والدُّباء والمزادة المحبوبة ولكن اشرب في سقائك وأوكه.
قال الشيخ: قوله اشرب في سقائك وأوكه إنما قال ذلك من أجل أن السقاء الذي يشد ويوكي جلد رقيق فإذا حدثت فيه الشدة تقطع وانشق فلم يخف على صاحبه أمره، وهذه الأوعية صلبة متينة يتغير فيها الشراب وتشتد فلا يشعر صاحبها بذلك. وأما المزادة المحبوبة فهي التي ليست لها عزلاء من أسفلها تتنفس منها فالشراب قد يتغير فيها ولا يشعر به صاحبها.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد حدثنا إسماعيل بن سُميع حدثنا مالك بن عمير عن علي رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجِعة.
قال الشيخ: قال أبو عبيد الجعة نبيذ الشعير.

ومن باب في الخليطين
قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن شريك عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن ينتبذ الزبيب والتمر جميعاً، ونهى أن ينتبذ البسْر والرطب جميعاً.
قال الشيخ: قد ذهب غير واحد من أهل العلم إلى تحريم الخليطين وإن لم يكن الشراب المتخذ منهما مسكراً قولا بظاهر الحديث ولم يجعلوه معلولاً بالإسكار، وإليه ذهب عطاء وطاوس. وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق وعامة أهل الحديث وهو غالب مذهب الشافعي. وقالوا من شرب الخليطين قبل حدوث الشدة فهو آثم من جهة واحدة، وإذا شرب بعد حدوث الشدة كان

(4/269)


آثماً من جهتين أحدهما شرب الخليطين والآخر شرب المسكر، ورخص فيه سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وقال الليث بن سعد إنما جاءت الكراهة أن ينبذا جميعاً لأن أحدهما يشد صاحبه.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ثابت بن عُمارة حدثتني رَبطة عن كبشة بنت أبي مريم قالت، سألت أم سلمة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنه قالت كان ينهانا أن نعجم النوى طبخاً أو نخلط الزبيب والتمر.
قال الشيخ: قوله أن نعجُم النوى نريد أن نبلغ به النضيج إذا طبخنا التمر فعصدناه يقال عجمت النوى أعجمه عجماً إذا لكته في فيك، وكذلك إذا أنت طبخته أو أنضجته، ويشبه أن يكون إنما كره ذلك من أجل أنه يفسد طعم التمر أو لأنه علف الدواجن فتذهب قوته إذا هو نضج.
قال أبو داود: حدثنا زياد بن يحيى الحساني حدثنا أبو بحر حدثنا عتاب بن عبد العزيز الجِماني قال، حدثتني صفية بنت عطية قالت، دخلت مع نسوة من عبد القيس على عائشة رضي الله عنها فسألناها عن التمر والزبيب فقالت كنت آخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فألقيه في إناء فأمرسه ثم اسقيه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ: قولها امرسه تريد أنها تدلكه بأصابعها في الماء، والمرس والمرث بمعنى واحد. وفيه حجة لمن رأى الانتباذ بالخليطين.

ومن باب في نبيذ البسر
قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن جابر بن زيد وعكرمة أنهما كانا يكرهان البسر وحده ويأخذان ذلك عن ابن عباس، وقال ابن عباس رضي الله عنه أخشى أن يكون المُزَّاء التي نهيت

(4/270)


عنه عبد القيس، فقلت لقتادة ما المزاء فقال النبيذ في الحنتم والمزفت.
قال الشيخ: قد فسر قتادة المزاء وأخبر أنه النبيذ في الحنتم والمزفت، وذكره أبو عبيد فقال: ومن الأشربة المسكرة شراب يقال له المزاء ولم يفسره بأكثر من هذا وأنشد فيه الأخطل:
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم ... إذا جرى فيهم المزاء والسكر

ومن باب صفة النبيذ
قال أبو داود: حدثنا عيسى بن محمد حدثنا ضمرة عن السيباني عن عبد الله بن الديلمي عن أبيه قال: قلت يا رسول الله إن لنا أعناباً ما نصنع بها قال زببوها قال ما نصنع بالزبيب، قال انبذوه على غدائكم واشربوه على عشائكم وانبذوه على عشائكم واشربوه على غدائكم وانبذوه في الشِّنان ولا تنبذوه في القُلل فإنه إذا تأخر عن عصره صار خلاً.
قال الشيخ: الشنان الأسقية من الأدم وغيرها واحدها شن، وأكثر ما يقال ذلك في الجلد الرقيق أو البالي من الجلود، والقلل الجرار الكبار واحدتها قلة، ومنه الحديث إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أمه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان ينبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء يُوكأ أعلاه وله عَزلاء ينبذه غُدوة ويشربه عِشاء، وينبذه عشاء فيشربه غدوة.
قال الشيخ: العزلاء فم المزادة وقد يكون ذلك للسقاء من أسفله ويجمع على العزالي.

(4/271)


ومن باب شرب العسل
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج عن عطاء أنه سمع عبيد بن عمير قال: عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم تخبر ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلاً فتواصيت أنا وحفصة ايتُّنا ما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير، فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له فنزلت {لِمَ ترحم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك - إلى - أن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 1] لعائشة وحفصة رضي الله عنهما {وإذ أسرَّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً} [التحريم: 3] لقوله بل شربت عسلاً.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل فذكر هذا الخبر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح.
قال الشيخ: وفي الحديث قالت سودة بل أكلت مغافير، قال بل شربت عسلاً سقتني حفصة فقالت جرستْ نحله العُرْفُطَ.
والمغافير واحدها مغفور، ويقال له أيضاً مغثور، والفاء والثاء يتعاقبان كما قالوا فوم وثوم وجدث وجدف وهو شيء يتولد من العرفط حلو كالناطف وريحه منكر، والعرفط شجر له شوك، وقوله جرست نحلحه العرفط أى أكلت، ويقال للنحل جوارس.
وفي هذا الحديث دليل على أن يمين النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقعت في تحريم العسل لا في تحريم أم ولده مارية القبطية كما زعمه بعض الناس.

(4/272)


ومن باب الشرب من في السقاء
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أنبأنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء وعن ركوب الجلاَّلة والمُجثَمَّة.
قال الشيخ: المجثمة هي المصبورة وذلك أنها قد جثمت على الموت أي حبست عليه بأن توثق وترمى حتى تموت، وأصل الجثوم في الطير، يقال جثم الطائر وبرك البعير، وربضت الشاة، وبين الجاثم والمجثم فرق. وذلك أن الجاثم من الصيد يجوز لك أن ترميه حتى تصطاده والمجثم هو ما ملكته فجثمته وجعلته غرضاً ترميه حتى تقتله وذلك محرم.
وأما الشرب من في السقاء فأما يكره ذلك من أجل ما يخاف من أذى عساه يكون فيه لا يراه الشارب حتى يدخل جوفه فاستحب أن يشربه في إناء طاهر يبصره.
وروي أن رجلاً شرب من في سقاء فانساب جان فدخل جوفه.

ومن باب اختناث الأسقية
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن الزهري سمع عبيد الله بن عبد الله، عَن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اختناث الأسقية.
قال الشيخ: معنى الاختناث فيها أن يثني رؤوسها ويعطفها ثم يشرب منها ومن هذا سمي المخنث وذلك لتكسره وتثنيه.
وقد قيل إن المعنى في النهي عن ذلك أن الشرب إذا دام فيها خنثت وتغيرت رائحتها.

(4/273)


وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اختنث فم الإداوة ثم اشرب من فيها.
وقد ذكره أبو داود في هذا الباب فيحتمل أن يكون النهي إنما جاء عن ذلك إذا شرب من السقاء الكبير دون الأداوي ونحوها، ويحتمل أن يكون إنما أباحه للضرورة والحاجة إليه في الوقت، وإنما المنهي عنه أن يتخذه الإنسان دربة وعادة. وقد قيل إنما أمره بذلك لسعة فم السقاء لئلا ينصب عليه الماء والله أعلم.

ومن باب الشرب من ثُلمة القدح والنفخ في الشراب
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني قرة بن عبد الرحمن عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من ثلمة القدح وأن ينفخ في الشراب.
قال الشيخ: إنما نهى عن الشراب من ثلمة القدح لأنه إذا شرب منها تصبب الماء وسال قطره على وجهه وثوبه لأن الثلمة لا تتماسك عليها شفة الشارب كما تتماسك على الموضع الصحيح من الكوز والقدح. وقد قيل إنه مقعد الشيطان فيحتمل أن يكون المعنى في ذلك أن موضع الثلمة لا ينال التنظيف التام إذا غسل الإناء فيكون شربه على غير نظافة وذلك من فعل الشيطان وتسويله، وكذلك إذا خرج الماء فسال من الثلمة فأصاب وجهه وثوبه فإنما هو من اعنات الشيطان وايذائه إياه والله أعلم.

ومن باب الشرب قائماً
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب الرجل قائماً.

(4/274)


قال الشيخ: هذا نهي تأديب وتنزيه لأنه أحسن وأرفق بالشارب وذلك لأن الطعام والشراب إذا تناولهما الإنسان على حال سكون وطمأنينة كانا أنجع في البدن وأمرأ في العروق، وإذا تناولهما على حال وفاز وحركة اضطربا في المعدة وتخضخضا فكان منه الفساد وسوء الهضم.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائماً.
وقد رواه أبو داود في هذا الباب فكان ذلك متأولاً على الضرورة الداعية إليه وإنما فعله صلى الله عليه وسلم بمكة شرب من زمزم قائماً، ومعلوم أن القعود والطمأنينة كالمتعذر في ذلك المكان مع ازدحام الناس عليه وتكابسهم في ذلك المقام ينظرون إليه ويقتدون به في نسكهم وأعمال حجهم؛ فترخص فيه لهذا ولما أشبه ذلك من الأعذار والله أعلم.

ومن باب النفخ في الشراب والتنفس فيه
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا ابن عيينة عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتنفس في الإناء أو ينفخ فيه.
قال الشيخ: قد يحتمل أن يكون النهي عن ذلك من أجل ما يخاف أن يبدر من ريقه ورطوبة فيه فيقع في الماء وقد تكون النكهة عن بعض من يشرب متغيرة فتعلق الرائحة بالماء لرقته ولطافته فيكون الأحسن في الأدب أن يتنفس بعد إبانة الإناء عن فمه وأن لا يتنفس فيه لأن النفخ إنما يكون لأحد معنيين فإن كان من حرارة الشراب فليصبر حتى يبرد، وإن كان من أجل قذى يبصره فيه فليمطه بإصبع أو بخلال أو نحوه ولا حاجة به إلى النفخ فيه بحال.

(4/275)


ومن باب ما يقول إذا شرب اللبن (1)
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن علي بن زيد عن عمرو بن حرملة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت في بيت ميمونه فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه خالد بن الوليد فجاؤوا بضبين مثسويين على ثُمامتين فتبزَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد أخالك تقذره يا رسول الله فقال أجل، وذكر الحديث.
قال الشيخ: الثمامتان عودان واحدتهما ثمامة، والثمام شجر دقيق العود ضعيفه قال الشاعر:
ولو أن ما أبقيت مني معلق ... بعود ثمام ما تأود عودها
(1) كذا في الأصل، والحديث المذكور في الباب يتعلق بأكل الضب وليس بشرب اللبن.

ومن باب إيكاء الآنية
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن ابن جريج أخبرني عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أغلق بابك واذكر اسم الله فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً واطفئ مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناءك ولو بعود تعرضه عليه.
قال الشيخ: قوله خمر إناءك يريد غطه، ومنه سمي الخمار الذي يقنع به الرأس وسميت الخمر لمخامرتها العقل، والخمر ما واراك من الشجر والأشب.
وقوله تعرضه كان الأصمعي يرويه تعرضه بضم الراء. وقال غيره بكسرها.
قال أبو داود: حدثنا مسدد وفضيل بن عبد الوهاب السُّكري قالا: حَدَّثنا حماد عن كثير بن شِنظير عن عطاء عن جابر رفعه قال: اكفتوا صبيانكم عند العشاء فإن للجبن انتشاراً أو خطْفة.
قال الشيخ: قوله اكفتوا صبيانكم معناه ضموهم إليكم وادخلوهم البيوت

(4/276)


وكل شيء ضممته إليك فقد كفته، ومن هذا قول الله سبحانه {ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً} [المرسلات: 25] أي انها تضمهم إليها ما داموا أحياء على ظهرها فإذا ماتوا ضمتهم إليها في بطنها.