الفائق في غريب الحديث
والأثر بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَمَا
توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت وَهُوَ رب الْعَرْش الْعَظِيم
الْحَمد الله الَّذِي فتق لِسَان الذَّبِيح بِالْعَرَبِيَّةِ
الْبَيِّنَة وَالْخطاب الفصيح وتولاه بأثرة التَّقَدُّم فِي النُّطْق
باللغة الَّتِي هِيَ أفْصح اللُّغَات وَجعله أَبَا عذر التصدى للبلاغة
الَّتِي هِيَ أتم البلاغات واستل من سلالته عدنان وأبناءه واشتق من
دوحته قحطان وأحياءه وَقسم لكل من هَؤُلَاءِ من لبَيَان قسطا وَضرب
لَهُ من الإبداع سَهْما وأفرز لَهُ من الْإِعْرَاب كفلا فَلم يخل شعبًا
من شعوبهم وَلَا قَبيلَة من قبائلهم وَلَا عمَارَة من عمائرهم وَلَا
بَطنا من بطونهم وَلَا فخذا من أَفْخَاذهم وَلَا فصيلة من فصائلهم من
شعراء مفلقين وخطباء مصاقع يرْمونَ فِي حدق الْبَيَان عِنْد هدر
الشقاشق ويصيبون الْأَغْرَاض بالكلم الرواشق ويتنافثون من السحر فِي
مناظم قريضهم ورجزهم زقصيدهم ومقطعاتهم وخطبهم ومقاماتهم وَمَا يتصرفون
[عَلَيْهِ] فِيهَا من الْكِنَايَة والتعريض والاستعارة والتمثيل وأصناف
البديع وضروب الْمجَاز والافتنان فِي الإشباع والإيجاز مالو عثر
عَلَيْهِ السَّحَرَة فِي زمن مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
والمؤخذون واطلع طلعه أُولَئِكَ المشعوذون لقعدوا مقمورين مقهورين
ولبقوا مبهوتين مبهورين ولاستكانوا وأذعنوا وأسهبوا فِي الاستعجاب
وأمعنوا ولعلموا أَن نفثات الْعَرَب بألسنتها أَحَق بِالتَّسْمِيَةِ
السحر وَأَنَّهُمْ فِي ضحضاح مِنْهُ وَهَؤُلَاء بحجوا فِي الْبَحْر.
ثمَّ إِن هَذَا الْبَيَان الْعَرَبِيّ كَأَن الله عزت قدرته مخضه
وَألقى زبدته على لِسَان مُحَمَّد عَلَيْهِ أفضل صَلَاة وأوفر سَلام
فَمَا من خطيب يقاومه إِلَّا نكص متفكك الرجل وَمَا من مصقع يناهزه
إِلَّا رَجَعَ فارغ السّجل وَمَا قرن بمنطقه منطق إِلَّا كَانَ
كالبرذون مَعَ الحصان المطهم وَلَا وَقع من كَلَامه شىء فِي كَلَام
النَّاس إِلَّا أشبه الوضح فِي نقبة الأدهم. قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام
أُوتيت جَوَامِع الْكَلم. قَالَ أَنا أفْصح الْعَرَب بيد أَنِّي من
قُرَيْش واسترضعت فِي بنى سعد بن بكر
(1/11)
وَقد صنف الْعلمَاء رَحِمهم الله فِي كشف
مَا غرب من أَلْفَاظه واستبهم وَبَيَان مَا اعتاص من أغراضه واستعجم
كتبا تنوقوا فِي تصنيفها وتجودوا واحتاطوا وَلم يتجوزوا وعكفوا الْهم
على ذَلِك وحرصوا واغتنموا الاقتدار عَلَيْهِ وافتراصوا حَتَّى أحكموا
مَا شَاءُوا وأترصوا وَمَا مِنْهُم إِلَّا بَطش فِيمَا انتحى بباع بسيط
وَلم يزل عَن موقف الصَّوَاب مِقْدَار فسيط وَلم يدع الْمُتَقَدّم
للمتأخر خصَاصَة يستظهر بِهِ على سدها وَلَا أنشوطة يستنهضه لشدها
وَلَكِن لَا يكَاد يجد بدا من نبغ فِي فن من الْعلم وصبع بِهِ يَده
وعانى فِيهِ وكده وكده من اسْتِحْبَاب أَن يكون لَهُ فِيهِ أثر يكسبه
فِي لِسَان الصدْق وجمال الذّكر ويحزن لَهُ عَن الله عز وَجل الْأجر
وسنى الذخر.
وَفِي صوب هذَيْن الغرضين ذهبت عِنْد صَنْعَة هَذَا الْكتاب آل جهدا
وَلَا مقصر عَن مدى فِيمَا يعود لمقتبسه بالنصح وَيرجع إِلَى الراغبين
فِيهِ بالنجح من اقتضاب تَرْتِيب سلمت فِيهِ كَلِمَات الْأَحَادِيث
نسقا ونضدا وَلم تذْهب بددا وَلَا أَيدي سبا وطرائف قددا وَمن
اعْتِمَاد فسر موضح وكشف مفصح اطَّلَعت بِهِ على حاق الْمَعْنى وفص
الْحَقِيقَة اطلاعا مؤداه طمأنينة النَّفس وثلج الصَّدْر مَعَ
الِاشْتِقَاق غير المستكره والتصريف غير المتعسف وَالْإِعْرَاب
الْمُحَقق الْبَصْرِيّ النَّاظر فِي نَص سِيبَوَيْهٍ وَتَقْرِير الفسوى
فأية نفس كَرِيمَة ونسمة زاكية وَنور الله قَلبهَا بِالْإِيمَان
والإيقان مرت على هَذَا التِّبْيَان والإتقان فَلَا يذْهبن عَلَيْهَا
أَن تَدْعُو لي بِأَن يَجعله الله فِي موازيني ثقلا ورجحانا ويثيبني
عَلَيْهِ روحا وريحانا. وَالله عز سُلْطَانه المرغوب إِلَيْهِ فِي أَن
يوزعنا الشُّكْر على طوله وفضله وَألا نقدم إِلَّا على أَعمال الْخَيْر
الْخَالِصَة لوجهه وَمن أَجله إِنَّه الْمُنعم المنان.
(1/12)
|