معالم السنن كتاب الأطعمة
باب ما جاء في إجابة الدعوة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله
بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها.
قال الشيخ: إجابة الدعوة في الوليمة خصوصاً واجبة
لأمرالنبي صلى الله عليه وسلم بها ولما في إتيان الوليمة
من إعلان النكاح والإشادة به وعلى هذا يتأول قول أبي هريرة
من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله، فأما سائر الدعوات
فليست كذلك ولا يحرج المرء بالتخلف عنها وقد دعي بعض
العلماء فلم يجب فقيل له إن السلف كانوا يدعون فيجيبون،
فقال كانوا يدعون للمؤاخاة والمؤاساة وأنتم اليوم تدعون
للمباهاة والمكافأة.
ومن باب الضيافة
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن سعيد المقبري، عَن
أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من
كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليكرم ضيفه
(4/237)
جائزته يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام وما
بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه.
قال الشيخ: قوله جائزته يوم وليلة سئل مالك بن أنس عنه
فقال يكرمه ويتحفه ويخصه ويحفظه يوماً وليلة وثلاثة أيام
ضيافة.
قلت يريد أنه يتكلف له في اليوم الأول بما اتسع له من بر
وألطاف ويقدم له في اليوم الثاني والثالث ما كان بحضرته
ولا يزيد على عادته وما كان بعد الثلاث فهو صدقة ومعروف إن
شاء فعل وإن شاء ترك.
وقوله لا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه، يريد أنه لا يحل
للضيف أن يقيم عنده بعد الثلاث من غير استدعاء منه حتى
يضيق صدره فيبطل أجره. وأصل الحرج الضيق.
قال أبو داود: حدثنا مسدد وخلف بن هشام المنقري قالا:
حَدَّثنا أبو عَوانة عن منصور عن عامر، عَن أبي كريمة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليلة الضيف حق على كل
مسلم فمن أصبح بفنائه فهو عليه دين إن شاء اقتضى وإن شاء
ترك.
قال الشيخ: وجه ذلك أنه رآها حقاً من طريق المعروف والعادة
المحمودة ولم يزل قرى الضيف وحسن القيام عليه من شيم
الكرام وعادات الصالحين، ومنع القرى مذموم على الألسن
وصاحبه ملوم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة حدثني أبو
الجودي عن سعيد بن أبي المهاجر عن المقدام أبي كريمة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما رجل ضاف قوماً
فاصبح الضيف محروماً فإن نصره حق على كل مسلم حتى يأخذ
بقرى
(4/238)
ليلة من زرعه وماله.
قال الشيخ: يشبه أن يكون هذا في المضطر الذي لا يجد ما
يطعمه ويخاف التلف على نفسه من الجوع فإذا كان بهذه الصفة
كان له أن يتناول من مال أخيه ما يقيم به نفسه، وإذا فعل
ذلك فقد اختلف الناس فيما يلزمه له، فذهب بعضهم إلى أنه
يؤدي إليه قيمته وهذا يشبه مذاهب الشافعي. وقال آخرون لا
يلزمه له قيمة، وذهب إلى هذا القول نفر من أصحاب الحديث
واحتجوا بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه جلب لرسول الله
صلى الله عليه وسلم لبناً من غنم لرجل من قريش له فيها عبد
يرعاها وصاحبها غائب وشربه صلى الله عليه وسلم وذلك في
مخرجه من مكة إلى المدينة.
واحتجوا أيضاً بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: من دخل حائطاً فليأكل منه ولا يتخذ
خُبنة.
وعن الحسن أنه قال إذا مر الرجل بالإبل وهو عطشان صاح برب
الإبل ثلاثاً فإن أجابه وإلا حلب وشرب.
وقال زيد بن أسلم ذكروا الرجل يضطر إلى الميتة وإلى مال
المسلم، فقال يأكل الميتة، قال عبد الله بن دينار يأكل من
مال الرجل المسلم، فقال سعيد أصبت إن الميتة تحل له إذا
اضطر إليه ولا يحل له مال المسلم.
ومن باب نسخ الضيف في الأكل
من مال غيره إلاّ بتجارة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثنا علي بن
الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن
عياس رضي الله عنهما قال: كان
(4/239)
الرجل الغني يدعو الرجل من أهله إلى الطعام
فقال إني لأجَنَّحُ أن آكل منه ويقول المسكين أحق به مني
لقوله تعالى {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن
تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء: 29] فنسخ ذلك بقول {ولا
على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم} إلى قول {أشتاتاً}
[النور: 6] .
قال الشيخ: قوله أجنح أي أرى جناحاً وإثماً أن آكله.
ومن باب طعام المتباريين
قال أبو داود: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا
أبي، قال: حَدَّثنا جرير بن حازم عن الزبير بن خُرّيت قال
سمعت عكرمة يقول كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول إن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل.
قال أبو داود أكثر من رواه عن جرير لم يذكر فيه ابن عباس.
قال الشيخ: المتباريان المتعارضان بفعلهما، يقال تبارى
الرجلان إذا فعل كل واحد منهما مثل فعل صاحبه ليرى أيهما
يغلب صاحبه، وإنما كره ذلك لما فيه من الرياء والمباهاة
ولأنه داخل في جملة ما نهي عنه من أكل المال بالباطل.
ومن باب إجابة الدعوة إذا
حضرها مكروه
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سعيد
بن جُهمان عن سفينة أبي عبد الرحمن أن رجلاً ضاف علي بن
أبي طالب رضي الله عنه فصنع له طعاماً، فقالت فاطمة عليها
السلام لو دعونا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل معنا
فدعوه فجاء ووضع يده على عضادتي الباب فرأى القِرام قد ضرب
به في ناحية البيت فرجع فقالت فاطمة لعلي عليه السلام
الحقه فانظر ما رجَعَه فتبعته؛ فقلت يا رسول الله ما ردك،
قال إنه ليس لي أو لنبي أن يدخل بيتاً مزوَّقاً.
(4/240)
قال الشيخ: وفيه دليل على أن من دعى إلى
مدعاة يحضرها الملاهي والمنكر فإن الواجب عليه أن لا يجيب.
القرام الستر وفي رواية أخرى أنه كان ستراً موشى كره
الزينة والتصنع.
ومن باب إذا حضرت الصلاة
والعشاء
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى القطان عن
عبيد الله حدثني نافع عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة
فلا يقم حتى يفرُغ.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن حاتم بن زريع حدثنا معلى بن
منصور عن محمد بن ميمون عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر
بن عبد الله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤخر
الصلاة لطعام ولا لغيره.
قال الشيخ: وجه الجمع بين الحديثين أن الأول إنما جاء فيمن
كانت نفسه تنازعه شهوة الطعام وكان شديد التوقان إليه،
فإذا كان كذلك وحضر الطعام وكان في الوقت فضل بدأ بالطعام
لتسكن شهوة نفسه فلا يمنعه عن توفية الصلاة حقها وكان
الأمر يخف عندهم في الطعام وتقرب مدة الفراغ منه إذ كانوا
لا يستكثرون منه ولا ينصبون الموائد ويتناولون الأولوان
وإنما هو مذقة من لبن وشربة من سويق أو كف من تمر أو نحو
ذلك، ومثل هذا لا يؤخر الصلاة عن زمانها ولا يخرجها عن
وقتها.
وأما حديث جابر فإنه كان لا يؤخر الصلاة لطعام ولا لغيره
فهو مما كان بخلاف ذلك من حال المصلي وصفة الطعام ووقت
الصلاة، وإذا كان الطعام
(4/241)
لم يوضع وكان الإنسان متماسكاً في نفسه
وحضرت الصلاة وجب أن يبدأ بها ويؤخر الطعام. وهذا وجه بناء
أحد الحديثين على الاخر والله أعلم.
ومن باب طعام الفجاءة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن أبي مريم حدثنا عمي سعيد بن
الحكم أنبأنا الليث أخبرني خالد بن يزيد، عَن أبي الزبير
عن جابر بن عبد الله أنه قال أقبل رسول الله صلى الله عليه
وسلم من شعب من الجبل وقد قضى حاجته وبين أيدينا تمر على
ترس أو حَجَفة فدعوناه فأكل معنا وما مس ماء.
قال الشيخ: دلالة هذا أن طعام الفجأة غير مكروه إذا كان
الآكل يعلم أن صاحب الطعام قد تسره مساعدته إياه على أكله
ومعلوم أن القوم كانوا يفرحون بمساعدة رسول الله صلى الله
عليه وسلم إياهم ويتبركون بمؤاكلته، وإنما جاءت الكراهة في
طعام الفجأة إذا كان لا يؤمن أن يشق ذلك صاحب الطعام ويشق
عليه ولعله إنما يعرض طعامه إذا فجأه الداخل عليه استحياء
منه لا إيجاباً له والله أعلم.
ومن باب الأكل متكئاً
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير أنبأنا سفيان عن علي بن
الأقمر قال سمعت أبا جحيفة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: لا آكل متكئاً.
قال الشيخ: يحسب أكثر العامة أن المتكئ هو المائل المعتمد
على أحد شقيه لا يعرفون غيره، وكان بعضهم يتأول هذا الكلام
على مذهب الطب ودفع الضرر عن البدن إذ كان معلوماً أن
الآكل مائلاً على أحد شقيه لا يكاد يسلم من ضغط يناله في
مجاري طعامه فلا يسيغه ولا يسهل نزوله إلى معدته.
(4/242)
قال الشيخ: وليس معنى الحديث ما ذهبوا إليه
وإنما المتكئ ههنا هو المعتمد على الوطاء الذي تحته وكل من
استوى قاعداً على وطاء فهو متكئ. والاتكاء مأخوذ من الوكاء
ووزنه الافتعال منه فالمتكئ هو الذي أوكى مقعدته وشدها
بالقعود على الوطاء الذي تحته والمعنى أني إذا أكلت لم
أقعد متمكناً على الأوطية والوسائد فعل من يريد أن يستكثر
من الأطعمة ويتوسع في الألوان ولكني آكل علقة وآخذ من
الطعام بلغة فيكون قعودي مستوفزاً له، وروي أنه كان صلى
الله عليه وسلم يأكل مقعياً ويقول أنا عبد آكل كما يأكل
العبد.
ومن باب الأكل من أعلى الصحيفة
قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن عطاء
بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يأكل من أعلى
الصحيفة ولكن ليأكل من أسفلها فإن البركة تنزل من أعلاها.
قال الشيخ: قد ذكر في هذا الحديث أن النهى إنما كان عن ذلك
من أجل أن البركة إنما تنزل من أعلاها، وقد يحتمل أيضاً
وجها آخر وهو أن يكون النهي إنما وقع عنه إذا أكل مع غيره،
وذلك أن وجه الطعام هو أطيبه وأفضله فإذا قصده بالأكل كان
مستأثراً به على أصحابه.
وفيه من ترك الأدب وسوء العشرة ما لا خفاء به فأما إذا أكل
وحده فلا بأس به والله أعلم.
ومن باب كراهية تقذر الطعام
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير
حدثنا سماك بن حرب حدثني قَبِيصة بن هُلْب عن أبيه قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل رجل
(4/243)
فقال إن من الطعام طعاماً أتحرج منه، فقال
لا يتحلجن في نفسك شيء ضارعت فيه النصرانية.
قال الشيخ: قوله لا يتحلجن معناه لا يقعن في نفسك ريبة منه
وأصله من الحلج وهو الحركة والاضطراب، ومنه حلج القطن،
ومعنى المضارعة المقاربة في الشبه ويقال للشيئين بينهما
مقاربة هذا ضرع هذا أي مثله.
ومن باب في أكل الجلالة
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة عن محمد
بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله
عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل
الجلالة وألبانها.
قال الشيخ: الجلالة هي الإبل التي تأكل الجلة وهي العذرة
كره أكل لحومها وألبانها تنزهاً وتنظفاً. وذلك أنها إذا
اغتذت بها وجد نتن رائحتها في لحومها، وهذا إذا كان غالب
علفها منها. فأما إذا رعت الكلأ واعتلفت الحب وكانت تنال
مع ذلك شيئاً من الجلة فليست بجلالة وإنما هي كالدجاج
ونحوها من الحيوان الذي ربما نال الشيء منها وغالب غذائه
وعلفه من غيرها فلا يكره أكله.
واختلف الناس في أكل لحوم الجلالة وألبانها فكره ذلك أبو
حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد بن حنبل وقالوا لا تؤكل حتى
تحبس أياماً وتعلف علفاً غيرها فإذا طاب لحمها فلا بأس
بأكله.
وقد روي في حديت أن البقر تعلف أربعين يوماً ثم يؤكل
لحمها، وكان ابن عمر رضي الله عنه يحبس الدجاجة ثلاثاً ثم
يذبح.
وقال إسحاق بن راهويه لا بأس أن يؤكل لحمها بعد أن يغسل
غسلاً جيداً.
(4/244)
وكان الحسن البصري لا يرى بأساً بأكل لحوم
الجلالة، وكذلك قال مالك بن أنس.
ومن باب في أكل لحوم الخيل
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن عمرو بن
دينار عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله قال: نهانا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر وأذن في
لحوم الخيل.
قال أبو داود: حدثنا حيوة بن شريح حدثنا بقية عن ثور بن
يزيد عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معديكرب عن أبيه عن
جده عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير.
قال الشيخ: في حديث جابر بيان إباحة لحوم الخيل واسناده
جيد.
وأما حديث خالد بن الوليد ففي إسناده نظر وصالح بن يحيى بن
المقدام عن أبيه عن جده لا يعرف سماع بعضهم من بعض.
وقد اختلف الناس في لحوم الخيل فروى عن ابن عباس رضي الله
عنهما أنه كان يكره لحوم الخيل، وكرهها أبو حنيفة وأصحابه
ومالك.
وقال الحكم لحوم الخيل في القرآن حرام ثم تلا {والخيل
والبغال والحمير لتركبوها وزينة} [النحل: 8] ورخصت طائفة
فيها روي ذلك عن شريح والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح
وسعيد بن جبير، وهو قول حماد بن أبي سليمان، وإليه ذهب
الشافعي وأحمد وإسحاق.
فأما احتجاج من احتج بقوله عز وجل {والخيل والبغال والحمير
لتركبوها وزينة} في تحريم لحوم الخيل فإن الآية لا تدل على
أن منفعة الخيل مقصورة
(4/245)
على الركوب دون الأكل، وإنما ذكر الركوب
والزينة لأنهما معظم ما يبتغى من الخيل كقوله تعالى {حرمت
عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} [المائدة: 3] فنص على
اللحم لأنه معظم ما يؤكل منه، وقد دخل في معناه دمه وسائر
أجزائه وقد سكت عن حمل الأثقال على الخيل، وقيل في الأنعام
{لكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك
تحملون} [المؤمنون: 21-22] وقال تعالى {وتحمل أثقالكم إلى
بلد لم تكونوا بالغيه إلاّ بشق الأنفس} [النحل: 7] ثم لم
يدل ذلك على أن حمل الأثقال على الخيل غير مباح كذلك الأكل
والله أعلم.
ومن باب في أكل الضب
قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب، عَن أبي
أمامة بن سهل بن حنيف عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
عن خالد بن الوليد أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم بيت ميمونه فأتي بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم بيده فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونه
أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل منه
فقال هو ضب فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال:
فقلت أحرام هو، قال لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني
أعافه، قال خالد فاجتررته فأكلت ورسول الله صلى الله عليه
وسلم ينظر.
قال الشيخ: المحنوذ المشوي ويقال هو ما شوي بالرضف وهي
الحجارة المحماة ومن هذا قوله سبحانه {فجاء بعجل حنيذ}
[هود: 69] .
وقوله أعافه معناه أقذره وأتكرهه، يقال عفت الشيء أعافه
عيفاً ومن زجر الطير عفته، أعيفه، عيافة.
وقد اختلف الناس في أكل الضب فرخص فيه جماعة من أهل العلم،
روي
(4/246)
ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإليه
ذهب مالك بن أنس والأوزاعي والشافعي، وكرهه قوم. روي ذلك
عن علي رضي الله عنه، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقد روي
في النهى عن لحم الضب حديث ليس إسناده بذلك، ذكره أبو داود
في هذا الباب.
ومن باب في أكل حشرات الأرض
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا غالب بن حجرة
حدثني مِلقام بن تَلِّب عن أبيه قال صحبت النبي صلى الله
عليه وسلم فلم أسمع لحشرة الأرض تحريماً.
قال الشيخ: الحشرة صغار دواب الأرض كاليرابيع والضباب
والقنافذ ونحوها، وليس في قوله لم أسمع لها تحريماً دليل
على أنها مباحة لجواز أن يكون غيره قد سمعه.
وقد حضرنا فيه معنى آخر وهو أنه إنما عنى بهذا القول عادة
القوم في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في استباحة
الحشرة وكان يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم من
عاداتهم فلم ينه عن أكلها.
وقد اختلف الناس في أن الأشياء أصلها على الإباحة أو على
الحظر وهي مسألة كبيرة من مسائل أصول الفقه. فذهب بعضهم
إلى أنها على الإباحة، وذهب آخرون إلى أنها على الحظر،
وذهبت طائفة إلى أن إطلاق القول بواحد منهما فاسد ولا بد
من أن يكون بعضها محظوراً وبعضها مباحاً، والدليل ينبئ عن
حكمه في مواضعه.
وقد اختلف الناس في اليربوع والوبر ونحوهما من الحشرات
فرخص في اليربوع عروة وعطاء والشافعي وأبو ثور. وقال مالك
لا بأس بأكل الوبر
(4/247)
وكذلك قفال الشافعي، وقد روي عن عطاء
ومجاهد وطاوس وكرهها ابن سيرين والحكم وحماد وأبو حنيفة
وأصحابه.
وكره أبو حنيفة وأصحابه القنفذ وسئل عنه مالك بن أنس فقال
لا أدري، وكان أبو ثور لا يرى به بأساً، وحكاه عن الشافعي.
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه رخص فيه، وقد روى أبو
داود في تحريمه حديثاً ليس إسناده بذلك. فإن ثبت الحديث
فهو محرم.
ومن باب في أكل الضبع
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي حدثنا جرير
بن حازم عن عبد الله بن عبيد عن عبد الرحمن بن أبي عمار عن
جابر بن عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن الضبع فقال هو صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم.
قال الشيخ: إذا كان قد جعله صيداً أو رأى فيه الفداء فقد
أباح أكله كالظباء والحمر الوحشية وغيرها من أنواع صيد
البر، وإنما أسقط الفداء في قتل ما لا يؤكل، فقال خمس لا
جناح على من قتلهن في الحل والحرم. الحديث.
وفي قوله هو صيد دليل على أن من السباع والوحش ما ليس بصيد
فلم يدخل تحت قوله تعالى {وحرم عليكم صيد البر} [المائدة:
96] .
وفيه دليل على أن لا شيء على من قتل سبعاً لأنه ليس بصيد.
وفيه دليل على المثل المجعول في الصيد إنما هو من طريق
الخلقة دون القيمة ولو كان الأمر في ذلك موكولاً إلى
الاجتهاد لأشبه أن لا يكون بدله مقدراً، وفي ذلك ما دل على
أن في الكبش وفاء لجزائه كانت قيمته مثل قيمة المجزي أو لم
يكن.
(4/248)
وقد اختلف الناس في أكل الضبع فروي عن سعد
بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه كان يأكل الضبع، وروي عن ابن
عباس رضي الله عنهما إباحة لحم الضبع، وأباح أكلها عطاء
والشافعي وأحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه وأبو ثور، وكرهه
الثوري وأبو حنيفة وأصحابه ومالك، وروي ذلك عن سعيد بن
المسيب واحتجوا بأنها سبع، وقد نهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع.
قلت وقد يقوم دليل الخصوص فينزع الشيء من الجملة وخبر جابر
خاص وخبر تحريم السباع عام.
ومن باب في الحمر الأهلية
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن الحسن المصيصي حدثنا حجاج
عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أخبرني رجل عن جابر قال:
نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نأكل لحوم الحمير
وأمرنا بأكل لحوم الخيل، قال عمرو فأخبرت هذا الخبر أبا
الشعثاء فقال قد كان الحكم الغفاري فينا يقول هذا وأبى ذلك
البحر، يَعني ابن عباس رضى الله عنهما.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا عبيد الله
عن إسرائيل عن منصور عن عبيد أبي الحسن عن عبد الرحمن عن
غالب بن أبجر قال: أصابتنا سنة فلم يكن في مالي شيء أُطعم
أهلي إلاّ شيء من حمر وقد كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية فأتيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقلت يا رسول الله أصابتنا السنة ولم يكن في
مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر وأنك حرمت لحوم الحمر
الأهلية، فقال اطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل
جَوال القرية.
(4/249)
قال أبو داود عبد الرحمن هذا هو ابن معقل.
قال الشيخ: لحوم الحمر الأهلية محرمة في قول عامة العلماء،
وإنما رويت الرخصة فيها عن ابن عباس رضي الله عنهما ولعل
الحديث في تحريمها لم يبلغه، فأما حديث ابن أبجر فقد اختلف
في إسناده.
قال أبو داود: رواه شعبة عن عبيد أبي الحسن عن عبد الرحمن
بن معقل عن عبد الرحمن بن بشر عن ناس من مزينة أن سيد
مزينة أبجر أو ابن أبجر سأل النبي صلى الله عليه وسلم
ورواه مسعر فقال عن ابن عبيد عن ابن معقل عن رجلين من
مزينة أحدهما عن الآخر، وقد ثبت التحريم من طريق جابر
متصلاً. والرجل الذي رواه عنه عمرو بن دينار ولم يسمه في
رواية أبى داود وهو محمد بن علي حدثونا به عن يحيى بن محمد
بن يحيى.
حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن محمد بن
علي عن جابر قال نهان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل.
وأما قوله إنما حرمتها من أجل جوال القرية فإن الجوال هي
الني تأكل العذره وهي الجله، إلا أن هذا لا يثبت وقد ثبت
أنه إنما نهى عن لحموما لأنها رجس.
حدثناه ابن مالك حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا
سفيان حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال:
لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أصبنا حمراً
خارجاً من القرية فنحرنا فطبخنا فنادى منادي رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلاّ ان الله ورسوله ينهيانكم عنها وأنها
رجس من عمل الشيطان فأكفئت القدور بما فيها وإنها لتفور.
(4/250)
ومن باب الطافي من
السمك
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبدة أنبأنا يحيى بن سُليم
الطائفي حدثنا إسماعيل بن أمية، عَن أبي الزبير عن جابر بن
عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ألقاه
البحر أو جَزَر عنه فكلوه، وما مات فيه فطفاه فلا تأكلوه.
قال أبو داود: روى هذا الحديث سفيان الثوري وأيوب وحماد،
عَن أبي الزبير أوقفوه على جابر، وقد أسند هذا الحديث
أيضاً من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب، عَن أبي الزبير عن جابر
عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ: قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه أباح الطافي
من السمك ثبت ذلك، عَن أبي بكر الصديق وأبي أيوب الأنصاري
رضي الله عنهما، وإليه ذهب عطاء بن أبي رباح ومكحول
وإبراهيم النخعي، وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور، وروي عن
جابر وابن عباس رضي الله عنهما كرها الطافي من السمك وإليه
ذهب جابر بن زيد وطاوس وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
ومن باب أكل دواب البحر
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير
حدثنا أبو الزبير عن جابر قال: بعثنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأمر علينا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه
نتلقى عيراً لقريش وزودنا جراباً من تمر لم نجد غيره وكان
أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة كنا نمصها كما يمص الصبي ثم
نشرب عليها من الماء فيكفينا يوماً إلى الليل وكنا نضرب
بعصينا الخبَط ثم نبله بالماء فنأكله، قال وانطلقنا على
ساحل البحر فرفع لنا كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا هو
دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة رضي الله عنه ميتة ولا
تحل لنا، ثم قال لا بل نحن رسل رسول
(4/251)
الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله وقد
اضطررتم فكلوا فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلاثمائة حتى سمنا،
فلما قدمنا على رسول الله ذكرنا ذلك له فقال هو رزق أخرجه
الله لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا فأرسلنا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأكل.
قال الشيخ: الخبط ورق الشجر يضرب بالعصا فيسقط.
وفيه دليل على أن دواب البحر كلها مباحة إلاّ الضفدع لما
جاء من النهي وإن ميتتها حلال، ألا تراه يقول هل معكم من
لحمه شيء فأرسلنا إليه فأكل وهذا حال رفاهية لا حال ضرورة.
وقد روي، عَن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن كل دابة في
البحر فقد ذبحها الله لكم أو ذكاها لكم.
وعن محمد بن علي أنه قال كل ما في البحر ذكي، وكان
الأوزاعي يقول كل شيء كان عيشه في الماء فهو حلال قيل
فالتمساح قال نعم، وغالب مذهب الشافعي إباحة دواب البحر
كلها إلاّ الضفدع لما جاء من النهي عن قتلها.
وكان أبو ثور يقول جميع ما يأوي إلى الماء فهو حلال فما
كان منه يذكى لم يحل إلاّ بذكاة وما كان منه لا يذكى مثل
السمك أخذه حياً وميتاً.
وكره أبو حنيفة دواب البحر كلها إلاّ السمك.
وقال سفيان الثوري أرجو أن لا يكون بالسرطان بأس.
وقال ابن وهب سألت الليث بن سعد عن أكل خنزير الماء وكلب
الماء وإنسان الماء ودواب الماء كلها، فقال أما إنسان
الماء فلا يؤكل على شيء من الحالات، والخنزير إذا سماه
الناس خنزيراً فلا يؤكل، وقد حرم الله الخنزير وأما الكلاب
فليس بها بأس في البر والبحر.
(4/252)
قلت: لم يختلفوا أن المارماهي مباح أكله
وهو شبيه بالحيات ويسمى أيضاً حية، فدل ذلك على بطلان
اعتبار معنى الأسماء والأشباه في حيوان البحر، وإنما هي
كلها سموك وإن اختلفت أشكالها وصورها وقد قال سبحانه {أحل
لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم} [المائدة: 96] فدخل كل
ما يصاد من البحر من حيوانه لا يخص شيء منه إلاّ بدليل،
وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقال طهور
ماؤه حلال ميتته فلم يستثن شيئاً منها دون شيء، فقضية
العموم توجب فيها الإباحة إلاّ ما استثناه الدليل والله
أعلم.
ومن باب المضطر إلى الميتة
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا الفضل بن
دكين حدثنا عقبة بن وهب عن عقبة العامري، قال سمعت أبي
يحدث عن الفجيع العامري أنه أتى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال ما يحل لنا من الميتة، قال ما طعامكم، قلنا
نغتبق ونصطبح، قال أبو نعيم فسره لي عقبة قدح غُدْوة وقدح
عَشِية، قال ذاك وأبى الجوع فأحل لهم الميتة على هذه
الحال.
قال الشيخ: الغبوق العشاء، والصبوح الغداء، والقدح من
اللبن بالغداة، والقدح بالعشي يمسك الرمق ويقيم النفس وإن
كان لا يغذو البدن ولا يشبع الشبع التام، وقد أباح لهم مع
ذلك تناول الميتة فكان دلالته أن تناول الميتة مباح إلى أن
تأخذ النفس حاجتها من القوت، وإلى هذا ذهب مالك بن أنس وهو
أحد قولي الشافعي، وذلك أن الحاجه منه قائمة إلى الطعام في
تلك الحال كهي في الحال المتقدمة فمنعه بعد إباحته له غير
جائز قبل أن يأخذ منه حاجته وهذا كالرجل يخاف العنت ولا
يحد طولاً لحرة فإذا أبيح له نكاح الأمة وصار
(4/253)
إلى أدنى حال التعفف لم يبطل النكاح.
وقال أبو حنيفة لايجوز له أن بيتناول منه إلاّ قدر ما يمسك
رمقه.
وإليه ذهب المزني قالوا وذلك لأنه لو كان في الابتداء بهذا
الحال لم يجز له أن يأكل شيئاً منها فكذلك إذا بلغها بعد
تناولها.
وقد روي نحو من هذا عن الحسن البصري، وقال قتادة لا يتضلع
منها.
ومن باب في أكل الجبن
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن موسى البلخي حدثنا إبراهيم بن
عيينة عن عمرو بن منصور عن الشعبي عن ابن عمر رضي الله
عنهما قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجبنة في تبوك
فدعا بسكين فسمى وقطع.
قال الشيخ: إنما جاء به أبو داود من أجل أن الجبن كان
يعمله قوم الكفار لا تحل ذكاتهم وكانوا يعقدونها بالأنافج
وكان من المسلمين من يشاركهم في صنعة الجبن فأباحه النبي
صلى الله عليه وسلم على ظاهر الحال ولم يمتنع من أكله من
أجل مشاركة الكفار المسلمين فيه.
ومن باب في الخل
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا معاوية بن
هشام حدثنا سفيان عن محارب بن دثار عن جابر عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال نعم الإدام الخل.
قال الشيخ: معنى هذا الكلام الاقتصاد في المأكل ومنع النفس
عن ملاذ الأطعمة كأنه يقول ائتدموا بالخل وما كان في معناه
مما تخف مؤنته ولا يعز وجوده ولا تتأنقوا في المطعم فإن
تناول الشهوات مفسدة للدين مسقمة للبدن.
وفيه من الفقه أن من حلف لا يأتدم فأكل خبزة بخل حنث.
(4/254)
ومن باب في الثوم
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني
يونس عن ابن شهاب حدثني عطاء بن أبي رباح أن جابر بن عبد
الله قال، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أكل
ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته
وأنه أُتني ببَدْر فيه خضرات من البقول وذكر الحديث.
قال الشيخ: قوله أتي ببدر يريد بطبق وسمي الطبق بدراً
لاستدارته، ومنه سمي القمر قبل كماله بدراً وذلك لاستدارته
وحسن اتساقه.
وقوله فليعتزل مسجدنا إنما أمره باعتزال المسجد عقوبة له
وليس هذا من باب الأعذار التي تبيح للمرء التخلف عن
الجماعة كالمطر والريح العاصف ونحوهما من الأمور، وقد رأيت
بعض الناس صنف في الأعذار المانعة عن حضور الجماعة باباً
ووضع فيها أكل الثوم والبصل وليس هذا من ذلك في شيء والله
أعلم.
ومن باب القران بالتمر عند
الأكل
قال أبو داود: حدثنا واصل بن عبد الأعلى حدثنا ابن فضيل عن
ابن إسحاق عن جبَلة بن سُحيم عن ابن عمر قال نهى النبي صلى
الله عليه وسلم عن القران إلاّ أن تستأذ أصحابك.
قال الشيخ: إنما جاء النهي عن القران لمعنى مفهوم وعلة
معلومة وهي ما كان القوم من شدة العيش وضيق الطعام
واعوازه، وكانوا يتجوزون في المأكل ويواسون من القليل فإذا
اجتمعوا على الأكل تجافى بعضهم عن الطعام لبعض وآثر صاحبه
على نفسه، غير أن الطعام ربما يكون مشفوهاً. وفي القوم من
بلغ به الجوع الشدة فهو يشفق من فنائه قبل أن يأخذ حاجته
منه فربما قرن بين التمرتين وأعظم اللقمة ليسد به الجوع
وتشفى به القَرَمَ فأرشد
(4/255)
النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأدب فيه
وأمر بالاستئذان ليستطيب به نفس أصحابه فلا يجدوا في
أنفسهم من ذلك إذا رأوه قد استأثر به عليهم، أما اليوم فقد
كثر الخير واتسعت الرحال وصار الناس إذا اجتمعوا تلاطفوا
على الأكل وتحاضوا على الطعام فهم لا يحتاجون إلى
الاستئذان في مثل ذلك إلاّ أن يحدث حال من الضيق والاعواز
تدعو الضرورة فيها إلى مثل ذلك فيعود الأمر إليه إذا عادت
العلة والله أعلم.
ومن باب الجمع بين الشيئين في
الأكل
قال أبو داود: حدثنا سعيد بن نصير حدثنا أبو أسامة حدثنا
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الطبيخ بالرطب ويقول
يكسر حر هذا برد هذا وبرد هذا حر هذا.
قال الشيخ: فيه إثبات الطب والعلاج ومقابلة الشيء الضار
بالشيء المضاد له في طبعه على مذهب الطب والعلاج؛ ومنه
إباحة التوسع من الأطعمة والنيل من الملاذ المباحة،
والطبيخ لغة في البطيخ.
ومن باب الأكل في آنية
أهل الكتاب والمجوس والطبخ فيها
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى
واسماعيل عن برد بن سنان عن عطاء عن جابر قال: كنا نغزو مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين
واسقيتهم فنستمتع بها فلا يعيب ذلك عليهم.
قال الشيخ: ظاهر هذا يبيح استعمال آنية المشركين على
الاطلاق من غير غسل لها وتنظيف، وهذه الإباحة مقيدة بالشرط
الذي هو مذكور في الحديث الذي يليه في هذا الباب.
(4/256)
قال أبو داود: حدثنا نصر بن عاصم حدثنا
محمد بن شعيب أنبأنا عبد الله بن العلاء بن زَبْر، عَن أبي
عبيد الله مسلم بن مِشْكم، عَن أبي ثعلبة الخُشني رضي الله
عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنا نجاور
أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في
آنيتهم الخمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن وجدتم
غيرها فكلوا فيها واشربوا وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها
بالماء وكلوا واشربوا.
قال الشيخ: والأصل في هذا أنه إذا كان معلوماً من حال
المشركين أنهم يطبخون في قدورهم لحم الخنزير ويشربون في
آنيتهم الخمور فإنه لا يجوز استعمالها إلاّ بعد الغسل
والتنظيف، فأما مياههم وثيابهم فإنها على الطهارة كمياه
المسلمين وثبابهم إلاّ أن يكونوا من قوم لا يتحاشون
النجاسات أو كان من عادتهم استعمال الأبوال في طهورهم فإن
استعمال ثيابهم غير جائز إلاّ أن لا يعلم أنه لم يصبها شيء
من النجاسات والله أعلم.
والرحض الغسل.
ومن باب الفأرة تقع في السمن
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أنبأنا
معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقعت الفأرة في السمن
فإن كان جامداً فألقوها وما حولها وإن كان مائعاً فلا
تقربوه.
قال الشيخ: فيه دليل على أن المائعات لا تزال بها النجاسات
وذلك انها إذا لم تدفع عن نفسها النجاسة فلأن لا تدفع عن
غيرها أولى.
وقوله لا تقربوه يحتمل وجهين أحدهما لا تقربوه أكلاً
وطعماً ولا يحرم
(4/257)
الانتفاع به من غير الوجه استصباحاً وبيعاً
ممن يستصبح به ويدهن به السفن ونحوها، ويحتمل أن يكون
النهي في ذلك عاماً على الوجوه كلها.
وقد اختلف الناس في الزيت إذا وقعت فيه نجاسة فذهب نفر من
أصحاب الحديث إلى أنه لا ينتفع به على وجه من الوجوه لقوله
لا تقربوه. واستدلوا فيه أيضاً بما روي في بعض الأخبار أنه
قال أريقوه.
وقال أبو حنيفة هو نجس لا يجوز أكله وشربه ويجوز بيعه
والاستصباح به.
وقال الشافعي لا يجوز أكله ولا بيعه ويجوز الاستصباح به.
وقال داود إن كان هذا سمناً فلا يجوز تناوله ولا بيعه وإن
كان زيتاً لم يحرم تناوله وبيعه وذلك أنه زعم أن الحديث
إنما جاء في السمن وهو لا يعدو لفظه ولا يقبس عليه من طريق
المعنى غيره.
ومن باب الذباب يقع في الطعام
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا بشر يعنى ابن
المفضل عن ابن عجلان، عَن أبي سعيد المقبري، عَن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقع الذباب في
إناء أحدكم فامقُلوه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء
وأنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء فليغمسه كله.
قال الشيخ: فيه من الفقه ان أجسام الحيوان طاهرة إلاّ ما
دلت عليه السنة من الكلب وما ألحق به في معناه.
وفيه دليل على أن ما لا نفس له سائلة إذا مات في الماء
القليل لم ينجسه، وذلك إن غمس الذباب في الإناء قد يأتي
عليه فلو كان نجسه إذا مات فيه لم يأمره بذلك لما فيه من
تنجيس الطعام وتضييع المال وهذا قول عامة العلماء،
(4/258)
إلاّ أن الشافعي قد علق القول فيه فقال في
أحد قوليه إن ذلك ينجسه.
وقد روي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال في العقرب يموت في
الماء أنها تنجسه وعامة أهل العلم على خلافه.
وقد تكلم على هذا الحديث بعض من لا خلاق له وقال كيف يكون
هذا وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة وكيف تعلم
ذلك من نفسها حتى تقدم جناح الداء وتؤخر جناح الشفاء وما
أربها إلى ذلك.
قلت: وهذا سؤال جاهل أو متجاهل وإن الذي يجد نفسه ونفوس
عامة الحيوان قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة والرطوبة
واليبوسة وهي أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت، ثم يرى أن
الله سبحانه قد ألف بينها وقهرها على الاجتماع وجعل منها
قوى الحيوان التي بها بقاؤها وصلاحها لجدير أن لا ينكر
اجتماع الداء والشفاء في خزأين من حيوان واحد، وأن الذي
ألهم النحلة أن تتخذ البيت العجيب الصنعة وأن تعسل فيه،
وألهم الذرة أن تكتسب قوتها وتدخره لأوان حاجتها إليه هو
الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن تقدم جناحاً
وتؤخر جناحاً لما أراد من الابتلاء الذي هو مدرجة التعبد
والامتحان الذي هو مضمار التكليف وفي كل شيء عبرة وحكمة
وما يذكر إلاّ أولو الألباب.
ومن باب اللقمة تسقط
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت
عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
إذا أكل لعق أصابعه الثلاث، وقال إذا سقطت لقمة أحدكم
فليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان. وأمرنا أن
نسلت الصحيفة وقال إن أحدكم لا يدري في أي طعامه يبارك له.
(4/259)
قال الشيخ: سلت الصحيفة تتبع ما يبقى فيها
من الطعام ومسحها بالإصبع ونحوه، ويقال سلت الرجل الدم عن
وجهه إذا مسحه بأصبعه وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم
العلة في لعق الأصابع وسلت الصحيفة، وهو قوله فإنه لا يدري
في أي طعامه يبارك له. يقول لعل البركة فيما لعق بالأصابع
والصحفة من لطخ ذلك الطعام. وقد عابه قوم أفسدت عقولهم
الترفه وغير طباعهم الشبع والتخمة وزعموا أن لعق الأصابع
مستقبح أو مستقذر كأنهم لم يعلموا أن الذي علق بالإصبع أو
الصحفة جزء من أجزاء الطعام الذي أكلوه وازدردوه فإذا لم
يكن سائر أجزائه المأكولة مستقذرة لم يكن هذا الجزء اليسير
منه الباقي في الصحفة واللاصق بالأصابع مستقذراً كذلك.
وإذا ثبت هذا فليس بعده شيء أكثر من مسه أصابعه بباطن
شفتيه وهو ما لا يعلم عاقل به بأساً إذا كان المساس
والممسوس جميعاً طاهرين نظيفين. وقد يتمضمض الإنسان فيدخل
اصبعه في فيه فيدلك أسنانه وباطن فمه فلم ير أحد ممن يعقل
أنه قذارة أو سوء أدب فكذلك هذا لا فرق بينهما في منظر
حسٍّ ولا مخبر عقل.
ومن باب اقعاد الخادم على
الطعام
قال أبو داود: حدثنا القعنبي حدثنا داود بن قيس عن موسى بن
يسار، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا صنع لأحدكم خادمُه طعاماً ثم جاءه به فليقعده معه
فليأكل فإن كان الطعام مشفوهاً فليضع في يده منه أُكلة أو
أكلتين.
قال الشيخ: المشفوه القليل وقيل له مشفوه لكثرة الشفاه
التي تجتمع على أكله والأكلة مضمومة الألف اللقمة والأكلة
بفتحها المرة الواحدة من الأكل.
(4/260)
وفيه دليل على أنه ليس بالواجب على السيد أن يسوي بينه
وبين مملوكه وبين نفسه في المأكل إذا كان ممن يعتاد رقيق
الطعام ولذيذه وإن كان مستحباً له أن يواسيه منه وإنما
عليه أن يشبعه من طعام يقيمه كما ليس عليه أن يكسيه من خير
الثياب وثمينه الذي يلبسه وإنما عليه أن يستره بما يقيه
الحر في الصيف والبرد في الشتاء وعلى كل حال فإنه لا يخليه
من مواساة واتحاف من خاص طعامه إن لم يكن مواساة ومفاوضة
والله أعلم.
ومن باب ما يقول الرجل إذا طعم
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ثور عن خالد بن
معدان، عَن أبي امامة قال كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا رفعت المائدة قال الحمد لله حمداً كثيراً طيباً
مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا.
قال الشيخ: قوله غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا،
معناه أن الله سبحانه هو المطعم والكافي وهو غير مطعَم ولا
مكفي كما قال سبحانه: {وهو يطعم ولا يطعم} الأنعام: 14]
وقوله ولا مودع أي غير متروك الطلب إليه والرغبة فيما
عنده، ومنه قوله سبحانه {ما ودعك ربك وما قلى} [الضحى: 3]
أي ما تركك ولا أهانك ومعنى المتروك المستغنى عنه. |