معالم السنن كتاب الفتن
قال أبو داود: حدثنا يحيى بن عثمان بن سعيد الحمصي حدثنا
أبو المغيرة حدثني عبد الله بن سالم حدثني العلاء بن عتبة
عن عمير بن هانىء العنسي قال: سمعت عبد الله بن عمر رضي
الله عنه يقول كنا قعوداً عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم فذكر الفتن فأكثر في ذكرها حتى ذكر فتنة الأحلاس،
فقال قائل يا رسول الله وما فتنة الأحلاس، قال هي هرَب
وحرَب، ثم فتنة السراء دخنُها من تحت قدمَي رجل من أهل
بيتي يزعم أنه مني وليس مني إنما أوليائي المتقون، ثم
يصطلح الناس
(4/336)
على رجل كَوَرِك على ضِلع ثم فتنة الدهيماء
لا تدع أحداً من هذه الأمة إلاّ لطمته لطمة وذكر الحديث.
قال الشيخ: قوله فتنة الاحلاس إنما أضيفت الفتنة إلى
الاحلاس لدوامها وطول لبثها يقال للرجل إذا كان يلزم بيته
لا يبرح منه هو حلس بيته، لأن الحلس يفترش فيبقى على
المكان ما دام لا يرفع.
وقد يحتمل أن تكون هذه الفتنة إنما شبهت بالاحلاس لسواد
لونها وظلمتها، والحرب ذهاب المال والأهل، يقال حرب الرجل
فهو حريب إذا سلب أهله وماله. والدخن الدخان يريد أنها
تثور كالدخان من تحت قدميه.
وقوله كورك على ضلع مثل، ومعناه الأمرالذي لا يثبت ولا
يستقيم، وذلك أن الضلع لا يقوم بالورك ولا يحمله، وإنما
يقال في باب الملامة والموافقة إذا وصفوا هو ككف في ساعد
وكساعد في ذراع أو نحو ذلك يريد أن هذا الرجل غير خليق
للملك ولا مستقل به والدهيماء تصغير الدهماء وصغرها على
مذهب المذمة لها والله أعلم.
قال أبو داود: حدثنا مسدد وحدثنا قتيبة بن سعيد دخل حديث
أحدهما في الآخر قالا: حَدَّثنا أبو عوانة عن قتادة عن نصر
بن عاصم عن سُبيع بن خالد قال أتيت الكوفة فدخلت مسجداً
فإذا صدْع من الرجال إذا رأيته كأنه من رجال
(4/337)
أهل الحجاز، قال قلت من هذا قال فتجهمني
القوم، وقالوا ما تعرف هذا، هذا حذيفة بن اليمان صاحب رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال حذيفة إن الناس كانوا
يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله
عن الشر، فقلت يا رسول الله أرأيت هذا الخير الذي أعطانا
الله أيكون بعده شر كما كان قبله، قال نعم قلت، ثم ماذا
قال هدنة على دخن، قال قلت يا رسول الله ثم ماذا قال إن
كان لله خليفة في الأرض فضرب ظهرك وأخذ مالك فأطعه وإلا
فمت وأنت عاض بجذل شجرة.
قال الشيخ: وروى أبو داود في غير هذه الرواية أنه قال هدنة
على دخن وجماعة على اقذاء، الصدع من الرجال مفتوحة الدال
هو الشاب المعتدل القناة ومن الوعول الفتي. وقوله هدنة على
دخن معناه صلح على بقايا من الضغن، وذلك أن الدخان أثر من
النار دال على بقية منها.
وقوله جماعة على اقذاء يؤكد ذلك وقد جاء تفسيره في الحديث
قال: قلت يا رسول الله الهدنة على الدخن ما هي، قال لا
ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه.
وأخبرني إسماعيل بن راشد عن إسحاق بن إبراهيم عن بعض رجاله
أو عن نفسه قال قلت لأعرابي كيف بينك وبين قومك فأنشدني:
وبين قومي ورجالها أحن ... إذا التقوا تحاملوا على ضغن
* تحامل النبت علي وعس الدمن *
والجذل أصل الشجرة إذا قطع أغصانها، ومنه قول القائل من
الأنصار أنا جذيلها المحكك.
وكان قتادة يتأول هذا الحديث فيجعله على الردة في زمن أبي
بكر رضي الله عنه.
(4/338)
قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب ومحمد
بن عيسى قالا: حَدَّثنا حماد عن أيوب، عَن أبي قلابة، عَن
أبي أسماء عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الله زوى لي الأرض أو قال إن ربي زوى لي الأرض فأريت
مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها
وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض واني سألت ربي لأمتي أن لا
يهلكها بسنة عامَّة ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم
فيستبيح بيضتهم، وذكر حديثاً فيه طول.
قوله زوى لي الأرض معناه قبضها وجمعها، ويقال انزوى الشيء
إذا انقبض وتجمع وقوله ما زوي لي منها يتوهم بعض الناس أن
حرف من ههنا معناه التبعيض فيقول كيف اشترط في أول الكلام
الاستيعاب ورد آخره إلى التبعيض، وليس ذلك على ما يقدرونه؛
وإنما معناه التفصيل للجملة المتقدمة والتفصيل لا يناقض
الجملة ولا يبطل شيئاً منها لكنه يأتي عليها شيئاً شيئاً
ويستوفيها جزءاً حزءاً، والمعنى أن الأرض زويت جملتها له
مرة واحدة فرآها ثم يفتح له جزء جزء منها حتى يأتي عليها
كلها فيكون هذا معنى التبعيض فيها، والكنزان هما الذهب
والفضة.
(4/339)
وقوله لا يهلكها بسنة عامة فإن السنة القحط
والجدب، وإنما جرت الدعوة بأن لا تعمهم السنة كافة فيهلكوا
عن آخرهم، فأما أن يجدب قوم ويخصب آخرون فإنه خارج عما جرت
به الدعوة، وقد رأينا الجدب في كثير من البلدان وكان عام
الرمادة في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووقع الغلاء
بالبصرة أيام زياد ووقع ببغداد في عصرنا الغلاء فهلك خلق
كثير من الجوع، إلاّ أن ذلك لم يكن على سبيل العموم
والاستيعاب لكافة الأمة فلم يكن في شيء منها خلف الخبر.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبد
الرحمن عن سفيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن البراء بن
ناجية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال تدور رحى الإسلام بخمس وثلاثين أو ست
وثلاثين أو سبع وثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك وإن يقم
لهم دينهم يُقم لهم سبعين عاماً، قال قلت مما بقي أومما
مضى قال مما مضى.
قال الشيخ: قوله تدور رحى الإسلام دوران الرحى كناية عن
الحرب والقتال شبهها بالرحى الدوارة التي تطحن الحب لما
يكون فيها من تلف الأرواح وهلاك الأنفس قال الشاعر يصف
حرباً:
فدارت رحانا واستدارت رحاهم …سراة النهار ما تولى المناكب
وقال زهير:
فتعرككم عرك الرحى بثفالها ... وتلقح كشافاً ثم تنتج فتيتم
وقال صعصعة جد الفرزدق أتيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وكرم وجهه حين رفع يده عن مرحى الجمل يريد حرب الجمل.
(4/340)
وقوله وإن يقم لهم دينهم يريد بالدين ههنا
الملك، قال زهير:
لئن حللت بجوٍ في بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك
يريد ملك عمرو. ولايته.
قلت ويشبه أن يكون أريد بهذا ملك بني أمية وانتقاله عنهم
إلى بني العباس رضي الله عنه وكان ما بين أن استقر الأمر
لبني أمية إلى أن ظهرت الدعاة بخراسان وضعف أمر بني أمية
ودخل الوهن فيهم نحواً من سبعين سنة.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثني يونس
عن ابن شهاب حدثني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقارب
الزمان وينقص العلم وتظهر الفتن ويلقى الشح ويكثر الهرج
قيل يا رسول الله أيُّمَ هو قال القتل.
قال الشيخ: قوله يتقارب الزمان معناه قصر زمان الأعمار
وقلة البركة فيها. وقيل هو دنو زمان الساعة، وقيل هو قصر
مدة الأيام والليالي على ما روي أن الزمان يتقارب حتى تكون
السنة كالشهر؛ والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم، واليوم
كالساعة، والساعة كاحتراق السعفة، والهرج أصله القتال،
يقال رأيتهم يتهارجون أي يتقاتلون، وقوله أيم هو يريد ما
هو، وأصله أيما هو فخفف الياء وحذف الألف كما قيل أيش ترى
في أي شيء ترى.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد، عَن أبي
عمران الجوني عن المشعَّث بن طريف عن عبد الله بن الصامت،
عَن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا
أبا ذر قلت لبيك وسعديك، وذكر الحديث قال فيه كيف أنت إذا
أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف، قلت الله ورسوله
أعلم أو قال
(4/341)
ماخار الله لي ورسوله قال عليك بالصبر أو
قال تصبر، ثم قال لي يا أبا ذر قلت لبيك وسعديك، قال كيف
أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم قلت ما خار الله
لي ورسوله، قال عليك بمن أنت منه قال قلت يا رسول الله
أفلا آخذ سيفي وأضعه على عاتقي، قال شاركت القوم إذن، قلت
فما تأمرني قال تلزم بيتك، قلت فإن دخل على بيتي، قال فإن
خشيت أن يبهَرَك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك يبوء بإثمك
وإثمه.
قال أبو داود لم يذكر المشعث في هذا الحديث غير حماد بن
زيد.
قال الشيخ: البيت ههنا القبر والوصيف الخادم يريد أن الناس
يشغلون عن دفن موتاهم حتى لا يوجد فيهم من يحفر قبراً لميت
ويدفنه إلاّ أن يعطي وصيفاً أو قيمته والله أعلم.
وقد يكون معناه أن مواضع القبور تضيق عنهم فيبتاعون
لموتاهم القبور كل قبر بوصيف، وقوله يبهرك شعاع السيف
معناه يغلبك ضوءه وبريقه والباهر المضيء الشديد الاضاءة
قال الشاعر:
بيضاء مثل القمر الباهر
وقد يحتج بهذا الحديث من يذهب إلى وجوب قطع النباش وذلك أن
النبي صلى الله عليه وسلم سمى القبر بيتاً فدل على أنه حرز
كالبيوت.
قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن الحسن حدثنا حجاج بن محمد
حدثنا الليث بن سعد حدثني معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن
جبير حدثه عن أبيه عن المقداد بن الأسود قال ايْمُ الله
لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن السعيد لمن
جنب الفتن ولمن ابتلي فصبر فواهاً.
قال الشيخ: واهاً كلمة معناها التلهف وقد يوضع أيضاً موضع
الإعجاب
(4/342)
بالشيء فإذا قلت ويهاً كان معناها الإغراء.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد
الرحمن بن عبد الله بن مسلمة عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة
عن أبيه، عَن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوشك أن يكون خير مال المسلم
غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من
الفتن.
قال الشيخ: شعف الجبال أعاليها، وفيه الحث على العزلة أيام
الفتن.
ومن باب تعظيم دم المؤمن
قال أبو داود: حدثنا مؤمل بن الفضل حدثنا محمد بن شعيب عن
خالد بن دهقان عن هانىء بن كلثوم، قال سمعت محمود بن
الربيع يحدث عن عبادة بن الصامت أنه سمعه يحدث عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال من قتل مؤمناً فاعتبط قتله لم
يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.
قال خالد وحدثنا عبد الله بن أبي زكريا عن أم الدرداء، عَن
أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا
يزال المؤمن مُعنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً فإذا
أصاب دماً حراماً بلَّح.
قال الشيخ: قوله فاعتبط قتله يريد أنه قتله ظلماً لا عن
قصاص، يقال عبطت الناقة واعتبطتها إذا نحرتها من غير داء
أو آفة تكون بها ومات فلان عبطة إذا مات شاباً واحتضر قبل
أوان الشيب والهرم قال أمية بن أبي الصلت:
من لم يمت عبطة يمت هرما
وقوله معنقاً يريد خفيف الظهر يعنق في مشيه سير المخف؛
والعنق ضرب من السير وسيع يقال أعنق الرجل في سيره فهو
معنق، ورجل معنق وهو من
(4/343)
نعوت المبالغة، وبلح معناه أعيا وانقطع، ويقال بلح عليَّ
الغريم إذا قام عليك فلم يعطك حقك وبلحت الركية إذا انقطع
ماؤها. |