ناسخ الحديث ومنسوخه للأثرم

الجزء الثاني من كتاب ناسخ الحديث ومنسوخه
تأليف أبي بكر أحمد بن محمد بن هانئ الطائي الأثرم
مما رواه عنه أبو الحسن علي بن يعقوب بن إبراهيم الكوسج رواية أبي الحسن علي بن محمد بن سعيد الموصلي الخفاف عنه رواية الشيخ أبي جعفر محمد بن أحمد بن محمد بن المسلمة عن أبي الحسين محمد بن عبد الله بن أخي ميمي إجازة عنه.

(1/123)


بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرنا الشيخ أبو جعفر محمد بن أحمد بن محمد بن المسلمة قراءةً عليه قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبد الله بن أخي ميمي إجازةً قال: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن سعيد الخفاف الموصلي، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن يعقوب الكوسج قال: قال أبو بكر الأثرم رحمه الله:

(1/125)


38- باب كم ركعة تصلى الضحى
روى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أم هانئ: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ثمان ركعات.
وروى خالد عن حميد عن محمد بن قيس عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها ست ركعات.
وروى شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى أربعاً.
وروى محمد بن إسحاق عن موسى بن أنس عن ثمامة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة)) .

(1/127)


وروى أبو عوانة عن حصين عن عمرو بن مرة عن عمار بن عاصم عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ركعتين.
فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة، وإنما الوجه في ذلك أنه غير واجب، فمن شاء تركه أجمع ومن شاء استقل منه ومن شاء استكثر.
وفي ذلك بيان في حديث رواه أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر عن حسين بن عطاء بن يسار عن زيد بن أسلم عن ابن عمر عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن صليت الضحى ركعتين لم تكتب من الغافلين، وإن صليت أربعاً كتبت من العابدين، وإن صليت ستاً لم يتبعك في ذلك اليوم ذنب، وإن صليت ثمانياً كتبت من القانتين، وإن صليت ثنتي عشرة بنى الله عز وجل لك بيتاً في الجنة)) .
فهذا حديث قد جمع تلك الأحاديث وبين المعنى فيها أنه إنما هو فضل، فمن شاء ازداد منه ومن شاء انتقص.

(1/128)


39- باب في مسح الحصى في الصلاة
روى الزهري عن أبي الأحوص عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا [يمسح] الحصى)) .
وروى يزيد بن عبد الملك عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تمسوا الحصى)) .
وروى هشام عن يحيى عن أبي سلمة عن معيقيب أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مس الحصى، فقال: ((إن كنت لابد فاعلاً، فواحدة)) .
وروى ابن أبي ليلى عن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مسح الحصى: ((واحدة أو دع)) .

(1/129)


وروى ابن أبي ذئب عن شرحبيل عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مسح الحصى: ((واحدة)) .
وفي هذا أحاديث.
فاختلفت الرواية في هذا الباب، وأثبت ما في ذلك حديثان؛ حديث أبي ذر في الكراهة، وحديث معيقيب في الرخصة، ونرى أن الرخصة بعد الكراهية.
ومما يدل على ذلك أن أبا ذر قد روى ذاك الحديث ثم صح عنه أنه رخص في ذلك: روى عمرو بن دينار عن محمد بن طلحة بن ركانة عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال: قال لي أبو ذر: إن الأرض لا تمسح إلا واحدة.
وقد ذكرنا أيضاً الكراهية عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم روي عنه أيضاً الرخصة: وروى الليث عن مجاهد عن أبي هريرة أنه رخص أن يسووا الحصى في الصلاة مرة

(1/130)


واحدة.
وحديثه المرفوع ليس بالقوي، وهذا أيضاً ليس بالقوي.
فقد صحت الرخصة في هذا الباب.

(1/131)


40- باب في النعلين: أين يضعهما المصلي
روى حماد بن سلمة عن أبي نعامة عن أبي نضرة عن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلع نعليه وهو يصلي فوضعهما عن يساره.
وروى ابن جريج عن محمد بن عباد عن عبد الله بن سفيان عن عبد الله بن السائب: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم يوم الفتح فجعل نعليه عن يساره.
وروى ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا صلى أحدكم فليجعل نعليه بين رجليه)) .
فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة، وإنما الوجه فيها:

(1/132)


أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو للإمام؛ لأنه كان إماماً وليس عن يساره في إمامته أحد يشغله النعلان عن صلاته إذا جعلهما عن يساره.
وحديث أبي هريرة هو لمن خلف الإمام؛ لأنه إن وضعهما عن يمينه أو عن يساره شغل بهما من يليه، وبيان ذلك في حديث رواه أبو عامر الخزاز عن عبد الرحمن بن فلان عن يوسف بن ماهك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه ولا عن يساره فتكون عن يمين غيره، إلا أن لا يكون عن يساره أحد)) فقد بين في هذا أنه إذا لم يكن عن يساره أحد جاز له أن يجعلهما عن يساره.

(1/133)


41- باب الجهر بالتأمين
روى الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أمن الإمام فأمنوا)) .
(ففي هذا الحديث بيان الجهر بالتأمين؛ لأنه قد قال: ((إذا أمن الإمام فأمنوا)) ) فقد بين أن تأمين الإمام يسمع، فيؤمن من خلفه بتأمينه، وفيه ما هو أبين من هذا:
روى عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: ولا الضالين، جهر بآمين، ويأمرنا بذلك.
وروي الجهر بالتأمين من وجوه:
منها عن علي وعن عائشة رضي الله عنها، وعن وائل بن حجر،

(1/134)


وروى شعبة عن سلمة بن كهيل عن حجر بن عنبس عن وائل بن حجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: ((ولا الضالين)) ، قال: ((آمين)) ، يخفيها [يمد] بها صوته.
فاضطرب شعبة في هذا الحديث في إسناده، وفي كلامه:
قال مرة: عن سلمة عن حجر عن وائل،
وقال مرة: عن سلمة عن حجر بن عنبس عن علقمة بن وائل أو عن وائل، وقال مرة: عن سلمة عن حجر عن علقمة بن وائل عن أبيه.
ورواه سفيان فلم يضطرب في إسناده ولا في الكلام، قال:
عن (سلمة عن) حجر عن وائل عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يجهر بها.
ثم روى ذلك عن وائل من وجه آخر.

(1/135)


حدثنا علي بن يعقوب قال: حدثنا أبو بكر الأثرم قال: حدثنا أبو عبد الله قال: حدثنا أبو بكر بن عياش قال: حدثنا أبو إسحاق عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: ((ولا الضالين)) ، قال: ((آمين)) ، يسمعناها)) .
فقد صح الجهر بالتأمين من وجوه، ولم يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيءٌ غيره.

(1/136)


42- باب اختيار قصر الصلاة في السفر
روى سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: فرضت الصلاة ركعتين ثم زيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر.
وروى سفيان بن سعيد عن زبيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى بكير بن الأخنس عن مجاهد عن ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين.
وروى أبو إسحاق عن أبي السفر عن سعيد بن شقيق عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر صلى ركعتين حتى

(1/137)


يرجع.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
وروى مغيرة بن زياد عن عطاء عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتم في السفر ويقصر.
وروى عمران بن زيد التغلبي عن زيد العمي عن أنس: كنا نسافر، فمنا المتم ومنا المقصر، فلا يعيب بعضنا على بعض.
وتلك الأحاديث الأولى هي أثبت، وليس هاذان بشيء.

(1/138)


43- باب متى يتم المسافر الصلاة إذا قدم غير بلده
روى علي بن زيد عن أبي نضرة عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة أقام بها ثماني عشرة يقصر الصلاة.
وروى يحيى بن أبي إسحاق عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في حجته عشراً يقصر الصلاة.
وروى ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام حين فتح مكة خمس عشرة يقصر الصلاة.
وأما عاصم عن عكرمة عن ابن عباس فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أقام سبع عشرة ليلة يقصر الصلاة.
فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة ولها معاني:
فأما حديث ابن عباس وعمران بن حصين في إقامة النبي

(1/139)


بمكة في الفتح فإنه لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم عزيمةٌ تعلم.
وكذلك السنة في من لم يعزم، أنه يقصر ما أقام، كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أقام عدة منهم سنتين يقصر الصلاة.
وأما حديث أنس فإن حسب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ومنى كله، روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم لصبح رابعة من ذي الحجة، فحسب أنس اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن يوم التروية، والتاسع يوم عرفة، والعاشر يوم النحر، فهذه سبع من مقدمه، وثلاثة أيام التشريق، إلى أن نفر، فتلك عشرٌ، وإنما كانت عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم في الإقامة إلى يوم التروية؛ لأنه ابتدأ السفر من حين ظعن من مكة إلى منى وعرفة، وذلك أنه رجع إلى مكة فلم يقم بها، فقد صحت عزيمته على إقامة أيام يصلي فيها أربعاً وعشرين صلاة مكتوبة، فقصر فيها، فهذا أصل هذا الباب لمن عزم على أن يقيم بقدر ذلك، فإذا عزم على إقامة أكثر من ذلك، أتم للاختلاف فيحتاط.

(1/140)


44- باب الجمع بين الصلاتين في السفر
روى الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في السفر.
وروى أبو الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم،
وأبو الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم،
وعبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم،
والزهري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم،
ويزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم،

(1/141)


وفيه أحاديث كثيرة.
وروى الأعمش عن عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة إلا لوقتها، إلا المغرب والعشاء بجمع.
وروى معتمر عن أبيه عن حنش عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من جمع بين صلاتين من غير عذر، فقد أتى باباً من أبواب الكبائر)) .
فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة وتلك الأولى أصح.
فأما حديث ابن مسعود، فإنه لم يحفظ من ذلك ما حفظ غيره، والذي حفظ السنة، فأداها، أحج من الذي لم يحفظ، وإنما قال: ما رأيت، كما قال ابن عمر حين ذكر القنوت: ما رأيت ولا علمت، وأنكر المسح على الخفين، ومثل هذا كثير.
ومثل ذلك أن أبا بكر في علمه بالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف ميراث الجدة، حتى أخبره من ليس له مثل علمه: المغيرة بن شعبة، ووافقه محمد بن مسلمة، فأين هاذين من أبي بكر؟!
ومن ذلك أنه لم يعلم دية الأذنين، وقد روى ذلك عن

(1/142)


النبي صلى الله عليه وسلم من هو دونه: عمرو بن حزم.
ومن ذلك أن عمر لم يعلم دية الجنين، حتى حدثه حمل بن مالك بن النابغة، فأين هذا من عمر؟!
ومن ذلك أنه لم يعلم حديث الاستئذان حتى حدثه أبو موسى وأبو سعيد الخدري.
ومن ذلك أنه لم يعلم ميراث المرأة من دية زوجها حتى حدثه الضحاك بن سفيان.
ومن ذلك أنه لم يعلم السنة في جزية المجوس حتى حدثه عبد الرحمن بن عوف.

(1/143)


45- باب صلاة الاستسقاء والخطبة
روى سفيان عن هشام بن إسحاق بن عبد الله بن كنانة عن أبيه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الاستسقاء ركعتين ولم يخطب خطبتكم هذه.
وروى النعمان بن راشد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الاستسقاء ركعتين ثم خطب.
فهذان الحديثان في ظاهرهما مختلفان، وليسا كذلك، وإنما الوجه في حديث ابن عباس أنه أنكر تطويل خطبهم في الاستسقاء، فقال: ولم يخطب خطبتكم هذه، ولم يقل: إنه لم يخطب.

(1/144)


46- باب فضل الصلاة في الجماعة
روى عطاء بن السائب عن أبي الأحوص عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فضل صلاة الجماعة بضع وعشرين درجة)) .
والزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خمس وعشرين درجة)) .
وهلال بن ميمون عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أيضاً.
وعبد الرحمن بن عمار عن القاسم بن محمد بن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وكذلك روي من وجوه.
فأما عبيد الله ومالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((سبع وعشرين درجة)) .

(1/145)


وفي بعض الحديث: ((أربع وعشرين درجة)) .
فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة، وإنما الوجه فيها عندي كنحو قوله: ((إن منكم من يصلي الصلاة وما له منها إلا عشرها أو تسعها)) حتى انتهى إلى آخر العدد، فهم يتفاضلون على معاني: إما على الخشوع وحسن القيام في الصلاة والاشتغال بها وحسن الركوع والسجود وإقامتها على فرضها وسنتها وعلى بعد المنازل من المساجد وكثرة الخطا وغير ذلك.
وقد ذكر في فضل الجماعة أكثر من ذلك حتى قيل: ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة مائة تترى)) رواه قباث بن أشيم عن النبي صلى الله عليه وسلم تسليماً.

(1/146)


47- باب رفع اليدين في الدعاء
روى شعبة عن قتادة عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه في الدعاء [إلا] في الاستسقاء.
وروى سليمان التيمي عن بركة عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الاستسقاء.
وروى الجريري عن حيان بن عمير عن عبد الرحمن بن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الدعاء في الكسوف.
وروى يزيد بن أبي زياد عن سليمان بن عمرو عن أبي هلال عن أبي برزة: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على رجلين فرفع يديه.

(1/147)


وروى خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا رفع يديه.
فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة، وإنما الوجه في ذلك أن أنساً لم يحفظ ذلك منه إلا في الاستسقاء، وحفظه غيره من الاستسقاء وغيره من الدعاء.
فالذي حفظ السنة فأداها أحج من الذي لم يحفظ.

(1/148)


48- باب صلاة الليل كم هي ركعة
روى ابن عيينة عن ابن أبي لبيد عن [أبي سلمة عن] عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة منها ركعتي الفجر.
وروى الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة.
وروى شعبة عن أبي جمرة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة.
وروى يحيى بن سعيد عن شرحبيل عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى من الليل ثلاث عشرة ركعة.
وروى سلمة بن كهيل عن كريب عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالليل ثلاث عشرة ركعة أو إحدى عشرة.

(1/149)


وروى فضيل بن مرزوق عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل ثمان ركعات.
وروى الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل تسع ركعات.
وروى عمارة بن زاذان عن أبي غالب عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل سبع ركعات.
فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة، وإنما الوجه فيها أن ذلك كله جائز وكلٌ كان يفعل.

(1/150)


49- باب التطوع على الراحلة في السفر
روى ابن أبي ذئب عن عثمان بن عبد الله بن سراقة عن جابر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته نحو المشرق في غزوة أنمار.
وروى هشام عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وروى سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وعمرو بن يحيى عن سعيد بن يسار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وسفيان عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وعبد الملك عن سعيد بن جبير عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1/151)


نحوه.
وهو أيضاً من وجوه سوى هذا.
وروى ربعي بن عبد الله بن الجارود عن عمرو بن أبي الحجاج عن الجارود بن أبي سبرة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يتطوع على راحلته استقبل القبلة فكبر، ثم صلى حيث توجهت به.
فهذا الحديث كأنه في الظاهر خلاف تلك الأحاديث وإنما الوجه في ذلك أن هذا مفسرٌ لتلك الأحاديث.

(1/152)


50- باب القرآن في كم يختم
روى شعبة وهمام عن قتادة عن يزيد بن عبد الله بن الشخير عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يفقه من قرأ في أقل من ثلاث)) .
وروى عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((اقرأه في سبع، لا تزد على ذلك)) .
وروى ابن لهيعة عن حبان بن واسع عن أبيه عن سعد بن المنذر أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أقرأ القرآن في ثلاث، قال: ((إن استطعت)) .
وروى معمر عن سماك بن الفضل عن وهب بن منبه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقرأه في أربعين، فلم يزل يناقصه حتى انتهى إلى

(1/153)


سبع.
وروى أبان العطار عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقرأه في شهر، ثم لم يزل يناقصه حتى انتهى إلى سبع.
وروى هشام الدستوائي عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يقرأه في سبع، قال: فما زلت أناقصه حتى قال لي: ((اقرأه في يوم وليلة)) .
فهذه الأحاديث مختلفة في ظاهرها، وإنما الوجه فيها: أن ذلك على قدر الإطاقة، فمن أطاق: قرأ به في أدنى ما جاء من ذلك، ومن لم يطق: كانت الرخصة له إلى الأربعين.

(1/154)


51- باب الصلاة الوسطى
روى الأعمش عن أبي الضحى عن شتير بن شكل عن علي رضي الله عنه: أن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر، قال: ((شغلونا عن الصلاة الوسطى)) .
وكذلك روى عاصم عن زر عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وشعبة عن قتادة عن أبي حسان عن عبيدة عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلاة الوسطى صلاة العصر)) .
وروي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة.
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم عن

(1/155)


أبي يونس عن عائشة رضي الله عنها أنها أمرته أن يكتب لها مصحفاً، فأمرته أن يكتب (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر) وقالت: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الحديث في ظاهره كأنه مخالف لسائر الأحاديث، وليس كذلك، ولكن الوجه فيه: أن الله عز وجل إنما ذكر الصلاة الوسطى وأمر بالمحافظة عليه أمراً بعد أمر، فقال: {حافظوا على الصلوات} ، فلا يشك أنه قد دخل في ذلك صلاة العصر لأنها من الصلوات، ثم قال: {والصلاة الوسطى} .
فأمر بالمحافظة عليها أمراً ثانياً، ثم قال: (وصلاة العصر) توكيد بعد توكيد.
والدليل على ذلك ظاهر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي العصر.
ومما يبين ذلك أن عائشة نفسها قد قالت: إن الصلاة الوسطى هي العصر: كذلك روى محمد بن عمرو عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: صلاة الوسطى هي صلاة

(1/156)


العصر.
وروى سليمان التيمي عن قتادة عن أبي أيوب عن عائشة قالت: صلاة الوسطى هي العصر.
فهذا يبين لك أن تأويل الآية التي ذكرت عائشة أنها سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وصفنا.

(1/157)


52- باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كيف هي
روى شعبة ومسعر عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد)) وقال بعضهم: ((وعلى آل محمد)) ، ((كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وآل محمد)) وقال بعضهم: ((وعلى آل محمد)) ، ((كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد)) .
وروى يزيد بن عبد الله بن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم)) .
وروى داود بن قيس عن نعيم بن عبد الله المجمر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين، إنك حميد

(1/158)


مجيد)) .
وروى معمر عن ابن طاووس عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ((اللهم صل على محمد (وعلى أهل بيته وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد [وبارك] على محمد وعلى أهل بيته وعلى أزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد)) .
روى مجمع بن يحيى عن عثمان بن موهب عن موسى بن طلحة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما

(1/159)


باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)) .
وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن محمد بن عبد الله بن زيد عن عقبة بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)) .
وروى مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرو بن سليم عن أبي حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد)) .
وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي داود عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قالوا: اللهم [اجعل] صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وآل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)) .

(1/160)


فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة، وإنما الوجه في ذلك أنه كله جائز، فما كان منها صحيح الإسناد، فمن عمل بشيء مما صح منها جاز، وكل هذا الباب صحيح الإسناد، إلا حديث بريدة وحديث الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يسم.
فأما حديث بريدة ففي إسناده رجل متروك.
وأما الآخر فمرسل.
ثم سائر الأحاديث حسان وبعضها أصح من بعض ونختار حديث كعب بن عجرة الأول لجودة إسناده.

(1/161)


53- باب تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة))
روى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه)) .
وروى همام عن قتادة عن يزيد بن عبد الله بن مطرف عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم)) .
وروى قتادة عن أبي حسان عن ناجية بن كعب عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد يولد مؤمناً، ويعيش مؤمناً، ويموت مؤمناً، والعبد يولد كافراً، ويعيش كافراً، ويموت كافراً)) .
وروى معتمر عن أبيه عن رقبة عن أبي إسحاق عن

(1/162)


سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً، ولو أدرك لأرهق أبويه طغياناً وكفراً)) .
فاختلفت هذه الأحاديث في ظاهرها وليست كذلك لأن لها وجوهاً عند من فهمها، وليست هذه من الأحاديث التي تختلف؛ لأنها إنما هي أخبار مؤداة، وإنما تختلف الأحاديث في التحليل والتحريم للأمر يكون بعد الأمر، والرخصة بعد الشدة، فأما الأخبار المؤداة عن الله عز وجل فهي غير مختلفة، وإنما يؤتى بعض الناس فيها من قلة المعرفة بوجهها، إلا أنه ربما جاء الحديث الضعيف فذاك مما لا يعتد به.
فأما قوله: ((كل مولود يولد على الفطرة)) فإن بيان وجه هذا الكلام في كتاب الله عز وجل، وفي الأحاديث بعد، وذلك قول الله عز وجل: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} .
ثم جاءت الأحاديث بتفسير ذلك: أن الله عز وجل أخذهم في صلب آدم كهيئة الذر، فأخذ عليهم جميعاً العهد والميثاق بأنه ربهم، فأقروا له بذلك أجمعون، ثم

(1/163)


[ردهم] في صلب آدم.
وقال في آية أخرى: {فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} ، فكان بدو ما ابتدأ الله به فطرة الخلق أجمعين قبل أن يخلقهم على الإقرار به، وإنما معنى الفطرة ها هنا: ابتداء الخلق، ولا يعني بذلك فطرة الإسلام، ألا تراه يقول: {لا تبديل لخلق الله} مما يبين قوله: {الحمد لله فاطر السموات والأرض} .
يعني أنه بدأ خلقها، ومما يبين ذلك حديث ابن عباس أنه اختصم إليه أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يعني ابتدأتها.
وقال: {قل الذي فطركم أول مرةٍ} يعني ابتدأ خلقهم،
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللبن: الفطرة)) أي أنه ابتداء ما يغذى به الصبي، وقد قال: ((اعتبروا الرؤيا بأسمائها)) ، فلما

(1/164)


كان اللبن يبتدأ به الصبي، تأوله في فطرة الإسلام.
وذلك أن الكلمة الواحدة من كلام العرب تستعمل في مواضع كثيرة، قال الله عز وجل: {وكذلك جعلناكم أمةً} فهذا له معنى، وقال: {إن إبراهيم كان أمةً} ، فجعل في تلك الآية أهل الإسلام أجمعين أمة، وجعل في الآية الأخرى إبراهيم وحده أمة، فهذا له معنى آخر، وقال: {واذكر بعد أمةٍ} فهذا له معنى ثالث، يعني به بعد نسيان، وقال: {أخرنا عنهم العذاب إلى أمةٍ} ، فهذا له معنى رابع [يعني] إلى أجل، ومما يبين ذلك أنه لم يعن بقوله: كل مولود يولد على الفطرة، كل مولود يولد على الإسلام: ما اجتمعت عليه الأمة على تأويل الكتاب والسنة أنه لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، ثم أجمعوا على أن اليهودي والنصراني والمجوسي إن مات وله ولد رضيع أو صغير، أنه يرثه، وأنه إن مات ولده الصغير أو أخوه ورثه الكافر الكبير؛ لأنه على دينه، فلو كان المولود على الفطرة معناه أنه ولد على الإسلام ما ورثه إلا المسلمون، ولما دفن إلا معهم، فهذا وجه قوله: ((كل مولود يولد على الفطرة)) ،

(1/165)


وإنما أراد أنهم كلهم يولدون على تلك البداية التي كانت في صلب آدم، فمنهم من جحدها بعد إقراره بها من الزنادقة الذين لا يعرفون الله عز وجل ولا يقرون به وغيرهم ممن لم يبلغه الإسلام في أقطار الأرض الذين لا يدينون ديناً، وسائر الناس بعد من أهل الملل مقرون بتلك الفطرة التي بدئ عليها خلقهم، فلست تلقى أحداً من أهل الملل وإن كان كافراً إلا وهو يقر بأن الله ربه، وهو في ذلك بالله كافرٌ حين خالف شريعة الإسلام.
وأما حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكر فيه أن الله قال: ((خلقت عبادي حنفاء)) فإنما هو شبيه بقوله: ((كل مولود يولد على الفطرة)) وهذا أيضاً يوضح لك أن الفطرة في ذلك الحديث إنما أراد بها الخلق، ألا تراه يقول: ((خلقت عبادي حنفاء)) وذلك أنه لم يدعهم يوم أخذهم في صلب آدم إلا إلى حرف واحد، فأجابوه، فلزمهم في ذلك الموقف اسم الطاعة والاستجابة؛ لأنه قال: {ألست بربكم قالوا بلى} وهذا يشبه تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)) فقال العلماء: إن هذا كان قبل نزول الفرائض، يقول: لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس في أول الأمر إلى

(1/166)


ترك الأوثان [] الأنداد، ورفض الأصنام، وأن يقروا بأنه لا إله إلا الله، ووعدهم على ذلك الجنة [فأ] جابه من أجابه، ثم فرض عليهم الصلاة، ولم يكونوا ملومين في ترك الصلاة [قبل أن تفرض] عليهم، فلما فرضت عليهم وجب عليهم الأخذ بها، وكانوا بتركها كفاراً.
ثم كذلك شرائع الإسلام التي أمروا بها، فخلق الله عباده يوم أخذهم في صلب آدم كهيئة الذر على الإقرار به وعلى الطاعة فيما أمرهم به.
وأما قوله: ((فإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم)) فإن الشياطين أتتهم بتسليط الله عز وجل وإذنه، ولولا ذلك لم يطيعوهم؛ لأنه قال: {أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً} وقال لإبليس لعنه الله: {واستفزز من استعطت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم} ، ثم قال: {وما يعدهم الشيطان إلا غروراً} فهو الذي أمره أن يعدهم ثم نسب ذلك إليه، فكذلك نسب الفعل إلى الشياطين.

(1/167)


ولولا إرادة فعلهم لم يكن؛ لأنه لا فعل في ملكه ولا يكون شيء في السموات ولا في الأرضين وما بينهن جميعاً إلا بمشيئته، فمن شك في ذلك طرفة عين من دهره فقد كفر بالله ووحيه.
وأما قوله: ((إن العبد يولد مؤمناً.. .. والعبد يولد كافراً)) . وهذا حديث ابن مسعود، فقد فسر هذا حديث ابن مسعود الآخر الذي [هو أصح] ، إسناداً من حديث أبي حسان عن ناجية بن كعب عن عبد الله، وهو حديث سلمة بن كهيل والأعمش عن يزيد بن وهب عن عبد الله قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله عز وجل إليه الملك فيقال: اكتب أجله وعمله ورزقه وشقيٌّ أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح)) فهذا هو الذي يكون بعد ما يكون في بطن أمه أربعة أشهر مما يثبت الله عز وجل عند ذلك من الشقوة أو السعادة، ومن الكفر أو الإيمان، وذلك الذي كان فطره عليه في صلب آدم شيءٌ فقد مضى عليه أول الخلق.

(1/168)


وأما حديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً)) فإن معناه شبيه بمعنى حديث أبي حسان؛ لأن الطبع عين الفطرة، فالطبع هو الذي يكون في بطن أمه من تمام خلقه وإحكام صورته ونفخ الروح فيه على ما قدر الله له من الهدى والضلالة.
فهذه الأحاديث كلها يرجع معناها إلى أمرٍ واحدٍ على تأول أهل السنة والعلم.

(1/169)


54- باب الصوم في السفر
روى الزهري عن صفوان بن عبد الله عن أم الدرداء عن كعب بن عاصم عن النبي عليه السلام قال: ((ليس من البر الصيام في السفر)) .
وروي مثل هذا عن ابن عمر وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى يونس بن يزيد عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصائم في السفر كالمفطر في الحضر)) .
وحديث كعب بن عاصم قال فيه بعضهم: ((ليس البر أن تصوموا في السفر ولم يقل: ((من البر)) وحديث جابر أيضاً قال فيه بعضهم: ((ليس البر)) .
وروى عاصم الأحول عن مورق عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم

(1/170)


كان في سفر فمنهم صائم ومنهم مفطر، فقام المفطرون فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ذهب المفطرون بالأجر)) .
وقال الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر ثم أفطر.
وروى سعيد بن أبي أيوب عن يزيد بن أبي حبيب عن كليب بن ذهل عن عبيد بن جبير عن أبي بصرة: أنه أنكر على من صام في السفر؛ وقال: أيرغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وروى ليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن منصور الكلبي عن دحية الكلبي أنه أيضاً أنكر ذلك، وقال: إن قوماً رغبوا عن هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
والحديث في كراهة الصوم في السفر كثير.
وروى هشام بن سعد عن عثمان بن حيان عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في يوم شديد

(1/171)


الحر، وما فينا صائم إلا النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة.
وروى مالك عن سمي عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: حدثني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم [يصب] على رأسه الماء بالعرج وهو صائم.
وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصوم في السفر، فقال: ((إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر)) .
وروى حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر وأفطر.
وروى ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر وأفطر.
وروى سعيد بن أبي عروبة عن عبد السلام عن حماد عن

(1/172)


إبراهيم عن علقمة عن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر وأفطر.
فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة، وإنما الوجه في ذلك أن أول الأمرين كان في اختيار الصوم في السفر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر ثم أفطر، فاختاروا الفطر لقوله: إنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما هذه الأحاديث التي ذكر [.. ... ] أنه كان يصوم في السفر، فإن وجه ذلك أن يكون في أول الأمرين.
وأما قوله لحمزة بن عمرو: ((إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر)) فإنه مفسرٌ في حديث آخر: أن حمزة كان رجلاً يعالج الظهر فيكريه [.. ... ] السفر [.. ... ] مقامه بمنزلة الملاحين والمختلفين، فخيره لذلك.

(1/173)


وأما قوله: ((صائم رمضان في السفر، كمفطره في الحضر)) فهذا أغلظ ما جاء فيه، ولكنه لم يثبت؛ لأن أبا سلمة فيما يقال: لم يسمع من أبيه، وهذا الحديث أيضاً رواه عدة عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبيه موقوفاً ورفعه واحد، فالأمر في هذا الباب على اختيار الإفطار في السفر، وأنه من صام لم يصم يلتمس بذا [.. ... ] ، ومعنى ذلك: أن لا يقول: إن الصوم أبر الأمرين وأفضلهما، ولكن الفضل في اتباع السنة، والأخذ بالرخصة، لقوله: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدةٌ من أيامٍ أخر} ثم قال: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} .
ثم جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل [يحب] أن يؤخذ برخصه، كما يحب أن يطاع في [.. ... ] )) .
وكذلك تقصير الصلاة في السفر، هي رخصة من الله عز وجل فالأخذ بها أحسن، فإن صام في السفر فقد أجزأه.

(1/174)


55- باب صوم ثلاثة أيام من كل شهر
روى حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي عثمان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر فكأنما صام الدهر)) .
وروى عاصم عن أبي عثمان عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وروى شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((صوم ثلاثة أيام من كل شهر، صوم الدهر وإفطاره)) .
وروى يزيد الرشك عن معاذة عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثاً من كل شهر، قلت: من أية؟ قالت: لم يكن يبالي من أيه كان.
وروى الأسود بن شيبان عن أبي نوفل بن أبي عقرب عن

(1/175)


أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يصوم [ثلاثاً من] كل شهر.
ثم جاءت أحاديث كثيرة مسندة صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بصيام البيض وذكر فضلها،
وجاءت أحاديث بأنه كان يصوم شعبان.
وجاءت أحاديث [.. ... ] فيها: أنه كان يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم،
وجاءت أحاديث أنه سئل: أي شهر أفضل بعد رمضان؟ فقال: ((المحرم)) ، وجاءت أحاديث أن أفضل الصيام، صوم داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً؛ وجاءت أحاديث: أن من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر، فكل هذه قد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فاختلفت هذه الأحاديث في ظاهرها، ولها وجوه ومعاني:
وذلك أن أصل الفرض إنما هو الشهر المبارك الذي افترضه الله عز وجل، وأجمع أهل الإسلام على صومه، وكانت

(1/176)


الفسحة فيما بعده للأمة، وكان الصوم بعده تطوعاً، وكانت الفضائل في بعضه أكثر منها في بعض، وكان من شاء استكثر من تلك الفضائل، ومن شاء استقل، ومن شاء تركها إلى غير حرج.
أما سمعت حديث طلحة بن عبيد الله في قول الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم حين سأله عن الصوم فذكر شهر رمضان، فقال: هل علي غيره، قال: ((لا، إلا أن تطوع)) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لئن صدق ليدخلن الجنة)) وذلك عند قوله: ((والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا شيئاً ولا أنتقص منه)) .
ومثل حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال: إني لأبغض فلاناً، فكان مما احتج به عليه: أنه لا يصوم إلا شهر رمضان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قم، إن أدري لعله خيرٌ منك)) .
في أشباهٍ لهذا كثيرة.
وإنما يرى أنه كره أن يجعل شيئاً من هذه الفضائل في الصوم معلومة فيلم بها الناس، فتكون كالشيء المفترض عليهم، فأخذ ببعضها في وقت، وأخذ ببعضها في آخر، وذكر لكل شيء فضيلة؛ لئلا يلزم شيء واحد بعينه كأنه لا يجوز

(1/177)


غيره، فيكون بمنزله [.. ... ] الواجب، ففي صوم ثلاثٍ من كل شهر فضلٌ، فإن تعمد به البيض كان أفضل، وإن صامهن في غير البيض فقد أخذ بفضلٍ دون فضل، وكذلك سائر ما ذكرناه.

(1/178)


56- باب صيام العشر
روى الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط.
وروى موسى بن علي عن أبيه عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يوم عرفة وأيام التشريق أيام أكل وشرب)) .
وروى مسعود بن واصل عن النهاس بن قهم عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صيام كل يوم من العشر يعدل صيام سنة)) .
وروى أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل صوم يوم عرفة أيضاً.
ورويت أحاديث فضل صوم يوم عرفة.
وروى حوشب بن عقيل عن مهدي عن عكرمة عن أبي

(1/179)


هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة.
وروت أم الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر بعرفة.
وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر بعرفة.
وابن عمر أيضاً.
فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة، فأما حديث عائشة الأول: فإنه ليس فيه بيان مذهب، وذلك أنها لما حكت أنها لم تره صائم العشر، فقد يكون ذلك على أنها لم تره هي، ورآه غيرها، وذلك أنه إنما كان يكون عندها في الأيام يوماً، وقد يكون ذلك على أن يكون لم يصم العشر على أنه ليس بواجب ومن صامه فله فضل، فليس في هذا بيان.
وأما حديث عقبة بن عامر فإنه حديث تفرد به موسى بن علي، وروى الناس هذا الحديث من وجوه كثيرة، فلم يدخلوا فيه صوم عرفة، غيره.
وقد يكون من الحافظ الوهم أحياناً، فالأحاديث إذا تظاهرت فكثرت كانت أثبت من الواحد الشاذ، كما قال

(1/180)


إياس بن معاوية: إياك والشاذ من العلم، وقال إبراهيم بن أدهم: إنك إن حملت شاذ العلماء حملت شراً كثيراً.
فالشاذ عندنا: هو الذي يجيء بخلاف ما جاء به غيره، وليس الشاذ الذي يجيء وحده بشيءٍ لم يجئ أحد بمثله ولم يخالفه غيره.
ومما يؤكد صحة صوم يوم عرفة مع الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضله: أن الأئمة قد صاموه، قد روي عن علي رضي الله عنه أنه كان يصومه ويذكر فضيلته، وعن عائشة أنها قالت: ما من السنة يوم أحب إلي أن أصومه من يوم عرفة.
وعن ابن عمر أنه سئل عن صوم يوم عرفة فقال: أحق الأيام أن يصام.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يصوم يوم عرفة.
وعن عثمان بن أبي العاص أنه كان يصومه.
وأما حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة، فإن فيه بيان الكراهة [.. ... ] وذلك أن الصوم

(1/181)


في غير يوم عرفة ممكن لمن أراده، ويوم عرفة يومٌ كافٍ بأجره، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأحبوا أن يتقووا على الدعاء والتضرع وأن يكون في ذلك جدهم ووقوفهم.
ومما يبين ذلك أن ابن عمر كما قد ذكرنا، قال في صوم يوم عرفة: هو أحق الأيام أن يصام. ثم سئل عن صوم يوم عرفة بعرفة، فقال: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر فلم يصمه ومع عمر فلم يصمه ومع عثمان فلم يصمه، فأنا لا أصومه.
فالأمر في هذا الباب على أن صوم يوم عرفة وسائر العشر قبل الأضحى حسنٌ، وأفضلها يوم عرفة، وأنه لا يصام يوم عرفة بعرفة للذي يحتاج إليه من القوة هناك، ولأنه صوم في سفر، وقد قيل فيه ما قيل إنه: ((ليس من البر الصوم في السفر)) .

(1/182)


57- باب صوم يوم الجمعة
روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده)) .
وفي النهي عن صوم يوم الجمعة، مفرداً أحاديث منها:
حديث جويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم جمعة وهي صائمة، فقال لها: ((أصمت أمس؟)) قالت: لا، قال: ((أفتريدين أن تصومي غداً؟)) .
قالت: لا، قال: ((فأفطري)) .
ومن ذلك حديث بشير بن الخصاصية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تصوموا يوم الجمعة إلا في أيام هو أحدها أو في شهر)) .
وروى ليث عن عمير بن أبي عمير عن ابن عمر قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مفطراً يوم جمعة قط.

(1/183)


وروى الحسن بن أبي جعفر عن أيوب عن محمد عن ابن عمر قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة قط صائماً.
فاختلفت هذه الأحاديث في ظاهرها.
ومع ذلك أيضاً ما ذكر من فضل يوم وإفطار يوم، فقد يصوم يوم الجمعة في ذلك مفرداً، إذا كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، لأنه ربما وقع فطره يوم الخميس وصومه يوم الجمعة.
فوجه أحاديث النهي عن تفرد صوم يوم الجمعة إنما هو على التعمد لذلك، يريد أن تتعمد صوم الجمعة تلتمس فضيلته، فهذا هو المنهي عنه.
فأما الذي يلتمس الفضيلة في صوم يوم وإفطار يوم، فيوافق ذلك صوم يوم الجمعة خاصة، فليس بالمنهي عنه.
وأما الحديثان اللذان ذكرنا عن ابن عمر في هذا الباب فكلاهما واهٍ، وقد روي عن عدة من التابعين أنه لا بأس إذا كان يصوم يوماً ويفطر يوماً أن يصوم الجمعة وحده.

(1/184)


58- باب في صوم يوم بعينه
روى سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: قلت لعائشة: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يختص من الأيام شيئاً؟ قالت: لا.
وروى أبان بن يزيد عن عاصم عن معبد بن خالد عن سواءٍ الخزاعي عن حفصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم الإثنين والخميس.
وروى محمد بن رفاعة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعرض الأعمال على الله عز وجل يوم الإثنين ويوم الخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)) .
فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة، ولها وجوه:
فنرى أن حديث عائشة إنما وجهه أن ذلك لم يكن منه دائماً مخافة أن يوجبه، وأن سائر الأحاديث على أنه قد كان يفعله كثيراً ويتركه أحياناً.

(1/185)


59- باب صوم يوم عاشورء
روى حصين عن الشعبي عن محمد بن صيفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم في يوم عاشوراء: ((صوموا هذا اليوم، فمن كان طعم فليتم بقية يومه)) .
ثم روي مثل هذا بعينه عن جماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ابن عباس، وهند بن أسماء، وأسماء بن حارثة، وسلمة بن الأكوع، وغيرهم.
وروي من أكثر من عشرين وجهاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصوم يوم عاشوراء.
وروى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن أهل الجاهلية كانوا يصومون عاشوراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صامه قبل أن يفترض رمضان [وترك عاشوراء] ، فلما فرض رمضان، قال: ((من شاء صامه ومن شاء تركه)) .
وروى هشام عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صام يوم

(1/186)


عاشوراء وأمر بصومه، فلما فرض رمضان ترك عاشوراء.
وروى أشعث بن أبي الشعثاء عن جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصوم عاشوراء، فلما فرض رمضان لم يأمر به، ولم ينه عنه.
وروى سلمة بن كهيل عن القاسم بن مخيمرة عن أبي عمار عن قيس بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا أيضاً.
وروى الأعمش عن عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان ترك.
وروى الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يوم عاشوراء: ((هذا يوم عاشوراء، وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر)) .
فهذه الأحاديث في ظاهرها مختلفة، ولها معاني، وهذا عندنا من الناسخ والمنسوخ.

(1/187)


وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وكد صومه في أول الأمر قبل نزول شهر الصوم، حتى أمرهم بأن يتموا بقية يومهم وإن كانوا قد أكلوا، وإنما يفعل ذلك في الفريضة.
ثم جاءت الأحاديث بما يبين أن ذلك كله كان قبل شهر رمضان، فلما فرض شهر رمضان كان ما سواه تطوعاً.
ومما يؤكد ذلك أن معاوية إنما أسلم يوم الفتح، وقد فرض الله عز وجل صوم شهر رمضان قبل ذلك بسنين، ثم حكى معاوية أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخبر الناس بأنه صائم ويقول لهم: ((من شاء منكم فليصم)) ففي هذا الحديث وما أشبهه من الأحاديث بيان نسخ إيجاب صوم عاشوراء، وفيه أيضاً بيان [لأن] النسخ لم يكن على تركه البتة، ولكن على أنه صار تطوعاً، فمن شاء فعله، ومن شاء تركه.

(1/188)


60- باب في القبلة للصائم
روت عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم. إلا أن حديث أم حبيبة أضعفها.
وروى الليث بن سعد عن بكير بن الأشج عن عبد الملك بن سعيد عن جابر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قبلت وأنا صائم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: ((أرأيت لو تمضمضت بماءٍ وأنت صائم)) فرخص له.
وروى معتمر بن سليمان عن حميد عن أبي المتوكل عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في القبلة للصائم.
وروى إسرائيل عن زيد بن جبير عن أبي يزيد عن ميمونة –مولاة للنبي صلى الله عليه وسلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن القبلة للصائم، فقال: ((قد أفطر)) .

(1/189)


وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن قيصر التجيبي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص فيها للشيخ وكرهها للشاب.
وروى أبان بن عبد الله البجلي عن أبي بكر بن حفص عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص فيها للشيخ وكرهها للشاب فاختلفت هذه الأحاديث في ظاهرها والمعنى فيها واحد والكراهية فيها إنما هي لمن لا يملك أربه، وذلك أن ينتشر فيمذي، فيحرج صومه، فلذلك كرهها للشاب دون الشيخ.
وقالت عائشة: وأيكم كان أملك لأربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فإذا خاف الصائم أن ينتشر اجتنبها، وإذا أمن ذلك فلا بأس بها.

(1/190)


61- باب المباشرة للصائم
روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لأربه.
وروى إسرائيل عن أبي العنبس عن الأغر عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للشيخ أن يباشر وهو صائم، ونهى الشاب.
وهذه المسألة أيضاً قصتها شبيهة بقصة القبلة للصائم.

(1/191)


62- باب الوصال في الصيام
روى حميد عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال.
والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وسلمة بن كهيل عن قزعة عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال.
وروى ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل.
وعن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل.
وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم

(1/192)


واصل.
وفي هذا الباب أحاديث، فاختلفت هذه الأحاديث في ظاهرها وإنما الوجه فيها أن ذلك كان خاصاً للنبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه أصحابه، فقال: ((إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقين)) .
آخر الجزء الثاني ويتلوه في الثالث باب الهلال يرى ما يقول
والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً.

(1/193)