سر صناعة الإعراب

المجلد الثاني
باب اللام
الحديث عن اللام
...
بسم الله الرحمن الرحيم
باب اللام:
الحديث عن اللام:
اللام حرف مجهور يكون أصلًا وبدلًا، وزائدًا.
فإذا كان أصلًا؛ وقع فاءً وعينًا ولامًا؛ فالفاء: نحو لعب ولزم، والعين: نحو قلب وسلم، واللام: نحو شعل وجعل.
فاما قول الراجز1:
لما رأى أن لا دعة ولا شبع ... مال إلى أرطاة حقف فالطجع2
فإنه يريد: فاضطجع؛ فأبدل الضاد لامًا، وهو شاذ. وقد روي: فاضطجع. ويروى أيضًا: فاطجع، ويروى أيضًا: فاضجع.
وأبدلوا اللام من النون فى أصيلان فقالوا: أصيلال.
وإذا كانت اللام زائدة فهي على ضريبن:
أحدهما: أن تزداد فى الكلمة مبنية معها غير مفارقة لها.
والآخر: أن تزداد فيها لمعنى، ولا تكون صيغة الكلمة.
__________
1 الراجز: يقال هو منظور بن مرثد الأسدي، جاء ذلك فى العيني.
2 دعة: لين العيش أو العيش السهل الطيب.
شبع: الشبع: الامتلاء من الطعام، ويقال: شبع من الأمر إذا سئمه. اللسان "8/ 171"
أرطاة: واحدة الأرطي وهو نبات شجيري ينبت فى الرمل ويخرج كالعصي. ورقه رقيق وثمره كالعناب. لسان العرب"14/ 325" مادة/ رطى.
حقف: حقف الشيء حقوفًا أي: استطال فى اعوجاج. القاموس المحيط "3/ 129" مادة حقف.
فالطجع: أي وضع جنبه على الأرض ونحوها. القاموس "3/ 129" مادة/ ضجع.
ويقول الشاعر فى وصف الذئب أنه قد مال إلى جذع شجر الأرطي وما أعوج من الرمال ثم وضع جنبه واضطجع. وهو فى هذه الحالة مابين الدعة والشبع.
وأسلوب البيت خبري تقريري يفيد الوصف.
الشاهد فيه: إبدال "الضاد" لامًا فى قوله "فالطجع" حيث يريد فاضطجع.
إعراب الشاهد: الْطجع: فعل ماضى مبني لا محل له من الإعراب.

(2/5)


الأول من هذين؛ وذلك قولهم: أذلك، وأولالك، وهنالك, وعبدل، وزيدل، وفيشلة؛ فالذي بدل على زيادة اللام فى ذلك قولهم فى معناه: ذاك. ومعنى أولالك: أولئك.
قال1:
أولالك قومي لم يكونوا أُشَابة ... وهل يعظ الضِّلِّيل إلا أولالكا2
وقولهم هنالك يدل على زيادة اللام فى هنالك. ومعنى عبدل كمعنى عبد. ومعنى زيدل معنى زيد. ومعنى فيشلة معنى فيشة.
قال الراجز3:
وفيشة ليست كهذي الفيش ... قد ملئت من خرق وطيش
إذ بدت قلت أمير الجيش4
ويقال: إن امرأة من العرب قالت5:
وفيشة قد اشفتر حوقها
__________
1 قال: جاء فى الخزانة أنه ابن الكلحبة. وهو ابن كلحبة اليربوعي، واسمه هبيرة بن عبد مناف، وكلحبة أمه.
2 أشابة: الذين لايعرف لهم أصل فى نسبهم حيث اختلط نسبهم.
يعظ: ينصح ويذكر بالعواقب ويأمر بطاعة الله. مادة "وع ظ" القاموس المحيط "2/ 400"
الضليل: من ينحرف عن الطريق القويم والدين الحنيف، والضليل: الكثير الضلال المبالغ فيه، ويقال: الملك الضليل لامرئ القيس الشاعر لأنه كان صاحب غوايات وبطالات.
ويقول الشاعر مفتخرًا بقومه إنهم يعظون الضليل ولا يوجد غيرهم من يعظه لأنهم غير أخلاط، وأصحاب أخلاق وعقلية راجحة؛ فمن الذي ينصح ويعظ إن لم ينصحوا.
والشاهد فيه قوله "أولالك" حيث جاءت بمعنى أولئك.
إعراب الشاهد: اسم إشارة مبني فى محل رفع مبتدأ.
3 ذكرها ابن منظور فى مادة "فيش" دون أن ينسبها إلى قائلها. لسان العرب "6/ 333".
4 خرق: الحمق والدهشة والتحير. مادة "خ ر ق". القاموس المحيط "3/ 226".
طيش: طاش طيشًا: اضطرب وانحرف، القاموس المحيط "2/ 227" مادة/ طيش.
5 قالت: قيل هي امرأة من العرب لم نقف عليها.

(2/6)


فسمعتها ابنتها، فقالت1:
دونكها يا أم لا أطيقها2
وقد يمكن أن تكون فيشة من غير لفظ فيشلة؛ فتكون الياء فى فيشة عينًا، وتكون فى فيشلة زائدة، ويكون وزنها فيعلة، لأن زيادة الياء ثانية أكثر من زيادة اللام، فيكون اللفظان مقتربين، والأصلان مختلفين.
ونظير هذا قولهم: رجل ضياط3 وضيطار، فالياء فى ضياط عين الفعل، وهي في ضيطار زائدة. قال الشاعر4:
ونركب خيلًا لا هوادة بينها ... وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر5
وقال الآخر6:
قد علقت أحمر ضياطيًا7
وقالوا أيضًا: هيق، وهيقل8، والقول فيهما القول فى فيشة، وفيشلة.
__________
1 فقالت: أي قالت الصبية ردًا على قول أمها.
2 دونكها يا أم لا أطيقها: ذكر صاحب شذور الذهب هذا المثال دون أن ينسبه إلى قائله.
شرح شذور الذهب شاهد 211 ص401.
3 ضياط: الرجل الذي حين يمشي يحرك جسده ومنكبه من كثرة اللحم. اللسان"7/ 345".
4 الشاعر: قيل هو خداش بن زهير، ذكر ذلك صاحب الجمهرة، ونسبه ابن منظور إليه أيضًا فى مادة "ض ط ر". لسان العرب "4/ 489".
5 يقول الشاعر: إن هذه الرماح تشقيهم فهم لايحسنون الحرب بها ولا استخدامها فى ميدان القتال، وإذا حملت معنى التسبيه المقلوب فيكون لديهم مهارة فائقة فى استخدامها حتى تشقى الرماح من كثرة القتل والطعن.
الشاهد فيه: زيادة الياء فى كلمة "ضياطرة".
إعراب الشاهد: اسم مجرور بحرف الجر الباء.
6 الآخر: لم يذكره صاحب اللسان.
7 الأسلوب الإنشائي فى صورة توكيد، وغرضه التأكيد على الفكرة.
الشاهد فيه زيادة الياء فى "ضياطيا".
8 هيقل: هو الفتي من النعام. القاموس المحيط "4/ 69" مادة/ هقل.

(2/7)


وقالوا للأفحج: فحجل1، فاللام في هذا زائدة لا محالة. قالوا: ومن هذا أيضًا قولهم: عدد طيس وطيسل للكثير.
وأنشدنا أبو علي:
حتى لحقنا بعديد من الطيس ... قد ذهب القوم الكرام ليسي2
والقول فى هذا هو القول فى فيشة وفيشلة.
وقال محمد بن حبيب: ومنه قالوا للعنس: عنسل3؛ فذهب إلى اللام من عنسل زائدة، وأن وزن الكلمة فعلل، واللام الأخيرة زائدة، حتى لو بنيت مثلها على هذا القول من ضرب لقلت: ضربل، ومن خرج: خرجل، ومن صعد: صعدل. وقد ترك محمد فى هذا القول مذهب سيبويه4 الذي عليه ينبغي أن يكون العمل، وذلك أن "عنسل" عنده فنعل، وهي من العسلان، وهو عدو الذئب.
__________
1 الفحجل: الذي اعوجت ساقاه.
2 نسبه صاحب اللسان فى مادة "طيس": "6/ 128" إلى رؤبة بن العجاج.
مع ملاحظة أن البيت لا يوجد في ديوانه، ولكن موجود فى زيادته.
كعديد: العديد كالعدد فى المعنى يقال: هم عديد الثرى: أي عددهم مثل عدده.
الطيس: العدد الكثير وكل ما في وجه الأرض من التراب والقمام. القاموس"2/ 227".
وقال صاحب اللسان: إنهم اختلفوا فى تفسير الطيس، فقال بعضهم: كل من على ظهر الأرض من الأنام فهو من الطيس، وقال بعضهم: هو كل خلق كثير النسل نحو النمل والذباب ... إلخ، وقيل يعنى الكثير من الرمل. لسان العرب "6/ 128" مادة/ طوس.
يقول الشاعر: إنني أفتخر بقومي وأتحسر على ذهابهم؛ فقد ذهبوا جميعهم رغم كثرتهم التي تشبه كثرة الرمل إلا إياي، فإنني بقيت بعدهم خلفًا عنهم.
الشاهد فيه: أن الياء فى "ليسي" ليست زائدة وإنما هي ياء المتكلم، وحذفت نون الوقاية منها.
إعرابه:
ليس: فعل ماضي ناقص مبني لا محل له من الإعراب دال على الاستثناء، اسمه: ضمير مستتر وجوبًا تقديره "هو" يعود على البعض المفهوم من القوم.
الياء: خبر ليس مبنى فى محل نصب.
3 عنسل: الناقة القوية السريعة. القاموس المحيط "4/ 16".
4 سيبويه: الكتاب "2/ 326".

(2/8)


قال:
عسلان الذئب أمسى قاربًا ... برد الليل عليه فنسل1
والذي ذهب إليه سيبويه هو القول، لأن الزيادة ثانية أكثر من زيادة اللام، ألا ترى إلى كثرة باب قنبر، وعنصل2، وقنفخر، وقنعاس، وقلة باب ذلك وأولالك.
ويلزم على ذلك أن تكون اللام فى فلندع زائدة، ويجعل وزنه فلنلل؛ لأنه الملتوي الرجل، فهو من معنى الفدع، وهذا بعيد فاسد.
ونظيره ازلغب الفرخ أي رغب، لاينبغي أن يقال: إن مثال ازلغب: افلعل. فهذه أحكام اللام المصوغة فى أمثلة الكلم وهي زائدة.
وأما اللام التي زيدت لمعنى وهي غير مصوغة فى الأمثلة؛ فلحقت في ثلاثة مواضع: الاسم، والفعل، والحرف.
لحاقها للأسماء وذلك أيضًا على ضربين: أحدهما أن تكون عاملة، والآخر أن تكون غير عاملة.
فأما العاملة فلام الجر، وذلك فى قولك: المال لزيد، والغلام لعمرو، وموضعها في الكلام الإضافة، ولها في الإضافة معنيان:
أحدهما الملك نحو: المال لزيد، أي: هو في ملكه.
والآخر الاستحقاق والملابسة، نحو: هذا الجل3 للدابة، أي قد استحقته، ولا بسته، وكذلك: هذا الباب للدار.
__________
1 نسبه صاحب اللسان فى مادة "عسل" إلى لبيد، وهو أبو عقيل لبيد بن ربيعة أحد شعراء الفرسان في الجاهلية، وأدرك الإسلام ولم يقل فيه إلا بيتًا واحدًا:
وما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح
اللسان "11/ 446".
الشاهد فيه: أن اللام أصلية فى كلمة "عسلان" وليست زائدة وهو ما ذهب إليه سيبويه.
2 عنصل: البصل البري. القاموس المحيط "4/ 17".
3 الجل: ما تغطى به الدابة لتصان، "ج" جلال أو أجلال. القاموس "3/ 350" مادة/ جلل.

(2/9)


واعلم أن هذه اللام الجارة مكسورة مع المظهر، نحو: الغلام لمحمد، ومفتوحة مع المضمر1، نحو: الغلام له. وأصلها وأصل كل حرف مفرد وقع في أول الكلمة أن يكون متحركًا بالفتح، نحو واو العطف، وفائه، وهمزة الاستفهام، ولام الابتداء.
فأما لام التعريف فسنذكر لم أسكنت إذا انتهينا من القول إلى ذكرها بإذن الله.
فقد كان ينبغي للام الجر أن تكون مفتوحة مع المظهر كما أنها مفتوحة مع المضمر2؛ إلا أنها كسرت للفرق بينها وبين لام الابتداء، وذلك نحو قولك في الملك: إن زيدًا لِهَذا، أي هو في ملكه، وإن زيدًا لَهَذا، أي هو هذا؛ فلو فتحت فى الموضعين لالتبس معنى الملك بمعنى الابتداء.
فإن قلت: فإني أقول أيضًا: إن زيدًا لِأَمير، وإن زيدًا لَأَمير؛ فهلا فتحت في الموضعين، واعتمد فى البيان على الإعراب؟
ففي هذا شيئان: أحدهما أن الوقف يزيل الإعراب؛ فيعود اللبس.
والآخر أنه لما كان كثير من الأسماء لا يبين فيه إعراب نحو هذا وهذه، والذي والتي، والمقصور كله، وما أشبه ذلك؛ كرهوا أن يقع اللبس في ما لا يظهر إعرابه، فاحتاطوا، وأخذوا بالحزم، فكسروا اللام في ما يظهر إعرابه، وفي ما لا يظهر إعرابه، ليكون ذلك أنفى للشك وأحسم للشبهة؛ فهذا وجه كسرها مع المظهر.
وأما المضمر؛ فإنما تركت مفتوحة معه لأمرين:
قال بعضهم3: إنما فتحت لام الجر مع المضمر لزوال اللبس؛ وذلك أن ضمير المجرور فى اللفظ غير ضمير المرفوع، وذلك قولك، إن هذا لك، أي في ملكك، وإن هذا لأنت، أي: أنت هو؛ فلما اختلفت علامتا الضمير؛ زال الشك، فلزمت اللام أصلها، وهو الفتح.
ويلزم من قال هذا القول عندي أن يكسرها في الموضع الذي يشبه فيه ضمير المرفوع ضمير المجرور، وذلك قولك: الزيدون أن هؤلاء الغلمان لهم، أي: في
__________
1 يسثتنى منها ياء المتكلم لأنها مكسورة.
2 المضمر: الخفي. مادة "ض م ر". القاموس المحيط "2/ 76".
3 هو المبرد كما في المقتضب "1/ 245".

(2/10)


ملكهم، وكذلك إذا أردت لام الابتداء؛ فإنك تقول: الزيدون إن هؤلاء الغلمان لهم، أي: هم هم. وكذلك قولك: الهندات إن هؤلاء الجواري لهن، أي: في ملكهن، وكذلك إذا أردت لام الابتداء، فقلت: الهندات إن هؤلاء الجواري لهن، أي: هؤلاء الجواري هن الهندات؛ فإذا كان الأمر كذلك فقد شابه المضمر فى هذا الفصل المظهر؛ فمن حيث وجب كسرها مع المظهر، فمن حيث وجب كسرها مع المظهر إذا جرت، وتركها مفتوحة إذا ابتدئ بها؛ فكذلك كان يلزم أن تقول: الزيدون إن هؤلاء الغلمان لهم، أي: في ملكهم، وكذلك إذا أردت لام الابتداء؛ فإنك تقول: الزيدون إن هؤلاء الغلمان لهم أي: هم هم.
هذا هو الظاهر فى الإلزام، إلا أن الذي ينبغي أن يعتد به في هذا الموضع أن يقال: لما كان أكثر الضمير يتبين فيه المرفوع من المجرور نحو: لك، ولأنت، ولي، ولأنا، وله، ولهو، ولنا، ولنحن، ولكما، ولأنتما؛ فلما كان الفرق في أكثره ماضيًا مستمرًا وثابتًا مستقرًا؛ حملت البقية التي قد يعرض فيها في بعض المواضع؛ لبس على ما لا يعترضه لبس.
فهذا أحد الاحتجاجين فى فتح اللام الجارة مع المضمر.
والقول الآخر: أن الإضمار يرد الأشياء في أكثر أحوالها إلى أصولها وقد تقدم ذكر ذلك في صدر هذا الكتاب. وأصل هذه اللام الفتح على ما قدمناه آنفًا، لأنها حرف وقع أولًا؛ فلزمت حركته، وكانت الفتحة أحق به؛ فلما كان أصل حركى هذه اللام الفتح، وكان الإضمار مما ترجع الأشياء فيه إلى أصولها تركت هذه اللام الجارة مع المضمر مفتوحة.
وهنا زيادة ما علمتها لأحد من أصحابنا، وهى أن يقال: إذا كان الفرق بين اللام الجارة ولام الابتداء واجبًا لما ذكرته من الفرق بين المعنيين، فَلِمَ كسرت الجارة وتركت لام الابتداء بحالتها مفتوحة؟
فالجواب عن هذا أن يقال: إن أول أحوال الاسم هو الابتداء؛ وإنما يدخل الرافع أو الناصب سوى الابتداء والجار على المبتدأ؛ فلما كان الابتداء متقدمًا في المرتبة، وكان فتح هذه اللام هو الأول المتقدم من حاليها؛ جعل الفتح الذي هو أول مع الابتداء الذي هو أول، ولما كان الكسر فيها إنما هو ثان غير أول؛ جعل مع الجر الذي هو تبع للابتداء، هذا هو القياس؛ فاعرفه إن شاء الله.

(2/11)


واعلم أن هذه اللام الجارة قد تفتح مع المظهر فى بعض اللغات، فيقال: المال لَزيد، بفتح اللام، نقلت من خط أبى بكر محمد بن السري، وقرأته بعد ذلك على أبى علي عن أبي العباس، قال: كان سعيد بن جبير يقرأ: "وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ" [إبراهيم: 46] 1 فيفتح اللام، ويردها إلى أصلها، وذلك أن أصل اللام الجارة الفتح، انتهت الحكاية.
وحكي أن الكسائي سمع من أبي حزام العُكْلي: ما كنت لآتيك، ففتح لام كي.
وأما لام المستغاث به نحو: يا لَبكر، ويا لَلَّهِ؛ فلام جر، وإنما فتحت لأن المستغاث به منادى، والمنادى واقع موضع المضمر؛ فلذلك فتحت اللام كما تفتح مع المضمر.
وقد قيل: إنها إنما فتحت للفرق بينها وبين لام التعجب، نحو قوله2:
يا لَلرجال ليوم الأربعاء أما ... ينفك يحدث لي بعد النهى طربا
وحدثني أبو علي قال: حكى أبو الحسن عن أبي عبيدة، والأحمر، ويونس أنهم سمعوا العرب تفتح اللام الجارة مع المظهر، قال: وقال أبو الحسن: وقد سمعته أنا منهم أيضًا.
__________
1 روى شعبة عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن رئاب أن عليًا -رضي الله عنه- قال في هذه الآية: أخذ ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين فرباهما حتى استغلظا واستفحلا، فأوثق رجل كل منهما بوتد إلى تابوت وجوعهما وقعد هو ورجل آخر فى التابوت ورفع فى التابوت عصًا على رأسه اللحم فطارا. وجعل يقول لصاحبه: انظر ما ترى، قال: أرى كذا وكذا حتى قال: أرى الدنيا كلها كأنها ذباب؛ فصوب العصا إلى أسفل؛ فهبطا جميعًا.
وروى عن عكرمة أن سياق هذه القصة لنمرود ملك كنعان، حيث إنه رم أسباب السماء بهذه الحيلة ... وذكر مجاهد هذه القصة عن بختنصر.
وكل القصص تؤكد أن هذا المكر الذي مكروه تزول منه الجبال.
انظر/ تفسير ابن كثير"2/ 542".
الشاهد فيه قوله "لَتزول" بفتح اللام حيث نقل عن ابن جريج عن مجاهد أنه قرأها بفتح اللام كقراءة سعيد بن جبير أيضًا.
2 هو عبد الله بن مسلم الهذلي، كما في شرح أشعار الهذليين "ص910".

(2/12)


وقال أبو زيد: سمعت من يقول "وَمَا كَانَ اللَّهُ لَيُعَذِّبَهُم"1 [الأنفال: 33] بفتح اللام. وهذا من الشذوذ بحيث لايقاس عليه. وأشد منه ما حكاه اللحياني عن بعضهم أنه كسر اللام الجارة مع المضمر2، فقال: المال له؛ وإنما كان هذا أشد من الأول من قبل أن أصل اللام الفتح؛ فإذا ردت في بعض المواضع على ضرب من التأول إليه؛ فله وجه من القياس. وأما الكسر ففرع، والحمل على الأصول أجوز من النزول إلى الفروع. ووجه جوازه أنه لما شبه المظهر بالمضمر فى فتح لام الجر معه نحو قراءة سعيد بن جبير وغيرها، كذلك شبه المضمر بالمظهر فى كسر لام الجر معه فى هذه الحكاية الشاذة. وكما شبهت الباء فى بزيد باللام فى لِزيد حتى كسرت مثلها؛ كذلك جاز أيضًا لبعضهم أن شبه الباء باللام؛ ففتحها مع المضمر كما يفتح اللام معه، وذلك أيضًا فى ما حكاه اللحياني من قول بعضهم: مررت به، بفتح الباء3، وهذه التشابيه إنما تقع شبيهًا بالغلط، على أن أصحابنا فى كثير مما يحكيه اللحياني كالمتوقفين.
حكى أبو العباس عن إسحاق بن إبراهيم، قال: سمعت اللحياني ينشد:
كم عمة لك يا جرير وخالة ... فدعاء قد جليت علي عشار4
فقلت له: ويحك! إنما هو: قد حلبت علي عشاري، فقال لي: وهذه أيضًا رواية.
__________
1 جاءت هذه الآية ردًا على إدعاء الكفار بأن يعذبهم الله أو يمطر عليهم حجارة من السماء؛ فكانت هذه الآية رحمة من الله تمهلهم فلا تأخذهم بعنادهم؛ فهم يمهلون إكرامًا لوجود رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينهم. انظر/ في ظلال القرآن الكريم للسيد قطب "3/ 1505".
الشاهد فيها: قراءة اللام بالفتح.
2 المضمر: كسر اللام الجارة مع المضمر لغة خزاعة.
3 فتح الباء: مثل قوله: مررت بَه، لغة اشتهرت بها قبائل متعددة مثل قضاعة.
4 نسب صاحب اللسان البيت للفرزدق، مادة "ع ش ر". لسان العرب "4/ 573".
فدعاء: هي التي تمشي على ظهر قدميها لوجود اعوجاج فى المفاصل كأنها فارقت مواضعها، وأكثر ما يكون فى رسغ القدم أو اليد. مادة "ف د ع". لسان العرب "8/ 246".
عشار: "م" عشراء، والعشراء من النوق ما مضى على حملها عشرة أشهر. اللسان "4/ 572" ويبدو أن الفرزدق يهجو جرير ويسبه ويعيره ويقبحه ويخبره بأن له عمة وخالة تشبه كلاهما الناقة فى مشيتها المتعرجة المعوجة إذا ما مر على حملها عشرة أشهر.

(2/13)


ومما صحفه أيضًا قولهم في المثل، "يا حامل اذكر حلًا" كذا رواه "يا حامل" وإنما هو "يا حابل اذكر حلا"1 أي: يا من يشد الحبل اذكر وقت حله.
وذاكرت بنوادره شيخنا أبا علي؛ فرأيته غير راضٍ بها، وكان يكاد يصلي بنوادر أبي زيد إعظامًا لها، وقال لي وقت قراءتي إياها عليه: "ليس فيها حرف إلا ولأبي زيد تحته غرض ما" وهي كذلك، لأنها محشوة بالنكت والأسرار.
واعلم أن اللام في نحو قولهم: جئت لأكرمك، وقوله تعالي: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} [الفتح: 1] 2، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] 3، إنما هي حرف جر، وليست من خصائص الأفعال كلام الأمر، ولام القسم وغيرهما؛ وإنما الفعل بعدها منصوب ب "أن" مضمرة، والتقدير: جئت لأن أكرمك، فـ "أن" والفعل بعدها في تقدير المصدر، والمصدر اسم، فكأنه قال: جئت لإكرامك.
وقد زيدت اللام الجارة مؤكدة للإضافة نحو قولهم "لا أبا لك"، و"لا يدي لك بالظلم" أي: لا أباك، و: لا يديك، ونحو قول النابغة:
قالت بنو عامر: خالوا بني أسد ... يا بؤس للجهل ضرارًا لأقوام4
أي: يا بؤس الجهل.
__________
1 ذكر المثل ابن منظور "11/ 134" مادة/ حبل، وتروى أيضًا: "يا عاقد اذكر حلًا".
2 الشاهد فيها: فتح اللام في قوله تعالى: "لَيغفر".
3 سبق الحديث عنها.
4 البيت للنابغة الذبياني، وعثر عليه في ديوانه "ص/ 288".
بنو عامر: قبيلة عامر.
بني أسد: قبيلة أسد.
خالوا: فعل أمر أي اتركوا وتخلوا، وهو أسلوب أمر يدل على التهديد والوعيد.
يا بؤس: أسلوب إنشائي غرضة الذم.
ضرارًا: صيغة مبالغة تدل على كثرة وتعدد الضرر الذي يحدث نتيجة للجهل، وما يسببه الجهل من ضرر لأقوام كثيرة.
الشاهد فيه: قوله "للجهل"، والتقدير: يابؤس الجهل، حيث زادت اللام فأصبحت للجهل.
إعراب الشاهد: للجهل: اللام حرف جر زائد مبني لا محل له من الإعراب، يدخل على الاسم فيعمل فيه الجر، الجهل: اسم مجرور بحرف الجر.

(2/14)


وقد زادوها في أشد من هذا، قال:
فلا والله لا يفلي لما بي ... ولا للما بهم أبدًا دواء1
أي: لما بهم؛ فزاد لامًا أخرى مؤكدًا للإضافة بها. فهذه أحوال اللام العاملة فى الأسماء.
وأما اللام التي تلحق الأسماء وهي غير عاملة فيها؛ فعلى ضربين: أحدهما لام التعريف، والأخرى لام الابتداء.
فأما لام التعريف؛ فهى نحو قولك: الغلام، والجارية؛ فاللام هي حرف التعريف، وإنما دخلت الهمزة عليها لأنها ساكنة، فتوصلت إلى الابتداء بها بالهمزة قبلها، وقد ذكرنا فى باب الهمزة2 لم فتحت هذه الهمزة، ولم تكسر.
وذهب الخليل3 إلى أن "أل" حرف التعريف بمنزلة "قد" في الأفعال، وأن الهمزة واللام جميعًا للتعريف، وحكي عنه4 أنه كان يسميها "أل" كقولنا "قد" وأنه لم يكن يقول الألف واللام، كما لا يقول في قد: القاف والدال.
ويقوي هذا المذهب قطع "أل" في أنصاف الأبيات، نحو قول عبيد:
يا خليلي اربعا واستخبرا الـ ... منزل الدارس عن أهل الحلال
مثل سحق البرد عفَّى بعدك الـ ... قطر مغناه وتأويب الشمال5
__________
1 البيت نسبه صاحب الخزانة إلى مسلم بن معبد.
والله: أسلوب إنشائي في صورة قسم، الغرض منه التأكيد.
لا يلفي: اسلوب إنشائي في صورة نفي غرضه التعجيز.
لما بي: أي ما بي من كرب وبلاء.
لما بهم: أي من حقد وحسد.
الشاعر يؤكد أن ما به من بلاء وكرب وما بأعدائه من حقد وحسد كلاهما مرضان لا يوجد لهم دواء يتداوى به.
الشاهد فيه: قوله "لِلِما" حيث زيدت اللام الأخرى للتوكيد، والتقدير: لما بهم.
2 باب الهمزة: يمكن الرجوع إلى باب الهمزة للحصول على المزيد في هذه المسألة.
3 ذكر صاحب الكتاب أن هذا مذهب الخليل.
4 حكي عنه: أي عن صاحب الكتاب.
5 البيتين لعبيد بن الأبرص في ديوانه.

(2/15)


وهذه قطعة لعبيد مشهورة عددها بضعة عشر بيتًا يطرد جميعها على هذا القطع الذي تراه إلا بيتًا واحدًا من جملتها؛ ولو كانت اللام وحدها حرف التعريف؛ لما جاز فصلها من الكلمة التي عرّفتها، لا سيما واللام ساكنة، والساكن لا ينوى به الانفصال.
ويقوي ذلك أيضًا قول الآخر:
عجل لنا هذا وألحقنا بذا الـ ... الشحم إنا قد مللناه بجل1
فإفراده "أل" وإعادته إياها في البيت الثاني يدل من مذهبهم على قوة اعتقادهم لقطعها؛ فصار قطعهم "أل" وهم يريدون الاسم بعدها كقطع النابغة "قد" وهو يريد الفعل بعدها، وذلك قوله2:
__________
= يا خليلي: أسلوب إنشائي في صورة نداء غرضه جذب الانتباه.
اربعا: أي انتظرا، وهو أسلوب إنشائي في صورة أمر غرضه الالتماس.
الدارس: الذي درس، وذهبت معالمه وآثاره. لسان العرب "6/ 79" مادة/ درس.
الحِلال: "م" الحِلة: وحِلة: وهي منزل القوم أو جماعة البيوت أو مجتمع الناس، وتجمع على حلال وأحلة. لسان العرب "11/ 165" مادة/ حلل.
يطلب الشاعر من صاحبيه أن ينتظرا ويتوقفا ويسألا أهل الحلة عن أخبار الأحبة.
الشاهد فيه: قطع "أل" في نصف البيت حيث يقوي هذا رأي الخليل في كون "أل" جميعًا تكون للتعريف.
سحق: القديم البالي، عفا: ذهبت معالمها وانمحت. تأويب الشمال: تردد هبوب الريح من جهة الشمال.
البيت أسلوبه خبري تقريري يبرز ما يعانيه الشاعر من ألم الفراق وبعد الحبيب.
الشاهد فيه أيضًا: قطع "أل" في نصف البيت.
1 نسب صاحب الكتاب البيت إلى الشاعر غيلان بن حريث.
عجل: أي قدم بسرعة، وهو أسلوب إنشائي في صورة أمر غرضه الالتماس.
ألحقنا: أسلوب أمر غرضه الالتماس أيضًا.
الشحم: الشحم في جسم الحيوان الأبيض الدهني المسمن له، كسنام البعير، "ج" شحوم.
مللناه: مل الشيء، سئمه، لسان العرب "11/ 629" مادة/ ملل.
بجل: بجل بجالة وبجولة أي عظم قدره وسنه فهو بجيل.
الشاهد فيه: قطع "أل" ثم وصلها مرة أخرى.
2 قوله: أي النابغة.

(2/16)


أفد الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد1
ألا ترى أن التقدير فيه: "وكأنْ قد زالت"؛ فقطع "قد" من الفعل كقطع "أل" من الاسم. وعلى هذا قالوا أيضًا فى التذكر: "قام اَلِي" إذا نويت بعده كلامًا، أي: الحارث أو العباس؛ فجرى قولك في التذكر: "قدي"، أي: قد انقطع، أو قد قام، أو قد استخرج ونحو ذلك.
وإذا كان "اَلْ" عند الخليل حرفًا واحدًا؛ فقد كان ينبغي أن تكون همزته مقطوعة ثابتة كقاف "قد" وباء "بل"؛ إلا أنه لما كثر استعمالهم لهذا الحرف؛ عرف موضعه؛ فحذفت همزته، كما حذفوا "لم يَكُ"، و"لا أدرِ"، و"لم أبلْ".
ويؤكد هذا القول عندك أيضًا أنهم أثبتوا هذه الهمزة بحيث تحذف همزات الوصل البتة؛ وذلك نحو قول الله عز وجل: {أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59] 2،
__________
1 البيت للنابغة الذبياني وقد عثرنا عليه في ديوانه "ص/ 93" بشرح الطاهر بن عاشور.
الترحل: الرحيل.
ركابنا: الركاب للسرج ما توضع فيه الرجل.
والركاب: الإبل المركوبة أو الحاملة شيئًا.
رحالنا: "م" رَحْل: وهو ما يوضع على ظهر البعير للركوب.
يقول الشاعر: إن ميعاد الرحيل قد أزف وآن؛ رغم أن ركابنا لم تزلْ برحالنا.
الشاهد فيه تقدير: "وكأن قد زالت"؛ فقطع "قد" من الفعل هنا كقطع "ال" من الاسم.
إعراب الشاهد: قد: حرف توكيد مبني.
2 يروى فى هذه الآية أن أبا الأحوص وهو عوف بن مالك بن نضلة حدث عن أبيه قال: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا رث الهيئة فقال: هل لك مال؟ قلت: نعم، قال من أي المال؟ قال: قلت: من كل المال: من الإبل والرقيق والخيل والغنم، فقال: "إذا آتاك الله مالًا؛ فليُرَ عليك"، وقال: "هل تنتج إبلك صحاحًا آذانها فتعمد إلى موسى فتقطع أذنها فتقول هذه بحر، وتشق جلودها وتقول هذه صرم، وتحرمها عليك وعلى أهلك؟ "قال: نعم، قال: فإن ما آتاك الله لك حل"، وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله أو أحل ما حرم الله لمجرد الأهواء والآراء التي لا مستند لها ولا دليل عليها. تفسير ابن كثير "2/ 421".
والأسلوب إنشائي في صورة استفهام غرضه التهكم والسخرية من أولئك الذين يحرمون ما أحل الله أو العكس، وأيضًا إنكار ذلك عليهم؛ إذ لا حجة لتحريمهم ما حرموا أو حل ما أحلوا.
والشاهد في الآية: حذف همزة الوصل.

(2/17)


و {أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنثَيَيْنِ} [الأنعام: 144] 1، ونحو قولهم في القسم: "أفألله"، و"لاها ألله ذا"، ولم نر همزة الوصل ثبتت في نحو هذا. فهذا كله يؤكد أن همزة "أل" ليست بهمزة وصل، وأنها مع اللام بمنزلة "قد" و"هل" ونحوهما.
وأما ما يدل على أن اللام وحدها هي حرف التعريف، وأن الهمزة إنما دخلت عليها لسكونها؛ فهو إيصالهم جر الجار إلى ما بعد حرف التعريف، وذلك نحو قولهم: عجبت من الرجل، ومررت بالغلام، والغلام كالجارية؛ فنفوذ الجر بحرفه إلى ما بعد حرف التعريف؛ يدل على أن حرف التعريف غير فاصل عندهم بين الجار والمجرور؛ وإنما كان ذلك كذلك لأنه فى نهاية اللطافة والاتصال بما عرّفه.
وإنما كان كذلك لأنه على حرف واحد ولا سيما ساكن، ولو كان حرف التعريف عندهم حرفين كـ "قد"، و"هل"؛ لما جاز الفصل له بين الجار والمجرور به؛ لأن "قد" و"هل" كلمتان بائنتان قائمتان بأنفسهما؛ ألا ترى أن أصحابنا2 أنكروا على الكسائي وغيره قراءته {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج: 15] 3 بسكون اللام من "ليَقْطَعْ" وكذلك {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] 4؛ لأن "ثم" قائمة بنفسها؛ لأنها على أكثر من حرف واحد، وليست كواو العطف وفائه؛ لأن تينك ضعيفتان متصلتان بما بعدهما؛ فلطفتا عن نية فصلهما وقيامهما بأنفسهما.
__________
1 أي لم تحلون بعضًا وتحرمون بعضًا، والله عز وجل لم يحرم شيئًا من ذلك؛ فكله حلال.
انظر/ تفسير مختصر الطبري "ص123".
الأسلوب الإنشائي في صورة استفهام غرضه التحقير والتوبيخ لفكرهم ومعتقداتهم.
الشاهد في الآية حذف همزة الوصل أيضًا.
2 أصحابنا: يقصد منهم المبرد الذي اتهم مثل الكسائي وغيره بالتحريف واللحن في قراءتهم على هذه الشاكلة؛ حيث كانوا يقرأون {ثم لْيَقْطَعْ} بسكون اللام، وكذلك: {لْيَقْضُوا تفثهم} .
3 {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} قرأ هذه الآية كما ذكرنا سابقًا بسكون اللام كل من الكسائي وعاصم وغيرهما، وأنكر عليهم هذه القراءة ابن جني والمبرد وغيرهما أيضًا.
وقوله تعالى: {ثُمَّ لِيَقْطَعْ} أي ثم ليختنق.
4 {ثُمَّ لْيَقْضُوا} أي ليقضوا ما عليهم من مناسك حجهم من حلق وطواف ورمي جمرة وموقف وغيرها. انظر/ تفسير مختصر الطبري "ص293".
الشاهد في هذا الجزء من الآية قراءة {لْيَقْضُوا} بسكون اللام كما وضحنا سابقًا.

(2/18)


وكذلك لو كان حرف التعريف في نية الانفصال؛ لما جاز نفوذ الجر إلى ما بعد حرف التعريف. وهذا يدل على شدة امتزاج حرف التعريف بما عرفه؛ وإنما كان كذلك لقلته وضعفه عن قيامه بنفسه، ولو كان حرفين؛ لما لحقته هذه القلة، ولا جاز تجاوز حرف الجر له إلى ما بعده.
ودليل آخر يدل على شدة اتصال حرف التعريف لما دخل عليه، وهو أنه قد حدث بدخوله معنى في ما عرفه لم يكن قبل دخوله، وهو معنى التعريف؛ فصار المعرف كأنه غير ذلك المنكر وشيء سواه؛ ألا ترى إلى إجازتهم الجمع بين رجل والرجل، غلام والغلام قافيتين في شعر واحد من غير استكراه ولا اعتقاد إيطاء؛ فهذا يدلك على أن حرف التعريف كأنه مبني مع ما عرفه، كما أن ياء التحقير مبنية مع ما حقرته، وكما أن ألف التكسير مبنية مع ما كسرته؛ فكما جاز أن يجمع بين رجلكم ورجيلكم قافيتين، وبين درهمك ودراهمكم؛ كذلك جاز أيضًا أن يجمع بين رجل والرجل؛ لأن النكرة شيء سوى المعرفة، كما أن المكبر غير المصغر، وكما أن الواحد غير الجمع؛ فهذا أيضًا دليل قوي يدل على أن حرف التعريف مبني مع ما عرفه أو كالمبني معه.
فأما ما يحتج به الخليل1 من انفصاله عنه بالوقوف عليه عند التذكر؛ فإن ذلك لا يدل على أنه في نية الانفصال منه؛ لأن لقائل أن يقول: إنه حرف واحد؛ ولكن الهمزة لما دخلت على اللام، فكثر اللفظ بها أشبهت اللام بدخول الهمزة عليها من جهة اللفظ لا المعنى ما كان من الحروف على حرفين نحو "هل"، و"لو"، و"من"، و"قد"؛ فجاز فصلها فى بعض المواضع. وهذا الشبه اللفظي موجود في كثير من كلامهم؛ ألا ترى أن أحمد وبابه مما ضارع الفعل لفظًا؛ إنما روعيت فيه مشابهة اللفظ فمنع ما يتختص بالأسماء، وهو التنوين، وجذب إلى حكم الفعل من ترك التنوين.
__________
1 انظر الكتاب "2/ 64".

(2/19)


ومن الشبة اللفظي ما حكاه سيبويه1 من صرفهم جَنَدِلًا وذَلَذِلًا؛ وذلك أنه لما فقد الألف التي فى جَنَادِل2 وذَلَاذِل3 من اللفظ أشبه الآحاد نحو، عُلَبِط4 وخُزَخِز5، فصرف كما صرفا؛ وإن كان الجميع من وراء الإحاصة بالعلم أنه لا يراد هنا إلا بالجمع؛ فغلب شبه اللفظ بالواحد وإن كانت الدلالة قد قامت من طريق المعنى على إرادة الجمع.
ومن شبه اللفظ أيضًا أنك لو سميت رجلًا بـ "أَنْظُرُ"؛ لمنعته الصرف للتعريف ووزن الفعل، ولو سميته بـ "أَنْظُور" من قول الشاعر:
وإنني حيث ما يُشري الهوى بصري ... من حيث ما سلكوا أدنو فأنظور6
لصرفته لزوال لفظ الفعل وإن كنا نعلم أن الواو إنما تولدت عن إشباع ضمة الظاء؛ وأن المراد عند الجميع "أنظر".
__________
1 انظر الكتاب "2/ 16".
2 جَنَادِل: "م" جُنَادِل: الشديد العظيم. القاموس المحيط "3/ 352" مادة/ جندل.
3 ذلاذل: ما يلي الأرض من أسافل القميص، الواحد ذُلْذُل، وذِلْذِل. القاموس "3/ 3798".
4 رجل علبط: ضخم عظيم. القاموس المحيط "2/ 374" مادة/ علبط.
5 رجل خزخز: غليظ قوي كثير العضل. القاموس المحيط "2/ 174" مادة/ خزز.
6 يشري: استعارة مكنية حيث يشبه الهوى الذي انتشر وملأ بصره بالشري وهي بثور حمر كالدراهم.
الهوى: العشق "ج" أهواء. القاموس المحيط "4/ 404".
بصري: البصر العين أو قوة الإدراك "ج" أبصار. القاموس المحيط "3/ 373" مادة/ بصر.
سلكوا: سلك سلوكًا: دخل ونفذ. القاموس المحيط "3/ 307" مادة/ سلك.
أدنو: دنا، يدنو، دنوًا: أي قرب وأدنوا أي أقرب. القاموس المحيط "4/ 329" مادة/ دنا.
أنظور: أي نظر إلى الشيء وأبصره وتأمله بعينه وتفكر وتدبر. القاموس المحيط "2/ 145".
الشاهد فيه: أنه أشبع ضمة الظاء فأصبحت أنظور بدلًا من أنظر.
والأسلوب إنشائي في صورة توكيد، لتقرير حقيقة تجول بصره وتفكره في الهوى وأموره، حيث أنه يجول ببصره فى مكان ينتشر فيه الهوى.
ويقرأ يشري نسبة إلى الشري ويسري أي ينتشر.

(2/20)


وأنشدنا أبو علي لعنترة:
ينباع من ذفري غصوبٍ جسرة ... زيافة مثل الفنيق المكدم1
وقال: أراد "ينبع"، فأشبع فتحة الباء.
فإن سأل سائل فقال: إذا كان "ينباع" إنما هو إشباع "ينبع"؛ فما تقول في "ينباع" هذه اللفظة إذا سميت بها رجلًا؟ أتصرفه معرفة أم لا؟
فالجواب: أن سبيله أن لا يصرف معرفة؛ وذلك أنه وإن كان أصله "ينبع"، فنقل إلى "ينباع"؛ فإنه بعد النقل قد أشبه مثالًا آخر من الفعل، وهو "ينفعل"، نحو "ينقاد"، و"ينحاز"؛ فكما أنك لو سميت رجلًا بـ "ينقاد" و"ينحاز"؛ لما صرفته معرفة؛ فكذلك ينباع وإن كان قد فقد لفظ ينبع، وهو يفعل؛ فقد صار إلى ينباع الذي هو بوزن ينحاز.
__________
1 البيت ينسب إلى عنترة العبسي وهو فى ديوانه ومن معلقاته.
وعنترة هو: أبو المغلس عنترة بن شداد العبسي، وأمه زبيبة وهى أمة حبشية، وقد استعبده أبوه على عادة العرب فى استعباد أبناء الأماء إلى أن فرض نفسه بقوته وبسالته وشجاعته على والده حتى اعترف بنسبه، وكان عنترة بطلًا شجاعًا كبير النفس رقيق القلب رحب الصدر عفيفًا، هاجت شاعريته وازدادت واتسع خياله، واشتهر شعره ولا سيما معلقته هذه التي منها هذا البيت وقد سميت معلقته بالذهبية.
ينباغ: أصلها ينبع. اللسان "8/ 453".
الذفري: ما خلف الأذن. القاموس "2/ 35".
الجسرة: قال الفيروز أبادي: ناقة جسرة ومتجاسرة ماضية. القاموس "1/ 390" مادة/ جسر.
زيافة: فعل زاف أي أسرع فى تبختر وخيلاء. القاموس "3/ 150" مادة/ زاف.
الفنيق: الفحل المقدم لا يركب لكرامته على أهله. القاموس "3/ 277" مادة/ فنيق.
المكدم: الفحل إذا كان قويًا نيب فيه. اللسان "12/ 510".
ويقول عنترة: ينبع هذا العرق من خلف أذن ناقة غضوب موثقة الخلق، شديدة التبختر في سيرها مثل فحل من الإبل قد كدمته الفحول، وقد شبهها بالفحل فى تبخترها ووثاقة خلقها.
الشاهد في البيت: إشباع فتحة ينبع فأصبحت ينباع، وقد أشبع الفتحة لإقامة الوزن فتولد عن إشباعها ألف.
إعراب الشاهد: ينباع: فعل مضارع مرفوع.

(2/21)


فإن قلت: إن ينباع: يفعال، وينحاز: ينفعل، وأصله يَنْحَوِز؛ فكيف يجوز أن تشبه ألف يفعال بعين ينفعل؟
فالجواب: أنا إنما شبهناه به شبهًا لفظيًا؛ فساغ1 لنا ذلك، ولم نشبهه شبهًا معنويًا؛ فيفسد ذلك علينا، على أن الأصمعي قد ذهب فى ينباع إلى أنه ينفعل، وقال: يقال: انباع الشجاع ينباع انبياعًا: إذا انخرط من الصف ماضيًا؛ فهذا ينفعل لا محالة لأجل ماضيه ومصدره، لأن انباع لا يكون إلا انفعل، والانبياع لا يكون إلا انفعالًا.
وأنشد الأصمعي، وقراته على أبي سهل أحمد بن محمد عن أبي العباس محمد بن يزيد:
يطرق حلمًا وأناة معًا ... ثمت ينباع انبياع الشجاع2
فإذا جاز أن يعتقد في "ينباع" أنه ينفعل؛ فهو بأن يقوى شبهه، وهو يراد به يفعل، بينفعل نحو ينحاز وينقاد؛ أجدر. وهذا الشبه اللفظي أكثر من أن أضبطه لك؛ فكذلك جاز أن تشبه اللام لما دخلت الهمزة عليها فكثرتها فى اللفظ بما جاء من الحروف على حرفين نحو: "هل"، و"قد"، و"لو"، وكما جاز الوقوف عليها مع التذكر لما ذكرناه من مشابهتها قد، وبل؛ كذلك جاز أيضًا قطعها فى المصراع الأول ومجيء ما تعرف بها في المصراع الثاني نحو ما أنشدناه لعبيد، وما جرى مجراه.
__________
1 فساغ: أي طاب وهنؤ.
2 ذكر عجز البيت صاحب اللسان في مادة "ب وع" "8/ 23" دون أن ينسبه؛ بينما نسبه المفضل الضبي إلى السفاح بن بكير اليربوعي.
يطرق: يدخل فيه ويستغرق من باب دخل فهو طارق. مادة "ط ر ق". لسان "10/ 217".
حلمًا: حلم حلمًا أي تأنى وسكن عند غضب أو مكروه مع قدرة وقوة، والحلم العقل أيضًا.
أناة: الحلم والوقار. القاموس المحيط "4/ 301" مادة/ أني.
انبياع: ينباع، انبياع أي يتحرك ويتقدم الصف. لسان العرب "8/ 345" مادة/ نبع.
الشجاع: الجريء المقدام "ج" شجعان. مادة "ش ج ع". القاموس المحيط "3/ 43".
الشاهد في البيت إشباع فتحة الباء فتحول الإشباع بالفتح إلى ألف فأصبحت: ينباع، انبياع.
إعراب الشاهد: ينباع: فعل مضارع مرفوع لأنه لم يسبقه ناصب أو جازم.

(2/22)


وأما قوله سبحانه: {أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} [الأنعام: 144] ، وقوله: {أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59] ؛ فإنما جاز احتمالهم لقطع همزة الوصل مخافة التباس الاستفهام بالخبر، وأيضًا فقد يقطعون في المصراع الأول بعض الكلمة وما هو منها أصل، ويأتون بالبقية في أول المصراع الثاني؛ فإذا جاز ذلك فى أنفس الكلم، ولم يدل على انفصال بعض الكلمة من بعض؛ فغير منكر أيضًا أن يفصل لام المعرفة في المصراع الأول.
ولا يدل ذلك على أنها عندهم في نية الانفصال، كما لم يكن ذلك في ما هو من أصل الكلمة، قال:
يا نفسِ أكلا واضطجا ... عًا نفسِ لست بخالدة1
وهو كثير.
ومنه قول الأعشى:
حل أهلي ما بين دُرْنِي فبادو ... لي، وحلت عُلْوِيَّةً بالسِّخَال2
__________
1 يا نفس: أسلوب إنشائي في صورة نداء غرضه التحذير.
اضطجاعًا: ضجع اضطجاعًا: إذا وضع الرجل جنبه بالأرض، وبابه قطع وخضع.
خالدة: الخلد: دوام البقاء، وبابه دخل القاموس المحيط"1/ 291" مادة/ خلد.
الشاهد فيه: جواز الانفصال فى أصل الكلمة وذلك في قولة "اضطجا/ عًا".
2 نسب البيت صاحب اللسان إلى الأعشى فى مادة "س خ ل" "11/ 332".
الأعشى: هو أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل، من شعراء الطبقة الأولى فى الجاهلية، وأحد أصحاب المعلقات، وكان يغني بشعره فسمي صناجة العرب.
حل: أي نزل. ويقال حل بالمكان أي نزل به. مادة "ح ل ل". القاموس "3/ 359".
درني: اسم موضع بناحية اليمامة أيضًا ولكنه بطن فلج، وفلج هذه اسم نمر وقيل اسم موضع وقيل اسم واد.
علوية: يقصد العالية، وهي ما فوق أرض نجد إلى تهامة.
السخال: موضع بناحية اليمامة.
الشاهد فيه: جواز الانفصال في أصل الكلمة أيضًا في مثل قوله "بادو/ لي".

(2/23)


وإذا جاز قطع همزة الوصل التي لا اختلاف بينهم فيها نحو ما أنشده أبو الحسن:
ألا لا أرى إثنين أحسن شيمة ... على حدثان الدهر مني ومن جمل1
ونحو قول الآخر:
يا نفس صبرًا كل حي لاقِ ... وكل إثنين إلى افتراق2
وقول الآخر:
إذا جاوز الإثنين سر فإنه ... بنشر وتكثير الحديث قمين3
__________
1 لا أرى: أسلوب نفي غرضه التعظيم.
شيمة: الشيمة الخلق "ج" شيم.
حَدَثان: تطلق على الليل والنهار، وحدثان الدهر: أي نوائبه وحوادثه.
الدهر: مدة العالم من بدء وجوده إلى انقضائه، والزمان الطويل "ج" أدهر ودهور.
الشاهد فيه: جواز قطع همزة الوصل فى قوله "إثنين".
إعرابه: إثنين: مفعول به منصوب بالمفعولية، وعلامة نصبه الياء عوضًا عن الفتحة لأنه مثنى.
2 يا نفس: أسلوب إنشائي في صورة نداء غرضه النصح والإرشاد.
لاق: أي لاقٍ ربه وهي كناية عن الموت.
افتراق: أي مفارق بعضهم بعضًا، أي مفترقان.
الشاعر يوجه النداء إلى نفسه ويأمرها بالصبر؛ فكل حي لا بد أن يلاقي ربه وكل اثنين لا بد أن يفترقا.
الشاهد فيه: جواز قطع همزة الوصل فى قوله "إثنين".
إعراب الشاهد: إثنين: مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة جره الياء.
3 البيت نسبه صاحب اللسان إلى قيس بن الخطيم.
جاوز: أي تعدى وخلف.
سر: السر ما يكتمه المرء في نفسه "ج" أسرار.
قمين: أي جدير "ج" قمناء. القاموس المحيط "4/ 261".
الشاعر يؤكد على ضرورة عدم مجاوزة السر لاثنين لأن هذا يؤدي إلى نشره وانتشاره وبثه وتكثيره، وهذا جدير أن يحدث عند مخالفة السر لأكثر من اثنين.
الشاهد فيه: جواز قطع همزة الوصل أيضًا فى قوله "إثنين".
إعراب الشاهد: الاثنين: مفعول به منصوب بالمفعولية.

(2/24)


فإنه يجوز قطع الهمزة التي هي مختلف في أمرها، وهي مفتوحة أيضًا، مشابهة لما لا يكون من الهمز إلا قطعًا، نحو همزة أحمر وأصفر ونحوهما، أولى وأجدر.
فإن قال قائل: ما الفرق بينك وبين من قلب عليك هذه الطريق؟ فقال: ما تنكر أن يكون إفضاؤهم بجر الجار إلى ما بعد حرف التعريف في نحو: "مررت بالرجل"، و"نظرت إلى الغلام"؛ لم يجز من حيث اشتد امتزاج حرف التعريف بما عرفه على ما ذهبت إليه؛ بل إنما جاز تجاوز حرف الجر إلى ما بعد حرف التعريف وإن كان حرفه "ال" هذين الحرفين -أعني الهمزة واللام- من حيث اطرد الحذف في هذه الهمزة لكثرة استعمالها لها؛ فلما فقدت في الوصل من اللفظ، وثبتت اللام وحدها صارت كأنها هي حرف التعريف وحدها، وصارت الهمزة كأنها ليست من أصل حرف التعريف لحذفها في أكثر الأحوال.
فالجواب عن هذه الزيادة: أن في جمعهم بين رجل والرجل، وغلام والغلام قافيتين في شعر واحد من غير استكراره ولا ضرورة إبطاء؛ ما دل على أن بين المعرفة فى هذا والنكرة فرقًا قد أبان أحدهما من صاحبه، وصيره كأنه كلمة أخرى، ولم يكن ذلك إلا لما دخل الكلمة من حرف التعريف الممازج لها المشابه لياء التحقير وألف التكسير في نحو رجيل ودراهم؛ فلما ضارعت لام التعريف ياء التحقير وألف التكسير وكانت تانيك مصوغتين في نفس المثال صوغ الأصول التي تتبارى في اللزوم؛ دل ذلك على شدة امتزاج حرف التعريف بما عرفه، ولم يمازجه هذه الممازجه المؤكدة إلا بكونه على حرف واحد؛ ولا سيما ساكن، ولو كان حرفين بمنزله "هل"، و"بل"، و"قد"؛ لما اتصل بالاسم هذا لاتصال المفرط، لأنه كان يقدر فيه الانفكاك حينئذ والانفصال.
فإن قال قائل: ألست تقول: مررت بهذا، فتجاوز عمل الباء إلى ذا؛ فتجره وبينهما "هاء" وهي على حرفين، فما تنكر أيضًا أن يكون حرف التعريف "آل" هذين الحرفين، أعني الهمزة واللام، ويكون تجاوز الجار لهما إلى ما بعدهما في نحو: مررت بالرجل كتجاوز الجار قبل "ها" إلى"ذا" في قولك: مررت بهذا؟
فالجواب: أن بين موضعين فرقًا، وذلك أن "ها" إنما معناها التنبيه، والتنبيه ضرب من التوكيد.

(2/25)


ألا ترى أنك إذا قلت: "السلام عليكم"؛ فأنت مخبر غير مؤكد؛ فإذا قلت: "ها السلام عليكم"؛ كنت بالتنبيه مؤكدًا؛ فلما كانت هذه حال "ها" ضارعت عندهم "ما" المؤكدة نحو قوله عَزَّ اسْمُهُ: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] 1، و: {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] 2 أي: فبنقضهم، وعن قليل. فكما جاز لـ "ما" هذه أن تعترض بين الجار والمجرور مؤكدة كما زيدت "ما" في قوله" {عَمَّا قَلِيلٍ} ونحوه، وليس كذلك حرف التعريف؛ لأنه ليس الغرض فيه التوكيد؛ وإنما الغرض نقل النكرة إلى معنى المعرفة؛ فهذان معنيان كما تراهما متباينان3، وأنت تجد معنى مررت بذا كذا معنى مررت بهذا، وليس بينهما أكثر من توكيد الكلام على المعنى الأول، ولا تجد بينهما الفرق الذي تجده بين مررت برجل، ومررت بالرجل؛ فدل هذا على أن اتصال حرف التعريف بما عرفه ليس كاتصال "ها" بما نبه عليه، قال تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ} [النساء: 109] 4.
وقال الشاعر:
وقفنا، فقلنا: ها السلام عليكم ... فأنكرها ضيق المجم غيور5
__________
1 نقض: أي أفسد بعد إحكام.
ميثاق: عهد "ج" مواثيق.
الشاهد في الآية إضافة "ما" المؤكدة للتوكيد في قوله "فيما".
2 "عما قليل" أصله "عن قليل" واعترضت "ما" المؤكدة للتوكيد بين الجار والمجرور.
3 متباينان: مختلفان.
4 جادلتم: ناقشتم وخاصمتم.
الشاهد في الآية اتصال "ها" التنبيه بالمعرفة "أنتم".
إعراب الشاهد: ها: أداة تنبيه مبنية لا محل لها من الإعراب.
5 المجم: الصدر: ضيق المجمم: أي ضيق الصدر. لسان العرب "12/ 106".
أنكر: جهل وقيل عاب ونهى.
غيور: يقال غار الرجل على امرأته: أي ثارت نفسه لإبدائها زينتها ومحاسنها لغيره، وكذا المرأة؛ فهو غيور وهي غيورة "ج" غير.
الشاهد في البيت اتصال "ها" التنبيه بالمعرفة "السلام".
إعراب الشاهد:
ها: أداة تنبيه مبنية لا محل لها من الإعراب.
السلام: مبتدأ مرفوع.
والبيت ذكره صاحب اللسان في مادة "ج م م" ونسبه لابن الأعرابي "12/ 106".

(2/26)


وقال الآخر:
ها إنها إن تضق الصدور ... لا ينفع القُل ولا الكثير1
وبذلك على أن "ها" لم يتجاوزها حرف الجر إلى "ذا" من حيث كانت شديدة الاتصال به على ما يظنه هذا السائل بيت الكتاب، وهو قوله:
ونحن اقتسمنا المال نصفين بيننا ... فقلت: لها هذا لها ها وذا ليا2
أي: وهذا ليا؛ فتقديم "ها" على حرف العطف بدل على أنه ليس متصلًا بـ "إذا".
وإذا جاز أن يعترضوا بـ "ما" بين الجار والمجزوم وليس فيها غرض أكثر من التوكيد نحو قوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ} [النساء: 78] 3، و {أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] 4، و {فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَدًا}
__________
1 يؤكد الشاعر على فكرة محدودة وهي أن الصدور إذا ضاقت لا ينفع معها القل ولا الكثير.
وقوله: "إنها" أسلوب توكيد، قوله: "لا ينفع" أسلوب نفي، والنفي والتوكيد كلاهما يوضح الفكرة ويؤكد المعنى الذي يرمي إليه الشاعر.
والمقابلة بين "القل والكثير" تبرر المعنة بالتضاد وتزيده وضوحًا.
الشاهد في قوله "ها إنها" حيث اتصلت "ها" التنبيه بحرف التوكيد إن.
ويبدو من الأمثلة السابقة أن أداة التنبيه "ها" قد تتصل بالضمير "ها أنتم" وقد تتصل بالاسم المعرف "ها السلام عليكم"، وقد تتصل بالمعرف "ها إنها".
2 يقول الشاعر: إننا اقتسمنا المال نصفين بيني وبينها فقلت لها: هذا لك وهذا لي.
وأسلوب البيت خبري.
الشاهد فيه قوله "ها وذا ليا".
3 يدرككم: أدرك: لحق وبلغ ونال. مادة "درك" القاموس المحيط "3/ 301".
الشاهد فيه: اعتراض "ما" بين الجازم والمجزوم وهي للتوكيد ليس أكثر.
4 سبب نزول هذه الآية كما أخرجها ابن مدويه وغيره عن ابن عباس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة ذات يوم؛ فدعا فقال في دعائه: "يا الله يارحمن"، فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين؛ فنزل قوله تعالى {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .
انظر/ مختصر تفسير الطبري "ص358".

(2/27)


[مريم: 26] 1، و {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [الإسراء: 28] 2، مع أن الجازم أضعف من الجار؛ لأن عوامل الأفعال في الجملة أضعف من عوامل الأسماء؛ فالاعتراض بـ "ما" ومشابهتها "ها" بين الجار والمجرور؛ أولى بالجواز؛ فهذا عندي جواب هذه الزيادة والانفصال منها، وليس يجاب عنها بأبلغ ولا أحوط مما ذكرناه. فاعرفه إن شاء الله.
فقد صح بما أوردناه ولخصناه واستقصيناه: أن حرف التعريف إنما هو اللام وحدها دون الهمزة، ويبقى ههنا بعد هذا كله أربعة سؤالات، وهي:
أنه إذ صح أن اللام وحدها حرف التعريف؛ فما الذي دعاهم إلى أن جعلوا مفيد التعريف حرفًا واحدًا؟ فهذا سؤال واحد.
والآخر: إذ جعلوه حرفًا واحدًا؛ فلم جعلوه ساكنًا؟
والثالث: إذ جعلوه حرفًا واحدًا ساكنًا؛ فلم جعلوه اللام دون سائر الحروف؟
الرابع: إذ جعلوه حرفًا واحدًا ساكنًا، وهو اللام؛ فلم جعلوه في أول الكلمة دون آخرها؟
واعلم أن الأجوبة عن هذه المسائل وإن اختلفت جهاتها؛ فإنها ترجع إلى تصحيح غرض واحد وتأكيده، وإذا كانت الأجوبة تنساق إلى وجه واحد؛ دل ذلك على صحتها في النفس وشهادة بعضها لبعض.
فأما لِمَ جعل حرف التعريف حرفًا واحدًا؛ فقد تقدم من قولنا ما يكون جوابًا له، وهو أنهم لما أرادوا خلطه بما بعده ومزجه به لما أحدث فيه من انتقال المعنى؛ أشبعوا ما قصدوا له بأن جعلوه على حرف واحد ليضعف عن انفصاله مما بعده؛ فيعلم بذلك أنهم قد اعتزموا على خلطه به.
__________
1 أي مهما رأيت من أحد، ويقال أن الكلام كله كلام عيسى لأمه، هكذا قال وهب، حيث قال عيسى لأمه أنا أكفيك الكلام فإما ترين من البشر.... إلخ.
انظر تفسير ابن كثير "3/ 118".
2 يقول عز وجل: إن سألوك فلم يكن عندك ما تعطيهم فأعرضت عنهم بوجهك ابتغاء رزق تنتظره من الله عز وجل فقل لهم قولًا لينًا وجميلًا.

(2/28)


وأما لم سَكَّنُوه؛ فالجواب عنه أن تسكينه أشد وأبلغ في إضعافهم إياه وإعلامهم حاجته إلى ما اتصل به؛ لأن الساكن أضعف من المتحرك وأشد حاجة وافتقارًا إلى ما يتصل به.
وأما لم اختاروا له اللام دون سائر حروف المعجم، فالجواب عنه أنهم إنما أرادوا إدغام حرف التعريف في ما بعده؛ لأن الحرف المدغم أضعف من الحرف الساكن غير المدغم، ليكون إدغامه دليلًا على شدة اتصاله وأقوى منه علية لو كان ساكنًا غير مدغم؛ فلما آثروا إدغامه1 في ما بعده لما ذكرناه اعتبروا حروف المعجم؛ فلم يجدوا فيها حرفًا أشد مشاركة لأكثر الحروف من اللام. وقد ذكرنا هذا وغيره من حال اللام عند ذكر مخارج الحروف ومدارجها في أول الكتاب؛ فعدلوا إلى اللام لأنها تجاور أكثر حروف الفم التي هي معظم الحروف، ليصلوا بذلك إلى الإدغام المترجم عما اعتزموه من شدة اتصال حرف التعريف بما عرفه؛ فيستدل بذلك على أنه قد نقله عن معنى التنكير إلى معنى التعريف كما نقلت ياء التحقير معنى التكبير، وأفادت التصغير، وكما أفادت ألف التكسير معنى الجمع بعد الإفراد، ولو جاءوا بغير اللام للتعريف؛ لما أمكنهم أن يكثر إدغامها كما أمكنهم ذلك مع اللام.
وإدغامهم إياها مع ثلاثة عشر حرفًا، وهي: التاء، والثاء، والدال، والذال، والراء، والزاي، والسين، والشين، والصاد، والضاد، والطاء، والظاء، والنون، وذلك قولهم: التمر، الثريد، والدبس، والذرق2، والرطب، والزبد، والسفرجل3، والشعير، والصناب4، والضرو5، والطبخ6، والظبي، والنبق7.
__________
1 آثروا إدغامه: أي اختاروا وفضلوا إدغامه؛ ذلك حتى يكون إدغامه دليلًا قويًا على شدة اتصاله.
2 الذرق: نبات كالفسفسة تسميه الحاضرة "الحندقوقي". لسان العرب "10/ 108".
3 السفرجل: ثمر قابض مقو مدر مشه مسكن للعطش. القاموس المحيط"/ 396".
4 الصناب: خليط ما بين الزبيب والخردل يتخذ منه الصباغ. القاموس المحيط "1/ 93".
5 الضرو: شجر طيب الريح يستاك به. لسان العرب "14/ 483".
6 الطبخ: طبخ طبخًا: أي أنضجه على النار بالماء. مادة "ط ب خ" القاموس "1/ 264".
7 النبق: ثمرة السدر. القاموس المحيط "3/ 284".

(2/29)


ويدلك على إيثارهم الإدغام للام التعريف -لما قصدوا من الإبانة عن غرضهم- أنك لا تجد لام التعريف مع واحد من هذه الأحرف الثلاثة عشر إلا مدغمًا في جميع اللغات، ولا يجوز إظهارها ولا إخفاؤها معهن ما دامت للتعريف البتة، وأنك قد تجد اللام إذا كانت ساكنة وهي لغير التعريف مظهرة غير مدغمة مع أكثر هذه الحروف الثلاثة عشر؛ وذلك نحو "التفت"، و"هل ثم أحد"، و"هل دخل"، و"ألزم به"، و"هل رأى ذلك أحد"، و"ألسنة"، وأنشدوا:
تقول إذا أنفق مالًا للذة ... فكيهة هشيء بكفيك لائق1
أي: هل شيء؛ فأدغم، وليس ذلك بواجب كوجوب إدغام الشم، والشراب، ولا جميعهم يدغم هل شيء، ولا جميعهم يقرأ "بَتُّوثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" [الأعلى: 16] قرأها الكسائي2.
وكذلك: "هَثُّوِّبَ الْكُفَّارُ" [المطففين: 36] إنما قرأها بالإدغام الكسائي3 أيضًا.
وكذلك قول مزاحم العقيلي:
فذر ذا ولكن هتعين متيمًا ... على ضوء برق آخر الليل ناصب4
أي: هل تعين، وذلك غير واجب؛ وإنما هو جائز، فتحييرهم في هذه الأشياء بين الإدغام وتركه دائمًا، وإجماعهم مع لام التعريف على التزامه البتة؛ دليل قاطع على عنايتهم بإدغام حرف التعريف؛ وإنما ذلك لما ذكرت لك من تنبيههم على مزجه بما بعده.
__________
1 البيت لطريف بن تميم العنبري كما في الكتاب "2/ 417".
اللائق: المحتبس الباقي. لسان العرب "10/ 334".
فكيهة: اسم امرأة.
2 هي قراءة الكسائي وحمزة وهشام: انظر/ إتحاف فضلاه البشر "ص437".
3 هذه قراءة الكسائي وأبي عمرو وحمزة. انظر/ السبعة "ص676".
ونص سيبويه على أن أبا عمرو قرأها بالإدغام. انظر/ الكتاب "2/ 417".
4 نسب البيت إليه في الكتاب "2/ 417".
الناصب: المنصب المتعب. جاء على النسب كتامر ولابن.

(2/30)


وأما لِمَ جعلت لام التعريف في أول الاسم دون آخره؟
فالجواب عن ذلك من وجهين:
أحدهما: هو اللطيف القوي -أنهم إنما خصوا لام التعريف بأول الاسم دون آخره من قبل أنهم صانوه، وشحوا عليه لحاجتهم إليه، فجعلوه في موضع لا يضاف فيه حرف صحيح البتة، واللام حرف صحيح وذلك الموضع هو أول الكلمة؛ ولما كان آخر الكلمة ضعيفًا قابلًا للتغيير في الوقف وغيره، وقد يحذف فيه أيضًا ما هو من أنفس الكلم نحو قولهم في الترخيم: "يا حار"، و"يا منص"1، وغير ذلك كرهوا أن يجعلوا اللام في آخر الاسم؛ فيتطرق عليها الحذف في بعض الأحوال مع قوة حاجتهم إليها وشدة عنايتهم بها؛ فحصنوها، واحتاطوا عليها بأن وضعوا في أول الاسم لتبعد عن الحذف والاعتلال؛ فهذا هو الجواب القوي الحسن اللطيف.
والجواب الآخر: أنها حرف زائد لمعنى، وحرف المعاني في غالب الأمر إنما مواقعها في أوائل الكلم لا سيما وهي لام، فأجريت مجرى لام الابتداء، ولام الإضافة، ولام الأمر، وغير ذلك؛ فقدمت كما قدمن.
والقول الأول هو الوجه، وهذا الثاني لا بأس به.
قد أتينا على أحكام لام التعريف كيف حالها في نفسها، وأثبتنا من الحجاج في ذلك ما هو مقنع كاف، وبقي علينا أن نذكر مواقعها في الكلام، وعلى كم قسمٍ تتنوع فيه.
اعلم أن لام التعريف تقع من الكلام فى أربعة مواضع، وهي: تعريف الواحد بعهد، وتعريف الوحد بغير عهد، وتعريف الجنس، وزائدة.
الأول: نحو قولك لمن كنت معه في ذكر رجل: قد وافى الرجل، أي: الرجل الذي كنا في حديثه وذكره.
الثاني: قولك لمن لم تره قط ولا ذكرته: يا أيها الرجل أقبل؛ فهذا تعريف لم يتقدمة ذكر ولا عهد.
__________
1 هما ترخيم: حارث ومنصور.

(2/31)


الثالث نحو قولك: الملك أفضل من الإنسان، والعسل حلو، والخل حامض، وأهلك الناس الدينار والدرهم1؛ فهذا التعريف لا يجوز أن يكون عن إحاطة بجميع الجنس ولا مشاهدة له؛ لأن ذلك متعذر غير ممكن؛ لأنه لا يمكن أحد أن يشاهد جميع الدراهم، ولا جميع الدنانير، ولا جميع العسل، ولا جميع الخل، وإنما معناه أن كل واحد من هذا الجنس المعروف بالعقول دون حاسة المشاهدة، أفضل من كل واحد من الجنس الآخر، وأن كل جزء من العسل الشائع في الدنيا حلو، وكل جزء من الخل الذي لا تمكن مشاهدة جميعه حامضًا.
الرابع: قوله عز وجل: {الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 71] ؛ فالألف واللام في "الآن" زائدة، وكذلك لام الذي والتي وتثنيتهما وجمعهما، ولام اللات والعزى في قول أبي الحسن2، ولا أعرف لسيبويه فيه خلافًا.
ولهذا نظائر3 سأذكرها إن شاء الله تبارك وتعالى.
فالذي يدل على أن اللام في "الآن" زائدة؛ أنها لا تخلو من أن تكون للتعريف كما يظن مخالفنا أو تكون زائدة لغير التعريف كما نقول نحن.
فالذي يدل على أنها لغير التعريف أنا اعتبرنا جميع ما لامه للتعريف؛ فإذًا إسقاط لامه جائز فيه، وذلك نحو: الرجل ورجل، والغلام وغلام، ولم يقولوا: "افعله آن"، كما قالوا: "افعله الآن".
فدل هذا على أن اللام فيه ليست للتعريف، بل هي زائدة كما يزاد غيرها من الحروف، وإذا ثبت أنها زائدة؛ فقد وجب النظر في ما تعرف به الآن؛ فلا يخلو من أحد وجوه التعريف الخمسة، إما لأنه من الأسماء المضمرة4، أو من
__________
1 تشبيه استعاري حيث شبه الدينار والدرهم بشيء يهلك الناس ويوردهم موارد التهلكة.
الشاهد فيه وقوع لام التعريف جنسية "أي خاصة بتعريف الجنس".
2 معاني القرآن للأخفش.
3 نظائر: "م" نظير، والنظير المثل المساوي، مادة "ن ظ ر". القاموس المحيط "2/ 145".
4 الأسماء المضمرة: هي تلك الأسماء التي يعين مسماها بقيد التكلم، كـ "أنا"، أو الخطاب كـ "أنت"، أو الغيبة ك "هو". شرح ابن عقيل "1/ 118".

(2/32)


الأسماء الأعلام1، أو من الأسماء المبهمة2، أو من الأسماء المضافة3، أو من الأسماء المعرفة باللام4.
فمحال أن يكون من الأسماء المضمرة لأنها معروفة محدودة، وليس "الآن" واحدًا منها.
ومحال أيضًا أن يكون من الأسماء الأعلام نحو زيد وعمرو؛ لأن تلك تخص الواحد بعينه، والآن يقع على كل وقت حاضر لا يخص بعض ذلك دون بعض، ولم يقل أحد أن الآن من الأسماء الأعلام.
ومحال أيضًا أن يكون من أسماء الإشارة؛ لأن جميع أسماء الإشارة لا تجد فيه لام التعريف، وذلك نحو: هذا، وهذه، وذلك، وتلك، وهؤلاء، وما أشبه ذلك.
وذهب أبو إسحاق الزجاج إلى أن "الآن" إنما تعرفه بالإشارة، وأنه إنما بني لما كانت الألف واللام فيه لغير عهد متقدم؛ إنما تقول: "الآن كان كذا وكذا"، لمن لم يتقدم لك معه ذكر الوقت الحاضر.
فأما فساد كونه من أسماء الإشارة؛ فقد تقدم. وأما ما اعتل به من أنه إنما بني لأن الألف واللام فيه لغير عهد متقدم؛ ففاسد أيضًا، لأنا قد نجد الألف واللام في كثير من الأسماء على غير تقدم عهد، وتلك الأسماء مع كون اللام فيها معربة؛ وذلك نحو قولك: يا أيها الرجل، ونظرت إلى هذا الغلام؛ فقد بطل بما ذكرنا أن يكون "الآن" من الأسماء المشار بها.
__________
1 الأسماء الأعلام: هي تلك الأسماء التي يتم تعيين مسماها مطلقًا، أي بلا قيد التكلم أو الخطاب أو الغيبة. شرح ابن عقيل "1/ 118".
2 الأسماء المبهمة: هي الأسماء التي لا يتضح معناها إلا بما يضاف إليها.
شذور الذهب "ص81".
3 الأسماء المضافة: هي تلك الأسماء التي تكسبها الإضافة تعريفًا وتخصيصًا، وهي المضاف لمعرفة وهي في درجة ما أضيف إليه. شذور الذهب "ص156".
4 الأسماء المعرفة: هي تلك الأسماء التي وضعت لتستعمل في شيء بعينه كالضمير والعلم.
شرح ابن عقيل "1/ 88".

(2/33)


ومحال أيضًا أن يكون من الأسماء المتعرفة بالإضافة؛ لأنا لا نشاهد بعده اسمًا هو مضاف إليه؛ فإذا بطلت، واستحالت الأربعة الأوجه1 المقد ذكرها؛ لم يبق إلا أن يكون معرفًا باللام نحو الرجل والغلام. وقد دلت الدلالة على أن "الآن" ليس معرفًا باللام الظاهرة التي فيه؛ لأنه لو كان معرفًا بها؛ لجاز سقوطها منه؛ فلزوم هذه اللام الآن؛ دلالة على أنها ليست للتعريف، وإذا كان معرفًا باللام لا محالة، واستحال أن تكون التي فيه هي التي عرفته؛ وجب أن يكون معرفًا بلام أخرى محذوفة غير هذه الظاهرة التي فيه، بمنزلة أمس في أنه تعرف بلام مرادة، والقول فيهما واحد؛ ولذلك بنيا لتضمنهما معنى حرف التعريف.
وهذا رأي أبي علي، وعنه أخذته، وهو الصواب الذب لا بد من القول به.
وأما الألف واللام في "الذي" و"التي" وبابهما من الأسماء الموصولة؛ فيدل على زيادتها وجودك أسماء موصولة مثلها معراة من الألف واللام وهي مع ذلك معرفة، وتلك: من، وما وأي في نحو قولك: "ضربت من عندك"، و"أكلت ما أطعمتني"، و"لأضربن أيهم يقوم"؛ فتعرف هذه الأسماء التي هي أخوات الذي والتي بغير لام، وحصول ذلك لها بما تبعها من صلاتها دون اللام؛ يدل على أن الذي إنما تعرفه بصلته دون اللام التي فيه، وأن اللام فيه زائدة؛ إلا أنها زيادة لازمة.
فإن قال قائل: فما كانت الحاجة إلى زيادة اللام في الذي والتي ونحوهما حتى أنها لما زيدت لزمت؟
فالجواب: أن "الذي" إنما وقع في الكلام توصلًا إلى وصف المعارف بالجمل، وذلك أن الجمل نكرات، ألا تراها تجري أوصافًا على النكرات في نحو قولك: مررت برجل أبوه كريم، ونظرت إلى غلام قامت أخته؛ فلما أريد مثل هذا في المعرفة بم يمكن أن تقول: مررت بزيد أبوه كريم؛ على أن تكون الجملة وصفًا لزيد؛ لأنه قد ثبت أن الجملة نكرة، ومحال أن توصف المعرفة بالنكرة؛ فجرى هذا في الامتناع مجرى امتناعهم أن يقولوا: "مررت بزيد كريم" على الوصف؛ فإذا كان الوصف جملة نحو: مررت برجل أبوه كريم؛ لم يكن إذا أرادوا وصف المعرفة بنحو ذلك أن يدخلوا اللام
__________
1 الأوجه: قام أبو الفتح باستخدام ذلك على لغة سمعت حكاية عن الكسائي.

(2/34)


على الجملة؛ لأن اللام من خواص الأسماء، فجاءوا بـ "الذي" متوصلين به إلى وصف المعارف بالجمل، وجعلوا الجملة التي كانت صفة للنكرة صلة لـ "الذي" فقالوا: مررت بزيد أبوه منطلق، وبهند التي قام أخوها؛ فألزموا اللام هذا الموضع لما أرادوا التعريف للوصف ليعلموا أن الجملة الآن قد صارت وصفًا لمعرفة؛ فجاءوا بالحرف الذي وضع للتعريف، وهو اللام، فأولوه "الذي" ليتحصل لهم بذلك لفظ التعريف الذي قصدوه، ويطابق اللفظ المعنى الذي حاولوه.
ونظير هذا أنهم لما أرادوا نداء ما فيه لام المعرفة، ولم يمكنهم أن يباشروه بـ "يا" لما فيها من التعريف والإشارة؛ توصلوا إلى ندائها بإدخال أي بينهما، فقالوا: يا أيها الرجل؛ فالمقصود بالنداء هو الرجل، و"أي" وصلة إليه كما أن القصد في قولك: "مررت بالرجل الذي قام أخوه" أن يوصف الرجل بقيام أخيه؛ فلما لم يمكنهم ذلك لما ذكرناه توصلوا إليه بـ "الذي".
فإن قال قائل: إن الأسماء الموصولة كثيرة؛ فلم اقتصروا في وصف المعرفة على "الذي" دون "ما" و"من" و"أي"؟ وهلا قالوا: "مررت بزيد المن1 أخوه منطلق"، و"نظرت إلى محمد المن قام صاحبه"، كما تقول: "الذي أخوه منطلق" و"الذي قام صاحبه"؟
فالجواب: أنهم إنما قصدوا في هذا الموضع إصلاح لفظ الوصف على ما تقدم من قولنا، ولم يكن ينبغي مع الاحتياط لذلك أن يعدلوا إلى "من" و"ما" و"أي" دون "الذي"؛ وذلك أن "من" و"ما" كل منهما على حرفين، وليس في أوصاف شيء على حرفين؛ وإنما أقل ذلك ثلاثة نحو صعب، وخدل2، وبطل، ونجد، ومرس3؛ فلما قل لفظ "ما" و"من" عن عدد الأوصاف، وكان أصل "الذي" ثلاثة أحرف، وهو "لذي" كملت فيه العدة التي يكون عليها الوصف، وذلك نحو: "مَحِك" و"غَرِض" و"مَرِح"، فقالوا: "مررت بزيد الذي قام أخوه"، كما تقول: "مررت بزيد العمي، والمكان الندي".
__________
1 المن: والمقصود "ال + من" أي: دخول لام التعريف على بعض الأسماء الموصولة مثل "ال + ذي"؛ فلماذا لا تدخل على من، ما، أي.. إلخ؟
2 وخدل: العظيم الممتلئ. القاموس المحيط "3/ 366" مادة/ خدل.
3 مرس: الشديد المراس ذو الجلد والقوة، والذي تدرب على النوائب والخصومات ومارسها.

(2/35)


فإن قلت: فـ "أي" أيضًا على ثلاثة أحرف؛ فهلا دخلت اللام عليها، فقيل: "مررت بزيد الأي أخوه منطلق"، كما تقول: "الذي أخوه منطلق"، ويكون "الأي" في الوصف بمنزلة "الرث"1 و"الصب"2 و"الخب"3، كما كان "الذي" منزلة "العمي" و"الجوي"4 و"الندي"؟
فالجواب: أن في "أي" سرًا يمنع من هذا الذي سُمْتَه فيها، وأن الحكمة في عدولهم عنها إلى "الذي"؛ وذلك أن "أيًا" في أي موضع وقعت من كلامهم من الخبر والاستفهام والشرط والتعجب؛ فليست منفكة من معنى الإضافة؛ لأنها أبدًا بعض من كل؛ فلا بد من اعتقاد إضافتها وإرادتها لفظًا أو معنى فيها؛ فلما شاع فيها معنى الإضافة بعدت عن الصفة، فلم توضع موضعًا يُقْتَصر بها لأجله على الصفة البتة كما فعل ذلك بـ "الذي"؛ وإنما منعت الإضافة من ذلك لأنها تنافر الصفة في اللفظ والمعنى، أما في اللفظ: فلأن كل صفة معرفة، فلا بد فيها من لام المعرفة على ما تقدم، ولام المعرفة لا تجامع الإضافة لأنهما يتعقبان الكلمة، فلا يجتمعان معًا، فأما قولهم: "الحسن الوجه"، و"الكريم الأب" وبابهما؛ فإن الإضافة فيهما غير محضة5، وتقدير الانفصال فيهما واجب، ألا ترى أن المعنى: "الحسن وجهه"، و"الكريم أبوه"؛ على أن هذا الاتساع في اللفظ بالجمع بين اللام والإضافة إنما جاء في الصفات المشتقة من الأفعال6 نحو: الحسن من حَسُنَ، والظريف من ظَرُفَ، و"أي" ليست بصفة ولا جارية على فعل؛ فبعدت من أحكام الصفات.
__________
1 الرث: رديء المتاع. "ج" رثاث. القاموس المحيط "1/ 167" مادة/ رثث.
2 الصب: يقال: صب إليه أي رق واشتاق؛ فهو صب وهي صبة. القاموس المحيط "1/ 91".
3 الخب: فلان خب في الأمر أي أسرع، والخب: المخادع الغشاش لقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة خب ولا خائن". القاموس المحيط "1/ 59".
4 الجوى: مرض الصدر، وكذا إذا اشتد الوجد من عشق أو حزن. القاموس "4/ 314".
5 فإن الإضافة فيهما غير محضة: وهي أن يكون الجزء الأول بمنزلة الفعل المضارع في إفادته الحال أو الاستقبال: أي اسم الفاعل أو اسم المفعول أو صفة مشبهة، كقوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] . شرح ابن عقيل "2/ 44، شذور الذهب "326".
6 الصفات المشتقة من الأفعال: ويقصد بها أن تشتق الصفة من الفعل مثل الحسن من حسن، والظريف من ظرف

(2/36)


وأما المعنى؛ فلأن الإضافة تكسب التعريف والتخصيص، والصفة مشابهة للفعل، والفعل لا يكون إلا للنكرة؛ فأما "الذي" فتعرفه بالصلة دون اللام على ما قدمنا.
فإن قلت: فإذا كانت الصفة مشابهة للفعل، والفعل لا يكون معرفة أبدًا؛ فما بالك تقول: "مررت بزيد أخي عمرو"؛ فتصف "بأخي عمرو" وهو مضاف إضافة محضة إلى اسم علم؟
فالجواب: أن قولنا: "مررت بزيد أخي عمرو"، و"نظرت إلى هند بنت محمد"، ونحوه؛ ليست بصفات محضة؛ وإنما هي في الحقيقة عطف بيان، ولكن النحويين أطلقوا عليها الوصف لأنها تفيد ما تفيد الأوصاف، ألا ترى أن معنى "مررت بزيد أخي عمرو" كمعنى "مررت بزيد المعروف بِأُخُوَّة عمرو"، وكذلك "مررت بهند بنت محمد"؛ إنما معناه "مررت بهند المشهورة" ببنوة محمد؛ فلما كان المعنى معنى الصفات؛ جاز أن يطلق عليها أنها صفات اتساعًا لا حقيقة، وكيف يكون ذلك وقد أجمعوا أنه لا تكون الصفة معرفة إلا باللام.
ونظير هذا الإطلاق في الوصف في هذا الموضع قولهم في مررت بهذا الرجل: إن الرجل صفة لهذا، وليس في الحقيقة بصفة؛ لأن الصفة لا بد من أن تكون مأخوذة من فعل أو راجعة إلى معنى الفعل، وليس الرجل ونحوه مما بينه وبين الفعل نسبة؛ ولكنه لما كان "هذا" و"الرجل" في هذا الموضع كالشيء الواحد، والثاني منهما يفيد الأول بيانيًا وإيضاحًا، أشبه ذلك حال الصفة الصريحة نحو مررت بزيد الكريم، ونظرت إلى محمد العاقل؛ فجاز لهم أن يسموا الرجل ونحوه وصفًا مجازًا لا حقيقة؛ فلأجل ما شرحناه فى حال أي ما عدلوا عنها لتضمنها معنى الإضافة إلى الذي لأنه ليس فيه معنى إضافة، ولا ما ينافي الصفة لفظًا ولا معنى.
وكذلك "الاتي" و"اللائي"؛ لأنهما بوزن "القاضي" و"الداعي"، واللاء بوزن قولهم: "رجل مالٌ ونالٌ"، و"يوم راحٌ"1، و"كبش صاف"، و"الألى بوزن الحطم"2، و"اللبد"3،
__________
1 يوم راح: أي يوم شديد الريح. القاموس المحيط "1/ 224".
2 الحطم: رجل حطم: أي عسوف عنيف. مادة"ح ط م". لسان العرب "12/ 139".
3 اللبد: الرجل الذي يقيم بالمكان ويلزم به. مادة "ل ب د"، وهو كناية عن تقاعسه عن طلب الرزق أو السعي. لسان العرب "3/ 385".

(2/37)


و "اللواتي" بوزن "الجواري" و"الغواني" جمع غانية، فاعرف هذه النكت؛ فقد استودعتها ما لا يكاد كتاب ينطوي عليه للطفه.
ولأجل ما ذكرناه من أن "الذي" إنما وقع في الكلام وصفًا لا محالة ما وجب عندهم أن يعود ضميره عليه أبدًا بلفظ الغيبة لا الحضور، وذلك قولك: "أنت الذي قام أخوه"، ولا تقول: "أخوك" إلا في ضرورة شعر، و"أنا الذي قام صاحبه"، ولا تقول "صاحبي" إلا للضرورة؛ وإنما ذلك لأن التقدير: "أنا الرجل الذي قام صاحبه"، و"أنت الرجل الذي قام أخوه"، كما قال طرفة1:
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه ... خشاش كرأس الحية المتوقد2
ولم يقل: الذي تعرفونني. وعلى هذا كلام العرب الفصيح.
وقد جاء أيضًا الحمل فى مثل هذا على المعنى دون اللفظ، قال3:
وأنا الذي قتَّلْت بكرًا بالقنا ... وتركت تغلب غير ذات سنام4
فقال: قتلت، ولم يقل: قتل.
__________
1 طرفة: هو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، ويقال أن اسمه عمرو، وسمي طرفة ببيت قاله، وأمه وردة، وقتل وهو ابن عشرين سنة، ولذا يقال له ابن العشرين.
2 الضرب: السريع الحركة لقلة لحمه. القاموس المحيط "1/ 95".
خشاش: ذكي ماضٍ في الأمور. القاموس "2/ 272".
المتوقد: الماضي السريع التوقد في النشاط والمضار. لسان العرب "3/ 466".
وقوله "كرأس الحية" كناية الذكاء والحركة والنشاط.
الشاهد فيه قوله "الذي تعرفونه" ولم يقل "الذي تعرفونني".
يقول مفتخرًا: أنا الضرب الذي عرفتموه، والعرب تتمدح بخفة اللحم لأن كثرته داعية إل الكسل والثقل، وهما يمنعان من الإسراع في دفع الملمات وكشف المهارات، ويقول أيضًا وأنا دخال في الأمور بخفة وسرعة تشبه سرعة حركة رأس الحية، ويفتخر بيقظته وشدة ذكائه.
3 البيت لمهلهل. انظر/ المقتضب "4/ 132"، وشرح المفصل "4/ 25".
4 القنا: "م" قناة وهو الرمح الأجوف. القاموس المحيط "4/ 380".
سنام: كتل من الشحم محدبة على ظهر البعير والناقة، والسنام من كل شيء أعلاه "ج" أسنمة. القاموس المحيط "4/ 133".
ويقول المهلهل: إنني قتلت بكرًا وتركت تغلب بعد أن قتلت أكبر وأهم الشخصيات فيها فتركتها بغير سنام، والبيت خبري تقريري.
والبيت نسبه صاحب المقتضب إلى المهلهل وهو عدي بن ربيعة. انظر/ المقتضب "4/ 132".

(2/38)


وأنشدني أبو علي:
يا أبجر بن أبجر يا أنتا ... أنت الذي طلقت عام جعتا
قد أحسن الله وقد أسأتا1
فقال: طلقت، ولم يقل طلق، وله نظائر. قال أبو عثمان في كتاب الألف واللام: ولولا أنا سمعناه من الثقة يرويه؛ لما أجزناه.
فهذه أحوال اللام في الذي وبابه.
وأما اللات والعزى؛ فذهب أبو الحسن2 إلى أن اللام فيها زائدة. والذي يدل على صحة مذهبه أن اللات والعزى علمان بمنزلة يغوث3، ويعوق4، ونسر5، ومناة6، وغير ذلك من أسماء الأصنام، فهذه كلها أعلام وغير محتاجة في تعريفها إلى اللام، وليست من باب الحارث والعباس من الأوصاف التي نقلت، فجعلت علمًا، وأقرت فيها لام التعريف على ضرب من توهم روائح الصفة فيها، فتحمل على ذلك؛ فوجب أن تكون اللام فيها زائدة، ويؤكد زيادتها فيها أيضًا لزومها إياها كلزوم لام "الآن" و"الذي" وبابه.
__________
1 يقول الشاعر: إنك يا أبجر طلقت زوجتك عام جعت وهذا ليس بالغريب عليك فقد أحسن الله لك وأنت أسأت.
وقوله "يا أبجر" أسلوب إنشائي في صورة نداء غرضه التوبيخ والتحقير.
وقوله "قد أحسن ... " أسلوب توكيد، ويؤكد على إحسان الله له رغم ما فيه من إساءة.
الشاهد قوله: "طلقت" ولم يقل "طلق".
الأبيات نسبها صاحب الخزانة إلى سالم بن دارة الغطفاني.
2 أبو الحسن: الأخفش، وقد ذكر ذلك فى كتابه معاني القرآن "ص11".
3 يغوث: صنم كان لمذحج، وقيل: لقوم نوح.
4 يعوق: اسم صنم كان لكنانة.
5 نسر: صنم كان لذي الكلاع، وهم قوم يقطنون أرض حمير.
6 مناة: صنم كان لهذيل وخزاعة بين مكة والمدينة.

(2/39)


فإن قلت: فقد حكى أبو زيد: "لقيته فينة والفينة"، وقالوا للشمس "إلاهة" و"الإلاهة"، وليست "فينة" ولا "إلاهة" بصفتين؛ فيجوز تعريفهما وفيهما اللام كالحارث والعباس.
فالجواب: أن "فينة" و"الفينة"1 و"إلاهة" و"الإلاهة" مما اعتقب عليه تعريفان: أحدهما بالألف واللام، والآخر بالوضع والعلمية، ولم نسمعهم يقولون "لات" ولا "عزى" بغير لام؛ فدل لزوم اللام على زيادتها وأن ما هي فيه ليس مما اعتقب عليه تعريفان.
وأنشدنا أبو علي2:
أما ودماء لا تزال كأنها ... على قنة العزى وبالنسر عندما3
قال أبو علي: "واللام في النسر زائدة" وهو كما قال؛ لأن النسر بمنزلة "عمرو".
واعلم أنك لا تجد في كلامهم اسمًا يغلب على واحد من أمته وفيه لام التعريف لازمة له إلا وهو مشتق أو مشتق منه صفة كان أو مصدرًا؛ فالصفة نحو الحارث والعباس والحسن والمظفر.
ألا ترى أن أصل هذا أن تقول: "مررت برجل الحارث"، و"نظرت إلى آخر عباس"، و"جاءني الحارث". والمصدر نحو: "الفضل" و"العلاء"؛ وإنما دخلتهما اللام لأنك قدرتهما قبل على قول من قال: "مررت برجل فضل"، و"كلمني رجل علاء"، كما يقول:
__________
1 فينة: الفينة الساعة والحين، ويقال الفينة بعد الفينة. القاموس "4/ 256".
2 أبو علي: أنشده في المسائل الحلبيات.
والبيت لعمرو بن عبد الجن كما في اللسان "13/ 6".
3 دماء: نكرة للدلالة على الكثرة.
لا تزال: أسلوب نفي غرضه التوكيد.
كأنها: أسلوب تشبيه تمثيلي.
قنة العزى: أعلاها.
النسر: اسم صنم كان لذي الكلاع بأرض حمير.
عندما: العندم: البقم وهو شجر يصبغ به.
الشاهد فيه: زيادة اللام في نسر لأنه اسم علم والاسم العلم يندر أن تلازمه لام التعريف، ذلك أن نسرًا بمنزلة عمرو وغيره من الأسماء.
والبيت ذكره ابن منظور في مادة "أبل" ضمن أبيات نسبها إلى ابن عبد الجن. اللسان "11/ 6".

(2/40)


ماء غور1، ورجل عدل، ثم صار التقدير: مررت بالرجل الفضل والعلاء، ثم نقلته إلى العلم وفيه اللام، فأقررتها فيه على أنه الشيء بعينه، كما قال الخليل2 في الحارث والعباس.
وقد يجوز في "العزى" أن تكون تأنيث الأعز بمنزلة الفضلى من الأفضل، والكبرى من الأكبر، والصغرى من الأصغر؛ فإذا كان ذلك كذلك فاللام في "العزى" ليست بزائدة، بل هي فيها على حد اللام في الحارث والعباس والخليل. والوجه هو القول الأول وأن تكون زائدة؛ لأنا لم نسمع في الصفات العزى كما سمعنا فيها الصغرى والكبرى.
فإن قلت: فإنا لم نسمعهم أيضًا قالوا: "رجل علاء"، ولا: "مررت بالرجل العلاء"، وقد أجزت أنت أن تكون بمنزلة "رجل عدل" و"فطر" فإذا أجزت اعتقاد الصفة بالمصدر الذي ليس بصفة على الحقيقة، وإنما هو واقع موقع الصفة الصريحة؛ فأنت باعتقاد "العزى" أن تكون صفة محضة جارية على الموصوف؛ لأنها من أمثلة الصفات نحو الفضلى، والكوسى، والحسنى أجدر.
فالجواب أن اعتقاد الوصف في المصادر -وإن لم تجر أوصافًا مستعملة في اللفظ- أجدر من اعتقاد مثال الصفة وصفًا إذا لم يجر به استعمال؛ وذلك أن المصدر ليس في الأصل مما سبيله أن يوصف به؛ وإنما جرى في بعض المواضع وصفًا على أحد أمرين: إما على اعتقاد حذف المضاف، وإما على جعل الموصوف الذي هو جوهر عرضًا للمبالغة، ولولا اعتقاد أحد هذين المعنيين؛ لما جاز وصف الجوهر بالمصدر الذي هو عرض؛ لأن حكم الوصف أن يكون وفق الموصوف، وإذا كان الأمر كذلك؛ فغير منكر أن يعتقد في ترك إجرائهما المصدر وصفًا أنه إنما فعل به ذلك لأنه ليس مما سبيله في الحقيقة أن يوصف به، ولذلك قل الوصف به إل اللفظ، واستنكر؛ فغير خطأ أن يعتقد وصفًا في المعنى وإن لم يخرج الوصف به إلى اللفظ, والصفات الصريحة ليست كذلك لأنها مما حكمه وسبيله أن يستعمل في اللفظ صفة كما يستعمل في المعنى؛ فترك إجرائهم الصفة الصريحة صفة في اللفظ على أنهم قد هجروها صفة في المعنى،
__________
1 ماء غور: أي ماء غائر، والغور: كل منخفض من الأرض، والغور من كل شيء قعره وعمقه.
2 قال الخليل: حكي ذلك عن سيبويه في الكتاب "1/ 267".

(2/41)


إذ لو كانت مقدرة في المعنى صفة للزوم خروجها على ذلك إلى اللفظ؛ إذ ليس إجراء الصفة في اللفظ صفة مستكرهًا. وأما المصدر فجريانه وصفًا في اللفظ فيه استكراه؛ فغير منكر أن يمتنع منه في اللفظ ويعتقد في المعنى؛ وإنما جاز اعتقاده في المعنى وأن لم يكن الوصف بالمصدر في قوة الوصف بصريح الصفة؛ لأنه وإن كان كذلك؛ فهو على كل حال جائز مستعمل في بعض المواضع، فاعرف ذلك إن شاء الله.
ونظير هذا الذي أريتك قول سيبويه1 في عدة إذا سميت به رجلًا أن تقول: عدات، وعدون؛ فتجيز جمعه بالتاء، وبالواو وبالنون، ولا يمنع من ذلك فيه وإن كان قبل التسمية به؛ لم يجمع؛ وإنما جاز فيه الجمع بالتاء، وبالواو والنون بعد التسمية به وإن لم يكن ذلك جائزًا ولا مسموعًا فيه قبل التسمية من قبل أنه كان قبل التسمية مصدرًا، والمصادر يقل الجمع فيها؛ فلما سمي به خرج عن مذهب المصدر إلى الاسمية؛ فلحق بـ "سنة" و"عضة"؛ فجرى عليه ما يجري عليهما من جواز الجمع لأنهما ليسا مصدرين.
أفلا ترى إلى سيبويه2 كيف احتج لترك جمعهم عدة وهي مصدر بأن المصادر يضعف جمعها؛ فيقبح في اللفظ، فكذلك أيضًا يضعف في القياس أن تجري المصادر أوصافًا إلا على ضرب من التأول؛ فلما ضعف ذلك فيها القياس؛ قل استعمالهم إياها في اللفظ أوصافًا، وحصل فيه بعض الاستكراه؛ فلذلك لم يسمع عنهم: مررت بالرجل العلاء لضعف جريان المصادر أوصافًا في القياس، فمن هنا جفا ذلك في اللفظ وإن كان قد يجوز تخيله على ضرب من التوسع في المعنى.
فأما العزى فمن امثلة الأوصاف بمنزلة الصغرى والكبرى؛ فلو اعتقدوا الوصف بها لما منع من خروجها إلى اللفظ صفة مانع؛ فمن هنا ضعف أن تكون "العزى" صفة وتأنيث الأعز، وذا لم تكن صفة فاللام فيها زائدة كما قال أبو الحسن.
__________
1 ذكر ذلك سيبويه في الكتاب "2/ 99".
2 قال في الكتاب "2/ 99": "وأما عدة فلا تجمعه إلا عدات؛ لأنه ليس شيء مثل "عدة" كصر للجمع؛ ولكنك إن شئت قلت: "عدون" إن صارت اسمًا كما قلت: "لدون".
وقال: في "2/ 200" "واعلم أنه ليس كل جمع يجمع كما أنه ليس كل مصدر يجمع كالأشغال والعقول والحلوم والألباب، ألا ترى أنك لاتجمع الفكر والعلم والنظر".

(2/42)


فهذا ما اقتصاه الوارد إلى عنهم في باب "العزى" إذ كنت لم أسمعها وصفًا؛ فإن وجدتها قد استعملت وصفًا في شعر قديم، أو حكاها بعض الثقات في كتابه أنها صفة، وأنها تأنيث الأعز بمنزلة الفضلى من الأفضل، والكبرى من الأكبر، والصغرى من الأصغر؛ فاللام فيها بمنزلة اللام في "العباس" و"الخليل" ونحو ذلك، وليست بزائدة على ما ذكر أبو الحسن، على أنه رحمه الله كان من سعة الرواية بحيث لا ينستر1 عليه حال هذه اللفظة، ولو علم أنها قد استعملت صفة لما قطع بزيادة اللام، ولما ألحقتها بـ "اللات".
فأما "اللات"؛ فلا إشكال2 مع ما قدمناه من كونها غير صفة أن اللام فيها زائدة، وكذلك اللام فيها أيضًا في قراءة من قرأ: "أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتِ" [النجم: 19] 3، بكسر التاء؛ لأنها أيضًا ليست بصفة.
فأما اللام في الاثنين من قولك: "اليوم الاثنان"؛ فليست بزائدة وإن لم يكن الاثنان صفة. قال أبو العباس: وإنما جاز دخول اللام عليه لأن فيه تقدير الوصف، ألا ترى أن معناه "اليوم الثاني"، وكذلك أيضًا اللام في الأحد، والثلاثاء، والأربعاء ونحوها، لأن تقديرها: الواحد، والثالث، والرابع، والخامس، والجامع، والسابت. والسِّبْت: القطع.
وقيل: إنه سمي بذلك لأن الله جل وعز خلق السموات والأرض في ستة أيان أولها الأحد، وآخرها الجمعة، فأصبحت يوم السبت منسبتة، أي: قد تمت وانقطع العمل فيها.
وقيل: سمي بذلك لأن اليهود كانوا ينقطعون فيه عن تصرفهم؛ ففي كلا القولين معنى الصفة موجود فيه.
__________
1 لا ينستر: أسلوب نفي يدل على سعة علم أبي الحسن رحمه الله.
2 إشكال: الأمر يوجد التباسًا في الفهم. القاموس المحيط "3/ 389".
3 قال الأخفش في معاني القرآن "ص11": وسمعنا من العرب من يقول: "أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتِ وَالْعُزَّى" ويقول: هي اللاتِ؛ فاعلم. قال ذلك فجعلها تاء في السكوت، و: "هي اللات فاعلم، جر في موضع الرفع والنصب".

(2/43)


فأما ما أنشدناه أبو علي عن أبي عثمان1:
حتى إذا كانا هما الذين ... مثل الجديلين المحملجين2
فإنه إنما يشبه الذي بـ "من" و"ما" فحذف صلتها، ووصفها كما يفعل ذلك بـ "من" و"ما" ويجيء هذا في قول البغداديين على أنه وصلها بـ "مثل" لأنهم يجرونها مجرى الظرف.
ومن زيادة اللام ما أخبرني به أبو علي3 أن أبا الحسن حكى عنهم: الخمسة العشر درهمًا؛ فاللام في العشر لا تخلو من أن تكون للتعريف، أو زائدة؛ فلا يجوز أن تكون للتعريف لأن "خمسة عشر" اسمان في الأصل جعلا كالاسم الواحد، وقد تعرف الاسم من أوله باللام في الخمسة، ومحال أن يتعرف الاسم من جهتين وبلامين؛ فثبت أن اللام في العشر زيادة. إلا أنها ليست لازمة لزومها في "الآن" و"الذي" ونحو ذلك.
ومن ذلك ما أخبرني به أبو علي4، قال: أخبرني أبو بكر عن أبي العباس عن أبي عثمان، قال سألت الأصمعي عن قول الشاعر:
ولقد جنيتك أكمؤًا وعساقلًا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر5
لِمَ أدخل اللام في الأوبر؟
__________
1 البيت وجدناه في شرح المفصل دون أن ينسبه. انظر/ شرح المفصل "3/ 153".
2 الجديل: الزمام. لسان العرب "11/ 103".
المحملج: المحكم الفتل. اللسان "2/ 240".
يقول الشاعر حتى إذا كان مثل الزمام المحكم الفتل.
والشاهد فيه: تشبيه "الذي" بـ "من" و"ما" في حذف صلتها. رغم أنه وصلها بمثل.
3 ذكر ذلك صاحب المقتضب "2/ 173".
4 ذكر ذلك أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس عن أبي عثمان.
5 جنيتك: أي جنيت لك.
أكمؤًا: جمع "كمء" بزنة "فلس"، وتجمع الكمء على كمأة أيضًا؛ فيكون المفرد خاليًا من التاء وهي في جمعه على عكس تمرة وتمر، وهذا من نوادر اللغة.
عساقلًا: جمع عسقول بزنة عصفور وهو ضرب من الكمأة أبيض اللون "ج" عساقل، وعساقيل.
بنات الأوبر: حيوان من ذوات الحوافر في حجم الأرنب، قصير الذنب، يحرك فكه السفلي كأنه يجتر، ويكثر فى لبنان.
وقال أبو حنيفة الدينوري: بنات أوبر: كمأة صغيرة كأمثال الحصي وهي رديئة الطعم.
انظر/ شرح ابن عقيل "1/ 181".
الشاهد في البيت زيادة الألف واللام في العلم اضطرارًا، في قوله "بنات الأوبر" ذلك أن العلم لا تدخله "ال" فرارًا من اجتماع معرفين وهما العلمية و"ال".
إعراب الشاهد:
بنات: اسم مجرور بحرف الجر عن وهو مضاف.
الأوبر: مضاف إليه مجرور بالإضافة وعلامة الجر الكسرة.

(2/44)


فقال: أدخله زيادة للضرورة كقول الآخر1:
باعد أم العمرو من أسيرها ... حراس أبواب على قصورها2
وجائز أيضًا أن يكون أوبر نكرة؛ فعرفه باللام كما حكى سيبويه أن "عرسًا" من "ابن عرس" قد نكره بعضهم؛ فقال هذا ابن عرس مقبل3، ولو قال مقبلًا ما صحت هذه المسألة.
وأنشدنا أبو علي، عن أحمد بن يحيى، عن ابن الأعرابي:
يا ليت أم العمرو كانت صاحبي ... مكان من أنشى على الركائب4
يريد: أم عمرو
وقال الآخر:
__________
1 أي الذي قال البيت وقد نسبه صاحب شرح المفصل إلى أبي النجم العجلي.
2 البيت كما ذكرنا نسبه صاحب شرح المفصل إلى أبي النجم العجلي.
الشاهد في البيت: دخول لام التعريف على عمرو وهي زيادة للضرورة.
3 ذكر ذلك سيبويه في الكتاب.
4 البيت ذكره صاحب المنصف دون أن ينسبه، وذكره صاحب اللسان في مادة "ربع" دون أن ينسبه أيضًا. لسان العرب "8/ 102".
أنشى: أي أشم من انتشى الرائحة أو الريح أي شمها.
الركاب: الإبل المركوبة أو الحاملة شيئًا، أو التي يراد الحمل عليها.
الشاهد في البيت: إضافة لام التعريف إلى العلم، وهو من الضرورة في قوله "أم العمرو" ويقصد أم عمرو.

(2/45)


يقول المجتلون عروس تيم ... شوى أم الحبين ورأس فيل1
يريد: أم حبين، وهي معرفة، واللام فيها زائدة.
فأما قولهم في المنية شعوب بغير لام، والشعوب بلام؛ فقد يمكن أن يكون صفة في الأصل؛ لأنه من أمثلة الصفات بمنزلة قتول وصبور وضروب، وإذا كان كذلك؛ فاللام فيها بمنزلتها في العباس والشمردل2 والحسن والحارث.
ويؤكد هذا عندك أنهم قالوا في اشتقاقها: إنها سميت شعوب لأنها تشعب أي تفرق، وهذا المعنى يؤكد مذهب الوصفية فيها، وهذا أقوى في نفسي من أن تجعل اللام زائدة، ومن قال شعوب بلا لام؛ فقد خلصت عنده اسمًا صريحًا، وعراها في اللفظ من مذهب الصفة؛ فلذلك لم يلحقها اللام كما فعل ذلك من قال عباس وسعيد وحارث وحسن إلا أن روائح الصفة فيه على كل حال وإن لم تكن فيه لام.
ألا ترى أن أبا علي حكى عن أبي زيد3 أنهم يسمون الخبر جابر بن جبة، وإنما سموه بذلك لأنه يجبر الجائع، فقد ترى معنى الصفة فيه وإن لم تدخله اللام.
ومن ذلك أيضًا قولهم واسط، قال سيبويه4: "سموه واسطًا لأنه وسط ما بين العراق وبصرة"؛ فمعنى الصفة فيه قائم وإن لم يكن في لفظه لام.
واعلم أن لام المعرفة قد أدخلت في بعض المواضع على الفعل المضارع لمضارعة اللام لـ "الذي".
قرأت على أبي في نوادر أبي زيد5:
__________
1 شوى: أطراف الجسم. لسان العرب "14/ 447".
المجتلون: الذين يجلون العروس، اجتليت العروس: نظرت إليها مجلوة.
أم حبين: دويبة عريضة الصدر عظيمة البطن، وقيل هي أنثى الحرباء.
الشاهد فيه زيادة اللام في حبين فأصبحت أم حبين.
والبيت ذكره صاحب اللسان في مادة "ح ب ن" ونسبه إلى جرير مع تغير "الشوى" إلى "السوى".
2 الشمردل: القوي السريع الفتى الحسن الخلق.
3 هو رأي أبي زيد ذكره في النوادر. انظر/ النوادر. انظر/ النوادر "ص602-603".
4 قال ذلك في الكتاب "2/ 23".
5 نسب البيت في نوادر جحا أبي زيد إلى ذي الخرق الطهوي "ص27".

(2/46)


فيستخرج اليربوع من نافقائه ... ومن بيته ذي الشيحة اليتقصع1
أي: الذي يتقصع فيه.
يقول الخنا وأبغض العجم ناطقًا ... إلى ربه صوت الحمار اليجدع2
أي: الذي يجدع.
وحكى الفراء أن رجلًا أقبل، فقال آخر: ها هو ذا، فقال السامع: نعم الها هو ذا، فأدخل اللام على الجملة المركبة من المبتدأ والخبر؛ تشبيهًا لها بالجملة المركبة من الفعل والفعال. فهذه أحكام لام التعريف، وما علمت أحدًا من أصحابنا رحمهم الله وصل من كشف أسرارها إلى هذه المواضع التي شرحتها وأوضحتها، نسأل الله عز وجل المعونة، ونستمده التوفيق.
وأما لام الابتداء فمن خواص الأسماء3، وهي مفتوحة مع المظهر والمضمر، تقول: لزيد أفضل من عمرو، ولأنت أكرم من محمد، ورأيت بعض متأخري البغداديين وقد صنف كتابا اللامات، ثم قسمها فيها كذا وكذا قسمًا؛ فقال
__________
1 البيت نسبه صاحب النوادر إلى ذي الخرق الطهوي.
اليربوع: حيوان من الفصيلة اليربوعية صغير على هيئة الجرذ الصغير وله ذنب طويل ينتهي من الشعر. وهو قصير اليدين طويل.
نافقائه: قال الأعرابي: قصعة اليربوع أن يحفر حفيرة ثم يسد بابها بترابها ويسمى ذلك التراب الداماء، ثم يحفر حفرًا آخر يقال له النافقاء والنفقة والنفق فلا ينفذها؛ ولكنه يحفرها حتى ترق فإذا أخذ عليه بقصعائه عدا إلى النافقاء؛ فضربها برأسه ومرق منها، وتراب النفقة يقال له: الراهطاء. لسان العرب "10/ 358/ 359". مادة/ نفق.
الشيحة: نبات سهلي يتخذ من بعضه المكانس, وهو نبات من الفصيلة المركبة رائحته طيبة قوية "ج" شيحان. لسان العرب "2/ 502".
الشاهد في البيت: دخول لام المعرفة على المضارع لمضارع اللام لـ "الذي" في قوله اليتقصع، وهي "ال + يتقصع"، فمنزلة لام التعريف في دخولها على الفعل بمنزلة "الذي".
2 الخنا: الفحش من الكلام. لسان العرب "14/ 244".
العجم: جمع أعجم وعجماء، وهو الحيوان الذي لاينطق. لسان العرب "12/ 3980".
وحمار مجدع: مقطوع الأذنين. لسان العرب "8/ 41".
3 أي مما يميزها وتختص به دون غيرها.

(2/47)


في بعض تلك الأقسام: ومنها لام التفضيل كقوله تعالى ذكره: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} [يوسف: 8] 1، وقد كان هذا الرجل في غناء عن هذه السمة لهذه اللام؛ لأنها لام الابتداء كيف شاءت فلتقع من تفضيل أو نقص أو مدح أو ذم أو تقريب أو تبعيد أو تكبير أو تصغير ونحو ذلك من وجوه الكلام، وإذا كان هذا الرجل قد وسم لام قوله تعالى: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} 2 بلام التفضيل؛ فقد كان من الواجب عليه على ما عقده على نفسه أن يسمي اللام في قول قيس بن الخطيم3:
ظأرناكم بالبيض حتى لأنتم ... أذل من السقبان بين الحلائب4
بلام النقص والتحقير لأنها موجودة في أول الجملة المستفاد من أحد جزأيها معنى النقص والتحقير كما وسمهما في آية يوسف عليه السلام بلام التفضيل. وأن يسمي اللام في قوله عَزَّ اسْمُهُ: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 243] 5 بلام التطول والإنعام، لأنها قد وجدت في جملة مستفاد من أحد جزأيها معنى الإنعام.
__________
1 الشاهد فيه اللام في قولة تعالى: "ل + يوسف" فهي لام تفضيل، وهو ما يتعارض مع رأي ابن جني.
2 سبق شرح الشاهد فيها.
3 عثرنا على البيت في ديوانه "ص46".
4 ظأرناكم: ظأرني على الأمر: راودني. لسان العرب "4/ 516" مادة/ ظأر.
البيض: "م" أبيض وهو النقي العرض من الدنس والعيوب. القاموس "2/ 325".
السقبان: "م" سقب وهو ولد الناقة، وقيل الذكر من ولد الناقة. القاموس "1/ 82".
الحلائب: "م" الحلوب وهي ذات اللبن. القاموس المحيط "1/ 57".
البيت كما ذكرنا من ديوان قيس بن الخطيم.
الشاهد في البيت: الاختلاف حول اللام في قوله "لأنتم" حيث يرى ابن جني أنه لو اتبع فيها تقسيم الزجاجي وهو أحد النحاة البغدادين في كتابه "اللامات" لأصبحت اللام هنا لام النقص والتحقير في قوله "لأنتم".
5 أسلوب إنشائي في صورة توكيد.
الشاهد فيه العلة في عدم اعتبار اللام لام التطول والإنعام.

(2/48)


وهذا أوسع من أن يحصى، ولم تكن به حاجة إلى هذا التشعب الذي يقوده إلى هذا الإلزام. وفي هذا الكتاب الذي ذكرته لهذا الرجل أشياء من هذا النحو تركت إيرادها لوضوح أمرها، ولأن كتابنا هذا ليس مشروطًا فيه إصلاح أغفال1 كتاب أحد؛ وإنما ربما اعترض الكلام شيء، فذكرناه لاتصاله بما يكون فيه.
واعلم أن لام الابتداء موضعها من الكلام الاسم المبتدأ نحو: "لزيد كريم"، و"لمحمد عاقل"، و"لأنت أشجع من أسامة"، ولاتدخل هذه اللام في الخبر إلا على أحد وجهين كلاهما ضرورة؛ إلا أن إحدى الضرورتين مقيس عليها، والأخرى مرجوع إلى السماع فيها:
الأولى: أن تدخل هذه اللام على الجملة التي في أولها إن المثقلة المحققة؛ فيلزم تأخير اللام إلى الخبر، وذلك قولك: "إن زيدًا لمنطلق، فأصل هذا: إن زيدًا منطلق، ثم جاءت اللام؛ فصار التقدير: "لإن زيدًا منطلق؛ فلما اجتمع حرفان لمعنى واحد، وهو التحقيق والتوكيد، كره اجتماعهما، فأخرت اللام إلى الخبر، فصار الكلام: "إن زيدًا لمنطلق".
واعلم أن هذا الشرح قد اشتمل على ثلاثة أشياء ينبغي أن يسأل عنها، وهي: أن اللام في المرتبة قبل إن، وتقدير الكلام: "لإن زيدًا منطلق"، وأنه ليس المرتبة أن تكون اللام بعد إن نحو "إن لزيدًا منطلق".
والثاني: لِمَ لما اجتمع حرفان للتوكيد؛ فصل بينهما، وهلا كان اجتماعهما أبلغ وأوكد؟
والثالث: لِمَ لما وجب الفصل بينهما أخرت اللام إلى الخبر دون إن؟
فالذي يدل على أن اللام في المرتبة قبل "إن" ثلاثة أشياء:
الأول: أن العرب قد نطقت بهذا نطقًا، وذلك مع إبدال الهمزة هاء في نحو قولهم: "لهنك قائم"؛ إنما أصلها: "لإنك قائم"، ولكنهم أبدلوا الهمزة هاء كما أبدلت هاء في نحو: "هياك" و"هرقت الماء"؛ فلما زال لفظ الهمزة، وحلت مكانها الهاء؛ صارت ذلك مسهلًا للجمع بينهما إذ حلت الهاء محل الهمزة؛ فزال لفظ إن،
__________
1 أي تركه وسها عنه. مادة "غ ف ل". لسان العرب "11/ 497".

(2/49)


فصارت كأنها حرف آخر، قرأت على أبي بكر بن الحسن، أو قرئ عليه وأنا حاضر عن أحمد بن يحيى، وحدثنا به عن أبي العباس محمد بن يزيد المبرد محمد بن سلمة1:
ألا يا سنا برق على قلل الحمى ... لهنك من برق علي كريم2
فهذا أقوى دليل على أن مرتبة اللام قبل "إن"، وبه رأيت شيخنا أبا علي يستدل3.
والدليل الثاني: أن "إن" وما عملت فيه جميعًا في موضع اسم مرفوع بالابتداء بدلالة قوله عز وجل: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 2] 4، وعلى هذا قالوا5:
................ ... فإني وقيار بها لغريب6
__________
1 ذكر ابن منظور البيت في مادة "لهن" دون أن ينسبه؛ بينما نسبه صاحب الخزانة إلى أحد غلمان بني كلاب. لسان العرب "13/ 393".
2 سنا: ضوء. القاموس "4/ 344".
قلل: "ج" قلة وهي القمة. القاموس "4/ 40.
وقوله: "يا سنا...." أسلوب نداء غرضة المدح.
والشاهد في البيت إبدال الهمزة هاء في قوله "لهنك"، والبيت سبق التعليق على قائله.
3 استدل على ذلك باستخدام المسائل العسكريات.
4 أسلوب توكيد يدل على براءة الله -عز وجل- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- من المشتركين.
الشاهد أن "إن" وما عملت فيه في موضع اسم مرفوع بالابتداء في قوله "إن الله..".
5 البيت نسبه صاحب الكتاب إلى ضابئ بن الحارث البرجمي.
6 نسب صاحب اللسان البيت إلى ضابئ البرجمي في مادة "قير". لسان العرب "5/ 125".
وصدر البيت كما في اللسان:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيارًا بها لغريب
فإني: أي يقصد نفسه.
قيار: اسم فرس أو جمل.
الرحل: أي المنزل.
ويقال أن الشاعر قال هذا البيت ضمن مجموعة أبيات في المدينة في زمن عثمان بن عفان، وكان قد حبس بالمدينة؛ لأنه تطاول على قوم من بني جدول بن نهشل وسبهم وهجاهم؛ فحبس لذلك؛ فأضحى غريبًا هو وفرسه في المدينة.
والشاهد فيه أن "إن" وما عملت فيه محل اسم مرفوع بالابتداء في قوله "فإني وقيارًا..".

(2/50)


وإذا كانت "إن" وما نصبته في تقدير اسم مرفوع؛ وجب أن تكون اللام داخلة عليهما كليهما؛ لأنهما في موضع اسم مبتدأ كما تدخل على الاسم المبتدأ، وهذا أيضًا واضح.
والدليل الثاني: أن "إن" عاملة للنصب، وهي تقتضي الأسماء لتنصبها؛ فلا يجوز أن تكون مرتبة اللام بعدها وأن يكون التقدير: "إن لزيدًا قائم"؛ لأن "إن" لا تلي الحروف؛ لا سيما إذا كان ذلك الحرف مما يحصن الاسم من العوامل ويصرفه إلى الابتداء.
فإن قيل: فقد ثبت أن اللام كان سبيلها أن تكون فى أول الكلام، وصح بما قدمته؛ فهلا جمع بينها وبين "إن" فكان ذلك يكون أوكد، ولِمَ فصل بينهما؟
فالجواب أنه ليس في الكلام حرفان لمعنى واحد مجتمعان، والعلة في ذلك أن الغرض في هذه الحروف الدوال على المعاني؛ إنما هو التخفيف والاختصار، ألا ترى أن "هل" تنوب عن أستفهم و"ما" تنوب عن أنفي.
وقد تقدم نحو هذا في أول هذا الكتاب؛ فإذا كان الغرض فيها إنما هو الاختصار والاستغناء بالقليل عن الكثير؛ فلا وجه للجمع بين حرفين لمعنى واحد، إذ في الواحد كفاية في الآخر وغناء عنه، ولو جمع معه لانتقض الغرض بتكريره والإكثار بإعادته؛ فإذا تباعد عنه؛ لم يجتمع في اللفظ معه استجيز اجتماعهما في الجملة الواحدة؛ كما جاز الجمع بين حرف النداء والإضافة لتباعدهما في نحو يا عبد الله وما أشبهه.
فإن قيل: فإذا كان كذلك فلم أخرت اللام إلى الخبر، وأقرت إن في أول الكلام، وهلا عمس الأمر في ذلك؟
فالجواب: أنه إنما أخرت اللام إلى الخبر، وجعلت إن مع المبتدأ من قبل أن "إن" عاملة، والمبتدأ لا يكون إلا اسمًا؛ فقد يجوز أن يكون جمل وظرفًا؛ فلما لم يلزم أن يكون الخبر اسمًا مفردًا، وجاز أن يكون مبتدأ وخبرًا، وفعلًا وفاعلًا، وظرفًا؛ جعلت اللام التي هي غير عاملة في ما قد لا يكون مفردًا، وجعلت "إن" العاملة تلي الاسم الذي سبيله أن يكون مفردًا؛ فالضرورة التي أخرت لها اللام إلى

(2/51)


الخبر، وموضعها في الأصل المبتدأ، هو ما ذكرناه من دخول إن في الكلام وكراهيتهم اجتماعها مع اللام؛ فاعرف ذلك إن شاء الله.
واعلم أنه إذا ثبت أن اللام داخلة على خبر "إن"، وكان خبر "إن" هو خبر المبتدأ في الأصل، وكان خبر المبتدأ على المعروف المتعالم من حالة اسمًا مفردًا، وجملة مركبة من مبتدأ وخبر، وجملة مركبة من فعل وفاعل، وظرفًا؛ فسبيل هذه اللام أن تدخل كل ضرب من هذه الأخبار، تقول: "إن زيدًا لقائم"، و"إن زيدًا لأبوه منطلق"، و"إن زيدًا ليقوم أخوه"، و"إن زيدًا لفي الدار"؛ فإن كان الخبر فعلًا ماضيًا؛ لم تدخل اللام عليه؛ لأنه ليس بمضارع للاسم كما ضارعه الفعل المضارع، فلا تقول إذًا: "إن زيدًا لقام"، ولا: "إن بكرًا لقعد"، ولاتدخل هذه اللام على فعل ولا على غيره من أمثلة الفعل المضارع للاسم.
فأما قول امرئ القيس1:
حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث ولا صالي2
فليست هذه اللام بلام الابتداء؛ وإنما هي اللام التي يتلقى بها القسم نحو: والله لقام زيد، أي: لقد قام زيد وسنذكرها في موضعها3 إن شاء.
فإن كانت لخبر إن فضله تتعلق به فى ظرف أو مفعول أو مصدر أو حرف جر، فتقدمت تلك الفضلة في اللفظ على الخبر؛ جاز دخول اللام عليها قبل الخبر، ثم يأتي الخبر في ما بعد، وذلك قولك: "إن زيدًا لفى الدار لقائم"، و"إن بكرًا لطعامك آكل"، و"إن محمدًا لقيامًا حسنًا قائم"، و"إن أخاك لبك مأخوذ"، و"إن الأمير لعليك واجد".
__________
1 البيت مثبت في ديوانه
2 الفاجر: أراد الذي يكذب.
صالي: أي الذي يصطلي بالنار. القاموس المحيط "4/ 352-353".
والأسلوب خبري تقريري.
والبيت كما ذكرنا لامرئ القيس وثبت ذلك في ديوانه3.
والشاهد فيه وقوله "لناموا" حيث أن اللام ليست لام الابتداء؛ وإنما اللام التي يتلقى بها القسم.
3 أي سيأتي ذكرها بعد ذلك في موضعها.

(2/52)


قال أبو زبيد1:
إن امرءًا خصني عمدًا مودته ... على التنائي لعندي غير مكفور2
أي: لغير مكفور عندي، وربما كررت اللام في الخبر إذا تقدمت فضلته عليه فقالوا: "إن زيدًا لبك لمأخوذ"، و"إن محمدًا لفيك راغب".
وحكى قطرب عن يونس: إن زيدًا لبك واثق.
فإن تأخرت الفضلة؛ دخل اللام في الخبر الذي قبلها، ولم تدخل فيها، وذلك قولك: "إن زيدًا لقائم عندك"، ولا يجوز: "إن زيدًا قائم لعندك". والفرق بين: إن زيدًا لعندك قائم، و"إن زيدا قائم لعندك" في جواز المسألة الأولى وفساد الثانية: أنك إذا تقدمت الفضلة على الخبر، وأدخلت اللام عليها؛ فإنما قصدك بها الخبر دون فضلته، وجاز دخول اللام على الفضلة التي قبل الخبر لأن موضع الخبر أن يكون قبل فضلته عقيب الاسم؛ فلما تقدمت الفضلة، فوقعت موقع الخبر دخلتها اللام كما تدخل الخبر؛ فأما إذا تأخرت الفضلة وتقدم الخبر؛ فقد وقع الخبر موقعه، فدخلت اللام عليه لأنه أحق بها.
فإن قيل: ولِمَ دخلت اللام على خبر "إن" المكسورة دون سائر أخواتها؟
فالجواب: أنها إنما اختصت بخبر المكسورة من قبل "أن" كل واحدة من اللام ومن "إن" يجاب بها للقسم، وذلك قولك: "والله إن زيدًا قائم"، "والله لزيد قائم"؛ فلما اشتركنا في هذا الوجه، وكانت كل واحدة منهما حرف توكيد أدخلت اللام على خبر "إن" للمبالغة في التوكيد، وفرق بينهما لما ذكرنا من كراهتهم اجتماع حرفين لمعنى واحد، ولما لم يكن في أخوات إن شيء يجاب به القسم كما يجاب بها؛ لم تدخل اللام خبره كما دخلت خبرها.
__________
1 البيت نسبه إليه صاحب الكتاب "1/ 281".
2 خصني: أي أعطاني شيئًا كثيرًا.
عمدًا: أي قصدًا.
مودته: محبته.
التنائي: نأى: أي بعد والتنائي البعد.
الأسلوب إنشائي في صورة توكيد.
والشاهد فيه قوله "لعندي" حيث دخلت اللام على الفضلة المتعلقة بخبر "إن".

(2/53)


واعلم أن هذه اللام لا تدخل على اسم "إن" كما ذكرنا؛ إلا أن يفصل بينها وبينه فتباعد منه، وذلك نحو قوله عَزَّ اسْمُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} [البقرة: 248] 1، و {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} [الأنعام: 99] 2، {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا} 3 [الأنبياء: 106] .
فهذا دخول اللام على خبر "إن" وذكر الضرورة التي دعت إلى تأخرها، ولست أعني بهذه الضرورة أنها جارية مجرى ضرورة الشعر؛ كيف ذلك والقرآن وفصيح الكلام قد جاء بذلك، ولكن هذا يجري مجرى الضرورة التي دعت إلى إعلال فاء "يعد" و"يزن"، وعين "باع" و"قام"، ولام "غزا" و"رمى"، وغير ذلك من العلل التي تلحق فتؤثر، وهي مع ذلك مطردة في الاستعمال متقبلة في القياس.
وإذا كانت "إن" مشددة فأنت في إدخال اللام في الخبر وتركها مخير، تقول: "إن زيدًا قائم"، و"إن زيدًا لقائم"؛ فإن خففت "إن"؛ لزمت اللام، وذلك قولك: "إنْ زيد لقائم"، و {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] 4 فعلوا ذلك لئلا تلتبس "إن" المؤكدة بـ "إن" النافية في قوله عز وجل: {إِنْ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ} [الملك: 20] 5 فهذه بمعنى ما.
__________
1 {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أسلوب توكيد.
آية: علامة، وأمارة وعبرة.
والشاهد فيه دخول اللام على اسم "إن" بعد أن فصل بينها وبين اسمها بفاصل.
2 {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} أسلوب إنشائي في صورة توكيد.
الشاهد في الآية دخول اللام أيضًا على اسم "إن" بعد أن تباعد بينها وبين اسمها.
3 بلاغًا: ما يتوصل به إلى الغاية، والبلاغ: بيان يذاع في رسالة ونحوها.
والأسلوب الإنشائي في صورة توكيد غرضه إعطاء الكلام قوة وتأثيرًا في النفس.
والشاهد في الآية أيضًا دخول اللام على اسم إن بعد أن فصل بينها وبين اسمها.
4 قرأها ابن كثير وغيره "لَمَا" خفيفة، وقرأ عاصم وغيره "لَمَّا" مشددة.
والشاهد فيها وجوب إدخال اللام على الخبر.
5 غرور: غفلة، والغرور كل ما غر الإنسان من مال أو جاه أو نحوه.
والأسلوب إنشائي في صورة توكيد.
الشاهد فيها أن "إن" جاءت نافية بمعنى ما؛ ولذلك لا يجوز إدخال اللام على خبرها.

(2/54)


وأما قول أبي حزام العكلي1:
وأعلم أن تسليمًا وتركًا ... للا متشابهان ولا سواء2
فإنما أدخل اللام وهي للإيجاب على "لا" وهي للنفي من قبل أنه شبهها بغير، فكأنه قال: "لغير متشابهين"، كما شبه الآخر "ما" التي للنفي ب "ما" التي في معنى الذي، فقال3:
لما أغفلت شكرك فاصطنعني ... وكيف ومن عطائك جل مالي4
ولم يكن سبيل اللام الموجبة أن تدخل على "ما" النافية لولا ما ذكرت لك من الشبه اللفظي، كما قال الآخر:
ورج الفتى للخير ما إن رأيته ... على السن خيرًا لا يزال يزيد5
فزاد "إن" مع "ما"، وليست للنفي؛ فاعرفه إن شاء الله.
وأما الضرورة التي تدخل لها اللام في خبر غير "إن"؛ فمن ضرورات الشعر، ولا يقاس عليها، قرأت على أبي علي بإسناده إلى يعقوب6:
__________
1 البيت نسبه إليه صاحب الخزانة.
2 الشاهد فيه أنه أدخل اللام التي للإيجاب على أداة النفي "لا"، والبيت كما ذكرنا نسبه صاحب الخزانة إلى أبي حزام العكلي.
3 يعني النابغة الذبياني، والبيت عثرنا عليه في ديوانه "ص205".
4 أغفلت: غفل عنها من قلة التيقظ والتحفظ.
فاصطنعني: أسلوب إنشائي في صورة أمر غرضه الالتماس.
وكيف: استفهام استنكاري.
جل: الجل من كل شيء معظمه "ج" جلال وأجلال. القاموس المحيط "3/ 349".
البيت للنابغة الذبياني من قصيدة يمتدح فيها النعمان بن المنذر.
الشاهد دخول اللام الموجبة على "ما" النافية.
5 الشاهد فيه اقتران "ما" بـ "إن" وهي هنا ليست للنفي وإنما زائدة.
والبيت نسبه صاحب الكتاب إلى المعلوط بدل الفريعي وذكره صاحب اللسان في مادة "أن" دون أن ينسبه إلى قائلة. لسان العرب "13/ 35".
6 ذكر العيني أن قائله رؤية، ونسبه الصغاني في العباب إلى عنترة بن عروس وهو الصحيح. العيني "1/ 535" والبيتان في ملحقات ديوان رؤبة "ص170".

(2/55)


أم الحليس لعجوز شهربه ... ترضى من الشاة بعظم الرقبه1
والوجه أن يقال: "لأم الحليس عجوز شهربه"، كما تقول: "لزيد قائم"، ولا تقول: "زيد لقائم". وقال الآخر2:
خالي لأنت، ومن جرير خاله ... ينل العلاء ويكرم الأخوالا3
فهذا يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون أراد: لخالي أنت؛ فأخر اللام إلى الخبر ضرورة.
والآخر: أن يكون أراد: لأنت خالي، فقدم الخبر على المبتدأ وإن كانت فيه اللام ضرورة.
وأخبرني أبو علي أن أبا الحسن حكى "إن زيدًا وجهه لحسن" فهذه أيضًا ضرورة.
__________
1 ذكرنا أن البيت ذكره صاحب اللسان "1/ 510" دون أن ينسبه، وفيه جماعة ومنهم الضاغاني، إلى عنترة بن عروس مولى بني ثقيف، ونسبه آخرون إلى رؤبة بن العجاج، والأول أكثر وأشهر ورواه الجوهري.
الحليس: تصغير حلس، وهو كساء رقيق يوضع تحت البرذعة. القاموس "2/ 207".
وأم الحليس: كنية الأتان في الأصل. وأطلقها الراجز على امرأة تشبيهًا لها بالأتان.
شهربه: الطاعنة في السن. القاموس المحيط "1/ 90".
ترضى من اللحم: من هنا بمعنى بدل أي ترضى بدل اللحم، وإذا قدر مضافًا يجر بالباء؛ فنقول: ترضى من اللحم بلحم عظم الرقبة، وكانت "من" دالة على التبعيض.
الشاهد في البيت قوله "العجوز" حيث زادت اللام في خبر المبتدأ وليس خبر "إن" أو اسمها.
والزيادة هي أحد تخريجات هذا البيت.
إعراب الشاهد:
لعجوز: اللام: مبنية زائدة.
وعجوز: خبر المبتدأ مرفوع.
2 البيت ذكره صاحب اللسان في مادة "شهرب". "1/ 510".
3 ينل: نال الشيء أي: أدركه وبلغه.
العلاء: الرفعة والشرف.
والبيت خبري تقريري غرضه المدح والتعظيم.
الشاهد فيه: دخول اللام على المبتدأ المؤخر "لأنت" وهو أحد تخريجات هذا البيت، والبيت لم نقف على قائله، ولم ينسبه في شرح ابن عقيل "ص237".

(2/56)


وربما أخلوها في خبر "أن" المفتوحة، أخبرنا علي بن محمد يرفعه بإسناده إلى قطرب1:
ألم تكن حلفت بالله العلي ... أن مطاياك لمن خير المطي2
والوجه الصحيح هنا كسر "إن" لتزول الضرورة، إلا أنا سمعناها مفتوحة الهمزة.
وقد أدخلت في خبر أمسى، قرأت على أبى بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى، وأنشدناه أبو علي3:
مروا عجالًا وقالوا: كيف صاحبكم؟ ... قال الذي سألوا: أمسى لمجهودا4
وروينا عن قطرب بإسناده أن بعضهم قال: "فإذا أني لبه"، قال: وسمعنا بعض العرب يقول: "أراك لشاتمي"، و"إنى رأيته لسمحًا"، قال: وقال يونس: زيد -والله- لواثق بك. وقال كثير:
ومازلت من ليلى لدن أن عرفتها ... لكالهائم المقصى بكل سبيل5
وهذا كله شاذ.
__________
1 قطرب: هو محمد بن المستنير بن أحمد، نحوي عالم باللغة والأدب.
2 مطاياك: المطا: الظهر "ج" أمطاء، والمطية من الدواب ما يمتطى، "ج" مطايا، ومطي.
والبيت أسلوبه خبري غرضه التهكم والسخرية.
الشاهد فيه دخول اللام على خبر "أن" المفتوحة، والأصح أن تكسر همزة "إن" لتزول الضرورة، والبيت نسبه إلى صاحب الخصائص إلى قطرب في استشهاده برأيه.
3 قال البغدادي في الخزانة: "وهذا البيت شائع في كتب النحو ذكره أبو علي في غالب كتبه، وابن جنى كذلك، وكلهم يرويه عن ثعلب، وثعلب أنشده غير معزو".
4 كيف صاحبكم: أسلوب إنشائي في صورة استفهام غرضه التشويق والإثارة.
والشاهد في البيت دخول اللام على خبر أمس.
والبيت ذكر العيني أنه من شواهد الكتاب؛ ولكن لم نجده بين دفتي الكتاب، وذكره ثعلب في أماليه، وأنشده أيضًا أبو علي الفارسي ولكن معظمهم لم ينسبه إلى قائل بعينه حتى أن بعضهم لم ينسبه إلى أحد.
5 الهائم: يقال هام فلان أي خرج على وجهه في الأرض لا يدرى أين يتوجه "ج" هيام، هيم.
المقصى: البعيد. القاموس "4/ 378".
السبيل: الطريق "ج" أسبلة.
وأسلوب البيت خبري غرضه الاسترحام.
والبيت ينسب إلى كثير وعثرنا عليه في ديوانه "ص115".
والشاهد فيه قوله "لكالهائم" حيث دخلت اللام على أداة التشبية "الكاف".

(2/57)


ومثله1:
............................ ... ولكنني من حبها لكميد2
وأخبرنا أبو علي أن أبا إسحاق ذهب في قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] 3 إلى أن "إن" بمعنى نعم، وهذان مرفوع بالابتداء، وأن اللام في "لساحران" داخلة في موضعها على غير ضرورة، وأن تقديره: "نعم هذان لهما ساحران".
وحكي عن أبي إسحاق أنه قال: هذا الذي عندي فيه، والله أعلم، وكنت عرضته4 على عالمنا محمد بن يزيد، وعلى إسماعيل بن إسحاق؛ فقبلاه، وذكرا أنه أجود ما سمعاه.
واعلم أن هذا الذي رواه أبو إسحاق في هذه المسألة مدخول غير صحيح، وأنا أذكره لتقف منه على ما في قوله.
ووجه الخطأ فيه أن "هما" المحذوفة التي قدرها مرفوعة بالابتداء لم تحذف إلا بعد العلم بها والمعرفة بموضعها، وكذلك كل محذوف لا يحذف إلا مع العلم به، ولولا ذلك لكان في حذفه مع الجهل بمكانه ضرب من تكليف علم الغيب للمخاطب، وإذا كان معروفًا؛ فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام؛ ألا ترى أنه يقبح أن تأتي بالمؤكد وتترك المؤكد فلا تأتي به.
__________
1 ومثله: أي ومثل هذا ما ذكر في كتب النحاة واستشهدوا به.
2 صدر البيت ذكر في شرح ابن عقيل والبيت بتمامه كما جاء "ص363": "1/ شاهد99":
يلومونني في حب ليلى عواذلي ... ولكنني من حبها لعميد
والبيت لا يعرف قائله.
والشاهد فيه قوله "لكميد" أو "لعميد" برواية أخرى حيث دخلت لام الابتداء على خبر "لكن" وهذا مذهب الكوفيين، أما البصريون فيرون أنها اللام دخلت على خبر "إن" المكسورة الهمزة المشددة النون وأصل الكلام "ولكن إنني من حبها لكميد" وهذه بعض الأجوبة في الإعراب لدى البصريين.
3 قرأ هذه القراءة نافع وغيره.
4 العارض أبو إسحاق تلميذ المبرد.

(2/58)


ألا ترى أن التوكيد من مواضع الإطناب والإسهاب، والحذف من مواضع الاكتفاء والاختصار؛ فهما إذن -كما ذكرت لك- ضدان لا يجوز أن يشتمل عليهما عقد كلام.
ويزيد ذلك وضوحًا امتناع أصحابنا من تأكيد المضمر المحذوف العائد على المبتدأ في نحو "زيد ضربت" في من أجازه؛ فلا يجيزون "زيد ضربت نفسه" على أن تجعل النفس توكيدًا للهاء المرادة في ضربته، لأن الحذف لا يكون إلا بعد التحقيق والعلم، وإذا كان ذلك كذلك؛ فقد استغني عن تأكيده.
ويؤكد عندك ما ذكرت لك أن أبا عثمان وغيره من النحويين حلموا قول الشاعر:
أم الحليس لعجوز شهربه1
على أن الشاعر أدخل اللام على الخبر ضرورة، ولو كان ما ذهب إليه أبو إسحاق وجهًا جائزًا؛ لما عدل عنه النحويون ولا حملوا على الاضطرار إذا وجدوا له وجهًا ظاهرًا قويًا، وحذف المبتدأ وإن كان شائعًا في مواضع كثيرة من كلامهم؛ فإنه إذا نقل عن أول الكلام قبح حذفه؛ ألا ترى إلى ضعف قراءة من قرأ: {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] 2 قالوا: وقبحه أنه أراد: على الذي هو أحسن؛ فحذف المبتدأ في موضع الإيضاح والبيان، لأن الصلة لذلك وقعت في الكلام، وإذا كان ذلك موضع إكثار وإيضاح؛ فغير لائق به الحذف والاختصار.
فإن قلت: فقد حكى سيبويه في الكتاب: "لحق أنه ذاهب؛ فيضيفون، كأنه قال: ليقين ذلك أمرك، وليست في كلام كل العرب"3 فأمرك هو خبر يقين؛ لأنه قد أضافه إلى ذلك، وإذا أضافه إليه؛ لم يجز أن يكون خبرًا عنه.
قال سيبويه: "سمعنا فصحاء العرب يقولونه"4؛ فكيف جاز أن يحذف الخبر واللام في أول الكلام، وقد شرطت على نفسك أن الحذف لا يليق بالتوكيد؟
__________
1 سبق التعليق عليه.
2 رفع "أحسن" قراءة الحسن وغيره. انظر/ الإتحاف "ص220".
3 الكتاب "1/ 477".
4 جاء ذلك في الكتاب "1/ 477".

(2/59)


فالجواب أن هذه الكلمة ليس كل العرب يقولها كما قال سيبويه، وقال أيضًا أبو الحسن: "لم أسمع هذا من العرب؛ وإنما وجدته في الكتاب"1.
ووجه جوازه على قلته طول الكلام بما أضيف هذا المبتدأ إليه، وإذا طال الكلام؛ جاز فيه من الحذف ما لا يجوز فيه إذا قصر، ألا ترى إلى ما حكاه الخليل عنهم من قولهم: "ما أنا بالذي قائل لك شيئًا"2 ولو قلت: "ما أنا بالذي قائم لقبح".
فأما قول الشاعر3:
لم أر مثل الفتيان في غير الـ ... أيام ينسون ما عواقبها4
فالوجه أن تكون "ما" استفهامًا و"عواقبها" الخبر، كقوله تعالى ذكره: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} [الهمزة: 5] 5 أي: ما أدراك أي شيء الحطمة؛ فكأنه قال: أي شيء عواقبها، على مذهب التعجب منها والاستعظام لها؛ فهذا أوجه من أن يحمل الكلام على أنه: ينسون الذي هو عواقبها، لقلة {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] 6.
وقال أبو الحسن في هذا الفصل: "لو قلت: لعبد الله، وأضمرت الخبر لم يحسن"7؛ وإنما لم يحسن عنده لأن الكلام لم يطل ههنا كما طال في لحق أنه ذاهب. انقضى دخول اللام على الخبر.
__________
1 نقل النص من حاشية الكتاب "3/ 157".
2 انظر/ الكتاب "ص270".
3 هو عدي بن زيد، والبيت نسبه إليه صاحب الأغاني "2/ 121".
4 عواقبها: العاقبة آخر كل شيء أو خاتمته، والعاقبة مصير كل شيء.
ينسون: مضارع مرفوع عبر به الشاعر ليدل على استمرارية النسيان لعواقب الأيام.
الشاهد فيه أن "ما" استفهامية وعواقبها خبر.
5 أسلوب إنشائي في صورة استفهام غرضه التهديد والاستعظام.
الحطمة: النار الشديدة.
5 {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي: على إحسانه في طاعة ربه.
مختصر تفسير الطبرى "ص125"، وسبق تخريج القراءة.
7 "لو قلت: لعبد الله وأضمرت الخبر؛ لم يحسن": سبق تخريج هذه القراءة أيضًا.

(2/60)


واعلم أن لام الابتداء أحد الحرفين الموجبين اللذين يتلقى بهما القسم، وهما: اللام، وأن، وذلك قولك: والله لزيد عاقل، والله إن زيدًا عاقل؛ إلا أن هذه اللام قد تتعرى من معنى الجواب، وتخلص للابتداء؛ فهو لذلك أخص معنييها بها، وذلك قولك: لعمرك لأقومن، و:
.............. ... ليمن الله ماندري1
فهذه اللام لام الابتداء معراة من معنى الجواب، وذلك أن قولك "لعمرك" قسم، ومحال أن يجاب القسم بالقسم؛ فلا يجوز إذن أن يكون التقدير: والله لعمرك لأقومن، كما يجوز إذا قلت: لزيد قائم، أن يكون تقديره: والله لزيد قائم، فاعرف ذلك إن شاء الله.
__________
1 لعمرك لأقومن، و....: تقدم تخريحه.

(2/61)


لحاق اللام الأفعال:
وتلحقها على ضربين: عاملة، وغير عاملة:
فالعاملة: لام الأمر، وهي مكسورة جازمة؛ وذلك قولك: ليقم زيد، وليقعد عمرو. وزعم الفراء أن من العرب من يفتح هذه اللام لفتحة الياء بعدها، وهذا كلام يستفاد منه أنه إن انكسر حرف المضارعة أو انضم أن لا تكون هذه اللام مفتوحة، نحو: "ليكرم زيد عمرًا"، و"لتعلم ذلك".
ومتى اتصل بهذه اللام من قبلها واو العطف أو فاؤه فإسكانها للتخفيف جائز، وذلك قولك: وليقم زيد؛ فليقعد جعفر؛ وإنما جاز إسكانها لأن الواو والفاء كل واحد منهما حرف منفرد ضعيف لا يمكن الوقوف عليه دون اللام؛ فأشبهت اللام لاتصالها بما قبلها واحتياجه إليها الخاء من "فخذ"، واللام من "علم"، فكما تقول: فخذ، وعلم الله ذاك؛ كذلك جاز أن تقول: فليقم، وليقعد، وقد فعلوا هذا أيضًا في غير هذا الموضع، فقالوا: أراك منتفخًا، فأسكنوه الفاء لأن "تفخًا" من "منتفخ" ضارع بالوزن فخذًا وكبدًا.
فأما قراءة الكسائي وغيره1 {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] 2 و {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج: 15] 3 فمردودة عند أصحابنا؛ وذلك أن "ثم" حرف على ثلاثة أحرف يمكن الوقوف عليه، وإذا أمكن الوقوف؛ لزمك الابتداء بالساكن، وهذا غير جائز بإجماعٍ، فمن هنا دفعه أصحابنا واستنكروه؛ فلم يجيزوه.
وسألت أبا علي يومًا عن هذا، فقلت له: هلا جازت قراءة الكسائي هذه على تشبيه ثم بالواو والفاء إذ كانت حرف عطف كما كانا حرفي عطف؛ فهلا جاز حمل ثم على الواو والفاء كما حملوا بعض حروف المضارعة على بعض في نحو قولك: أعد،
__________
1 وغيره: هذه القراءة قراءة نافع وعاصم وغيره. السبعة "ص435".
2 {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} : أي ليقضوا ما عليهم من مناسك حجهم من حلق وطواف ورمي جمرة وموقف غيرها. مختصر تفسير الطبري "ص293".
3 {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} : أي ثم ليختنق. مختصر تفسير الطبري "ص291".

(2/63)


ونعد، وتعد؛ ألا ترى أن هذه الأحرف الثلاثة محمولة على الياء في قولك: "يعد"؛ لأن الواو من "يعد" حذفت لوقوعها بين ياء وكسرة، وحملت الهمزة والنون والتاء في هذا على الياء؛ فحذفت الواو معهن كما حذفت مع الياء لئلا يختلف الباب، وكما حذفت الهمزة من مضارع أكرم إذا قلت: "أكرم"، وأصلة "أؤكرم"، لاجتماع الهمزتين، ثم حملت النون في "نكرم"، والتاء في "تكرم"، والياء في "يكرم" على الهمزة في "أكرم"؛ فحذفت الهمزة معهن كما حذفت معها ليتفق الباب ولا تختلف أحوال حروف المضارعة.
فقال: الفرق بين الموضعين أن حروف المضارعة أشد اشتباه بعض ببعض من حروف العطف؛ وذلك أنها تجري مجرى الحرف الواحد؛ ألا ترى أن سيبويه قال: إنهم امتنعوا من إمالة فتحة تاء تحسب لكسرة سينها، من حيث كانت الياء في يحسب لا تجوز إمالتها استنكارًا للإمالة في الياء في "يحسب"؛ فدل ذلك على أن حروف المضارعة بعضها قوي الشبه ببعض أشد من قوة شبه حروف العطف بعضها ببعض.
ويؤكد عندك قوة اشتباه حروف المضارعة أن كل واحد منها على حرف واحد، وحروف العطف تجدها مختلفة أعداد الحروف، منها ما هو على حرف واحد، وهو الواو والفاء. ومنها ما هو على حرفين، وهي: "أو، ولا، وأم، وبل".
ومنها ما هو على ثلاثة أحرف، وهو "ثم". ومنها ما هو على أربعة أحرف، وهو "لكن، وإما، وحتى. وليس"؛ كذلك حروف المضارعة، بل جميعها على حرف حرف.
وشيء آخر، وهو أنا نجد بعض حروف العطف يدخل على بعض، وذلك نحو: "ما قام زيد ولكن عمرو"، و"قام إما زيد وإما عمرو، ولأضربنه حتى يتقيني بحقي، وحتى لا يبقى لي عنده شيء منه".
ونسخت من خط أبي بكر محمد بن السري، وقرأته على أبي علي، قال: قال أبو العباس: إذا اضطر الشاعر أدخل الواو من حرف العطف على سائر حروف العطف.

(2/64)


وأنشد للأعشى1:
وثمت لا تجزونني بعد ذاكم ... ولكن سيجزيني الإله فيعقبا2
قال: واستعمله أبو نواس؛ فقال3:
البدر أشبه ما رأيت بها ... حين استوى وبدا من الحجب4
وبل الرشا لم يخطها شبهًا ... في الجيد والعينين واللبب5
وأنشد أبو الحسن بيتًا فيه "فثم"6 فأدخل الفاء على ثم.
فهذا كله يؤكد عندك اختلاف حروف العطف لجواز دخول بعضها على بعض إذ كان حرفان لمعنى واحد لا يتواليان، ولما كانت حروف المضارعة كلها كالحرف الواحد
__________
1 جاء في ديوان الأعشى "ص167".
2 يقول الأعشى: إنكم لن تجزونني بعد ذلك الذي كان مني ويستدرك قائلًا: ولكن الله سيجزيني.
وأسلوب البيت خبري تقريري.
وقوله: لاتجزونني أسلوب نفي غرضه التحسر والتوجع.
والشاهد فيه دخول حروف العطف على بعضها.
3 فقال: البيتان ذكرا في ديوان أبي نواس "ص71".
4 يقول أبو نواس أن البدر يشبهها، وهو هنا يستخدم التشبيه المعكوس أو المقلوب؛ فلم يقل أنها تشبه البدر؛ ولكنه قال: أن البدر يشبهها في جمالها حين يبدو من خلف الحجب.
الشاهد فيه دخول حروف العطف على بعضها لاختلافها.
5 ويعقد أبو نواس أيضًا مقارنة بينها وبين الرشا في "الجيد- العينين- واللبب" ويرى أنها تتفوق على الرشا في كل ذلك لشدة جمالها.
والشاهد أيضًا دخول حروف العطف على بعضها البعض لاختلافها.
6 فثم: ربما يقصد قول زهير:
أراني إذا ما بت بت على هوى ... فثم إذا أصبحت أصبحت غاديا
كذا أنشده أبو الفتح في باب الفاء شاهدًا على زيادة الفاء، وفي رصف المباني "ص275"، "وثم" وجاء في الخزانة أن السيرافي قال: "الأجود: فثم بفتح الثاء المثلثة لكراهة دخول عاطف على عاطف".
بت على هوى: لي حاجة لا تنقضي أبدًا.
وفي مغني اللبيب "ص158" أن الأخفش والكوفيين ذهبوا إلى أن "ثم" زائدة.

(2/65)


لم يجز أن يدخلوا بعضها على بعض، كما لا يجمعون بين حرفي استفهام ولا حرفي نفي؛ فلذلك جاز حمل بعض حروف المضارعة على بعض، ولم يجز حمل بعض حروف العطف على بعض، فاعرف ذلك إن شاء الله.
واعلم أن هذه اللام الجازمة أيضًا حرف مفرد جاء لمعنى كواو العطف، وفائه، وهمزة الاستفهام، ولام الابتداء، وقد كان ينبغي أن تفتح كما فتحن؛ إلا أن العلة في كسرها أنها في الأفعال نظيرة حرف الجر في الأسماء، ألا ترى أن كل واحدة منهما مختصة من العمل بما يخص القبيل الذي هي فيه؛ فلا يتعداه إلى ما سواه، فمن حيث وجب كسر لام الجر في نحو: لزيد مال، ولجعفر، للفرق بينها وبين لام الابتداء، كذلك أيضًا وجب كسر هذه اللام، لأنها في الأفعال نظيرة تلك الأسماء.
ولو قال قائل: إنما كسرت لام الأمر للفرق بينها وبين لام الابتداء التي تدخل على الأفعال المضارعة لأسماء الفاعلين؛ لكان قولًا قويًا، ألا ترى أنك تقول: "إن زيدًا ليضرب"، أي: لضارب، فكرهوا أن يقولوا في الأمر: "إن زيدًا ليضرب"، فيلتبس بقولك: "إن زيدًا لضارب".
فإن قيل: فهل يجوز أن تقول: إن زيدًا ليضرب؛ فتجعل خبر "إن" أمرًا حتى تخاف التباسه بالخبر في قولك: "إن زيدًا ليضرب"؟
فالجواب: أن ذلك جائز، وقد جاء به الشاعر، فجعل خبر "إن"، وخبر المبتدأ، وخبر كان، ونحو ذلك أمرًا لا يحتمل الصدق والكذب.
قال الجميح1:
ولو أصابت لقالت وهي صادقة ... إن الرياضة لا تنصبك للشيب2
والنهي كالأمر في هذا.
__________
1 الجميح: ذكر صاحب الخزانة أن البيت من قصيدة للجميح يذكر فيها عقوق زوجته له لأسباب مادية. انظر/ الخزانة "4/ 295".
2 يؤكد الجميح على أهمية الرياضة التي لا يمكن أن تهيئ للشيب، مستخدمًا في ذلك أسلوب التوكيد "إن ... " الذي لا يمكن أن يحتمل الصدق أو الكذب.
الشاهد فيه أن يبني الاسم على الفعل في قوله "إن الرياضة لا تنصبك للشيب".

(2/66)


وعلى هذا قال سيبويه "وقد يكون في الأمر والنهي أن يبنى الفعل على الاسم؛ وذلك قولك: "عبد الله اضربه"، ابتدأت عبد الله؛ فعرفته بالابتداء، ونبهت المخاطب له لتعرفه باسمه، ثم بنيت الفعل عليه، كما فعلت ذلك في الخبر".
فهذا نص من سيبويه يجواز كون خبر المبتدأ أمرًا ونهيًا، وعلى هذا يجوز: "زيد لا يقم أخوه". وقرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد، وسمعت أبا علي ينشده أيضًا غير مرة:
ألا يا أم فارع لا تلومي ... على شيء رفعت به سماعي1
وكوني بالمكارم ذكريني ... ودلي دل ماجدة صناع2
أي: وكوني بالمكارم مذكرة.
وغير منكر أن يقع لفظ الأمر موقع الخبر؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 25] 3 أي: فليمدن له.
وعلى هذا قول الآخر4:
بئس مقام الشيخ أمرس أمرس ... إما على قعو وإما اقعنسس5
أي: مقام يقال له فيه: أمرس أمرس.
__________
1 يطلب الشاعر من أم فارع أو "فارع" ألا تلومه على شيء، وقوله يا أم فارع أسلوب نداء غرضه الالتماس، والبيت لم نعثر على قائله.
كوني: أسلوب أمر غرضه التمني؛ فهو يتمنى أن تذكر له مكارمه.
وكذا أسلوب الأمر "دلي"، والبيت أسلوبه إنشائي في جملته يحمل غرض النصح والإرشاد والفخر بمكارمه وأمجاده. والبيت كسابقه لم نقف على قائله.
3 الضلالة: الضلال، أو سلوك طريق لا يوصل إلى المطلوب.
فليمدد له الرحمن مدًا: أي فليمل له فيها إملاء. مختصر تفسير الطبري "ص270".
4 الآخر: ذكر البيت صاحب اللسان في مادة "مرس" دون أن ينسبه "6/ 216".
وانظر/ مجالس ثعلب "ص213".
5 اقعنسس: أي تأخر واجذب الدلو. القاموس المحيط "2/ 216".
أمرس: أعد الخيل إلى موضعه من البكرة.
والمرس: الحبل. القاموس "2/ 251".
القعو: البكرة. القاموس المحيط "4/ 379".

(2/67)


وقرأت على محمد بن الحسن عن أحمد بن سليمان عن ابن أخت أبي الوزير عن ابن الأعرابي1:
فإنما أنت أخ لا نعدمه
أي: لا نعدمه؛ فنقل ضمة الهاء إلى الميم، كما قال الآخر2:
عجبت والدهر كثير عجبه ... من عنزي سبني لم أضربه3
أي: لم أضربه، وهذا واسع عنهم كثير.
وكما أن لام الجر قد تفتح مع المظهر في ما حكيناه من قراءة سعيد بن جبير: "وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الْجِبَالُ"4 وغير ذلك، فكذلك قد فتحت لام الأمر في ما حكيناه عن الفراء من قولهم: "ليقم زيد". والعلة في فتح هاتين اللامين في هذه المواضع القليلة أن أصل حركتهما الفتح، فربما خرجتا على أصلهما.
واعلم أن هذه اللام الجازمة لا تضمر إلا في ضرورة الشعر، كما أن حرف الجر لا يحذف إلا في الضرورة. قرأت على أبي علي، قال: أنشد أبو زيد5:
فتضحي صريعًا ما تجيب لدعوة ... ولا تسمع الداعي ويسمعك من دعا6
أي: وليسمعك.
__________
1 ابن الأعرابي: البيت نسبه صاحب مجالس ثعلب إلى أبي محمد الحذلي "ص195".
2 قال الآخر: البيتان لزياد الأعجم كما في الكتاب "2/ 287".
3 يقول الشاعر: تعجبت والدهر فيه عجائب كثيرة من رجل عنزي -ينسب إلى عنزة بن أسد بن ربيعة- سبني وشتمنى وأنا لم أضربه أو أصبه بسوء.
4 مكر: خداع، وأن تصرف غيرك عن مقصده بحيلة.
تزول: تتحول وتنتقل.
5 أبو زيد: ذكر أبو علي البيت ونسبه إلى عمران بن حطان.
6 صريعًا: مغوبًا.
تجيب: أي ترد وتقضي الحاجة وتفيد عما تسأل.
ويقول الشاعر: أنك أصبحت في عداد الصرعى فأصبحت صريعًا لا تستطيع أن تجيب أو ترد على أي دعوة توجه إليك؛ فأنت لا تسمع الداعي الذي يدعوك ويسمعك الذي دعا.
وأسلوب البيت فى جملته خبري غرضه التحسر والتوجع.
الشاهد فيه جزم الفعل "يسمعك" بلام أمر مضمرة للضرورة الشعرية وهذا يكون أغلبه في الشعر.

(2/68)


وقال الآخر1:
فلا تستطل مني بقائي ومدتي ... ولكن يكن للخير منك نصيب2
أي: ليكن.
وأنشد سيبويه3:
على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي ... لك الويل حر الوجه أو يبك من بكى4
قال: أراد أو "ليبك". وحسن ذلك له قليلًا أن قبله أمرًا، وإن لم يكن مجزومًا؛ فإنه في معنى المجزوم، ألا ترى أن معنى "اخمشي": لتخمشى.
ومن أبياته أيضًا5:
محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من شيء تبالا
أراد: لتفد نفسك؛ فحذف اللام، وهذا أقبح من الأول، لأن قبل ذاك شيئًا فيه معنى اللام، وهو "اخمشي"، لأن معناه: "لتخمشي"، وهذا ليس قبله شيء معناه معنى اللام.
__________
1 وقال الآخر: لم نقف على قائل البيت، وذكره صاحب مجالس ثعلب دون أن ينسبه.
2 لا تستطل: أسلوب إنشائي في صورة نهي غرضه النصح والإرشاد.
الشاهد فيه: إضمار لام الأمر للضرورة الشعرية في قوله "ولكن يكن"، والتقدير: "ولكن ليكن".
إعراب الشاهد: يكن: فعل مضارع مجزوم بأداة جزم مضمرة وعلامة الجزم السكون.
3 أنشد سيبويه: نسب صاحب الكتاب البيت لمتمم بن نويرة.
4 اخمشي: خمش خمشًا: أي جرح بشرته في أي موضع من جسده. القاموس "2/ 273".
اخمشي: أسلوب أمر غرضه التحقير.
لك الويل: أسلوب خبري غرضه التهديد والوعيد.
الشاهد فيه جزم الفعل بـ "يبك" و"اخمشي" بلام الأمر المضمرة.
5 أيضًا: لم ينسبه صاحب الكتاب؛ بينما نسبه ابن هشان في شذور الذهب "ص211 شاهد 100" إلى أبي طالب، والبعض ينسبه إلى ولده علي -رضي الله عنه-.

(2/69)


ومثل البيت الأول ما أنشدنيه أبو علي1:
فقلت: ادعي وأدع فإن أندى ... لصوت أن ينادي داعيان2
أي: ولأدع؛ لأن معنى ادعي: لتدعي. وأنشد البغداديون:
من كان لا يزعم أني شاعر ... فيدن مني تنهه المزاجر3
و: "البصائر" أيضًا، أراد: فليدن.
وكل هذا شاذ لا يحسن القياس عليه؛ فهذه اللام العاملة في الأفعال.
وأما اللام غير العاملة فلام القسم، وتدخل من الأفعال في موضعين: أحدهما المضي، والآخر المستقبل.
فأما الماضي فكقولك: والله لقد قمت، وقوله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: 91] 4 وربما حذفت اللام، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10] 5 أي: لقد أفلح من زكاها، ولقد خاب من دساها. وربما حذفت قد.
__________
1 أبو علي: نسب صاحب الكتاب البيت للأعشى؛ بينما نسبه صاحب اللسان في مادة "ندي" إلى دثار بن شيبان.
2 ادع: من دعا بالشيء دعوًا ودعوة ودعاء، أي طلب إحضاره أو نادى أو صاح.
أندى: يقال ندى الصوت أي حسنه. والبيت في جملته أسلوب خبري غرضه التعظيم.
الشاهد فيه وقوله "وأدع" أي: ولأدع.
3 يقول الشاعر أن من يزعم أنني لست بشاعر فليدن مني ولير هل تنهه المزاجر أن لا.
وأسلوب البيت في جملته خبري غرضه التعظيم والفخر.
وقوله "يدن ... " أسلوب أمر غرضه التهديد والوعيد.
والبيت ذكره صاحب اللسان في مادة "زجر" دون أن ينسبه.
والشاهد فيه قوله "فيدن" والتقدير "فليدن".
4 {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} : أسلوب إنشائي في صورة قسم غرضه التأكيد.
5 أفلح- خاب: بينهما تضاد يبرز المعنى ويقويه.
والأسلوب إنشائي في صورة توكيد غرضه إعطاء الكلام قوة وتأثيرًا في النفس والحث على تزكية النفس وبعدها عن الرذائل.

(2/70)


قال امرؤ القيس:
حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا، فما إن من حديث ولا صالي1
أي: لقد ناموا.
وكذلك قولهم: والله لو قمت لقمت، ولو قعدت لقعدت، قال:
والله لو كنت لهذا خالصًا ... لكنت عبدًا آكل الأبارصا2
وأما قول الآخر3:
فلو أن قومي لم يكونوا أعزة ... لبعد لقد لاقيت لا بد مصرعا4
فاللام الأولى في لبعد زائدة مؤكدة، والتي في لقد هي الجواب، ولا يبعد أن يكون هذا الكلام على معنى القسم، كأنه قال: "والله لو أن قومي".
وقد تحذف هذه اللام من بعد "لو" إذا لم يكن القسم ظاهرًا.
قال5:
فلو أن قومى أنطقتني رماحهم ... نطقت، ولكن الرماح أجرت6
أي: لنطقت.
__________
1 سبق تخريجه.
2 الأبارص: جمع سام أبرص، على إرادة النسب.
أسلوب البيت إنشائي جاء في صورة قسم وغرضه التأكيد.
وذكره صاحب اللسان في مادة "ب ر ص" دون أن ينسبه "7/ 5".
3 قول الآخر: البيت ذكره الفراء في معاني القرآن.
4 يقسم الشاعر ويؤكد قائلًا أن قومه لو لم يكونوا أعزة؛ للاقى مصرعه.
والشاهد فيه زيادة اللام في قوله "لبعد" وهي زيادة للتأكيد، والكلام يمكن أن يحمل على معنى القسم، والبيت لم نعثر على قائله.
5 قال: القائل هو عمرو بن معدي كرب الزبيدي، والبيت من شعره "ص56".
6 أجرت: الإجرار: يشق لسان الفصيل حتى يرضع.
ويقول الشاعر أن الرماح كأنما قطعت ألسنتها فهي لا تجيب ولا تنطق وذلك على مجرى التشبيه الاستعاري.

(2/71)


ومثل هذه اللام اللام التي في جواب لولا، نحو قوله عز وجل: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91] 1، و {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِين} [سبأ: 31] 2.
وقال الشاعر3:
فوالله لولا الله لا شيء غيره ... لزعزع من هذا السرير جوانبه4
فهذه اللام التي في جواب لولا؛ إنما هي جواب القسم.
وربما حذفت إذا لم يظهر القسم إلى اللفظ، قال يزيد بن الحكم:
وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوي5
أي: لطحت.
__________
1 أي: لولا أنا نبقي قومك.
رجمناك: أي سببناك. تفسير مختصر الطبري "ص899".
2 وهي مقولة الذين استضعفوا للذين استكبروا في الآخرة حيث يقولون لهم: لولا أنتم لآمنا وكنا في عداد المؤمنين.
3 الشاعر: نسب البيت إلى أم الحجاج بن يوسف، وقيل هو لامرأة في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ومناسبة البيت -كما في شرح أبيات المغني- أن عمر بن الخطاب خرج من الليل فسمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل تسري كواكبه ... وأرقني أن لا ضجيع ألاعبه
فوالله لولا الله تخشى عواقبه ... لزعزع من هذا السرير جوانبه
ولكنني أخشى رقيبًا موكلًا ... بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه
مخافة ربي والحياء يصدني ... وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
فقال عمر لابنته حفصة: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أو أربعة أشهر، فقال عمر: لا أحبس الجيش أكثر من هذا.
4 تقسم الشاعرة قائلة أنه: لولا الله تعالى وحده والجهاد في سبيله لما تحملت ألم الفراق ولتحركت بشدة وعنف من هذا السرير جوانبه.
والبيت في جملته أسلوب إنشائى في صورة قسم غرضه التوكيد.
5 كم: خبرية تفيد الكثرة.
طحت: طاح يطيح طيحًا: هلك.
أجرام: "م" الجرم. وهو الجسد.
قلة الشيء: أعلاه. القاموس "4/ 40".
النيق: أرفع موضع في الجبل "ج" أنياق- نيق- نياق. القاموس المحيط "3/ 287".

(2/72)


ولا تدخل اللام في جواب "لو" و"لولا"؛ إلا على الماضي دون المستقبل، وكان أبو علي قد قال لي قديمًا: إن اللام في جواب "لولا" زائدة مؤكدة، واستدل على ذلك بجواز سقوطها. وكذلك مذهبه في "لو" على هذا القياس لجواز خلو جوابها من اللام.
أنشد ابن الأعرابي1:
فلو أنا على حجر ذبحنا ... جرى الدميان بالخبر اليقين2
أي: لجرى الدميان.
وأما ما أنشدناه أبو علي من قول الشاعر3:
لما أغفلت شكرك فاصطنعني ... وكيف ومن عطائك جل مالي4
فإنما أدخل اللام -وهي موجبة- على ما -وهي نافية-، وهذان أمران ضدان من قبل أنه شبه ما في اللفظ بـ "ما" الموصولة التي في معنى الذي، وقد تقدم5 ذكرنا لهذا الشبه اللفظي.
وأما اللام الداخلة على المستقبل فتلزمها النون للتوكيد ولإعلام السامع أن هذا فعل مستقبل وليس للحال كالذي في قول الله عز وجل: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [النحل: 124] 6 أي: لحاكم.
فإن زال الشك بغير النون؛ استغنى عنها، قال الله تعالى: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الشعراء: 49] لأن سوف تخص الاستقبال، وذلك قولك: "والله لأقومن ولأقعدن".
واعلم أن هذه اللام إذا وليت المستقبل فلحقته النون؛ لم تأت إلا على نية القسم.
__________
1 البيت نسبه صاحب الخزانة لعلي بن بدال بن سليم "3/ 351".
2 يقول الشاعر: إننا لو ذبحنا على حجر لسالت الدماء وجرت بالخبر اليقين.
والبيت أسلوبه خبري تقريري.
3 البيت للنابغة الذبياني.
4 تم التعليق على البيت.
5 تقدم في ما ذكرناه.
6 {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} : الأسلوب إنشائي في صورة توكيد.

(2/73)


قال سيبويه: "سألت الخليل عن "ليفعلن" إذا جاءت مبتدأة؛ فقال: هي على نية القسم"1؛ فكانت إذا قلت على هذا: لأضربنك، وإذا قلت: لينطلقن زيد؛ فكأنك قلت: والله لينطلقن زيد، وكذلك قوله عَزَّ اسْمُهُ: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] 2 أي: والله لتعلمن.
وإذا كان ذلك كذلك؛ فقوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] 3؛ ليست اللام في "لئن" بجواب القسم، إنما الجواب لنذهبن، وعليه وقع الحلف، واللام في "لئن"؛ إنما هي زائدة مؤكدة، يدلك على أن اللام الأولى زائدة وأن اللام الثانية هي التي تلقت القسم: جواز سقوط الأولى في نحو قول الشاعر: قرأته على أبي علي في نوادر أبي زيد لقيس بن جروة الطائي جاهلي:
فأقسمت لا أحتل إلا بصهوة ... حرام علي رمله وشقائقه
فإن لم تغير بعض ما قد صنعتم ... لأنتحين للعظم ذو أنا عارقه4
ولم يقل: فلئن لم تغير؛ فهذا نظير قوله عَزَّ اسْمُهُ: {وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة: 73] أي: والله إن لم ينتهوا ليمسن. وقد شبه بعضهم "إذ" بـ "إن" فأولاها اللام، فقال5:
غضبت علي وقد شربت بجزة ... فلإذ غضبت لأشربن بخروف6
__________
1 القسم: ذكر ذلك سيبويه في الكتاب.
2 {لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} : أي لتعلمن خبره وصدقه.
3 {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} : يقول عز وجل: لئن شئنا لنذهبن بالذي اوحينا إليك فلا تعلمه. انظر/ تفسير مختصر الطبري "ص251".
4 البيتين ذكر الثاني صاحب اللسان في مادة "ع ر ق": "10/ 250" ونسبهما إلى عارق، ويقال هو عمرو بن ملقط الطائي. الشاهد في قوله "لأنتحين" والتقدير أن اللام لام القسم أي "والله لأنتحين". انظر/ خزانة الأدب "3/ 330"، والنوادر "ص266".
5 يقال: أن البيت لأعرابي كان يشرب الخمر ويشتريها بجزة صوف.
6 يقول الشاعر أنه شرب خمرًا بجزة، أي ما يجز من صوف الماعز والخراف فغضبت زوجته فأقسم إن غضبت ليشربن بخروف وليس بجزة منه.
والشاهد اللام في قوله "لأشربن" حيث تعتبر لام القسم والتقدير "والله لأشربن".

(2/74)


ويدل أيضًا على أنك إذا قلت: والله لئن قمت لأقومن فاعتماد القسم على اللام في لأقومن، وأن اللام في "لئن قمت" منها بد قول كثير:
لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذن لا أقيلها1
فرفع "أقيلها" يدل على أن اعتماد القسم عليه كقوله عَزَّ اسْمُهُ: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} [الحشر: 12] 2 أي: "والله لا يخرجون معهم إن أخرجوا"، ولو كانت اللام التي في "لئن عاد لي عبد العزيز" جواب القسم لا نجزم لا أقيلها، كما تقول: "إن تقم إذن لا أقم"، وأما قوله تعالى ذكره: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا} فقال الخليل3: "معناها ليظلن" فأوقع الماضي موقع المستقبل. ومثله مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل قول الحطيئة4:
شهد الحطيئة حين يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر5
أي: يشهد. وأنشدنا أبو علي6:
وإني لآتيكم تشكر ما مضى ... من الأمر واستجاب ما كان في الغد7
أي: ما يكون. وأما قوله تعالى ذكره: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102] 8؛ فاللام في "لقد علموا" لام قسم محذوف
__________
1 أقيلها: أتجاوز عنها.
ويقول كثير: أن عبد العزيز لو عاد إلى ما ارتكبه مرة أخرى فلن أقبل عثرته ولن أتجاوز عنها.
2 وأولئك الذين لا يخرجون معهم هم المنافقون، وقيل هم عبد الله بن أبي، ووديعة، ومالك ابنا نوفل، وسويد وداعس. مختصر تفسير الطبري "ص483".
3 انظر/ الكتاب "1/ 456".
4 عثرنا على البيت في ديوانه.
5 يقول الحطيئة أنه سيشهد حين يلقى ربه أن الوليد أحق بالعذر.
والبيت خبري غرضه الاسترحام.
6 روى أبو علي ذلك عن الطرماح وهو الطرماح بن حكيم. انظر/ الخصائص "3/ 331".
7 "إنى...." أسلوب إنشائي في صورة توكيد الذي يدل على قوة الإقناع بالحجة المصحوبة بالدليل. والبيت للطرماح بن حكيم.
8 خلاق: حظ ونصيب من الخير، والأسلوب إنشائي في صورة توكيد. القاموس "3/ 229".

(2/75)


مقدر، ومعناه: والله لقد علموا، واللام في "لمن اشتراه" لام الابتداء، و"من" بمنزلة الذي، وتقديره -والله أعلم- والله لقد علموا للذي اشتراه ما له في الآخرة من خلاق، و"الذي" في موضع رفع بالابتداء، وصلته اشتراه، وقوله عز وجل: {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} خبر "الذي"، والجملة التي هي مبتدأ وخبر في موضع نصب بعلموا، كما تقول: "قد علمت لزيد أفضل منك"، و"لقد علمت أزيد عندك أم عمرو"، فلام الابتداء في هذا وهمزة الاستفهام في إقطاعهما الاسم من العامل الذي قبله، وحولهما بينه وبينه سواء. فهذا هو الوجه أن تجعل من بمنزلة "الذي"، واللام فيه لام الابتداء، وهو مذهب سيبويه1.
وفيه وجه ثان ذهب إليه غيره، وهو أن تجعل "من" شرطًا، وتجعل اللام فيه كالتي تعترض زائدة بين القسم والمقسم عليه نحو قوله عز وجل: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا} [الروم: 51] 2 فيصير التقدير "والله لقد علموا لئن أحد اشتراه ما له في الآخرة من خلاق"؛ فيجري هذا مجرى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81] 3 أي: "لئن آتيتكم شيئًا من كتاب وحكمة". على أن مذهب سيبويه والخليل4 أن "ما" ههنا بمنزلة "الذي"، واللام فيها لام الابتداء. وفى اعتقاد من جعل "من" في قوله عَزَّ اسْمُهُ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} [البقرة: 102] شرطًا بعض الضعف؛ وذلك أن "علموا" تقتضي مفعوليها؛ فإذا أوقعت القسم بعدها حتى يصير كأنه قال: "ولقد علموا والله لئن اشتراه أحد ما له في الآخرة من خلاق"، وأصل "والله" -كما علمت- أحلف بالله؛ فقد صار التقدير -والله أعلم-: ولقد علموا -أحلف بالله- لئن اشتراه أحد ليكونن كذا وكذا، وإذا تأدى الأمر إلى هذا؛ قبح أن يلي "علمت" فعل القسم؛ لأن "علمت" وأخواتها إنما تدخل على المبتدأ وخبره لا على الفعل وفاعله.
__________
1 الكتاب "1/ 120، 473".
2 وقد سبق ذكرها.
3 ميثاق: عهد "ج" مواثيق. القاموس "3/ 287".
حكمة: بالكسر العدل والعلم والحلم والنبوة والقرآن والإنجيل "ج" حكم. القاموس "4/ 98".
والأسلوب خبري تقريري.
4 مذهبهما في الكتاب "1/ 455".

(2/76)


فإن قلت: فعلام تجيز كون "من" شرطًا وقد قدمت قبح ذلك؟
فالجواب: أن جواز ذلك على أن تجعل "علموا" نفسها قسمًا، وقد استعملتها العرب بمعنى القسم، ومن أبيات الكتاب1:
ولقد علمت لتأتين منيتي ... إن المنايا لا تطيش سهامها2
فكأنه قال: والله لتأتين منيتي.
فإن قلت: فإذا جعلت علموا جاريًا مجرى القسم بما ذكرته، وعندك أن اللام في "لقد" دالة على القسم المحذوف؛ فكأنه عندك: والله لقد علموا، وقوله: {قَدْ عَلِمُوا} جار مجرى القسم؛ فكيف يجوز على هذا دخول القسم على القسم، أولا ترى أن سيبويه والخليل3 ذهبا في قوله تعالى ذكره: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس: 1، 2] 4 أن جميع ما بعد الواو الأولى من الواوات إنما هو واو عطف، وليس بواو قسم لئلا يدخل قسم على قسم؛ فيبقى الأول منها غير مجاب؟
فالجواب: أن ذلك إنما جاز في "علموا" من حيث كان إنما هو في معنى القسم، وليس قسمًا صريحًا؛ وإنما هو بمنزلة "أشهد لقد كان كذا"، وماجرى مجرى هذا مما ليس بقسم محض؛ فلأجل هذا جاز أن تكون من في قوله سبحانه: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} شرطًا، واللام في أولها مؤكدة للشرط، فاعرف ذلك إن شاء الله.
وذهب أبو إسحاق في قوله جل ثناؤه: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج: 13] 5 إلى أن التقدير: "يدعو من لضره أقرب من نفعه".
__________
1 نسب البيت صاحب الكتاب إلى لبيد بن ربيعة العامري وهو مذكور في معلقته "1/ 456".
2 الشاهد فيه وشرحه. انظر/ شذور الذهب "ص365" شاهد 185.
3 الكتاب "2/ 146" والآية التي ذكرها سيبويه في هذه المسألة قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل: 1-3] .
4 الأسلوب إنشائي في صورة قسم غرضه التوكيد.
والشاهد في الآية أن جميع الواو حرف عطف.
5 أي يدعو آلهة لضرها في الآخرة أقرب من نفعها.
والشاهد فيه تقديم اللام عن موضعها، والتقدير يدعو من لضره أقرب من نفعه.
وهذا رأي البصريين والكوفيين.

(2/77)


قال: فقدمت اللام عن موضعها، وحكى هذا القول عن البصريين والكوفيين جميعًا، وهذا عندنا على إجماع الكافة عليه في ما حكاه أبو إسحاق غير جائز ولا مرضٍ، وقد أنكره أبو علي، وذهب في فساده إلى أن اللام على هذا التقدير من صلة من، ومحله أن تتقدم الصلة أو شيء منها على الموصول.
فإن قلت: فما تقول في هذه اللام، وكيف موقع الكلام؟
فالجواب: أن فيه أربعة أوجة غير ما حكاه أبو إسحاق:
أحدها: أن تجعل يدعو تكرارًا لـ "يدعو" الأولى1، وترك إعمالها؛ لأنها قد أعملت متقدمة؛ فاستغني فيها عن إعادة العمل، كما تقول: "ضربت زيدًا ضربت"، حكى ذلك سيبويه، أعني قولهم: ضربت زيدًا ضربت، وتكون اللام في "لمن" لام الابتداء و"من" مرفوعة بالابتداء، وقوله عز وجل: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} [الحج: 13] 2 خبر "من" كأنه قال: للذي ضره أقرب من نفعه لبئس المولى، واللام التي في "لبئس" هي اللام التي يتلقى بها القسم في نحو:
................................. ... لناموا فما إن من حديث ولا صالي3
وهي تدل على يمين محذوفة؛ فكأنه -والله أعلم- للذي ضره أقرب من نفعه والله لبئس المولى، كما تقول: زيد والله لقد قام؛ فهذا وجه.
والثاني: أن تكون هناك هاء محذوفة منصوبة بـ "يدعو"، وتكون الجملة في موضع نصب على الحال من "ذلك" في قوله عز وجل: {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18] 4 التقدير: "ذلك هو ضلال البعيد مدعوًا"، وغير منكر حذف
__________
1 الأولى: أي قوله تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} .
2 {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} أسلوب ذم غرضه التحقير.
والشاهد فيه اللام التي يتلقى بها القسم، والتي تدل على يمين محذوفة تقديرها: "والله لبئس المولى".
3 والشاهد فيها وجود اللام التي يتلقى بها القسم والتي تدل على يمين محذوفة.
4 الشاهد فيه أن "ذلك" نزلت منزلة اسم الموصول -الذي- وبالتالي فإن جملة "هو الضلال البعيد" هي صلة له، وتنصب "ذلك" على المفعولية للفعل "يدعو".

(2/78)


الهاء من الحال لأنها تضارع الصفة، والصفة قد يجوز فيها حذف الهاء جوازًا حسنًا؛ وذلك نحو قولك: "الناس رجلان فرجل أكرمت ورجل أهنت، والقوم مختلفون فواحد ضربني وآخر ضربت"، قال: وهو من أبيات الكتاب1:
أبحت حمى تهامة بعد نجد ... وما شيء حميت بمستباح2
أي: حميته، فعلى هذا تقول: "نظرت إلى زيد تضرب هند"، أي: تضربه هند، فتحذف الهاء من الحال لمضارعتها الصفة.
والوجة الثالث: أن تجعل "ذلك" بمنزلة "الذي" وتجعل الجملة التي هي قوله تعالى: {هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} صلة له، وتنصب "ذلك" الذي بمعنى "الذي "بيدعو"؛ فيصير التقدير: الذي هو الضلال البعيد يدعو، كما تقول: زيدًا يضرب، و"ذا" قد استعملت بمعنى الذي، نحو قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة: 219] 3 في من رفع الجواب، فقال: "قُلِ الْعَفْوُ"4 أي: ما الذي ينفقون؟ فرفع "العفو" يدل على أن ما مرفوعة بالابتداء، وذا خبرها، وينفقون صلة ذا، وأنه ليس "ماذا" جميعًا كالشيء الواحد، هذا هو الوجه عند سيبويه، وإن كان قد أجاز الوجه الآخر مع الرفع.
__________
1 نسب صاحب الكتاب البيت لجرير وعثرنا عليه في ديوانه "1/ 45".
2 أبحت: أباح الشيء أي أحله وأطلقه.
حمى: الحمى: الموضع فيه كلأ يحمى من الناس أن يرعى. لسان العرب "14/ 199".
مستباحًا: أي عده مباحًا وأحله وأطلقه.
الشاهد فيه حذف الهاء منقوله حميت، والتقدير أي وما شيء حميته.
3 أخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس: "أن نفرًا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها فى أموالنا فما ننفق منها؟ "
وأخرج أيضًا عن يحيى أنه بلغه: "أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالا: يا رسول الله إن لنا أرقاء وأهلين؛ فما ننفق من أموالنا؟ فأنزل الله هذه الآية". تفسير وبيان مع أسباب النزول للسيوطى "ص72-73".
4 هي قراءة أبى عمرو، أما بقية القراءات للقراء السبعة فقرأوها بالنصب.

(2/79)


والوجه الرابع: أن يكون "يدعو" بمنزلة يقول، أي: يقول لمن ضره أقرب من نفعه إله أو رب؛ فتكون من مرفوعة بالابتداء، وخبرها محذوف مقدر كما أريتك. ويدلك على أن "يدعو" بمنزلة يقول قول عنترة1:
يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأهم2
أي: يقولون: يا عنتر؛ فدلت "يدعون" عليها. وقد ذهب أيضًا أبو إسحاق في هذه الآية إلى أن "يدعو" بمنزلة يقول، وهو صحيح.
فإن قلت: فلم جعلت خبر "من" محذوفًا دون أن يكون قوله: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} كما أجزت أنت ذلك في ما تقدم من كلامك؟
فالجواب: أن الكفار ليسوا يقولون لمن يدعونه إلهًا: "لبئس المولى ولبئس العشير"؛ لأنهم لو قالوا ذلك؛ لكان سوء ثناء منهم عليه، والكافر لا يسيء الثناء على معبوده؛ لأنه لو ساء ثناؤه عليه لما عبده أصلًا، ونحن في أول الأمر لم نحك ذلك عنهم؛ وإنما أخبرنا أن من ضره أقرب من نفعه؛ فإنه بئس المولى، وكذلك هو عندنا، وليس هو كذلك، عند من يكفر بالله تبارك وتعالى.
فإن قلت: فإذا كان الأمر كذلك فكيف جاز أن يقول: يدعو لمن ضره أقرب من نفعه إله، والكافر لا يقول: لمن ضره أقرب من نفعه إله؛ لأن ذلك أيضًا سوء ثناء منه عليه، كما أن قوله: "لبئس المولى" سوء ثناء عليه، فما الفرق بين الموضعين؟ ولم جاز أحدهما دون الآخر؟
فالجواب: أن ذلك إنما جاز على حكاية قولنا نحن فيه، ونظير هذا قولك لمن تريد أن تردعه عن الشيء وتثنيه3 إلى غيره: انته عن كذا وكذا فإنه باطل، فيقول
__________
1 البيت من معلقة عنترة وكذا في ديوانه.
2 أشطان: "م" شطن. والشطن فتحتي الحبل وقال الخليل هو الحبل الطويل.
لبان: اللبان: الصدر أو وسطه أو وسطه أو ما بين الثديين. القاموس "4/ 265".
الأدهم: دهم، دهمة: أسود فهو أدهم وهي دهماء "ج" دهم. والأدهم اسم يطلق على فرس عنترة. القاموس المحيط "4/ 115".
والشاهد فيه معاملة يدعو بمنزلة يقول.
3 تثنيه: أي تجعله ينعطف ويرتد. لسان العرب "14/ 115" مادة/ ثني.

(2/80)


المزجور مجيبًا: ما هو إلا الحق؛ فتقول أنت منكرًا عليه ومتعجبًا منه: هذا يقول: الباطل حق، ويقول: الغي رشد، وهو لم يقل إنه باطل، والا إنه غي، بل هو يعتقد فيه ضد البطلان والغواية1؛ ولكن صار تقديره: هذا يقول: إن ما يفعله- وهو باطل عندي - حق عنده؛ فسميته باطلًا على طريق الحكاية لا على أنه على الحقيقة عنده باطل، وكيف يجوز أن يعتقد فيه أنه باطل، ثم يعتقد مع ذلك أنه حق، هذا ظاهر التناقض.
فكذلك قوله عَزَّ اسْمُهُ: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج: 13] 2 معناه: يقول: إن معبوده الذي ضره أقرب من نفعه عندي إله عنده، وقد جاءت هذه الحكاية عنهم مجيئًا متسعًا.
أنشدني أبو علي لرجل يهجو جريرًا3:
أبلغ كليبًا، أبلغ عنك شاعرها ... أني الأغر وأني زهرة اليمن4
فقال جرير مجيبًا:
ألم تكن في وسوم قد وسمت بها ... من حان موعظة يا زهرة اليمن5
فسماه زهرة اليمن على مذهب الحكاية لقوله، أي: يا من قال إني زهرة اليمن، ولست عندي كذلك.
__________
1 الغواية: الإمعان في الضلال. القاموس المحيط "4/ 372".
2 سبق التعليق عليها.
3 جريرًا: يقال أن هذا الرجل الذي يهجو جريرًا هو زهرة اليمن. انظر/ الخصائص "2/ 461".
4 أبلغ: أسلوب إنشائي في صورة أمر غرضه التعظيم.
الأغر: الرجل الذي كرمت فعاله واتضحت؛ فهو أغر وهي غراء. "ج" غر.
زهرة اليمن: كناية عن التلألأ والإشراق، والأزهر كل أبيض صاف مشرق مضيء، وزهرة اليمن أي بهجتها ومتاعها.
5 ألم تكن: أسلوب إنشائي في صورة استفهام غرضه التحقير.
يازهرة اليمن: أسلوب إنشائي في صورة نداء غرضه التهكم والسخرية.
الشاهد فيه قوله "يازهرة اليمن" والتقدير أي يا من قال إني زهرة اليمن.
وانظر/ ديوانه "ص746".

(2/81)


وكذلك قوله عز وجل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 46] 1 وإنما هو في الحقيقة عنده الذليل المهان؛ ولكن تقديره -والله أعلم-: إنك أنت الذي يقول له رهطه وعشيرته: أنت عزيز كريم. وكذلك قوله تعالى أيضًا: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف: 49] 2؛ وإنما قالوا هذا بعد إيمانهم به؛ ولكن تقديره -والله أعلم- يا أيها الساحر عند أولئك القوم الذين يدعونك ساحرًا؛ فأما نحن نعلم أنك لست ساحرًا.
وعلى تأول أهل النظر قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] 3 قالوا: معناه وأرسلناه إلى جمع لو رأيتهم لقلتم أنتم فيهم: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون.
فهذا الشك إنما دخل الكلام على الحكاية لقول المخلوقين؛ لأن الخالق جل جلاله وتقدست أسماؤه لا يعترضه الشك في شيء من خبره.
وهذا ألطف وأوضح معنى من قول قطرب: إن "أو" بمعنى الواو، ومن قول الفراء4: إن "أو" بمعنى "بل"؛ فهذا ما احتملته هذه الآية من القول.
واعلم أن اللام قد لحقت من الحروف موضعين، جاءت في أحدهما للتوكيد، وفي الآخر للتوصل إلى النطق بالساكن.
الأول نحو قولك: "لعل زيدًا قائم"؛ إنما هو "عل"، واللام زائدة مؤكدة.
__________
1 أسلوب إنشائي في صورة أمر غرضه التحقير.
وقوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ} أسلوب توكيد.
والشاهد فيه: أي أنك أنت الذي كان يقول له أهله وعشيرته أنت عزيز كريم.
2 أي قال فرعون وملؤه لموسى: "يا أيها الساحر" وعنوا بـ "الساحر" في هذا الموضع: العالم؛ إذ لم يكن السحر عندهم ذمًا مختصر تفسير الطبري "ص432".
وقولهم: {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} أسلوب إنشائي في صورة نداء غرضه التقرير، وقولهم: "ادع" أسلوب إنشائي في صورة أمر غرضه التعجيز.
3 أي أننا أرسلنا ذا النون إلى قوم، لو رأيتموهم لقلتم أنهم مائة ألف أو يزيدون.
والآية كناية عن الكثرة العددية.
4 ذكر ذلك الفراء في معاني القرآن "2/ 393".

(2/82)


قال الشاعر1:
يا أبتا علك أو عساكا2
أي: لعلك. وقال الآخر3:
عل صروف الدهر أو دولاتها ... يدلننا اللمة من لماتها4
فتستريح النفس من زفراتها5
وقرأت على محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى:
علِّي في ما أبتغي أبغيش6
أي: لعلي.
وحكى أبو زيد7 أن لغة عقيل "لعل زيد منطلق"، بكسر اللام الآخرة من "لعل" وجر "زيد".
__________
1 نسب صاحب الكتب البيت لروبة "1/ 388".
انظر/ شرح المفصل "3/ 120"، والخزانة "2/ 442".
2 الشاهد فيه حذف اللام في قوله "علك" والتقدير "لعلك" وذكر اللام للتوكيد ذلك أنها لو لحقت "علك" وهو حرف؛ لكانت للتوكيد ولا يمكن أن تكون معها للتوصل إلى النطق الساكن.
والبيت نسبه صاحب الكتاب إلى رؤبة.
3 لم تنسب الأبيات إلى قائل معين، وهي في معاني القرآن للفراء"3/ 235".
4 صروف الدهر: "م" صرف الدهر أى نوائبه وحدثانه. لسان العرب "9/ 189" مادة/ صرف.
دولاتها: دال الدهر دولًا ودولة أي انتقل من حال إلى حال. القاموس "3/ 377".
يدلننا: أي ينزلننا من علو، وهو كناية عن تغير الحال من الأفضل إلى الأسوأ.
اللمة: الشدة "ج" لمام. القاموس المحيط "4/ 177".
والبيت في اللسان بغير نسبة. "4/ 325". مادة/ زفر.
5 زفرتها: زفر- زفرًا- زفيرًا: أخرج نفسه بعد مده إياه، وهو بخلاف الشهيق.
والبيت كناية عن طلب الراحة، وقوله "تستريح النفس" تشبيه استعاري حيث يشبه النفس بإنسان يبحث عن الراحة.
6 الشاهد فيه حذف اللام في قولة "علي" والتقدير "لعلي".
7 ذكر أبو زيد أن صاحب اللسان ذكر ذلك. انظر/ اللسان "13/ 501".

(2/83)


وقال كعب بن سعد الغنوي1:
فقلت: ادع أخرى وارفع الصوت ثانيًا ... لعل أبي المغوار منك قريب2
وقال أبو الحسن3: "ذكر أبو عبيدة أنه سمع لام "لعل" مفتوحة في لغة من يجر في قول الشاعر4:
لعل الله يمكنني عليها ... جهارًا من زهير أو أسيد5
وقال الراجز6:
فباد حتى لكأن لم يسكن ... فاليوم أبكى، ومتى لم يبكني7
فأكد الحرف باللام.
وقال الآخر8:
للولا حصين عينه أن أسره ... وأن بني سعد صديق ووالد9
__________
1 ذكر صاحب الخزانة ذلك "4/ 370".
2 الشاهد فيه قوله "لعل"؛ حيث أضاف إلى "عل" اللام وهي هنا للتوكيد.
والبيت في جملته إنشائي.
وقوله ادع- ارفع: أسلوب أمر غرضه التهكم والسخرية.
والبيت من قصيدة يرثي بها أخاه شبيبًا، وقيل: اسمه هرم ويكنى أبا المغوار، وهو في النوادر "ص218" ولا شاهد فيه على هذه الرواية.
وبعضهم يقول: البيت لسهم الغنوي.
3 ذكر ذلك في معاني القرآن "ص123-124".
4 ذكره صاحب الأغاني أن البيت لخالد بن جعفر "1/ 79"، والخزانة "4/ 375".
5 الشاهد فيه اقتران اللام الزائدة المؤكدة بالحرف "عل" مع جر ما بعدها فى لغة من الجر مع فتح اللام.
6 ذكر صاحب الخزانة "4/ 331".
7 الشاهد فيه تأكيد الحرف "كأن" باللام الزائدة.
8 انظر/ المذكر والمؤنث للأنباري "ص235".
9 الشاهد فيه دخول اللام الزائدة للتوكيد على الحرف "لولا".
والبيت أسلوبه إنشائي في صورة توكيد.

(2/84)


وقال الآخر:
للولا قاسم ويدًا بسيل ... لقد جرت عليك يد غشوم1
وأما قولنا: "إن زيدًا لفي الدار"، و"أن زيدًا لبك واثق"؛ فاللام داخلة فيه على خبر "إن" لا على الحرف. وكذلك ما أشبهه، وكذلك قوله تعالى: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الشعراء: 49] 2، {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] 3؛ إنما اللام داخلة فيه على الفعل لا على الحرف.
الثاني منهما: قولنا في حروف المعجم "هَـ ولا يَ" ولا يقال هنا: لام ألف كما يقول المعلمون؛ إنما يقال: "لا ي" ووجه ذلك أن ألف "لا" إنما هي المدة الساكنة في نحو قام، وحمار، وكتاب، ولا يمكن الابتداء بهذه الألف؛ لأنها لا تكون إلا مدة ساكنة، وأرادوا النطق بها كما أرادوا النطق بسائر حروف المعجم غيرها؛ فدعمها واضع الهجاء بحرف يقع الابتداء به، وهو اللام، توصلًا إلى النطق بها ساكنة بحالها، فقال: "لا".
فإن قال قائل: ما أنكرت أن يكون؛ إنما أراد واضع الحروف أن يرينا كيف تتركب اللام والألف، فشكل هذا الشكل الذي هو "لا" دون ما ذهبت إليه من أنه أدخل اللام لسكون الألف؟
فالجواب: أنه لو كان غرض واضع حروف المعجم أن يرينا في هذا الموضع كيف تتركب اللام والألف؛ لأرانا أيضًا كيف تتركب الجيم والطاء، وكيف تتركب السين والباء، وكيف تتركب القاف والدال، ومعلوم أنه ليس ذلك غرضه،
__________
1 قاسم- يسيل: اسما رجلين.
جرت: أجر جريرة أي ارتكب جناية وذنبًا.
غشوم: الغشوم: الشديد الظلم. القاموس المحيط "4/ 156".
والشاهد فيه دخول اللام الزائدة للتوكيد على الحرف لولا.
والبيت ذكره صاحب الخزانة دون أن ينسبه.
2 الشاهد فيه دخول اللام الزائدة للتوكيد، والتقدير "فسوف تعملون".
3 والشاهد فيها أيضًا دخول اللام الزائدة للتوكيد، والتقدير "وسوف يعطيك ربك فترضى".

(2/85)


وإنما غرضه تصوير هذه الحروف منفردة غير مركبة، وأن ينطق لها ليذاق جرسها، وأول كل حرف من اسم كل واحد من هذه الحروف الحرف المقصود.
ألا ترى أن أول قولنا "قاف"، وأول قولنا "طاء" طاء، وأول قولنا "جيم" جيم؛ فلما كانت الألف التي هي مدة ساكنة لا يمكن الابتداء بها، وتذاق الألف ساكنة على جنسها، فقالوا: "و، لا، ي" فقولنا "لا" كقولنا "ما" و"ها" في التنبيه، و"يا" في النداء، و"وا" في الندابة.
فإن قال قائل: فإذا كان الأمر كذلك؛ فلم خصت اللام بالابتداء في هذا الموضع دون غيرها من سائر الحروف؟
فالجواب: أن واضع حروف المعجم أجرى هنا على مذهب اللفظ، وقفًا في ذلك سنة العرب، وذلك أنه رأى العرب لما أرادت النطق بلام المعرفة وهي ساكنة مبتدأة؛ توصلت إلى ذلك بأن ألحقتها الألف المتحركة ليقع الابتداء بها، وذلك قولهم: الغلام، والجارية، فكما أدخلوا الألف المتحركة في هذا ونحوه ليقع الابتداء بها، كذلك أدخل واضع الحروف اللام المتحركة على الألف الساكنة لما لم يكن الابتداء بها، فقال "لا" فهذا هنا كذلك ثمة.
فإن قال قائل: فإن أصل حركة الحرف المدخل للابتداء به؛ إنما هو الكسر، نحو: اذهب، انطلق، امش، استخرج، اقتطع. ولا تضم هذه الهمزة إلا إذا كان ثالثها مضمومًا، نحو: اقتل، انقطع بزيد.
فهلا إذا كان الأمر كذلك أدخلت اللام على الألف مكسورة كما كسرت الهمزة في الأمر الشائع المطرد على ماذكرناه آنفًا؟
فالجواب عن ذلك من وجهين:
أحدهما أن اللام في قولنا "لا"؛ إنما هي مشبهة بالهمزة اللاحقة للام المعرفة، نحو الغلام والجارية، وتلك الهمزة أبدًا مفتوحة، فكذلك فتحت لام "لا".
والوجه الآخر: أنهم لو جاءوا باللام مكسورة كالعادة فيما أدخل للابتداء به في غالب الأمر؛ لوجب قلب الألف ياء لانكسار اللام قبلها؛ فكان يلزم أن يقال "لي" فيصار إلى لفظ الياء، وليس إلى هذا قصد الواضع للحروف.

(2/86)


وكذلك لو ضم اللام؛ لوجب أن تنقلب الألف واوًا لانضمام اللام قبلها، فيقال "لو" وهذا في الامتناع كالذي قبله، فمن هنا وجب أيضًا أن تكون لام "لا" مفتوحة لتصبح الألف المقصودة بعدها إذ كانت الألف لا يكون ما قبلها أبدًا إلا مفتوحًا.
قد أتينا بحمد الله ومنه على ما في اللام من الأحكام بأبلغ ما يمكن.
والله تعالى الموفق للصواب.

(2/87)