غريب الحديث لابن قتيبة

النَّفْل
وَالنَّفْل هُوَ مَا نفله الإِمَام قَاتل الْمُشرك من سلبه وفرسه وَمَا خص بِهِ السَّرَايَا بعد أَن تخمس الْغَنِيمَة مِمَّا جَاءَت واشباه ذَلِك مِمَّا يرى الامام أَن يخص بِهِ من جملَة الْغَنِيمَة وَمن الْخمس إِذا صَار فِي يَده.
وَالْأَصْل فِي النَّفْل مَا تطوع بِهِ الْمُعْطِي مِمَّا لَا يجب عَلَيْهِ وَمِنْه قيل لصَلَاة التَّطَوُّع نَافِلَة وَيُقَال تَنْفَلِت اذا صليت غير الْفَرْض فَكَأَن الْأَنْفَال شئ خص الله بِهِ الْمُسلمين ان لم يكن لغَيرهم من الْأُمَم السالفة.
وَكَذَلِكَ يرْوى فِي الحَدِيث: أَن الْمَغَانِم كَانَت مُحرمَة على الْأُمَم فنفلها الله جلّ وَعز هَذِه الْأمة.
وروى زَائِدَة عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لم تحل الْغَنَائِم لأحد قبلكُمْ كَانَت

(1/229)


تنزل نَار فتأكلها.
وَمن أوصى بشئ لولد وَلَده فَهُوَ لولد الذُّكُور دون ولد الْبَنَات لِأَن ولد الْبَنَات منسوبون إِلَى آبَائِهِم لَا إِلَى أمهاتهم وَقَالَ الشَّاعِر: [من الطَّوِيل] ... بنونا بَنو أَبْنَائِنَا وبناتنا ... بنوهن أَبنَاء الرِّجَال الأباعد ...
فان قَالَ لذريتي فَهُوَ للذكور والاناث من الْوَلَد وَولد الْوَلَد لِأَن الذُّرِّيَّة مَأْخُوذَة من ذَرأ الله الْخلق أَي خلقهمْ كَأَنَّهَا خلق الله من الرجل وانما ترك همزها اسْتِخْفَافًا كَمَا ترك همز الْبَريَّة وَهِي من برأَ الله الْخلق وَقد جعل الله تَعَالَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام من ذُرِّيَّة ابراهيم عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ من ولد الْبَنَات.
فان قَالَ لعترتي فَهُوَ ولولده وَولد وَلَده الذُّكُور والاناث ولعشيرته الأدنين يدلك على ذَلِك قَول أبي بكر: نَحن عترة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّتِي خرج مِنْهَا وبيضته الَّتِي تفقات عَنهُ.
وان قَالَ لأختاني فأختانه ذَوُو محارم الْمَرْأَة من الرِّجَال وَالنِّسَاء الَّذين تحرم عَلَيْهِم وتضع خمارها عِنْدهم وان قَالَت مرأة

(1/230)


هُوَ لأحمائي فاحماؤها أَمْثَال الْأخْتَان من أهل بَيت الرجل والأصهار تجمع الْفَرِيقَيْنِ فَتَقَع على قَرَابَات الزَّوْج وقرابات الْمَرْأَة فان قَالَ للأيامى من أهل بَيْتِي فهم الَّذين لَا أَزوَاج لَهُم من الرِّجَال وَالنِّسَاء أَبْكَارًا وَغير أبكار قَالَ الله جلّ وَعز: {وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم وَالصَّالِحِينَ من عبادكُمْ وَإِمَائِكُمْ} أَرَادَ انكحوا من لَا زوج لَهُ من الرِّجَال وَالنِّسَاء وان قَالَ للعزاب فهم الَّذين لَا أَزوَاج لَهُم من الرِّجَال وَالنِّسَاء يُقَال رجل عزب وَامْرَأَة عزبة وانما قيل لَهُ عزب لِأَنَّهُ انْفَرد وكل شئ انْفَرد فَهُوَ عزب قَالَ ذُو الرمة وَذكر الثور [من الْبَسِيط] ... تجلو البوارق عَن مجر مز لهق ... كَأَنَّهُ متقبي يلمق عزب ...
وَمثله الْيَتِيم سمي يَتِيما لإنفراده وكل شئ انْفَرد فقد تيتم ييتم واليتيم فِي النَّاس من قبل الْأَب وَفِي الْبَهَائِم من قبل الْأُم.
الثّيّب
وَالثَّيِّب يكون للرجل وَالْمَرْأَة وَكَذَلِكَ الْبكر والعانس قَالَ قيس بن رِفَاعَة الوَاقِفِي من الْبَسِيط ... منا الَّذِي مَا عدا ان طر شَاربه ... والعانسون وَفينَا المرد والشيب ...
والكهول من الرِّجَال هم الَّذين جازوا الثَّلَاثِينَ قَالَ الله تَعَالَى فِي

(1/231)


عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام: {ويكلم النَّاس فِي المهد وكهلا} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ ابْن ثَلَاثِينَ وَهُوَ مَأْخُوذ من قَوْلهم اكتهل النَّبَات اذا تمّ وَقَوي قبل أَن يهيج ثمَّ لَا يزَال الرجل كهلا حَتَّى يبلغ خمسين ويشيخ وَلَيْسَ لَهُ حد قَالَ الوَاقِفِي من الْبَسِيط ... هَل كهل خمسين ان شاقته منزلَة ... مسفه رَأْيه فِيهَا ومسبوب ... وَمن قَالَ كَذَا لبني تَمِيم فَهُوَ للذكور والاناث لِأَن الْبَنِينَ اذا خالطوا الْبَنَات غلب الذُّكُور فَقيل هَذِه بَنو تَمِيم قد انْتَقَلت وَهِي رجال وَنسَاء وان لم يكن بذلك الْمَكَان فهم الا اناث فَهُوَ لَهُم لِأَنَّهُ أَرَادَ من وَلَده تَمِيم وَكَذَلِكَ ان قَالَ لتميم وَهَذَا يجوز فِي الْقَبِيل [27 / ب] الْأَعْظَم الْمَشْهُور دون الْأَب الْأَدْنَى وَمن قَالَ كَذَا وَكَذَا لبني عبد الله فَهُوَ للاثنين فَمَا فَوْقهمَا لِأَن الِاثْنَيْنِ جَمِيع إِنَّمَا هما وَاحِد جمع مَعَ الآخر قَالَ الله جلّ وَعز: {فَإِن كَانَ لَهُ إخْوَة فلأمه السُّدس} يُرِيد أَخَوَيْنِ فَصَاعِدا وَقَالَ: {وَلما سكت عَن مُوسَى الْغَضَب أَخذ الألواح} جَاءَ فِي التَّفْسِير أَنَّهُمَا لوحان وَقَالَ: {فقد صغت قُلُوبكُمَا} وهما قلبان وَمثل هَذَا كثير قد بَينته فِي كتاب تَأْوِيل مُشكل الْقُرْآن فِي بَاب مُخَالفَة ظَاهر الْكَلَام مَعْنَاهُ.

(1/232)


وان قَالَ لولد فلَان فَالْوَلَد يَقع على الْوَاحِد والاثنين والجميع وَمن قَالَ لأرامل بني فلَان فَهُوَ على طَرِيق اللُّغَة للرِّجَال وَالنِّسَاء لِأَن الأرامل تقع على الذُّكُور والاناث يُقَال امْرَأَة أرملة وَرجل أرمل قَالَ الشَّاعِر من الزّجر ... أحب أَن أصطاد ضبا سحبلا ... رعى الرّبيع والشتاء أرملا ...
أَرَادَ لَا أُنْثَى لَهُ لِأَنَّهُ إِذا سفد هزل.
وَقَالَ يزِيد الرقاشِي قيل لأعرابي تمنه فَقَالَ ضَب أَعور عنين بِأَرْض كلدة.
طلبه عنينا لِأَن المَاء اذا بَقِي فِي ظَهره كَانَ أسمن لَهُ وَطَلَبه أَعور لقلَّة تلفته وَالْأَرْض الكلدة الغليظة واذا كَانَت الضباب فِي الْحِجَارَة وبالبعد من المَاء كَانَ أسمن لَهَا.
حَدثنِي اسحق بن رَاهَوَيْه ثَنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن طَلْحَة الأعلم عَن الشّعبِيّ فِي رجل أوصى لأرامل بني حنيفَة قَالَ تُعْطى من خرج من كمرة حنيفَة قَالَ وأنشدنا غير وَكِيع من الْبَسِيط.

(1/233)


.. هذي الأرامل قد قضيت حَاجَتهَا ... فَمن بحاجة هَذَا الأرمل الذّكر ... [28 / أ]
وَأما أَصْحَاب الرَّأْي فيرون الأرامل من النِّسَاء دون الرِّجَال هَذَا هُوَ الَّذِي يعرفهُ عوام النَّاس ويقصدون إِلَيْهِ فِي الْوَصِيَّة وَذَلِكَ لَا يعرفهُ الا الْخَواص وانما تقع الْفتيا على الْمَشْهُور المتعالم الْمَعْرُوف وعَلى قدر علم الْمُوصي وطبقته فِي النَّاس وَنِيَّته.
وَسُئِلَ ابْن عَبَّاس رَحمَه الله عَن رجل مَاتَ وَأوصى ببدنة أتجزئ عَنهُ بقرة فَقَالَ نعم ثمَّ قَالَ وَمِمَّنْ صَاحبكُم قيل لَهُ من بني رَبَاح فَقَالَ وَمَتى اقتنت بَنو رَبَاح الْبَقر الى الابل وهم صَاحبكُم أَي ذهب وهمه فَلم يَجْعَل الْفتيا مَا يحْتَملهُ اللَّفْظ عِنْده وَلكنه قصد بهَا الى النِّيَّة وَلَو أَن رجلا قَالَ ثُلثي لموَالِي لم يكن ذَلِك الا لمواليه بالعتاقة دون بني عَمه وقرابته وهم أَيْضا موَالِيه قَالَ الله جلّ وَعز: {وَإِنِّي خفت الموَالِي من ورائي} يَعْنِي الْعصبَة وَلَو قَالَ للغلمان لم يكن الا للذكور وَقد تَقول الْعَرَب لِلْجَارِيَةِ غلامة قَالَ الشَّاعِر فِي وصف فرس لَهُ من الوافر ... تهان لَهَا الغلامة والغلام
وَلَو قَالَ للرِّجَال لم يكن الا رجلة قَالَ الشَّاعِر من المديد

(1/234)


.. كل جَار ظلّ مغتبطا ... غير جيران بني جبله
هتكوا جيب فَتَاتهمْ ... لم يبالوا حُرْمَة الرجله ...
وَسُئِلَ بعض الْحُكَّام عَن رجل جعل مَالا فِي الْحُصُون فَقَالَ اشْتَروا بِهِ خيلا واحملوا عَلَيْهَا فِي سَبِيل الله ذهب الى قَول الْجعْفِيّ [من الْكَامِل] ... وَلَقَد علمت على توقي الردى ... أَن الْحُصُون الْخَيل لَا مدر الْقرى ...
وَهَذَا من الألغاز والمنكرات الَّتِي لَا تذْهب الْعلمَاء اليها وانما قيل للقسم يَمِين لأَنهم كَانُوا اذا تحالفوا أَو توافقوا ضرب كل امْرِئ مِنْهُم يَمِينه على يَمِين صَاحبه كَمَا يفعل فِي بيعَة السُّلْطَان فَيُقَال أَخذ يَمِينه وَأخذ صفقته اذا فعل ذَلِك ثمَّ قيل للحلف بِاللَّه وَبِكُل مَا يحلف بِهِ يَمِين اذ كَانَ ذَلِك يَقع مَعَ التصافق بالأيمان.
وَنهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أكل كل ذِي نَاب من السبَاع وكل ذِي مخلب من الطير وَالْفرق بَين سِبَاع الْوَحْش وهائمها بالأنياب وأنيابها تكون فِي مقاديم أفواهها مَكَان الْأَسْنَان لبهائم الْأَنْعَام والسبع كل صائد أَو عَاقِر أَو آكل لحم وَلَا تسمى سبعا حَتَّى تكون كَذَلِك مثل الْأسد وَالذِّئْب وَالْكَلب

(1/235)


والنمر والفهد.
فان بعض الْفُقَهَاء لَا يَرَاهَا سبعا وَيَقُول هِيَ نعجة من الْغنم وَلَو كَانَ قَالَ هِيَ حَلَال لظننا أَنه ذهب مَذْهَب من يُطلق جَمِيع السبَاع لقَوْل الله تَعَالَى {قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما على طاعم يطعمهُ} الْآيَة وَلكنه قَالَ هِيَ نعجة من الْغنم وَلست أَدْرِي لم أخرجهَا من السبَاع وَجعلهَا من بَهِيمَة الْأَنْعَام وَهِي تساور من تعرض لَهَا وتأكل الْجِيَف وَلُحُوم الْمَوْتَى وتفرس الْغنم كَمَا يفرس الذِّئْب قَالَ كثير وَذكر نَاقَة [من المتقارب] ... وذفرى ككاهل ذيخ الخليف ... أصَاب فريقة ليل فعاثا ...
والذيخ ذكر الضباع والفريقة من الْغنم الْأُنْثَى أضلها صَاحبهَا أَصَابَهَا الذيخ فعاث فِيهَا وعيثه أَنه يَأْكُل وَيقتل مَالا يَأْكُل وَقَالَ مَالك بن نُوَيْرَة [من الْكَامِل] ... يَا لهف من عرفاء ذَات فليلة ... جَاءَت إِلَيّ على ثَلَاث تخمع ...

(1/236)


.. ظلت تراصدني وَتنظر حولهَا ... ويريبها دمق وأنى مطمع
وتظل تنشطني وتلحم أجريا ... وسط العرين وَلَيْسَ حَيّ يدْفع
لَو كَانَ سَيفي بِالْيَمِينِ ضربتها ... عني وَلم أوكل وجنبي الأضيع ...
وأنشدني الرياشي فِي وصف ضبع [من الوافر] ... دفوع للقبور بمنكبيها ... كَأَن بوجهها تحميم قدر ...
فَأخْبر أَنَّهَا تستثير الْمَوْتَى من الْقُبُور لتأكل لحومهم وأنشدني لساعدة بن جؤية الْهُذلِيّ يذكر مَيتا [من الوافر] ... وغودر ثاويا وتأوبته ... مذرعة أميم لَهَا فليل ...
والمذرعة الضبع لِأَن لَهَا خُطُوطًا فِي ذراعيها والفليل مَا تكبب من شعرهَا فَإِن كَانَ إِنَّمَا رخص فِي لَحمهَا لما أوجبته الْعلمَاء من الْفِدْيَة فِيهَا فَإِن ذَلِك إِنَّمَا وَجب لِأَنَّهَا لَا تبتدئ بالعقر

(1/237)


وَلَا تعدو على حَيّ حَتَّى يعرض لَهَا وَكَذَلِكَ كل سبع يُؤمن فَفِيهِ الْفِدْيَة وترخص قوم فِي الثَّعْلَب وَلَا أَدْرِي أَيْضا لم ذَلِك فَإِن كَانَ لِأَنَّهُ قد يَأْكُل الثِّمَار وَالْأَعْنَاب وَلَا يساور لصِغَر جثته وَضَعفه فالأغلب عَلَيْهِ أكل اللَّحْم وَهُوَ يصيد كَمَا تصيد السبَاع وَذَا قوي على الأرنب فرسها وعَلى صغَار الشَّاء أكلهَا قَالَ دُرَيْد [من الطَّوِيل] ... إِذا نسبوا لم يعرفوا غير ثَعْلَب ... أَبِيهِم وَمن شَرّ السبَاع الثعالب ...
فَأَما الأرنب فَإِنَّهَا من هائم الْوَحْش تَأْكُل العشب وَلَا تصطاد وَإِنَّمَا كرهها من كرهها للْحيض
وَأما ذَوَات المخالب من الطير فَهِيَ سِبَاع الطير شبهت بسباع الْوَحْش لِأَنَّهَا تصطاد وتعقر وتجرح وتأكل اللَّحْم كالعقاب والبازي والصقر وَرُبمَا كَانَ من سِبَاع الطير مَا لَيْسَ لَهُ مخلب كالنسر لَا مخلب لَهُ إِنَّمَا ظفر كظفر الدَّجَاجَة وكالغراب والرخمة
فَإِن قَالَ قَائِل إِن هَذِه لَيست دَاخِلَة فِي التَّحْرِيم لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حرم ذَوَات المخالب قيل لَهُ لم يكن الْقَصْد بِالتَّحْرِيمِ للمخلب وَلَا للناب وَإِنَّمَا المخلب علم للسباع من الطير كَمَا كَانَ الناب علما للسباع من الْوَحْش لِأَن المخالب تكون لأكثرها وَإِنَّمَا الْقَصْد بِالتَّحْرِيمِ لما صَاد وعقر وَأكل اللَّحْم وكل مَا فعل ذَلِك فَهُوَ محرم وَإِن لم يكن ذَا مخلب والنسر أعظم الطير جثة وأشدها قُوَّة

(1/238)


والغراب سبع يَأْكُل اللَّحْم ويصيد حشرات الأَرْض والفأر وَيسْقط مَعَ الذِّئْب على الْجِيَف وَالْعرب تدعوهما الأصرمين لاجتماعهما على المآكل قَالَ المرار يذكر فلاة [من الوافر] ... على صرماء فِيهَا أصرماها ... وخريت الفلاة بهَا قَلِيل ...
يَعْنِي الذِّئْب والغراب وَقَالَ آخر [من الطَّوِيل] ... بملحمة لَا يسْتَقلّ غرابها ... دَفِينا ويمسي الذِّئْب فِيهَا مَعَ النسْر ...
قَوْله لَا يسْتَقلّ غرابها يُرِيد أَنه لَا يطير محلقا وَلكنه يطير عَن قَتِيل إِلَى قَتِيل وَسَماهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاسِقًا لعِلَّة تذكرها فِيمَا بعد وَأمر بقتْله فِي الْحل وَالْحرم وَكَانَت الْعَرَب تتعاير بِأَكْل لَحْمه وتعده من الْخَبَائِث قَالَ وَعلة الْجرْمِي [من الوافر] ... فَمَا لحم الْغُرَاب لنا بزاد ... وَلَا سرطان أَنهَار البريص ...

(1/239)


فَانْتفى من أكل لَحْمه وَعرض بِقوم يَأْكُلُونَهُ وقرنه بلحوم السراطين وَكَذَلِكَ الرخمة هِيَ أقذر الطير طعمة لِأَنَّهَا تَأْكُل الْعذرَة وَتَقَع مَعَ الْغرْبَان على الْجِيَف والقتلى قَالَ الْكُمَيْت يذكر رجلا غازيا [من الْبَسِيط] ... فِي دَاره حِين يَغْزُو من وضائعه ... مَال تنافسه الْغرْبَان والرخم ...
فَإِن احْتج مُحْتَج بالدجاج وقذر طعمه وَأكله اللَّحْم قُلْنَا لَهُ لَيْسَ الدَّجَاج سبعا لِأَن الْأَغْلَب عَلَيْهِ لقط الْحبّ وَإِنَّمَا يقْضى بأغلب الْأُمُور أَلا ترى أَنا قد نسمي الرجل حِرَاش أُمِّيا وَإِن كَانَ قد يكْتب الْحَرْف والحرفين والحروف وَكَذَلِكَ العصفور يشبه بسباع الطير لِأَنَّهُ يلقم فِرَاخه وَلَا يزق وَيَأْكُل اللَّحْم ويصيد النَّمْل وَالْجَرَاد إِلَّا أَنه يفارقها بِأَن الْأَغْلَب عَلَيْهِ لقط الْحبّ وَأَنه لَا مخلب لَهُ وَلَا منسر وَأَنه مِمَّا يعايش النَّاس ويصاحبهم وَلَا يحل إِلَّا حَيْثُ حلوا فَصَارَ شَبِيها بالدواجن من الطير والدجاج

(1/240)


تَفْسِير مَا جَاءَ فِي حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذكر الْقُرْآن
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي تَفْسِير ماجاء فِي حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذكر الْقُرْآن وسوره وأحزابه وَسَائِر كتب الله عز وَجل
حَدثنِي سهل بن مُحَمَّد عَن أبي عُبَيْدَة أَنه سمي فرقانا لِأَنَّهُ فرق بَين الْحق وَالْبَاطِل وَبَين الْكَافِر وَالْمُؤمن وَسمي قُرْآنًا لِأَنَّهُ جمع السُّور وَضمّهَا وَيُقَال للَّتِي لم تَلد من النوق مَا قَرَأت سلى قطّ أَي مَا ضمت فِي رَحمهَا ولدا وَكَذَلِكَ مَا قَرَأت جَنِينا وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِن علينا جمعه وقرآنه} أَي تأليفه قَالَ وَالسورَة تهمز وَلَا تهمز فَمن همزها جعلهَا من أسأرت يَعْنِي أفضلت فضلَة كَأَنَّهَا قِطْعَة من الْقُرْآن وَمن لم يهمز جعلهَا من سُورَة الْبناء أَي منزلَة بعد منزلَة

(1/241)


وَبَلغنِي عَن أبي عَمْرو الشياني أَنه قَالَ معنى آيَة من كتاب الله أَي جمَاعَة حُرُوف قَالَ وَمِنْه يُقَال خرج الْقَوْم بآيتهم أَي بجماعتهم والسبع الطوَال آخرهَا بَرَاءَة وَكَانُوا يرَوْنَ الْأَنْفَال وبراء سُورَة وَاحِدَة وَلذَلِك لم يفصلوا بَينهمَا ذكر ذَلِك سُفْيَان عَن مسعر عَن بعض أهل الْعلم
والسور الَّتِي تعرف بالمئين هِيَ مَا ولي السَّبع الطول وَإِنَّمَا سميت بمئين لِأَن كل سُورَة مِنْهَا تزيد على مائَة آيَة أَو تقاربها
والمثاني مَا ولي المئين من السُّور الَّتِي هِيَ دون المئة كَأَن المئين مباد وَهَذِه مثان وَقد تكون المثاني سور الْقُرْآن كُله قصارها وطوالها يُقَال من ذَلِك قَول الله تبَارك وَتَعَالَى {كتابا متشابها مثاني} وَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم}
وَإِنَّمَا سمي مثاني لِأَن الأنباء والقصص تثنى فِيهِ وَيُقَال

(1/242)


بل المثاني فِي قَوْله {وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني} آيَات سُورَة الْحَمد سَمَّاهَا مثاني لِأَنَّهَا تثنى فِي كل صَلَاة وَفِي كل رَكْعَة
وَأما الْمفصل فَهُوَ مَا يَلِي المثاني من قصار السُّور وَإِنَّمَا سميت مفصلا لقصرها وَكَثْرَة الْفُصُول فِيهَا بسطر بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَأما {آل حميم} فَإِنَّهُ يُقَال إِن {حم} اسْم من أَسمَاء الله أضيفت هَذِه السُّور إِلَيْهِ كَأَنَّهُ قيل سُورَة الله لشرفها وفضلها وَإِن كَانَ الْقُرْآن كُله سور الله فَإِن هَذَا كَمَا يُقَال بَيت الله والبيوت كلهَا لله وَحرم الله وناقة الله وَقد يَجْعَل {حم} اسْما للسورة ويدخله الْإِعْرَاب وَلَا يصرف قَالَ الشَّاعِر من الطَّوِيل ... يذكرنِي حَامِيم وَالرمْح شاهر ... فَهَلا تلِي حَامِيم قبل التَّقَدُّم ...
وَمن قَالَ هَذَا قَالَ فِي الْجمع الحواميم وبسم الله الرَّحْمَن

(1/243)


الرَّحِيم آيَة من الْحَمد لِاجْتِمَاع النَّاس على أَنَّهَا سبع آيَات وَلَا تكون سبعا إِلَّا بهَا
والبصريون يجْعَلُونَ {عَلَيْهِم} رَأس آيَة وأرداف رُؤُوس الْآي فِيهَا كلهَا الْيَاء والردف فِي {عَلَيْهِم} هَاء ورؤوس الْآي فِي أَكثر الْقُرْآن تأي على مِثَال وَلَا تكَاد أَن يُخَالف بَينهَا وَلِأَن {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} مفتتح كل كتاب بِكُل لِسَان وَلكُل أمة وَالدَّلِيل على ذَلِك كتاب سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الْمَرْأَة
وَأما التَّوْرَاة
فَإِن الْفراء يَجْعَلهَا من ورى الزند يري إِذا خرجت

(1/244)


ناره وأوريته يُرِيد أَنَّهَا ضِيَاء وَفِيه لُغَة أُخْرَى وري الزند يري وَيُقَال وريت بك نَارِي وَمثله زهرت بك نَارِي
وَأما الزبُور
فَإِنَّهُ من زبر الْكتاب يزبره إِذا كتبه وَهُوَ فعول بِمَعْنى مفعول مثل جلوب بِمَعْنى مجلوب وركوب بِمَعْنى مركوب وأصل قَوْلهم كتب الْكتاب بِمَعْنى جمع حُرُوفه وَمِنْه كتب الخرز وَمِنْه يُقَال كتبت البغلة إِذا جمعت بَين شفربها بِحَلقَة وَفِيه لُغَة أُخْرَى الزبُور بِضَم الزَّاي وَكَأَنَّهُ جمع وَقد قرىء بهما قَالَ أَبُو ذُؤَيْب من [المتقارب] ... عرفت الديار كرقم الدواة ... يزبرها الْكَاتِب الْحِمْيَرِي ...
ويروى يذبرها أَيْضا وَهُوَ مثله يُقَال زبر الْكَاتِب الْكتاب يزبره ويزبره وذبره يذبره ويذبره
فَأَما الْإِنْجِيل
فَإِنَّهُ من نجلت الشَّيْء إِذا أخرجته وَمِنْه قيل لنسل الرجل

(1/245)


نجله كَأَنَّهُ هُوَ استخرجه يُقَال فتح الله ناجليه أَي وَالِديهِ وَقيل للْمَاء الَّذِي يظْهر من النز نجل يُقَال قد استنجل الْوَادي وإنجيل إفعيل من ذَلِك كَأَن الْحق كَانَ دثر ودرس كثير من معالمه وَكثر تَحْرِيف أهل الْكتاب وخفي على النَّاس مَا أحدثوه فأظهر الله جلّ وَعز ذَلِك

(1/246)


ذكر أَلْفَاظ وَردت فِي الْقُرْآن
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد فِيمَا جَاءَ فِي حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي كتاب الله تَعَالَى من ذكر الْكَافرين والظالمين والفاسقين وَالْمُنَافِقِينَ والفاجرين والملحدين وَمن أَيْن أَخذ كل حرف فِيهَا
أما الْكَافِر
فَهُوَ من قَوْلك كفرت الشَّيْء إِذا غطيته وَمِنْه يُقَال تكفر فلَان فِي السِّلَاح إِذا لبسه وَقَالَ بَعضهم وَمِنْه كافور النّخل وَهُوَ قشر الطلعة تَقْدِيره فاعول لِأَنَّهُ يُغطي الكفرى وَمِنْه قيل ليل كَافِر لِأَنَّهُ يستر كل شَيْء قَالَ لبيد وَذكر الشَّمْس [من الْكَامِل] ... حَتَّى إِذا أَلْقَت يدا فِي كَافِر ... وأجن عورات الثغور ظلامها ...
قَوْله أَلْقَت يدا فِي كَافِر أَي دخل أَولهَا فِي الْغَوْر وَهُوَ مثل قَول الآخر يصف ظليما أَو نعَامَة [من الْكَامِل] ... فتذكرا ثقلا رشيدا بَعْدَمَا ... أَلْقَت ذكاء يَمِينهَا فِي كَافِر ...

(1/247)


وذكاء هِيَ الشَّمْس وَمِنْه يُقَال للصبح ابْن ذكاء لِأَن ضوءه من الشَّمْس فَكَأَن الأَصْل فِي قَوْلهم كَافِر أَي سَاتِر لنعم الله عَلَيْهِ وَكَانَ بعض الْمُحدثين يذهب فِي قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض إِلَى التكفر فِي السِّلَاح يُرِيد ترجعوا بعد الْولَايَة أَعدَاء يتكفر بَعْضكُم لبَعض فِي الْحَرْب
وَأما الظَّالِم
فَهُوَ من قَوْلك ظلمت السقاء إِذا شربته قبل أَن يدْرك وظلمت الْجَزُور إِذا عقرته لغير مَا عِلّة
وَقَالَ ابْن مقبل يمدح قوما [من الْبَسِيط] ... هرت الشقاشق ظلامون للجزر ...
يُرِيد أَنهم يعتبطونها وَكَانَت الْعَرَب تذم بِأَكْل الْعَوَارِض وَهِي الَّتِي تنحر لعِلَّة تحدث بهَا فيخشون عَلَيْهَا ان تَمُوت فتذبح وَكَانُوا يَقُولُونَ بَنو فلَان أكالون للعوارض وكل من وضع شَيْئا فِي غير مَوْضِعه فقد ظلم فَكَأَن الظَّالِم هُوَ الَّذِي يزِيل الْحق عَن جِهَته وَيَأْخُذ مَا لَيْسَ لَهُ هَذَا وَمَا أشبهه

(1/248)


وَأما الْفَاسِق
فَإِن الْفراء يذكر أَنه الْخَارِج عَن طَاعَة ربه قَالَ وَمِنْه يُقَال فسقت الرّطبَة إِذا خرجت من قشرها وَاحْتج بقول الله تَعَالَى {إِلَّا إِبْلِيس كَانَ من الْجِنّ ففسق عَن أَمر ربه} قَالَ خرج عَن طَاعَته
وَقد جرى ذكر هَذَا فِي ذكر تَسْمِيَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفَأْرَة فويسقة
وَلَا أعلمني سَمِعت فِي هَذَا شَيْئا عنن غير الْفراء
أما الْمُنَافِق
فَهُوَ مَأْخُوذ من نافقاء اليربوع وَهُوَ جُحر من جحرته
قَالَ الزيَادي عَن الْأَصْمَعِي وَله أَرْبَعَة جحرة والنافقاء وَهُوَ هَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ والقاصعاء تسمى بذلك لِأَنَّهُ يخرج تُرَاب الْجُحر ثمَّ يقصع بِبَعْضِه كَأَنَّهُ يسد بِهِ فَم الْجُحر وَمِنْه يُقَال خرج قد

(1/249)


قصع بِالدَّمِ إِذا امْتَلَأَ وَلم يسل
والداماء
سمي بذلك لِأَنَّهُ يخرج التُّرَاب من فَم الْجُحر ثمَّ يدم بِهِ فَم الآخر كَأَنَّهُ يطليه بِهِ وَمِنْه يُقَال ادمم قدرك بشحم أَو طحال أَي اطلها بِهِ
والراهطاء
وَلم يذكر اشتقاقه قَالَ وَإِنَّمَا يتَّخذ هَذِه الْحُجْرَة عددا لَهُ فَإِذا أَخذ عَلَيْهِ بَعْضهَا خرج من بعض وَكَأن النافقاء هُوَ الَّذِي يخرج مِنْهُ كثيرا لم يدْخل فِيهِ كثيرا
قَالَ أَبُو زيد هِيَ الَّتِي يخرج مِنْهَا إِذا فزع فَيُقَال قد نفق ونافق فَشبه الْمُنَافِق بِهِ لِأَنَّهُ يدْخل فِي الْإِسْلَام بِلَفْظِهِ وَيخرج مِنْهُ بعقده كَمَا يدْخل اليربوع من بَاب وَيخرج من بَاب
وَأما الْفَاجِر
فَهُوَ المائل والفجور الْميل قَالَ لبيد [من الطَّوِيل] ... وَإِن أخرت فالكفل فَاجر ...
وَلذَلِك قيل للكاذب فَاجر لِأَنَّهُ مَال عَن الصدْق وَقَالَ أَعْرَابِي فِي عمر رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ أَتَاهُ فَشَكا إِلَيْهِ نقب إبِله ودبرها

(1/250)


واستحمله فَقَالَ لَهُ كذبت وَلم تحمله من الرجز ... أقسم بِاللَّه أَبُو حَفْص عمر ... مَا مَسهَا من نقب وَلَا دبر
اغْفِر لَهُ اللَّهُمَّ إِن كَانَ فجر ... فَكَأَن الْفَاجِر المائل عَن الْحق
وَأما الملحد
فَهُوَ الْعَادِل الجائر عَن الْقَصْد وَمِنْه قَول الله جلّ وَعز {إِن الَّذين يلحدون فِي آيَاتنَا} أَي يَجُورُونَ ويعدلون وَمِنْه سمي اللَّحْد لِأَنَّهُ فِي نَاحيَة وَلَو كَانَ مُسْتَقِيمًا لَكَانَ ضريحا يُقَال ألحدت ولحدت
وَكَانَ الْأَحْمَر يفرق بَينهمَا فَيَقُول ألحدت ماريت وجادلت ولحدت جرت وملت وَقد قرئَ باللغتين جَمِيعًا يلحدون ويلحدون

(1/251)


ذكر أهل الْأَهْوَاء والرافضة
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد فِي ذكر ماجاء فِي حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذكر أهل الْأَهْوَاء والرافضة والخوارج والمرجئة والقدرية وَمن أَيْن أَخذ كل حرف مِنْهَا
الرافضة
بَلغنِي عَن الْأَصْمَعِي أَنه قَالَ إِنَّمَا سميت الرافضة لأَنهم رفضوا زيد بن عَليّ وتركوه ثمَّ لزم هَذَا الِاسْم كل من غلا مِنْهُم فِي مذْهبه وتنقص السّلف