ناسخ الحديث ومنسوخه للأثرم

الجزء الثالث
من كتاب ناسخ الحديث ومنسوخه
تأليف
أبي بكر أحمد بن محمد بن هاني الطائي الأثرم
مما رواه عنه أبو الحسن علي بن يعقوب بن إبراهيم الكوسج
رواية أبي الحسين علي بن محمد بن سعيد الموصلي الخفاف
عنه رواية الشيخ أبي جعفر محمد بن أحمد بن محمد بن المسلمة
عنه أبي الحسين محمد عبد الله بن أخي ميمي إجازة عنه

(1/195)


بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرنا الشيخ أبو جعفر محمد بن أحمد بن محمد بن المسلمة قراءةً عليه قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبد الله ابن أخي ميمي إجازةً قال: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن سعيد الخفاف الموصلي، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن يعقوب الكوسج قال: قال أبو بكر الأثرم:

(1/197)


63- باب الهلال يُرى ما يقول
روى محمد بن بشر، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن رجل، عن عبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أسألك خير هذا الشهر، وأعوذ بك من شر القدر، ومن شر يوم الحشر".
وروى عبد العزيز بن حصين عن عبد الكريم عن أبي عبيدة بن رفاعة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "الله أكبر، هلال خير ورشد آمنت بخالقه ثلاثاً، ثم يسأل لنفسه".
وروى عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم بن محمد بن حاطب عن أبيه وعمه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "الله أكبر اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربي وربك الله".
وروى أبو عامر عن سليمان بن سفيان عن بلال بن يحيى بن طلحة عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: "اللهم أهله علينا باليمن والإيمان

(1/199)


والسلامة والإسلام ربي وربك الله".
فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة، وكلها ليست بأقوى الأحاديث، وإنما الوجه أن ذلك ليس فيه شيء مؤقت، وأي ذلك قاله فهو جائز.

(1/200)


64- باب صوم يوم السبت
روى ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم".
فجاء هذا الحديث بما خالف الأحاديث كلها فمن ذلك حديث علي، وأبي هريرة، وجندب أن النبي صلى الله عليه وسلم "أمر بصوم المحرم".
ففي المحرم السبت، وليس مما افترض. ومن ذلك حديث أم سلمة وعائشة، وأسامة بن زيد وأبي

(1/201)


ثعلبة، وابن عمر أن النبي صلى الله عليه سلم كان يصوم شعبان. وفيه السبت.
ومن حديث [......] وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر".
وقد يكون فيه السبت.
ومن ذلك الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صوم عاشوراء. وقد يكون يوم السبت.

(1/202)


ومن ذلك: الترغيب في صوم يوم عرفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً، وقد يكون يوم السبت، ومن ذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في صيام البيض، وقد يكون فيه السبت. وأشياء كثيرة توافق هذه الأحاديث.

(1/203)


65- باب في المسكر
روى الزهري عن أبي سلمة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل شراب أسكر فهو حرام".
وروى محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وموسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومحمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر خمر".
وروى محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(1/204)


وعبيد الله بن عمر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام".
وروى أبو عثمان الأنصاري- وكان ثقة- عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم "ما أسكر الفرق فالحسوة منه حرام ".
وروى الضحاك بن عثمان عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن عامر ابن سعد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره".
وروى عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعود، وجابر، وأبو هريرة، وميمونة، وأم حبيبة، وأنس، ومعاوية، وبريدة والأسلمي، وجماعة سواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر حرام".
وروى الديلم الحميري أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشراب

(1/205)


الذي يتخذونه بأرضهم فقال: " أيسكر؟ " فقال: نعم. قال: "فلا تشربه". قال: فإنهم لا يصبرون عنه، قال: "فإن لم يصبروا عنه فاقتلهم"
وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر حرام". والذي نفسي بيده لمن شرب مسكراً إن حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال يوم القيامة"
وروى طلق بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المسكر: "لا يشربه رجل فيسقيه الله عز وجل الخمر يوم القيامة ".
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شرب مسكراً نجس، ونجست صلاته أربعين يوماً".
فتواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم قليل المسكر وكثيره، وأنه خمر.
ثم روى قوم يستحلون بعض ما حرم الله عز وجل أحاديث لا أصول لها فمنها حديث رواه أبو الأحوص عن سماك عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بردة بن نيار،

(1/206)


قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشربوا في الظروف ولا تسكروا".
فتأولوا هذا الحديث على ما أحبوا فوافقوا أهل البدع في تأويلهم المتشابه وتركهم المحكم، قال الله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران/7] .
وهذا حديث له علل بينة، وقد طعن فيه أهل العلم قديماً فبلغني أن شعبة طعن فيه.
وسمعتُ أبا عبد الله يذكر أن هذا الحديث إنما رواه سماك عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نهيتكم عن ثلاث: عن الشرب في الأوعية، وعن زيارة القبور، وعن لحوم الأضاحي. فأما لحوم الأضاحي فكلوا وادخروا، وأما زيارة القبور فزوروها، وأشربوا في الأوعية ولا تشربوا مسكراً".
قال: فدرس كتاب أبي الأحوص فلقنوه الإسناد والكلام، فقلب الإسناد والكلام، ولم يكن أبو الأحوص، يقول أبي بردة بن نيار: كان يقول أبو بردة، وإنما هو عن ابن بريدة فلقنوه أن أبا بردة إنما هو ابن نيار فقاله.

(1/207)


وقد سمعت سليمان بن داود الهاشمي يذكر أنه قال لأبي الأحوص من أبو بردة؟ فقال أظنه ثم قال: يقولون ابن نيار.
وهذا حديث معروف، قد رواه غير واحد عن سماك عن القاسم عن ابن بريدة عن أبيه على ما وصفناه، ثم جاءت الأحاديث بمثل ذلك عن بريدة رواها علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه. ورواها محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه.
ورواه أبو فروة الهمداني عن المغيرة بن سبيع عن ابن بريدة عن أبيه.
فلو لم يجئ لهذا الحديث معاريض من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لم يكن هذا مما يصح به خبر لبيان ضعفه.
واحتجوا أيضاً بحديث رواه يحيى بن اليمان، وعبد العزيز بن أبان عن سفيان عن منصور عن خالد بن سعد عن أبي مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى وهو يطوف بالبيت فأتي بنبيذ من نبيذ السقاية، فقربه إلى فيه فقطّب فدعا بماء فصبه عليه، فقال رجل يا رسول الله أحرام هو؟ فقال:

(1/208)


لا.
وهذا حديث يحتج به من لا فهم له في العلم ولا معرفة بأصوله. وقد سمعت من أبي عبد الله ومن غيره من أئمة أهل الحديث في هذا الحديث كلاماً كثيراً، وبعضهم يزيد على بعض في تفسير قصته.
فقال بعضهم هذا حديث لا أصل له ولا فرع، وقال إنما أصل هذا الحديث الكلبي، والكلبي متروك عند أهل العلم، وكان يحيى بن اليمان عندهم ممن لا يحفظ الحديث، ولا يكتبه وكان يحدث من حفظه بأعاجيب وهذا من أنكر ما روى. وأما الذي روى عنه فإنه قد عثر عليه بما هو أعظم من الغلط مما قد كنّينا عنه لصعوبته وسماجة ذكره.
وفي هذا الحديث بيان عند أهل المعرفة أجمعين، لأنه زعم أنه قد شرب من نبيذ السقاية نبيذاً شديداً فجعله حجة في تحليل المسكر، وتأولوا أنه لا يقطب إلا من شدة، وأنه لا يكون شديداً غير مسكر، فرجعوا أيضاً إلى الأخذ بالتأويل فيما تشابه، وتركوا ما قد كفوا مئونته وفسر لهم وجهه لقوله:

(1/209)


"ما أسكر كثيره فقليله حرام". فهل يحتاج هذا إلى تفسير؟ فيقال لهم أيكون من النقيع ما يشتد وهو حلو قبل غليانه؟ فيقولون لا. فيقال لهم: أرأيتم نبيذ السقاية أنقيع هو أو مطبوخ؟ فيقولون نقيع. فإذا هم قد تكلموا بالكفر أو شبهه حين زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم شربه نقيعاً شديداً، أو أنه لا يشتد حتى يغلي، وأنه إذا غلا النقيع فهو خمر. فهم يقرون بأنه خمر، وهم يزعمون بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد شربه ثم يحتجون بذلك في غيره ولا يأخذون به فيه بعينه. وتفسير هذا الكلام أنهم احتجوا بشرب النبي صلى الله عليه وسلم زعموا النقيع الشديد في تحليل المسكر المطبوخ، ولا يرون شرب المسكر الشديد من النقيع، فأيّ معاندة للعلم أبين من هذه؟
وهذا كقولهم إذا قعد مقدار التشهد ثم أحدث فقد تمت صلاته. ويحتجون في ذلك بالحديث الضعيف: "إذا رفع رأسه من آخر سجدة ثم أحدث فقد تمت صلاته ". وهم لا يقولون به، لأنهم يقولون حتى تقعد مقدار التشهد. فهذان الحديثان هما حجة من أحل المسكر مما ادعوه على النبي صلى الله عليه وسلم وأن الله عز وجل قد حرم الخمر فلم يبين في كتابه ما تفسيرها فلجأ قوم إلى أن الخمر هي خمر العنب خاصة بغير حجة من كتاب ولا سنة، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم. أولى بتفسير ما حرم الله عز جل

(1/210)


على لسانه فقال صلى الله عليه وسلم: "الخمر من خمسة أشياء".
وقال في حديث آخر" الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة".
فبدأ بالنخلة. وقال الله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَنا} . فبدأ بالنخيل قبل الأعناب، فمن أين زعم هؤلاء أن الخمر من العنب خاصة؟ .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر".
وقال عمر رضي الله عنه: "الخمر ما خامر العقل "؟
وقال ابن مسعود وجماعة كثيرة: المسكر خمر. حتى قال سفيان بن سعيد: باخرة النادي خمر. فمن أين جاء هؤلاء بالتفصيل بين العنب وغيره. إذ لم ينزل تحريم الخمر على النبي صلى الله عليه وسلم وإنما شرابهم الفضيخ لا يعرفون غيره، فلما تليت عليهم الآية بالتحريم هراقوا آنيتهم، وكانت هي خمرهم، فقال قائلهم: أليس قد قال ابن عباس: "حرمت الخمر بعينها،

(1/211)


والسكر من كل شراب".
وهذا حديث رووه عن مسعر عن أبي عون عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس. فافهم بيان الحجة عليهم في هذا من وجوه منها: أن شعبة كان أعلم بأبي عون، وأروى عنه من مسعر، ولم يسمع شعبة هذا الحديث من أبي عون، فرواه عن مسعر، فشعبة كان أحرى أن يؤدي ما سمع من مسعر.
قال شعبة فيه عن مسعر بهذا الإسناد: حرمت الخمر بعينها، والمسكر من كل شراب.
وهم يتأولون، أن قوله "والسكر من كل شراب"تحليل لما دون السكر من الشراب، وقد جاء ما بيّن هذا حين تركوا ما بان تفسيره وأخذوا بما قد تشابه ذكره، لأن ابن عباس قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل مسكر حرام.
وقال ابن عباس: من سرّه أن يحرم ما حرم الله ورسوله فليحرم بنبيذ الجر. وإنما كره نبيذ الجر لأنه يشتد في الجر

(1/212)


حتى يكون مسكراً ليس لأن الظروف تحرمه.
وقال ابن عباس أيضاً: "ما أسكر كثيرة فقليله حرام ".
فكفى هذا من تأويل.
وقيل لابن عباس ما تقول في شراب يصنع من القمح؟ قال: "أيسكر؟ " قيل له: نعم. قال: "هو حرام ". قيل فما تقول في شراب يصنع من الشعير؟ حتى سأله عن أشربةٍ. فقال قد أكثرت عليّ. "اجتنب ما أسكره" فردوه إلى تحريم كل شيء يسكر منه.
وقال ابن عباس: "ما أسكر فهو حرام".
فأين هذا مما يتأولون عليه. فأما تمييزه بين الخمر والسكر فإن هذا كلام بين لمن فهمه، وذلك أن الخمر من خمسة أشياء خاصة، فما كان من تلك الخمسة الأشياء فهو خمر، وما سواهن فهو حلال ما لم يكن مسكراً، فإذا أسكر كثيره من سائر الأشياء فهو حرام.

(1/213)


فقال قائلهم أليس قد شرب عمر نبيذاً شديداً. وقال نشرب هذا النبيذ الشديد لنقطع لحوم الإِبل في بطوننا. فرجعوا أيضاً إلى المتشابه من الكلام الذي لا يصح مخرجه، ولا يثبت خبره ولا يوافق ما روى عن عمر من الوجوه الصحاح معناه. وذلك أن أبا حيان التيمي، وعبد الله بن أبي السفر وغيرهما رووه عن الشعبي عن ابن عمر عن عمر أنه قال: "الخمر ما خامر العقل ".
فجعل كل شراب غيّر العقل خمراً. والخمر لا يحل منها قليل وإن لم يسكر إلا أن يدعوا أن هذه خمر غير تلك التي حرم قليلها.
أفتزعمون أن عمر رضي الله عنه حرم خمراً، وحرم الله خمراً أخرى؟ فهذان إذاً خمران.
أحدهما حرمها الله تعالى، والأخرى حرّمها عمر. أو ليس قد بيّن في حديثه فقال: "يا أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة. ثم قال: والخمر ما خامر العقل. فإن أقررتم فقلتم بلى". إنما أراد عمر رضي الله عنه ما حرم الله ففسره.

(1/214)


فقل أيحل ما حرم الله ما دون السكر؟ أو ليس إنما كان هذا قبل بيان تحريمها حين أباح لهم ما دون السكر منها، ونهاهم عن شربها في أوقات صلواتهم، ثم استأصل أمرها بالنهي عن قليلها وكثيرها حتى أوقعت العداوة والبغضاء، وصدت عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل ما بين ما أحللتموه وبين ما حرمتموه في المعنى الذي حرم الله له الخمر من فرق؟ أو لستم قد أحللتم ما كره الله شربه لما يوقع من الأسباب التي تجدونها واقعة بما أحللتموه. فلو لم يكن التحريم من الله عز وجل بالبيان إلا كما وصفتم أنه خمر العنب النقيع خاصة، ثم وجدتم ما سواها من الأشربة تدعوا إلى مثل ما كره الله عز وجل له تلك الخمر بعينها. ألم يكن ينبغي لكم أن تحرموا ما ضارع ما حرم الله عز وجل ودعا إلى مثل ما يدعوا إليه. أو ليس إنما حرم الله عز وجل الميسر الذي كانوا يتقامرون يومئذ في أشياء معروفة بأعيانها، فحرم المسلمون جميع القمار، حتى ألحقوا بذلك كلما حدث من هذا النحو إلى أن قالوا: لعب الصبيان بالجوز والكعاب.
وحرم الله عز وجل على بني إسرائيل أكل الشحوم، فعابهم النبي صلى الله عليه وسلم بأكل أثمانها، ولو أن عمر رضي الله عنه أراد الذي ادعيتم ما كانت لكم فيه حجة، لأنا وجدناكم تتركون قول

(1/215)


عمر إذا شئتم، وتحتجون عليه بأثمة ضلالة، فكيف يلزمكم قوله فيما قد صح عن النبي صلى الله علي وسلم خلافه. هذا لو كان المذهب في قول عمركما ادعيتم، وقد صح لنا أن عمر قد حرم من المسكر مثل الذي حرمه الله ورسوله. فمن ذلك ما ذكرنا من قوله: "الخمر ما خامر العقل ". وقوله: "الخمر من خمسة". ومن ذلك أن عمر رضي الله عنه قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن كل مسكر حرام ".
ومن ذلك حديث الزهري عن السائب بن يزيد قال سمعت عمر رضي الله عنه يقول: "ذكر لي أن عبيد الله بن عمر وأصحاباً له شربوا شراباً وأنا سائل عنه، فإن كان يسكر جلدتهم"، فجلدهم الحد ثمانين.
فهو قد علم أنهم قد شربوا، وإنما قال أسأل عما شربوا، فإن كان يسكر ولم يقل أسأل عنهم هل سكروا.
وقال: عبيد الله بن عمر العمري إنما كسر عمر النبيذ الذي شربه لشدة حلاوته، وكذلك قال الأوزاعي أيضاً.

(1/216)


وأهل العلم أولى بالتفسير وفي حديث محمد بن جحادة أن الشراب الذي أتى به عمر فكسره إنما كان خلاً، قد خرج من حد المسكر.
فهذا أشبه أن يكون ما روى عن عمر متقارباً لا يخالف بعضه بعضاً.
وقالوا إن عمر قال لعتبة بن فرقد "إنا ننحر كل يوم جزوراً، فأما أطايبها فللمسلمين، وأما العنق وكذا فلنا، نأكل هذا اللحم الغليظ ونشرب عليه هذا النبيذ الشديد يقطعه في بطوننا".
وقد ذكروا في هذا الحديث أن عتبة بن فرقد قال: قدمت عليه بسلال من خبيص فأنكر عليه. وهذا حديث مدفوع عند أهل العلم بأشياء مفهومة منها: أن أبا عثمان النهدي قال: كنت مع عتبة بن فرقد بأذربيجان فبعث إلى عمر رضي الله عنه بسلال من خبيص فردها إليه وكتب إليه إنه ليس من كدّك، ولا من كدّ أبيك، ولا من كدّ أمك. فهذا عتبة قد أرسل إلى عمر بشيء فأغضبه، ورده.

(1/217)


أفيقدم به عليه ثانية، أو يقدم به عليه فيكرهه ويلومه ثم يوجه به إليه. هذا مالا يكون إلا على وجه المعاندة والمعصية، ولم يكن عتبة كذلك، وقد كانت له صحبة من النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً.
ومما يدفع به هذا الحديث أيضاً قوله "إننا ننحر كل يوم جزوراً" وهذا محال أن يدّعى على عمر. أما سمعت ما قال أسلم مولى عمر: عميت ناقة فقلت لعمر قد عميت ناقة من الظهر. فقال: "أقطروها إلى الإبل" قال: فقلت فكيف ترعى من الأرض؟ فقال: "افعلوا بها كذا" يلتمس لها حيلة لبقائها.
أفيفعل هذا من يحتاج إلى جزور كل يوم، فلما لم يجد لها حيلة قال: أردتم والله نحرها. قال: فنحرها.
وكانت عنده صحاف تسع، فلا يكون عنده طريقةٌ إلا بعث إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم منها في تلك الصحاف، ويجعل آخر ذلك حظ حفصة، لأنها ابنته، ثم جمع على ما بقي منها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال له العباس: "لو صنعت هذا كل يوم اجتمعنا عندك؟ " فقال: "هيهات لا أعود لهذا أبداً إنه كان لي صاحبان سلكا طريقاً، وإني أخاف إن سلكت غير طريقهما أن يسلك بي غير سبيلهما".
فعمر يتقي من أن يعود لنحر جزور مرة أخرى، وهذا

(1/218)


يدعى أنه قد كان ينحر كل يوم جزوراً.
ثم رويت هذه القصة من وجوه، وهو يقول: "لتمرنّن أيها البطن على الخبز والزيت مادام السمن يباع بالأواق ".
وقال حذيفة: انطلقت إلى عمر فإذا قوم بين أيديهم قصاع فيها خبز ولحم، فدعاني عمر إلى طعامه، فإذا خبز وزيت. فقلت: منعتني أن آكل مع القوم؟ فقال: "إنما أدعوك إلى طعامي، وأما ذاك فطعام المسلمين ".
فهذه الأحاديث كلها مخالفة وبيان الحجج على من يستحل المسكر كثيرة قصرنا عنها لطولها. وذلك أنهم يحتجون بأحاديث وهذا الذي ذكرناه أرفع حججهم. وما بقي من حججهم من فعل ناس من الماضين فإن بيان الوهن فيه كنحو ما قد شرحنا.
فإذا لم يبق لهم حجة من الأحاديث قالوا فقد شربه فلان وفلان وفلان، وذكروا ناساً قد كانوا يصيبون ويخطئون، وهؤلاء الذين يحتجون بهم فيما يهوون من تحليل المسكر، قد يخالفونهم كثيراً إذا هووا. وليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا يؤخذ من قوله ويترك، وقد وجدنا ذلك في أفضل الأمة بعد النبي صلي الله عليه وسلم أما سمعت قول أبي بكر الصديق في الجد إنه بمنزلة

(1/219)


الأب، فلم يجعل للأخ معه ميراثاً. ثم قد وافقه على ذلك أيضاً جماعة، فلم تستوحش الأئمة فراق قوله لأنه لا ينكر أن يترك بعض قوله ويؤخذ ببعضه. وقال أبو بكر رضي الله عنه: "إنه ليس في الأذن إلا خمسة عشر بعيراً". فترك الناس قوله وأخذوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم "في الأذن نصف الدية".
فلو قال قائل أنا آخذ بقول أبي بكر كان أبين حجة ممن أخذ بقول فلان وفلان في تحليل ما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم من المسكر.
أو ما سمعت قول عمر رضي الله عنه: "لا يتيمم الجنب، ولا يصلي حتى يجد الماء".
وضمن أنس وديعة. وقال في المسح على الخفين: "أمسح إلا من جنابة".
وعثمان رضي الله عنه قال في أخت، وأم، وجد، للأم الثلث، وللأخت الثلث، وللجد الثلث. وقال: "عدة المختلعة الحيضة".
وعلي رضي الله عنه قال: "تعتد الحامل المتوفى عنها آخر الأجلين".

(1/220)


وأجاز بيع أمهات الأولاد. وقال في الربيبة قولاً عجيباً.
وابن مسعود رضي الله عنه أفتى في الصرف بفتيا عجب. وأفتى في أم المرأة التي لم يدخل بها. وفي غير ذلك.
فهؤلاء قد جاز أن يترك من قولهم ما خالف آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن دونهم أبعد.

(1/221)


66- باب في الخليطين
روى سليمان التيمي عن أنس، وسليمان عن أبي نضرة عن أبي سعيد: أن النبي صلي الله عليه وسلم "نهى عن الخليطين".
وروى حبيب بن أبي ثابت، وحبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وهو من وجوه. فهذا ما صح في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما نهى عنه أيضاً لتوكيد تحريم المسكر، لأنه إذا خلط اشتد، وإذا اشتد أسكر.
وروى عن- عائشة بإسناد ضعيف- حميد بن سليمان عن مجاهد عن عائشة- عن النبي صلى الله عليه وسلم رخصة فيه.
وهذا خلاف الأحاديث القوية، ومثل هذا لا تصح به

(1/222)


حجة ولو لم يجئ خلافه.
واحتجوا بأن ابن عباس رخص فيه. وقد صح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنه. أفتراه كان يحدث الناس بنهي النبي صلى الله عليه وسلم ثم يعمل بغيره؟
واحتجوا بأن ابن عمر قد رخص فيه، وذلك من وجه ضعيف.
وقد روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخليطين.

(1/223)


67- باب الشرب في الظروف
هذه المسألة قل ما يوجد في السنن مثلها، وذلك أنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الظروف التي ينتبذ فيها.
والرخصة في الأسقية التي تلاث على أفواهها. ثم جاءت الرخصة فيها إذا لم يكن الشراب فيها مسكراً لقوله صلى الله علي وسلم "إني نهيتكم عن الظروف فاشربوا فيها، ولا تشربوا مسكراً".
ثم جاء النهي عنها أيضاً بعد الرخصة. فرجع الأمر فيها إلى النهي. وبيان ذلك كله في الرواية.
روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نهيتكم عن ثلاث. فذكر الأوعية. وقال اشربوا ولا تشربوا مسكراً".
وروى إسماعيل بن سميع عن مالك بن عمير أن صعصعة بن صوحان قال لعلي رضي الله عنه: انهنا عما نهاك عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "نهى رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدباء والحنتم والمقير".

(1/224)


ثم روى مثل هذا عن علي رضي الله عنه أيضاً من وجوه. فقد جمع علي رضي الله عنه هذه الأخبار الثلاثة التي وصفناها لأنه حكى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نهيتكم عن الأوعية" فحكى إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر نهيه الأول ورخصته في ذلك الحديث. ثم استفتى بعد النبي صلى الله عليه وسلم فحكى النهي فدل ذلك على أنه لم يكن ليفتي بالمنسوخ، وإنما يكون الفتيا بآخر الأمور من السنة.
وروى أنس بن مالك أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نهيتكم عن ثلاث، مثل ما قال علي رضي الله عنه.
ثم روى محمد بن أبي إسماعيل عن عمارة بن عاصم قال: دخلت على أنس فسألته عن النبيذ؟ فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدباء والمزفت فأعدت عليه فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدباء والمزفت.
فأفتى أنس أيضاً بالشدة والكراهة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقد جمع أنس أيضاً الأخبار الثلاثة التي وصفنا.

(1/225)


وروى المختار بن فلفل أيضاً قال: سألت أنساً عن الشرب في الأوعية فقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأوعية.
فهذه كما قد رأيت فتيا وليست رواية.
وقد روى الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزفت.
فهذا منها، ولم يحتج به لأن هذه رواية، وقد يمكن أن يروي الأمر الأول ولكنه لما أفتى بالكراهة بعد أن سمع الرخصة علمنا أنه قد يحدث من النبي صلى الله عليه وسلم نهي بعد الإذن حين أفتوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي، وذكروا مع فتياهم قول النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
وكذلك عائشة أيضاً، وكذلك أبو سعيد أيضاً مثل هذه القصة سواء.

(1/226)


68- باب في الشرب قائماً
روى عاصم بن سليمان عن الشعبي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائماً.
وروى عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائماً.
وعطاء بن السائب عن ميسرة عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وحفص بن غياث عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر كنا نأكل ونحن نسعى ونشرب ونحن قيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعمران بن حدير عن يزيد بن عطارد عن ابن عمر مثله.

(1/227)


وروى معمر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لو يعلم الذي يشرب وهو قائم ما في بطنه لاستقاء".
وروى هشام وغيره عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائماً.
وروى هشام وغيره عن قتادة عن أبي عيسى الأسواري عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائماً.
وروى شعبة عن أبي زياد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يشرب قائماً فقال له: "أتحب أن يشرب معك الهر؟ " قال: لا. فقال: "فقد شرب معك من هو شر منه. الشيطان ".
فاختلفت الأحاديث في هذا الباب، وأحاديث الرخصة

(1/228)


أثبت لأن حديث أبي هريرة في الكراهة من وجهين:
أحدهما: لم يروه غير معمر. وكان معمر مضطرباً في حديث الأعمش، ويخطئ فيه.
والوجه الآخر: عن أبي زياد وليس بالمشهور بالحديث ولا أعرف له عن أبي هريرة غيره.
ثم أبين ذلك في ضعفه أنه قد سئل أبو هريرة عن الشرب قائماً فقال: لا بأس به.
فكان هذا خبر ساقط.
وأما حديث أنس فهو حديث جيد الإسناد، إلا أنه قد جاء عن أنس خلافه.
روى سفيان وزهير عن عبد الكريم الجزري عن البراء ابن بنت أنس عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب وهو قائمٌ.
وحديث الكراهة عن أنس هو أثبت إلا أنه لما صحت أحاديث الرخصة فقد يمكن أن يكون هذا أصح الخبرين، وإن كان حديث الكراهة أثبت. أَلا ترى أنه ربما روى الثبت حديثاً فخالفه فيه من هو دونه، فيكون الذي هو دونه فيه أصوب،

(1/229)


وليس ذلك في كل شيء وسنفتح لك منها باباً. قد كان سالم بن عبد الله يقدم على نافع. وقد قدم نافع في أحاديث على سالم. فقيل نافع فيها أصوب.
وكان سفيان بن سعيد يقدم على شريك في صحة الرواية تقديماً شديداً، ثم قضى لشريك على سفيان في حديثين. ومثل هذا كثير.
وأما حديث أبي سعيد فإنه روى عن أبي عيسى الأسواري، وليس بالمشهور بالعلم، ولا نعرف له عن أبي سعيد غير هذا الحديث وآخر. ويرى مع هذا أنه إن كانت الكراهة بأصل ثابت، إن الرخصة بعدها، لأنا وجدنا العلماء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الرخصة، عمر، وعلي وسعد وعامر بن ربيعة وابن عمر وأبو هريرة وعائشة وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم. ثم أجازه التابعون: سالم بن عبد الله وطاووس وسعيد بن جبير والشعبي وإبراهيم وغيرهم.

(1/230)


69- باب الشرب من في السقاء.
روى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن الشرب من في السقاء".
وروى أيوب عن عكرمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وروى قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وهو من وجوه.
وروى يزيد بن يزيد بن جابر عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن جدته
كبشة أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من فم قربةٍ.
وروى سفيان عن عبد الكريم عن البراء عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من فم قربةٍ.
وروى شريك عن حميد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

(1/231)


فاختلفت الأحاديث في هذا الباب. والاختيار عندنا فيه الكراهة لأنها أثبت، ولأن أحاديث الرخصة إن كان لها أصل فإنها لا تكون إلا قبل النهي. والنهي آخر الأمرين.
فأما حديث شريك عن حميد عن أنس فهو عندنا خطأ، إنما أراد حديث عبد الكريم عن البراء عن أنس. وهذا إسناد ليس بالقوي.
وبيان ما ذكرناه من النهي بعد الفعل فيما روى الزهري عن عبيد الله عن أبي سعيد قال: شرب رجل من سقاء فانساب في بطنه جان فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية. فهذا يدلك على أنهم كانوا يفعلونه حتى نهوا عنه.

(1/232)


70- باب التنفس في الشراب
روى هشام الدستوائي وعبد الوارث بن سعيد عن أبي عصام عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاثاً، ويقول "هو أهنا وأمرا وأبرأ".
وروى عزرة بن ثابت عن ثمامة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا شرب تنفس ثلاثاً.
وروى هشام عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن يتنفس في الإناء". وروى عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن يتنفس في الإناء".
وروى رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب ماء فتنفس مرتين.

(1/233)


وروى مالك عن أيوب بن حبيب عن أبي المثنى الجهني عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: إني لا أروى بنفس واحدة؟ قال: فأبن الإناء عن فيك ثم تنفس.
فدل ظاهر هذا الحديث على الرخصة في الشرب بنفس واحد. فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة. والوجه فيها عندنا أنه يجوز الشرب بنفس واحد وبنفسين وبثلاثة أنفاس، وبأكثر منها، لأن اختلاف الرواية في ذلك يدل على التسهيل فيه وإن اختيار الثلاث لحسن.
وأما حديث النهي عن التنفس في الإناء، فإنما ذلك أن يجعل نفسه في الإناء، فأما التنفس للراحة إذا أبانه عن فيه فليس من ذلك.

(1/234)


71- باب الكراع في الشرب
روى فليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث عن جابر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل من الأنصار فقال: "هل عندك ماء بات في شنٍ وإلا كرعنا".
وروى الليث عن سعيد بن عامر عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكرعوا".
فاختلف هذان الحديثان. وحديث فليح أصحهما إسناداً.

(1/235)


72- باب دعاء المشركين قبل القتال
روى سفيان بن سعيد عن ابن أبي نجيح عن أبيه عن ابن عباس قال: ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً قط إلا دعاهم.
وروى سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر أمير جيوشه. يقول: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال، فأيهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم، وادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم" ثم قص الحديث.
وروى عطاء بن السائب عن أبي البختري أن سلمان قال لأصحابه كفوا حتى أدعهم كما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم. ثم قص الحديث.
فهذه الأحاديث توجب الدعاء قبل القتال. ثم جاءت أحاديث بغير ذلك.
وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن

(1/236)


عباس عن الصعب بن جثامة قال: قلت يا رسول الله أهل الدار من العدو يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم؟ فقال: "هم منهم ". ولم يذكر في هذه الدعوة قبل القتال.
وروى الزهري عن عروة عن أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "أغر على يُبْنى صباحاً". ولم يذكر الدعوة.
وروى ابن عون عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارّون.
وروى حميد عن أنسِ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أغار على قوم فإن سمع أذاناً أمسك، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم.
وروى عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن ابن عصام المزني عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا رأيتم مسجداً، أو سمعتم مؤذناً فلا تقتلوا أحدا ".
ومن ذاك أن النبي صلى الله عليه وسلم طرق أهل مكة بغتة فقاتلهم.
فاختلفت هذه الأحاديث في ظاهرها ولها وجوه، فأما

(1/237)


الأحاديث الأول فإنها فيمن لم تبلغه الدعوة، فأما إذا علم أن الدعوة قد انتهت إليهم فردوها فأولئك لا يدعون، وإن عاودوهم بالدعوة جاز، ألا ترى أن أهل مكة قد كان النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم وهو مقيم معهم قبل هجرته، ثم حاربوه مراراً فلذلك لم يدعهم، وكذلك أهل خيبر لم يدعهم لأنهم قد تقدمت عداوتهم، وبلغتهم دعوته، فتركوا أمره عامدين، وكذلك من سواهم. فعلى هذا يؤخذ هذا الباب، وكذلك جاءت الأحاديث عن العلماء بتصحيح هذا المذهب الذي اخترناه.
روى شعبة عن قتادة عن الحسن قال: لا بأس أن لا يدعون. لأنهم قد عرفوا ما يدعوهم إليه. وقال سفيان عن منصور عن إبراهيم. قد علموا ما يدعون إليه.

(1/238)


73- باب أي وقت يقاتل العدو
روى حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن علقمة بن عبد الله المزني عن معقل بن يسار عن النعمان بن مقرن قال: شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عند القتال ولم يقاتل أول النهار أخره إلى أن تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر.
وعن ابن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا زالت الشمس نهد إلى عدوه.
وروى حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يغير حتى يصبح..
وروى الزهري عن عروة عن أسامة أن النبي صلى اله عليه وسلم قال له: " أغر على يُبنى صباحاً".
وذكر الصعب بن جسامة في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجاز

(1/239)


أن يبيتوهم ليلاً.
فاختلفت هذه الأحاديث في ظاهرها، وإنما الوجه في ذلك أنه جائز على قدر الحاجة إليه، فإن كان مطمئناً يقدر على تأخير قتالهم تحرى زوال الشمس، وإن كان لا يستطيع إلا مناجزتهم قاتلهم أي وقت كان.

(1/240)


74- باب التحريق في أرض العدو
روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سليمان بن يسارعن أبي إسحاق الدوسي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ظفرتم بفلان وفلان فحرقوهما بالنار". ثم قال: "لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا الله عز وجل، فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما".
وروى أبو إسحاق الشيباني عن الحسن بن سعد عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعذبوا بالنار فإنه لا يعذب بالنار إلا ربها".
وروى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعذبوا بعذاب الله عز وجل ".
وروى موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرق.

(1/241)


وروى الزهري عن عروة عن أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أغر على يبنى صباحاً ثم حرق ".
وروى إسماعيل عن قيس عن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا ترحني من ذي الخلصة؟ " قال: فحرقناها حتى جعلناها مثل الجمل الأجرب ثم بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فأخبره فبرك على أحمس.
فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة وإنما الوجه فيها أنه لا ينبغي أن تحرّق ذو روح بالنار، لأنه قال: "لا تعذبوا بعذاب الله عز وجل وإنما يعذب الله بالنار الإنس والجن خاصة". وإنما جاز التحريق في أرض العدو، وفي متاعهم ومنازلهم وكرومهم ونخيلهم يلتمس بذلك غيظهم

(1/242)


75- باب سهم الفارس في العدو
روى عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين، ولصاحبها سهماً.
روى ابن فضيل عن الحجاج عن أبي صالح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للفارس ثلاثة أسهم. سهمه ولفرسه سهمان.
وروى مجمع بن يعقوب عن أبيه عن عمه عبد الرحمن بن يزيد عن مجمع بن جارية أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للفارس سهمين.
فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة، وأثبت ما روي في هذا الحديث الأول. أن يكون للفارس ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه. وعلى ذلك فعل الأئمة عمر بن الخطاب وغيره.

(1/243)


76- باب قبول هدية المشركين
روى ابن عون عن الحسن عن عياض بن حمار.
وعمران القطان عن قتادة عن يزيد بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هدية وهو مشرك فردها وقال: "لا نقبل زبد المشركين ".
وروى أبوعون الثقفي عن أبي صالح عن علي رضي الله عنه أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير فأعطاه علياً رضي الله عنه..
وروى سفيان بن حسين عن علي بن زيد عن أنس أن المقوقس أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم جرةً مِنْ مَنٍ فقسمها بين أصحابه.
وروى أيضاً أن المقوقس أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم فقبلها.
فاختلفت هذه الأحاديث وهي تصرف على وجوه ثلاثة:

(1/244)


أحدها: أن يكون الحديث الذي ذكر فيه قبول هداياهم هو أثبت، وهو حديث علي رضي الله عنه، لأن حديث عياض بن حمار قد رواه غير واحد عن ابن عون عن الحسن مرسلاً.
وحديث قتادة أيضاً هو عندنا مرسل، لأن يزيد بن عبد الله روى غير هذا الحديث عن أخيه مطرف عن عياض بن حمار، ومطرف أقدم من يزيد بعشر سنين، فلا نرى يزيد سمع من عياض. فهذا وجه من الثلاثة وهو أحسنها.
والوجه الثاني. أن يكون أحد الحديثين ناسخ لصاحبه، وذلك أن عياض بن حمار كان يخالط النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، ثم أهدى له فكان هذا في أول الأمر، وكان حديث الأكيدر في آخر ذلك، لأنه كان قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بيسير..
والوجه الثالث: يكون قبول الهدية لأهل الكتاب، دون أهل الشرك، ألا ترى أن عياضاً لم يكن من أهل الكتاب، وأن الأكيدر كان في مملكة الروم وعلى دينها.
والوجه الأول أحسنها أن يكون القبول هو أثبت الخبرين.

(1/245)


77- باب في الضيافة
روى منصور عن الشعبي عن المقدام بن معدي كرب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليلة الضيف حق واجب ".
وروى ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي شريح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الضيف جائزته يومه وليلته ".
وروى محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الضيافة ثلاثة أيام، فما زاد فهو صدقة ".
وروى قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله..
فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة. والوجه عندنا فيها أن لها وجوها:
فأما قوله: يومه وليلته. فإن ذلك هو الحق الواجب الذي

(1/246)


لا يجوز تركه.
وقوله: الضيافة ثلاثة أيام فهذا للضيف، ويقول إن أقام ثلاثاً فتلك ضيافة، وليست بصدقة فلا يتوقاها فإن زاد عليها فذلك الذي يتوقاها.

(1/247)


78- باب من يجب عليه الحد
روى عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق، وهو ابن خمس عشرة فأجازه.
وروى عبد الملك بن عمير عن عطية القرظي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان أنبت فاقتلوه".
وروى حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ".
فاختلفت هذه الأحاديث في ظاهرها، ولها وجوه ولكل حديث منها موضع يعمل به فيه، وإنما هذه حدود ثلاثة فأيها سبق فهو إدراك لأنه قد يخفى معرفة سنّه فيؤخذ في احتلامه وقد يخفى احتلامه فيؤخذ بإنباته فكل ذلك علامة لبلوغ الحد الذي تجوز عليه الأحكام.

(1/248)


79- باب طاعة الأئمة
روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أطاعني فقد أطاع الله عز وجل، ومن أطاع الإمام فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله عز وجل، ومن عصى الإمام فقد عصاني".
وروى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أطاعني فقد أطاع الله عز وجل، ومن أطاع أميري فقد أطاعني".
وروى الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بايع إماماً فأعطاه ثمرة قلبه وصفقة يده فليطعه ما استطاع".
وروى شعبة عن يحيى بن الحصين عن أم الحصين جدته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أمر عليكم عبد حبشي يقودكم بكتاب الله عز وجل فاسمعوا له وأطيعوا".

(1/249)


وروى شعبة عن قتادة عن أبي مراية عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طاعة في معصية الله عز وجل ".
وروى زبيد عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف ".
وروى عبد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فمن أُمِر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
وروى محمد بن عمرو عن عمر بن الحكم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أمركم بمعصية فلا تطيعوه ".
وروى عبد الله بن عثمان بن خيثم عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طاعة

(1/250)


لمن عصى الله عز وجل".
وروى حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن زينب عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طاعة لمن عصى الله عز وجل ".
فاختلفت هذه الأحاديث في ظاهرها، فتأول فيها أهل البدع.
فأما أهل السنة: فقد وضعوها مواضعها، ومعانيها كلها متقاربة عندهم.
فأما أهل البدع: فتأولوا في بعض هذه الأحاديث مفارقة الأئمة والخروج عليهم.
والوجه فيها أن هذه الأحاديث يفسر بعضها بعضاً، ويصدق بعضها بعضاً.
فأما حديث أبي هريرة الأول الذي ذكر فيها من أطاع الإِمام فقد فسره حديث أبي هريرة الثاني الذي قال فيه: من أطاع أميري ثم بين أنه أيضاً لم يخص أميره إذا أمر بغير طاعة الله، لأنه حين بعث عبد الله بن حذافة فأمرهم أن يقحموا النار

(1/251)


فرجعوا إليه فأخبروه فقال: من أمركم منهم بمعصية فلا تطيعوا.
وأما حديث عبد الله بن عمرو فإنه قد قال فيه: فليطعه ما استطاع. فقد جعل له فيه ثنيا، وإنما يريد الطاعة في المعروف.
وحديث أم الحصين قد اشترط فيه يقودكم بكتاب الله.
وحديث علي رضي الله عنه قد فسره حين قال: إنما الطاعة في المعروف.
وحديث ابن عمر أيضاً مفسر أنه إنما أوجب الطاعة ما لم يؤمر بمعصية.
وكذلك حديث أبي سعيد.
وأما حديث ابن مسعود، وأنس فهما اللذان تأولهما أهل البدع فقالوا: ألا تراه يقول لا طاعة لمن عصى الله عز وجل، فإذا عصى الله لم يطع في شيء، وإن دعا إلى طاعة. وإنما يرد المتشابه إلى المفسر، فما جعل هذا على ظاهره أولى بالاتباع من تلك الأحاديث بل إنما يرد هذا إلى ما بيّن معناه فقوله: "لا طاعة لمن عصى الله "، إنما يريد أنه لا يطاع في معصية. كسائر الأحاديث.

(1/252)


80- باب كف الأيدي عن قتال الأئمة
روى الأعمش ومنصور عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإذا لم يستقيموا لكم فضعوا سيوفكم على عواتقكم ثم أبيدوا خضراءهم".
وهذا حديث معضل مخالف للأحاديث كلها، وفيه علل واضحة عند أهل العلم. فمن ذلك أني سمعت عفان بن مسلم يقول: لم يسمعه الأعمش من سالم، ولم يسمعه سالم من ثوبان. ومن ذلك أن سالم بن أبي الجعد لم يسمع من ثوبان شيئاً البتة، وقد أخبر عن ثوبان أنه كذبه.
وروى شعبة عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد قال: قيل لثوبان حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كذبتم عليّ قلتم عليّ ما لم أقل".
فلعله إنما أراد هذا الحديث بعينه، إنهم رووه عنه ولم يقله.

(1/253)


ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل قرشي صبرا".
ومن ذلك قوله فيه: "أبيدوا خضراءهم". فهذا لا يكون إلا بقتل صغيرهم وكبيرهم. وهذا خلاف حكم الإسلام والقرآن.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "قريش ولاة الناس في الخير والشر إلى يوم القيامة".
فكيف يكون هذا وقد أبيدت خضراؤهم؟.
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان".
وقوله: "الناس تبع لقريش في الخير والشر".
ومن ذلك قوله: "لا يحل دم أمرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث".
وهذا يقول: فإن لم يستقيموا. وقد يكون من ذلك ما لا يبلغ تحليل الدماء. فهذا حديث ذاهب لا يحتج به عالم، وقد روى هذا الحديث أيضاً من وجوه كلها ضعيفة.

(1/254)


وروى عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن القاسم بن عوف عن علي بن حسين عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أتاكم المصدقون فسألوكم الصدقة فتعدوا عليكم فقاتلوهم". وشيئاً هذا هذا معناه.
وهذا الحديث أيضاً مخالف للأحاديث، فمن ذلك: أن هشام بن حسان وقتادة رويا عن الحسن عن ضبة بن محصن عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون بعدي أمراء تعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد بريء، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع". قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا ما صلوا".
فهذا عن أم سلمة، وذاك عن أم سلمة، وهذا أثبت الإسنادين، وهذا موافق للأحاديث، وذاك مخالف لها. وهذا ضبة بن محصن الذي وفد عمر يشكو أبا موسى حتى جمع بينه وبينه وكان له قدر عظيم. وذلك الإسناد ليس بثابت.
ومما يخالفه أيضاً حديث جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتاكم المصدق فلا يفارقكم إلا عن رضى".

(1/255)


ومن ذلك حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم"سيأتيكم ركب مبغضون- يعنى المصدقين- فأدوا إليهم صدقاتكم وارضوهم فإن من تمام زكاتك مرضاهم".
وروى عامر بن السمت عن معاوية بن إسحاق عن عطاء بن يسار عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون أمراء- فذكر من فعلهم ثم قال- فمن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن".
وهذا أيضاً خلاف الأحاديث، وهو إسناد لم يسمع حديث عن ابن مسعود بهذا الإسناد غيره، وقد جاء الإسناد الواضح عن ابن مسعود بخلافه.
روى الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سترون بعدي أثرة وفتناً وأموراً تنكرونها". قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله. قال: "تودون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم".

(1/256)


وهذا عن ابن مسعود، وذاك عن ابن مسعود، وهذا أثبت الإسنادين، وهو موافق للأحاديث، وذاك مخالف، ثم تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فكثرت عنه، وعن الصحابة والأئمة بعدهم- رضي الله عنهم- يأمرون بالكف، ويكرهون الخروج، وينسبون من خالفهم في ذلك إلى فراق الجماعة، ومذهب الحرورية وترك السنة.

(1/257)


81- باب الانتفاع بالغنائم
روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي مرزوق مولى تجيب عن رويفع بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركبن دابة من فيء المسلمين فإذا أعجفها ردها فيه ولا يلبس ثوباً من فئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه".
وروى سفيان عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله أنه قال: أنتهيت إلى أبي جهل فضربته بسيفي فلم يغن شيئاً فأخذت سيف أبي جهل فضربته حتى قتلته".
فهذان الحديثان في ظاهرهما مختلفان، وإنما الوجه فيهما أن يوضع كل واحد منهما موضعه، فإذا كان في موضع الضرورة يستعين به على النكاية فيهم مثل صنيع ابن مسعود فذلك لا يدفع، وما كان يريد به أن يبقى على دابته، ويركب دابة من المغنم، أو يبقي على ثوبه، أو سلاحه أو العمل بالشيء على غير ذلك الوجه فهو المنهي عنه.

(1/258)


82- باب في آنية المشركين
حديث أبي ثعلبة هو من وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأله عن آنية العدو. فقال: "استغنوا عنها ما استطعتم فإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها واشربوا".
فقال هاهنا: استغنوا عنها وإن احتجتم فاغسلوها، وسائر الأحاديث وظاهر القرآن على الرخصة في طعامهم وأكل جبنهم وخبزهم، وهم يصنعون ذلك في آنيتهم.
وروى عطاء عن جابر كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يمتنع أن يأكل في آنيتهم، ونشرب في أسقيتهم ".
وروى سماك عن قبيصة بن هلب عن أبيه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن طعام النصارى فقال: "لا يتحلّجن في صدرك طعام ضارعت فيه النصرانية".
ومن ذلك ما لا يدفع من أكل خلهم وألبانهم وغير ذلك من أشربتها وأطعمتهم، وإنما هي في آنيتهم.

(1/259)


فالوجه في ذلك أن يوضع كل شيء في موضعه، فإن كان من طعامهم معمولاً في شيء من آنيتهم فلا بأس بأكله وشربه كما جاء الحديث، وإذا كان شيء من الآنية فارغاً فاحتيج إليه غسل واستعمل كما جاء الحديث.

(1/260)


83- باب في الركاز يوجد
روى الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الركاز الخمس ".
وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
ومجالد عن الشعبي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
ومحمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله..
وروى عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1/261)


قال: "في الركاز العشور". فهذا مخالف لتلك الأحاديث، وتلك الأحاديث أثبت وهي التي يعتمد عليه.

(1/262)


84- باب المرتد ما يصنع به
روى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بدل دينه فاقتلوه".
وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أنس.
وأبو رجاء مولى أبي قلابة عن أنس.
وسماك عن معاوية بن قرة عن أنس.
وقتادة عن أنس.
وحميد عن أنس.
وعبد العزيز بن صهيب عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع أيدي أولئك الذين قدموا عليه فأسلموا فبعث بهم إلى إبله ليشربوا من ألبانها فقتلوا الراعي، واستاقوا النعم وارتدوا فقطع أيديهم

(1/263)


وأرجلهم، وسمر أعينهم، تم تركهم في الشمس حتى ماتوا.
فاختلف هذان الخبران، وإنما الحكم في المرتد أن يقتل.
وأما حديث أنس هذا فقد تأوله الناس على وجهين:
أحدهما: أحسن من الآخر. فأما ابن سيرين فقال: كان هذا قبل أن تحد الحدود.
وأما أبو قلابة فذهب إلى أن هؤلاء محاربين يريد قول الله عز وجل {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} .
وهذا أحسن الوجهين عندنا، وأبين ذلك عندنا أن يكون هذا في مثل جرم أولئك خاصة، ولا يكون هذا في غيره، وذلك لأنهم قد سمر أعينهم. وقال بعضهم: سمل أعينهم. وكل ذلك لا يفعل بالمحارب، فقد بين هذا أن سنة هؤلاء غير سنة المحاربين، ولكن يكون في مثل فعل هؤلاء خاصة أن يفعل بمن فعل مثل فعلهم مثل الذي فعلوا، ولهذا أشباه في العلم أن يعمل بالشيء في موضعه مثل الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر الذي وقع على امرأته في شهر رمضان فلم يجد ما

(1/264)


يكفر فأعطاه ما يكفر به عن نفسه فأخبره بضرورته فرخص له في أكله، فلا يكون هذا في غير ذلك من الكفارات أن يأكل الرجل ما يكفر به ولا يطعمه عياله.

(1/265)


85- باب في البداوة
روى شريك عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدو إلى هذه التلاع.
وروى إسماعيل بن زكريا عن الحسن بن الحكم عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من بدا جفا.
وروى سفيان عن أبي موسى اليماني عن وهب بن منبه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بدا جفا".
واختلفت هذه الأحاديث في ظاهرها ولها وجوه، فأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنما وجهه أن يبرز إلى بعض التلاع الساعة من النهار أو اليوم أو شبهه، وأما الكراهة فإنها لمن لزم البادية وترك الأمصار والجماعات.

(1/266)


86- باب الكفارة قبل الحنث
روى أبو بكر بن عياش عن عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طرفة عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من حلف على يمين فرأى خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه". فجعل الكفارة في هذا بعد الحنث.
وروى الأعمش عن عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طرفة عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر يمينه، ويأتي الذي هو خير". فجعل الكفارة قبل الحنث.
وروى هشام عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا حلفت على يمين فرأيت خيراً منها فكفر عن يمينك، وات الذي هو خير". فبدأ هذا أيضاً بالكفارة قبل الحنث.

(1/267)


وروى.. .. .. عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا حلفت على يمين فرأيت خيراً منها، فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك". فجعل هذا الكفارة بعد الحنث.
روى سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بيمين فرأى خيراً منها فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير". فجعل الكفارة قبل الحنث.
وروى أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن أُذينة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف على يمين فرأى ما هو خير منها فليأتِ الذي هو خير، وليكفر عن يمينه".
وروى الهيثم بن حميد عن زيد بن واقد عن بسر بن عبيد الله عن ابن عائذ عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا

(1/268)


حلفت فرأيت أن غير ذلك أفضل كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو أفضل". فجعل هذا الكفارة قبل الحنث.
فاختلفت هذه الأحاديث في ظاهرها، وإنما الوجه في ذلك أنه جائز كله أن يكفر قبل أو بعد. وبيان ذلك في كتاب الله عز وجل حين فرض كفارة الظهار قبل أن يتماسا، فهذه كفارة قبل وجوبها، لأنه لو طلقها بعد أن ظاهر منهالم يلزمه كفارة وإنما كفر للذي أراد من الفعل فكذلك الذي يكفر يمينه قبلاً خشية هو أن ينوي أن يحنث. وقد اختلفت الأحاديث في ذلك عن الصحابة فما الوجه في ذلك إلا أنهم كانوا يجعلون ذلك معنى واحداً قدم الكفارة أم أخرها فسموا وأبين ذلك في الرواية.
روي عن سفيان عن هشام عن أبيه عن عائشة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير. فبدأ بالكفارة قبل الحنث.
ورواه وكيع عن هشام عن أبيه عن عائشة عن أبي بكر

(1/269)


رضي الله عنه قال: "لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني". فبدأ هذا بالحنث قبل الكفارة.
وكذلك أيضاً عن عمر حدثني أبو الطباع عن شريك عن أبي حصين عن قبيصة بن جابر عن عمر رضي الله عنه قال: "إذا حلفت على يمين فرأيت خيراً منها كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير معناه". فبدأ بالكفارة.
ورواه أبو نعيم عن شريك عن أبي حصين عن قبيصة بن جابر عن عمر فذكر فيه أن يبدأ بالحنث قبل الكفارة.
آخر كتاب الناسخ والمنسوخ

(1/270)