معالم السنن كتاب شرح السنة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى بن فارس
قالا: حَدَّثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان (ح) قال وحدثنا
عمرو بن عثمان حدثنا بقية حدثني صفوان حدثنا أزهر بن عبد
الله الحرازي، قال أحمد، عَن أبي عامر الهوزي عن معاوية بن
أبي سفيان أنه قام فقال إلاّ أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قام فينا فقال الا ان من كان قبلكم من أهل الكتاب
افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وأن هذه الأمة ستفترق على
ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي
الجماعة، وزاد ابن يحيى وعمرو في حديثهما وأنه سيخرج من
أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب
لصاحبه، قال عمر والكَلَب بصاحبه لا يبقي منه عرق ولا مفصل
إلاّ دخله.
قال الشيخ: قوله ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة فيه
دلالة على أن هذه الفرق كلها خارجة من الدين إذ قد جعلهم
النبي صلى الله عليه وسلم كلهم من أمته.
وفيه أن المتأول لا يخرج من المله وإن أخطأ في تأوله.
وقوله كما يتجارى الكلب لصاحبه فإن الكلب داء يعرض للإنسان
من عضة الكلب الكلِب وهو داء يصيب الكلب كالجنون. وعلامة
ذلك فيه أن تحمر عيناه وأن لا يزال يدخل ذنبه بين رجليه
وإذا رأى إنساناً ساوره فإذا عقر هذا الكلب إنساناً عرض له
من ذلك أعراض رديئه، منها أن يمتنع من شرب الماء حتى يهلك
عطشاً ولا يزال يستسقي حتى إذا سقي الماء لم يشربه، ويقال
إن هذه العلة إذا استحكمت بصاحبها فقعد للبول خرج منه هنات
مثل صورة الكلاب فالكلب
(4/295)
داء عظيم إذا تجارى بالإنسان تمادى وهلك.
ومن باب مجانية أهل الأهواء
وبغضهم
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أنبأنا ابن وهب
أخبرني يونس عن ابن شهاب قال وأخبرني عبد الرحمن بن عبد
الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب وكان قائد كعب من
بنيه حين عمي قال سمعت كعب بن مالك وذكر ابن السرح قصة
تخلفه عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قال ونهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة حتى
إذا طال عليَّ تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي
فسلمت عليه فو الله ما رد علي السلام ثم ساق الخبر في نزول
توبته.
قال الشيخ: فيه من العلم أن تحريم الهجرة بين المسلمين
أكثر من ثلاث إنما هو فيما يكون بينهما من قبل عتب وموجدة
أو لتقصير يقع في حقوق العشرة ونحوها دون ما كان من ذلك في
حق الدين فإن هجرة أهل الأهواء والبدعة دائمة على مر
الأوقات والأزمان ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى
الحق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف على كعب
وأصحابه النفاق حين تخلفوا عن الخروج معه في غزوة تبوك
فأمر بهجرانهم وأمرهم بالقعود في بيوتهم نحو خمسين يوماً
على ما جاء في الحديث إلى أن أنزل الله سبحانه توبته وتوبة
أصحابه فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم براءتهم من
النفاق.
وفيه دلالة على أنه لا يحرج المرء بترك رد سلام أهل
الأهواء والبدع.
وفيه دليل على أن من حلف أن لا يكلم رجلاً فسلم عليه أو رد
عليه السلام كان حانثاً.
(4/296)
ومن باب النهي عن
الجدال في القرآن
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يزيد بن هارون
حدثنا محمد بن عمرو، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: المراء في القرآن كفر.
قال الشيخ: اختلف الناس في تأويله فقال بعضهم معنى المراء
هنا الشك فيه كقوله {فلا تك في مرية منه} [هود: 17] أي في
شك، ويقال بل المراء هو الجدال المشكك فيه.
وتأوله بعضهم على المراء في قرآنه دون تأويله ومعانيه مثل
أن يقول قائل هذا قرآن قد أنزله الله تبارك وتعالى، ويقول
الآخر لم ينزل الله هكذا فيكفر به من أنكره، وقد أنزل
سبحانه كتابه على سبعة أحرف كلها شاف كاف فنهاهم صلى الله
عليه وسلم عن إنكار القراءة التي يسمع بعضهم بعضاً يقرؤها
وتوعدهم بالكفر عليها لينتهوا عن المراء فيه والتكذيب به
إذ كان القرآن منزلاً على سبعة أحرف وكلها قرآن منزل يجوز
قراءته ويجب علينا الإيمان به.
وقال بعضهم إنما جاء هذا في الجدال بالقرآن في الآي التي
فيها ذكر القدر والوعيد وما كان في معناهما على مذهب أهل
الكلام والجدل وعلى معنى ما يجري من الخوض بينهم فيها دون
ما كان منها في الأحكام وأبواب التحليل والتحريم والحظر
والإباحة فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
تنازعوها فيما بينهم وتحاجوا بها عند اختلافهم في الأحكام
ولم يتحرجوا عن التناظر بها وفيها. وقد قال سبحانه {فإن
تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59] فعلم
أن النهي منصرف إلى غير هذا الوجه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا أبو عمرو بن
كثير بن دينار
(4/297)
عن حَريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي
عوف عن المقدام بن معديكرب عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: إلاّ أني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل
شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من
حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه الا لا يحل لكم
الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد
إلاّ أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه
فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قِراه.
قال الشيخ: قوله أوتيت الكتاب ومثله معه يحتمل وجهين من
التأويل: أحدهما أن يكون معناه أنه أوتي من الوحي الباطن
غير المتلو مثل ما أعطي من الظاهر المتلو، ويحتمل أن يكون
معناه أنه أوتي الكتاب وحياً يتلى، وأوتي من البيان أي أذن
له أن يبين ما في الكتاب ويعم ويخص وأن يزيد عليه فيشرع ما
ليس له في الكتاب ذكر فيكون ذلك في وجوب الحكم ولزوم العمل
به كالظاهر المتلو من القرآن.
وقوله يوشك شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فإنه
يحذر بذلك مخالفة السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه
وسلم مما ليس له في القرآن ذكر على ما ذهبت إليه الخوارج
والروافض فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي قد
ضُمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا، والأريكة السرير، ويقال
أنه لا يسمى أريكة حتى يكون في حجلة وإنما أراد بهذه الصفة
أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم
ولم يغدوا ولم يروحوا في طلبه في مظانه واقتباسه من أهله.
وأما قوله لا تحل لقطة معاهد إلاّ أن يستغني عنها صاحبها
فمعناه إلاّ أن يتركها صاحبها لمن أخذها استغناء عنها وهذا
كقوله سبحانه {فكفروا وتولوا واستغنى
(4/298)
الله} [التغابن: 6] معناه والله أعلم تركهم
الله استغناء عنهم وهو الغني الحميد.
وقوله فله أن يعقبهم بمثل قراه معناه له أن يأخذ من مالهم
قدر قراه عوضاً وعقبى مما حرموه من القرى. وهذا في المضطر
الذي لا يجد طعاماً ويخاف على نفسه التلف، وقد ثبت ذلك في
كتاب الزكاة أو في غيره من هذا الكتاب.
وفى الحديث دليل على أنه لا حاجة بالحديث أن يعرض على
الكتاب وأنه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
حجه بنفسه، وأما ما رواه بعضهم أنه قال إذا جاءكم الحديث
فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه وإن خالفه فدعوه
فإنه حديث باطل لا أصل له. وقد حكى زكريا بن يحيى الساجي
عن يحيى بن معين أنه قال هذا حديث وضعته الزنادقة.
قلت وقد روى هذا من حديث الشاميين عن يزيد بن ربيعة، عَن
أبي الأشعث عن ثوبان ويزيد بن ربيعة هذا مجهول ولا يعرف له
سماع من أبي الأشعث، وأبو الأشعث لا يروي عن ثوبان وإنما
يروي، عَن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن الصبَّاح البزاز حدثنا
إبراهيم بن سعد عن سعد بن إبراهيم عن القاسم بن محمد عن
عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد.
قال الشيخ: في هذا بيان أن كل شيء نهى عنه صلى الله عليه
وسلم من عقد نكاح وبيع وغيرهما من العقود فإنه منقوض مردود
لأن قوله فهو رد يوجب ظاهره إفساده وإبطاله إلاّ أن يقوم
الدليل على أن المراد به غير الظاهر فيترك الكلام عليه
لقيام الدليل فيه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ابن جريج حدثنا
سليمان، يَعني ابن
(4/299)
عتيق عن طلق بن حبيب عن الأحنف بن قيس عن
عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا
هلك المتنطعون ثلاث مرات.
قال الشيخ: المتنطع المتعمق في الشيء المتكلف البحث عنه
على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين
فيما لا تبلغه عقولهم.
وفيه دليل على أن الحكم بظاهر الكلام وأنه لا يترك الظاهر
إلى غيره ما كان له مساغ وأمكن فيه استعمال.
ومن باب لزوم السنة
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم
حدثنا ثور بن يزيد حدثني خالد بن معدان حدثني عبد الرحمن
بن عمرو السُّلمي وحُجْر بن حُجْر قالا: أتينا العرباض بن
سارية فسلمنا فقلنا أتينا زائرين وعائدين ومقتبسين فقال
العرباض صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم
أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرَفت منها العيون ووجلت
منها القلوب، فقال قائل يا رسول الله كأن هذا موعظة مودع
فماذا تعهد إلينا فقال أوصيكم بالسمع والطاعة وإن عبداً
حبشياً فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً
فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها
وعَضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة
بدعة وكل بدعة ضلالة.
قال الشيخ: قوله وإن عبداً حبشياً يريد به طاعة من ولاه
الإمام عليكم وإن كان عبداً حبشياً، وقد ثبت عنه صلى الله
عليه وسلم أنه قال: الأئمة من قريش، وقد يضرب المثل في
الشيء بما لا يكاد يصح منه الوجود كقوله صلى الله عليه
وسلم: من بنى لله مسجداً ولو مثل مفحص قطاة بنى الله له
بيتاً في الجنة، وقدر مفحص قطاة
(4/300)
لا يكون مسجدا لشخص آدمي وكقوله لو سرقت
فاطمة لقطعتها وهي رضوان الله عليها وسلامه لا يتوهم عليها
السرقة، وقال لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده
ونظائر هذا في الكلام كثير، والنواجذ آخر الأضراس واحدها
ناجذ، وإنما أراد بذلك الجد في لزوم السنة فعل من أمسك
الشيء بين أضراسه وعض عليه منعاً له أن ينتزع وذلك أشد ما
يكون من التمسك بالشيء إذ كان ما يمسكه بمقاديم فمه أقرب
تناولاً وأسهل انتزاعاً، وقد يكون معناه أيضاً الأمر
بالصبر على ما يصيبه من المضض في ذات الله كما يفعله
المتألم بالوجع يصيبه.
وقوله كل محدثة بدعة فإن هذا خاص في بعض الأمور دون بعض
وكل شيء أحدث على غير أصل من أصول الدين وعلى غير عياره
وقياسه. وأما ما كان منها مبنياً على قواعد الأصول ومردود
إليها فليس ببدعة ولا ضلالة والله أعلم.
وفي قوله عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين دليل على أن
الواحد من الخلفاء الراشدين إذا قال قولاً، وخالفه فيه
غيره من الصحابة كان المصير إلى قول الخليفة أولى.
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شييه حدثنا سفيان عن
الزهري عن عامر بن سعد عن أيبه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من
سأل عن أمر لم يحرَّم فحُرِّم على الناس من أجل مسألته.
قال الشيخ: هذا في مسألة من يسأل عبثاً وتكلفاً فيما لا
حاجة به إليه دون من سأل سؤال حاجة وضرورة كمسألة بني
إسرائيل في شأن البقرة وذلك أن الله سبحانه أمرهم أن
يذبحوا بقرة فلو استعرضوا البقر فذبحوا منها بقرة
لأجزأتهم. كذلك قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير الآية
فما زالوا يسألون ويتعنتون
(4/301)
حتى غلظت عليهم وأمروا بذبح البقرة على
النعت الذي ذكره الله في كتابه فعظمت عليهم المؤنة ولحقتهم
المشقة في طلبها حتى وجدوها فاشتروها بالمال الفادح
فذبحوها وما كادوا يفعلون.
وأما من كان سؤاله استبانة لحكم واجب واستفادة لعلم قد خفي
عليه فإنه لا يدخل في هذا الوعيد وقد قال سبحانه {فاسألوا
أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [الأنبياء: 7] .
وقد يحتج بهذا الحديث من يذهب من أهل الظاهر إلى أن أصل
الأشياء قبل ورود الشرع بها على الإباحة حتى يقوم دليل على
الحظر وإنما وجه الحديث وتأويله ما ذكرناه والله أعلم.
ومن باب التفضيل
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أسود بن عامر
حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبيد الله عن نافع عن ابن
عمر قال: كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل
بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم، ثم نترك
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم.
قال الشيخ: وجه ذلك والله أعلم أنه أراد به الشيوخ وذوي
الأسنان منهم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
حز به أمر شاورهم فيه، وكان علي رضوان الله عليه في زمان
رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث السن ولم يرد ابن عمر
الازراء بعلي كرم الله وجهه ولا تأخيره ودفعه على الفضيلة
بعد عثمان وفضله مشهور لا ينكره ابن عمر ولا غيره من
الصحابة، وإنما اختلفوا في تقديم عثمان عليه فذهب الجمهور
من السلف إلى تقديم عثمان عليه وذهب أكثر أهل الكوفة إلى
تقديمه على عثمان رضي الله عنهما.
(4/302)
وحدثني محمد بن هاشم حدثنا أبو يحيى بن أبي
ميسرة عن عبد الصمد قال: قلت لسفيان الثوري ما قولك في
التفضيل، فقال أهل السنة من أهل الكوفة يقولون أبو بكر
وعمر وعلي وعثمان، وأهل السنة من أهل البصرة يقولون أبو
بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. قلت فما تقول أنت قال
أنا رجل كوفي. قلت وقد ثبت عن سفيان أنه قال آخر قوليه أبو
بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
قلت وللمتأخرين في هذا مذاهب، منهم من قال بتقديم أبي بكر
من جهة الصحابة وبتقديم علي من جهة القرابة، وقال قوم لا
يقدم بعضهم على بعض، وكان بعض مشايخنا يقول أبو بكر خير
وعلي أفضل، وقال وباب الخيرية غير باب الفضيلة، قال وهذا
كما تقول إن الحر الهاشمي أفضل من العبد الرومي والحبشي
وقد يكون العبد الحبشي خيراً من هاشمي في معنى الطاعه لله
والمنفعة للناس، فباب الخيرية متعد وباب الفضيلة لازم.
وقد ثبت عن علي كرم الله وجهه أنه قال خير الناس بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم رجل آخر، فقال
له ابنه محمد بن الحنفية، ثم أنت يا أبه فكان يقول ما أبوك
إلاّ رجل من المسلمين رضوان الله عليهم.
ومن باب ما قيل في الخلفاء
قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا عبد
الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن عبيد الله هو ابن عبد
الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان أبو هريرة رضي
الله عنه يحدث أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: إني أرى الليلة ظلة ينطِف منها السمن والعسل فأرى
الناس يتكففون بأيديهم فالمستكثر والمستقل. وأرى سبباً
واصلاً من السماء إلى الأرض فأراك يا رسول الله فأخذته،
(4/303)
يَعني فعلوت به، ثم أخذ به رجل فعلا به، ثم
أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل
فعلا به، فقال أبو بكر رضي الله عنه بأبي وأمي لتدعني
فلأعبرنها، قال فقال اعبرها؛ فقال أما الظلة فظلة الإسلام؛
وأما ما ينطف من السمن والعسل فهو القرآن لينه وحلاوته،
وأما المستكثر والمستقل فهو المستكثر من القرآن والمستقل
منه؛ وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي
أنت عليه تأخذ به فيعليك الله ثم يأخذ به بعدك رجل فيعلو
به، ثم يأخذه رجل آخر فيعلو، ثم يأخذ به رجل فينقطع ثم
يوصل به فيعلو أي رسول الله لتحدثني أصبت أم أخطأت؛ فقال
أصبت بعضاً وأخطأت بعضا فقال أقسمت يا رسول الله لتحدثني
ما الذي أخطأت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقسم.
قال الشيخ: قوله إني أرى الليلة أخبرني أبو عمر، عَن أبي
العباس قال: يقول ما بينك من لدن الصباح وبين الظهر رأيت
الليلة وبعد الظهر إلى الليل رأيت البارحة، والظلة كل ما
أظلك من فوقك وعلاك، وأراد بالظلة ههنا والله أعلم سحابة
ينطف منها السمن والعسل أي يقطر والنطف القطر، وقوله
يتكففون بأيديهم يريد أنهم يتلقونه بأكفهم، يقال تكفف
الرجل الشيء واستكفه إذا مد كفه وتناوله بها، والسبب الحبل
والواصل معناه الموصول فاعل بمعنى مفعول وفي قوله لأبي بكر
رضي الله عنه لا تقسم ولم يخبره عن مسألته دليل على أن قول
القائل أقسمت ليس بيمين حتى يقول أقسمت بالله أو أقسم
بالله فيصل القسم باسم الله ولو كان ذلك بمجرده يميناً
لكان يبره فيها لأنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بإبرار
المقسم فدل ذلك على أنه مع التجريد ليس بيمين.
وقد اختلف الناس في معنى قوله أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً،
فقال بعضهم
(4/304)
أراد به الإصابة في عبارة بعض الرؤيا
والخطأ في بعضها. وقال آخرون بل أراد بالخطأ ههنا تقديمه
بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسألته للإذن له في
تعبير الرؤيا ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون
هو الذي يعبرها فهذا موضع الخطأ، وأما الإصابة فهي ما
تأوله في عبارة الرؤيا وخروج الأمرفي ذلك على وفاق ما قاله
وعبره.
وقد بلغني، عَن أبي جعفر الطحاوي رواية عن بعض السلف أنه
قال موضع الخطأ في عبارة أبي بكر رضي الله عنه أنه مخطىء
أحد المذكورين من السمن والعسل فقال، وأما ما ينطف من
السمن والعسل فهو القرآن لينه وحلاوته، وإنما أحدهما
القرآن والآخر السنة والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن علي بن
زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رسول الله 0ص قص
عليه رؤيا فاستاء لها.
قال الشيخ: قوله استاء لها أي كرهها حتى تبينت المساءة في
وجهه ووزنه افتعل من السوء.
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون حدثنا محمد بن جرير عن
الزبيدي عن ابن شهاب عن عمرو بن أبان بن عثمان عن جابر بن
عبد الله أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: أُري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى
الله عليه وسلم ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر قال
جابر فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا
أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تنوط
بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمرالذي بعث الله به نبيه صلى
الله عليه وسلم.
قال الشيخ: قوله نيط معناه علق، والنوط التعليق، والتنوط
التعلق، ومنه
(4/305)
المثل عاط لغير أنواط.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عفان بن مسلم
حدثنا حماد بن سلمة عن أشعث بن عبد الرحمن عن أبيه عن سمرة
بن جندب أن رجلاً قال: يا رسول الله إني رأيت كأن دلواً
دلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعَرَاقيها فشرب شرباً
ضعيفاً، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء
عثمان فأخذ بعراقيها فانتشطت وانتضح عليه منه شيء.
قال الشيخ: قوله دلي من السماء يريد أرسل، يقال أدليت
الدلو إذا أرسلتها في البئر ودلوتها إذا نزعتها والعراقي
أعواد يخالف بينها ثم تشد في عرى الدلو ويعلق بها الحبل
واحدتها عرقوة.
وقوله تضلع يريد الاستيفاء في الشرب حتى روي فتمدد جنبه
وضلوعه، وانتشاط الدلو اضطرابها حتى ينتضح ماؤها.
وأما قوله في أبي بكر شرب شرباً ضعيفا فإنما هو إشارة إلى
قصر مدة أيام ولايته وذلك لأنه لم يعش بعد أيام الخلافة
أكثر من سنتين وشيء وبقي عمر عشر سنين وشيئاً فذلك معنى
تضلعه والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء عن ابن إدريس حدثنا
حصين عن هلال بن يساف عن عبد الله بن ظالم المازني قال
سمعت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قال لما قدم فلان الكوفة
أقام خطيباً فأخذ بيدي سعيد بن زيد فقال: ألا ترى إلى هذا
الظالم فأشهد على التسعة أنهم في الجنة ولو شهدت على
العاشر لم أيثم. قال ابن إدريس والعرب تقول آثم، قلت ومن
التسعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على
حراء اثبت حراء أنه ليس عليك إلاّ نبي أو صديق أو شهيد،
قلت
(4/306)
ومن التسعة قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي
وقاص وعبد الرحمن بن عوف، قلت من العاشر، قال فلتكأ هنية
ثم قال أنا.
قال الشيخ: قوله لم أيثم هو لغة لبعض العرب يقولون أيثم
مكان أثم، وله نظائر في كلامهم قالوا تيجع وتيجل مكان يوجع
ويوجل، وحراء جبل بمكة وأصحاب الحديث يقصرونه وأكثرهم
يفتحون الحاء ويكسرون الراء سمعت أبا عمر يقول حراء اسم
على ثلاثة أحرف، وأصحاب الحديث يغلطون منه في ثلاثة مواضع
يفتحون الحاء وهي مكسورة ويكسرون الراء وهي مفتوحة ويقصرون
الألف وهي ممدودة وأنشد:
وراقٍ في حراء ونازل
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير حدثنا حماد
بن سلمة أن سعيد بن إياس الجريري أخبرهم عن عبد الله بن
شقيق العُقيلي عن الأقرع مؤذن عمر رضي الله عنه قال بعثني
عمر إلى الأسقُف فدعوته، فقال له عمر هل تجدني في الكتاب
قال نعم، قال كيف تجدني، قال أجدك قَرْناً فرفع الدرة فقال
قرن قال مه، قال قرن حديد أمين شديد، قال كيف تجد الذي
يجيء بعدي قال أجده خليفة صالحاً غير أنه يؤثر قرابته،
فقال عمر رضي الله عنه يرحم الله عثمان ثلاثاً، قال كيف
تجد الذي بعده، قال أجده صداء حديد، قال فوضع عمر يده على
رأسه، فقال يا دفراه يا دفراه، فقال يا أمير المؤمنين أنه
قال خليفة صالح ولكنه يُستخلف حين يُستخلف والسيف مسلول
والدم مُهراق.
قال الشيخ: الصدأ ما يعلو الحديد من الدرن ويركبه من
الوسخ، وقوله يا دفراه يا دفراه، فإن الدفر بفتح الدال غير
المعجمة وسكون الفاء النتن، ومنه قيل للدنيا أم دفر، فأما
الذفر بالذال المعجمة وفتح الفاء فإنه يقال لكل
(4/307)
ريح ذكية شديدة من طيب أو نتن.
ومن باب النهي عن سب أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عَوانة أو أبو معاوية
عن الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي سعيد قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو
أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه.
قال الشيخ: النصيف بمعنى النصف كما قالوا الثمين بمعنى
الثمن قال الشاعر:
فما طار لي في القسم الا ثمينها
وقال آخر:
لم يعدها مد ولا نصيف
والمعغى أن جهد المقل منهم واليسير من النفقة الذي أنفقوه
في سبيل الله مع شدة العيش والضيق الذي كانوا فيه أوفى عند
الله وأزكى من الكثير الذي ينفقه من بعدهم.
ومن باب استخلاف أبي بكر رضي
الله عنه
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد
بن سلمة عن محمد بن إسحاق حدثني الزهري حدثني عبد الملك بن
أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه عن عبد
الله بن زمعة قال: لما استُعز برسول الله صلى الله عليه
وسلم وأنا عنده في نفر من المسلمين دعاه بلال إلى الصلاة
فقال مروا من يصلي بالناس فخرج عبد الله بن زمعة فإذا عمر
في الناس وكان أبو بكر غائباً، فقلت يا عمر قم فصل بالناس
فتقدم فكبر، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته،
قال وكان عمر رجلاً مجهراً، قال فأين أبو بكر يأبى الله
ذلك والمسلمون، فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر تلك
الصلاة فصلى بالناس.
(4/308)
قال الشيخ: يقال استعز بالمريض إذا غلب على
نفسه من شدة المرض. وأصله من العز وهو الغلبة والاستيلاء
على الشيء، ومن هذا قولهم من عزُ بزّ، أي من غلب سلب.
وقوله وكان رجلاً مجهراً أي صاحب جهر ورفع لصوته يقال جهر
الرجل صوته، ورجل جهير الصوت وجهير المنظر، وأجهر إذا عرف
بشدة جهر الصوت فهو مجهر.
وفي الخبر دليل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه وذلك أن
قوله صلى الله عليه وسلم يأبى الله ذلك والمسلمون، معقول
منه أنه لم يرد به نفي جواز الصلاة خلف عمر فإن الصلاة خلف
عمر رضي الله عنه ومن دونه من المسلمين جائزة، وإنما أراد
به الإمامة التي هي دليل الخلافة والنيابة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم في القيام بأمر الأمة بعده.
ومن باب التخيير بين الأنبياء
صلوات الله عليهم
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا
عمرو، يَعني ابن يحيى عن أبيه، عَن أبي سعيد الخدري رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
تُخيِّروا بين الأنبياء.
قال الشيخ: معنى هذا ترك التخيير بينهم على وجه الإزراء
ببعضهم فإنه ربما أدى ذلك إلى فساد الاعتقاد فيهم والإخلال
بالواجب من حقوقهم وبفرض الإيمان بهم، وليس معناه أن يعتقد
التسوية بينهم في درجاتهم فإن الله سبحانه قد أخبرأنه قد
فاضل بينهم فقال عز وجل {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض
منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} [البقرة: 253] .
قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا الوليد عن
الأوزاعي، عَن أبي
(4/309)
عمار عن عبد الله بن فرَّوخ، عَن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا
سيد ولد آدم وأول من تنشق عنه الأرض وأول شافع وأول مشفع.
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن قتادة، عَن
أبي العالية عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن
متى.
قال الشيخ: قد يتوهم كثير من الناس أن بين الحديثين خلافاً
وذلك أنه قد أخبر في حديث أبي هريرة أنه سيد ولد آدم
والسيد أفضل من المسود.
وقال في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما ينبغي لعبد أن
يقول أنا خير من يونس بن متى، والأمر في ذلك بين ووجه
التوفيق بين الحديثين واضح؛ وذلك أن قوله أنا سيد ولد آدم،
إنما هو إخبار عما أكرمه الله به من الفضل والسؤدد وتحدث
بنعمة الله عليه واعلام لأمته وأهل دعوته مكانه عند ربه
ومحله من خصوصيته ليكون إيمانهم بنبوته واعتقادهم لطاعته
على حسب ذلك، وكان بيان هذا لأمته وإظهاره لهم من اللازم
له والمفروض عليه.
فأما قوله في يونس صلوات الله عليه وسلامه فقد يتأول على
وجهين: أحدهما أن يكون قوله ما ينبغي لعبد إنما أراد به من
سواه من الناس دون نفسه.
والوجه الآخر أن يكون ذلك عاماً مطلقاً فيه وفي غيره من
الناس ويكون هذا القول منه على الهضم من نفسه وإظهار
التواضع لربه يقول لا ينبغي لي أن أقول أنا خير منه لأن
الفضيلة التي نلتها كرامة من الله سبحانه وخصوصية منه لم
أنلها من قبل نفسي ولا بلغتها بحولي وقوتي فليس لي أن
أفتخر بها وإنما يجب علي أن أشكر عليها ربي، وإنما خص يونس
بالذكر فيما نرى والله أعلم لما قصه
(4/310)
الله تعالى علينا من شأنه وما كان من قلة
صبره على أذى قومه فخرج مغاضباً ولم يصبر كما صبر أولو
العزم من الرسل.
قلت وهذا أولى الوجهين وأشبههما بمعنى الحديث فقد جاء من
غير هذا الطريق أنه قال صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنبي
أن يقول إني خير من يونس بن متى فعم به الأنبياء كلهم فدخل
هو في جملتهم، وقد ذكره أبو داود في هذا الباب.
، قال: حَدَّثنا عبد العزيز بن يحيى حدثني محمد بن سلمة عن
محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن حكيم عن القاسم بن محمد عن
عبد الله بن جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قيل إن
قوله أنا سيد ولد آدم إنما أراد به يوم القيامة حين قُدم
بالشفاعة وسادهم بها.
ومن باب ما يدل على ترك الكلام
في الفتنة الأولى
قال أبو داود: حدثنا مسدد ومسلم بن إبراهيم قالا: حَدَّثنا
حماد عن علي بن زيد عن الحسن، عَن أبي بكرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي إن ابني هذا سيد
واني أرجو أن يصلح الله به بين فئتين من المسلمين عظيمتين.
قال الشيخ: السيد يقال اشتقاقه من السواد أي هو يلي الذي
يلي السواد العظيم ويقوم بشأنهم، وقد خرج مصداق هذا القول
فيه بما كان من إصلاحه بين أهل العراق وأهل الشام وتخليه
عن الأمر خوفاً من الفتنة وكراهية لإراقة الدم ويسمى ذلك
العام سنة الجماعة.
وفي الخبر دليل على أن واحداً من الفريقين لم يخرج بما كان
منه في تلك الفتنة من قول أو فعل عن ملة الإسلام إذ قد
جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم مسلمين، وهكذا
سبيل كل متأول فيما تعاطاه من رأي ومذهب دعا إليه إذا كان
فيما تناوله بشبهة
(4/311)
وإن كان مخطئاً في ذلك، ومعلوم أن احدى
الفئتين كانت مصيبة والأخرى مخطئة.
ومن باب الرد على المرجئة
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أنبأنا
سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار، عَن أبي صالح، عَن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: الإيمان بضع وسبعون، يَعني شعبة أفضلها قول لا إله
إلاّ الله وأدناها إماطة العظم عن الطريق والحياء شعبة من
الإيمان.
قال الشيخ: قوله بضع ذكر أبو عمر، عَن أبي العباس أحمد بن
يحيى أحسبه عن ابن الأعرابي قال: يقال بضع فيما بين
الثلاثة إلى تمام العشرة ونيف لما زاد على العقد من الواحد
إلى الثلاثة.
قلت وفي هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي
شعب وأجزاء له أعلى وأدنى، فالاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق
بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبها وتستوفي جملة أجزائها
كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء والاسم يتعلق ببعضها كما
يتعلق بكلها والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها ويدل
على ذلك قوله الحياء شعبة من الإيمان فأخبر أن الحياء إحدى
تلك الشعب.
وفي هذا الباب إثبات التفاضل في الإيمان وتباين المؤمنين
في درجاته.
ومعنى قوله الحياء شعبة من الإيمان أن الحياء يقطع صاحبه
عن المعاصي ويحجزه عنها فصار بذلك من الإيمان إذ الإيمان
بمجموعه ينقسم إلى ائتمار لما أمر الله به وانتهاء عما نهى
عنه.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثني يحيى بن سعيد عن
شعبة حدثني أبو جمرة قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما
قال إن وفد عبد القيس لما قدموا
(4/312)
على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم
بالإيمان بالله، قال أتدرون ما الإيمان بالله قالوا الله
ورسوله أعلم، قال شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً
رسول الله، واقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان؛ وأن
تعطوا الخمس عن المغنم.
قال الشيخ: قد أعلم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن
الصلاة والزكاة من الإيمان وكذلك صوم رمضان واعطاء خمس
الغنيمة، وكان هذا جواباً عن مسألة صدرت عن جهالة بالإيمان
وشرائطه فأخبرهم عما سألوه وعلمهم ما جهلوه وجعل هذه
الأمور من الإيمان كما جعل الكلمة منه وليس بين هذا وبين
قوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله
خلاف لأنه كلمة شعار وقعت الدعوة بها إلى الإيمان لتكون
إمارة للداخلين في الإيمان والقابلين لأحكامه؛ وهذا كلام
قصد فيه البيان والتفصيل له، والتفصيل لا يناقض الجملة لكن
يلائمها ويطابقها.
وقوله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها
يتضمن جملة ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ويأيي
على جميع ما ذكر فيه من الخلال المعدودة إلى سائر ما جاء
منها في سائر الأحاديث المروية في هذا الباب وكلها تجري
على الوفاق ليس في شيء منها اختلاف، وإنما هو حمله على
الوجه الذي ذكرته لك وتفصيل لها على المعنى الذي يقتضيه
حكمها والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا سفيان،
عَن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة.
قال الشيخ: التروك على ضروب منها ترك جحد للصلاة وهو كفر
بإجماع الأمة. ومنها ترك نسيان وصاحبه لا يكفر بإجماع
الأمة، ومنها ترك عمد من غير
(4/313)
جحد، فهذا قد اختلف الناس فيه فذهب إبراهيم
النخعي وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إلى
أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يخرج وقتها كافر.
وقال أحمد لا نكفر أحداً من المسلمين بذنب إلاّ تارك
الصلاة. وقال مكحول والشافعي تارك الصلاة مقتول كما يقتل
الكافر ولا يخرح بذلك من الملة ويدفن في مقابر المسلمين
ويرثه أهله، إلاّ أن بعض أصحاب الشافعي قال: لا يصلي عليه
إذا مات.
واختلف أصحاب الشافعي في كيفية قتله فذهب أكثرهم إلى أنه
يقتل صبراً بالسيف. وقال ابن شريح لا يقتل صبراً بالسيف
لكن لا يزال يضرب حتى يصلي أو يأتي الضرب عليه فيموت،
وقالوا إذا ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها قتل، غير أبي
سعيد الاصطخري فإنه قال: لا يقتل حتى يترك ثلاث صلوات،
واحسبه ذهب في هذا إلى أنه ربما يكون له عذر في تأخير
الصلاة إلى وقت الأخرى للجمع بينهما.
وقال أبو حنيفة وأصحابه تارك الصلاة لا يكفر ولا يقتل ولكن
يحبس ويضرب حتى يصلي، وتأولوا الخبر على معنى الأغلاظ له
والتوعد عليه.
قال أبو داود: حدثنا مححد بن عبيد حدثنا محمد بن ثور عن
معمر قال: وأخبرني الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن
أبيه قال أعطى النبي صلى الله عليه وسلم رجالاً ولم يعط
رجلاً منهم شيئاً، فقال سعد رضي الله عنه يا رسول الله
أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن فقال
النبي صلى الله عليه وسلم أو مسلم حتى أعادها سعد ثلاثاً
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول أو مسلم، ثم قال النبي صلى
الله عليه وسلم: إني أعطي رجالاً وأدع من هو أحب إلي منهم
لا أعطيه شيئاً مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا ابن ثور عن معمر
قال: قال الزهري
(4/314)
قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا، قال نرى
الإسلام الكلمة والإيمان العمل.
قال الشيخ: ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة، فأما
الزهري فقد ذهب إلى ما حكاه معمر عنه واحتج بالآية، وذهب
غيره إلى أن الإيمان والإسلام شيء واحد، واحتج بالآية
الأخرى وهي قوله {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما
وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} [الذاريات: 35] قال فدل
ذلك على أن المسلمين هم المؤمنون إذ كان الله سبحانه قد
وعد أن يخلص المؤمنين من قوم لوط وأن يخرجهم من بين ظهراني
من وجب عليه العذاب منهم، ثم أخبر أنه قد فعل ذلك بمن وجده
فيهم من المسلمين إنجازاً للموعد، فدل الإسلام على الإيمان
فثبت أن معناهما واحد وأن المسلمين هم المؤمنون. وقد تكلم
في هذا الباب رجلان من كبراء أهل العلم وصار كل واحد منهما
إلى مقالة من هاتين المقالتين ورد الآخر منهما على المتقدم
وصنف عليه كتاباً يبلغ عدد أوراقه المائتين.
قلت والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق على
أحد الوجهين. وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض
الأحوال ولا يكون مؤمناً في بعضها والمؤمن مسلم في جميع
الأحوال فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، وإذا حملت
الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات واعتدل القول فيها
ولم يختلف عليك شيء منها، وأصل الإيمان التصديق وأصل
الإسلام الاستسلام والانقياد فقد يكون المرء مستسلماً في
الظاهر غير منقاد في الباطن ولا يكون صادق الباطن غير
منقاد في الظاهر.
قال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة حدثنا
واقد بن عبد الله أخبرني عن أبيه أنه سمع ابن عمر رضى الله
عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا ترجعوا
(4/315)
بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.
قال الشيخ: هذا يتأول على وجهين: أحدهما أن يكون معنى
الكفار المتكفرين بالسلاح يقال تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه
فكفر به نفسه أي سترها، وأصل الكفر الستر، ويقال سمي
الكافر كافراً لستره نعمة الله عليه أو لستره على نفسه
شواهد ربوبية الله ودلائل توحيده.
وقال بعضهم معناه لا ترجعوا بعدى فرقاً مختلفين يضرب بعضكم
رقاب بعض فتكونوا بذلك مضاهين للكفار فإن الكفار متعادون
يضرب بعضهم رقاب بعض والمسلمون متآخون يحقن بعضهم دماء
بعض.
وأخبرني إبراهيم بن فراس قال: سألت موسى بن هارون عن هذا
فقال هؤلاء أهل الردة قتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قال أبو داود: حدثنا أبو صالح الأنطاكي حدثنا أبو إسحاق،
يَعني الفزاري عن الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزني
الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن،
ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن والتوبة معروضة بعد.
قال الشيخ: الخوارج ومن يذهب مذهبهم ممن يكفر المسلمين
بالذنوب يحتجون به ويتألونه على غير وجهه، وتأويله عند
العلماء على وجهين: أحدهما أن معناه النهي وإن كانت صورته
صورة الخبر يريد لا يزن الزاني بحذف الياء ولا يسرق السارق
بكسر القاف على معنى النهي يقول إذ هو مؤمن لا يزني ولا
يسرق ولا يشرب الخمر فإن هذه الأفعال لا تليق بالمؤمنين
ولا تشبه أوصافهم.
والوجه الاخر أن هذا كلام وعيد لا يراد به الإيقاع وإنما
يقصد به الردع
(4/316)
والزجر كقوله: المسلم من سلم المسلمون من
لسانه ويده، وقوله لا إيمان لمن لا أمانة له، وقوله ليس
بالمسلم من لم يأمن جاره بوائقه، هذا كله على معنى الزجر
والوعيد أو نفي الفضيلة وسلب الكمال دون الحقيقة في رفع
الإيمان وابطاله والله أعلم.
وقد روي في تأويل هذا الحديث معنى آخر وهو مذكور في حديث
رواه أبو داود في هذا الباب قال:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن سويد الرملي حدثنا ابن أبي مريم
أنبأنا نافع، يَعني ابن يزيد أخبرني ابن الهاد أن سعيد بن
أبي سعيد المقبري حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان
وكان عليه كالظلة فإذا انقلع رجع إليه الإيمان.
ومن باب القدر
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن
أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال القدَرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا
تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم.
قال الشيخ: إنما جعلهم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس
في قولهم بالأصلين وهما النور والظلمة يزعمون إن الخير من
فعل النور، والشر من فعل الظلمة فصاروا ثانوية، وكذلك
القدرية يضيفون الخير إلى الله عز وجل والشر إلى غيره
والله سبحانه خالق الخير والشرلا يكون شيء منهما إلاّ
بمشيئته. وخلقه الشر شراً في الحكمة كخلقه الخير خيراً،
فالأمران معاً مضافان إليه خلقاً وايجاداً وإلى الفاعلين
لهما من عباده فعلاً واكتساباً.
قال أبو داود: حدثنا مسدد بن مسرهد حدثنا المعتمر قال سمعت
منصور بن المعتمر يحدث عن سعد بن عبيدة عن عبد الله بن
حبيب أبي عبد الرحمن عن علي
(4/317)
كرم الله وجهه قال: كنا في جنازة فيها رسول
الله صلى الله عليه وسلم ببقيع الغَرْقد فجاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكث بالمخصرة في
الأرض ثم رفع رأسه فقال ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة
إلاّ وقد كتب مكانها من النار أو الجنة إلاّ قد كتبت شقية
أو سعيدة، قال فقال رجل من القوم يا نبي الله أفلا نمكث
على كتابنا وندع العمل فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى
السعادة، ومن كان منا من أهل الشقوة ليكونن إلى الشقوة،
قال اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون للسعادة،
وأما أهل الشقوة فييسرون للشقوة ثم قرأ نبي الله صلى الله
عليه وسلم {أما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره
لليسرى، وأن من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى}
[الليل: 5-6-7-8-9-10] .
قال الشيخ: المخصرة عصا خفيفة يختصر بها الإنسان يمسكها
بيدها والنفس المنفوسة هي المولودة، والمنفوس الطفل الحديث
الولادة، يقال نُفست المرأة إذا ولدت، ونفست إذا حاضت،
ويقال إنما سميت المرأة نفساً لسيلان الدم، والنفس الدم.
قلت فهذا الحديث إذا تأملته أصبت منه الشفاء فيما يتخالجك
من أمر القدر وذلك أن السائل رسول الله صلى الله عليه وسلم
والقائل له أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل لم يترك شيئاً
مما يدخل في أبواب المطالبات والأسئلة الواقعة في باب
النجويز والتعديل إلاّ وقد طالب به وسأل عنه فأعلمه صلى
الله عليه وسلم أن القياس في هذا الباب متروك والمطالبة
عليه ساقطة وأنه أمر لا يشبه الأمور المعلومة التي قد عقلت
معانيها وجرت معاملات البشر فيما بينهم عليها وأخبر أنه
إنما أمرهم بالعمل ليكون أمارة في الحال العاجلة لما
يصيرون إليه في الحال الآجلة فمن تيسر له العمل الصالح
(4/318)
كان مأمولاً له الفوز، ومن تيسر له العمل
الخبيث كان مخوفاً عليه الهلاك، وهذه أمارات من جهة العلم
الظاهر وليست بموجبات فإن الله سبحانه طوى علم الغيب عن
خلقه وحجبهم عن دركه كما أخفى أمر الساعة فلا يعلم أحد متى
أبان قيامها؛ ثم أخبر على لسان رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعض أماراتها وأشراطها فقال من أشراط الساعة أن تلد
الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة يتطاولون في
البنيان ومنها كيت وكيت.
قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا
كهمس، عَن أبي بريدة عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال
بالقدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد
الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فوفق لنا عبد الله بن عمر
رضي الله عنه فقلت أبا عبد الرحمن أنه قد ظهر قبلنا ناس
يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم يزعمون أن لا قدر والأمر
أُنُف فقال إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم براء
مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد
ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم قال
حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال بينا نحن عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض
الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا نعرفه
حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه
إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن
الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام أن
تشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله وتقيم
الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت
إليه سبيلا، قال صدقت، قال فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال
فأخبرني عن الإيمان قال ان تؤمن بالله وملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر
(4/319)
خيره وشره، قال صدقت، قال فأخبرني عن
الإحسان قال ان تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه
يراك، قال فأخبرني عن الساعة، قال ما المسؤول عنها بأعلم
من السائل، قال فأخبرني عن أماراتها، قال أن تلد الأمة
ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون
في البنيان، قال ثم انطلق فلبثت ثلاثاً ثم قال يا عمر تدري
من السائل، قلت الله ورسوله أعلم، قال فإنه جبريل أتاكم
يعلمكم دينكم.
قال الشيخ: قوله يتقفرون العلم معناه يطلبون ويتبعون أثره،
والتقفر تتبع أثر الشيء. وقوله والأمر أنف يريد مستأنف لم
يتقدم فيه شيء من قدر أو مشيئة، يقال كلأ أنف إذا كان
وافياً لم يرع منه شيء. وروضة أنف بمعناه، قال عمر بن أبي
ربيعة:
في روضة أنف تيممنا بها ... ميثاء رائقة بُعيد سماء
وفي قول ابن عمر رضي الله عنهما إذا لقيت أولئك فأخبرهم
أني بريء منهم وهم براء مني دلالة على أن الخلاف إذا وقع
في أصول الدين وكان مما يتعلق بمعتقدات الإيمان أوجب
البراءة وليس كسائر ما يقع فيه الخلاف من أصول الأحكام
وفروعها التي موجباتها العمل في أن شيئاً منها لا يوجب
البراءة ولا يوقع الوحشة بين المختلفين فقد جاء في هذا
الحديث التفريق بين الإسلام والإيمان فجعل الإسلام في
العمل والإيمان في الكلمة على ضد ما قاله الزهري في حديث
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الذي ذكرناه في الباب، فقال
يرى الإسلام الكلمة والإيمان العمل.
قلت وهذا عندي تفصيل لجملة كلها شيء واحد وليس بتفريق بين
شيئين
(4/320)
مختلفين، وقد روينا في باب قبل هذا عن ابن
عباس رضي الله عنهما أن وفد عبد القيس قدموا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالايمان ثم قال أتدرون ما
الإيمان قالوا الله ورسوله أعلم، فقال شهادة أن لا إله
إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء
الزكاة؛ وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم. فضم هذه
الأعمال إلى كلمة الشهادة وجعلها كلها إيماناً، وهذا يبين
لك أن اسم الإيمان قد يدخل على الإسلام واسم الإسلام يدخل
على الإيمان، وذلك لأن معنى الإيمان التصديق ومعنى الإسلام
الاستسلام، وقد يتحقق معنى القول بفعل الجوارح ثم يتحقق
الفعل ويصح بتصديق القلب نية وعزيمة، وجماع ذلك كله الدين،
وهو معنى قوله جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.
وأما قوله ما الإحسان فإن معنى الإحسان ههنا الإخلاص وهو
شرط في صحة الإيمان والإسلام معاً، وذلك أن من وصف الكلمة
وجاء بالعمل من غير نية وإخلاص لم يكن محسناً ولا كان
إيمانه في الحقيقة صحيحاً كاملاً وإن كان دمه في الحكم
محقوناً وكان بذلك في جملة المسلمين معدوداً.
ويحكى عن سفيان بن سعيد الثوري أنه كان يقول في الإيمان
قول ومعرفة وعمل ونية، وأحسبه تأول هذا المعنى واعتبره
بالحديث.
وكان أحمد بن حنبل يزيد فيها شرطاً خامساً وهو السنة
فيقول: في الإيمان قول ومعرفة وعمل ونية وسنة.
قلت: واسم الإسلام يشتمل على هذه الخصال كلها، ألا تراه
يقول هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم، وقد قال سبحانه {إن
الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] .
(4/321)
وقوله وأن تلد الأمة ربتها معناه أن يتسع
الإسلام ويكثر السبي ويستولد الناس أمهات الأولاد فتكون
ابنة الرجل من أمته في معنى السيدة لأمها إذ كانت مملوكة
لأبيها، وملك الأب راجع في التقدير إلى الولد.
وقد يحتج بهذا من يرى بيع أمهات الأولاد ويعتل في أنهن
إنما لا يبعن إذا مات السادة لأنهن قد يصرن في التقدير
ملكاً لأولادهن فيعتقن عليهم لأن الولد لا يملك والدته
وهذا على تخريج قول وأن تلد الأمة ربتها وفيه نظر.
والعالة الفقراء واحدهم عائل يقال عال الرجل يعيل إذا
افتقر. وعال أهله يعولهم إذا مار أهله، وأعال الرجل يعيل
إذا كثر عياله.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار
سمع طاوساً يقول سمعت أبا هريرة يخبر عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال احتج آدم وموسى، فقال موسى يا آدم إنك أبونا
خيبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال آدم أنت موسى اصطفاك الله
بكلامه وخط لك، يَعني التوراة بيده تلومني على أمر قد قدره
الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى.
قال الشيخ: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر من الله
والقضاء منه معنى الاجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدره
ويتوهم أن فلج آدم في الحجة على موسى إنما كان من هذا
الوجه، وليس الأمر في ذلك على ما يتوهمونه، وإنما معناه
الاخبار عن تقدم علم الله سبحانه بما يكون من أفعال العباد
واكسابهم وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها،
والقدر اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر كما الهدم والقبض
والنشر أسماء لما صدر عن فعل الهادم والقابض والناشر، يقال
قدرت الشيء وقدرت خفيفة وثقيلة بمعنى واحد، والقضاء في
(4/322)
هذا معناه الخلق كقوله عز وجل {فقضاهن سبع
سموات في يومين} [فصلت: 12] أي خلقهن وإذا كان الأمر كذلك
فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم واكسابهم
ومباشرتهم تلك الأمور وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقديم
ارادة واختيار، فالحجة إنما تلزمهم بها واللائمة تلحقهم
عليها.
وجماع القول في هذا الباب أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن
الآخر، لأن أحدهما بمنزلة الأساس والآخر بمنزلة البناء فمن
رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه، وإنما كان
موضع الحجة لآدم على موسى صلوات الله عليهما أن الله
سبحانه إذ كان قد علم من آدم أنه يتناول الشجرة ويأكل منها
فكيف يمكنه أن يرد علم الله فيه وأن يبطله بعد ذلك. وبيان
هذا في قول الله سبحانه {واذ قال ربك للملائكة إني جاعل في
الأرض خليفة} [البقرة: 30] فأخبر قبل كون آدم أنه إنما
خلقه للأرض وأنه لا يتركه في الجنة حتى ينقله عنها اليها
وإنما كان تناول الشجرة سبباً لوقوعه إلى الأرض التي خلق
لها وللكون فيها خليفة ووالياً على من فيها فإنما أدلى آدم
عليه السلام بالحجة على هذا المعنى ودفع لائمة موسى عن
نفسه على هذا الوجه ولذلك قال: اتلومني على أمر قدره الله
علي قبل أن يخلقني.
فإن قيل فعلى هذا يجب أن يسقط عنه اللوم أصلاً، قيل اللوم
ساقط من قبل موسى إذ ليس لأحد أن يعير أحداً بذنب كان منه
لأن الخلق كلهم تحت العبودية أكفاء سواء. وقد روي لا
تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا إليها كأنكم
عبيد، ولكن اللوم لازم لآدم من قبل الله سبحانه إذ كان قد
أمره ونهاه فخرج إلى معصيته وباشر المنهي عنه، ولله الحجة
البالغة سبحانه لا شريك له.
(4/323)
وقول موسى صلى الله عليه وسلم وإن كان منه
في النفوس شبهة وفي ظاهره متعلق لاحتجاجه بالسبب الذي قد
جعل أمارة لخروجه من الجنة فقول آدم في تعلقه بالسبب الذي
هو بمنزلة الأصل أرجح وأقوى، والفلج قد يقع مع المعارضة
بالترجيح كما يقع بالبرهان الذي لا معارض له والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر النمري حدثنا شعبة (ح) قال
وحدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الأعمش حدثنا زيد بن
وهب حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدثنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع
في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم مضغة
وذكر الحديث.
قال الشيخ: قوله يجمع في بطن أمه قد روى في تفسيره عن ابن
مسعود حدثناه الأصم حدثنا السري بن يحيى أبو عبيدة حدثنا
عمار بن زريق قال: قلت للأعمش ما يجمع في بطن أمه قال
حدثني خيثمة قال: قال عبد الله، إن النطفة إذا وقعت في
الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشراً طارت في بشر المرأة
تحت كل ظفر وشعر ثم يمكث أربعين ليلة ثم ينزل دماً في
الرحم فذلك جمعها.
ومن باب في ذراري المشركين
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا أبو عَوانة، عَن أبي بشر
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم سأل عن أولاد المشركين قال الله أعلم بما
كانوا عاملين.
قال الشيخ: ظاهر هذا الكلام يوهم أنه صلى الله عليه وسلم
لم يفت السائل عنهم ولأنه رد الأمرفي ذلك إلى علم الله جل
وعز ومن غير أن يكون قد جعلهم من المسلمين
(4/324)
أو ألحقهم بالكافرين وليس هذا وجه الحديث،
وإنما معناه أنهم كفار ملحقون في الكفر بآبائهم لأن الله
سبحانه قد علم أنهم لو بقوا أحياء حتى يكبروا لكانوا
يعملون عمل الكفار. يدل على صحة التأويل قوله في حديث
عائشة قالت قلت يا رسول الله ذراري المؤمنين فقال من
آبائهم فقلت يا رسول الله بلا عمل قال الله أعلم بما كانوا
عاملين، قلت يا رسول الله فذراري المشركين قال من آبائهم،
قلت بلا عمل قال الله أعلم بما كانوا عاملين.
وقد ذكره أبو داود في هذا الباب فقال:
حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بقية حدثنا محمد بن حرب عن
محمد بن زياد عن عبد الله بن أبي قيس عن عائشة رضي الله
عنها.
فهذا يدل على أنه قد أفتى عن المسألة ولم يعقل الجواب عنها
على حسب ما توهمه من ذهب إلى الوجه الأول في تأويل الحديث.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عَن أبي
الزناد عن الأعرج، عَن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة
فأبواه يُهوِّدانه ويُنَصرانه كما تناتج الابل من بهيمة
جمعاء هل تُحس من جدعاء. قالوا يا رسول الله أفرأيت من
يموت وهو صغير قال الله أعلم ما كانوا عاملين.
ذكر أبو داود في تفسيره عن حماد بن سلمة أنه كان يقول هذا
عندنا حيث أخذ الله عليهم العهد في أصلاب آبائهم فقال
{ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف: 712] .
قلت معنى قول حماد في هذا حسَن وكأنه ذهب إلى أنه لاعبرة
للإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنما يعتبر الإيمان
الشرعي المكتسب بالإرادة والفعل ألا ترى أنه يقول فأبواه
يهودانه وينصرانه فهو من وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له
بحكم الأبوين الكافرين.
(4/325)
وفيه وجه ذهب إليه عبد الله بن المبارك حين
سأل عنه، فقال تفسير قوله حين سأل عن الأطفال فقال الله
أعلم بما كان عاملين، يريد والله أعلم أن كل مولود من
البشر إنما يولد على فطرته التي جبل عليها من السعادة
والشقاوة وعلى ما سيق له من قدر الله وتقدم من مشيئته فيه
من كفر أوإيمان فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه
وخلق له وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لفطرته في الشقاوة
والسعادة، فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين
أو نصرانيين فيحملانه لشقائه على اعتقاد دين اليهود أو
النصارى أو يعلمانه اليهودية أو النصرانية أو يموت قبل أن
يعقل فيصف الدين فهو محكوم له بحكم والديه إذ هو في حكم
الشريعة تبع لوالديه، وذلك معنى قوله فأبواه يهودانه
وينصرانه.
ويشهد لهذا المذهب حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى
الله عليه وسلم أتي بصبي من الأنصار يصلي عليه، فقلت يا
رسول الله طوبى لهذا لم يعمل شيئاً ولم يُدر به قال أو غير
ذلك ذلك يا عائشة ان الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً،
وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها
أهلاً وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وقد ذكره أبو داود
في هذا الباب.
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن طلحة بن يحيى عن عائشة
بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
ويشهد له أيضاً حديث أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: {وأما الغلام فكان
أبواه مؤمنين} [الكهف: 80] وكان طبع يوم طبع كافراً.
قلت: وفيه وجه ثالت وهو أن يكون معناه أن كل مولود من
البشر إنما يولد في مبدأ الخلقة وأصل الجبلة على الفطرة
السليمة والطبع المتهيىء لقبول
(4/326)
الدين فلو ترك عليها وخلى وسومها لاستمر
على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، لأن هذا الدين موجود
حسنه في العقل يسره في النفوس وإنما يعدل عنه من يعدل إلى
غيره ويؤثر عليه لآفة من آفات النشوء والتقليد، فلو سلم
المولود من تلك الآفات لم يعتقد غيره ولم يختر عليه ما
سواه، ثم يمثل بأولاد اليهود والنصارى في اتباعهم لابائهم
والميل إلى أديانهم فيزولون بذلك عن الفطرة السليمة وعن
المحجة المستقيمة.
وفيه أقاويل أخر قد ذكرتها في مسألة أفردتها في تفسير
الفطرة وفيما أوردته ههنا كفاية على ما شرطناه من الاختصار
في هذا الكتاب.
وأصل الفطرة في اللغة ابتداء الخلق، ومنه قول الله سبحانه
{الحمد لله فاطر السموات والأرض} [فاطر: 1] أي مبتديها،
ومن هذا قولهم فطر ناب البعير إذا طلع.
ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لم أعلم ما فاطر
السموات حتى اختصم إليَّ اعرابيان في بئر، فقال أحدهما أنا
فاطرها أي حافرها ومقترحها.
وقوله من بهيمة جمعاء فإن الجمعاء هي السليمة سميت بذلك
لاجتماع السلامة لها في أعضائها يقول إن البهيمة أول ما
تولد تكون سليمة من الجدع والخرم ونحو ذلك من العيوب حتى
يحدث فيها أربابها هذه النقائص كذلك الطفل يولد مفطوراً
على خلقه ولو ترك عليها لسلم من الآفات، إلاّ أن والديه
يزينان له الكفر ويحملانه عليه.
قلت وليس في هذا ما يوجب حكم الإيمان له إنما هو ثناء على
هذا الدين واخبار عن محله من العقول وحسن موقعه من النفوس
والله أعلم.
(4/327)
ومن باب الرد على
الجهمية والمعتزلة
قال أبو داود: حدثنا عبد الأعلى بن حماد ومحمد بن المثنى
ومحمد بن بشار وأحمد بن سعيد الرباطي قالوا حدثنا وهب بن
جرير حدثنا أبي قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن
عتبة عن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال يا رسول الله جُهدت
الأنفس وضاع العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام فاستسق
الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول وسبح
رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في
وجوه أصحابه؛ ثم قال ويحك انه لا يستشفع بالله على أحد من
خلقه شأن الله أعظم من ذلك؛ ويحك أتدري ما الله إن عرشه
على سمواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه ليئط
به أطيط الرحل بالراكب.
قال الشيخ: هذا الكلام إذا جرى على ظاهره كان فيه نوع من
الكيفية والكيفية عن الله وصفاته منفية فعقل أن ليس المراد
منه تحقيق هذه الصفة ولا تحديده على هذه الهيئة، وإنما هو
كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله وجلاله سبحانه، وإنما
قصد به إفهام السائل من حيث يدركه فهمه إذ كان اعرابياً
جلفاً لا علم له بمعاني ما دق من الكلام وبما لطف منه عن
درك الافهام. وفي الكلام حذف واضمار فمعنى قوله أتدري ما
الله معناه أتدري ما عظمة الله وجلاله. وقوله أنه ليئط به
معناه أنه ليعجز عن جلاله وعظمته حتى يئط به إذ كان
معلوماً أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه
ولعجزه عن احتماله فقرر بهذا النوع من التمثيل عنده معنى
عظمة الله وجلال وارتفاع عرشه ليعلم أن الموصوف بعلو الشأن
وجلالة القدر وفخامة الذكر لا يجعل شفيعاً إلى من هو دونه
في القدر
(4/328)
وأسفل منه في الدرجة وتعالى الله أن يكون
مشبهاً بشيء أو مكيفاً بصورة خلق أو مدركاً بحد ليس كمثله
شيء وهو السميع البصير.
وذكر البخاري هذا الحديث في التاريخ من رواية جبير بن محمد
بن جبير عن أبيه عن جده ولم يدخله في الجامع الصحيح.
ومن باب في الرؤية
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير ووكيع
وأبو أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن
جرير بن عبد الله قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
جلوساً فنظر إلى القمر ليلة البدر ليلة أربع عشرة فقال
إنكم سترون ربكم كما ترون هذا لا تُضامُّون في رؤيته.
قال الشيخ: قوله تضامون هو من الانضمام يريد أنكم لا
تجتمعوا للنظر وينضم بعضكم إلى بعض فيقول واحد هو ذاك
ويقول الاخر ليس بذاك على ما جرت به عادة الناس عند النظر
إلى الهلال أول ليلة من الشهر، ووزنه تفاعلون وأصله
تتضامون حذفت منه إحدى التاءين. وقد رواه بعضهم تضامون بضم
التاء وتخفيف الميم فيكون معناه على هذه الرواية أنه لا
يلحقكم ضيم ولا مشقة في رؤيته.
وقد تخيل إلى بعض السامعين أن الكاف في قوله كما ترون كاف
التشبيه للمرئي وإنما هو كاف التشبيه للرؤية وهو فعل
الرائي، ومعناه ترون ربكم رؤية ينزاح معها وتنتفي معها
المرية كرؤيتكم القمر ليلة البدر لا ترتابون به ولا تمترون
فيه.
(4/329)
قال أبو داود: حدثنا إسحاق بن إسماعيل
حدثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه أنه سمعه يحدث،
عَن أبي هريرة قال: قال ناس يا رسول الله أنرى ربنا يوم
القيامة، قال هل تُضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في
سحابة قالوا لا، قال هل تُضارون في رؤية القمر ليلة البدر
ليس في سحابة قالوا لا، قال والذي نفسي بيده لا تضارون في
رؤيته إلاّ كما تضارون في رؤية أحدهما.
قال الشيخ: وهذا والأول سواء في ادغام أحد الحرفين في
الآخر وفتح التاء من أوله ووزنه تفاعلون من الضرار،
والضرار أن يتضار الرجلان عند الاختلاف في الشيء فيضار هذا
ذلك وذلك هذا، فيقال قد وقع الضرار بينهما أي الاختلاف.
قال أبو داود: حدثنا علي بن نصر ومحمد بن يونس النسائي،
والمعنى قالا: حَدَّثنا عبد الله بن يزيد حدثنا حرملة،
يَعني ابن عمران حدثني أبو يونس سليم بن جبير مولى أبي
هريرة قال سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية {إن الله يأمركم
أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58] إلى قوله
سميعاً بصيراً. قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع
إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه.
قال الشيخ: وضعه اصبعه على أذنه وعينه عند قراءته سميعاً
بصيراً، معناه اثبات صفة السمع والبصر لله سبحانه لا إثبات
الأذن والعين لأنهما جارحتان والله سبحانه موصوف بصفاته
منفي عنه ما لا يليق به من صفات الآدميين ونعوتهم ليس بذي
جوارح ولا بذي أجزاء وأبعاض ليس كمثله شيء وهو السميع
البصير.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن
شهاب، عَن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعن أبي عبد الله الأغر،
عَن أبي هريرة رضي الله عنه أن
(4/330)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل
الله تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث
الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني
فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له.
قال الشيخ: وقد رواه الأعمش، عَن أبي صالح، عَن أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه حدثناه إسماعيل الصفار حدثنا محمد بن
جعفر الوراق حدثنا محاضر عن الأعمش قال وأرى أبا سفيان
ذكره عن جابر قال وذلك في كل ليلة.
قلت مذهب علماء السلف وأئمة الفقهاء أن يجروا مثل هذه
الأحاديث على ظاهرها وأن لا يريغوا لها المعاني ولا
يتأولوها لعلمهم بقصور علمهم عن دركها.
حدثنا الزعفراني حدثنا ابن أبي خيثمة حدثنا عبد الوهاب بن
نجدة الحوطي حدثنا بقية عن الأوزاعي، قال كان مكحول
والزهري يقولان أمروا الأحاديث كما جاءت.
قلت وهذا من العلم الذي أمرنا أن نؤمن بظاهره وأن لا نكشف
عن باطنه وهو من جملة المتشابه الذي ذكره الله عز وجل في
كتابه فقال {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن
أم الكتاب وأخر متشابهات} [آل عمران: 7] الآية؛ فالمحكم
منه يقع به العلم الحقيقي والعمل، والمتشابه يقع به
الإيمان والعلم بالظاهر ونوكل باطنه إلى الله سبحانه؛ وهو
معنى قوله {وما يعلم تأويله إلاّ الله} [آل عمران: 7]
وإنما حظ الراسخين في العلم أن يقولوا {آمنا به كل من عند
ربنا} [آل عمران: 7] وكذلك كل ما جاء من هذا الباب في
القرآن كقوله {هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله في ظلل من
الغمام والملائكة وقضي الأمر} [البقرة: 210] وقوله {وجاء
ربك والملك صفاً صفاً} [الفجر: 22] والقول في جميع ذلك عند
علماء السلف هو ما قلنا، وقد روي مثل ذلك عن جماعة من
الصحابة.
(4/331)
وقد زل بعض شيوخ أهل الحديث ممن يرجع إلى
معرفته بالحديث والرجال فحاد عن هذه الطريقة حين روى حديث
النزول ثم أقبل يسأل نفسه عليه فقال إن قال قائل كيف ينزل
ربنا إلى السماء قيل له ينزل كيف شاء فإن قال هل يتحرك إذا
نزل أم لا، فقال إن شاء تحرك وإن شاء لم يتحرك.
قلت وهذا خطأ فاحش والله سبحانه لا يوصف بالحركة لأن
الحركة والسكون يتعاقبان في محل واحد، وإنما يجوز أن يوصف
بالحركة من يجوز أن يوصف بالسكون وكلاهما من أعراض الحدث
وأوصاف المخلوقين والله جل وعز متعال عنهما ليس كمثله شيء،
فلو جرى هذا الشيخ عفا الله عنا وعنه على طريقة السلف
الصالح ولم يدخل نفسه فيما لا يعنيه لم يكن يخرج به القول
إلى مثل هذا الخطأ الفاحش، وإنما ذكرت هذا لكي يتوقى
الكلام فيما كان من هذا النوع فإنه لا يثمر خيراً ولا يفيد
رشداً ونسأل الله العصمة من الضلال والقول بما لا يجوز من
الفاسد المحال.
ومن باب في القرآن
قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبه حدثنا جرير عن
منصور عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي
الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ
الحسن والحسين عليهما السلام أعيذكما بكلمات الله التامة
من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة، ثم يقول كان أبوكم
يعوذ بها إسماعيل وإسحاق.
قال الشيخ: الهامة إحدى الهوام وذوات السموم كالحية
والعقرب ونحوهما وقوله من كل عين لامة معناه ذات لمم كقول
النابغة:
(كليني لهمٍّ يا اميمة ناصب)
أي ذونصب.
وكان أحمد بن حنبل يستدل بقوله بكلمات الله التامة، على أن
القرآن غير
(4/332)
مخلوق وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يستعيذ بمخلوق وما من كلام مخلوق إلاّ وفيه نقص
والموصوف منه بالتمام هو غير المخلوق وهو كلام الله
سبحانه.
ومن باب في الحوض
قال أبو داود: حدثنا عاصم بن النَّضر حدثنا المعتمر قال
سمعت أبي حدثنا قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
لما عرج نبي الله صلى الله عليه وسلم في الجنة أو كما قال
عرض له نهر حافتاه الياقوت المجيب أو قال المجوف وذكر
الحديث.
قال الشيخ: المجيب هو الأجوف وأصله من جبيت الشيء إذا
قطعته والشيء مجيب ومجبوب كما قالوا مشيب ومشبوب وانقلاب
الياء عن الواو كثير في كلامهم.
ومن باب المسألة في القبر
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبد
الوهاب الخفاف عن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الكافر إذا وضع في قبره
أتاه ملك بمنهرة فيقول له ما كنت تعبد فيقول لا أدري فيقال
له لا دريت ولا تليت.
قال الشيخ: هكذا يقول المحدثون وهو غلط، وقد ذكره القتيبي
في كتاب غريب الحديث، وقال فيه قولان بلغني عن يونس البصري
أنه قال هو لا دريت ولا اتليت ساكنة التاء يدعو عليه بأن
لا تتلى إبله أي يكون لها أولاد تتلوها أي تتبعها، يقال
للناقة قد اتليت فهي متلية وتلاها ولدها إذا تبعها، قال
وقال غيره هو لا دريت ولا ايتليت، تقدير افتعلت من قولك ما
الوت هذا ولا
(4/333)
استطيعه كأنه يقول لا دريت ولا استطعت.
ومن باب في الخوارج
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير وأبو بكر بن
عياش ومندل عن مطرف، عَن أبي جهم عن خالد بن وهبان، عَن
أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من فارق
الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
قال الشيخ: الربقة ما يجعل في عنق الدابة كالطوق يمسكها
لئلا تشرد، يقول من خرج عن طاعة الجماعة وفارقهم في الأمر
المجمع عليه فقد ضل وهلك وكان كالدابة إذا خلعت الربقة
التي هي محفوظة بها فإنها لا يؤمن عليها عند ذلك الهلاك
والضياع.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عبيد ومحمد بن عيسى المعنى
قالا: حَدَّثنا حماد عن أيوب عن محمد عن عبيدة أن علياً
عليه السلام ذكر أهل النهروان فقال فيهم رجل مُوذَن اليد
أو مُخدج اليد أو مثدَّن اليد.
قال الشيخ: قال أبو عبيد عن الكسائي المؤذن اليد القصير
اليد، قال وفيه لغة أخرى وهو المودون، والمخدج القصير
أيضاً أخذ من اخداج الناقة ولدها، وهو أن تلده وهو لغير
تمام في خلقه، والمثدن يقال أنه شبه يده في قصرها بثندوة
الثدي وهي أصله، وكان القياس أن يقال مثند لأن النون قبل
الدال في الثندوة إلاّ أنه قلب والمقلوب كثير في الكلام.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثيرأخبرنا سفيان عن أبيه عن
ابن أبي نعم، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قسم
رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً قال فأقبل رجل غائر
العينين مشرف الوجنتين ناتئ الجبين كث اللحية محلوق فقال
اتق
(4/334)
الله يا محمد، قال فلما ولى عنه، قال إن من
ضئضئ هذا وفي عقب هذا قوم يقرؤون القرآن لا يتجاوز حناجرهم
يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية.
قال الشيخ: الضئضئ الأصل يريد أنه يخرج من نسله الذي هو
أصلهم أو يخرج من أصحابه وأتباعه الذين يقتدون به ويبنون
رأيهم ومذهبهم على أصل قوله.
والمروق الخروج من الشيء والنفوذ إلى الطرف الأقصى منه؛
والرمية هي الطريدة التي يرميها الرامي.
قال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق عن عبد
الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل أخبرني زيد بن وهب
الجهني قال، كنت مع علي كرم الله وجهه حين سار إلى الخوارج
فلما التقينا وعلى الخوارج عبد الله بن وهب الراسبي، فقال
لهم القوا الرماح وسلوا السيوف من جفونها فإني أخاف أن
يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء، قال فوحَّشوا برماحهم
واستلوا السيوف وشجرهم الناس برماحهم فقتلوا بعضهم على
بعض.
قال الشيخ: فوحشوا برماحهم معناه رموا بها على بعد، يقال
للإنسان إذا كان في يد شيء فرمى به على بعد قد وحش به ومنه
قول الشاعر:
إن أنتم لم تطلبوا بأخيكم ... فضعوا السلاح ووحشوا بالأبرق
وقوله شجرهم الناس برماحهم يريد أنهم دافعوهم بالرماح
وكفوهم عن أنفسهم بها، يقال شجرت الدابة بلجامها إذا
كففتها به، وقد يكون أيضاً معناه أنهم شبكوهم بالرماح
فقتلوهم من الاشتجار وهو الاختلاط والاشتباك.
ومن باب قتال اللصوص
قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا أبو داود
الطيالسي حدثنا
(4/335)
إبراهيم بن سعد عن أبيه، عَن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن
ياسر عن طلحة بن عبد الله بن عوف عن سعيد بن زيد عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل
دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد.
قال الشيخ: قد طب الله سبحانه في غير آية من كتابه إلى
التعرض للشهادة وإذا سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا
شهيداً، فقد دل ذلك على أن من دافع عن ماله أو عن أهله أو
دينه إذا أربد على شيء منها فأتي القتل عليه كان مأجوراً
فيه نائلاً به منازل الشهداء.
وقد كره ذلك قوم زعموا أن الواجب عليه أن يستسلم ولا يقاتل
عن نفسه وذهبوا في ذلك إلى أحاديث رويت في ترك القتال في
الفتن وفي الخروج على الأئمة، وليس هذا من ذلك في شيء،
إنما جاء هذا في قتال اللصوص وقطاع الطريق، وأهل البغي
والساعين في الأرض بالفساد ومن دخل في معناهم من أهل العيث
والافساد. |