سر صناعة الإعراب

باب أسماء الحروف:
وأجناسها، ومخارجها، ومدارجها، وفروعها المستحسنة، وفروعها المسقبحة، وذكر خلاف العلماء فيما مستقصى مشروحا:
اعلم أن أصول حروف المعجم عند الكافة1 تسعة وعشرون حرفا. فأولها الألف. وآخرها الياء، على المشهور من ترتيب حروف المعجم، إلا أبا العباس، فإنه كان يعدها ثمانية وعشرين حرفا، ويجعل أولها الباء، ويدع الألف من أولها، ويقول: هي همزة، ولا تثبت على صورة واحدة، وليست لها صورة مستقرة، فلا أعتدها مع الحروف التي أشكالها محفوظة معروفة.
وهذا الذي ذهب إليه أبو العباس2 غير مرضي منه عندنا، وسأوضح القول فيه بإذن الله.
اعلم أن الألف التي في أول حروف المعجم هي صورة الهمزة، وإنما كتبت الهمزة واوا مرة وياء أخرى على مذهب أهل الحجاز في التخفيف3، ولو أريد تحقيقها البتة، لوجب أن تكتب ألفا على كل حال، يدل على صحة ذلك أنك إذا أوقعتها موقعا لا يمكن فيه تخفيفا، ولا تكون فيه إلا محققه، لم يجز أن تكتب إلا ألفا، مفتوحة كانت أو مضمومة أو مكسورة، وذلك إذا وقعت أولا، نحو: أخذ، وأخذ، وإبراهيم، فلما وقعت موقعا لا بد فيه من تحقيقها اجتمع على كتبها ألفا البتة4.
__________
1 الكافة: الجميع، ويقصد بهم عموم النحاة، مادة "كف". اللسان "5/ 3804".
2 أبو العباس: هو أبو العباس المبرد أحد النحاة المعتد بآرائهم.
3 إنما يكون ذلك عند أهل الحجاز إذا لم تقع أول الكلمة.
4 البتة: قطعا لا رجعة فيه. مادة "ب. ت. ت". اللسان "1/ 204".

(1/55)


وعلى هذا1 وجدت في بعض المصاحف: "يَسْتَهْزِأُون" بالألف قبل الواو.
ووجد فيها أيضا: "وإنْ مِنْ شَيْأٍ إلا يُسبِّحُ بِحَمْدِه"2 بالألف بعد الياء. وإنما ذلك لتوكيد التحقيق.
وهذه علة في الهمزة كنت قديما، أنا رأيتها، ثم غبرت3 زمانا، فرأيت بعض كلام أبي بكر محمد بن السري -رحمه الله-، وقد أوردها فيه غير مسنده إلى غيره، ثم إني رأيتها بعد ذلك في بعض كلام الفراء، فلا أدري: أاصاب أبا بكر مع الفراء ما أصابني أنا من المواردة4 له، أم هو شيء سمعه، فحكاه واعتقده؟ وهي دلالة قاطعة قوية.
وفيه دلالة أخرى، وهي أن كل حرف سميته ففي أول حروف تسميته لفظه بعينه، ألا ترى أنك إذا قلت: جيم، فأول حروف الحرف "جيم" وإذا قلت دال، فأول حروف الحرف "دال" وإذا قلت حاء، فأول ما لفظت به حاء، وكذلك إذا قلت ألف، فأول الحروف التي نطقت بها همزة. فهذه دلالة أخرى غريبة، على كون صورة الهمزة مع التحقيق ألفا.
فأما المدة التي في نحو: قام وسار وكتاب وحمار، فصورتها أيضا صورة الهمزة المحققة، التي في أحمد وإبراهيم وأترجة5، إلا أن هذه الألف لا تكون إلا ساكنة، فصورتها وصورة الهمزة المتحركة واحدة وإن اختلف مخرجاهما، كما أن النون الساكنة في نحو: من وعن، والنون المحركة في نحو: نعم ونفر، تسمى كل واحدة منهما نونا، وتكتبان شكلا واحدا، ومخرج الساكنة من الخياشيم6، ومخرج المتحركة من
__________
1 الإشارة بهذا إلى مضمون الكلام السابق، وهو أنها إذا لم تقع في أول الكلمة يخففها الحجازيون ويحققها غيرهم، ولذلك توجد في بعض المصاحف محققة، مكتوبة ألفا على طريقة غير الحجازيين.
2 يسبح: ينزه مادة "سبح" اللسان "3/ 1914"، ومعنى الآية: أن كل شيء ينزه الله سبحانه وتعالى، والآية دليل على تحقيق بعض كتاب المصحف للألف في كلمة "شيئا".
3 غبرت: مضيت، مادة "غبر". اللسان "5/ 3205".
4 المواردة: اتفاق الخواطر. مادة "ورد".
5 أترجة: ثمر ذكي الرائحة. جمعها أترج. مادة "ت. ر. ج" اللسان "1/ 425".
6 الخياشيم: واحدها الخيشوم وهو الأنف. مادة "خ. ش. م" اللسان "2/ 1168".

(1/56)


الفم، كما أن مخرج الألف المتحركة التي هي همزة من المصدر، ومخرج الألف فوقها من أول الحلق، فهاتان ها هنا كتينك هناك.
فأما إخراج أبي العباس الهمزة من جملة الحروف، واحتجاجه في ذلك بأنها لا تثبت صورتها، فليس بشيء، وذلك أن جميع هذه الحروف إنما وجب إثباتها واعتدادها لما كانت موجودة في اللفظ الذي هو قبل الخط، والهمزة أيضا موجودة في اللفظ، كالهاء والقاف وغيرهما، فسبيلها أن تعتد حرفا كغيرها، فأما انقلابها في بعض أحوالها لعارض يعرض لها من تخفيف أو بدل، فلا يخرجها من كونها حرفا، وانقلابها أدل دليل على كونها حرفا، ألا ترى أن الألف والواو والياء والتاء والهاء والنون وغيرهن قد يقلبن في بعض الأحوال، ولا يخرجهن ذلك من أن يعتددن حروفا، وهذ أمر وضح غير مشكل1.
واعلم أن واضع حروف الهجاء لما لم يمكنه أن ينطبق بالألف التي هي مدة ساكنة، لأن الساكن لا يمكن الابتداء به، دعمها باللام قبلها متحركة، ليمكن الابتداء بها. فقال: هـ، و، لا، ي. فقوله "لا" بزنة ما، ويا، ولا تقل كما يقول المعلمون: لام ألف. وذلك أن واضع الخط لم يرد أن يرينا كيف أحوال هذه الحروف إذا تركب بعضها مع بعض، ولو أراد ذلك، لعرفنا أيضا كيف تتركب الطاء مع الجيم والسين مع الدال، والقاف مع الظاء، وغير ذلك مما يطول تعداده، وإنما مراده ما ذكرت لك، من أنه لما لم يمكنه الابتداء بالمدة الساكنة، ابتدأ باللام، ثم جاء بالألف بعدها ساكنة، ليصح لك النطق بها كما صح لك النطق بسائر الحروف غيرها، وهذا واضح.
فإن قال قائل: فلم اختيرت لها اللام دون سائر الحروف؟ وهلا جيء لها بهمزة الوصل، كما فعل العرب ذلك بالساكن لما لم يمكن ابتداؤه، نحو: اضرب، اذهب، انطلق، وغير ذلك؟
فالجواب: أن همزة الوصل لو جيء بها قبل الألف توصلا إلى النطق بالألف الساكنة، لما أمكن ذلك، ولادتهم الحال إلى نقض الغرض الذي قصدوا له.
__________
1 المشكل: الملتبس مادة "شكل". اللسان "4/ 2310".

(1/57)


وذلك أن همزة الوصل كانت تأتي مكسورة، كما جرت العادة فيها، ولو كسرت قبلها لانقلبت الألف ياء، لانكسار ما قبلها، فكنت تقول: "اي"، فلا تصل إلى الألف التي اعتمدتها1. فلما لم يجز ذلك عدلوا إلى اللام من بين سائر الحروف، لما أذكره لك.
وذلك أن واضع الخط أجراه في هذا على اللفظ، لأنه أصل للخط، والخط فرع على اللفظ، فلما رآهم قد توصلوا إلى النطق بلام التعريف، بأن قدموا قبلها ألفا نحو: الغلام والجارية، لما لم يمكن الابتداء باللام الساكنة كذلك أيضا، قدم قبل الألف في "لا"، لاما، توصلا إلى النطق بالألف الساكنة، فكان في ذلك ضرب من المعاوضة2 بين الحرفين. وهذا بإذن الله غير مشكل.
فإذا كنا قد أجمعنا إيراد حروف المعجم على ما في أيدي الناس من التأليف المشهور، أعني على غير ترتيب المخارج، وذكرها حرفا حرفا، فليس ذلك بمانع لنا سوقها على ترتيب المخارج، فإنه أوضح في البيان، ثم نعود فيما بعد إلى استقرائها على تأليف أب ت ث، إلى أن نأتي بإذن الله على جميعها.
__________
1 اعتمدتها: اعتمد الشيء أي عليه اتكأ. مادة "عمد". اللسان "4/ 3097".
وفاعل اعتمد: ضمير يرجع إلى الألف، وها: عائد على الهمزة.
والمعني: أن الألف اعتمدت الهمزة، أي اتكأت عليها، ليمكن النطق بها.
2 المعاوضة: المبادلة، مادة "عوض". اللسان "4/ 3170".

(1/58)