سر صناعة الإعراب باب الفاء:
الفاء: حرف مهموس، يكون أصلا وبدلا. ولا يكون زائدا مصوغا في الكلمة،
إنما يزاد في أولها للعطف ونحو ذلك.
فإذا كانت أصلا وقعت فاء وعينا ولاما، فالفاء نحو: فحم وفخر، والعين
نحو: قفل وسفر، واللام نحو: حلف وشرف.
واعلم أن العين واللام قد يكرر كل واحد منهما في الأصول: متصلين
ومنفصلين، وذلك نحو: عشب واعشوشب، وخدب1 وجلبب. وفاء الفعل لم تكرر في
شيء من الكلام إلا في حرف واحد، وهو مرمريس، ووزنها فعفعيل. وهي
الداهية2، وأنشدنا أبو علي لرؤبة:
يعدل عني الجدل الشخيسا3
كد العدا أخلق مرمريسا4
وقد قالوا أيضا: مرمريت.
وأما البدل فأخبرني أبو علي قراءة عليه بإسناده إلى يعقوب، أن العرب
تقول في العطف: قام زيد فم عمرو، أي ثم عمرو، وكذلك قولهم جدث5 وجدف.
__________
1 الخدب: العظيم الجافي، والضخم في كل شيء. يقال: رجل خدب، وسنام خدب،
وجمل خدب: شديد صلب ضخم قوي. مادة "خدب". اللسان "2/ 1107".
2 في لسان العرب: داهية مرمريس: أي شديدة.
3 يعدل: ينصرف. الجدل: الشديد الجدال والخصام. الشخيس: المخالف لما
يؤمر به.
4 المرميس: الداهية.
يقول: ينصرف عني الشخص شديد الجدال والخصام الذي لا يستمع لرأي الذي
يتعب أعداءه لشدة دهائه.
موضع الشاهد في كلمة "مرمريس".
إعراب الشاهد: مفعول به منصوب.
5 الجدث: القبر. "ج" أجداث، وفي القرآن الكريم: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} . مادة
"ج د ث" اللسان "1/ 599".
(1/259)
والوجه أن تكون الفاء بدلا من الثاء، لأنهم
قد أجمعوا على أجداث، ولم يقولوا أجداف.
وأما قولهم فناء الدار وثناؤها1 فأصلان، أما فناؤها فمن فني يفنى،
لأنها هناك تفنى، لأنك إذا تناهيت إلى أقصى حدودها فنيت. وأما ثناؤها
فمن ثنى يثني، لأنها هناك أيضا ثنثنى عن الانبساط، لمجيء آخرها،
وانقضاء حدودها.
فإن قلت: هلا جعلت إجماعهم على أفنية بالفاء دلالة على أن الثاء في
ثناء بدل من الفاء في فناء، كما زعمت أن فاء جدف بدل من ثاء جدث،
لإجماعهم على أجداث بالثاء، فالفرق بينهما وجودنا لثناء من الاشتقاق ما
وجدناه لفناء، ألا ترى أن الفعل يتصرف منهما جميعا، ولسنا نعلم لجدف
بالفاء تصرف جدث، فلذلك قضينا بأن الفاء بدل من الثاء.
وأما قول العجاج:
وبلدة مرهوبة العافور2
فذهب فيه يعقوب إلى أنه من عثر يعثر، أي وقع في الشر، وذهب إلى أن
الفاء من عافور بدل من الثاء، بما اشتق له. والذي ذهب إليه وجه، إلا
أنا إذا وجدنا للفاء وجها نحملها فيه على أنها أصل لم يجز الحكم بكونها
بدلا إلا على قبح وضعف تجويز.
وذلك أنه قد يجوز أن يكون قولهم: وقعوا في عافور، فاعولا من العفر3،
لأن العفر من الشدة أيضا، ولذلك قالوا: عفريت لشدته، ومثاله: فعليت
منه، ويشهد لهذا قولهم: وقعنا في عفرة، أي اختلاط وشدة، وأما أفرة
ففعلة، من أفر
__________
1 ثناء الدار: طرفيها. مادة "ث ن ى" اللسان "1/ 517".
2 هذا بيت من مشطور الرجز من أرجوزة للعجاج عدد أبياتها 172 بيتا، وبيت
الشاهد هو الأربعون -فيها- وروايته: بل بلد ... إلخ.
العافور: الشدة. مادة "ع ف ر" اللسان "4/ 3011".
موضع الشاهد في كلمة "العافور" كما شرح ذلك المؤلف.
إعرابها: مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة الجر الكسرة.
3 العفر: يقال أسد عفر وعفرية وعفارية وعفريت وعفرتي: شديد قوي. مادة
"ع. ف. ر".
(1/260)
يأفر إذا وثب، وهذا أيضا معنى يليق بالشدة،
لأن الوثوب والنزاء1 كثيرا ما يصحبان الشدة والبلاء2، وإذا كان ذلك
كذلك فليس ينبغي أن تحمل واحدة من الهمزة والعين في أفره وعفره على
أنها بدل من أختها، وغير منكر أيضا أن تكون الهمزة بدلا من العين،
والعين بدلا من الهمزة، إلا أن الاختيار ما قدمته.
وأما قولهم لما نفاه الرشاء3 من الماء عند الاستقاء نفي ونثي فأصلان
أيضا، لأنا نجد لكل واحد منهما أصلا نرده إليه، واشتقاقا نحمله عليه.
أما النفي ففعيل من نفيت، لأن الرشاء ينفيه، ولامه ياء بمنزلة رمي
وعصي. وأما النثي ففعيل من نثا الشيء ينثوه إذا أذاعه وفرقه، لأن
الرشاء يفرقه وينشره، ولام الفعل واو، لأنها لام نثوت، وهو بمنزلة سري
وقصي. وقد يجوز أن يكون الثاء بدلا من الفاء، قال الشاعر:
كأن متنيه من النفي
مواقع الطير على الصفي4
بضم الصاد وكسرها.
__________
1 النزاء: الاندفاع: مادة "نزو". اللسان "6/ 4402".
2 وقد صرح اللغويون بأن معنى الأفرة: الشدة.
جاء في اللسان: وقع في أفرة. أي بلية وشدة، ويقال: أفرت القدر تأفرا:
اشتد غليانها، حتى كأنها تنز. مادة "أ. ف. ر". اللسان "1/ 95".
3 الرشاء: الحبل يربط في الدلو "ج" "أرشية" مادة. "رشو". اللسان "3/
1653".
4 رواه ابن دريد في الجمهرة "3/ 161" غير منسوب هكذا:
كأن متني من النفي
من طول إشرافي على الطوي
مواقع الطير على الصفي
النفي: ما نفاه الرشاء من الماء والطين. مادة "ن ف ي" اللسان "6/
4512".
الطوي: البئر المبنية بالحجارة. مادة "ط وى" اللسان "4/ 2729".
الصفي: جمع صفا، والصفا جمع صفاة: وهي الحجر الصلد. اللسان "4/ 2469".
يريد أن رشاش الرشاء من الماء والطين يشبه ذرق الطير على الحجر الأملس.
الشاهد في قوله: "كأن متنيه من النفي".
إعرابه: كأن: حرف تشبيه ونصب مبني على الفتح لا محل من الإعراب.
متنيه: اسم كأن منصوب وعلامة نصبه الياء عوضا عن الفتحة لأنه مثنى،
والهاء: ضمير متصل مبني في محل جر مضاف إليه. من النفي: جار ومجرور.
(1/261)
ويؤنسك بجواز كون الثاء بدلا من الفاء
إجماعهم في بيت امرئ القيس:
ومر على القنان من نفيانه ... فأنزل منه العصم من كل منزل1
على الفاء، ولم نسمعهم قالوا: نثوانه. وذهب بعض أهل التفسير في قوله عز
اسمه: "وفومها" إلى أنه أراد الثوم، فالفاء على هذا بدل عنده من الثاء.
والصواب عندنا: أن الفوم الحنطة2 وما يختبز من الحبوب، يقال: فومت
الخبز، أي خبزته، وليست الفاء على هذا بدلا من الثاء.
واعلم أن الفاء إذا وقعت في أوائل الكلم غير مبنية من أصلها، فإنها في
الكلام على ثلاثة أضرب: ضرب تكون فيه للعطف والإتباع جميعا، وضرب تكون
فيه للإتباع مجردا من العطف، وضرب تكون فيه زائدة، دخولها كخروجها، إلا
أن المعنى الذي تختص به وتنسب إليه، هو معنى الاتباع3، وما سوى ذلك
فعارض فيها غير ملازم لها.
__________
1 البيت من معلقته، ورواية الأعلم الشنتمري للشطر الأول منه هكذا.
وألقى بسيان من الليل بركة
وفي رواية الزوزني والتبريزي كرواية المؤلف.
بسيان: جبل في ديار بني سعد.
الفنان جبل لبني أسد، وقيل جبل بأعلى نجد. مادة "ق ن ن" اللسان "5/
3759".
نفيان السحاب: ما نفاه من مائه فأساله، أو هو الرش والبرد في أول
المطر.
العصم: جمع أعصم، وهو الوعل الذي في وظيفي يديه عصمة. أي بياض.
يريد أن المطرق لزم هذا الجبل حتى أنزله منهم العصم المستقرة فيه.
موضع الشاهد فيه: "ومر على القنان من نفيانه".
إعراب الشاهد: مر: فعل ماضي مبني على الفتح. على القنان: جار ومجرور.
من نفيانه: جار ومجرور، والهاء: في محل جر مضاف إليه.
2 الحنطة: القمح "ج" حنط. مادة "ح ن ط" اللسان "2/ 1023".
3 الظاهر من تمثيل المؤلف للأضربة الثلاثة. أنه يريد بالإتباع معنى
التعقيب والربط.
(1/262)
الأول: نحو قولك قام زيد فعمرو، وضربت زيدا
فأوجعته: أردت أن تخبر أن قيام عمرو وقع عقيب1 قيام زيد بلا مهلة، وأن
إيجاد زيد كان عقيب ضربك إياه، وعلى هذا تقول: مطرنا ما بين زبالة
فالثعلبية، إذا أردت أن المطر انتظم الأماكن التي ما بين هاتين
القريتين، يقروها2 شيئا فشيئا بلا فرجة. وإذا قلت مطرنا ما بين زبالة
والثعلبية، فإنما أفدت بهذا القول أن المطر وقع بينهما، ولم ترد أنه
اتصل في هذه الأماكن، من أولها إلى آخرها، ولما ذكرناه من حال هذه
الفاء، من أن ما بعدها يقع عقيب ما قبلها، ما جاز أن يقع ما قبلها علة3
وسببا لما بعدها، وذلك أن العلة سبب كون المعلول وموجبته وذلك قولك:
الذي أكرمني فشكرته زيد، فإنما اخترت الفاء هنا من بين حروف العطف، لأن
الإكرام علة لوقوع الشكر، فعطف بالفاء، لأن المعلول ينبغي أن يقع ثاني
العلة بلا مهلة. وكذلك الذي ضربته فغضب زيد، لأن الضرب علة الغضب. ولو
قلت: الذي أكرمني وشكرته زيد، لم يفد هذا الكلام أن الإكرام علة للشكر،
كما يفيده العطف بالفاء، وإنما كان يكون معناه أنه وقع الإكرام منه،
والشكر منك، غير مسبب أحدهما عن صاحبه كان، أو مسببا عنه، بل وقعا
منكما معا، فهذا يكشف لك حال الفاء.
الثاني: وهو الذي يكون فيه الفاء للإتباع دون العطف، إلا أن الثاني ليس
مدخلا في إعراب الأول، ولا مشاركا له في الموضع، وذلك في كل مكان يكون
فيه الأول علة للآخر، ويكون فيه الآخر مسببا عن الأول، فمن ذلك جواب
الشرط في نحو قولك: إن تحسن إلي فالله مجازيك، فهذه هنا للإتباع مجردة
من معنى العطف، ألا ترى أن الذي قبل الفاء من الفعل مجزوم، وليس بعد
الفاء شيء يجوز أن يدخله الجزم، وإنما بعدها جملة مركبة من اسمين مبتدأ
وخبر، وكذلك قولك: إن تقم فأنا قائم معك، وإنما اختاروا الفاء هنا من
قبل أن الجزاء سبيله أن يقع ثاني الشرط، وليس في جميع حروف العطف حرف
يوجد هذا المعنى فيه سوى الفاء.
__________
1 عقيب: أي بعده. مادة "عقب". اللسان "4/ 3023".
2 يقروها: يتتبعها، يقال: قروت البلاد قروا وقريتها قريا: إذا تتبعتها
تخرج من أرض إلى أرض. مادة "ق ر ا" اللسان "5/ 3616".
3 العلة: السبب. مادة "ع ل ل" اللسان "4/ 3080".
(1/263)
فإن قيل: وما كانت الحاجة إلى الفاء في
جواب الشرط؟
فالجواب أنه إنما دخلت الفاء في جواب الشرط توصلا إلى المجازاة بالجملة
المركبة من المبتدأ والخبر، أو الكلام الذي قد يجوز أن يبتدأ به،
فالجملة في نحو قولك: إن تحسن إلي فالله يكافئك، لولا الفاء لم يرتبط
أول الكلام بآخره، وذلك أن الشرط والجزاء1 لا يصحان إلا بالأفعال، لأنه
إنما يعقد وقوع فعل بوقوع فعل غيره، وهذا معنى لا يوجد في الأسماء ولا
في الحروف، بل هو من الحروف أبعد، فلما لم يرتبط أول الكلام بآخره، لأن
أوله فعل، وآخره اسمان، والأسماء لا يعادل بها الأفعال، أدخلوا هناك
حرفا يدل على أن ما بعده مسبب عما قبله، لا معنى للعطف فيه، فلم يجدوا
هذا المعنى إلا في الفاء وحدها، فلذلك اختصوها من بين حروف العطف، فلم
يقولوا: إن تحسن إلي والله يكافئك، ولا: ثم الله يكافئك.
ومن ذلك قولك: إن يقم فاضربه، فالجملة التي هي اضربه: جملة أمرية،
وكذلك أن يقعد فلا تضربه، فقولك: لا تضربه جملة نهيية، وكل واحدة منهما
يجوز أن يبتدأ بها فتقول: اضرب زيدا، ولا تضرب عمرا، فلما كان الابتداء
بهما مما يصح وقوعه في الكلام، احتاجوا إلى الفاء، ليدلوا على أن مثالي
الأمر والنهي بعدها ليس على ما يعهد في الكلام من وجودهما مبتدأين غير
معقودين بما قبلهما، ومن هنا أيضا احتاجوا إلى الفاء في جواب الشرط مع
الابتداء والخبر، لأن الابتداء مما يجوز أن يقع أولا غير مرتبط بما
قبله.
هذا مع ما قدمناه من أن الأفعال لا يعادل بها الأسماء.
ويزيد ما ذكرته لك وضوحا من أن جواب الشرط سبيله2 ألا يجوز الابتداء
به، أنك لو قلت مبتدئا: فالله يكافئك، لم يجز، كما لا يجوز أن تبتدئ
فتقول: فزيد جالس، وكذلك لا يجوز أن تبتدئ أيضا فتقول: فاضرب زيدا، ولا
فلا تضرب محمدا، لأن الفاء حكمها أن تأتي رابطة ما بعدها بما قبلها،
فإذا استؤنفت مبتدأة فقد انتقض3 شرطها. وهذا كله غير جائز أن يبتدأ به،
كما أن الفعل المجزوم لا يجوز
__________
1 الجزاء: يقصد به هنا جواب الشرط.
2 سبيله: طريقة في العمل.
3 انتقض: يقصد: انتفى شرط عملها.
(1/264)
الابتداء من غير تقدم حرف الجزم عليه. ألا
تراك لا تقول مبتدئا: أقم، على حد قولك: إن تقم أقم، فهذا كله يؤكد لك
أن جواب الشرط سبيله أن يكون كلاما لا يحسن الابتداء به.
ولهذا أيضا ما جاز أن يجازي بإذا التي للمفاجأة، نحو قوله عز اسمه:
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ
يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] 1، فقوله: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} في موضع
قنطوا، وإنما جاز لإذا هذه أن يجاب بها الشرط لما فيها من المعنى
المطابق للجواب، وذلك أن معناها المفاجأة، ولا بد هناك من عملين، كما
لا بد للشرط وجوابه من فعلين، حتى إذا صادفه ووافقه كانت المفاجأة
مسببة بينهما، حادثة عنهما، وذلك قولك: خرجت فإذا زيد، فتقدير إعرابه:
خرجت فبالحضرة زيد، فإذا التي هي ظرف في معنى قولنا بالحضرة، وزيد:
مرفوع بالابتداء، والظرف قبله خبر عنه. فهذا تقدير الإعراب. وأما تفسير
المعنى فهو: خرجت ففاجأت زيدا، وإن شئت خرجت ففاجأني زيد، لأن فعلت في
أكثر أحوالها إنما تكون من اثنين، نحو ضاربت وقاتلت، فلما ذكرت لك من
حال "إذ" هذه، وأن معناها المفاجأة والموافقة ووقوع الأمر مسببا عن
غيره، ما جاز أن يجازى بها.
ويزيد حالها في ذلك وضوحا لك ما أنشدنا أبو علي عن أبي بكر، عن أبي
العباس، عن أبي عثمان، عن الأصمعي، عن أبي عمرو: أن شيخا من أهل نجد
أنشده:
استقدر الله خيرا وارضين به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير2
__________
1 يقنطون: ييأسون من رحمته، يقول الله حاكيا عن هؤلاء الكفار أنه
سبحانه لو أصابهم بمكروه نتيجة أعمالهم ليأسوا من رحمته بدلا من أن
يدعوه ليرفع ذلك عنهم وذلك لكفرهم به.
موضع الشاهد في الآية {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} .
إعراب الشاهد: إذا: فجائية.
هم: ضمير منفصل مبني على السكون المقيد في محل رفع مبتدأ.
يقنطون: فعل مضارع مرفوع، وواو الجماعة فاعل، والجملة في محل رفع خبر.
2 البيتان لحريث بن جبلة العذري، وقيل لعش بن لبيد العذري. =
(1/265)
فهذا كقولك: بينما المرء في الأحياء مغتبط
عفته الأعاصير، فوقوع الفعل في موضع إذا يؤكد عندك جواز وقوعها جوابا
للشرط، لأن أصل الجواب أن يكون بالفعل، ليعادل به الفعل الذي قبله، إذا
كان مسببا عنه، والعلل بيننا والأسباب لا تتعلق بالجواهر1، إنما تتعلق
بالأعراض2 والأفعال، فكما كانت عبرة3 "إذا" في هذا البيت الذي أنشدنا
وفي غيره مما يطول الكتاب بذكره عبرة الفعل، فكذلك قوله {إِذَا هُمْ
يَقْنَطُونَ} ، يكون أيضا عبرته "قنطوا" فافهم ذلك.
__________
= والأول من شواهد الكتاب لسيبويه "2/ 158" غير منسوب لقائله، ورواه
اللسان في "قدر" وروى البيت الثاني في "عسر".
استقدر الله خيرا: سله أن يقدر لك الخير.
والمياسير: جمع ميسور، وهو ضد العسر.
ومغتبط: حسن الحال. مادة "غ ب ط" اللسان "5/ 3208".
والرمس: القبر.
وتعفوه: تمحوه. مادة "ع ف ا" اللسان "4/ 3018".
والأعاصير: جمع إعصار، وهي الريح التي تهب كالعمود إلى السماء.
مادة "ع ص ر" اللسان "4/ 2970".
محل الشاهد: أن ما بعد إذا الفجائية يكون مسببا عما قبلها، فهو في
المعنى مشبه لجواب الشرط ولذلك جاز أن تقع في جواب الشرط.
إعراب الشاهد:
إذا: فجائية.
هو: ضمير منفصل مبني في محل رفع مبتدأ.
الرمس: خبر مرفوع.
تعفوه: تعفو فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة والفاعل ضمير
مستتر تقديره أنت، والهاء: ضمير متصل مبني في محل نصب مفعول به.
الأعاصير: فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة، وجملة تعفوه الأعاصير في محل
نصب حال.
1 الجواهر: جمع جوهرة، وهو حقيقة الشيء وذاته.
مادة "ج هـ ر" اللسان "1/ 712".
2 الأعراض: جمع "العرض" وهو ما يطرأ ويزول أو ما قام بغيره وهو ضد
الجوهر.
مادة "ع ر ض" اللسان "4/ 2886".
3 يريد بالعبرة هنا: التأويل أو التقدير، يعني أنها مع ما بعدها في
تقدير فعل.
(1/266)
واعلم أن "إذا" هذه التي ذكرناها ولا يجوز
وقوع الفعل بعدها: وذلك أن ما بعدها مرفوع بالابتداء، وهي خبر عنه،
فكما أن المبتدأ لا يكون إلا اسما، فكذلك "إذا" هذه لا يكون ما بعدها
إلا اسما، ومن ذلك قولهم: حسبته شتمني فأثب عليه، ليست الفاء هنا عاطفة
على الفعل الذي قبلها، ولكن معناها الإتباع ألا ترى أن معنى الكلام: إن
شتمني وثبت عليه. ومن ذلك قول الرجل لصاحبه: دعوتك أمس فلم تجبني،
فيقول له صاحبه، فقد أجبتك اليوم، فدخول الفاء هنا يدل على أنه قد
أجابه عن كلامه. ولو قال له: قد أجبتك اليوم، لكان آخذا في كلام منه
على غير وجه الجواب وتعليق الثاني بالأول.
ومن ذلك قوله، وهو من أبيات الكتاب1:
فقلنا أسلموا إنا أخوكم ... فقد برئت من الإحن الصدور2
فجعل الإسلام مسببا عن براءة صدورهم من الإحن، وهي العدوات، إلا أنه
قدم في اللفظ المسبب على السبب، لأن معناه: قد برئت من الإحن الصدور،
فأسلموا من اجل ذلك، إلا أن الفاء عقدت الأول بالآخر، وجرى هذا الكلام
مجرى: اشكرني فقد أحسنت إليك، فالإحسان وإن كان مؤخرا في اللفظ، فهو
مقدم في المعنى، لأنه هو سبب الشكر، فينبغي أن يتقدمه في الرتبة، فكأنه
قال: قد أحسنت إليك فاشكرني.
__________
1 الكتاب: يقصد كتاب سيبويه في النحو.
2 البيت لعباس بن مرداس السلمي الصحابي.
أسلموا: ادخلوا في السلم.
والإحن: جمع إحنة وهي الحقد والعداوة. مادة "أح ن" اللسان "1/ 35".
شرح البيت: يقول ادخلوا في السلم فنحن إخوانكم وقد برئت صدورنا من
الأحقاد.
الشاهد في قوله: قد برئت من الإحن الصدور -فالفاء هنا للإتباع.
إعراب الشاهد:
الفاء: للإتباع. قد: حرف تحقيق وتأكيد مبني.
برئت: فعل ماضي مبني على الفتح، والتاء للتأنيث.
من الإحن: جار ومجرور. الصدور: فاعل مرفوع.
(1/267)
ومن ذلك قول امرئ القيس:
وإن شفائي عبرة مهراقة ... فهل عن رسم دارس من معول1
ففي قوله "معول" مذهبان: أحدهما: أنه مصدر عولت، بمعنى أعولت، أي بكيت،
أي فهل عند رسم دارس من إعوال وبكاء؟ والآخر: أنه مصدر عولت على كذا:
أي اعتمدت عليه، كقولهم: "إنما عليك معولي"، أي اتكالي. وعلى أي
الأمرين حملت المعول، فدخول الفاء على "فهل عند رسم" حسن جميل.
وأما إذا دخلت المعول بمعنى العويل2 والإعوال، أي البكاء، فكأنه قال:
إن شفائي أن أسفح3 عبرتي، ثم خاطب نفسه أو صاحبيه فقال: إذا كان الأمر
على ما قدمته من أن في البكاء شفاء وجدي4، فهل بي من بكاء أشفي به
غليلي5.
فهذا ظاهره استفهام لنفسه، ومعناه التحضيض6 لها على البكاء، كما تقول:
قد أحسنت إلي فهل أشكرك؟ أي فلأشكرنك، وقد زرتني، فهل أكافئنك، أي
فلأكافئنك، وإذا خاطب صاحبيه فكأنه قال: قد عرفتكما سبب شفائي، وهو
البكاء والعويل، فهل تعولان وتبكيان معي، لأشفي وجدي ببكائكما.
__________
1 العبرة: الدمعة. اللسان "4/ 2783". مهراقة: مصبوبة. اللسان "6/
4654".
الرسم: الأثر. الدارس: البالي. معول: بكاء ونحيب.
الشرح: يقول إن شفاء صدري أن أقف على آثار الديار وأنزف الدموع حتى
تطفئ أحزاني.
الشاهد في قوله: فهل عند رسم دارس من معول؟
إعراب الشاهد:
الفاء للتعقيب. هل: حرف استفهام.
عند: ظرف منصوب في محل رفع خبر مقدم.
رسم: مضاف إليه مجرور. دارس: نعت مجرور.
من: حرف جر زائد. معولك اسم مجرور لفظا مرفوع محلا على الابتداء.
2 العويل: البكاء. مادة "عول". اللسان "4/ 3175".
3 أسفح: أصب، مادة "سفح". اللسان "2/ 2023".
4 وجدي: حزني. مادة "وجد" اللسان "6/ 4770".
5 الغليل: الحزن. مادة "غلل". اللسان "5/ 3285".
6 التحضيض: الحث. مادة "حضض". اللسان "2/ 910".
(1/268)
فهذا التفسير على قول من قال: إن معولي
بمنزلة إعوالي، والفاء عقدت آخر الكلام بأوله، لأنه كأنه قال: إذ كنتما
قد عرفتما ما أوثره من البكاء، فابكيا وأعولا معي، كما أنه إذا استفهم
نفسه، فكأنه قال: إذا كنت قد علمت أن في الإعوال راحة لي فلا عذر لي في
ترك البكاء. وأما من جعل معولي بمعنى تعويلي على كذا، أي اعتمادي
واتكالي عليه، فوجه دخول الفاء على فهل في قوله، أنه لما قال إن شفائي
عبرة مهراقة، فكأنه قال: إنما راحتي في البكاء، فما معنى اتكالي في
شفاء غليلي على رسم دارس لا غناء عنده عني، فسبيلي أن أقبل على بكائي،
ولا أعول في برد غليلي على ما لا غناء عنده، وهذا أيضا معنى يحتاج معه
إلى الفاء، لتربط آخر الكلام بأوله، فكأنه قال: إذا كان شفائي إنما هو
في فيض دمعي، فسبيلي ألا أعول على رسم دارس في دفع حزني، وينبغي أن أجد
في البكاء الذي هو سبب الشفا.
واعلم أن المعارف الموصولة، والنكرات الموصوفة، إذا تضمنت صلاتها
وصفاتها معنى الشرط، دخلت الفاء في أخبارها، وذلك نحو قولك: الذي
يكرمني فله درهم، فلما كان الإكرام سبب وجوب الدرهم دخلت الفاء في
الكلام، ولو قلت: الذي يكرمني له درهم، لم يدل هذا القول على أن الدرهم
إنما يستحق للإكرام، بل هو حاصل للمكرم على كل حال، وتقول في النكرة:
كل رجل يزورني فله دينار، فالفاء هي التي أوجبت استحقاق الدينار
بالزيارة. ولو قلت: كل رجل يزورني له دينار، لما دل ذلك على أن الدينار
مستحق عن الزيارة، بل يدل على أنه في ملك الزائر على كل حال.
فلأجل معنى الشرك في الصلة والصفة ما دخلت الفاء في آخر الكلام، قال
الله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ} [البقرة: 274] 1، فالفاء قد دلت على أن الأجر إنما استحق عن
الإنفاق.
__________
1 الشاهد في قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} .
إعراب الشاهد: الفاء: للتعقيب والإتباع.
لهم: جار ومجرور في محل رفع خبر مقدم.
أجرهم: أجر: مبتدأ مؤخر مرفوع.
وهم: ضمير مبني في محل جر مضاف إليه.
(1/269)
فإذا تضمنت الصلة والصفة جواب الشرط لم
تدخل الفاء في آخر الكلام، وذلك قولك: الذي إن يزرني أزره له درهم، ولو
قلت هنا فله درهم لم يجز، لأن الشرط لا يجاب دفعتين. وكذلك: كل رجل إن
يزرني أكرمه له درهم، ولا يجوز فله درهم، لأن الصفة قد تضمنت الجواب،
فلم يحتج إلى إعادته، ولو قلت الذي أبوه أبوك فزيد، لم يجز لأنه لم
يتقدم في الصلة ما يصح به الشرط. وكذلك لو قلت: كل إنسان فله درهم، لم
يجز، لأنه لم يتقدم صفة يستفاد منها معنى الشرط، فجرى هذان في الامتناع
مجرى قولك: زيد فقائم، وعمرو فمنطلق، فاعرفه.
فهذا أيضا حال الفاء إذا خلصت للإتباع، وتجردت من العطف، وهي في الكلام
كثيرة جدا، وقد بينت لك رسومها1، وأوضحت وجوهها، لتتناول الأمر من قرب.
فإن قيل: إذا صح بما قدمته حال الفاء في كونها عاطفة ومتبعة، فهل
دلالتها على الأمرين سواء؟ أم هل لها اختصاص بأحدهما؟
فالجواب: أن أخص هذين المعنيين بالفاء إنما هو الإتباع دون العطف. وذلك
أنها إذا كانت عاطفة فمعنى الإتباع موجود فيها، نحو ضربته فبكي، وأحسنت
إليه فشكر، وقد تتجرد من معنى العطف فيما قدمنا ذكره من الجزاء، وهذه
الأماكن التي أحدها ببيت أمرئ القيس:
فهل عند رسم دارس من معول2
فلما كان الإتباع لا يفارقها، والعطف قد يفارقها، كان أخص معنييها بها
الإتباع، لملازمته لها.
وأما وجه زيادتها فقد جاء مجيئا صالحا.
أخبرنا أبو علي3 أن أبا الحسن4 حكى عنهم: أخوك فوجد، يريد أخوك وجد.
__________
1 رسومها: جمع رسم، ويقصد بها حدودها. مادة "رسم". اللسان "3/ 1646".
2 تقدم شرح البيت والتعليق عليه وإعراب الشاهد فيه.
3 أبو علي هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي، أستاذ ابن جني.
4 وأبو الحسن: هو سعيد بن مسعدة المجاشعي الأخفش الأوسط.
(1/270)
ومن ذلك قولهم: زيدا فاضرب، وعمرا فاشكر،
وبمحمد فامرر، إنما تقديره: زيدا اضرب، وعمرا اشكر، وبمحمد امرر. وعلى
هذا قوله جل ثناؤه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّر} [المدثر: 4] ، أي: وثيابك
طهر، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} 1 [المدثر: 5] أي والرجز اهجر،
{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 7] ، أي لربك اصبر.
وهذه مسألة اعترضت هذا الباب، ونحن نشرحه بإذن الله:
تقول العرب: خرجت فإذا زيد.
واختلفت العلماء في هذه الفاء: فذهب أبو عثمان2 إلى أنها زائدة، وذهب
أبو إسحاق الزيادي3 إلى أنها دخلت على حد دخولها في جواب الشرط، وذهب
مبرمان4 إلى أنها عاطفة.
وأصح هذه الأقوال قول أبي عثمان. وذلك أن إذا هذه التي للمفاجأة قد
تقدم من قولنا فيها أنها للإتباع، بدلالة قوله عز اسمه: {وَإِنْ
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ
يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] ، فوقوعها جوابا للشرط يدل على أن فيها معنى
الإتباع، كما أن الفاء في قولك: إن تحسن إلي فأنا أشكرك، إنما أجاز
الجواب بها لما فيها من معنى الإتباع، وإذا كانت إذا هذه التي للمفاجأة
بما قدمناه للإتباع، فالفاء في قولنا خرجت فإذا زيد، زائدة، لأنك قد
استغنيت بما في إذا من معنى الإتباع، عن الفاء التي تفيد معنى الإتباع.
كما استغني عنها في قوله جل اسمه: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} .
__________
1 الرجز: الإثم والشرك، ورجز الشيطان، وسوسته "ج" أرجاز. مادة "رجز".
الشاهد في الآية في قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} .
إعراب الشاهد: الرجز: مفعول به لفعل محذوف يفسره الفعل "اهجر".
والفاء: زائدة. اهجر: فعل أمر مبني على السكون، والفاعل مستتر وجوبا
تقديره أنت.
وجملة "اهجر" جملة تفسيرية لا محل لها من الإعراب.
2 أبو عثمان بكر بن محمد بن بقية المازني. توفي سنة 249هـ.
3 أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان بن أبي بكر بن زياد. عده الزبيدي في
الطبقة السابعة من البصريين.
4 محمد بن علي بن إسماعيل العسكري، عده الزبيدي من الطبقة التاسعة من
البصريين.
(1/271)
فإن قال قائل: إذا كانت الفاء في قولنا:
"خرجت فإذا زيد" زائدة، فأجز: خرجت إذا زيد، لأن الزائد حكمه أن يمكن
طرحه1 ولا يختل الكلام بذلك، ألا ترى إلى قوله عز اسمه: {فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] 2 لما كانت ما
زائدة، جاز أن تقول في الكلام لا في القرآن، فبرحمة من الله لنت لهم.
وكذلك {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] 3 يجوز في الكلام أن تقول: عن
قليل.
فالجواب: أن الفاء وإن كانت ها هنا زائدة، فإنها زيادة لازمة لا يجوز
حذفها. وذلك أن من الزوائد ما يلزم البتة، وذلك قولهم "افعله آثرا ما"
أي أول شيء4، فما زيادة لا يجوز حذفها، لأن معناه: افعله آثرا مختارا
له، معنيا به، من قولهم: آثرت أن أفعل كذا وكذا.
ومن ذلك قوله عز اسمه: {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:
71] ، فالألف واللام في الآن زائدتان عندنا، لأن هذا الاسم معرفة
بغيرهما، وإنما هو معرفة بلام أخرى مقدرة، غير هذه الظاهرة، وقد دللنا
على ذلك في غير هذا الموضع5، وكذلك قولك مهما تفعل أفعل، ما زيادة
لازمة.
وكذلك الألف واللام في الذي والتي، وتثنيتهما وجمعهما، والألى في معنى
الذين زائدة أيضا، وإنما هن متعرفات بصلاتهن، والألف واللام فيهن
زائدتان، لا يمكن
__________
1 طرحه: المقصود منها الاستغناء عنه.
2 لنت: رفقت.
يقول الله تعالى: لولا رحمة الله التي ألقاها في صدرك فلنت لهم بها لما
لنت لهم.
الشاهد في قوله "فبما رحمة" وهو شاهد على زيادة "ما".
إعراب الشاهد: الباء: حرف جر. ما: زائدة.
رحمة: اسم مجرور بالباء وعلامة الجر الكسرة.
3 الشاهد في قوله تعالى: {عَمَّا قَلِيلٍ} وهو شاهد على زيادة "ما".
إعراب الشاهد: عن: حرف جر، ما: زائدة.
قليل: اسم مجرور بعن وعلامة الجر الكسرة.
4 معنى العبارة: يقال: قد أثر أن يفعل ذلك الأمر، أي فرغ له وعزم عليه.
5 سيأتي الكلام على آل في الآن، في باب اللام عند الكلام على لام
التعريف.
(1/272)
حذفهما، فرب زائدة ما يلزم، فلا يجوز حذفه،
وكذلك أيضا قولنا خرجت فإذا زيد، الفاء فيه زائدة أيضا.
وأما مذهب الزيادي1 في أن الفاء في قولهم: خرجت فإذا زيد، إنما دخلت
الكلام لما فيه من معنى الشرط، ففاسد، وذلك أن قولك خرجت فإذا زيد، لا
تجد فيه معنى شرط ولا جزاء، وإنما هو إخبار عن حال ماضية، منقضية،
والشرط لا يصح إلا مع الاستقبال، ألا ترى أنك لا تجيز: إن قمت أمس قمت
أول من أمس، هذا ونحوه من الكلام الخطأ، ليس يرتكبه أحد، فهذا وجه
نراه، صحيح.
وشيء آخر يدل على فساد قول الزيادي، وهو أنه لو كان في الكلام معنى شرط
لاستغني بما في إذا من معنى الإتباع عن الفاء، كما استغني عنها في قوله
عز اسمه: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] ألا ترى أنهم يقولون:
لن نفعل، وهي نفي، وسنفعل، ولم يقولوا لن سنفعل، وإن كانت لن نفيا لها،
لأنهم استغنوا بما في لن من معنى الاستقبال، عن إعادة السين التي
للاستقبال فكذلك كان ينبغي لو كان في الكلام معنى شرط، أن يستغنوا بما
في إذا من معنى الإتباع، عن الفاء الموضوعة للإتباع.
وأما مذهب مبرمان في أنها للعطف، فسقوطه أظهر2. وذلك أن الجملة التي هي
"خرجت" جملة مركبة من فعل وفاعل. وقولك "فإذا زيد" جملة مركبة من مبتدأ
وخبر، فالمبتدأ زيد، وخبره إذا، وحكم المعطوف أن يكون وفق المعطوف
عليه، لأن العطف نظير3 التثنية، وليست الجملة المركبة من المبتدأ
والخبر، وفق المركبة من الفعل والفاعل، فتعطف عليها.
فإن قيل: ألست تجيز: قام زيد وأخوك محمد، فتعطف إحدى الجملتين على
الأخرى وإن اختلفتا بالتركيب، فهلا أجزت أيضا مثل هذا في: خرجت فإذا
زيد؟
__________
1 الزيادي: هو أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان بن سليمان بن أبي بكر بن
زياد. عده الزبيدي في الطبقة السابعة من البصريين.
2 أظهر: أي أوضح وأبين. مادة "ظ هـ ر" اللسان "4/ 2767".
3 نظير: مثيل. مادة "نظر". اللسان "6/ 4468".
(1/273)
فالجواب أنه قد يجوز مع الواو، لقوتها
وتصرفها، ما لا يجوز مع الفاء من الاتساع، ألا ترى أنك لو قلت: قام
محمد فعمرو جالس، وأنت تعطف على حد ما تعطف بالواو، لم يكن للفاء هنا
مدخل، لأن الثاني ليس متعلقا بالأول، وحكم الفاء إذا كانت عاطفة، ألا
تتجرد من معنى الإتباع والتعليق بالأول، كما تقدم من قولنا وهذا جواب
أبو علي، وهو الصواب.
ومن طريف زيادة الفاء قول سيبويه: "زيدا إن يأتك فاضرب".
وقد أجمع البصريون على أن ما انتصب بفعل الشرط، أو بفعل جواب الشرط. لم
يجز تقديمه على إن، وأنت قد تجد "زيدا" في هذه المسألة منصوبا، فلا
يجوز إذا جعلت "فاضرب" جوابا أن تنصب به زيدا، لما قدمناه.
قال أبو علي: الفاء هنا: زائدة، واضرب: واقع غير موقعه. وجواب الشرط:
محذوف دل عليه فاضرب. فكان تقديره: زيدا اضرب إن يأتك، ثم زاد الفاء،
واكتفى بقوله: فاضرب، من جواب الجزاء، فكأنه قال: زيدا فاضرب، إن يأتك
فاضرب، فزيد منصوب باضرب الأولى، والفاء فيها زائدة، وهي التي كانت
مؤخرة فقدمت، وقوله "فاضرب" الثانية، هي جواب الشرط في الحقيقة.
ومن زيادتها بيت أنشده أبو الحسن:
أراني إذا ما بت بت على هوى ... فثم إذا أصبحت أصبحت غاديا1
كأنه قال: ثم أذا أصبحت أصبحت غاديا.
__________
1 البيت لزهير من قصيدة مطلعها:
ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا
ومعنى البيت: أنني أصبح مريدا لشيء طالبا له، وإذا أمسيت تركته وعدلت
عنه.
وذكره البغدادي في "3/ 588" واستشهد به المؤلف وابن هشام في المغني
وابن عصفور في كتاب الضرائر على أن الفاء زائدة. غاديا: يروى بالعين
المهملة.
والشاهد في قوله: "فثم إذا أصبحت أصبحت غاديا"، فهي شاهد على زيادة
الفاء.
إعراب الشاهد: الفاء: زائدة. ثم: حرف عطف. إذا أداة شرط غير جازمة.
أصبحت: أصبح فعل ماضي تام، والتاء: فاعل.
أصبحت: فعل ماضي ناقص ناسخ، والتاء اسمها. غاديا: خبرها.
(1/274)
وكما زيدت الفاء فيما ذكرناه وفي غيره مما
يطول ذكره، كذلك حذفت أيضا اختصارا وهي مرادة1، وذلك نحو ما أنشده
سيبويه:
من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشر بالشر عن الله مثلان2
أراد: فالله يشكرها، وحذف الفاء تخفيفا.
هكذا أنشده سيبويه، ورواه غيره من أصحابنا:
من يفعلِ الخير فالرحمن يشكره3
وقد خالف جماعة من أصحابنا سيبويه في أشياء كثيرة مما استشهده، هذا
واحدا منها.
__________
1 مرادة: مطلوبة. مادة "رود". اللسان "3/ 1771".
2 البيت من شواهد سيبويه كما قال المؤلف وقد أورده في "1/ 435".
والقافية فيه "سيان" في مكان "مثلان" واختلف في قائل هذا البيت، فنسب
في الكتاب لسيبويه "1/ 435" إلى حسان بن ثابت، وفي الخزانة للبغدادي
"3/ 644": والبيت نسبه سيبويه لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت، ورواه
جماعة لكعب بن مالك الأنصاري.
محل الشاهد في البيت: أن الفاء الرابطة محذوفة من جواب الشرط ضرورة،
والتقدير: فالله يشكرها. وقد روي عن أبي الحسن الأخفش أنه جائز في
الكلام إذا علم ومن ذلك قول الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشوري: 30] وقرئ: "بما
كسبت" فدل على أن الفاء محذوفة، وجوزه ابن مالك مستشهدا بقوله -صلى
الله عليه وسلم- في اللقطة: "إن جاء صاحبها وإلا استمتع بها" خزانة
الأدب "3/ 644".
إعراب الشاهد: في قول سيبويه: "ومن يفعل الحسنات الله يشكرها":
من: اسم شرط مبني في محل رفع مبتدأ.
يفعل: فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه السكون.
الله: مبتدأ مرفوع وعلامة الرفع الضمة.
يشكرها: يشكر فعل مضارع مرفوع، والفاعل مستتر تقديره هو، والهاء: ضمير
مبني في محل نصب مفعول به، والجملة في محل رفع خبر، وفعل الشرط وجوابه
في محل رفع خبر.
3 قيل: إن هذه الرواية هي الصحيحة، أما الرواية السابقة فقد قال
الأصمعي: إن النحويين قد غيروها.
وموضع الشاهد: "فالرحمن يشكره" فقد وردت الفاء مذكورة في البيت.
وقد سبق إعراب الشاهد.
(1/275)
ومن ذلك أيضا:
فأما القتال لا قتال لديكم ... ولكن سيرا في عراض المواكب1
أراد: فلا قتال لديكم.
ومنه أيضا:
فأما الصدور لا صدور لجعفر ... ولكن أعجازا شديدا ضريرها2
أراد: فلا صدور لجعفر.
__________
1 البيت من شواهد الرضي على الكافية. قال في الخزانة "1/ 217"، وقيل
هذا البيت بيته وهو:
فضحتم قريشا بالفرار وأنتم ... قمدون سودان عظام المناكب
والبيتان للحارث بن خالد المخزومي يهجو بهما بني أسد بن أبي العاص بن
أمية بن عبد شمس.
عراض المواكب: أي في ناحيتها، والمواكب: جمع موكب، وهو الجماعة من
الناس سواء أكانوا ركبانا أو مشاة، وقيل: ركاب الإبل للزينة.
القمد: بضم القاف والميم وتشديد الدال: الطويل، وقيل: الطويل العنق
الضخمة.
السودان: أراد به الأشراف، جمع سود وهو جمع أسود، أفعل تفضيل من
السيادة.
محل الشاهد: حذف الفاء الداخلة على خبر المبتدأ الواقع بعد أما
للضرورة.
إعراب الشاهد:
أما: حرف شرط وتفصيل وتوكيد لا محل له من الإعراب.
القتال: مبتدأ مرفوع. لا: نافية للجنس. قتال: اسم لا منصوب.
لديكم: لدى ظرف مكان بمعنى عند. وكم: ضمير مبني في محل جر مضاف إليه.
والظرف في محل رفع خبر لا.
2 الصدور: جمع صدر وهو ما فوق البطن وهي هنا كناية عن الرؤساء. اللسان
"4/ 2411".
الإعجاز: جمع عجز، وهو المؤخرة. وهي كناية عن النساء. اللسان "4/
2818".
الضريرة: شدة الضرر وهو الصبر. ويقال إنه لذو ضرير أي صبر. اللسان "4/
2574".
شرح البيت: يقول: إن بني جعفر لا رجال فيهم يدافعون عنها ولكنم نساء
شديدات الضرر فهن كالرجال في المقاومة والمدافعة وإيصال الضرر.
الشاهد في قوله: "أما الصدور لا صدور لجعفر". فحذف الفاء من خبر
المبتدأ، والأصل: أما الصدور فلا صدور لجعفر.
إعراب الشاهد: أما: حرف شرط وتفصيل وتوكيد لا محل له من الإعراب.
الصدور: مبتدأ مرفوع. لا: نافية للجنس.
صدور: اسم لا منصوب وعلامة النصب الفتحة.
لجعفر: جار ومجرور في محل رفع خبر لا النافية للجنس.
ولا، وما: دخلت عليه في محل رفع خبر للمبتدأ.
(1/276)
فإن قال قائل: فلم دخلت الفاء في جواب إما؟
فالجواب أنها إنما دخلت في الجواب لما في أما من معنى الشرط، وذلك أنك
إذا قلت: أما زيد فمنطلق، فمعناه: مهما يقع من شيء، فزيد منطلق. فإن
قيل: فإذا كان تقدير الكلام: مهما يقع من شيء فزيد منطلق، فنحن نرى
الفاء قبل الجملة التي هي زيد منطلق.
ونحن إذا قلنا: أما زيد فمنطلق، فقد نرى زيدا قد تقدم على الفاء، وصار
بعد الفاء اسم واحد، وهو منطلق، فما بال أحد الاسمين تقدم على الفاء مع
ما، وتراهما جميعا متأخرين عن الفاء مع مهما؟
فالجواب: أن العرب كما تعنى بالمعاني فتحققها1، فكذلك أيضا تعنى
بالألفاظ فتصلحها. وذلك أن هذه الفاء وإن كانت هنا متبعة2 غير عاطفة،
فإنها قد تستعمل في العطف في كثير من المواضع، نحو قام زيد فعمرو،
ورأيت محمدا فصالحا، فمن عادتها -عاطفة كانت أو متبعة- ألا تقع مبتدأة
في أول الكلام، وأنه لا بد من أن يقع قبلها اسم أو فعل، فلو أنهم
قالوا: أما فزيد منطلق، على تقدير مهما يقع من شيء فزيد منطلق، وأوجبوا
على أنفسهم تقدم الفاء على الاسمين مع أما، كما يقدمونها عليهما مع
مهما لوقعت الفاء مبتداة ليس قبلها في اللفظ اسم ولا فعل، إنما قبلها
حرف، وهو أما، فقدموا أحد الاسمين قبل الفاء مع أما، لما حاولوه من
إصلاح اللفظ، ليقع قبلها اسم في اللفظ، ويكون الاسم الثاني الذي بعده،
وهو خبر المبتدأ، وإن لم يكن معطوفا الآن على المبتدأ، تابعا في اللفظ
لاسم قبله، وهو زيد، فيكون الفاء هنا على صورة العاطفة وإن لم تكن
عاطفة، كل ذلك لإصلاح اللفظ، فاعرفه، فإنه لطيف، وهو رأي أبي علي
ومذهبه، وعنه علقت ما كتبته هنا، فإن اختلفت الألفاظ فإن المعاني
متفقة.
__________
1 التحقيق: الإحكام. مادة "حقق". اللسان "2/ 944".
2 متبعة: أي رابطة بين المسبب والسبب. مادة "ت ب ع" اللسان "1/ 416".
(1/277)
فأما قوله عز اسمه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ
الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} 1 [الجمعة: 8] فليست
الفاء في "فإنه" زائدة، ولكنها دخلت لما في الكلام من معنى الشرط،
فكأنه والله أعلم، إن فررتم منه لاقاكم.
فإن قال قائل: إن الموت ملاقيهم على كل حال، فروا منه أو لم يفروا، فما
معنى الشرط والجواب هنا؟ وهل يصح الجواب بما هو واقع لا محالة؟
فالجواب أن هذا على جهة الرد عليهم أن يظنوا أن الفرار ينجيهم، وقد صرح
بهذا المعنى وأفصح عنه بالشرط الحقيقي زهير في قوله:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أن يلقى السماء بسلم2
أي إن اعتقد أن التحرز ينجيه من الموت، كان ذلك أدعى لوقوع الموت به
على جهة الرد عليهم، وإبطال ظنهم.
__________
1 تفرون: تهربون. مادة "ف ر ر" اللسان "5/ 3375". ملاقيكم: مقابلكم.
الشرح: إن الموت الذي تهربون منه سيقابلكم لا محالة في ذلك.
موضع الشاهد: "فإنه ملاقيكم" شاهد على أن الفاء في الآية غير زائدة في
مثل هذه الآية لما فيها من معنى الشرط.
إعراب الشاهد: الفاء واقعة في جواب الشرط.
إن: حرف توكيد ونصب، والهاء: اسمها.
ملاقيكم: خبر إن مرفوع بضمة مقدرة، والكاف: ضمير مبني في محل جر مضاف
إليه.
2 المنايا: جمع المنية وهي الموت. ينلنه: يأخذنه. رام: طلب.
الشرح: من خاف أسباب الموت نالته لا محالة.
الشاهد في: "من هاب أسباب المنايا ينلنه" فقد جاء الشرط وجوابه لما هو
واجب الوقوع وهو الموت.
إعراب الشاهد:
الواو: على حسب ما قبلها. من: اسم شرط مبني في محل رفع مبتدأ.
هاب: فعل ماضي مبني في محل جزم فعل الشرط، والفاعل مستتر تقديره هو
يعود على من.
أسباب: مفعول به منصوب.
المنايا: مضاف إليه مجرور وعلامة الجر الكسرة المقدرة.
ينلنه: فعل مضارع مبني لاتصاله بنون النسوة في محل جزم جواب الشرط،
والنون: مبنية في محل رفع فاعل، والهاء مفعول به.
(1/278)
فأما قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ
بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد: 13] 1، فذهب أبو الحسن2 في إلى أن الفاء
زائدة.
وذهب أيضا في قوله جل اسمه: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا
تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} [البقرة: 87] ، وفي قول الناس:
"أفالله لتصنعن كذا وكذا"، وقولنا للرجل: "أفلا تقوم" إلى أن الفاء
زائدة، وجوز أيضا أن تكون حرف عطف، والوجه أن تكون هنا غير زائدة، وأن
تكون للإتباع، لتعلق3 ما قبلها بما بعدها.
وعلى هذا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: -وقد قيل له لما رئي قد
جهد نفسه بالعبادة: يا رسول الله أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من
ذنبك وما تأخر؟ - "أفلا أكون عبدا شكورا؟ ".
فالوجه أن تكون الفاء هنا متبعة غير زائدة.
ومن زيادة الفاء أيضا قوله جل ثناؤه: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ
يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل
عمران: 188] الفاء زائدة، وتحسب الثانية بدل من تحسب الأولى.
إلى هذا ذهب أبو الحسن، وهو قياس مذهبه في كثرة زيادة الفاء.
وقال حاتم: أخبرنا به علي بن محمد، يرفعه بإسناده إلى قطرب:
وحتى تركت العائدات يعدنه ... يقلن فلا تبعد وقلت له ابعد4
__________
1 أي ضرب بين المؤمنين والمنافقين سور يحجبهم عن بعضهم.
الشاهد في "فضرب" فقد جاءت الفاء زائدة.
إعراب الشاهد:
الفاء: زائدة. ضرب: فعل ماضي مبني للمجهول.
2 أبو الحسن: هو سعيد بن مسعدة المجاشعي الأخفش الأوسط.
3 التعلق: الارتباط. مادة "ع ل ق" اللسان "4/ 3071".
4 العائدات: اللاتي يعدن المريض في مرضه. لا تبعد: لا تهلك.
يريد أنه طعنه طعنة تركته بين الموت والحياة، فالتف حوله النساء يطلبن
له الشفاء، وهو يطلب له الموت.
الشاهد فيه: زايدة الفاء في قوله "فلا تبعد".
إعراب الشاهد: الفاء: زائدة لا محل لها من الإعراب.
لا: أداة نهي جازمة. تبعد فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة الجزم السكون.
(1/279)
وبهذا الإسناد أيضا:
لما اتقى بيد عظيم جرمها ... فتركت ضاحي كفه يتذبذب1
فالفاء في هذين البيتين زائدة.
وهذا فصل اعترض الكلام، فلنحكمه، لنعرف مذهب العرب فيه، ثم نعود إلى
بقية ما في الفاء.
اعلم أن الحروف لا يليق بها الزيادة ولا الحذف، وأن أعدل2 أحوالها أن
تستعمل غير مزيدة ولا محذوفة. فأما وجه القياس في امتناع حذفها من قبل
أن الغرض من الحروف إنما هو الاختصار، ألا ترى أنك إذا قلت: ما قام
زيد، فقد نابت "ما" عن "أنفي" وإذا قلت: هل قام زيد؟ فقد نابت هل عن
"أستفهم"، فوقوع الحرف مقام الفعل وفاعله غاية الاختصار، فلو ذهبت تحذف
الحرف تخفيفا لأفرطت3 في الإيجاز4، لأن اختصار المختصر إجحاف5 به.
فهذا وجه، وأما وجه ضعف زيادتها فمن قبل أن الغرض في الحروف الاختصار،
كما قدمناه، فلو ذهبت تزيدها، لنقضت الغرض الذي قصدته، لأنك كنت تصير
من الزيادة إلى ضد ما قصدته من الاختصار، فاعرف هذا.
__________
1 الجرم: الحجم. الضاحي: الظاهر. يتذبذب: يتردد.
يقول: لم تجنب ضربتي له بيده الكبية الحجم، ضربته على كفه حتى تركتها
تتأرجح في جلدتها.
الشاهد فيه: زيادة الفاء في قوله: "فتركت ضاحي كفه يتذبذب".
إعراب الشاهد:
الفاء: زائدة. تركت: فعل وفاعل.
ضاحي: مفعول به. كفه: مضاف إليه مجرور بالإضافة والهاء ضمير متصل في
محل جر.
يتذبذب: فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره هو. وجملة يتذبذب في محل نصب
صفة.
2 أعدل: أوسط. مادة "عدل" اللسان "4/ 2840".
3 أفرط: زاد عن الحد. مادة "فرط". اللسان "5/ 3391".
4 الإيجاز: التعبير عن المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة. مادة "وجز".
اللسان "6/ 4771".
5 الأجحاف: الظلم. مادة "جحف". اللسان "1/ 551".
(1/280)
فإن أبا علي حكاه على الشيخ أبي بكر1 رضي
الله عنه، وهو نهاية في معناه، ولولا أن في الحرف إذا زيد ضربا من
التوكيد، لما جازت زيادته البتة. كما أنه لولا قوة العلم بمكانه، لما
جاز حذفه البتة، فإنما جاز فيه الحذف والزيادة من حيث أريتك على ما به
من ضعف القياس. وإذا كان الأمر كذلك، فقد علمنا من هذا أننا متى
رأيناهم قد زادوا الحرف فقد أرادوا غاية التوكيد، كما أنا إذا رأيناهم
حذفوا حرفا، فقد أرادوا غاية الاختصار ولولا ذلك الذي أجمعوا عليه
واعتزموه، لما استجازوا زيادة ما الغرض فيه الإيجاز، ولا حذف ما وضعه
على نهاية الاختصار، فقد استغني عن حذفه بقوة اختصاره.
واعلم أن الفاء قد يجاب بها سبعة أشياء2: وهي الأمر، والنهي،
والاستفهام، والنفي، والدعاء، والتمني، والعرض.
فالأمر نحو قولك: قم فأقوم. قال الشاعر:
يا ناق سير عنقا فسيحا ... إلى سليمان فنستريحا3
والنهي نحو قولك: لا تشتمه فيشتمك، قال الله عز وجل: {لا تَفْتَرُوا
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه: 61] 4.
__________
1 الشيخ الفاضل أبي بكر: وهو أبو بكر محمد بن السري السراج، أصغر
تلاميذ المبرد.
وكان أبو علي الفارسي يأخذ عنه، توفي سنة ثلاثمائة وست عشرة.
2 الأصح أنهم ثمانية وفوق السبعة المذكورين "الترجي" ذكر ذلك ابن مالك
والرضي وأبو حيان.
3 الناق: الناقة بحذف تاء التأنيث للضرورة.
عنقا: ضرب من السير منبسط. وسليمان هو: سليمان بن عبد الملك.
وقائل هذه الأبيات هو أبو النجم الراجز في مدح سليمان بن عبد الملك.
الشاهد في قوله: "فنستريحا".
إعراب الشاهد:
الفاء للجواب. نستريح: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا.
4 يسحتكم: يستأصلكم. مادة "س ح ت" اللسان "3/ 1949".
موضع الشاهد: "فيسحتكم".
إعراب الشاهد: الفاء للجواب. يسحت: مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا،
والفاعل مستتر وجوبا تقديره هو يعود على لفظ الجلالة. كم: ضمير مبني في
محل نصب مفعول به.
(1/281)
والاستفهام نحو قولك: أين بيتك فأزورك.
قال:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج1
والنفي نحو قولك: ما أنت بصاحبي فأكرمك، قال زياد بن منقذ:
وما أصاحب من قوم فأذكرهم ... إلا يزيدهم حبا إلي هم2
والدعاء نحو قولك: اللهم ارزقني بعيرا فأحج عليه.
والتمني نحو: ليت لي مالا فأنفقه.
والعرض نحو: ألا تنزل فنتحدث.
واعلم أن الفعل بعد هذه الفاء إذا كانت جوابا، منتصب بأن مضمرة3، وإنما
أضمرت أن ههنا، ونصب بها الفعل، من قبل أنهم تخيلوا في أول الكلام معنى
المصدر فإذا قال: زرني فأزورك، فكأنه قد قال: لتكن منك زيارة، فزيارة
مني.
__________
1 البيت لامرأة هويت نصر بن حجاج السلمي من أهل المدينة، وكان أحسن أهل
زمانه صورة، فضنيت من أجله ودنفت من الوجد به، ثم لهجت بذكره.
قيل هي: الفريعة بنت همام أم الحجاج بن يوسف الثقفي، وتلقب المتمنية
لذلك.
وقيل: امرأة أخرى من أهل المدينة، تعرف بالذلفاء. وقيل: إن البيت
مصنوع.
موضع الشاهد قوله: "فأشربها".
إعراب الشاهد: الفاء للجواب. أشرب: فعل مضارع منصوب، والفاعل ضمير
مستتر وجوبا تقديره أنا، والهاء ضمير متصل مبني في محل نصب مفعول به.
2 البيت من القصيدة التي مطلعها، وروايته كما في الحماسة "3/ 182".
لم ألق بعدهم حيا فأخبرهم ... إلا يزيدهم حبا إلي هم
يروى قوله فأخبرهم بالرفع، على أنه منقطع عما قبله، والتقدير: فأنا
أخبرهم.
ويروى بالنصب على تقدير "أن" وجعل الفاء سببية في جواب النفي كما شرحه
المؤلف. ورواية المؤلف فأذكرهم في مكان فأخبرهم، ويجوز فيها الوجهان
الرفع والنصب على ما تقدم.
الشاهد في قوله "فأذكرهم".
إعرابه: الفاء للجواب.
أذكر: مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا، والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره
أنا، وهم: ضمير مبني في محل نصب مفعول به.
3 مضمرة: غائبة من أضمرت الشيء إذا غيبته. مادة "ضمر". اللسان "4/
2607".
(1/282)
فلما كان الأول في تقدير المصدر، والمصدر
اسم، لم يسغ1 عطف الفعل بعده عليه، لأن الفعل لا يعطف على الاسم، فإذا
أضمرت أن قبل الفعل، صارا معا في تقدير المصدر، والمصدر اسم، فلذلك جاز
عطف اسم على اسم.
فإن قيل: ولم قدر في أول الكلام مصدر، حتي اضطروا إلى إضمار "أن"، ثم
عطفوا المصدر المنعقد للمعنى بأن والفعل جميعا، على المصدر الذي قبله؟
فالجواب: أنهم إنما فعلوا ذلك لمخالفة الفعل الثاني للفعل الأول في
المعنى، وذلك أنك إذا قلت: ما تزورني فتحدثني، فلم ترد أن تنفيهما
جميعا، ولو أردت ذلك، لرفعت الفعلين جميعا، ولكنك تريد: ما تزورني
محدثا، أي قد تزورني ولكنك إذا زرتني لم تحدثني، فأنت الآن قد أثبت
الزيارة، ونفيت الحديث، فلما اختلف الفعلان، ولم يجز العطف على ظاهر
الفعل الأول، وأضمروا مصدره، وكان ذلك مستقيما سائغا، لدلالة الفعل
الأول على مصدره، فلما تخيلوا في الفعل الأول معنى المصدر، عطفوا
الثاني عليه، فاضطروا إلى إضمار "أن" لما ذكرت لك.
ويجوز لك أيضا إذا قلت: ما تزورني فتحدثني، فنصبت الثاني، أن يكون
المعنى غير المعنى: ما تزورني إلا لم تحدثني.
وذلك أنه يجوز أن يكون المعنى: ما تزورني، فكيف تحدثني؟ فهذا أيضا معنى
ما تزورني محدثا، لأن معناه: لو زرتني لحدثتني، فأنت الآن ناف للزيارة،
ومعلم أن الزيارة لو كانت لكان الحديث عنها. فهذا أيضا معنى غير معنى
رفع "فتحدثني". فهذا مجيء الفعل بعد الفعل.
وأما مجيئه بعد غير الفعل فهو أسهل في اعتقاد المصدر في أول الكلام،
لأنه ليس هناك فعل يجوز عطف هذا الفعل المتأخر عليه، وذلك قولك: أين
بيتك فأزورك؟ ألا ترى أن أين بيتك، ليس بفعل، فيعطف عليه أزورك، فهذا
أظهر أمرا، فحمل هذا أيضا على المعنى، لأن معناه: ليكن تعريف منك،
فزيارة مني، لأن معنى أين بيتك؟ عرفني بيتك، فجاز تقدير التعريف لذلك.
__________
1 يسغ: يجز. تقول: ساغ له ما فعل أي جاز له ذلك. اللسان "3/ 2152".
(1/283)
ويدلك على أن الفعل إذا تقدمه اسم ولم يسغ
عطفه عليه، اضطر معه إلى إضمار "أن" ليفيدا معا معنى المصدر، فيعطف
المصدر الذي هو اسم، على الاسم الذي قبله، قول ميسون بنت بجدل الكلبية:
للبس عباءة وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف1
فكأنها قالت: لأن ألبس عباءة، وأن تقر عيني، أحب إلي من كذا.
ونظير2 ذلك قول الآخر، وهو من أبيات الكتاب أيضا:
فلولا رجال من رزام أعزة ... وآل سبيع أو أسوءك علقما3
أراد: وأن أسوءك. فكأنه قال في البيت الأول: للبس عباءة وقرة عيني: أحب
من كذا.
وفي الآخر: ولولا رجال وآل سبيع أو مساءتي إياك، لكان كذا، فالقرة: اسم
بمنزلة اللبس، والمساءة: اسم بمنزلة آل سبيع.
__________
1 البيت ينسب لميسون بنت بجدل الكلبية زوج مع معاوية بن أبي سفيان وأم
يزيد ابنه وهي بدوية من كلب التي تسكن بادية الشام، ضاقت نفسا لما تسرى
عليها معاوية، فعذلها على ذلك، وقال لها: أنت في ملك عظيم وما تدرين
قدره، وكنت قبل اليوم في العباءة، فقالت أبياتا منها هذا البيت، وهو من
شواهد الكتاب لسيبويه "1/ 426".
الشاهد فيه: نصب "تقر" بإضمار أن ليعطف على اللبس، لأنه اسم، وتقر:
فعل، فلم يمكن عطفه عليه، فحمل على إضمار أن، لأن أن وما بعدها اسم،
فعطف اسما على اسم، وجعل الخبر عنهما واحدا، وهو أحب.
2 نظير: مثيل. مادة "نظر".
3 رزام: ابن مالك بن حنظلة بن مالك بن عمرو: أبو حي من تميم.
سبيع: هو ابن عمرو بن فتية. علقما: مرخم علقمة.
يقول: لولا هؤلاء الرجال المذكورين لفعلت به كذا وكذا.
الشاهد في قوله: أو أسوءك علقما".
إعراب الشاهد: أو: عاطفة.
أسوء: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد أو، والفاعل ضمير مستتر
وجوبا تقديره أنا، والكاف: ضمير متصل مبني في محل نصب مفعول به.
(1/284)
واعلم أنك إذا أجبت هذه السبعة الأشياء1
بالفاء، فإن الكلام الذي هو مجاب، والكلام الذي هو جواب جميعا ينعقدان
انعقاد الجملة الواحدة، وليستا بجملتين، وذلك أنك إذا قلت: ما أنت
بصاحبي فأكرمك، فكأنك قلت، ليست بيننا صحبة مقتضية إكراما، فمقتضية جزء
متصل بالجملة، على حد اتصال الصفة بالموصوف من الجملة المقدمة، وكذلك
قوله.
يا ناق سيري عنقا فسيحا ... إلى سليمان فنستريحا2
في معنى: سيري سيرا مؤديا إلى الاستراحة، فمؤد متصل بما قبله، وليس
منفصلا منه. وكذلك قولك: لا تشتمه فيشتمك، معناه: لا يكن منك شتيمة له
داعية إلى شتمه إياك. وعلى هذا جميع هذه المسائل.
وأنت لو قلت: ما تزورني فتحدثني، فرفعت تحدثني، لم يكن الكلام كله جملة
واحدة، بل هو جملتان، أي: ما تزورني، فهذه واحدة، وما تحدثني، فهذه
أخرى، فاعرف حال هذا الفاء وما بعدها.
وقول البغداديين: إننا ننصب الجواب على الصرف، كلام فيه إجمال، بعضه
صحيح، وبعضه فاسد. أما الصحيح فقولهم: الصرف: أي ينصرف بالفعل الثاني
عن معنى الأول، وهذا هو معنى قولنا: إن الثاني يخالف الأول. فأما
انتصابه بالصرف فخطأ، ولا بد له من ناصب مقتض له، لأن المعاني لا تنصب
الأفعال، وإنما ترفعها المعاني، والمعنى الذي يرفع الفعل هو وقوع الفعل
موقع الاسم، وجاز في الأفعال أن يرفعها المعنى، كما جاز في الأسماء أن
يرفعا المعنى، أعني الابتداء، لمضارعة الاسم للفعل، فكما أن المضارعة
في الفعل بمنزلة التمكن في الاسم، في إيجابها جنس الإعراب لهما، فكذلك
وقوع الفعل موقع الاسم يوجب له الرفع، كما أن ابتداء الاسم يوجب له
الرفع، وكما أن الأسماء لا تنتصب إلا بناصب لفظي، فكذلك الأفعال لا
تنتصب إلا بناصب لفظي.
__________
1 هذه الأشياء هي: "الأمر، والنهي، والتمني، والاستفهام، والنفي،
والدعاء، والعرض" مضاف إليها الأمر الثامن وهو "الترجي".
2 سبق شرح هذا البيت.
(1/285)
فأما من ادعى انتصاب شيء من الكلام بالمعنى
دون اللفظ، فقد وجب عليه من إقامة الدلالة على ذلك مثل الذي وجب علينا
فأقمناه، من الدلالة على ارتفاع1 الاسم المبتدأ والفعل المضارع،
بالمعنى.
فإن قيل: فإذا كان تقدير قولنا: ما أنت بصاحبي فأكرمك عندك: ما أنت
بصاحبي فأن أكرمك، فهل يجوز أن تظهر "أن" هذه المقدرة عندك إلى اللفظ،
فتقول: ما أنت بصاحبي فأن أكرمك؟
فالجواب أن هذا أصل وإن قامت الدلالة عليه فإنه مرفوض، كما أن أصل قام:
قوم، ولكنه لا ينطق به على أصله.
وهاهنا أشياء كثيرة ترفض أصولها، ويقتصر في الاستعمال على فروعها، وقد
حذفت الفاء. قالوا: أف، خفيفة الفاء، وأصلها أف، مشددة.
__________
1 ارتفاع: أي رفع.
(1/286)
|