سر صناعة الإعراب

التمهيد 1:
اعلم2 أن الصوت عرض 3 يخرج من النفس مستطيلا متصلا، حتى يعرض له في الحلق والفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده واستطالته، فيسمى المقطع أينما عرض له4 حرفا، وتختلف أجراس الحروف بحسب اختلاف مقاطعها، وإذا تفطنت5 لذلك وجدته على ما ذكرته لك؛ ألا تري أنك تبتدئ الصوت من أقصى حلقك، ثم تبلغ به أي المقاطع شئت، فتجد له جرسا ما، فإن انتقلت عنه راجعا منه، أو متجاوزا له، ثم قطعت، أحسست عند ذلك صدى6 غير الصدى الأول وذلك نحو الكاف، فإنك إذا قطعت بها سمعت هنا صدى ما، فإن رجعت إلى القاف سمعت غيره، وإن جزت7 إلى الجيم سمعت غير ذينك الأولين.
وسبيلك إذا أردت اعتبار صدى الحروف، أن تأتي به ساكنا لا متحركا، لأن الحركة تقلق8 الحرف عن موضعه، ومستقره، وتجتذبه إلى جهة الحرف التي هي
__________
1 زيادة ليست في الأصل.
2 اعلم: أسلوب أمر الغرض منه النصح والإرشاد.
3 عرض: يظهر ويبرز لسان العرب "4/ 2886". مادة "ع. ر. ض".
4 له: الضمير في "له" راجع الي الصوت، وفي عرض: راجع الي المقطع.
وعلى هذا يكون المؤلف قد سمى المقطع هنا حرفا، والمعروف أن المقطع هو مخرج الحرف، لا الحرف، وبالتالي فكلامه لا يستقيم إلا على ضرب من المجاز من باب تسمية المحل باسم الحال، كقولك: انصرف الديوان، والمراد هنا من فيه، مع ملاحظة أن التجوز غير مستساغ في التعريف لأنه ينافي شروطه.
5 تفطنت: أي صرت ذا فطنة، وفطن للأمر أي تنبه إليه فهو فاطن، وفطن، وفطين.
لسان العرب"5/ 3437" مادة "ف. ط. ن".
6 صدى: رجع الصوت يرده الجبل ونحوه، "ج"، أصداء. لسان العرب "4/ 2421".
7 جزت: جاز الطريق ونحوه أي تعداه وخلفه وراءه. لسان العرب "1/ 724".
8 تقلق: تصوير بليغ حيث يشبه الحركة بأنها مصدر لإزعاج الحرف بحيث تدفعه وتحركه عن موضعه.

(1/19)


بعضه، ثم تدخل عليه همزة الوصل مكسورة1 من قبله لأن الساكن لا يمكن الابتداء به2، فتقول: اك. اق. أج، وكذلك سائر الحروف، إلا أن بعض الحروف أشد حصرا للصوت من بعضها.
ألا تراك تقول في الدال والطاء واللام: اد. اط. ال. ولا تجد للصوت منفذا هناك: ثم تقول: اص. اس. ار. اث. اف، فتجد الصوت يتبع الحرف. وإنما يعرض هذا الصويت التابع لهذه الحروف ونحوها ما وقفت عليها، لأنك لا تنوي الأخذ في حرف غيرها، فيتمكن الصويت فيظهر.
فأما إذا وصلت هذه الحروف ونحوها مما سنبينه في مكانه، فإنك لا تحس معها شيئا من الصوت كما تجده معها إذا وقفت عليها، وذلك نحو يصبر ويسلم ويزلق ويثرد ويفتح، وإنما كان ذلك كذلك من قبل أن أخذك في حرف آخر وتأهبك له3، قد حالا4 بينك وبين التلبث5 والاستراحة التي يوجد معها ذلك الصويت، وسترى ذلك مخلصا بمعونة الله.
فإن اتسع مخرج الحرف حتى لا يقتطع الصوت عن امتداده واستطالته، استمر الصوت ممتدا حتى ينفد6، فيفضي 7 حسيرا8 إلى مخرج الهمزة، فينقطع بالضرورة عندها إذالم يجد منقطعا فيما فوقها.
__________
1 مكسورة: الكسر ليس ضروريا، والمهم أن تأتي بحركة قبل الحرف الذي تريد معرفة مخرجه، ولذلك كان الخليل، وهو أسبق من ذاق الحروف ليتعرف مخارجها، يفتح الهمزة قبل الحرف، قال في اللسان "ج1/ ص7 في المقدمة": قال الليث بن المظفر: كان "الخليل" إذا أراد ان يذوق الحرف فتح فاه بألف، ثم أظهر الحرف، ثم يقول: "أب، أت، أج".
2 لا يمكن الابتداء به: أسلوب نفي الغرض منه التأكيد على عدم الابتداء بالساكن، واستخدامه للفعل، "يمكن" منفيا يوحي بعدم القدرة والاستطاعة بالابتداء بساكن.
3 تأهبك: أي استدعاك له. لسان العرب "1/ 162". مادة "أ. هـ. ب".
4 حالا: أي حجزا ووقفا مانعا.
5 التلبث: التريث، ولبث أي مكث. لسان العرب "5/ 3952". مادة "ل. ب. ث".
6 ينفد: أي يفنى وينتهي. لسان العرب "6/ 4495 ". مادة "ن. ف. د".
7 فيفضي: يسر إليه، أو يخبره، أو يصل إلى لسان العرب "5/ 3425" مادة "ف. ض. أ".
8 حسيرا: مكشوفا. لسان العرب "2/ 868". مادة "ح. س. ر".

(1/20)


والحروف التي اتسعت مخارجها ثلاثة: الألف، ثم الياء، ثم الواو، وأوسعها وألينها الألف، إلا أن الصوت الذي يجري في الألف مخالف للصوت الذي يجري في الياء والواو، والصوت الذي يجري في الياء مخالف للصوت الذي يجري في الألف والواو.
والعلة في ذلك أنك تجد الفم والحلق في ثلاث الأحوال، مختلف الأشكال، أما الألف فتجد الحلق والفم معها منفتحين، غير معترضين على الصوت بضغط أو حصر، وأما الياء فنجد معها الأضراس سفلا وعلوا قد اكتنفت1 جنبتي2 اللسان وضغطته، وتفاج3 الحنك عن ظهر اللسان، فجرى الصوت متصعدا هناك، فلأجل تلك الفجوة ما استطال4، وأما الواو فتضم لها معظم الشفتين، وتدع بينهما بعض الانفراج، ليخرج فيه النفس، ويتصل الصوت. فلما اختلفت أشكال الحلق والفم والشفتين مع هذه الاحرف الثلاثة اختلف الصدى المنبعث5 من الصدر، وذلك قولك في الألف أاْ، وفي الياء إيْ، وفي الواو أُوْ.
ولأجل ما ذكرنا من اختلاف الأجراس في حروف المعجم باختلاف مقاطعها، التي هي أسباب تباين
أصدائها، ما شبه بعضهم الحلق والفم بالناي6، فإن الصوت يخرج فيه مستطيلا أملس ساذجا7، كما يجري الصوت في الألف غفلا8 بغير صنعة، فإذا وضع الزامر أنامله على خروق الناي المنسوقة9، وراوح بين أنامله،
__________
1 اكتنفت: أحاطت، لسان العرب "5/ 3941". مادة "ك. ن. ف".
2 جنبتي: الجنبة بسكون النون ويحرك، كالجنب: إحدى ناحيتي الشيء لسان العرب "1/ 691". مادة "ج. ن. ب".
3 تفاج: تباعد، كتجالى: أي نبا وبعد. لسان العرب "1/ 646". مادة "ج. ف. ا".
4 ما استطال: المؤلف يكثر من استعمال "ما" في مثل هذا التعبير، ويمكن تخريجها على الزيادة أو المصدرية.
5 المنبعث: المرسل والمندفع. لسان العرب "1/ 307". مادة "ب. ع. ث".
6 بالناي: لفظة فارسية، معناها القصبة، والمراد هنا اليراعة المثقبة التي يزمر فيها"ج" يراع.
7 ساذجا: خالصا غير مشوب. مادة "س. ذ. ج".
8 غفلا: ما لا علامة فيه ولا أثر يميزه، والغفل: المادة لم تصنع. "ج" إغفال.
9 المنسوقة: المتتابعة على نظام، ويقال: ناسق بين الأمرين أي تابع بينها ولاءم ونسقه: نظمه.

(1/21)


اختلفت الأصوات، وسمع لكل خرق منها صوت لا يشبه صاحبه، فكذلك إذا قطع الصوت في الحلق والفم1، باعتماد على جهات مختلفة، كان سبب استماعنا هذه الأصوات المختلفة.
ونظير ذلك أيضا وتر العود، فإن الضارب إذا ضربه وهو مرسل، سمعت له صوتا، فإن حصر2 آخر الوتر ببعض أصابع يسراه، أدى صوتا آخر، فإن أدناها3 قليلا، سمعت غير الاثنين، ثم كذلك كلما أدنى أصبعه من أول الوتر تشكلت لك أصداء مختلفة، إلا أن الصوت الذي يؤديه الوتر غفلا غير محصور، تجده بالإضافة إلى ما أداه وهو مضغوط محصور، أملس مهتزا4، ويختلف ذلك بقدر قوة الوتر وصلابته، وضعفه ورخاوته5، فالوتر في هذا التمثيل كالحلق، والخفقة بالمضراب عليه كأول الصوت من أقصى الحلق، وجريان الصوت فيه غفلا غير محصور كجريان الصوت في الألف الساكنة، وما يعترضه من الضغط والحصر بالأصابع كالذي يعرض للصوت في مخارج الحروف من المقاطع، واختلاف الأصوات هناك كاختلافها هنا.
وإنما أردنا بهذا التمثيل الإصابة والتقريب، وإن لم يكن هذا الفن مما لنا ولا لهذا الكتاب به تعلق، ولكن هذا القبيل من هذا العلم، أعني علم الأصوات والحروف، له تعلق ومشاركة للموسيقى، لما فيه من صنعة الأصوات والنغم.
فقد ثبت بما قدمناه معرفة الصوت من الحرف، وكشفنا عنهما بما هو متجاوز للإقناع في بابهما، ووضحت حقيقتهما لمتأملها.
__________
1 فكذلك إذا قطع الصوت في الحلق والفم: تشبيه استعاري حيث يشبه الصوت بشيء مادي يقطع وتشبيه للثنايا التي تعترضه وتقطعه بأنها سكين حاد.
2 حصر: أحاط به ومنعه من الحركة. لسان العرب "2/ 895". مادة "ح. ص. ر".
3 أدناها: قربها. لسان العرب "2/ 1435". مادة "د. ن. أ".
4 أملس مهتزا: تعدد نعت الصوت ووصفه بأنه أملس. مهتز ... يدل علي شدة دقة وصف الصوت حتي يتخيله السامع بناظريه وأذنيه معا وهذا يؤكد الفكرة ويقويها، لما فيها من تشبيه بليغ للصوت كأنه شيء مادي يمكن لمسه.
5 ضعفه ورخاوته: الجمع بين الضعف والرخاوة يبين هيئة الصوت الناتج نتيجة ضعف الوتر ورخاوته. إذ يختلف بخلاف الصوت الناتج لو كان الوتر غفلا أو محصورا بالأصابع مثلا.

(1/22)


فأما القول على لفظهما، فإن الصوت مصدر صات الشيء يصوت صوتا، فهو صائت، وصوت تصويتا فهو مصوت، وهو عام غير مختص، يقال سمعت صوت الرجل وصوت الحمار، قال الله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} .
وقال الشاعر:
كأنما أصواتها في الوادي ... أصوات حج منه عمان غادي1
وقال ذو الرمة، وهو من أبيات الكتاب:
كأن أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس أصوات الفراريج2
يريد كأن أصوات أواخر الميس من إيغالهن بنا أصوات الفراريج، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بحرف الجر، لضرورة الشعر، ومثله كثير، إلا أنا ندعه لشهرته، ولأن هذا الكتاب ليس موضوعا له، والميس: خشب الرحل.
__________
1 الوادي: كل مفرج بين الجبال والتلال والإكام "ج" أودية ووديان. لسان العرب "6/ 4803" حج: "م" حاج، وهو الذي يقصد مكة للنسك.
غادي: المسافر في الغدوة، وهي الوقت ما بين الفجر وطلوع الشمس. لسان "5/ 3220" وشبه الشاعر صوت الحروف وصداها بأصوات الحجيج التي تؤدي النسك وصدى صوتها بين الوديان والتلال. والبيت لم ينسبه المؤلف إلى قائله، ولم نجد له نسبة في جمهرة ابن دريد ولا في اللسان في "حج".
2
كأن أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس أصوات الفراريج
إيغالهن: الإيغال الإمعال في السير بين ظهراني الجبال، أو في أرض العدو، ويقال: أوغلوا وتوغلوا وتغلغلوا.
الميس: شجر عظام حرجي للتزيين، من الفصيلة البوقيصية له ثمر أسود صغير حلو تأكله الطير وفي لحائه وجذوره مادة صفراء صبغية، وخشبه قوي تصنع منه مصنوعات النجارة ومنها الرحال، وإذا كان شابا فهو أبيض الجوف، فإذا تقادم اسود فصار كالأبنوس، ويغلظ حتى تتخذ منه الموائد الواسعة ويقصد به هنا في البيت خشب الرحل، لسان العرب "6/ 4308".
الفراريج: "م" فروج وهو فرخ الدجاج. لسان العرب "5/ 3371" مادة: "ف. ر. ج".
ويشبه الشاعر أصوات أواخر الرحل "الميس" في محاولتها العدو والإيغال لتلحق بأول الرحل كأنها أصوات الفراريج.
والميس كناية عن الرحل المصنوع من شجر الميس.

(1/23)


ومن مسائل الكتاب: "له صوت صوت حمار"1.
ويقال: رجل صات أي شديد الصوت، وحمار صات، كما يقال رجل مال: كثير المال، ورجل نال: كثيرا النوال، وكبش صاف: كثير الصوف، وبئر ماهة: كثيرة الماء، ورجل هاع2 لاع3، وامرأة هافة لاعة، ورجل خاف ويوم طان4. راح5: كثير الطين والريح، وتقدير هذه الأوصاف كلها عندنا: "فعل" مكسورة العين. قال النظار الفقعسي6:
كأنني فوق أقب سهوق ... جأب إذا عشر صات الإرنان7
__________
1 "له صوت صوت حمار": هذه العبارة وردت في كتاب سيبويه في باب "ما ينتصب فيه المشبه به على إضمار الفعل المتروك إظهاره" قال: "وذلك قولك: مررت به فإذا له صوت صوت حمار، ومررت به فإذا له صراخ صراخ الثكلى.
وقال الشارع: وهو النابغة الذبياني:
مقذوفة بدخيس النحص بازلها ... له صريف صريف القعو بالمسد
2 هاع: واضح بين، والمهيع الواضح أيضا، "ج" مهايع.
3 لاع: أي احترق من شدة الشوق والحب.
4 طان: أي كثير الطين. لسان العرب "4/ 2739". مادة "طين".
5 راح أي شديد الريح. لسان العرب "3/ 1764". مادة "روح".
6 الفقعسي: نسب ابن جين هذا البيت إلى النظار الفقعسي، ووافقه صاحب اللسان في هذه النسبة في "صوت" "4/ 2521"، ولكنه خالفه في "سهوق" "3/ 2134" فنسبه الي المرار الأسدي وكلاهما شاعر إسلامي.
7 أقب: الأقب الرقيق الخصر، الضمر البطن، لسان العرب "5/ 3507". مادة "قبب".
سهوق: الطويل من الرجال وغيرهم. لسان العرب "3/ 2133، 2134". مادة "سهق".
الجأب: الحمار الغليظ من حمر الوحش، "ج" جؤوب. لسان العرب "1/ 527".
عشر: من التعشر وهو بلوغ العشرة.
والمراد: أن يتابع النهق عشر نهقات، ويوالي بين عشر ترجيعات في نهيقه. لسان "4/ 2954".
صات: الشديد الصوت. لسان العرب "4/ 2521". مادة "صوت".
الإرنان: الشديد لسان العرب"3/ 1746". مادة "رنن".
والشاعر يصف الحمار الوحشي الذي يركبه بأنه رقيق الخصر ضامر البطن طويل، غليظ قوي الصوت إذا عشر كان له صوت شديد قوي، والشاهد في قوله "ص. أ. ت".
إعراب الشاهد: صات: نعت مجرور على الاتباع وعلامة جره الكسره.

(1/24)


فأما قولهم لفلان صيت إذا انتشر ذكره في الناس، فمن هذا اللفظ، إلا أن واوه انقلبت ياء لانكسار الصاد قبلها، وكونها ساكنة، كما قالوا ريح من الروح، وقيل من القول، وكأنهم بنوه على فعل، للفرق بين الصوت المسموع، وبين الذكر المتعالم، على أنهم قد قالوا أيضا: قد انتشر صوته في الناس، يعنون به الصيت1 الذي هو الذكر، والصيت في هذا المعنى أعم وأكثر استعمالا من الصوت، ولا يستعمل الصيت إلا في الجميل من الذكر، دون القبيح.
والصوت مذكر، لأنه مصدر بمنزلة الضرب والقتل والغدر والفقر.
فأما قول رويشد بن كثير الطائي:
يأيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوت2
فإنما أنثه لأنه أراد الاستغاثة، وهذا من قبيح الضرورة، أعني تأنيث المذكر؛ لأنه خروج عن أصل إلى فرع، وإنما المستجاز من ذلك رد التأنيث إلى التذكير، لأن التذكير هو الأصل، بدلالة أن "الشيء" مذكر، وهو يقع على المذكر والمؤنث.
فعلمت بهذا عموم التذكير، وأنه هو الأصل الذي لا ينكسر.
ونظير هذا في الشذوذ قوله، وهو من أبيات الكتاب:
إذا بعض السنين تعرقتنا ... كفى الأيتام فقد أبي اليتيم3
__________
1 الصيت: انقلبت الواو ياء لانكسار الصاد قبلها
2
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوت
هذا البيت لرويشد بن كثير الطائي، ذكره صاحب اللسان "4/ 2521".
المزجي: السائق برفق، يقال: الريح تزجي السحاب: أي تسوقه سوقا رفيقا. لسان "3/ 1815".
والصوت: الجرس الذي يحدث من اصطدام جسم بآخر، فتحمله موجات الهواء إلى الأذن، وهو مذكر، وإنما أنثه الشاعر هنا لأنه أراد به الضوضاء والجلبة أو الاستعانة.
وابن جني قبح هذا الشاهد الذي يتم فيه تأنيث المذكر لأنه خروج عن أصل إلى فرع، وأجاز العكس أي رد التأنيث إلى التذكير لأن التذكير هو الأصل.
إعراب الشاهد:
الصوت: خبر مرفوع.
3
إذا بعض السنين تعرقتنا ... كفى الأيتام فقد أبي اليتيم

(1/25)


وهذا أسهل من تأنيث الصوت قليلا، لأن بعض السنين سنة، وهي مؤنثة وهي من لفظ السنين، وليس الصوت بعض الاستغاثة ولا من لفظها، ونظائر هذا كثيرة، وفيه وجه آخر، وهو أنه أراد الأصوات، أخرجه مخرج الجنس، لأنه مصدر، والمصادر قلما تجمع، كما تقول قوم صوم وزور وضيف.
ومنها ما حكاه الأصمعي عن أبي عمر بن العلاء، أنه سمع بعض العرب يقول -وذكر إنسانا، فقال: فلان لغوب- جاءته كتابي، فاحتقرها.
فقلت له: أتقول: جاءته كتابي1؟ فقال نعم: أليس بصحيفة؟ فقلت له ما اللغوب؟ فقال: الأحمق، ومثله قول لبيد:
فمضى وقدمها كانت عادة ... منه إذا هي عردت إقدامها2
قالوا: أنث الإقدام لأنه ذهب بها إلى التقدمة.
__________
البيت لجرير يمدح هشام بن عبد الملك بن مروان.
انظر/ خزانة الأدب الكبري للبغدادي "2/ 167".
تعرقتنا: أكلت لحومنا، ويقال: عرق العظم: إذا أكل ما عليه من اللحم. لسان "4/ 2906" والشاهد فيه: تأنيث السنين.
ويري ابن جني أنها أسهل قليلا من تأنيث الصوت لأن بعض السنين سنة.
إعراب الشاهد: السنين: مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة لأنه ملحق بالجمع المذكر السالم.
1 جاءته كتابي؟: استفهام الغرض منه التأكيد على جواز أن يؤنث المذكر، بحيث إن الكتاب صحيفة فجاز تأنيثه.
2
فمضى وقدمها وكانت عادة ... منه إذا هي عردت إقدامها
التعربد: التأخر وسرعة الذهاب في الهزيمة والفرار. لسان العرب "4/ 2872". مادة "عود". الإقدام: بمعنى التقدمة، ولذلك أنث فعلها، فقال: "وكانت" أي وكانت تقدمة الأتان عادة من العير إذا تأخرت هي أي خاف العير تأخرها.
والشاهد فيه: تأنيث الإقدام.
وإعراب الشاهد:
إقدامها: إقدام: فاعل مرفوع بالفاعلية وعلامة رفعه الضمة الظاهرة وهو مضاف والهاء ضمير متصل مبني في محل جر مضاف إليه.

(1/26)


قالوا: ونحوه قول الآخر:
غفرنا وكانت من سجيتنا الغفر1
أنث الغفر لأنه أراد المغفرة.
ونحو هذا قوله عز اسمه: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ 2} ، لأن بعضها سيارة،
وقال الآخر:
أتهجر بيتا بالحجاز تلفعت ... به الخوف والأعداء أم أنت زائره3
أراد المخافة، فأنث لذلك، وحكى سيبويه: "ذهبت بعض أصابعه"4 فأنث البعض لأنه إصبع في المعنى.
وهذا كثير، إلا أنا ندع اغتراقه5 كراهية لطول الكتاب.
__________
1
............... ... غفرنا وكانت من سجيتنا الغفر
لم نعثر على صدر هذا البيت ولا على قائله وقد ذكر صاحب اللسان في "غفر" "5/ 3274"، وقال: فإنما أنت الغفر، لأنه في معنى المغفرة.
والشاهد فيه كما يبدو معاملة الغفر على أنها مغفرة، ومن ثم أنثها.
وإعراب الشاهد:
الغفر: اسم كانت -مؤخر- مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة.
2 سيارة: السيارة يراد بها جنس السيارات، ويصح أن يكون بعضها سيارة.
3
أتهجر بيتا بالحجاز تلفعت ... به الخوف والأعداء أم أنت زائره
لم نعثر على قائله، وقد أنشده صاحب اللسان في "خوف" "2/ 1290" غير منسوب.
قوله: "تلفعت به الخوف" مقلوب، والأصل: تلفع بالخوف. يريد أن الخوف قد أحاط به.
ويرى الشاعر أن الحبيب قد ترك بيته في الحجاز وقد أحاط به الخوف والأعداء.
إعراب الشاهد: تلفعت: فعل ماضي مبني.
الخوف: فاعل مرفوع.
4 "ذهبت بعض أصابعه" عبارة سيبويه في الكتاب"1/ 25": "وربما قالوا في بعض الكلام: ذهبت بعض أصابعه، وإنما أنث البعض لأنه إضافة الي مؤنث هو منه، ولو لم يكن منه لم يؤنثه، لأنه لو قال: ذهبت عبد أمك لم يحسن.
5 اغترافه: الاغتراف: الاستيعاب. لسان العرب "5/ 3245".

(1/27)


فأما الحرف فالقول فيه وفيما كان من لفظه: أن "ح ر ف" أينما وقعت في الكلام يراد به حد الشيء وحدته، من ذلك حرف الشيء إنما هو حده وناحيته، وطعام حريف: يراد حدته، ورجل محارف، أي محدود عن الكسب والخير، ويقال أيضا فيه: مجازف1 بالجيم، ومثله مجرف، ومجلف2، كأن الخير قد جرف عنه وجلف3، كما يجلف القلم ونحوه، وقولهم: "انحرف فلان عني": من هذا أيضا، كأنه جعل بيني وبينه حدا بالبعد والانعدال4.
وقال أبو عبيدة في قوله عز اسمه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11] 5 أي لا يدوم، تقول: إنما أنت على حرف، أي لا أثق بك، وهذا راجع إلى ما قدمناه، لأن تأويله أنه قلق في دينه، على غير ثبات ولا طمأنينة ولا استحكام بصيرة6، فكأنه معتمد علي حرف دينه، غير واسط فيه، كالذي هو على حرف الجبل ونحوه.
وقال أحمد بن يحيي: أي على شك، وهذا هو المعنى الأول، ومن هنا سميت حروف المعجم حروفا، وذلك أن الحرف حد منقطع الصوت وغايته وطرفه، كحرف الجبل ونحوه.
__________
1: مجارف: ذهب بالشيء أو ابتعد به. لسان العرب "1/ 601". مادة "ج. ر. ف".
2 مجلف: جلفه أي قشره وكشطه وقلعه واستأصله. لسان "1/ 660". مادة" ج. ل. ف".
3 جرف عنه وجلف: بينهما جناس ناقص يؤثر في السمع ويعطي جرسا موسيقيا يؤثر على تحسين الفكرة ويوضحها.
4 الانعدال: التنحي والانصراف عن الشيء. لسان العرب "4/ 2840". مادة "عدل".
5 {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أي على شك.
والمقصود أنه لا يداوم على عبادته لله لعدم ثقته أو شكه، وتأويله أنه قلق على دينه واستخدام الحرف هنا كشاهد يدل على استخدام الجزء ويقصد به الكل ذلك أن الحرف في كل شيء طرفه وجانبه وفلان على حرف أي على ناحية وجانب من رأيه إذا رأى شيئا لا يعجبه عدل عنه. لسان العرب"2/ 837" مادة. "ح. ر. ف".
والشاهد فيه: كلمة حرف.
إعراب الشاهد: حرف: اسم مجرور بحرف الجر وعلامة الجر الكسرة.
6 بصيرة: قوة الإدراك والفطنة والعلم والخبرة والحجة، وجمعها بصائر. لسان العرب "1/ 291".

(1/28)


ويجوز أن تكون سميت حروفا لأنها جهات للكلم ونواح، كحروف الشيء وجهاته المحدقة به1.
ومن هذا قيل، فلان يقرأ بحرف أبي عمرو وغيره من القراء، وذلك لأن الحرف حد ما بين القراءتين وجهته وناحيته.
ويجوز أيضا أن يكون قولهم: حرف فلان، يراد به حروفه التي يقرأ بها، أي القارئ يؤديها بأعيانها، من غير زيادة ولا نقص فيها، فيكون الحرف في هذا وهو واحد، واقعا موقع الحروف وهي جماعة، كقوله عز اسمه: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17] 2 أي والملائكة، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] 3 أي والملائكة، وكقولنا: "أهلك الناس الدينار والدرهم" أي الدنانير والدراهم، وكقولنا: "الأسد أشد من الذئب" أي الأسد أشد من الذئاب، وهذا واسع في كلامهم، ونحوه أيضا: "الملك أفضل من الإنسان" أي الملائكة أفضل من الناس.
ومن هذا سمي أهل العربية أدوات المعاني حروفا، نحو من، وفي، وقد، وهل، وبل، وذلك لأنها تأتي في أوائل الكلام وأواخره في غالب الأمر، فصارت كالحروف والحدود له.
__________
1 المحدقة به: المحيطة به. لسان العرب "2/ 805". مادة"ح. د. ق".
2 {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} : أرجائها مفرد "الرجا" ويقصد بها الناحية والجانب.
ويقول الطبري في تفسيرها: أي والملك على أطراف السماء وحافاتها حين تشقق.
انظر/ تفسير الطبري "ص502".
والشاهد فيها استخدام الملك مفرد ويقصد بها الملائكة.
إعراب الشاهد:
والملك: معطوف مرفوع بالتبعية وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، لأنه اسم مفرد.
3 {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} : أي جاء ربك والملائكة صفا بعد صف.
انظر/ تفسير الطبري "ص529"
والشاهد أيضا استخدام الملك مفرد ويقصد بها الملائكة.
إعراب الشاهد:
الملك: معطوف مرفوع بالتبعية وعلامة رفعه الضمة لأنه اسم مفرد.

(1/29)


ومنه قولهم لهذه البقلة1 الحادة الحرف2 سمي بذلك لحدته، والعرب أيضا تسميه الثفاء3 ومنه قولهم: "ناقة حرف" أي ضامر، وتأويله أنها قد تحددت أعطافها4 بالضمر5 والهزال6، وليس هناك سمن يكون معه رهل7 واسترخاء.
وقال بعضهم: الحرف: التي انتقلت من هزال إلى سمن، وتأويل هذا القول أنها انحرفت من حال إلى حال.
وقال بعضهم: الحرف: التي كأنها حرف جبل في شدتها وصلابتها، وهذا واضح جلي.
وقال بعضهم: الحرف: التي كأنها حرف السيف في مضائها8 وحدتها وهذا أيضا مفهوم غير خفي9.
وقال بعضهم: شبهت لضمرها بحرف من المعجم، قالوا: وهو الواو، لدقتها وتقويسها.
وقال أحمد بن يحيى: لأنها انحرفت عن السمن، وهذه كلها معان متقاربة ومن هذا قولهم لمكسب الرجل وطعمته الحرفة، كأنها الجهة التي انحرف إليها عما سواها من الماكسب، والمحراف: الميل، سمي بذلك لحدته، أو لأنه يعرف به حد الجراحة وقدرها، أي يسبر به10.
__________
1 البقلة نبات عشبي يتغذى الإنسان به أو بجزء منه مثل الفجل والجرجير والجزر وغيرها "ج" بقول. لسان العرب "1/ 328". مادة "ب. ق. ل".
2 الحرف: هو حب الرشاد، أو كل ما فيه حرارة ولذع. لسان "2/ 840" مادة"ح. ر. ف".
3 الثفاء: كرمان: الخردل أو الحرف، واحدته بهاء.
4 أعطافها: جوانبها ومفردها عطف، وتجمع على أعطاف وعطاف وعطوف. لسان "4/ 2996".
5 بالضمر: الضمر قلة اللحم وانكماشه وانضمام بعضه إلى بعض. لسان العرب "4/ 2606".
6 والهزال: الغثاثة والنحافة. لسان العرب "6/ 4663". مادة "هـ. ز. ل".
7 رهل: اضطراب واسترخاء. لسان العرب "3/ 1756". مادة "ر. هـ. ل".
8 مضائها: قوتها.
9 مفهوم غير خفي: مفهوم وخفي بينهما طباق يبرز المعني بالتضاد ويزيده وضوحا وتأكيداً.
10 يسبر: أي ينظر ما بغورها وأبعادها، وسبر الجرح: أي نظر ما غوره.

(1/30)


قال القطامي يصف جراحة:
إذا الطبيب بمحرافيه عنّ لها ... زادت على النقر أو تحريكها ضجما1
الضجم: الميل والاختلاف.
والتحريف في الكلام: تغييره عن معناه. كأنه ميل به إلى غيره، وانحرف به نحوه، كما قال عز اسمه في صفة اليهود: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِه} [النساء: 46] 2 أي يغيرون معاني التوراة بالتمويهات3 والتشبيهات.
ويقال: انحرف الإنسان وغير عن الشيء، وتحرف، واحرورف.
__________
1 المحرف والمحراف: الميل الذي تقاس به الجراحات، والمحارقة: قياس الجرح بالمحراف.
لسان العرب "2/ 840" مادة "حرف".
زادت على النقر: قال شارح الديوان: أي إذا نقرها بالميل ازدادت سعة.
ويروى: على النفر، والنفر: الورم، ويقال: خروج الدم.
والضجم: اعوجاج في الجراحة. لسان "4/ 2556" مادة "ض. ج. م" كقول العجاج: عن قلب ضجم توري من سبر، يصف الجراحات، فشبها في سعتها بالآبار المعوجة الجيلان. أي النواحي.
ومعني البيت: إذا عالجها بمحرافيه ليسبر غورها ازدادت على السبر اتساعًا وورمًا، أو ازدادت سيلان دم.
2 {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِه} : نزلت هذه الآية في اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة حيث إنهم يشترون الضلالة بالهدى ويعرضون عما أنزل الله على رسوله ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين في صفة محمد -صلى الله عليه وسلم- ليشترون به ثمنا قليلا من طعام الدنيا.
انظر/ تفسير ابن كثير "1/ 507".
والشاهد فيه: يحرفون. أي إنهم يغيرون.
إعراب الشاهد:
يحرفون: فعل مضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم وعلامة الرفع ثبوت النون، والواو: ضمير متصل مبني في محل رفع فاعل.
3 التمويهات: موه الشيء أي طلاه بشيء آخر بغرض التلبيس، أي تلبيس الحق بالباطل.
ويقال: موه الحديث: أي زخرفه ومزجه من الحق والباطل. لسان العرب "6/ 4303".

(1/31)


قال:
وإن أصاب عدواء احرورفا ... عنها وولاها الظلوف الظلفا1
يصف ثورا يحترف كناسا.
وأنشد أبو زيد:
مشي الجمعليلة بالحرف النقل2
__________
1 العدواء: أرض يابسة صلبة غير مستوية في ارتفاع وانخفاض يبرك عليه البعير فيضجع عليه فيوهنه اضجاعه ولا يستطيع أن يقوم حتى يموت. مادة "عدا" اللسان "4/ 2847".
واحرورف: حاد عن الشيء وعدل عنه. مادة "ح ر ف" اللسان "2/ 839".
والظلوف: جمع ظلف، وهو ظفر كل مجتر من الحيوان: كظلف البقرة والشاه والظبي وما أشبهها، والظلف جمع ظالف، وهو توكيد للظلوف، كما يقال بطاح بطح.
وهذا البيت للعجاج يصف ثورا يحفر كناسا، حتى إذا وجد أرضا صلبة استدار عنها وضربها بأظلافه. لسان العرب "4/ 2849". مادة "عدا".
والشاهد فيه: كلمة احرورف التي استخدمها الشاعر بمعنى تغيير الاتجاه.
إعراب الشاهد: احرورفا: فعل ماضي مبني على الفتح.
2 الجمعليلة: الضبع، وقال الأزهري: الناقة الهرمة. لسان العرب "1/ 683" مادة "جمعل" الحرف: من الجبل ما نتأ في جنبه منه كهيئة الدكان الصغير أو نحوه. لسان "2/ 838" "حرف" والنقل من الامكنة: مكان فيه النقل، وهو صغار الحجارة.
والبيت مذكور في معجم الأدباء لياقوت "6/ 231" ومعه بيتان قبله.
وهي من الأوابد اللغوية التي كان يحفظها الصاحب إسماعيل بن عباد ويباهي بها وبأمثالها الشعراء والعلماء.
والرجز كله:
جاءت بخف وحنين ورحل
جاءت تمشي وهي قدام الإبل
مشي الجمعليلة بالحرف النقل
والشاهد فيه: كلمة الحرف.
إعراب الشاهد:
بالحرف: الباء: حرف جر مبني على الكسر لا محل له من الإعراب يدخل على الاسم فيعمل فيه الجر، والحرف: اسم مجرور بحرف الجر -الباء - وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره.

(1/32)


وقال: الحرف: مسيل الماء، وتأويله أنه انحرف فسال الماء عنه، ولم يستقم، فيثبت عليه، فهذا كله يشهد لمعنى الحرف، وهذا الطريق من الاشتقاق وإنما يحذق1 حقيقتها من كان سبطا2 مرتاضا3، لاكزا4 ريضا5.
فقد أتينا على ذكر معنى الصوت والحرف، ونتلي ذلك الحركة.
اعلم أن الحركات أبعاض حروف المد واللين، وهي الألف والياء والواو، فكما أن هذه الحروف ثلاثة، فكذلك الحركات ثلاث، وهي الفتحة، والكسرة، والضمة، فالفتحة بعض الألف، والكسرة بعض الياء، والضمة بعض الواو، وقد كان متقدمو النحويين يسمون الفتحة الألف الصغيرة، والكسرة الياء الصغيرة، والضمة الواو الصغيرة، وقد كانوا في ذلك على طريق مستقيمة، ألا تري أن الألف والياء والواو اللواتي هن حروف نوام6 كوامل7، قد تجدهن في بعض الأحوال أطول وأتم منهن في بعض، وذلك قولك يخاف وينام، ويسير ويطير، ويقوم ويسوم، فنجد فيهن امتدادا واستطالة ما، فإذا أوقعت بعدهن الهمزة أو الحرف المدغم8، ازددن طولا وامتدادا، وذلك نحو: يشاء ويداء9 ويسوء ويهوء10 ويجيء ويفيء11 وتقول مع الإدغام شابة ودابة، ويطيب بكر، ويسير راشد، وتمود الثوب12، وقد
__________
1 يحذق: يمهر. لسان العرب "2/ 811". مادة "ح. ذ. ق".
2 سبطا: السبط، بفتح السين وسكون البا، وفتحها وكسرها: ضد الجعد ويقال: رجل سبط: سمح كريم، ومطر سبط: مرسل متدارك، والمراد هنا: سعة العلم.
لسان "3/ 1921".
3 مرتاضا: تمت رياضته.
4 لاكزا: اليابس المقتبض، وهو كناية عن قلة العلم، وضعف الفهم، "ج" الكز.
5 ريضا: الريض: غير الماهر في الرياضة: لسان العرب "3/ 1776" مادة "ر. و. ض".
6 نوام: نما الشيء إذا زاد وكثر، والحروف نوام إذا كانت أتم وأطول في بعض أحوالها.
7 كوامل: أي تامات. لسان العرب "5/ 3930". مادة "ك. م. ل".
8 المدغم: الإدغام إدخال حرف في حرف. لسان "2/ 1391". مادة "د. غ. م".
9 ويداء: داء الرجل يداء داء: إذا صار في جوفه الداء. لسان "2/ 1448". مادة" دوأ".
10 ويهوء: هاء بنفسه الي المعالي يهوء هوءا: رفعها وسما بها إلى المعالي. لسان "6/ 4716".
11 ويفيء: ويرجع، فاء فيئا: رجع، وبابه باع. لسان "5/ 3456". مادة "ف. ي. أ".
12 وتمود الثوب: تحرك واضطرب. لسان العرب"6/ 4305". مادة "م. ي. د".

(1/33)


قوص زيد بما عليه، أفلا ترى إلى زيادة المد فيهن بوقوع الهمزة والمدغم بعدهن، وهن في كلا موضعيهن يسمين حروفا كوامل، فإذا جاز ذلك فليست تسمية الحركات حروفا صغارا بأبعد في القياس منه.
ويدلك على أن الحركات أبعاض لهذه الحروف، أنك متي أشبعت واحدة منهن حدث بعدها الحرف الذي هي بعضه، وذلك نحو فتحة عين عمر، فإنك إن أشبعتها حدثت بعدها ألف، فقلت عامر، وكذلك كسرة عين عنب، إن أشبعتها نشأت بعدها ياء ساكنة، وذلك قولك عينب، وكذلك ضمة عين عمر، لو أشبعتها لأنشأت بعدها واوا ساكنة، وذلك قولك عومر، فلولا أن الحركات أبعاض لهذه الحروف وأوائل لها، لما تنشأت عنها، ولا كانت تابعة لها.
ويزيد ذلك وضوحا لك، أن جميع حروف المعجم غير هؤلاء الثلاثة الأحرف لك أن تأتي بكل حرف منها، بعد أي الحركات شئت، ولا تجد مع ذلك نبوا1 في اللفظ، ولا استكراها، سواكن كن الحروف أو متحركة. وذلك نحو اللام من سلم وسلم وسلمى، وكذلك العين من سعد وسعد وسعلاة وسعاد وسعيد وسعود، فأما استكراههم الخروج من كسر إلى ضم بناء لازما، فليس ذلك شيئا راجعا إلى الحروف وإنما هو استثقال منهم للخروج من ثقيل إلى ما هو أثقل منه.
وأنت لو رمت2 أن تأتي بكسرة أو ضمة قبل الألف لم تستطع ذلك البتة3 وكذلك لو تكلفت الكسرة قبل الواو الساكنة المفردة، أو الضمة قبل الياء الساكنة المفردة، لتجشمت4 فيه مشقة وكلفة5 لا تجدها مع الحروف الصحاح، وذلك نحو فعل من القول والطول6، وأصله أن تقول قول وطول، ثم تستثقل ذلك، فتقلب الواو إلى الكسرة قبلها ياء، فتقول: قيل وطيل، وقد قالتهما العرب مقلوبين
__________
1 نبوا: نبا الشيء: أي تجافى وتباعد وبابه سما. لسان العرب "6/ 4333". مادة "نبا".
2 رمت: طلبت، رام الشيء أي طلبه وبابه قال. لسان "3/ 1782". مادة "ر. و. م".
3 لم تستطع ذلك البتة: أسلوب نفي وغرضه التعجيز. أي أنك تعجز عن ذلك.
4: لتجشمت: جشم الأمر من باب فهم، أي تكلفته على مشقة. لسان العرب "1/ 629".
5 كلفة: مشقة. لسان العرب "5/ 3917". مادة "ك. ل. ف".
6 الطول: الفضل والغنى واليسر. لسان العرب "4/ 2728" مادة "ط. و. ل".

(1/34)


هكذا، ونحوهما ميزان وميعاد وميقات، كل هذه من الواو في وزن ووقت ووعد، وكذلك قولا موسر وموقن، وأصلهما ميسر وميقن، فكرهوا الياء بعد الضمة فأبدلوها واوا، وكذلك إن انكسر ما قبل الألف أو انضم قلبت للكسرة ياء، وللضمة واوا، وذلك الياء في قراطيس1 إنما هي بدل من ألف قرطاس، والواو في ضويرب إنما هي بدل من الألف في ضارب، وإنما قلبت هذه الحروف بعد هذه الحركات، لأنك إذا بدأت بالكسرة فقد جئت ببعض الياء، وآذنت2 بتمامها، فإذا تراجعت عنها إلى الواو فقد نقضت أول قولك بآخره3 وخالفت بين طرفيه، وكذلك إذا بدأت بالضمة ثم جئت بعدها بالياء، فقد جئت بأمر غيره المتوقع، لأنك لما جئت بالضمة توقعت الواو، فإذا عدلت إلى الياء فقد ناقضت4 بآخر لفظك أوله، إلا أن ذلك وإن كان مستثقلا فليس بمستحيل في الطاقة والطوع، كاستحالة مجيء الألف بعد الكسرة أو الضمة.
فإن قلت: فما بالك تقول الغير والعيبة والطول والعوض فتأتي بالياء بعد الضمة، وبالواو بعد الكسرة؟
فالجواب أنه جاز ذلك من قبل أن الياء والواو لما تحركتا قويتا بالحركة، فلحقتا بالحروف الصحاح، فجازت مخالفة ما قبلهما من الحركات إياهما، وكذلك قولهم اجلوذ5 اجلواذا، واخروط اخرواطا، فتصح الواو الأولى في اجلواذ واخرواط، من قبل أنها لما أدغمت في التي بعدها قويت، وضارعت6 الحروف الصحاح، فجاز ثباتها مع انكسار ما قبلها، وكذلك قالوا: قرن ألوى7، وقرون لي، فصححوا
__________
1 قراطيس: مفرد قرطاس -معروف يتخذ من بردي يكون بمصر، لسان العرب "5/ 3592"، مادة "ق. ر. ط. س".
2 آذنت: أعلمت وأنذرت. لسان العرب "1/ 51". مادة "أ. ذ. ن".
3 فقد نفضت أول قولك بآخره: أسلوب توكيد يعطي قوة في التأكيد على فكرة استحالة أن تأتي الياء بعد الضمة.
4 ناقضت: أفسدت بعد إحكام. لسان العرب "6/ 4524". مادة "ن. ق. ض".
5 اجلوذ: مضى وأسرع، وامتد ودام. لسان العرب "1/ 656". مادة "جلذ".
6 ضارعت: شابهت. لسان العرب "4/ 2581". مادة "ض. ر. ع".
7 قرن ألوى: معوج، والجمع: لي، بضم اللام، على غير القياس. لسان العرب "5/ 4107".

(1/35)


الياء الأولى وإن كانت ساكنة مضموما ما قبلها، من قبل أنها قويت بالإدغام فحصنها عن القلب.
فإن قلت: فما بالك تقول سوط وحوض وثوب وبيت وقيد وشيخ، فتصح الواو والياء هما ساكنتان وقبلهما حركة تخالفهما؟ وهلا قلبتهما ألفا لانفتاح ما قبلهما، كما تقلب الواو ياء لسكونها وانضمام ما قبلها في نحو: الكوسي والطوبي؟
فالجواب في ذلك أن بين الياء وبين الواو قربا ونسبا ليس بينهما وبين الألف، ألا تراها تثبت في الوقف في المكان الذي تحذفان فيه، وذلك قولك: هذا زيد، ومررت بزيد، ثم تقول: ضرب زيدا، وتراهما تجتمعان في القصيدة الواحدة ردفين نحو قول امرئ القيس:
قد أشهد الغارة الشعواء تحملني ... جرداء معروقة اللحيين سرحوب1
ثم قال فيها:
كالدلو بتت عراها وهي مثقلة ... وخانها وذم منها وتكريب2
ولا يجوز معهما ألف في مكانهما.
فلم كان بين الياء والواو هذا التقارب، وتباعدتا من الألف هذا التباعد، وغيره مما سنذكره في أماكنه، جذبت كل واحدة منهما صاحبتها إليها، لأنهما صارتا بما ذكرناه من أمرهما بمنزل الحرفين يتقارب مخرجاهما، نحو الدال والطاء، والذال
__________
1 الشعواء: المنتشرة من شعيت الغارة تشعى شعى: إذا انتشرت. لسان العرب "4/ 2282".
الجرداء: القصيرة الشعر، وهو من نعت عتاق الخيل. لسن العرب "1/ 588". مادة "جرد".
معروقة اللحيين: ليس على لحييها لحم، وهو أيضا من علامات عتقها. لسان "4/ 2906".
والسرحوبة: الطويلة الحسنة الجسم، لسان العرب "3/ 1987". مادة "سرحب".
ويبدو نعت الخيل حيث يصفها امرؤ القيس بأنها: جرداء -معروقة اللحيين- سرحوب -وكلها صفات تطلق على عتاق الخيل التي تصول وتجول في الحرب.
2 الوذم: جمع الوذمة، وهي السير الذي أذان الدلو وعراقيها تشد بها، وقيل: هو الخيط الذي بين العرا، لسان العرب "6/ 4807". مادة "وذم".
والكرا والتكريب: حبل يشد على عراقي الدلو، ثم يثنى ثم يثلث، ليكون هو الذي يلي الماء، فلا يعفن الحبل الكبير، لسان العرب "5/ 3846". مادة "كرب".

(1/36)


والظاء، فقلبت الواو للكسرة قبلها، والياء للضمة قبلها، ولما تباعدت الألف منهما، تباعدت الفتحة أيضا من الكسرة والضمة، فلم تقو الفتحة في نحو سوط وحوض وبيت وقيد على قلب الواو والياء ألفا، واحتمل لما ذكرناه من التفاوت الذي بينهما، ولخفة الفتحة مجيء الواو والياء ساكنتين بعد الفتحة.
فإن قلت: فقد نرى الفتحة تقلب الواو والياء المتحركيتن ألفا في نحو: قام وباع وخاف وطال، وقد قدمت من قولك أن الحركة في الحرف تقويه وتحصنه، فإذا جاز للتفحة أن تقلب الحرف المتحرك القوي، وهما الواو والياء في نحو: قام وسار، فهلا قلبت الحرف الساكن الضعيف في نحو بيت وشيخ وحوض وسوط.
فالجواب أن هذه مغالطة من السائل ودعوى1 في سؤاله، وذلك أن الواو والياء في نحو: قام وباع لما تقلبا ألفين، لأن الفتحة قويت عليهما متحكرتين فقلبتهما، ولو كان ذلك كذلك، لوجب قلب الواو ياء في نحو: عوض وحول، وقلب الياء واوا في نحو: عيبة2 وسيرة3، بل كان ذلك مع الضمة والكسرة أوجب لثقلهما وقوة تأثيرهما.
وإنما كان الأصل في: قام قوم، وفي: خاف خوف، وفي: طال طول، وفي: باع بيع، وفي: هاب هيب، فلما اجتمعت ثلاثة أشياء متجانسة، وهي الفتحة، والواو أو الياء، وحركة الواو والياء، كره اجتماع ثلاثة أشياء متقاربة، فهربوا من الواو والياء إلى لفظ تؤمن فيه الحركة، وهو الألف، وسوغها4 أيضا انفتاح ما قبلها.
فهذا هو العلة5 في قلب الواو والياء في نحو: قام وباع، لا ما ادعاه السائل من أن الفتحة قويت على قلب الحرف المتحرك.
__________
1 ودعوى: أي ما يدعي.
2 عيبة: الكثير العيب للناس، كالعياب والعيابة. لسان العرب "4/ 3184" مادة "عيب".
3 سيرة: الكثير السير. قال ابن منظور: هذا عن ابن جني. لسان العرب "3/ 2169".
4 سوغها: جوزها. لسان العرب "3/ 2152". مادة "س. و. غ".
5 العلة: السبب، والجمع علل، علات. لسان العرب "4/ 3080". مادة "ع. ل. ل".

(1/37)


وسندل بإذن الله فيما يستقبل على مضارعة حروف اللين للحركات.
فأما الكسرة في نحو: عوض وطول، فلو قلبت لها الواو المتحركة [كما قلبت الواو المتحركة في قام ألفا] 1 للتفحة واستثقال حركتها، لوجب أن تقول عيض وحيل، ولا تصير إلى حرف تأمن فيه الحركة، إنما صرت إلى الياء، والياء قد يمكن تحريكه، وليس كذلك الألف في قام، لأنك قد صرت من الواو، إلى حرف تؤمن حركته، والياء في عيبة كالواو في عوض، لأنه ليس قبلهما فتحة تجتلب الألف التي تؤمن حركتها، فلذلك لم تقلبا، فافهم2.
على أن من العرب من يقلب في بعض الأحيان الواو والياء الساكنيتين ألفين، للفتح قبلهما، وذلك نحو قولهم في: الحيرة حاري3، وفي: طيئ طائي.
وأجاز غير الخليل في آية أن يكون أصلها أية، فقلبت الياء الأولى ألفا، لانفتاح ما قبلها، وقالوا: أرض داوية، منسوبة إلى الدو4، وأصلها دوية، قلب الواو الأولى الساكنة ألفا، لانفتاح ما قبلها، إلا أن ذلك قليل، غير مقيس عليه غيره، ومع هذا فشبهته ما ذكرت لك.
فقد ثبت بما وصفناه من حال هذه الأحرف أنها توابع للحركات ومتنشئة عنها، وأن الحركات أوائل لها، وأجزاء منها، وأن الألف فتحة مشبعة، والياء كسرة مشبعة، والواو ضمة مشبعة، يؤكد ذلك عندك أيضا أن العرب ربما احتاجت في إقامة الوزن إلى حرف مجتلب ليس من لفظ البيت، فتشبع الفتح، فيتولد من بعدها الألف، وتشبع الكسرة، فتتولد من بعدها ياء، وتشبع الضمة، فتتولد من بعدها واو.
__________
1 ما بين المعقوفين ساقط، وهو ضروري لفهم كلام المؤلف.
2 فافهم: أسلوبأمر الغرض منه النصح والإرشاد.
3 حاري: ظاهر كلامهم أن الحاء في حيرة مفتوحة، ولكنا لم نجد فتحها في اسم البلد المعروف. والنسبة إليها، على ما هو معروف من ضبطها، حيري، بكسر الحاء، على القياس، وحارى في المسموع.
ولا يمكن أن نساير قوله إلا إذا توهمنا أنهم حولوا اللفظ المنسوب إلى "حيرى" بفتح الحاء، ثم قالوا: حارى الذي هو المسموع، وبذلك يتحقق ما يريده المؤلف.
4 الدو: الفلاة الواسعة، أو الأرض المستوية، لسان العرب "2/ 1462". مادة "دوا".

(1/38)


وأنشد سيبويه:
فبينا نحن نرقبه أتانا ... معلق وفضة وزناد راعي1
أراد بين نحن نرقبه أتانا، فأشبع الفتحة، فحدثت بعدها ألف.
فإن قيل: فإلام أضاف الظرف الذي هو بين، وقد علمنا أن هذا الظرف لا يضاف من الأسماء إلا إلى ما يدل على أكثر من الواحد، أو ما عطف عليه غيره بالواو دون سائر حروف العطف، نحو المال بين القوم، والمال بين زيد وعمرو، وقوله "نحن نرقبه": جملة، والجملة لا مذهب لها بعد هذا الظرف؟
فالجواب: أن هاهنا واسطة محذوفا، وتقدير الكلام: "بين أوقات نحن نرقبه أتانا"، أي أتانا بين أوقات رقبتنا إياه، والجمل مما يضاف إليها أسماء الزمان، نحو أتيتك زمن الحجاج أمير، وأوان الخليفة عبد الملك، ثم إنه حذف المضاف، الذي هو أوقات، وأولى الظرف الذي كان مضافا إلى المحذوف الجملة التي أقيمت مقام المضاف إليها، كقوله تعالي: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] 2، أي أهلها، هكذا علقت عن أبي علي3 في تفسير هذه اللفظة وقت القراءة عليه، وقل من يضبط ذلك، إلا من كان متقنا أصيلا في هذه الصناعة.
__________
1 الوفضة: خريطة يحمل فيها الراعي أداته وزاده، جمعها وفاض. لسان "6/ 4883".
والزناد: مفرد كالزند: خشبتان: يستقدح بهما، فالسفلى زندة، والأعلى زند. ابن سيده لسان العرب "3/ 1871". مادة "زند" وقد أثبتنا البيت على ما جاء في لسان العرب.
وزناد: منصوب حملا على موضع الوفضة، لأن المعنى يعلق وفضة وزناد راعي.
والشاهد فيه: إشباع فتحة الفتح "أتانا" فتحدث بعدها ألف.
إعراب الشاهد:
أتى: فعل ماضي مبني، و"نا" ضمير متصل مبني في محل نصب مفعول به، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو، والجملة لا محل لها من الإعراب.
2 واسأل القرية: أسلوب أمر الغرض منه الالتماس، ويعني بالقرية أهل المصر.
انظر/ تفسير ابن كثير "2/ 487"، والآية بها مجاز مرسل علاقته المكانية حيث ذكر المكان وقصد به أهله.
3 أبو علي: هو أبو علي الفارسي، الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الإمام النحوي الكبير، والمؤلف ينقل عنه كثيرا، لأنه أستاذه الذي تخرج به، توفي سنة 377هـ.

(1/39)


ومثل البيت الذي مضى، بيت آخر من أبيات الكتاب، وهو قول الفرزدق:
تنفي يداها الحصى في كل هاجرة ... نفي الدراهيم تنقاد الصياريف1
أراد الصيارف، فأشبع الكسرة، فتولد عنها ياء.
فأما الدارهيم فلا حجة فيه، لأنه يجوز أن يكون جمع دراهم، وقد نطقت به العرب، قال:
لو أن عندي مئتي درهام ... لجاز في آفاقها خاتامي2
ومثل البيت الأول قول أبي ذؤيب:
بينا تعنقه الكماة وروغه ... يوما أتيح له جريء سلفع3
__________
1 نفي الدراهم: إثارتها للانتقاد، والدراهم: جمع درهم، وجاء في تكسير درهم: دراهيم أيضا. اللسان "2/ 1370". والتنقاد: مصدر كالنقد، إلا أنه للمبالغة.
والصياريف: جمع صيرف كالصيارف، والكوفيون يجعلون زيادة الياء في نحو الدراهيم والصياريف جائزة، والبصريون يجعلونها ضرورة للشعر، اللسان "4/ 2435".
والبيت في وصف ناقة بالقوة، شبه خروج الحصى من تحت مناسمها بارتفاع الدراهم عن الأصابع إذا نقدها الصيرف، وهو تشبيه بليغ يوضح المعني ويؤكد الفكرة.
والشاهد فيه: إشباع حركة الكسر فتولد عنها ياء في كل من الدراهيم، والصياريف، وكلاهما مجرور بالإضافة.
2 الدرهام: الدرهم، وزعم سيبويه أنهم لم يتكلموا به، ولكن الجوهري أثبتها في الصحاح مستشهدا بهذا البيت، وعلى ذلك يكون "الدراهيم" في بيت الفرزدق السابق جاريا على القياس.
3 بينا هنا بمعنى بين، وبين مضافة إلى تعنقه، لأنه قد عطف عليه قوله "وروغه" وهذا الظرف لا يضاف إلا لما يدل على أكثر من واحد، أو ما عطف عليه غيره بالواو دون سائر حروف العطف، وللعلماء فيما بعد بينا وبينما مذهبان.
فالأصمعي يخفض ما بعدهما إذا صلح في موضعهما "بين" وينشد هذا البيت بكسر تعنقه، وغير الأصمعي يرفع ما بعد بينا وبينما، على الابتداء والخبر، وينشد هذا البيت بالرفع والخفض "انظر اللسان في مادة بين". "1/ 405".
والتعنق: المعانقة. والكماة: جمع كمى، وهو البطل المتستر في سلاحة.
وروغه المخادعة. واتيح: تهيأ. وسلفع: شجاع جريء جسور.
والشاهد فيه: قوله: "بينا" يريد "بين تعنقه" وأن الألف وإن كانت إشباعا للفتحة فهي في هذا الموضع زيادة لازمة.

(1/40)


يريد "بين تعنقة"، إلا أن هذه الألف وإنك كانت إشباعا للفتحة، فإنها في هذا الموضع زيادة لازمة.
وأنشدنا أبو علي لابن هرمة1 يرثي ابنه:
وأنت من الغوائل حيت ترمى ... ومن ذم الرجال بمتزاح2
أراد: بمنتزح، فأشبع فتحة الزاي.
وأنشدني أيضا:
الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق إلى أحبابنا صور3
وأنني حوثما يشري الهوى بصري ... من حيثما سلكوا أثني فأنظور4
يريد: أنظر، فأشبع ضمة الظاء، فنشأت عنها واو.
__________
1 ابن هرمة: هو إبراهيم بن علي بن محمد بن سالم بن عامر بن هرمة، شاعر من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، وهو آخر من يستشهد اللغويون بكلامه.
2 قائل البيت: هو إبراهيم بن علي بن محمد بن سلمة بن عامر بن هرمة، والبيت في رثائه لابنه على ما ذكر في اللسان موافقا لابن جني هنا، وقد أورده الصاغاني في العباب، وذكر أنه في مدح بعض القرشيين، وكان قاضيا لجعفر بن سليمان بن علي وروايته هكذا:
وأنت من الغوائل حيث تنمي ... ومن ذم الرجال بمنتزاح
الغوائل: جمع غائلة، وهي الفساد والشر. وتنمي: تكثر
ومنتزاح: أي بعد، يقال: أنت بمنتزح من كذا، أي ببعد منه. أشبعت فتحة الزاي في منتزح فتولدت الألف.
وأسلوب البيت خبري تقريري والغرض منه تأكيد الفكرة.
3 صور: جمع أصور وهو المائل العنق من الشوق من صور يصور صوراً إذا مال نحوه بعنقه، يريد أنهم كانوا يوم الفراق دائمي التلفت نحو أحبابهم. اللسان "4/ 2523".
وأسلوب البيت خبري تقريري الغرض منه الاسترحام والعتاب علي هذا الحبيب المفارق الذي لا يبالي بفراق الأحبة.
4 يشري: كذا في لسان العرب مادة "شري" "4/ 2254". يقال: أشراه ناحية كذا: أماله مأخوذ من الشري وهي الناحية وقيل: معناه يعلق الهوى بصري ويحركه تجاه الأحبة.
حوثما: حيث: ظرف مكان، لغة في حيث، وما: زائدة.
والشاهد في قوله: "فانظور" حيث أشبع ضمة الظاء فنشأ عنها واو.

(1/41)


وقد أجرت العرب أيضا الحرف مجرى الحركة، في نحو قولهم: لم يخش، ولم يسع، ولم يرم، ولم يغز، فحذفوا هذه الحروف للجزم، كما تحذف له الحركات في نحو لم يقم ولم يقعد.
وكذلك أيضا أجروا الحركة مجرى الحرف، فأجازوا صرف هند: اسم امرأة معرفة، فإذا تحرك الأوسط منعوه الصرف معرف البتة، وذلك نحو: قدم، فصارت الحركة في منع الصرف بمنزلة الياء في زينب والألف في عناق ونحوهما في منع الصرف، ولهذا نظائر1 سنذكرها في مكانها إن شاء الله تعالى.
أفلا ترى إلى هذه الحروف كيف تتبع الحركات التي قبلها وهي أبعاض لها، فقد صح ما قدمناه.
وإنما سميت هذه الأصوات الناقصة حركات، لأنها تقلق الحرف الذي تقترن به، وتجتذبه نحو الحروف التي هي أبعاضها، فالفتحة تجتذب الحرف نحو الألف والكسرة تجتذبه نحو الياء، والضمة تجتذبه نحو الواو، ولا يبلغ الناطق بها مدى الحروف التي هي أبعاضها، فإن بلغ بها مداها، تكملت له الحركات حروفا، أعني ألفا وياء وواوًا.
وأعلم أن الحروف في الحركة والسكون على ضربين2: ساكن، ومتحرك فالساكن: ما أمكن تحميله الحركات الثلاث نحو كاف بكر، وميم عمرو، ألا تراك تقول: بكَر وعمَرو، وبكِر وعمِرو، وبكُر وعمُرو، فلما جاز أن تحمله الحركات الثلاث، علمت أنه قد كان قبلها ساكنا.
والمتحرك: هو الذي لا يمكن تحميله أكثر من حركتين، لأن الحركة التي هي فيه قد استغني بكونها فيه عن اجتلابها له، وذلك نحو ميم عمر، يمكن أن تحملها الكسرة والضمة، فتقول: عُمِر، وعُمَر، ولا يمكنك أن تجتلب لها فتحة، لأنها قد كانت في أول اعتبارك إياها مفتوحة، والحرف الواحد لا يتحمل حركتين، لا متفقتين ولا مختلفتين، وإذا كانت الحركات ثلاثا: فتحة، وكسرة، وضمة.
__________
1 نظائر: أشباه: ونظير الشيء أي: مثله، مادة "ن. ظ. ر" اللسان "6/ 4467".
2 ضربين: صنفين، والضرب: الصنف. مادة "ض. ر. ب" اللسان "4/ 2565".

(1/42)


فالمتحرك إذن على ثلاثة أضرب: مفتوح، ومكسور، ومضموم.
فالمفتوح: هو الذي إذا أشبعت حركته حدثت عنها ألف، نحو ضاد ضرب، لك أن تشبع الفتحة، فتقول: ضيارب.
والمكسور: هو الذي إذا أشبعت حركته حدثت عنها ياء نحو ضاد ضراب، لك أن تشبع الكسرة فتقول ضيراب.
والمضموم: هو الذي إذا أشبعت حركته حدثت عنها واو، نحو ضاد ضرب، لك أن تشبع الضمة، فتقول: ضورب، إلا أن هذه الأحرف اللائي يحدثن لإشباع الحركات، لا يكن إلا سواكن، لأنهن مدات والمدات لا يتحركن أبدا.
واعلم أن الحركة التي يتحملها الحرف لا تخلو أن تكون في المرتبة، قبله، ومعه، أو بعده.
فمحال أن تكون الحركة في المرتبة قبل الحرف، وذلك أن الحرف كالمحل للحركة، وهي كالعرض فيه، فهي لذلك محتاجة إليه، ولا يجوز وجودها قبل وجوده، وأيضا لو كانت الحركة قبل الحرف لما جاز الإدغام في الكلام أصلا، ألا ترى أنك تقول قطع، فتدغم الطاء الأولى في الثانية، ولو كانت حركة الطاء الثانية في الرتبة قبلها، لكانت حاجزة بين الطاء الأولي، وبين الطاء الثانية، [ولو كان الأمر كذلك لما جاز إدغام الأولى في الثانية] 1 لأن الحركة، على هذه المقدمة، مرتبتها أن تكون قبل الطاء الثانية، بينها وبين الأولى، وإذا حجز بين الحرفين حركة بطل الإدغام، فجواز الإدغام في الكلام، دلالة على أن الحركة ليست قبل الحرف فالمتحرك بها.
فقد بطل بما ذكرناه أن تكون حركة الحرف في الرتبة قبله، وبقي أن تكون معه أو بعده، وفي الفرق بينهما بعض الإشكال.
فالذي يدل على أن حركة الحرف في المرتبة بعده، أنك تجدها فاصلة بين المثلين أو المتقاربين، إذا كان الأول منهما متحركا.
__________
1 ما بين المعقوفين ساقط، وهو ضروري.

(1/43)


فالمثلان نحو قولك: قصص ومضض وطلل1 وسرر وحضض2 ومرر3 وقدد4، فلولا أن حركة الحرف الأولى في هذين المثلين بعده، لما فصلت بينه وبين الذي هو مثله بعده، ولو لم تفصل لوجب الإدغام، لأنه لا حاجز بين المثلين، فإن ظهر هذان المثلان ولم يدغم الأول منهما في الآخر منهما، فظهورهما دلالة على فصل واقع بينهما، وليس هاهنا فصل البتة غير الحركة المتأخرة عن الحرف الأول.
فإن قيل: فما تنكر أن يكون الفاصل بين المثلين في نحو طلل وسرر إنما هو حركة الحرف الأول، دون ما ذهبت إليه من حركة الحرف الأول.
قيل: قد تقدم من القول ما فيه دلالة على أن الحركة لا يجوز أن تكون قبل الحرف، ويدل على فساد قول من قال إن الحاجز بين المثلين في نحو جدد وعدد، إنما هو حركة الثاني، أنه لو فصل هنا بالحركة، لوجب الفصل بها في نحو شد ومد، مع حركة الثاني منهما، دلالة على أن الحركة في الحرف الثاني لم تفصل بينه وبين الأول، ولو كانت في الرتبة قبله لوجب الفصل بها بينهما، وأيضا فإنك تقول: شددت وحللت، فتظهر، لأن الثاني من المثلين ساكن.
فهذا أمر، كما تراه، واضح في المثلين.
وأما المتقاربان فنحو قولك في وتد إذا سكنت التاء لإرادة الإدغام ود، فكانت الحركة في التاء قبل إسكانها فاصلة بينها وبين الدال فوجب لذلك الإظهار فلما سلبت التاء كسرتها، وزالت التاء أن تكون حاجزة بينهما بعدها، وسكنت التاء، واجتمع المتقاربان، أبدلت التاء دالا، وأدغمتها في الدال بعدها، كما تقول في انعت داود: انعداود، فظهور التاء في وتد ما دامت مكسورة، وإدغامها إذا سكنت، دلالة على أن الحركة قد كانت بينهما، وإذا كانت بينهما، فهي بعد التاء لا محالة.
فهذه دلالة من القوة على ما ترى.
__________
1 طلل: ما شخص من آثار الدار، "ج" أطلال. مادة "ط. ل. ل". اللسان "4/ 2697".
2 حضض: دواء معروف. مادة "ح. ض. ض". اللسان "2/ 910".
3 مرر: جمع مرة، والمرة: إحكام القتل أو إحكام العقل أو شدته. اللسان "6/ 4177".
4 قدد: جمع قدة، والقدة الطريقة والفرقة من الناس إذا كان هوى كل واحد على حدة. يقال: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} . مادة "ق. د. د" اللسان "5/ 3543".

(1/44)


ودلالة أخرى تدل على أن حركة الحرف بعده، وهي أنك إذا أشبعت الحركة تممتها حرف مد، كما تقدم من قولنا في نحو ضرب وقتل، إذا أشبعت حركة الضاد والقاف قلت ضارب وقاتل. وضرب وقتل إذا أشبعت قلت: ضورب وقوتل وكذلك ضراب وقتال، إذا أشبعت قلت ضيراب وقيتال. فكما أن الألف والواو والياء بعد الضاد والقاف، فكذلك الفتحة والضمة والكسرة في الرتبة بعد الضاد والقاف، لأن الحركة إذا كانت بعضا للحرف، فالحرف كل لها، وحكم البعض في هذا تابع لحكم الكل، فكما أن الحروف التي نشأت عن إشباع الحركات بعد الحروف المتحركة بها، فكذلك الحركات التي هي أبعاضها وأوائل لها وأجزاء منها، في الرتبة بعد الحروف المتحركة، وهذا واضح مفهوم لمتأمله.
فإن قلت: ما تنكر أن تكون الحركة تحدث مع الحرف المتحرك البتة، ثم تأتي بقية حروف اللين التي هي مكملة للحركة حرفا مستأنفة بعد الحركة التي حدثت مع الحرف البتة، كما قد نشاهد بينا من الأشياء ما يصحبه بعض لغيره، ثم يأتي تمام ذلك البعض فيما بعد، فلا يلزم من هذا أن يكون ذلك البعض الذي شوهد أو مصاحبا لغيره، في حكم البقية التي جاءت من بعده، بل يكون الجزء الأول مصاحبا لما وجد معه، والجزء الثاني آتيا من بعده، ونظير هذا: رجل له عشرون غلاما، فقدم ومعه منهم عشرة، ثم أوفى بعد استقراره بمن وافى في جملته من غلمانه بقيتهم، فليس تأخر من تأخر منهم بموجب تأخر من تقدم منهم، فما أنكرت مع ما مثلنا أن تكون الحركة حادثة مع الحرف، وتكون المدة التي تحدث لإشباع الحركة مستقبلة فيما بعد.
فالجواب أن هذا التمثيل إنما يصح فيما أمكن تقطعه وتجزؤه، لأنه قد يمكن أن يحضر بعض الغلمان مع مالكهم، ويغيب بعض، فأما ما اتصلت أجزاؤه وتتابعت وتوالت شيئا فشيئا، ولم يمكن قطعها، ثم العود إلى تمامها، فقد جرى لذلك مجرى الجزء الواحد الذي لا يسوغ تجزؤه، فمحال أن يكون له حكم إلا وهو مشتمل عليه1، وذلك حكم حرف المد الذي يحدث عن تمكين2 الحركة ومطلها3.
__________
1 مشتمل عليه: أي يحتوي عليه ويصيبه نفس حكمه. اللسان "4/ 2329".
2 تمكين: أي تمكن واستمكان. مادة "م. ك. ن" اللسان "6/ 4251".
3 مطلها: أي إطالتها. مادة "م. ط. ل" اللسان "6/ 4225".

(1/45)


واستطالتها، هو من هذا الوجه في حكم الحركة، والحركة في حكمه، لأنه لا يمكن فصل الحركة منه، والعود إلى استتمامه، لأن هذه المدة المستطيلة إنما تسمى حرفا لينا ما دامت متصلة, فمتى عقتها1 عن الاستطالة بفصل ما فقد أخرجتها عن اللين والامتداد الذي من شرطها، وإذا كانت الحركة لاتصالها بالحرف في حكمه، كما أن الألف بعد الضاد في ضارب، فكذلك الفتحة في الرتبة بعد الضاد.
وقول النحويين إن الحركة تحل الحرف مجاز، لا حقيقة تحته، وذلك أن الحرف عرض، والحركة عرض أيضا، وقد قامت الدلالة عن طريق صحة النظر على أن الأعراض لا تحل الأعراض، ولكنه لما كان الحرف أقوى من الحركة، وكان الحرف قد يوجد ولا حركه معه، وكانت الحركة لا توجد إلا عند وجود الحرف، صارت كأنها قد حلته، وصار هو كأنه قد تضمنها، تجوزا لا حقيقة.
واستدل أبو علي على أن الحركة تحدث مع الحرف، بأن النون الساكنة إذا تحركت زال عن الخياشيم إلى الفم، وكذلك الألف إذا تحركت انقلبت همزة، فدل ذلك عنده على أن الحركة تحدث مع الحرف، وهو لعمري استدلال قوي2.
قد فرغنا من ذكر مائية3 الأصوات والحروف والحركات، وأين محل الحركات من الحروف. ونحن نتبع هذا القول، على معنى قولهم، حروف المعجم، وعددها، وأجناسها، وأصنافها، ثم نستأنف بعد ذلك القول على حرف حرف منها، بحسب ما شرطنا على أنفسنا، وجعلناه في ضمان كتابنا، بإذن الله وقدرته.
__________
1 عقتها: أي حبستها. مادة "ع. و. ق". اللسان "4/ 3173".
2 في هامش ب ما نصه: "حاشية. في الأصل بخط ابن جني المصنف -رحمه الله- قد ذكرنا في كتابنا الموسوم بالخصائص ما يقدح في قول أبي علي رحمه الله هذا، وأرينا أن الأثر قد يكون قبل وجود مؤثره، أعني باب.. وعمبر وشمباء. تمت" وهي في متن ص مختصرة ومحرفة، وأولها يشعر بتقدم تأليف كتاب الخصائص على سر الصناعة، وقوله: فيما بعد، يشعر بأن كتاب الخصائص ألف بعد سر الصناعة، وفي هذا تناقض، ويزول التناقض إذا عرفنا أن ابن جني كان دائم التنقيح لمؤلفاته، فيظهر أنه بعد إشارته للرد على أبي علي في هذا الكتاب، بدا له أن يشبع القول فيه مبينا فساده، فألحق أدلة ذلك بكتابه الخصائص "ص29 من النسخة المخطوطة بدار الكتب المصرية رقم 5 نحو ش".
3 المائية: الماهية، وهي حقيقة الشيء التي يسأل عنها بما، أو بما هو؟

(1/46)


إن سأل سائل فقال: ما معنى قولنا حروف المعجم؟ هل المعجم صفة لحروف هذه أو غير وصف لها؟
فالجواب أن "المعجم" من قولنا حروف المعجم، لا يجوز أن تكون صفة لحروف هذه من وجهين:
أحدهما: أن "حروفا" هذه لو كانت غير مضافة إلى المعجم، لكانت نكرة، والمعجم كما ترى معرفة، ومحال وصف النكرة بالمعرفة.
والآخر: أن الحروف مضافة إلى المعجم، ومحال أيضا إضافة الموصوف إلى صفة، والعلة في امتناع ذلك أن الصفة هي الموصوف، على قول النحويين، في المعنى، وإضافة الشيء إلى نفسه غير جائزة، ألا ترى أنك إذا قلت: ضربت أخاك الظريف، فالأخ هو الموصوف، والظريف هو الصفة، والأخ هو الظريف في المعنى وليس يريد النحويين بالصفة ما يريد المتكلمون بها، من نحو القدرة، والعلم، والسكون والحركة، لأن هذه الصفات غير الموصوفين بها، ألا ترى أن السواد غير الأسود، والعلم غير العالم، والحركة غير المتحرك، وإنما الصفة عند النحويين هي النعت، والنعت هو اسم الفاعل أو المفعول، أو ما يرجع إليهما من طريق المعنى، مما يوجد فيه معنى الفعل، نحو ضارب ومضروب، ومثل وشبه ونحو، وما يجري مجرى ذلك، وإذا كانت الصفة هي الموصوف عندنا في المعنى، لم يجز إضافة الحرف إلى المعجم، لأنه غير مستقيم إضافة الشيء إلى نفسه، وإنما امتنع ذلك من قبل أن الغرض في الإضافة إنما هو التخصيص والتعريف، والشيء لا تعرفه نفسه، لأنه لو كان معرفة بنفسه لما احتيج إلى إضافته، وإنما يضاف إلى غيره ليعرفه، ألا ترى أنك تضيف المصدر إلى الفاعل تارة، نحو عجبت من قيام زيد، وإلى المفعول أخرى، نحو عجبت من أكل الخبز، وإنما جازت إضافة المصدر إليهما، لأنه في المعني غيرهما، ونجيز أيضا إضافة الفاعل إلى المفعول، نحو عجبت من ضارب زيد، {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةَ} و {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} .
وإنما جاز ذلك لأن الفاعل غير المفعول، ولا يجوز سررت بطالعة الشمس، كما تقول سررت بطلوع الشمس، لأن طلوعها غيرها، فجازت إضافته إليها، والطالعة هي الشمس، ولا تضيفها إلى نفسها.

(1/47)


فكذلك لو كان المعجم صفة لحروف لما جازت إضافتها إليه، وأيضا فلو كان المعجم صفة لحروف، لقلت المعجمة1، كما تقول تعلمت الحروف المعجمة. فقد صح بما ذكرناه أن المعجم ليس وصفا لحروف.
والصواب في ذلك عندنا ما ذهب إليه أبو العباس محمد بن يزيد [المبرد] رحمة الله تعالى، من أن المعجم مصدر، بمنزلة الإعجام، كما تقول أدخلته مدخلا، وأخرجته مخرجا، أي إدخالا وإخراجا.
وحكى أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفشن أن بعضهم قرأ: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِم} [الحج: 18] 2 بفتح الراء، أي من إكرام، فكأنهم قالوا: هذه حروف الإعجام، فهذا أسد وأصوب من أن يذهب إلى أن قولهم حروف المعجم بمنزلة قولهم صلاة الأولى ومسجد الجامع، لأن معنى ذلك صلاة الساعة الأولى والفريضة الأولى، ومسجد اليوم الجامع، فالأولى غير الصلاة في المعنى، والجامع غير المسجد في المعنى أيضا، وإنما هما صفتان حذف موصوفاهما، وأقيمتا مقامهما، وليس كذلك حروف المعجم، لأنه ليس معناه حروف الكلام المعجم، ولا حروف اللفظ المعجم، وإنما المعني أن الحروف هي المعجمة، فصار قولنا حروف العجم، من باب إضافة المفعول إلى المصدر، كقولهم: هذه مطية ركوب، أي من شأنها أن تركب، وهذا سهم نضال3 أي من شأنه أن يناضل به، وكذلك حروف المعجم، أي من شأنها أن تعجم، فاعرف ذلك.
وقد اعترض فصلنا هذا أمر لا بد من شرحه وإبانته بالاشتقاق.
اعلم أن "ع ج م" إنما وقعت في كلام العرب للإبهام والإخفاء، وضد البيان والإفصاح.
__________
1 يقصد أن تطلق المعجمة على الحروف كما أطلق لفظ المعجم على الكتاب الذى يجمع هذه الحروف في ترتيب وتنسيق شديدين.
2 {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِم} : إن الذي يذله الله ويهنه لا يمكن أن يكرمه أحد أو يرفع من مكانته.
واستخدام أسلوب الشرط يؤكد المعنى عن طريق تخصيص العز والذل بين الله عز وجل.
3 سهم نضال: سهم صائب غالب. مادة "ن. ض. ل". اللسان "6/ 4456".

(1/48)


من ذلك قولهم: رجل أعجم، وامرة عجماء: إذا كانا لا يفصحان ولا يبينان كلامهما، وكذلك العجم والعجم، ومن ذلك قولهم: عجم الزبيب1 وغيره، إنما سمي عجما لاستتاره وخفائه بما هو2 عجم له. ومن ذلك قوله عليه السلام: "جرح العجماء جبار"3 يراد به البهيمة4 لأنها لا توضح عما في نفسها، ومن ذلك تسميتهم: صلاتي الظهر والعصر العجماوين، لم كانتا لا يفصح فيهما بالقراءة.
قال أبو علي: ومن ذلك قولهم: عجمت العود ونحوه، إذا عضضته. قال: وهو يحتمل أمرين، كل واحد منهما راجع إلى ما قدمناه:
أحدهما: أنه قيل: عجمته، لأنك لما أدخلته فاك لتعضه، فقد أخفيته في فيك، والآخر: أنك قد ضغطت بعض أجزائه بالعجم، فأدخلت بعضها في بعض، فأخفيتها، وربما سميت العرب الأخرس أعجم من هذا، فأما قول ذي الرمة:
حتى إذا جعلته بين أظهرها ... من عجمة الرمل أنقاء لها حبب5
عجمة: معظم الرمل، وأشده تراكما، سمي بذلك لتداخله، واستبهام أمره على سالكه، ومنه قولهم: اسعجمت الدار: إذا صمت، فلم تجب سائلها.
__________
1 عجم الزبيب: حبه الذي في جوفه. اللسان "4/ 2828". مادة "عجم".
2 بما هو: ما: يراد بها ثمرة الزبيب التي في جوفها الحبة، والضمير يراد به "عجمة الزبيب" وهي الحبة التي في داخل الزبيبة.
3 "جرح العجماء جبار": أي هدر. قال الأزهري: معناه أن البهيمة العجماء تنفلت فتتلف شيئا، فهو هدر. اللسان "4/ 2827". مادة "ع. ج. م".
4 البهيمة: واحدة البهائم. مادة "ب. هـ. م". اللسان "1/ 376".
5 الأنقاء: جمع نقا، وهو الرمل المحدودب المنقاد. اللسان "6/ 5432". مادة "ن. ق. أ".
الحبب: بكسر الحاء: جمع حبة، وروي بالخاء، ومعناهما: الطريقة في الرمل. والهاء في جعلته ضمير راجع إلى الثور الوحشي. مدة "ح. ب. ب". اللسان "2/ 745".
والمعني: حتى إذا صار الثور وسط الرمال أدركه الليل، وضم الظلام عليه شملته، أي حلته، والمقصود أن الليل ستره، كما يفهم من البيت بعده.
ضم الظلام على الوحشي شملته ... ورائح من نشاص الدلو منسكب
والشاهد في البيت: كلمة "عجمة" حيث أطلق على الرمل لشدة تداخله وتراكمه كلمة عجمة.
إعراب الشاهد: عجمة: اسم مجرور بحرف الجر من وعلامة الجر الكسرة.

(1/49)


قال امرء القيس:
صم صداها وعفا رسمها ... واستعجمت عن منطق السائل1
فإن قال قائل فيما بعد: إن جميع ما قدمته يدل على أن تصريف "ع ج م" في كلامهم موضوع للإبهام، وخلاف الإيضاح، وأنت إذا قلت: أعجمت الكتاب، فإنما معناه أوضحته وبينته، فقد ترى هذا الفصل مخالفا لجميع ما ذكرته، فمن أين لك الجمع بينه وبين ما قدمته؟ 2
فالجواب: أن قولهم أعجمت وزنه أفعلت، وأفعلت هذه وإن كانت في غالب أمرها إنما تأتي للإثبات والإيجاب، نحو: أكرمت زيدا، أي أوجبت له الكرامة، وأحسنت إليه، أثبت الإحسان إليه، وكذلك أعطيته وأدنيته وأسعدته وأنقذته، فقد أوجبت جميع هذه الأشياء له -فقد تأتي أفعلت أيضا يراد بها السلب والنفي، وذلك نحو: أشكيت زيدا: إذا زلت3 له عما يشكوه.
أنشدنا أبو علي قال: أنشد أبو زيد:
تمد بالأعناق أو تلويها ... وتشتكي لو أننا نشكيها4
أي لو أننا نزول لها عما تشكوه.
__________
1 الصمم: انسداد الأذن، وثقل السمع، والفعل منه "صم" بالإدغام. اللسان "4/ 2500".
والصدى: ما يرجع عليك من صوت الجبل، وإسناد الصمم إلى الصدى لتخيل أن الصدى يسمع المتكلم فيجيب، فإذا لم يجب فكأن به صمما. اللسان "4/ 2422".
واستعجمت الدار: سكتت، ولذلك عداه يعن، والمراد أن هذه الدار لم تجب السائل عما يسأل، وذهبت آثارها التي تدل على أصحابها. مادة "ع. ج. م" اللسان "4/ 2828".
2 فمن أين لك الجمع بينه وبين ما قدمته؟: أسلوب استفهام يفيد التشوق والتقرير.
3 زلت: تنحيت له عما يشكوه. اللسان "3/ 1856". مادة "ز. ل. ل".
4 نشكيها: ننزع لها عن شكايتها وعتابها. مادة "ش. ك. أ". اللسان "4/ 2314".
والراجز هنا يصف أبلا قد أتعبها السير فهي تلوي أعناقها تارة، وتمدها أخرى، وتشتكي إلينا، فلا ننزع لها عن شكايتها.
شكواها: ما غلبها من سوء الحال والهزال، وهذا يقوم مقام كلامها.
وبين "تمد، تلويها" طباق يبرز المعنى بالتضاد ويزيده وضوحا.

(1/50)


ومثله قوله عز اسمه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] 1 تأويله والله أعلم، عند أهل النظر: أكاد أظهرها، وتلخيص حال هذه اللفظة: أي أكاد أزيل عنها خفاءها، وخفاء كل شيء: غطاؤه، من ذلك خفاء القربة2، للكساء الذي يكون عليها. وجمعه: أخفية.
أنشدنا أبو علي:
لقد علم الأيقاظ أخفية الكرى ... تزججها من حالك واكتحالها3
فقوله: " أخفية الكرى": جمع خفاء، والكرى: النوم، وجعل الأعين في اشتمالها على النوم بمنزلة الخفاء في اشتماله على ما ستر به، ونصب أخفيه الكرى:
__________
1 {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} الساعة: القيامة.
أكاد أخفيها: أقارب أن أسترها عن الناس، يظهر لهم قربها بعلاماتها.
"تفسير وبيان مع أسباب النزول للسيوطي ص313" والأسلوب إنشائي في صورة توكيد.
والشاهد في قوله تعالى {أُخْفِيهَا} حيث استخدمها بمعنى أظهرها وأزيل ما يسترها بإظهار علامتها إعراب الشاهد:
أخفيها: أخفي: فعل مضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم وعلامة رفعه الضمة المقدرة على آخره لأن آخره حرفا من حروف العلة، والفاعل ضمير مستتر وجوبا يعود تقديره إلى لفظ الجلالة -الله-، والهاء ضمير متصل مبني على السكون المطلق في محل نصب مفعول به.
2 ذلك خفاء القربة: -يضرب مثالا بخفاء القربة- أي الكساء الذي يسترها ويغطيها، باعتبار أنه يخفي معالمها بحيث لا تظهر.
وخفى "خفاه" من باب رمى، كتمه وأظهره أيضا فهو من الأضداد، ويقال برح الخفاء أي وضح الأمر. مادة "خ. ف. ا". اللسان "2/ 1216".
3 أخفية: جمع خفاء، والخفاء: رداء تلبسه العروس على ثوبها، فتخفيه به، وكل ما ستر شيئا فهو له خفاء. مادة "خ. ف. ا". اللسان "2/ 1217".
وأخفية الكرى: الأعين، كما أن أخفية النور أكمته.
تزججها: الزج: بالضم الحديدة التي في أسفل الرمح، والجمع زججه وزجاج، أما الزج بالفتح: دقة الحاجبين وطولهما. مادة "ز. ج. ج". اللسان "3/ 1811-1812".
والشاهد فيه: أخفية الكرى: جمع خفاء.
إعراب الشاهد: أخفية: تمييز منصوب.
الكرى: مضاف إليه مجرور بالإضافة، وعلامة جره الكسر المقدر على آخره، لأنه اسم مقصور

(1/51)


على التمييز، كما تقول: لقد علم الأيقاظ عيونا تزججها، فأخفيها، في أنه" أزيل خفاءها": بمنزلة قوله "لو أننا نشكيها": أي نترك لها ما تشكوه.
فكذلك أيضا يكون قولنا: "أعجمت الكتاب": أي أزلت عنه استعجامه، كما كان أخفيها، أزيل خفاءها، ونشكيها: بمنزلة ندع لها ما تشكوه.
ونظيره أيضا: أشكلت الكتاب. أي أزلت عنه إشكاله. وقد قالوا أيضا: عجمت الكتاب، فجاءت "فعلت" للسلب أيضا، كما جاءت أفعلت.
ونظير عجمت في النفي والسلب، قولهم: مرضت الرجل: أي داويته ليزول مرضه، وقذيت عينه، أي أزلت عنه القذى1. ومنه "رجل مبطن": إذا كان خميص البطن2، كأن بطنه أخذ منه، فجاءت "فعلت" للسلب أيضا، وإن كانت في أكثر الأمر للإيجاب، نحو: علمته، وقدمته، وأخرته، وبخرته: أي أوصلت هذه الأشياء إليه، وكذلك: عجمت الكتاب أيضا. مثل: مرضته، وقذيت عينه.
ونظير فعلت وأفعلت في السلب أيضا "تفعلت"، قالوا: تحوبت3، وتأثمت، أي تركت الحوب والإثم، وإن كان "تفعلت" في أكثر الأمر تأتي للإثبات، نحو: تقدمت، وتأخرت، وتعجلت، وتأجلت، فكذلك أيضا أعجمت الكتاب وعجمته: أي أزلت استعجامه.
فإن قيل: إن جميع هذه الحروف ليس معجما، إنما المعجم بعضها، ألا ترى أن الألف، والحاء والدال ونحوها، ليس معجما، فكيف استجازوا تسمية جميع هذه الحروف حروف المعجم؟ 4.
__________
1 القذى: ما يسقط في العين والشراب، وقذيت عينه من باب صدي سقطت فيها قذاة فهي قذى وقذت عينه: رمت بالقذى. مادة "ق. ذ. ى". اللسان "5/ 3562".
2 خميص البطن: الأخمص ما دخل من باطن القدم فلم يصب الأرض، والخمصة الجوعة، وخمص بطنه خلا وضمر، "ج" خماص وخمائص. اللسان "2/ 3562".
3 تحوبت: الحوب بالضم والحاب الإثم، وقد حاب بكذا أي أثم. اللسان "2/ 1036".
4 فكيف استجازوا تسمية هذه الحروف حروف المعجم؟: أسلوب إنشائي في صورة استفهام الغرض منه الاستنكار.

(1/52)


قيل: إنما سميت بذلك لأن الشكل الواحد إذا اختلفت أصواته، فأعجمت بعضها، وتركت بعضها، فقد علم أن هذا المتروك بغير إعجام، هو غير ذلك الذي من عادته أن يعجم. فقد ارتفع إذن بما فعلوه الإشكال والاستبهام عنها جميعا، ولا فرق بين أن يزول الاستبهام عن الحرف بإعجام عليه، أو بما يقوم مقام الإعجام في الإيضاح والبيان.
ألا ترى أنك إذا أعجمت الجيم بواحدة من أسفل، والخاء بواحدة من فوق، وتركت الحاء غفلا، فقد علم بإغفالها أنها ليست واحدة من الحرفين الآخرين، أعني الجيم والخاء، وكذلك الدال والذال، والصاد والضاد، وسائر الحروف نحوها، فلما استمر البيان في جميعها جازت تسميته بحروف المعجم.
وهذا كله رأي أبي علي، وعنه أخذته، وقد أتيت في هذا الفصل من الاشتقاق وغيره، بما هو معاني قوله، وإن خالفت لفظه، وهو الصواب، الذي لا يذهب عنه إلى غيره.
واعلم1 أن العرب قد سمت هذا الخط المؤلف من هذه الحروف "الجزم".
قال أبو حاتم: إنما سمي جزما لأنه جزم من المسند، أي أخذ منه.
قال: والمسند: خط حمير في أيام ملكهم، وهو في أيديهم إلى اليوم وباليمن. فمعنى جزم: أي قطع منه وولد عنه، ومنه جزم الإعراب، لأنه اقتطاع الحرف من الحركة ومد الصوت بها للإعراب.
__________
1 أسلوب إنشائي في صورة أمر لغرض منه النصح والإرشاد.

(1/53)