جمهرة اللغة

 (مُقَدّمَة الْمُؤلف)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه نستعين وصلواته على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسَلَامه
قَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحسن بن دُرَيْد رَحمَه الله تَعَالَى: الْحَمد لله الْحَكِيم بِلَا روية، الْخَبِير بِلَا استفادة، الأول الْقَدِيم بِلَا ابْتِدَاء، الْبَاقِي الدَّائِم بِلَا انْتِهَاء، منشئ خلقه على إِرَادَته، ومجريهم على مَشِيئَته بِلَا استعانة إِلَى مؤزر وَلَا عوز إِلَى مؤيد، وَلَا اختلال إِلَى مُدبر وَلَا تكلفة لغوب، وَلَا فَتْرَة كلال، وَلَا تفَاوت صَنْعَة، وَلَا تنَاقض فطْرَة، وَلَا إجالة فكرة، بل بالإتقان الْمُحكم، وَالْأَمر المبرم؛ حِكْمَة جَاوَزت نِهَايَة الْعُقُول البارعة، وقدرة لطفت عَن إِدْرَاك الفطن الثاقبة. أَحْمَده على آلائه، وَهُوَ الْمُوفق للحمد الْمُوجب بِهِ الْمَزِيد، وأستوهبه رشدا إِلَى الصَّوَاب، وقصدا إِلَى السداد، وعصمة من الزيغ، وإيثارا للحكمة، وَأَعُوذ بِهِ من العي والحصر، وَالْعجب والبطر، وأسأله أَن يُصَلِّي على مُحَمَّد بشير رَحمته ونذير عِقَابه.
قَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحسن بن دُرَيْد: إِنِّي لما رَأَيْت زهد أهل هَذَا الْعَصْر فِي الْأَدَب، وتثاقلهم عَن الطّلب، وعداوتهم لما يجهلون، وتضييعهم لما يعلمُونَ، وَرَأَيْت أكْرم مواهب الله لعَبْدِهِ سَعَة فِي الْفَهم وسلطانا يملك بِهِ نَفسه ولبا يقمع بِهِ هَوَاهُ، وَرَأَيْت ذَا السن من أهل دَهْرنَا لغَلَبَة الغباوة عَلَيْهِ وملكة الْجَهْل لقياده، مضيعا لما استودعته الْأَيَّام مقصرا فِي النّظر فِيمَا يجب عَلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ ابْن يَوْمه ونتيج سَاعَته، وَرَأَيْت النَّاشِئ الْمُسْتَقْبل ذَا الْكِفَايَة وَالْجدّة مؤثرا للشهوات صادفا عَن سبل الْخيرَات، حبوت الْعلم خزنا على معرفتي بِفضل إذاعته وجللته سترا مَعَ فرط بصيرتي بِمَا فِي إِظْهَاره من حسن الأحدوثة الْبَاقِيَة على الدَّهْر، فعاشرت الْعُقَلَاء كالمسترشد، ودامجت الْجُهَّال كالغبي، نفاسة فِي الْعلم أَن أبثه فِي غير أَهله أَو أَضَعهُ حَيْثُ لَا يعرف كنه قدره، حَتَّى تناهت بِي الْحَال إِلَى صُحْبَة أبي الْعَبَّاس

(1/39)


إِسْمَاعِيل بن عبد الله بن مُحَمَّد بن ميكال، أيده الله بتوفيقه، فعاشرت مِنْهُ شهابا ذاكيا وسباقا مبرزا وحكيما متناهيا وعالما متقنا، يستنبط الْحِكْمَة بتعظيم أَهلهَا، ويرتبط الْعلم بتقريب حَملته، ويستجر الْأَدَب بالبحث عَن مظانه لم تطمح بِهِ خُيَلَاء الْملك وَلم تستفزه شرة الشَّبَاب، فبذلت لَهُ مصون مَا أكننت، وأبديت مَسْتُور مَا أخفيت، وسمحت بِمَا كنت بِهِ ضنينا، ومذلت بِمَا كنت عَلَيْهِ شحيحا، إِذْ رَأَيْت لسوق الْعلم عِنْده نفَاقًا ولأهله لَدَيْهِ مزية، وَإِنَّمَا يدّخر النفيس فِي أحرز أماكنه، ويودع الزَّرْع أخيل الْبِقَاع للنفع، فارتجلت الْكتاب الْمَنْسُوب إِلَى جمهرة اللُّغَة، وابتدأت فِيهِ بِذكر الْحُرُوف الْمُعْجَمَة الَّتِي هِيَ أصل تفرع مِنْهُ جَمِيع كَلَام الْعَرَب، وَعَلَيْهَا مدَار تأليفه وإليها مآل أبنيته، وَبهَا معرفَة متقاربه من متباينه ومنقاده من جامحه. وَلم أجر فِي إنْشَاء هَذَا الْكتاب إِلَى الإزراء بعلمائنا وَلَا الطعْن على أسلافنا، وأنى يكون ذَلِك؟ وَإِنَّمَا على مثالهم نحتذي، وبسبلهم نقتدي، وعَلى مَا أصلوا نبتني. وَقد ألف أَبُو عبد الرَّحْمَن الْخَلِيل بن أَحْمد الفرهودي، رضوَان الله عَلَيْهِ، كتاب الْعين، فأتعب من تصدى لغايته، وعنى من سما إِلَى نهايته، فالمنصف لَهُ بالغلب معترف، والمعاند متكلف، وكل من بعده لَهُ تبع أقرّ بذلك أم جحد، وَلكنه رَحمَه الله ألف كِتَابه مشاكلا لثقوب فهمه وذكاء فطنته وحدة أذهان أهل دهره.
وأملينا هَذَا الْكتاب وَالنَّقْص فِي النَّاس فَاش وَالْعجز لَهُم شَامِل، إِلَّا خَصَائِص كدراري النُّجُوم فِي أَطْرَاف الْأُفق، فسهلنا وعره ووطأنا شأزه، وأجريناه على تأليف الْحُرُوف الْمُعْجَمَة إِذْ كَانَت بالقلوب أعبق وَفِي الأسماع أنفذ وَكَانَ علم الْعَامَّة بهَا كعلم الْخَاصَّة، وطالبها من هَذِه الْجِهَة بَعيدا من الْحيرَة مشفيا على المُرَاد.
فَمن نظر فِي كتَابنَا هَذَا فآثر التمَاس حرف ثنائي فليبدأ بِالْهَمْزَةِ وَالْبَاء إِن كَانَ الثَّانِي بَاء ثَقيلَة، أَو الْهمزَة وَالتَّاء إِن كَانَ الثَّانِي تَاء، وَكَذَلِكَ إِلَى آخر الْحُرُوف. وَأما الثلاثي فَإنَّا بَدَأَ بالسالم، فَمن أحب أَن يعرف حرفا من أبنيته مِمَّا جَاءَ على فَعْلٍ وفُعْل وفِعْلٍ وفُعَلٍ وفِعَلٍ وفُعُلٍ وفَعُلٍ وفَعِلٍ وفَعَلٍ فليبغ ذَلِك فِي جُمْهُور أَبْوَاب الثلاثي السَّالِم. وَمن أَرَادَ بِنَاء يلْحق بالثلاثي بِحرف من الْحُرُوف الزَّوَائِد فَإنَّا قد أفردنا لَهُ بَابا فِي آخر الثلاثي تقف عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله مَعَ المعتل. فَأَما الرباعي فَإِن أبوابه مجمهرة على حدتها، نَحْو فعلل مثل جَعْفَر، وفعلل مثل برثن، وفعلل مثل عظلم، وفعلل مثل هجرع، وَفعل مثل سبطر. ثمَّ جعلنَا مَا لحق بالرباعي بِحرف من الزَّوَائِد أبوابا مثل فوعل نَحْو كوثر، وفعول نَحْو جهور، وفعيل نَحْو خيعل وبيطر، وفعيل نَحْو حذيم. وَلَيْسَ فِي كَلَامهم فعيل إِلَّا مصنوعا، كَذَا قَالَ

(1/40)


الْخَلِيل؛ فَهَذَا سَبِيل الرباعي فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات. وَأما الخماسي فنبوت لَهُ أَبْوَاب لم نحوج فِيهِ إِلَى طلب لقرب تنَاولهَا، وَكَذَلِكَ الملحق بالسداسي بِحرف من الزَّوَائِد. فَإِن عسر مطلب حرف من هَذَا فليطلب فِي اللفيف، فَإِنَّهُ يُوجد إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وجمعنا النَّوَادِر فِي بَاب اشْتَمَل عَلَيْهَا وسميناه النَّوَادِر لقلَّة مَا جَاءَ على وزن ألفاظها نَحْو قهوباة، وطوبالة، وقلنسوة، وقرعبلانة، وَمَا أشبه ذَلِك. على أَنا ألغينا المستنكر، واستعملنا الْمَعْرُوف. وَالله الْمُوفق. بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وَهَذَا كتاب جمهرة الْكَلَام واللغة وَمَعْرِفَة جمل مِنْهَا تُؤدِّي النَّاظر فِيهَا إِلَى معظمها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَالَ أَبُو بكر: وَإِنَّمَا أعرناه هَذَا الِاسْم لأَنا اخترنا لَهُ الْجُمْهُور من كَلَام الْعَرَب وأرجأنا الوحشي المستنكر، وَالله المرشد للصَّوَاب.
فَأول مَا يحْتَاج إِلَيْهِ النَّاظر فِي هَذَا الْكتاب ليحيط علمه بمبلغ عدد أبنيتهم المستعملة والمهملة أَن يعرف الْحُرُوف الْمُعْجَمَة الَّتِي هِيَ قطب الْكَلَام ومحرنجمه بمخارجها ومدارجها وتباعدها وتقاربها وَمَا يأتلف مِنْهَا وَمَا لَا يأتلف، وَعلة امْتنَاع مَا امْتنع من الائتلاف، وَإِمْكَان مَا أمكن، وَأَنا مُفَسّر لَك إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَلْفَاظ الْحُرُوف الْمُعْجَمَة بمخارجها ومدارجها وتقاربها وتباعدها وَمَا يأتلف مِنْهَا وَمَا لَا يأتلف بعللها فتفهم ذَلِك إِن شَاءَ الله.
اعْلَم أَن الْحُرُوف الَّتِي استعملتها الْعَرَب فِي كَلَامهَا فِي الْأَسْمَاء وَالْأَفْعَال والحركات والأصوات تِسْعَة وَعِشْرُونَ حرفا مرجعهن إِلَى ثَمَانِيَة وَعشْرين حرفا، مِنْهَا حرفان مُخْتَصّ بهما الْعَرَب دون الْخلق، وهما الظَّاء والحاء، وَزعم آخَرُونَ أَن الْحَاء فِي السريانية والعبرانية والحبشية كَثِيرَة، وَأَن الظَّاء وَحدهَا مَقْصُورَة على الْعَرَب. وَمِنْهَا سِتَّة أحرف للْعَرَب ولقليل من الْعَجم، وَهن الْعين وَالصَّاد وَالضَّاد وَالْقَاف والطاء والثاء، وَالْبَاقِي فللخلق كلهم من الْعَرَب والعجم إِلَّا الْهمزَة فَإِنَّهَا لَيست من كَلَام الْعَجم إِلَّا فِي الِابْتِدَاء. وَهَذِه الْحُرُوف تزيد على هَذَا الْعدَد إِذا اسْتعْملت فِيهَا حُرُوف لَا تَتَكَلَّم بهَا الْعَرَب إِلَّا ضَرُورَة، فَإِذا اضطروا إِلَيْهَا حولوها عِنْد التَّكَلُّم بهَا إِلَى أقرب الْحُرُوف من مخارجها. فَمن تِلْكَ الْحُرُوف الْحَرْف

(1/41)


الَّذِي بَين الْبَاء وَالْفَاء، مثل يور إِذا اضطروا إِلَيْهِ قَالُوا: فَور، وَمثل الْحَرْف الَّذِي بَين الْقَاف وَالْكَاف وَالْجِيم وَالْكَاف، وَهِي لُغَة سائرة فِي الْيمن مثل جمل إِذا اضطروا قَالُوا: كمل، بَين الْجِيم وَالْكَاف، وَمثل الْحَرْف الَّذِي بَين الْيَاء وَالْجِيم وَبَين الْيَاء والشين مثل غلامي فَإِذا اضطروا قَالُوا غلامج، فَإِذا اضْطر الْمُتَكَلّم قَالَ غلامش، وَكَذَلِكَ مَا أشبه هَذَا من الْحُرُوف المرغوب عَنْهَا. فَأَما بَنو تَمِيم فَإِنَّهُم يلحقون الْقَاف باللهاة فتغلظ جدا، فَيَقُولُونَ للْقَوْم: الكوم، فَتكون الْقَاف بَين الْكَاف وَالْقَاف وَهَذِه لُغَة مَعْرُوفَة فِي بني تَمِيم؛ قَالَ الشَّاعِر (بسيط) :
(وَلَا أكول لكدر الكوم كد نَضِجَتْ ... وَلَا أكول لباب الدَّار مكفول)

وَكَذَلِكَ الْحَرْف الَّذِي بَين الْيَاء وَالْجِيم إِذا اضطروا قَالُوا: غلامج أَي غلامي، وَكَذَلِكَ الْيَاء الْمُشَدّدَة تحول جيما فَيَقُولُونَ بصرج وكوفج كَمَا قَالَ الراجز:
(خَالِي عويف وَأَبُو علج ... )

(الْمُطْعِمَانِ اللَّحْم بالعشج ... )

(وبالغداة فلق البرنج ... )

وَكَذَلِكَ يَاء النِّسْبَة يجعلونها جيما فيقولوك غلامج، فَإِذا اضطروا قَالُوا: غلامش، فيجعلونها بَين الشين وَالْجِيم، وَكَذَلِكَ مَا يشبه هَذَا من الْحُرُوف المرغوب عَنْهَا، وَهَذِه اللُّغَة تعرف فِي كَاف مُخَاطبَة الْمُؤَنَّث، يَقُولُونَ: غلامش، أَي غلامك يَا امْرَأَة، إِذا خاطبوا الْمَرْأَة؛ قَالَ راجزهم:
(تضحك مني أَن رأتني أحترش ... )

(1/42)


(وَلَو حرشت لكشفت عَن حرش ... )

(عَن وَاسع يغرق فِيهِ القنفرش ... )

أَي عَن حرك، فَجعل كَاف المخاطبة شينا. وَأنْشد أَبُو بكر لمَجْنُون ليلى (طَوِيل) :
(فعيناش عَيناهَا وجيدش جيدها ... سوى عَن عظم السَّاق منش دَقِيق)

أَرَادَ عَيْنَاك وجيدك ومنك وَأَن، وَإِذا اضْطر هَذَا الَّذِي هَذِه لغته قَالَ: جيدش وغلامش، بَين الْجِيم والشين، لم يتهيأ لَهُ أَن يفرده، وَكَذَلِكَ مَا أشبه هَذَا من الْحُرُوف المرغوب عَنْهَا.
(بَاب صفة الْحُرُوف وأجناسها)

الْحُرُوف سَبْعَة أَجنَاس يجمعهن لقبان: المصمتة والمذلقة، فالمذلقة سِتَّة أحرف، والمصمتة اثْنَان وَعِشْرُونَ حرفا ثَلَاثَة مِنْهَا معتلات وَتِسْعَة عشر حرفا صِحَاح. فَمن المصمتة الصِّحَاح حُرُوف الْحلق، وَهِي الْهمزَة وَالْهَاء والحاء وَالْعين والغين وَالْخَاء مأخذهن من أقْصَى الْحلق إِلَى أدناه. أما الْهمزَة مِنْهُنَّ فَمن مخرج أقْصَى الْأَصْوَات، وَالْهَاء تَلِيهَا وَهِي من مَوضِع النَّفس، والحاء أرفع وَهِي أقرب حرف يَليهَا، أَلا ترى أَنَّهَا فِي كَلَام كثير من النَّاس مغلوط بهَا حَتَّى تصير الْهَاء حاء والحاء هَاء. قَالَ رؤبة (رجز) :
(لله در الغانيات المده ... )

(سبحن واسترجعن من تألهي ... )

ويروى: المزه، أَرَادَ المزح؛ وَمن روى المده أَرَادَ الْمَدْح. وَقَالَ النُّعْمَان بن الْمُنْذر لرجل ذكر عِنْده رجلا؛ أردْت كَيْمَا تذيمه فمدهته، أَرَادَ: تعيبه فمدحته. وأنشدنا الأشنانداني عَن التوزي عَن أبي عُبَيْدَة لرجل من بني سعد، جاهلي (رجز) :
(حَسبك بعض القَوْل لَا تمدهي ... )

(1/43)


(غَرَّك برزاغ الشَّبَاب المزدهي ... )

يُقَال: شباب برزغ وبرزاغ وبرزوغ إِذا تمّ. والهمزة تدخل على الْهَاء كثيرا وَتدْخل الْهَاء عَلَيْهَا كَقَوْلِهِم أيهات وهيهات وآزيد وَهَا زيد فِي الدُّعَاء. وَالْعين تتلو الْحَاء فِي المدرج والارتفاع، فَلذَلِك قَالَ قوم من الْعَرَب: محهم يُرِيدُونَ مَعَهم، وَإِذا أدغم قيل محم. وَالْخَاء أرفع مِنْهَا وَهِي تلِي الْعين والغين على مدرج الْخَاء إِلَّا أَنَّهَا أَسْفَل مِنْهَا. فَهَذَا جنس حُرُوف الْحلق.
وَأما جنس حُرُوف أقْصَى الْفَم من أَسْفَل اللِّسَان، فَهِيَ الْقَاف وَالْكَاف ثمَّ الْجِيم ثمَّ الشين، فَلذَلِك لم تأتلف الْكَاف وَالْقَاف فِي كلمة وَاحِدَة إِلَّا بحواجز: لَيْسَ فِي كَلَامهم قك وَلَا كق، وَكَذَلِكَ حَالهمَا مَعَ الْجِيم، لَيْسَ فِي كَلَامهم جك وَلَا كج. إِلَّا أَنَّهَا قد دخلت على الشين لتفشي الشين وقربها من عكدة اللِّسَان بل هِيَ مُجَاوزَة للعكدة إِلَى الْفَم، فقد جَاءَ فِي كَلَامه قَشّ، والقش: مصدر قششت الشَّيْء أقشه قشا، إِذا استوعبته؛ وَيُقَال: قششت الشَّيْء بيَدي قشا، إِذا حككته بِيَدِك حَتَّى يتحات. وألحقوا هَذِه الْكَلِمَة بِبِنَاء جَعْفَر فَقَالُوا: قشقش، وَقَالُوا: تقشقشت القرحة، إِذا جَفتْ وبرأت. وَكَانَت {قل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ} و {قل هُوَ الله أحد} تسميان فِي صدر الْإِسْلَام: " المقشقشتين "، لِأَنَّهُمَا أبرأتا من النِّفَاق. وَقد جمعُوا بَين الشين وَالْكَاف فَقَالُوا: شكّ فِي الْأَمر، وكش الْبَعِير إِذا هدر هديرا خَفِيفا. قَالَ رؤبة (رجز) :
(إِنِّي إِذا حمشني تحميشي ... )

(يَوْمًا وجد الْأَمر ذُو تكميش ... )

(هدرت هدرا لَيْسَ بالكشيش ... )

وَقد جمعُوا بَين الشين وَالْجِيم فِي الشج والجش.
جنس حُرُوف وسط اللِّسَان مِمَّا هُوَ منخفض: السِّين وَالزَّاي وَالصَّاد.
جنس حُرُوف أدنى الْفَم: وَمن جنس حُرُوف أدنى الْفَم التَّاء والطاء وَالدَّال، وَأدنى مِنْهَا أَيْضا مِمَّا هُوَ شاخص إِلَى الْغَار الْأَعْلَى: الظَّاء والثاء والذال وَالضَّاد.

(1/44)


(الْحُرُوف المذلقة)

أما المذلقة من الْحُرُوف فَهِيَ سِتَّة وَلها جِنْسَانِ: جنس الشّفة، وَهِي الْفَاء وَالْمِيم وَالْبَاء؛ لَا عمل للسان فِي هَذِه الأحرف الثَّلَاثَة، وَإِنَّمَا عملهن فِي التقاء الشفتين، وأسفلهن الْفَاء ثمَّ الْبَاء ثمَّ الْمِيم. وَالْجِنْس الثَّانِي من المذلقة بَين أسلة اللِّسَان إِلَى مقدم الْغَار الْأَعْلَى، وَهِي: الرَّاء وَالنُّون وَاللَّام، وَهن ممتزجات بِصَوْت الغنة لِأَن الغنة صَوت من أصوات الخيشوم، والخيشوم مركب فَوق الْغَار الْأَعْلَى وَإِلَيْهِ يسموا هَذَا الصَّوْت. وَسمعت الأشنانداني يَقُول: سَمِعت الْأَخْفَش يَقُول: سميت الْحُرُوف مذلقة لِأَن عَملهَا فِي طرف اللِّسَان، وطرف كل شَيْء ذلقه، وَهِي أخف الْحُرُوف وأحسنها امتزاجا بغَيْرهَا، وَسميت الْأُخَر مصمتة لِأَنَّهَا أصمتت أَن تخْتَص بِالْبِنَاءِ إِذا كثرت حُرُوفه لاعتياصها على اللِّسَان. وَأما الْحَرْف التَّاسِع وَالْعشْرُونَ فجرس بِلَا صرف، يُرِيد أَنه سكان لَا يتَصَرَّف فِي الْإِعْرَاب، وَهُوَ الْألف الساكنة، وَذَلِكَ أَنه لَا يكون إِلَّا سَاكِنا أبدا، فَمن أجل ذَلِك لم يبدأوا بِهِ، فَإِذا احتجت أَن تحركه تحوله إِلَى لفظ أحد الْحُرُوف المعتلات: الْيَاء وَالْوَاو والهمزة، فنم ثمَّ لم يعد فِي الْحُرُوف الْمُعْجَمَة حِين وجدوه رَاجعا إِلَى الثَّمَانِية وَالْعِشْرين، فَإِن اللِّسَان مُمْتَنع من أَن يَبْتَدِئ بساكن أَو يقف على متحرك، فَإِذا كَانَت كلمة أَولهَا ألف صَارَت همزَة لحركتها وانتقالها إِلَى حَال الْهمزَة، فَلذَلِك قَالُوا فِي الْألف مَا قَالُوا. وَمن جنس الْفَم أَيْضا مَا مخرجه إِلَى الْهَوَاء من الشفتين: الْوَاو وَالْيَاء، وهما إِلَى التَّثْنِيَة الْيُمْنَى. وَهَذِه جملَة مخارج الْحُرُوف وأجناسها، وَأَنا مُبين لَك بعد هَذَا وُجُوه ائتلافها إِن شَاءَ الله. وَقد فسر النحويون مخارج الْحُرُوف وأجناسها تَفْسِيرا آخر، وَقد أثْبته لَك وَإِن كَانَ فِيهِ طول لتقف على ألقاب الْحُرُوف ومخارجها.
(بَاب مخارج الْحُرُوف وأجناسها)

ذكر قوم من النَّحْوِيين أَن هَذِه التِّسْعَة وَالْعِشْرين حرفا لَهَا سِتَّة عشر مجْرى، للحلق مِنْهَا ثَلَاثَة، فأقصاها الْهَاء وَهِي أُخْت الْهمزَة وَالْألف، وَالثَّانِي الْعين والحاء، وَالثَّالِث، وَهُوَ أدناها إِلَى الْفَم، الْغَيْن وَالْخَاء، فَهَذِهِ ثَلَاثَة مجار. ثمَّ حُرُوف الْفَم، فأدناها إِلَى الْحلق الْقَاف ثمَّ الْكَاف أَسْفَل مِنْهَا قَلِيلا، ثمَّ الْجِيم والشين من اللهاة، وَالْيَاء من وسط اللِّسَان بَينه وَبَين مَا حاذاه من الحنك الْأَعْلَى، ثمَّ السِّين وَالصَّاد وَالزَّاي بِجنب اللِّسَان الْأَيْمن من أصُول الأضراس إِلَى أصُول الثنايا الْعليا، ثمَّ النُّون تَحت حافة اللِّسَان الْيُمْنَى، وَاللَّام قريبَة من ذَلِك، وَالرَّاء، إِلَّا أَن الرَّاء أَدخل مِنْهُ بِطرف اللِّسَان فِي الْفَم؛ ثمَّ التَّاء وَالدَّال والطاء من طرف اللِّسَان وأصول الثنايا، ثمَّ الْفَاء وَهِي من بَاطِن الشّفة السُّفْلى وأطراف الثنايا الْعليا، ثمَّ الْوَاو وَالْبَاء وَالْمِيم، وَهِي من بَين الشفتين، ثمَّ النُّون الْخَفِيفَة، وَهِي من الخياشيم لَا عمل

(1/45)


للسان فِيهَا، ثمَّ الظَّاء والثاء والذال، بِطرف اللِّسَان وأطراف الثنايا، ثمَّ الضَّاد من وسط اللِّسَان مِمَّا يَلِيهِ إِلَى الحافة الْيُمْنَى. وَإِنَّمَا خَالف بَين هَذِه الْحُرُوف المتقاربة حَتَّى اخْتلفت أصواتها الهمس، والجهر والشدة، والرخاوة، وَالْمدّ، واللين، والإطباق. فالحروف المهموسة: الْهَاء والحاء وَالْكَاف وَالْخَاء وَالسِّين والشين والثاء وَالصَّاد وَالتَّاء وَالْفَاء؛ وَإِنَّمَا سميت مهموسة لِأَنَّهُ اتَّسع لَهَا الْمخْرج فَخرجت كَأَنَّهَا متفشية. والمجهورة: الْهمزَة وَالْألف وَالْعين والغين وَالْقَاف وَالْجِيم وَالْيَاء وَالضَّاد وَاللَّام وَالنُّون وَالرَّاء وَالزَّاي وَالدَّال والذال والطاء والظاء وَالْبَاء وَالْوَاو وَالْمِيم؛ سميت مجهورة لِأَن مخرجها لم يَتَّسِع فَلم تسمع لَهَا صَوتا. والحروف الرخوة: الْهَاء والحاء وَالْكَاف وَالْخَاء وَالسِّين والشين وَالْعين والغين وَالصَّاد وَالضَّاد والظاء والذال والثاء وَالْفَاء وَالزَّاي؛ سميت رخوة لِأَنَّهَا تسترخي فِي المجاري.
وَاعْلَم أَن هَذِه الْحُرُوف رُبمَا كَانَت مهموسة رخوة وفيهَا بعض مَا فِي غَيرهَا فَلذَلِك كررتها. وَأما حُرُوف الْمَدّ واللين فَثَلَاثَة لَا غير: الْوَاو وَالْيَاء وَالْألف، وَإِنَّمَا سميت لينَة لِأَن الصَّوْت يَمْتَد فِيهَا فَيَقَع عَلَيْهَا الترنم فِي القوافي وَغير ذَلِك، وَإِنَّمَا احتملت الْمَدّ لِأَنَّهَا سواكن اتسعت مخارجها حَتَّى جرى فِيهَا الصَّوْت والحروف المطبقة: الصَّاد وَالضَّاد والطاء والظاء لِأَنَّك إِذا لفظت بهَا أطبقت عَلَيْهَا حَتَّى تمنع النَّفس أَن يجْرِي مَعهَا. والحروف الشَّدِيدَة: الطَّاء والشين وَالْجِيم وَغير ذَلِك مِمَّا تقدر أَن تشدده إِذا لفظت بِهِ. فَهَذَا جَمِيع مجاري الْحُرُوف ومدارجها فَانْظُر فِيهَا نظرا غير كليل وَأجل فِيهَا فكرا ثاقبا تظفر بمرادك إِن شَاءَ الله. وَإِنَّمَا عرفت المجاري لتعرف مَا يأتلف مِنْهَا مِمَّا لَا يأتلف فَإِذا جَاءَك كلمة مَبْنِيَّة من حُرُوف لَا تؤلف مثلهَا الْعَرَب عرفت مَوضِع الدخل مِنْهَا فرددتها غير هائب لَهَا.
وَاعْلَم أَن الْحُرُوف إِذا تقاربت مخارجها كَانَت أثقل على اللِّسَان مِنْهَا إِذا تَبَاعَدت، لِأَنَّك إِذا اسْتعْملت اللِّسَان فِي حُرُوف الْحلق دون حُرُوف الْفَم وَدون حُرُوف الذلاقة كلفته جرسا وَاحِدًا وحركات مُخْتَلفَة؛ أَلا ترى أَنَّك لَو ألفت بَين الْهمزَة وَالْهَاء والحاء فَأمكن لوجدت الْهمزَة تتحول هَاء فِي بعض اللُّغَات لقربها مِنْهَا نَحْو قَوْلهم فِي " أم وَالله ": " هم وَالله "، وكما قَالُوا فِي " أراق ": " هراق المَاء "؛ ولوجدت الْحَاء فِي بعض الْأَلْسِنَة تتحول هَاء، وَقد ذكرت هَذَا آنِفا، وَإِذا تَبَاعَدت مخارج الْحُرُوف حسن وَجه التَّأْلِيف، وَأَنا واصف لَك هَذَا فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَاعْلَم أَنه لَا يكَاد يَجِيء فِي الْكَلَام ثَلَاثَة أحرف من جنس وَاحِد فِي كلمة وَاحِدَة لصعوبة ذَلِك عَلَيْهِم، وأصعبها حُرُوف الْحلق، فَأَما حرفان فقد اجْتمعَا فِي كلمة مثل أخر لَا فاصلة، واجتمعا فِي مثل أحد وَأهل وعهد ونخع، غير أَن من شَأْنهمْ إِذا أَرَادوا هَذَا أَن يبدأوا بالأقوى من الحرفين ويؤخروا

(1/46)


الألين، كَمَا قَالُوا: ورل ووتد، فبدأوا بِالتَّاءِ على الدَّال وبالراء على اللَّام، فذق التَّاء وَالدَّال فَإنَّك تَجِد التَّاء تَنْقَطِع بجرس قوي وتجد الدَّال تَنْقَطِع بجرس لين، وَكَذَلِكَ الرَّاء تَنْقَطِع بجرس قوي وتجد اللَّام تَنْقَطِع بغنة، ويدلك على ذَلِك أَيْضا أَن اعتياص اللَّام على الألسن أقل من اعتياص الرَّاء، وَذَلِكَ للين اللَّام، فَافْهَم.
قَالَ الْخَلِيل: لَوْلَا بحة فِي الْحَاء لأشبهت الْعين فَلذَلِك لم تأتلفا فِي كلمة وَاحِدَة وَكَذَلِكَ الْهَاء ولكنهما يَجْتَمِعَانِ فِي كَلِمَتَيْنِ لكل وَاحِدَة مِنْهُمَا معنى على حِدة، نَحْو قَوْلهم: حَيّ هَل، وكقول الآخر: هيهاؤه، وحيهله، فحي كلمة مَعْنَاهَا هَلُمَّ وهلا حثيثا، وَكَذَلِكَ فِي الحَدِيث: " فحي هلا بعمر ". وَقَالَ الْخَلِيل: سمعنَا كلمة شنعاء: الهعخع، فأنكرنا تأليفها؛ وَسُئِلَ أَعْرَابِي عَن نَاقَته فَقَالَ: تركتهَا ترعى الهعخع، فسألنا الثِّقَات من عُلَمَائهمْ فأنكروا ذَلِك وَقَالُوا: نَعْرِف الخعخع، فَهَذَا أقرب إِلَى التَّأْلِيف.
وَاعْلَم أَنه لَا يَسْتَغْنِي النَّاظر فِي هَذَا الْكتاب عَن معرفَة الزَّوَائِد لِأَنَّهَا كَثِيرَة الدُّخُول فِي الْأَبْنِيَة قل مَا يمْتَنع مِنْهَا الرباعي والخماسي والملحق بالسداسي من الْبناء، فَإِذا عرفت مواقع الزَّوَائِد فِي الْأَبْنِيَة كَانَ ذَلِك حريا أَلا تشذ على النَّاظر فِيهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى. والزوائد عِنْد بعض النَّحْوِيين عشرَة أحرف وَقَالَ بَعضهم تِسْعَة؛ تجمع هَذِه الْعشْرَة الأحرف كلمتان، وهما: " الْيَوْم تنساه "، وَهَذَا عمله أَبُو عُثْمَان الْمَازِني.
(بَاب معرفَة الزَّوَائِد ومواقعها)

وَهِي الْهمزَة وَالْألف وَالْيَاء وَالْوَاو وَالْمِيم وَالنُّون وَالتَّاء وَاللَّام وَالسِّين وَالْهَاء، فَزِيَادَة الْهمزَة أَن تقع أَولا فِيمَا عدده أَرْبَعَة أحرف فَصَاعِدا نَحْو: أسود وأحمر وأخضر وأصفر لِأَنَّهَا من السوَاد والحمرة والصفرة والخضرة، فَإِذا كَانَت الثَّلَاثَة كلهَا من الْحُرُوف الَّتِي لَا تكون زَوَائِد والهمزة أَولا فَلَا يجوز إِلَّا أَن تكون زَائِدَة، وَإِن كَانَ مَعهَا غَيرهَا من الْحُرُوف الزَّوَائِد لم يحكم على وَاحِدَة مِنْهَا بِالزِّيَادَةِ إِلَّا بالاشتقاق. وَالْمِيم تُوضَع زيادتها أَولا فِي مَوضِع الْهمزَة مِمَّا عدده أَرْبَعَة أحرف فَصَاعِدا، نَحْو مَضْرُوب ومقتول ومرمي ومقضي وَكَذَلِكَ مستخرج وَمَا أشبهه، فَإِن وجدت حرفا من حُرُوف الزَّوَائِد فِي غير مَوْضِعه لم تحكم عَلَيْهِ

(1/47)


بِالزِّيَادَةِ إِلَّا أَن يُوضحهُ الِاشْتِقَاق. وَقد تزاد الْمِيم آخرا فِي أحرف ستراها إِن شَاءَ الله وَقد أفردنا لَهَا بَابا فِي آخر الْكتاب. ومحال أَن تزاد الْألف أَولا لِأَنَّهُ لَا يبتدأ بساكن، وَالْألف لَا تكون إِلَّا سَاكِنة، وَلَكِن تزاد ثَانِيَة وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة، فَهِيَ ثَانِيَة فِي ضَارب وَقَاتل، وثالثة فِي ذهَاب وَكتاب، ورابعة فِي حُبْلَى ومعزى، وخامسة فِي حبنطى وحبركى، والحبنطى: الْعَظِيم الْبَطن، والحبركى: الْقصير الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ الطَّوِيل الظّهْر، وسادسة فِي قبعثرى.
وَاعْلَم أَن الْألف وَالْيَاء وَالْوَاو أُمَّهَات الزَّوَائِد لِأَنَّهُنَّ حُرُوف الْمَدّ واللين ومنهن الحركات فَلَا تَخْلُو الْكَلِمَة من بَعضهنَّ فِي الخماسي والملحق بالسداسي خَاصَّة وَفِي كثير من الرباعي. وَالْوَاو لَا تزاد أَولا الْبَتَّةَ وَلَكِن تزاد ثَانِيَة فِي كوثر، وثالثة فِي عَجُوز، ورابعة فِي ترقوة، وخامسة فِي قلنسوة. وَالْيَاء تزاد أَولا فِي يضْرب ويرمع ويربوع، وثانية فِي زَيْنَب وحيدر، وثالثة فِي رغيف، ورابعة فِي قنديل، وخامسة فِي منجنيق، وَلَا تكون الْوَاو وَلَا الْيَاء أصلا فِي ذَوَات الْأَرْبَعَة إِلَّا فِي شَيْء من التكرير، وستراه إِن شَاءَ الله. وَالنُّون تزاد أَولا فِي نضرب، وثانية فِي جُنْدُب، وثالثة فِي حبنطى وجحنفل، ورابعة فِي ضيفن ورعشن، وخامسة فِي عطشان وَعُثْمَان، وسادسة فِي زعفران وعقربان؛ وتزاد عَلامَة للصرف فِي كل اسْم ينْصَرف، وتزاد فِي الْأَفْعَال ثَقيلَة وخفيفة، تزاد فِي التَّثْنِيَة نَحْو قَوْلك: مسلمان، وَفِي الْجمع نَحْو قَوْلك: مُسلمُونَ، وَفِي أَفعَال جمَاعَة النِّسَاء نَحْو: يضربن وتضربن وضربن. وَالتَّاء تزاد أَولا فِي الْمُذكر للمخاطب نَحْو: أَنْت تفعل للرجل وتفعلين للْمَرْأَة، وتلحق الْأَسْمَاء المفردة وَهِي الَّتِي تبدل فِي الْوَقْف هَاء، نَحْو طَلْحَة وَحَمْزَة، وَهِي فِي فعل الْمُؤَنَّث نَحْو ذهبت وأفسدت وَانْطَلَقت، وَفِي جمَاعَة النِّسَاء نَحْو ذاهبات ومنطلقات، وتلحق فِي ملكوت وعنكبوت، وتلحق فِي بَاب افتعل، وتلحق مَعَ السِّين فِي استفعل وَمَا تصرف مِنْهُ. وَأما اللَّام فَلَيْسَتْ زيادتها مَوْجُودَة إِلَّا فِي أحرف نَحْو ذَلِك وأولالك وعبدل وخفجل وَهُوَ من الخفج والخفج شَبيه بالعرج. وَجعلُوا الْهَاء من حُرُوف الزَّوَائِد لِأَنَّهَا تلْحق فِي الْوَقْف لبَيَان الْحَرَكَة نَحْو قَوْله تبَارك وَتَعَالَى: {فبهداهم اقتده} وَنَحْو {كِتَابيه} و {حسابيه} ، وَفِي إرمه، فَإِذا وصلت سَقَطت.
(بَاب الْأَمْثِلَة)

اعْلَم أَن الْأَمْثِلَة الَّتِي أَصْلهَا النحويون واصطلح عَلَيْهَا أهل اللُّغَة ثلاثية ورباعية وخماسية. فالثلاثية عشرَة أَمْثِلَة، وَهِي فعل مثل سعد، وَفعل مثل قفل، وَفعل مثل جذع، وَفعل مثل جمل، وَفعل مثل طُنب،

(1/48)


وَفعل مثل إبل، وَفعل مثل رجل، وَفعل مثل فَخذ، وَفعل مثل جرذ، وَفعل مثل ضلع. وَفِي هَذِه الْأَمْثِلَة سَالم ومعتل وستراه إِن شَاءَ الله.
[و] الرّبَاعِيّة، وَهِي خَمْسَة أَمْثِلَة، وَقَالَ الْأَخْفَش: هِيَ سِتَّة: فعلل مثل جَعْفَر، وفعلل مثل دِرْهَم، وفعلل مثل برثن، وفعلل مثل زبرج، وَفعل مثل سبطر؛ وَقَالَ الْأَخْفَش: فعلل مثل جخدب. وأبى ذَلِك سَائِر النَّحْوِيين، وَقَالُوا جخذب. وَقد لحق بالرباعي مَا جَاءَ على وزن فوعل، نَحْو كوثر، وفعول نَحْو جهور، وفيعل نَحْو صيقل، وفعيل نَحْو حذيم.
والأمثلة الخماسية أَرْبَعَة: فعلل نَحْو سفرجل، وفعلل نَحْو قهبلس، وفعلل نَحْو جردحل، وفعلل نَحْو خزعبل، الخزعبل: اللَّهْو والخرافات وَمَا يضْحك مِنْهُ. قَالَ أَبُو بكر: أَخْبرنِي أَبُو حَاتِم قَالَ: رَأَيْت مَعَ أم الْهَيْثَم أعرابية فِي وَجههَا صفرَة فَقلت: مَا لَك، قَالَت: كنت وَحمى بدكة فَحَضَرت مأدبة فَأكلت خيزبة من فراص هلعة فاعترتني زلخة، فَضَحكت أم الْهَيْثَم وَقَالَت: إِنَّك لذات خزعبلات أَي لَهو. وَأنْشد (رجز) :
(كَأَن متني أَخَذته زلخة ... )

(من طول جذبي بالفري المفضخه ... )

وَاعْلَم أَن أحسن الْأَبْنِيَة عِنْدهم أَن يبنوا بامتزاج الْحُرُوف المتباعدة؛ أَلا ترى أَنَّك لَا تَجِد بِنَاء رباعيا مصمت الْحُرُوف لَا مزاج لَهُ من حُرُوف الذلاقة إِلَّا بِنَاء يجيئك بِالسِّين، وَهُوَ قَلِيل جدا، مثل عسجد، وَذَلِكَ أَن السِّين لينَة وجرسها من جَوْهَر الغنة فَلذَلِك جَاءَت فِي هَذَا الْبناء.
فَأَما الخماسي مثل فرزدق وسفرجل وشمردل فَإنَّك لست تَجِد وَاحِدَة إِلَّا بِحرف وحرفين من حُرُوف الذلاقة من مخرج الشفتين أَو أسلة اللِّسَان، فَإِن جَاءَك بِنَاء يُخَالف مَا رسمته لَك مثل دعشق وضعثج وحفاضج وصفعهج، أَو مثل عقجش وشعفج، فَإِنَّهُ لَيْسَ من كَلَام الْعَرَب فاردده فَإِن قوما يفتعلون هَذِه الْأَسْمَاء بالحروف المصمتة وَلَا يمزجونها بحروف الذلاقة فَلَا تقبل ذَلِك كَمَا لَا يقبل من الشّعْر الْمُسْتَقيم الْأَجْزَاء إِلَّا مَا وَافق أبنية الْعَرَب من الْعرُوض الَّذِي أسس على شعر الْجَاهِلِيَّة. فَأَما الثلاثي من الْأَسْمَاء والثنائي فقد يجوز بالحروف المصمتة بِلَا مزاج من حُرُوف الذلاقة مثل خدع، وَهُوَ حسن

(1/49)


لفصل مَا بَين الْخَاء وَالْعين بِالدَّال، فَإِن قلبت الْحُرُوف قبح، فعلى هَذَا الْقيَاس فألف مَا جَاءَك مِنْهُ وتدبر فَإِنَّهُ أَكثر من أَن يُحْصى.
وَاعْلَم أَن أَكثر الْحُرُوف اسْتِعْمَالا عِنْد الْعَرَب الْوَاو وَالْيَاء والهمزة، وَأَقل مَا يستعملون لثقلها على ألسنتهم الظَّاء ثمَّ الذَّال ثمَّ الثَّاء ثمَّ الشين ثمَّ الْقَاف ثمَّ الْخَاء ثمَّ الْعين ثمَّ الْغَيْن ثمَّ النُّون ثمَّ اللَّام ثمَّ الرَّاء ثمَّ الْبَاء ثمَّ الْمِيم، فأخف هَذِه الْحُرُوف كلهَا مَا استعملته الْعَرَب فِي أصُول أبنيتهم من الزَّوَائِد لاخْتِلَاف الْمَعْنى، وَقد تقدم ذكرهَا وَتَفْسِير مواقعها. وَمِمَّا يدلك أَنهم لَا يؤلفون الْحُرُوف المتقاربة المخارج أَنه رُبمَا لَزِمَهُم ذَلِك من كَلِمَتَيْنِ أَو من حرف زَائِد فيحولون أحد الحرفين حَتَّى يصيروا الْأَقْوَى مِنْهُمَا مُبْتَدأ على الكره مِنْهُم، وَرُبمَا فعلوا ذَلِك فِي الْبناء الْأَصْلِيّ.
فَأَما مَا فَعَلُوهُ من بنائين فَمثل قَوْله تَعَالَى جلّ ثَنَاؤُهُ: {كلا بل ران على قُلُوبهم مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} لَا يبينون اللَّام ويبدلونها رَاء لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامهم لر، إِلَّا أَنهم قد قَالُوا: ورل، وَهُوَ دويبة صَغِيرَة أَصْغَر من الضَّب، وأرل وَهُوَ جبل مَعْرُوف، لما جَاءَت الْهمزَة وَالْوَاو قبل الرَّاء. وأنشدوا (بسيط) :
(وهبت الرّيح من تِلْقَاء ذِي أرل ... تزجي سحابا قَلِيلا مَاؤُهُ شبما)

فَلَمَّا كَانَ كَذَلِك أبدلوا اللَّام فَصَارَت مثل الرَّاء. وَمثله: {الرَّحْمَن الرَّحِيم} لَا تستبين اللَّام عِنْد الرَّاء. وَكَذَلِكَ فعلهم فِيمَا أَدخل عَلَيْهِ حرف زَائِد وأبدل، فتاء الافتعال عِنْد الطَّاء والظاء وَالزَّاي وَالضَّاد وَأَخَوَاتهَا تحول إِلَى الْحَرْف الَّذِي يَلِيهِ حَتَّى يبدأوا بالأقوى فيصيرا فِي لفظ وَاحِد وَقُوَّة وَاحِدَة.
فَأَما مَا فَعَلُوهُ فِي بِنَاء وَاحِد وَقُوَّة وَاحِدَة فَمثل السِّين عِنْد الْقَاف والطاء يبدلونها صادا، لِأَن السِّين إِذا اجْتمعت فِي كلمة مَعَ الطَّاء أَو مَعَ الْقَاف أَو مَعَ الْحَاء فَأَنت مُخَيّر إِن شِئْت جَعلتهَا صادا وَإِن شِئْت جَعلتهَا سينا، وَلَيْسَ هَذَا فِي كل الْكَلَام؛ قَالُوا: سراط وصراط، وسقر وصقر، وسبخة وصبخة، وَسَوِيق وصويق، وَلم يَقُولُوا الصوق بدل السُّوق، إِلَّا أَن يُونُس بن حبيب ذكر أَنه سمع من الْعَرَب الصوق بالصَّاد. والغين إِذا اجْتمعت مَعَ السِّين فِي كلمة فَرُبمَا جعلُوا السِّين صادا وَالصَّاد سينا؛ قَالُوا: سوغته وصوغته، وَقَالُوا: أصبغ الله عَلَيْهِ النِّعْمَة وأسبغها، وَلم يَقُولُوا: سبغت الثَّوْب فِي معنى صبغت لِأَن السِّين من وسط الْفَم مطمئنة

(1/50)


على ظهر اللِّسَان، وَالْقَاف والطاء شاخصتان إِلَى الْغَار الْأَعْلَى، فاستثقلوا أَن يَقع اللِّسَان عَلَيْهَا ثمَّ يرْتَفع إِلَى الطَّاء وَالْقَاف فأبدلوا السِّين صادا لِأَنَّهَا أقرب الْحُرُوف إِلَيْهَا لقرب الْمخْرج، ووجدوا الصَّاد أَشد ارتفاعا وَأقرب إِلَى الْقَاف والطاء، وَإِن كَانَ استعمالهم اللِّسَان فِي الصَّاد مَعَ الْقَاف أيسر من استعمالهم إِيَّاه مَعَ السِّين، فَمن ثمَّ قَالُوا: صقر، وَالْأَصْل السِّين، وَقَالُوا: قصط، وَإِنَّمَا هُوَ قسط. وَكَذَلِكَ إِن أدخلُوا بَين السِّين والطاء وَالْقَاف حرفا حاجزا أَو حرفين لم يكترثوا وتوهموا الْمُجَاورَة فِي الْبناء فأبدلوا، أَلا تراهم قَالُوا: صبط، وَقَالُوا فِي السَّبق: الصبق، وَقَالُوا فِي السويق: الصويق. وَكَذَلِكَ إِذا جَاوَرت الصَّاد الدَّال وَالصَّاد مُتَقَدّمَة، فَإِذا أسكنت الصَّاد ضعفت فيحولونها فِي بعض اللُّغَات زايا، فَإِذا تحركت ردوهَا إِلَى لَفظهَا مثل قَوْلهم: فلَان يزدق فِي قَوْله، فَإِذا قَالُوا: صدق قالوها بالصَّاد لتحركها، وَقد قرئَ: {حَتَّى يزدر الرعاء} بالزاي. فَمَا جَاءَك من الْحُرُوف فِي الْبناء مغيرا عَن لَفظه فَلَا يَخْلُو من أَن تكون علته دَاخِلَة فِي بعض مَا فسرت لَك من علل تقَارب المخارج.
وَاعْلَم أَن الثلاثي أَكثر مَا يكون من الْأَبْنِيَة، فَمن الثلاثي مَا هُوَ فِي الْكتاب وَفِي السّمع على لفظ الثنائي وَهُوَ ثلاثي لِأَنَّهُ مَبْنِيّ على ثَلَاثَة أحرف: أوسطه سَاكن وعينه ولامه حرفان مثلان، فأدغموا السَّاكِن فِي المتحرك فَصَارَ حرفا ثقيلا، وكل حرف ثقيل فَهُوَ يقوم مقَام حرفين فِي وزن الشّعْر وَغَيره.

(1/51)