سر صناعة الإعراب باب النون:
النون حرف مجهور أغن، يكون أصلًا وبدلًا وزائدًا.
فالأصل يكون فاء وعينًا ولامًا، فالفاء نحو نعم ونعم، والعين نحو جنب
وجنح، واللام نحو حصن وقطن.
وأما البدل فذهب أصحابنا1 إلى النون في فعلان؛ فعلى نحو سكران وغضبان
وولهان2 وحيران بدل من همزة فعلاء نحو حمراء وصفراء؛ وإنما دعاهم إلى
القول بهذا أشياء:
منها: أن الوزن في الحركة والسكون في فعلان وفعلاء واحد، وأن في آخر
فعلان زائدتين معًا، والأولى منهما ألف ساكنة كما أن فعلاء كذلك.
ومنها: أن مؤنث فعلان على غير بنائه؛ إنما هو فعلى، كما أن مذكر فعلاء
على غير بنائها؛ إنما هو أفعل.
ومنها: أن آخر فعلاء همزة، وهي علامة التأنيث، كما أن آخر "فعلان" نون
تكون في "فعلن" نحو "قمن" و"قعدن" علامة تأنيث. فلما اشتبهت الهمزة
والنون هذا الاشتباه، وتقاربتا هذا التقارب؛ لم يخلوا من أن يكونا
أصلين كل واحد منهما قائم بنفسه غير مبدل من صاحبه، أو يكون أحدهما
منقلبًا عن الآخر؛ فالذي يدل على أنهما ليسا أصلين بل النون بدل من
الهمزة في "صنعاء" و"بهراء" يدل على أنها في باب "فعلان فعلى" بدل من
همزة فعلاء. وإذا ثبت ذلك فقد ينضاف إليه مقويًا له قولهم في جمع
إنسان: أناسي، وفي جمع ظربان3: ظرابي.
__________
1 أصحابنا: رأي أصحابه يمكن مراجعته في كل من: المنصف "1/
153-158-159"، والكتاب "2/ 314-349".
2 ولهان: الوله: شدة الحزن مع الحنين والوجد. القاموس المحيط "4/ 295".
3 ظربان: حيوان في رتبة اللواحم والفصيلة السمورية، وهو أصغر من
السنور، أصلم الأذنين مجتمع الرأس، طويل الخطم قصير القوائم. منتن
الرائحة. القاموس "1/ 99".
(2/107)
قال الراجز1:
دون ظرابي بني قرواش2
فجرى هذا مجرى قولهم صلفاء3 وصلافي وخبراء4 وخباري؛ فردهم النون في
إنسان وظربان ياء في ظرابي وأناسي كما ردوا همزة خبراء وصلفاء ياء يدل
على أن الموضع للهمزة، وأن النون داخلة عليها. ونحو من ذلك أيضًا قولهم
سكران وسكارى، وحيران وحيارى، وندمان5 وندامى، ونصران ونصارى6؛ فجرى
هذا مجرى صحراء وصحارى.
فإن قيل: فما تنكر أن تكون النون هي الأصل والهمزة بدل منها، بدلالة
قلبهم النون في "ظربان" و"إنسان" ياء في "ظرابي" و"إناسي"؛ فكما قلبت
هنا ياء كذلك قلبت نون "فعلان" همزة في فعلاء، وما الفرق بينك وبين عكس
الأمر عليك كما ذكرناه؟
فالجواب: أن الذي قدمناه من قولهم في صنعاء وبهراء7: صناعني وبهراني
دلالة قاطعة على أن النون هي البدل من الهمزة، لا أن الهمزة بدلًا من
النون، وإذا كان الأمر كذلك؛ فالنون أيضًا في "إنسان" و"ظربان" بدل من
الهمزة لقولهم: ظرابي وأناسي كقولهم: "صلافي وخباري".
فإن قلت: فإن إنسانًا فعلان، وظربان: فعلان، وليس فيهما فعلان، وأنت قد
قدمت من قولك أن النون في فعلان بدل، ولم تذكر فعلان ولا فعلان!
__________
1 لم نعثر على نسب لهذا الراجز.
2 جاء شطر البيت في شرح الملوكي "ص363" ولم نعثر عليه في اللسان، ولم
يذكره صاحب المنصف ولا غيرهما.
والشاهد فيه: جمع كلمة ظربان على ظرابي، بينما تجمع على "ظربى -
ظرابين" وذلك عند النسب إليها حيث نسبت إلى بني قرواش.
3 صلفاء: الطلب من الأرض فيه حجارة. القاموس المحيط "3/ 163".
4 خبراء: الأرض التي ينبت فيها النبات، والمخابرة: المزارعة ببعض ما
يخرج من الأرض.
5 ندمان: المصاحب في الشراب والمسامر. القاموس المحيط "4/ 180".
6 نصارى: "م" نصارني وهو من تعبد بدين النصرانية. القاموس المحيط "2/
143".
7 بهراء: حي من اليمن، وقيل: قبيلة. لسان العرب "4/ 85" مادة/ بهر.
(2/108)
فالجواب: أن الأصل كما تدم لفعلان
بالمشابهة التي ذكرناها بينه وبين فعلاء؛ فأما "فِعْلَان وفَعِلَان
فإنما شبها بـ "فَعْلَان للزيادة التي في أواخرهما ومشابهتها للزيادة
التي في آخر فعلان؛ فحملا في البدل على فعلان، كما شبها أيضًا به وجميع
بابهما مما في آخره ألف ونو وليس على وزن "فَعْلان"، أو كان على
فَعْلان وليست له "فعلى" في ترك صرف الجميع معرفة، وذلك نحو عثمان،
وغطفان، وزعفران، وكيذبان1، وحمان، وسعدان2، فكما ألحقت هذه الأشياء
بسكران وحيران كذلك ألحق به أيضًا ظربان وإنسان في أن ردت نونهما إلى
حرف اللين في ظرابي وأناسي.
فإن قلت: فما تقول في حكاية أبي زيد عنهم في جمع إنسان: أناسية؟ وما
القول في هذه الياء والهاء؟
فالجواب: أن الياء في أناسية هي الياء الثانية في أناسي، وأن الهاء في
أناسية بدل من ياء أناسي الأولى، ألا ترى أن أناسي بوزن زناديق3
وفرازين، وأن الهاء في زنادقة وفرازنة إنما هي بدل من ياء زناديق
وفرازين، وأنها لما حذفت للتخفيف عوض منها الهاء. ومثل ذلك جحجاح4
وجحاجحة؛ إنما أصله جحاجيح؛ فالياء الأولى من أناسي بمنزلة ياء فرازين
وزناديق، والياء الآخرة منه بمنزلة القاف والنون فيهما.
ومثل ذلك قولهم في جميع أثبية -وهى الجماعة- أثابية؛ إنما أصلها أثابي،
وحالها حال أناسية.
فإن قيل: فلم أبدلت همزة فعلاء نونًا؟ وما الذي سهل ذلك وحمل عليه؟
فالجواب: أن للنون شبهًا بحروف اللين قويًا لأشياء:
منها: أن الغنة التي في النون كاللين الذي في حروف اللين.
__________
1 كيذبان: أي الكاذب.
2 سعدان: شوك النخل، وقيل هو نبات أو شوك، وهو من أنجع المراعي، وقيل
هو بقلة.
3 زناديق: "م" زنديق، وهو الذي يؤمن بالزندقة، والزندقة هي القول
بأزلية العالم، وأطلق على الزردشتيه، والمانوية وغيرهم من الثنوية،
وتوسع فيه فأصبح يطلق على كل شاك أو ضال أو ملحد. القاموس المحيط "3/
242".
4 جحجاح: السيد السمح الكريم "ج" جحاجح، جحاجيح، وجحاجحة. "القاموس"1/
217".
(2/109)
ومنها: اجتماعها في الزيادة معهن،
ومعاقبتها لهن في الموضع الواحد من المثال الواحد، وذلك نحو: شرنبث
وشرابث1، وجرنفس وجرافس2، وعصنصر وعصيصر3، وعرنقصان وعريقصان4؛ ألا ترى
أن النون قد عاقبت الألف والياء في ما ذكرنا. وقالوا أيضًا: فدوكس5،
وسرومط6، وعميثل7 كما قالوا: جحنفل8، وفلتقس9. وفصلوا بها بين العينين؛
فقالوا: عقنقل10، وعصنصر، وسجنجل11، هجنجل12، وعبنبل13، كما قالوا:
غدودن14، وقطوطى15، وشجوجى16 في أحد قولي سيبويه17، وخفيفد18. وحذفوها
أيضًا لالتقاء الساكنين في نحو19:
... م الآن............ ... .......................20
__________
1 شرابث: الذي غلظ ظاهر يده أو رجله وتشقق من البرد نحوه. القاموس "1/
168".
2 جرافس: الضخم الشديد من الرجال.
3 عصنصر أو عصيصر: جبل.
4 عرنقصان: نبات.
5 فدوكس: اسم من أسماء الأسد.
6 سرومط: الطويل. القاموس "2/ 364".
7 عميثل: الضخم الثقيل.
8 جحنفل: العظيم الجحفلة، والجحفلة: مشفر البعير. القاموس المحيط "3/
346".
9 الفلنقس: البخيل اللئيم. القاموس المحيط "2/ 238".
10 العقنقل: الكثيب العظيم المتداخل الرمل. القاموس المحيط "4/ 20".
11 سجنجل: المرآة. القاموس "3/ 394".
12 هجنجل: اسم. القاموس "4/ 67".
13 عبنبل: الضخم القوي، يقال الضخم من كل شيء، فيقال: هو عبل الذراعين،
ويقال امرأة عبلة: ممتلئة الجسم. القاموس المحيط "4/ 11".
14 غدودن: أي الطويل.
15 قطوطى: المتبختر. القاموس "2/ 381".
16 شجوجى: المفرط في الطول. القاموس المحيط "1/ 195".
17 ذكر ذلك سيبويه في الكتاب "2/ 111-329-345".
18 الخفيفد: الخفيف من الظلمان.
19 يقصد قول أبي صخر الهزلي:
كأنهما الآن لم يتغيرا
وقد مر للدارين من بعدنا عصر
والبيت ذكره صاحب الخزانة "3/ 258".
20 الشاهد فيه قوله "م الآن" حيث إن أصلها "من الآن"، وحذفت النون
لالتقاء الساكنين تخفيفًا.
(2/110)
و 1:
.......... ........... ... ولاك اسقني...... ....2
و3:
لم يك الحق........... ... ............ ..........4
كما حذفوهن لذلك في نحو غزا القوم، وتعطي ابنك، وتصبو المرأة5. وجعلوها
أيضًا علم الرفع في نحو يقومان، ويقومون، وتقومين، كما جعلوا الواو
والألف علمًا له في نحو أخوك، وأبوك، والزيدان، والزيدون، إلى غير ذلك
مما يطول ذكره؛ فلما ضارعت النون حروف اللين هذه المضارعة، وكانت
الهمزة قد قلبت إلى كل واحدة من الألف والياء والواو قلبوها أيضًا إلى
الحرف الذي ضارعهن6، وهو النون، للتصرف والاتساع.
__________
1 البيت ذكره صاحب الخزانة "4/ 367"، وكذا ذكره صاحب الإنصاف "ص684"،
ونسبه صاحب الكتاب "1/ 9" إلى النجاشي الحارثي وهو قيس بن عمرو.
2 البيت بتمامه:
فلست يأتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
والشاهد فيه حذف النون لالتقاء الساكنين في قوله "لاك" فأصله "لكن"
وحذفت النون تخفيفًا.
3 البيت ذكره صاحب الخزانة "4/ 72"، والنوادر "ص296"، وينسب البيت إلى
حسيل بن عرفطة الأسدي.
4 والبيت بتمامه:
لم يك الحق سوى أن هاجه ... رسم دار قد تعفى بالسرر
تعفى: عفا الأثر وتعفى: أي زال وامحى.
السرر: اسم موضع قريب من مكة.
والشاهد فيه "يك" حيث حذفت النون لالتقاء الساكنين "النون والألف".
إعراب الشاهد: يك: فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه السكون على النون
المحذوفة تخفيفًا؛ لأنه مضارع صحيح الآخر.
5 تصبوا المرأة: صبا يصبو صبوًا: أي مال إلى اللهو، وتصبو المرأة أي
تحن وتشتاق إلى أيام اللهو والحداثة والصبا. القاموس المحيط "4/ 351".
6 ضارعهن: شابههن، ضارع: شابه، تضارعا: تشابها.
(2/111)
ومن حذاق1 أصحابنا2 من يذهب إلى أن النون
في "صنعاني" و"بهراني" إنما هي بدل من الواو الى تبدل من همزة التأنيث
في النسب، وأن الأصل صناعوي وبهراوي، وأن النون هناك بدل من هذه الواو،
كما أبدلت الواو من النون في قولك: من واقد3؟ وإن وقفت وقفت، ونحو ذلك.
وكيف تصرفت الحال؛ فالنون بدل من الهمزة؛ إنما ذهب من ذهب إلى هذا قال
لأنه لم ير النون أبدلت من الهمزة في غير هذا، وكان في قولهم إن نون
"فعلان" بدل من همزة فعلاء، فيقول: ليس غرضهم هنا البدل الذي هو نحو
قولهم فى ذئب: ذيب، وفي جؤنة: جونة4، وإنما يريدون أن النون تعاقب في
هذا الموضع الهمزة كما تعاقب لام المعرفة التنوين، أي لا تجتمع معه؛
فلما إنها بدل منه، وكذلك النون والهمزة، وهذا مذهب ليس ببعيد أيضًا،
وأما قول العجاج5:
كأن رعل الآل منه في الآل ... بين الضحى وبين قيل القيال
إذ بدا دهانج ذو أعدال6
__________
1 حذاق: "م" حاذق، وهو الماهر البارع. القاموس المحيط "3/ 219".
2 أصحابنا: ذكر صاحب المصنف "1/ 158" أنه أبو علي الفارسي، وهو من أشهر
نحاة عصره.
3 واقد: من يوقد النار.
4 جونة: سليلة مستديرة مغشان بالجلد، ويحفظ العطار فيها الطيب "ج" جون.
5 البيت للعجاج فى ديوانه "2/ 320".
6 الأبيات نسبها صاحب الأمالي إلى الحجاج "2/ 91" ونسبها إليه أيضًا
صاحب اللسان. مادة "دهنج" ولكن البيت كما جاء به صاحب اللسان هو:
كأن رعن الآل منه في الآل ... إذ بدا دهانج ذو أعدال
رعن: اسم موضع. اللسان "13/ 183" مادة/ رعن.
الآل: الطرف. ويقال ألل الحربة: أي حدد طرفها، ورعن الآل: أي ما
حواليها ونواحيه.
القيال: "م" قائل. وهو الذي يستريح أو ينام في منتصف النهار.
بدا: ظهر.
دهائج: سرعة الخطوات مع المقاربة بينها. القاموس المحيط "1/ 189".
والشاهد في قوله "رعل" حيث أبدلت النون لامًا.
ويدل على ذلك أنها جاءت بروايتين "رعن- رعل".
(2/112)
وقول الآخر1:
وهم رعن الآل أن يكونا ... بحرًا يكب الحوت والسفينا2
فليس أحد الحرفين بدلًا من صاحبه، وذلك أن الرعن بالنون من الرعن، وهو
الاضطراب.
قال الشاعر3:
ورحلوها رحلة فيها رعن4
وعلى هذا قراءة الحسن: {لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104] 5 أي خطأ
وخطلًا6 من القول؛ فسمي أول السراب رعنا لتموجه7 واضطرابه.
__________
1 ذكر صاحب اللسان في مادة "سفن" وكذا في "2/ فهارس ص1182" أنه العجاج،
وكذا نسبه إليه ابن السكيت فى الإبدال "ص83".
2 الشاهد فيه أن كلمة "رعن" لم يحدث فيها إبدال؛ فلم تبدل النون لامًا.
إعراب اشاهد: رعن: خبر مرفوع.
3 اختلف في نسبة البيت إلى شاعر محدد؛ فقال البعض: إنه خطام المجاشعي
وهو خطام بن رباح بن عياض بن يربوع المجاشعي. اللسان "3/ فهارس ص2056".
وقال الآخر: إنه الأغلب العجلي.
4 البيت ذكره صاحب اللسان ونسبه إلى الأغلب العجلي، وهو بيت من أرجوزة
تبدأ بقوله:
إنا على التشواق منا والحزن
مما نمد للمطي المستفن
.......... ..............
ورحلوها رحلة فيها رعن
حتي أنخناها إلى من ومن
وذلك في مادة "ر ع ن" وكذا "13/ 182".
5 راعنا: قول كانت تقوله اليهود استهزاء؛ فزجر الله -عز وجل- المؤمنين
أن يقولوه.
والشاهد في قوله عز وجل "راعنا".
6 الخطل: المنطق الفاسد المضطرب وقد "خطل" في كلامه من باب طرب، وأخطل:
أي أفحش. القاموس المحيط "3/ 368".
7 لتموجه: أي لاضطرابه، ماج يموج يتموج، من باب قال اضطربت "أمواجه"،
والناس يموجون. القاموس المحيط "1/ 208".
(2/113)
وأما رعل باللام فمن الرعلة والرعيل، وهي
القطعة من الخيل1؛ وذلك أن الخيل توصف بالحركة والسرعة2.
وأما قول الآخر3:
حتى يقول الجاهل المستنطق ... لعن هذا معه معلق4
أي عليقة؛ فإن النون فيه بدل من لام لعل.
ومثله قول أبي النجم5:
أغد لعنا في الرهان نرسله6
أي: لعلنا. فأما ما قرأته7 على أبي علي للطرماح8:
كطوف متلي حجة بين غبغب ... وقرة مسود من النسك قاتن9
__________
1 الخيل: الفرسان، ومنه قوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ
وَرَجِلِكَ} أي بفرسانك ورجالتك، والخيل أيضًا الخيول لقوله تعالى:
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ..} .
2 السرعة: ضد البطء.
3 البيت لم نعثر على قائله.
4 الشاهد فيه قوله "لعن" أبدل اللام نونًا، ويقصد "لعل".
إعراب الشاهد:
لعل: حرف ناسخ مبني لا محل له من الإعراب ينصب المبتدأ ويرفع الخبر.
5 البيت نسبه صاحب العقد الفريد "1/ 172"، وكذا ابن السكيت في الإبدال
"ص111" إلى أبي النجم العجلي.
6 الشاهد فيه قوله "لعنا" حيث أبدل اللام نونًا.
7 أي لابن السكيت في الإبدال "ص83".
8 جاء ذلك في ديوان الطرماح بن حكيم "ص501".
9 غبغب: اسم صنم. القاموس "1/ 109".
قرة: اسم صنم.
متلى: أي الذي يتلو حجته بحجته تالية لها فيتلو الحجة تلو الحجة.
بين غبغب وقرة: أي بين الصنمين -غبغب وقرة.
النسك: "م" النسيكة، أي الذبيحة.
والشاهد فيه إبدال الميم نونًا في قلوله "قاتن" حيث أراد قاتم أي
"مسود..... قائم".
(2/114)
فذهب أبو عمرو الشيباني إلى أنه أراد قاتم
أي: أسود؛ فأبدل الميم على مذهبه نونًا، وقد يمكن غير ما قال؛ وذك أنه
يجوز أن يكون أراد بقوله قاتن: فاعل من قول الشموخ1:
وقد عرقت مغابنها وجادت ... برتها قرى جحن قتين2
والقتين: الحقير الضئيل، فكذلك يكون بيت الطرماح، أي: مسود من النسك
حقير الجسم زهيده للضر والجهد؛ فإذا كان كذلك؛ لم يكن بدلًا.
وأما زيادة النون فعلى ضربين: أحدهما زيادة صيغت في نفس المثال المزيد
فيه. والآخر زيادة لحقت على غير معنى اللزوم.
الأول منهما: قد زيدت النون أولًا في نحو نقوم، ونضرب وانفعل وبابه،
وفي نحو نفرجة، يقال: رجل نفرجة القلب، إذا كان غير ذي جلادة ولا حزم،
وحدثنا أبو علي عن أبي إسحاق، قال: يقال: رجل أفرج وفرج، وهو الذي لا
يكتم سرًا، وهو أيضًا الذي يكشف عن فرجة، فقوله: "الذي لا يكتم سرًا"
هو في معنى نفرجة، ومثاله "نِفْعلة، قال الراجز:
نفرجة القلب قليل النيل ... يلقى عليه النيدلان بالليل3
النيدلان: الذي يقال له الكابوس.
__________
1 هو الشماخ بن ضرار معقل، وكنيته أبو سعيد، والبيت في ديوانه "ص353"،
ونسبه إليه صاحب اللسان في مادة "ق ت ن". "13/ 30" ولكن بقوله "حجن"
بدل "جحن".
عرقت: أي رشح جلدها، ويقال عرق العظم إذا أكل ما عليه من لحم. القاموس
"3/ 262".
مغابنها: "م" مغبن: الإبط وبواطن الأفخاذ عند الحوالب. القاموس المحيط
"4/ 253".
جادت: جاد أي صار جيدَا، وجاد: سخا وبذل. القاموس المحيط "1/ 285".
درتها: أدرت أي كثر لبنها. القاموس المحيط "2/ 28".
جحن: جحن جحنا وجحانة أي: ساء غذاؤه وبطؤ نموه، والجحن: النبت المعطش
الضعيف.
2 هو حريث بن زيد الخيل.
3 ذكره صاحب اللسان مادة "فرج": "2/ 343"، ولم ينسبه، والبيت كما ذكره
هو:
تفرجة القلب قليل النيل ... يلقى عليه النيدلان بالليل
وقد نسبه في شرح الملكي "ص148"وكذا في المصنف "1/ 106" إلى حريث بن زيد
الخيل.
(2/115)
وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن قراءة مني
عليه، قال: حدثني أبو الحسين أحمد بن سليمان المعبدي، قال حدثني عبد
الله بن محمد بن شجاع الكاتب ابن أخت أبي الوزير، قال: قرأته على أبي
العباس أحمد بن يحيى ثعلب، عن محمد بن زياد الأعرابي، قال: النون في
نفاطير1، ونباذير، ونخاريب2 زائدة، أصله فطره إذا قطعه، وبذره إذا
فرقه. والنخاريب أصله من الخراب. وأما النبراس فيجوز أن يكون "نفعالًا"
من البرس، وهو القطن، لأن النبراس المصباح، وفتيله من القطن.
وزيدت النون ثانية في نحو قنعاس3، وقنفخر4، وثالثة في نحو جحنفل5،
وعبنبل6، ورابعة في نحو رعشن7، وضيفن8 في قول غير أبي زيد، وخلفنة9،
وعرضنة10، وخامسة في نحو سكران، غضبان، وسادسة في نحو زعفران،
وعقربان11، وحدرجان، وجلجلان12، سابعة في نحو عرنقصان13، وعبيثران14،
وعبوثران، وقرعبلانة15، وقيل فى قول الشاعر16:
لانفخرن فإن الله أنزلكم ... يا خزر تغلب دار الذل والعار17
__________
1 نفاطير: الكلاء المتفرق، الواحدة نفطورة. القاموس المحيط "2/ 147".
2 نخاريب: ثقوب، ونخرب الشيء أي ثقبه وجعل به ثقب "م" نخروب. القاموس
"1/ 131".
3 قناعس: الضخم العظيم. القاموس "2/ 243".
4 قنفخر: الفائق في نوعه.
5 جحنفل: الذي عظمت جحفلته، والجحفلة للحافر كالشفة للإنسان. القاموس
"3/ 346".
6 عبنبل: الضخم الشديد. القاموس "4/ 11".
7 رعشن: المرتعش. القاموس "2/ 275".
8 ضيفن: من يجيء مع الضيف متطفلًا. القاموس "3/ 166".
9 خلفنة: رجل خلفنة: في أخلاقه خلاف. القاموس "3/ 138".
10 عرضنه: الاعتراض في السير من النشاط، القاموس المحيط "2/ 335".
11 عقربان: دخال الأذن. القاموس المحيط "1/ 107".
12 جلجلان: ثمرة الكزبرة، وقيل حب السمسم. القاموس المحيط "2/ 350".
13 عرنقصان: نبات. القاموس "2/ 308".
14 عبيثران: نبات ذو رائحة.
15 قرعبلانه: دويبة.
16 ذكره صاحب التاج ولم ينسبه "3/ 174"، وكذا صاحب الممتع "ص270" ولم
ينسبه.
17 الشاهد فيه قوله "يا خزر تغلب" أي يا خنزير ذلك أن كل خنزير من
صفاته أن يكون أخزر أي تكون عينه ضيقة صغيرة، ولهذا كل خنزير يطلق عليه
أخزر.
(2/116)
أنه أراد بالخزر الخنازير؛ لأن كل خنزير
عندهم أخرز1.
وأنكر ذلك أحمد بن يحيى؛ فقال: خزر: جماعة خنزير على حذف الزوائد.
ظن الظنون زائدة؛ وإنما هي ههنا أصل.
الثاني من القسمة، وهو زيادة النون غير مصوغة في الكلمة: زيدت علمًا
للجمع والضمير في نحو قولك: الهندات قمن، وقعدن، ويقمن، ويقعدن. وعلامة
للجمع مجردة من الضمير نحو: قعدن الهندات، ويقعدن أخواتك في من قال
ذلك2.
ومن أبيات الكتاب3:
ولكن ديافي أبوه وأمه ... بحوران يعصران السليط أقاربه4
فهذه النون في يعصرن علامة للجمع مجردة من الضمير؛ لأنه لا ضمير في
الفعل لارتفاع الظاهر به.
وتزادا للتوكيد في الأفعال خفيفة وثقيلة في نحو "لتقومن" و"لتقعدن" و
{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 17] 5 و
{لَنَسْفَعًََا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق: 15] 6.
__________
1 أخزر: أي ضيق العين صغيرها. القاموس المحيط "2/ 19".
2 قال البصريون ذلك عن طيئ، وأكد ذلك صاحب أوضح المسالك "2/ 98".
3 نسب صاحب الكتاب البيت للفرزدق "1/ 236" ونسبه إليه أيضًا صاحب
الخزانة "2/ 386".
4 يهجو الفرزدق فى هذا البيت من قصيدته عمرو بن عفراء الضبي، ويعيره
بأنه من قرية دياف "إحدى قرى الشام" وأن أباه وأمه يقطنان حوران -إحدى
قرى الشام أيضًا- حيث يعصران السليط أي الزيت؛ أي أنه يعيره بنسبه وعمل
أهله.
والشاهد فيه قوله "يعصرن" حيث جاءت مجردة من ضمير الرفع "الواو".
5 {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} : أي حالًا بعد حال وأمرًا بعد
أمر.
لتركبن: أي لتلاقن، والجملة جواب القسم.
انظر/ مختصر تفسير الطبري "ص589"، "ص525".
والشاهد فيها زيادة النون للتوكيد في قوله تعالى "لتركبن" وهي تزاد
غالبًا في الأفعال للتوكيد سواء خفيفة كانت أو ثقيلة.
6 {لَنَسْفَعًََا بِالنَّاصِيَة} : لنسفعًا: لنسودن وجهه.
بالناصية: لنأخذن بناصيته "مقدم شعر الرأس" إلى النار.
والشاهد فيها: زيادة النون مع الفعل للتوكيد في قوله تعالى:
"لَنَسْفَعًََا".
(2/117)
وشبه بعض العرب اسم الفاعل بالفعل؛ فألحقه
النون توكيدًا، قال:
أريت إن جئت به أملودا ... مرجلًا ويلبس البرودا
أقائلن أحضروا الشهودا1
يريد: أقائلون، فأجراه مجرى أتقولون. وقال الآخر2:
يا ليت شعري عنكم حنيفًا ... أشاهرن بعدنا السيوفا3
وتلحق علمًا للرفع في خمسة أفعال، وهي: تقومان، ويقومان وتقومون،
ويقومون، وتقومين ونحوه، ولا تحذف هذه النون إلا لجزم أو نصب، ولا تثبت
إلا للرفع؛ فأما ما أنشده أبو الحسن من قول الشاعر4:
لولا فوارس من نعم وأسرتهم ... يوم الصليفاء لم يوفون بالجار5
__________
1 الأبيات ذكرها صاحب اللسان في مادة "رأى" "14/ 293"، دون أن ينسبها،
وصاحب الخصائص ذكرها ولم ينسبها؛ بينما نسبها صاحب العيني إلى رؤبة.
والشاهد فيها معاملة الأسماء كالأفعال في دخول نون التوكيد عليها،
وقلنا ربما كانت الأسماء المشتقة مثل قوله "أقائلن" فى هذه الأبيات حيث
إن المشتقات تعمل عمل الأفعال؛ فجاز أن تعامل مثلها في دخول نون
التوكيد عليها.
2 جاء في العيني أنه رؤبة، وذكره صاحب اللسان في مادة "شهر" "4/ 433"
دون أن ينسبه، بينما نسبه صاحب الجهرة والخزانة إلى رؤبة.
3 والشاهد فيه قوله "أشاهرن" حيث أضاف إلى اسم الفاعل نون التوكيد؛
فعامل الاسم معاملة الفعل في دخوله نون التوكيد.
4 البيت لم نعثر على قائله، وذكره صاحب "شرح المفصل"، وصاحب الخزانة
"3/ 626".
وذكره صاحب اللسان في مادة "صلف" ولم ينسبه.
5 فوارس: "م" الفارس، الماهر في ركوب الخيل وتجمع على فوارس وفرسان،
والفرسان في الجيش هم المحاربون على ظهور الخيل.
يوم الصليفاء: الصليفاء اسم موضع، ويوم الصليفاء هو يوم قامت فيه معركة
في هذا الموضع بين هوازن وفزارة وعبس حيث انتصرت هوازن عليهما في هذا
اليوم.
الجار: اسم فاعل بمعنى مستجير، ويعتقد أن نعم يقصد بها "ذهل" إلا أن
فيها تحريف.
والشاهد فيه قول الشاعر "لم يوفون" حيث إنه عامل "لم" معاملة "لا"
النافية التي لا تجزم.
إعراب الشاهد: يوفون: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون.
(2/118)
فشاذ؛ وإنما جاز على تشبيه "لم" بـ "لا"
كما قال الآخر1:
أن تهبطين بلاد قو ... م يرتعون من الطلاح2
فهذا على تشبيه "أن" بـ "ما" التي في معنى المصدر في قول الكوفيين3
فأما على قولنا نحن؛ فإنه أراد "أن" الثقيلة، وخففها ضرورة، وتقديره:
أنك تهبطين؛ فاعرفه.
وتلحق التثنية والجمع الذي على حد التثنية عوضًا مما منع الاسم من
الحركة والتنوين؛ وذلك نحو الزيدان والعمران، والزيدون والعمرون.
واعلم أن للنون في التثنية والجمع الذي على حد التثنية ثلاث أحوال:
حالًا تكون فيها عوضًا من الحركة والتنوين جميعًا، وحالًا تكون فيها
عوضًا من الحركة وحدها، وحالًا تكون فيها عوضًا من التنوين وحده.
أما كونها عوضًا من الحركة والتنوين؛ ففي كل موضع لا يكون الاسم
المتمكن فيه مضافًا ولا معرفا بلام المعرفة؛ وذلك نحو رجلان، وفرسان،
وغلامان، وجاريتان؛ ألا ترى أنك إذا أفردت الواحد على هذا الحد وجدت
فيه الحركة والتنوين جميعًا، وذلك قولك: رجل، وغلام، وجارية، وفرس؛
فالنون في رجلان إنما هي هنا عوض مما يجب في ألف "رجلان" التي هي حرف
الإعراب بمنزلة لام رجل، فكما أن لام "رجل"، وسين "فرس" ونحوهما مما
ليس مضافًا ولا معرفًا باللام؛ يلزم أن تتبعها الحركة والتنوين؛ فكذلك
كان يجب في حر التثنية.
وأما الموضع الذي تكون فيه نون التثنية عوضًا من الحركة وحده فمع لام
المعرفة وذلك نحو الرجلان، والفرسان، والزيدان، والعمران، ألا ترى أنها
تثبت مع لام المعرفة كما تثبت معها الحركة نحو الغلام والرجل.
__________
1 يقصد به القاضي القاسم بن معن قاضي الكوفة حيث نسب صاحب العيني البيت
إليه.
2 ذكر صاحب اللسان البيت في مادة "ص ل ف" "9/ 189"، ولم ينسبه.
الشاهد فيها اتصال أن المخففة من الثقيلة كما زعم الكوفيون في قوله "أن
تهبطين" ويرى البصريون أنها "أن" الناصبة ولكن أهمل عملها وعملت عمل ما
المصدرية.
3 ذكر ذلك ابن هشام في "مغنى اللبيب": "ص46"، وأكد على رأيهم ذلك صاحب
الخزانة "3/ 559" وكذا العيني "4/ 381".
(2/119)
وكذلك النداء في قولك: يا رجلان، ويا
غلامان؛ ألا ترى أن الواحد من نحو هذا لا تنوين فيه؛ وإنما هو يا غلام،
ويا رجل، فالنون فيهما بدل من الحركة وحدها.
فإن قلت: فإن واحد الزيدان والعمران زيد وعمرو، وهما كما ترى منونان؛
فهلا زعمت أن النون في الزيدان والعمران بدل من الحركة والتنوين جميعًا
لوجودك إياهما في واحدهما، وهو زيد وعمرو، كما زعمت أنهما في رجلان
وفرسان بدل من الحركة والتنوين في واحدهما، وذلك قولك رجل وفرس؟
فالجواب: أن قولك "الزيدان" كقولك "الرجلان"؛ لأن اللام عرفت زيدين كما
عرفت رجلين، والنون في "زيدان" عوض من الحركة والتنوين جميعًا، وهي في
"الزيدان" عوض من الحركة والتنوين جميعًا، وهي في الرجلان عوض من
الحركة وحدها.
واعلم أن قولك: "جاءني الزيدان" ليس تثنية زيد هذا المعروف العلم؛ وذلك
أن المعرفة لا تصح تثنيتها من قبل أن حد المعرفة أنها ما خص الواجد من
جنسه ولم يشع في أمته، فإذا شورك في اسمه؛ فقد خرج عن أن يكون علمًا
معروفًا، وصار مشتركًا فيه شائعًا، وإذا كان الأمر كذلك؛ فلا تصح
التثنية إذن إلا في النكرات دون المعارف.
وإذا صح ما ذكرناه؛ فمعلوم أنك لم تثن زيدًا حتى سلبته تعريفه وأشعته
في أمته؛ فجعلته من جماعة كل واحد منهم زيد؛ فجرى لذلك مجرى رجل وفرس
في أن كل واحد منهما شائع لا يخص واحدًا بعينه، ولا تجد له في بعض
المسمين به مزية ليست في غيره من المسمين به، وإذا جرى زيد بعد سلبه
تعريفه مجرى رجل وفرس؛ لم يستنكر فيه أن يجوز دخول لام المعرفة عليه في
التقدير وإن لم يخرج إلى اللفظ؛ فكأنه صار بعد نزع التعريف عنه يجوز أن
تقول: الزيد والعمرو. وقد جاء شيء من ذلك في الشعر.
قال ابن ميادة1:
__________
1 البيت نسبه صاحب الخزانة "1/ 327" إلى ابن ميادة، وكذا مغني اللبيب
"1/ 305".
(2/120)
وجدنا الوليد بن اليزيد مباركًا ... شديدًا
بأعباء الخلافة كاهله1
يريد "يزيد". وبذلك على أن الاسم لا يثنى إلا بعد أن يخلع عنه ما كان
فيه من التعريف جواز دخول اللام عليه بعد التثنية في قولك: "الزيدان
والعمران"، ولو كان التعريف الذي كانا يدلان عليه ويفيدانه مفردين
باقيًا فيهما؛ لما جاز دخول اللام عليهما بعد التثنية كما لا يجوز
دخولها عليهما قبل التثنية في وجوه الاستعمال في غالب الأمر.
ومما يوكد علمك بجواز خلع التعريف عن الاسم قول الشاعر2:
علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ... بأبيض من ماء الحديد يمان3
فإضافته الاسم تدل على أنه خلع عنه ما كان فيه من تعرفه، وكساه التعريف
بإضافته إياه إلى الضمير؛ فجرى في تعرفه مجرى أخيك وصاحبك، وليس بمنزلة
زيد إذا أردت العلم؛ فعلى هذا لو سألت عن زيد عمرو في قول من قال: رأيت
زيد عمرو، ومررت بزيد عمرو لما جازت الحكاية، ولكان الاستفهام بالرفع
لا غير: من زيد عمرو؟ ولا يجوز: من زيد عمرو؟ ولا: من زيد عمرو؟ على
الحكاية، كما أنك لو قال: "مررت بصاحب جعفر"؛ لرفعت البتة، فقلت: من
صاحب جعفر؟ لأن صاحب جعفر ليس علمًا كزيد وعمرو؛ فتجوز لك الحكاية
وكذلك أيضًا "زيد عمرو"،
__________
1 والبيت يمدح فيه ابن ميادة الوليد بن اليزيد بأن كاهله يحمل فوقه
أعباء الخلافة التي تثقله، ولكنها ثقل مبارك يسعد الوليد بن اليزيد.
أعباء: "م" عبء، وهو الحمل الثقيل من أي شيء كان. القاموس المحيط "1/
22".
كاهله: من الإنسان: ما بين كتفيه، أو موصل العنق في الصلب. القاموس "4/
47".
2 قيل هو رجل من طيئ.
3 البيت ذكره صاحب الخزانة "1/ 327" ولم ينسبه، وكذا في شرح المفصل "1/
44" ولم ينسبه.
يوم النقا: هو يوم موقعة، والنقا: الكثيب من الرمل "ج" أنقاء. القاموس
"4/ 397".
أبيض: من أسماء السيف. القاموس المحيط "2/ 325".
يمان: ينسب في صناعته إلى بلاد اليمن.
والشاهد في البيت أنه عرف العلم بالإضافة فخلع عنه "ال".
إعراب الشاهد:
زيدكم: زيد مضاف إليه مجرور بالإضافة وهو مضاف و"كم" ضمير مبني في محل
جر مضاف إليه.
(2/121)
فإضافته إلى عمرو تدل على أنه قد سلب
تعريفه، وعرف من جهة الإضافة لاستغنائه بما فيه من تعريف العلمية.
ويزيد ذلك وضوحًا لك أن ما كان من الأسماء لا يمكن تنكيره وخلع تعريفه
عنه؛ فإضافته غير جائزة البتة؛ لأنه إذا كان لا يضاف الاسم إلا وهو
نكرة فما لا يمكن تنكيره؛ فهو من الإضافة أبعد، إذ كانت حال الإضافة
إنما هي في المرتبة بعد التنكير، لا بد من ذلك، وتلك الأسماء الأسماء
المضمرة، والأسماء المشار بها، فلأجل ما ذكرنا لم توجد الإضافة في شيء
منها لاستغنائها بتعرفها عن أن تكسى تعريفًا آخر؛ ألا ترى أنك لا تجد
في الكلام ضربت هؤلاء زيد، كما تقول ضربت أصحاب زيد، لأن "هؤلاء" لا
يكون إلا معرفة، ولا تقول أيضًا جائني هو بكر، على أن تضيف "هو" إلى
"بكر" كما تقول جاءني غلام بكر.
ويزيد عندك في وضوح هذا أن العرب إذا لقبت الاسم العلم أضافته إلى لقبه
بعد أن تسلبه ما كان فيه من التعريف، وتبزه إياه، وتنقله إلى اللقب
لتعرف به الاسم الملقب به، وهو الذي كان علمًا قبل السلب، وذلك قولهم
"قيس قفة"، و"سعيد كرز"؛ وإنما أصل هذين الاسمين قيس، وسعيد، ثم لقب
"قيس" بقفة، و"سعيد" بكرز، فسلبوهما تعريفهما، وأن يكونا بعد الإضافة
معرفتين، كما كانا قبلها معرفتين، وإن اختلفت جهتا التعريف؛ فكان الأول
تعريفًا علميًا، والآخر تعريفًا إضافيًا.
وقريب من هذا قولهم مررت برجل حسن الوجه، واختيارهم أن يكون الوجه
معرفًا وإن كان قد يمكن أن تقول: "مررت برجل حسن وجه"، و"حسن وجهًا"؛
وإنما اختاروا هنا تعريف الوجه لأنه منقول من قولهم مررت برجل حسن
وجهه، هذا أصل الكلام؛ فلما سلبوه تعريف الإضافة؛ عوضوه منه تعريف
اللام، فقالوا: مررت برجل حسن الوجه.
ويدلك على أن "كرزًا" و"قفة" معرفتان علمان تركهم إجراء "قفة"، ولو
كانت نكرة لانصرفت، وإذا كان العلم متى سلب تعريفه جرى مجرى النكرات
الأجناس؛ فإن أضيف إلى معرفة تعرف بها؛ فمعلوم أنه متى تكلفت إضافته
بعد سلبه تعريفه إلى النكرة أنه نكرة، وذلك نحو "مررت بزيد رجل وعمرو
امرأة"، كما تقول: "مررت بجار رجل"، و"دخلت حمام امرأة"، ويكون في ذلك
من الفائدة أنه ليس بزيد من الزيدين فقط؛ لأن كل واحد من أولئك يجوز أن
يكون زيد امرأة وزيد رجل؛ فإذا قلت
(2/122)
ضربت زيد رجل فقد أفدت أنه ليس بزيد امرأة؛
فهذه فائدة هذه الإضافة إن قلت ونزرت كما أن قولك لقيت غلام امرأة قد
أفدنا منه أنه لامرأة دون رجل.
فإن قلت: فإذا كان الزيدان والعمران إنما تعريفهما عندك كتعريف الرجلين
والغلامين بما أوردته من الأدلة في ذلك؛ فهلا جاء عنهم وكثر في كلامهم:
مررت بالزيد، وضربت البكر، كما كثر عنهم مررت بالغلام، وضربت الرجل؟
فالجواب: أن زيدًا وعمرًا ونحوهما من الأعلام إذا انتزع ما فيهما في
بعض الأحوال من التعريف، فحصلا نكرتين، ثم أريد بعد ذلك تعريفهما؛
فأخلق أحوالهما بهما أن يردا إلى ما كانا عليه من العملية الأصلية؛
فيقال: جاءني زيد، ومررت بعمرو، وليس بالحسن إدخال اللام عليهما؛ لئلا
يصيرا في قولك مررت بالعمرو، وجاءني الزيد بصورة ما عرف باللام من
الأجناس البتة، ولم يكن له أصل في العلمية؛ فيرد عند تعريفه إليها،
وذلك نحو الغلام والجارية والثوب والدار؛ فلهذا استنكروا في كلامهم أن
يقولوا الزيد والبكر، فاعرفه.
على أن أبا العباس قال: إذ قيل: جاءني زيد وزيد وزيد تريد جماعة اسم كل
واحد منهم زيد، فيقول المجيب: فما بين الزيد الأول والزيد الآخر؟ وهذا
الزيد أشرف من ذلك الزيد؛ إلا أنه قليل.
فإن قلت: فقد أضافوا هذه الأسماء بعد تنكيرهم إياها كما تضاف الأجناس،
فقالوا1:
ياعمر الخير جزيت الجنة2
وقالوا: فلان من ربيعة الفرس، وفلان من تميم جوثة، وقال الآخر:
يزيد سليم سالم المال والفتى ... فتى الأزد للأموال غير مسالم3
__________
1 قيل هو لرجل أعرابي يوجه الخطاب إلى أمير المؤمنين عمرو بن الخطاب.
2 البيت ذكره صاحب اللسان في مادة "أوس" ولم ينسبه "6/ 18"، ولكن بلفظ
"رزقت" بدل "جزيت"، وذكره صاحب الخصائص "2/ 32" ولم ينسبه أيضًا.
الشاهد فيه قوله "يا عمر الخير" حيث عومل العلم معاملة الأجناس.
3 نسبه صاحب الخزانة "3/ 50" البيت لربيعة الرقي، والشاهد في قوله
"يزيد سليم".
(2/123)
وقال الآخر:
علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ... بأبيض من ماء الحديد يمان1
هذا كثير عنهم؛ فهلا استقبحوا في اللفظ الإضافة في هذه الأسماء التي هي
في الأمر الشائع أعلام، كما استنكروا فيها تعريفها باللام؛ فلم يقولوا
الزيد ولا العمرو إلا في الشاذ وضرورة الشعر؟ وما الفرق بين الموضوعين؟
فالجواب: أن بين تعريف اللام وتعريف الإضافة فرقًا وذلك أن اللام في
هذا الموضع أشنع في اللفظ من الإضافة، من قبل أن الإضافة قد تجدها في
أنفس الأعلام كثيرًا واسعًا، وذلك نحو عبد الله، وعبد الصمد، وعبد
الواحد، وعبد الرحمن، وذي النون، ذي الرمة، وذي الخرق، وعلى هذا عامة
المنى لأنها أعلام أيضًا، نحو أبي محمد، وأبي القاسم، وأبي علي.
ويدلك على أنها أعلام قول الفرزدق2:
ما زلت أفتح أبوابًا وأغلقها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمار3
فحذف التنوين من عمرو بمنزلة حذفه من جعفر في قولك: حتى أتيت جعفر بن
عمار. وعلى هذا قول الآخر4:
فلم أجبن، ولم أنكل، ولكن ... يممت بها أبا صخر بن عمرو5
__________
1 سبق تخريجه.
2 البيت منسوب إليه في الكتاب "2/ 148"، وشواهد الشافية "ص43".
3 يقول الفرزدق في محاولته لكسب ود أبي عمرو بن عمار أنه حاول ذلك
كثيرًا، وعبر عن ذلك بالفعل "ما زلت" الذي يفيد الاستمرارية، وبين
"أفتح -أغلق" تضاد يبرز المعنى ويقويه، ويؤكد شرف المحاولة.
الشاهد فيه قوله "أبا عمرو" حيث عرف العلم بالإضافة.
4 هو يزيد بن سنان، كما أكد ذلك صاحب شرح اختيارات المفضل "ص351".
5 قال يزيد بن سنان هذا البيت في قصيدة قالها في مقتل أبي صخر بن عمرو؛
فيقول: إنني لم أجبن وأضعف، وإنما يممت تجاه أبي صخر بن عمرو فقتلته.
والشاهد فيه حذف التنوين من عمرو.
(2/124)
فحذف التنوين من "صخر" إنما هو بمنزلة حذفه
من محمد في قولك يممت بها محمد بن عمرو.
وإنما كثرت هذه الإضافة في أنفس الأعلام، وفي ما نزع عنه تعريفه، ثم
عرف بالإضافة إلى المعرفة؛ من قبل أن الإضافة في كثير من كلامهم في
تقدير الانفصال والانفكاك؛ ألا ترى أن باب الحسن الوجه، والكريم الأب؛
كله منوي فيه الانفصال؛ وإنما تقديره الحسن وجهه، والكريم أبوه. وكذلك
اسم الفاعل إذا أريد به الحال أو الاستقبال؛ فهو وإن أضيف في اللفظ
مفصول في المعنى.
وذلك نحو قوله تعالى: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] 1، و
{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، و {غَيْرَ مُحِلِّي
الصَّيْدِ} [المائدة: 1] 2 و {ثَانِيَ عِطْفِه} [الحج: 9] 3، و {إِنَّا
مُرْسِلُو النَّاقَةِ} [القمر: 27] 4، و {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ
مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47] 5.
وعلى هذا قول جرير6:
يا رب غابطنا لو كان يطلبكم ... لاقى مباعدةً منكم وحرمانا7
إنما هو: "ممطر لنا"، و"هديًا بالغًا الكعبة"، و"ثانيًا عطفه8 لنا"؛
ولولا ذلك لم تدخل "رب" عليه، ولا جرى ممطرنا وصفًا على النكرة التي هي
عارض، ولا نصب: {ثَانِيَ عِطْفِه} على الحال.
__________
1 الشاهد في الآية "عارض ممطرنا"حيث أنه مضاف في اللفظ مفصول في
المعنى، والتقدير: ممطر لنا.
2 الشاهد "محلي الصيد" والتقدير: محلًا الصيد.
3 الشاهد فيها: "عطفه" والتقدير: ثانيًا عطفه.
4 الشاهد "مرسلو الناقة" والتقدير: مرسلون الناقة.
5 الشاهد في قوله "مخلف وعده" والتقدير مخلفًا وعده.
6 البيت لجرير وفي ديوانه "ص163".
7 غابطنا: غبط فلانًا: أي تمنى مثل ما له من النعمة من غير أن يريد
زوالها عنه فهو غابط.
حرمانًا: حرم فلان الشيء حرمانًا: منعه إياه. القاموس المحيط "4/ 94".
والشاهد فيه قوله "غابطنا" والتقدير غابط لنا.
8 غابط: الغبطة: ليس بحسد، وغبطه بما نال به من باب ضرب.
(2/125)
ونحوه قول الآخر1:
يارب مثلك في النساء غريزة ... بيضاء قد متعتها بطلاق2
أي: مثل لك، لأن "رب" لا تباشر المعارف المظهرة، وعلى هذا قالوا: ناقة
عبر الهواجر3، وفرس قيد الأوابد4، أي: عابرة للهواجر، ومقيدة للأوابد4.
فلما كثر في كلامهم أن تكون الإضافة لفظية غير معنوية؛ تسامحوا في
الأسماء المخلوع عنها تعريف العلم بتعريف الإضافة فقالوا: "ضربت زيدك"،
و"كلمت عمرك"، ولم يقولوا: "جاءني العمرو"، و"لا كلمت الزيد" إلا في
قلة من الكلام؛ لأن اللام لا ينوى فيها الانفصال كما ينوى في الإضافة
معنى الانفصال في كثير من الأحوال؛ فلا تجد اللام معرفة للأعلام كما
تعرفها الإضافة في نحو عبد الله وبابه، وأبي محمد ونحوه؛ فيعلم بهذا أن
التعريف باللام ألزم في اللفظ عندهم مما تعرف بالإضافة لما قدما ذكره،
فلذلك احتملوا أن يقولوا زيدنا ومحمدكم، ولم يقولوا البكر ولا العمرو
إلا شاذًا.
فإن قلت: فقد قالوا العباس والحارث والعلاء والفضل، وقد نراهم عرفوا
العلم باللام كما عرفوه بالإضافة في نحو "عبد الله" و"أبي بكر"!
فالجواب: أن العباس والحارث والعلاء والفضل ونحو ذلك من الأوصاف
الغالبة والمصادر المقدر فيها جريانها أوصافًا إنما تعرفت بالوضع دون
اللام؛ وإنما أقرت اللام فيها بعد النقل وكونها علمًا مراعاة لمذهب
الوصف فيها قبل النقل، وقد تقدم تفسيرنا ذلك في صدر هذا الكتاب وغيره.
__________
1 هو لأبي محجن الثقفي كما ذكر ذلك صاحب الكتاب "1/ 212"، وفي المقتضب
"4/ 289" ولكن لم ينسبه.
2 غريزة: أي غير مجربة بينة الغرارة، والغرة: الغفلة. لسان العرب "5/
12" مادة/ غرر.
والشاهد فيه قوله "مثلك" والتقدير "مثل لك".
3 الهواجر: "م" هاجرة، وهي نصف النهار عند اشتداد الحر. القاموس المحيط
"2/ 158".
عابرة للهواجر: أي عابرة للصحراء الشديدة الحر.
4 الأوابد: الوحوش: وقد أبد الوحش يأبد أبودًا، ومنه تأبد الموضع إذ
توحش وخلا من القطان ومنه قيل للفذ آبدة لتوحشه عن الطباع. القاموس
المحيط "1/ 173".
(2/126)
وأما تعريفها في الحقيقة فبالوضع، يدل على
ذلك قولهم أبو عمرو بن العلاء؛ فطرح التنزين من عمرو؛ إنما هو لأن
ابنًا مضاف إلى العلم؛ فجرى مجرى قولك أبو عمرو بن بكر، ولو كان العلاء
معرفًا باللام؛ لوجب ثبوت التنوين كما يثبت مع ما تعرف باللام، نحو
جاءني أبو عمرو بن الغلام؛ فلأجل ما ذكرت لك من شناعة تعريف العلم بعد
سلبه تعريفه الأول باللام المستحدثة؛ كرهوا أن يقولوا لقيت العمرو،
ولكلمت السعد.
فإن قيل: فَلِمَ كان تحمل اللام في ما ذكرت أقبح من تحمل الإضافة حتى
استقبحوا الزيد والبكر، ولم يستقبحوا زيدك وبكرك؟
فالجواب: أنهم إنما استكرهوا ذلك مع اللام، وكان أقبح عندهم من الإضافة
من قبل أن اللام ألزم لما تتصل له من المضاف إليه بالمضاف، وذلك أن
اللام على حرف واحد ساكن، ويدعم؛ فاتصاله لما عرفه أشد من اتصال المضاف
إليه بالمضاف، ألا ترى أن المضاف إليه اسم كامل نحو غلام زيد، لك أن
تفضل زيدًا؛ فتقول: "هذا زيد"، و"كلمت زيدًا"، و"نظرت إلى زيد"، واللام
لا يمكنك ذلك فيها لقوة اتصالها، وقد ذكرنا ذلك قديمًا من حالها؛ فلشدة
امتزاجها بما عرفته لم يكن أن ينوى انفصالها كما ينوى انفصال المضاف
إليه.
فإن قيل: فإذا كانوا يستكرهون الزيد والعمرو فكيف اجتمعوا كلهم على
استحسان الزيدين والعمرين والجعفرين، و:
شتان ما بين اليزيدين...... ... .........................1
__________
1 البيت نسبه صاحب الأغاني "ص6064" إلى ربيعة الرقي، والبيت من قصيدة
يمدح فيها ربيعة يزيد بن حاتم، والبيت ذكره صاحب الخزانة "3/ 45"
والبيت كاملًا:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر بن حاتم
الندى: الجود والسخاء والخير. القاموس المحيط "4/ 394".
الأغر: الذي كرمت فعاله واتضضحت "ج" غر.
والشاهد فيه قوله "اليزيدين" حيث جاءت معرفة باللام؛ فكيف استكرهوا
"الزيد" ثم استحسنوا "الزيدين" وغيرها.
إعراب الشاهد: اليزيدين: اسم مجرور وعلامة الجر الياء لأنه مثنى.
(2/127)
و:
أنا ابن سعد أكرم السعدينا1
فالجواب: أن هذا الذي فعلوه من تحمل اللام في التثنية والجمع؛ يدل على
صحة ما كنا قدمناه من أنهم إنما استكرهوا أن يقولوا إذا أرادوا تعريف
ما قد نزعت عنه علميته "الزيد والبكر"؛ لأن له قبل حالة المفضية له إلى
التنكير حالًا قد كان فيها علمًا معرفة، فردوه لما احتاجوا إلى تعريفه
إليها؛ فقالوا جاء زيد، كما كانوا يقولون قبل سلبه تعريفه ورده إليه:
جاء زيد؛ فأما التثنية في نحو قولك زيدان؛ فلم يكن زيدان قط علمًا
لاثنين مخصوصين كما كان زيد قبل سلبه تعريفه علمًا لواحد مخصوص، فيردا
عند إرادة تعريفهما إلى حالهما بعد السلب، كما رد زيد إليها لما أريد
تعريفه بعد سلبهم إياه منه؛ وإنما زيدان بمنزله رجل وغلام في أنه اسم
لاثنين شائع كما أن "رجلًا" و"غلامًا" كل واحد منهما اسم لمعناه شائع
في أمته؛ فكما أنك إذا أردت تعريفهما قلت الرجل والغلام، فكذلك إذا
أردت تعريف زيدين ألحقته اللام؛ فقلت الزيدان والعمران، فاعرف ذلك، فقد
أوضحنا هذا الموضع بنهاية ما يقال في مثله.
فأما قولهم للجبلين المتقابلين أبانان؛ فإن أبانين اسم علم لهما بمنزلة
زيد وخالد.
فإن قلت: فكيف جاز أن يكون بعض التثنية علمًا؛ وإنما عامتها نكرات؛ ألا
ترى أن رجلان وغلامان وابنان وابنتان كل واحد منهما نكرة غير علم، فما
قصة أبانين حتى صار علمًا؟
فالجواب أن زيدين ليسا في كل وقت مصطحبين مقترنين، بل كل واحد منهما
كما يجامع صاحبه؛ فكذلك يفارقه أيضًا؛ فلما اصطحبا مرة وافترقا أخرى؛
لم يمكن أن يخصا باسم علم يقيدهما من غيرهما؛ لأنهما شيئان كل واحد
منهما بائن من صاحبه.
__________
1 البيت نسبه صاحب الكتاب "1/ 289" إلى رؤبة، وذكره صاحب المقتضب "2/
221" دون أن ينسبه.
والشاهد فيه قوله "السعدينا" حيث عرفها باللام، وهذا يؤكد وجهة نظر ابن
جني من تحمل اللام في التثنية والجمع.
(2/128)
وأما أبنان فجبلان متقابلان لا يفارق واحد
منهما صاحبه؛ فجريا لاتصال بعضهما ببعض مجرى المسمى الواحد، نحو بكر
وقاسم، فكما خص كل واحد من الأعلام باسم يقيده من أمته، كذلك خص هذان
الجبلان باسم يقيدهما من سائر الجبال؛ لأنهما قد جريا مجرى الجبل
الواحد؛ فكما أن ثبيرا، وهبوا، ويذبل، لما كان كل واحد منهما جبلًا
واحدًا أجزاؤه متصل بعضها ببعض خص باسم له لايشارك فيه؛ فكذلك أبانان
لما لم يفترق بعضهما من بعض، وكانا لذلك كالجبل الواحد، خصا باسم علم،
كما خص يذبل، ويرمرم1، وسحام2، كل واحد منها باسم علم.
أنشد خلف الأحمر3:
لو بأبانين جاء يخطبها ... رمل ما أنف خاطب بدم4
وحال عمايتين -وهما جبلان متناوحان- حال أبانين.
أنشدني أبو علي5:
لو أن عصم عمايتين ويذبل ... سمعًا حديثك أنزلا الأوعالا6
__________
1 يرمرم: جبل. القاموس المحيط "4/ 122".
2 وسحام: اسم موضع. لسان العرب "12/ 282" مادة/ سحم.
3 جاء ذلك في مغني اللبيب "5/ 274"، وخلف الأحمر أحد الرواة المشهورين
في رواية الشعر.
4 البيت نسبه صاحب المفصل إلى المهلهل بن ربيعة "1/ 46"، وجاء في
اللسان في مادة "أبن" ونسبه أيضًا إلى المهلهل.
أبانان: جبلان في البادية، ويقال هما أبان الأبيض والأسود.
رمل: أي رش عليه الرمل.
والشاهد فيه معاملة الجبلين كجبل واحد، لا تفترق أحدهما عن الآخر في
قوله "أبانين".
5 وفي روايته لما أنشده أبو علي تأكيد على صدق حجته وصحة مذهبه.
6 البيت لجرير في ديوانه "ص50".
عمايتين: جبلين.
الأوعالا: "م" وعل: وهو تيس الجبل أي ذكر الأروى وهو جنس من الماعز
الجبلية له قرنان قويان منحنيان كسيفين أحدبين. القاموس المحيط "4/
65".
يقول الشاعر: لو أن الجبلين سمعا كلامك لهبطت الوحوش منهما تلبية لك
واستئناسًا بحديثك.
والشاهد فيه قوله "عصم عمايتين ويذبل" والتقدير: عصم عمايتين وعصم يزبل
فحذف المضاف.
(2/129)
ومثل ذلك من الجمع عَرَفات، وهي معرفة
لأنها اسم لبقاع معلومة غير متفرقة ولا موجود بعضها دون بعض.
ويدل على كونها معرفة ما حكاه سيبويه عنهم من قولهم: "هذه عَرَفاتٌ
مباركًا فيها"1 فانتصاب الحال بعدها يدل على كونها معرفة، فأما تنوينها
وهي معرفة مؤنثة فسنذكره في فصل أحكام التنوين ومواقعه في كلام العرب
إن شاء الله تعالى؛ فاعرف ذلك.
فهذا كله يدلك على أن تعرُّف الزيدينِ من طريق تعرف الرجلين، وأن النون
فيهما بدل من الحركة وحدها على ما تقدم من القول.
وأما الموضع الذي تكون فيه نون التثنية عوضًا من التنوين وحده؛ فمع
الإضافة، وذلك نحو قولك: "قام غلاما زيد"، و"مررت بصاحبي عمرو"، ألا
تراك حذفتها كما تحذف التنوين للإضافة، ولو كانت هنا عوضًا من الحركة
وحدها لثبتت؛ فقلت: "هذان غلامانِ زيدٍ"، كما تقول قام غلامُ زيدٍ،
فتضم الميمَ من غلام.
فإن قلت: فما أنكرت أن تكون النون مع اللام ثابتة غير محذوفة؛ لأنها لم
تخلُص عوضًا من التنوين وحده فتحذف، بل لما كانت عوضًا من الحركة
والتنوين جميعًا ثبتت؟
فالجواب: أنه لو كان الأمر كذلك؛ لوجب أيضًا أن تثبت مع الإضافة؛ لأنها
لم تخلص عوضًا من التنوين وحده، وهذا كما تراه محال.
فقد صح بما ذكرناه أن نون التثنية تكون في موضع عوضًا من الحركة
والتنوين جميعًا، وفي موضع عوضًا من الحركة وحدها، وفي موضع عوضًا من
التنوين وحده؛ إلا أن أصل وضعها أن تكون داخلة عوضًا مما منع الاسم
منها جميعًا، ولو كانت عوضًا من الحركة وحدها لثبتت مع الإضافة ولام
المعرفة، ولو كانت عوضًا من التنوين وحده لحذفت مع الإضافة ولام
المعرفة؛ فجعلت في موضع عوضًا من الحركة؛ فثبتت كما ثبتت الحركة وفي
موضع عوضًا من التنوين؛ فحذفت كما يُحذف التنوين ليعتدل الأمران فيهما.
__________
1 الكتاب: 2/ 18.
(2/130)
فإن قيل: فهلا عكس الأمر؛ فجعلت النون مع
الإضافة عوضًا من الحركة، فثبتت، فقلت: "غلامانِ زيدٍ"، ومع اللام
عوضًا من التنوين؛ فحذفت، فقلت: "قام الرجلا"؟
فالجواب: أنهم لو فعلوا ذلك لوجب أن يقولوا قام غلامان زيد؛ فيجمعوا
على الاسم زيادتين في آخره؛ فكان يميل بهما لأنهما توالتا فيه من جهة
واحدة، وإنما الحكمة في الذي فعلوه إذ جعلوها مع اللام عوضًا من
الحركة؛ فقالوا: قام الرجلان، لتتباعد الزيادتان، فتكون إحداها في أول
الاسم والأخرى في آخره؛ فَيسِطَ الاسم حاجزًا بينهما، وكان ذلك أوفق من
أن يقولوا: "قام غلامان زيد"، فتجتمع الزيادتان في موضع واحد.
ونظير هذا في ما ذكره أبو علي إعلال العرب الفاء واللام في نحو: "عِ
كلامًا"، و"شِ ثوبًا"، و"فِ بالعهد"، ولم يعلوا العين واللام إلا
شاذًا، ولا الفاء والعين البتة كراهية منهم لتوالي إعلالين.
ونظير آخر لذلك، وهو كراهيتهم أن يقولوا في النداء: "يا الرجل"، و"يا
الغلام"؛ لئلا يجمعوا بين "يا" وهي للإشارة، وبين اللام، وهى للتعريف؛
فكرهوا أن يجمعوا بين حرفين متقاربي المعنين، ثم قالوا مع هذا: يا عبد
الله، فجمعوا بين "يا" والإضافة التي هي للتعريف؛ لأنهما تباعدا؛ فكان
أحدهما في أول الاسم والآخر في آخره.
فإن قال قائل: فإذا كان الأمر على ما ذكرته فما تقول في قولهم في تثنية
أحمر وأصفر وحمراء وصفراء، ونحو ذلك مما لا ينصرف معرفة ولا نكرة:
أحمران وأصفران وحمراوان وصفراوان، والنون هنا بدل من ماذا هي؟ هل هي
بدل من الحركة والتنوين جميعًا، أو بدل من الحركة وحدها، أو بدل من
التنوين وحده؟
فالجواب: أنها بدل من الحركة والتنوين جميعًا.
فإن قلت: فإن أحمر وصفراء لا تنوين فيهما!
فهو كذلك؛ إلا أنك لما ثنيت الاسم، فأبعدته عن شبه الفعل بالتثنية؛ إذ
الفعل لا تصح تثنيته، زال عنه ترك الصرف لزوال شبه الفعل عنه، فقُدر
فيه في التثنية
(2/131)
التنوين، فصارت النون في حمراوان وصفراوان
وأحمران وأصفران عوضًا من الحركة والتنوين جميعًا.
فأما النون في هذان، وتان، واللذان، واللتان فالقول فيها: إنها ليست
عوضًا من حركة ولا تنوين ولا من حرف محذوف كما يظن قوم، ولا حكم هذان
واللذان في أنهما مثنيان حكم الزيدان والعمران، وأنا أذكر لك ما تحصل
لي عن أبي علي بعد طول البحث معه عن ذلك.
اعلم أن أسماء الإشارة نحو هذا وهذه، والأسماء المصولة نحو الذي والتي
لا تصح تثنية شيء منها من قبل أن التثنية لا تلحق إلا النكرة كما
قدمنا، فما لا يجوز تنكيره فهو بأن لا تصح تثنيته أجدر، وأسماء الإشارة
والأسماء الموصولة لا يجوز تتنكر، فلا يجوز أن يثنى شيء منها، ألا
تراها بعد التثنية على حد ما كانت عليه قبل التثنية، وذلك نحو قولك:
هذان الزيدان قائمين، فتنصب قائمين بمعنى الفعل الذي دلت عليه الإشارة
والتثنية، كما كنت تقول في الواحد: هذا زيد قائما، فتجد الحال واحدة
قبل التثنية وبعدها. وكذلك قولك: ضربت اللذين قاما، إنما يتعرفان
بالصلة كما يتعرف بها الواحد في قولك: ضربت الذي قام، فالأمر في هذه
الأشياء بعد التثنية هو الأمر فيها قبل التثنية. وكذلك يا هنانِ ويا
هنونَ، هذه أسماء مصوغة للتثنية والجمع بمنزلة اللذين والذين، وليس
كذلك سائر الأسماء المثناة نحو زيد وعمرو.
ألا ترى أن تعرُّف زيد وعمرو إنما هو بالوضع والعلمية، فإذا ثنيتهما
تنكرا، فقلت: رأيت زيدين كريمين، وعندنا عمران عاقلان، فإذا آثرت
التعريف بالإضافة أو باللام، وذلك نحو الزيدان والعمران، وزيداك
وعمراك، فقد تعرفا بعد التثنية من غير وجه تعرفهما قبلها، ولحقا
بالأجناس، وفارقا ما كانا عليه من تعريف العلمية والوضع، فإذا صح ذلك
فينبغي أن تعلم أن هذان وهاتان، واللذان واللتان إنما هي أسماء مصوغة
للتثنية مخترعة لها، وليست بتثنية للواحد على حد زيدٍ وزيدانِ، إلا
أنها صيغت على صورة ما هو مثنى على الحقيقة، فقيل: هذان واللذان وهذين
واللذين لئلا تختلف التثنية، وذلك أنهم يحافظون عليها ما لا يحافظون
على الجمع، ألا ترى أنك تجد في الأسماء المتمكنة ألفاظ الجموع من غير
ألفاظ الآحاد، وذلك نحو رجُل ونَفَر،
(2/132)
وامرأة ونسوة، وبعير وإبل، وواحد وجماعة،
ولا تجد في التثنية شيئًا من هذا إنما هي من لفظ الواحد، نحو زيد
وزيدان، ورجل ورجلان، لا يختلف ذلك. وكذلك أيضًا كثير من المبنيات، على
أنها أحق بذلك من المتمكنة، وذلك نحو ذا وأولاء، وذات وأولات، وذو
وأولو، ولا تجد ذلك في تثنيتها نحو ذا وذان، وذو وذوان، فهذا يدلك على
محافظتهم على التثنية وعنايتهم بها أن تخرج على صورة واحدة لا تختلف،
وأنهم بها أشد عناية منهم بالجمع، فلذلك لما صيغت للتثنية أسماء مخترعة
غير مثناة على الحقيقة كانت على ألفاظ المثناة تثنية حقيقة، وذلك نحو
ذان وتان، واللذان واللتان. ويدلك على أن ما كان من الأسماء لا يمكن
تنكيره فإن تثنيته غير جائزة، وأنهم إنما يصوغون له في التثنية اسما
مخترعا ليس على حد زيد وزيدان قولهم أنت، وأنتما، وهو، وهي، وهما،
وضربتك، وضربتكما، فكما لايشك في أن أنتما ليس بتثنية أنت، إذ لو كان
تثنية أنت لوجب أن تقول في أنت: أنتان، وفى هو: هوان، وفى هي: هيان،
فكذلك لا ينبغي أن يشك في أن هذا ليس تثنية هذا، وإنما هو اسم صيغ ليدل
على التثنية كما صيغ أنتما وهما ليدل على التثنية وهو غير مثنى على حد
زيد وزيدان ألا ترى أن أسماء الإشارة والأسماء الموصولة جارية مجرى
الأسماء المضمرة في أن كل واحد منهما لا يجوز تنكيره ولا خلع تعريفه
عنه.
فإن قلت: فإذا كان هذا والذي ونحوهما كالأسماء المضمرة من حيث أريت،
فما بالهم صاغوا لتثنية ذا والذي اسمين على صورة التثنية، فقالوا ذان
واللذان، ولم يقولوا في أنت: أنتان، ولا في هو: هوان، ولا في هي: هيان،
كما قالوا ذان واللذان؟
فالجواب: أنهم إنما صاغوا لذا وللذي في التثنية اسمين على صورة الأسماء
المثناة، فقالوا ذان واللذان كما قالوا رجلان وغلامان، ولم يقولوا في
أنت: أنتان، ولا في هو: هوان من قبل أن أسماء الإشارة والأسماء
الموصولة أشبه بالأسماء المتمكنة من الأسماء المضمرة.
قال أبو علي: ألا تراهم يصفون أسماء الإشارة، ويصفون بها، فيقولون:
مررت بهذا الرجل، ومررت بزيد ذا، وكذلك يقولون: مررت بالذي قام أخوه
الطويل، ولقيت زيدا الذي قام أخوه الكريم، فلما قربت الأسماء المشار
بها والأسماء
(2/133)
الموصولة من الأسماء المتمكنة، صيغت لها
أسماء التثنية على نحو تثنية الأسماء المتمكنة، ولما كانت الأسماء
المضمرة لا تقرب من الأسماء المتمكنة لأنها لا توصف ولا يوصف بها لم
يصغ لا أسماء على نحو الأسماء المتمكنة.
فأما قولهم مررت بك أنت، ومررت به هو، فأنت وهو ليسا وصفا يستفاد بهما
البيان والإيضاح، إنما الغرض فيمها التوكيد والتحقيق، فلما كانت كذلك
بعدت من المتمكنة، فخالفوا بينها وبين ما قارب المتمكنة بأن صاغوا لها
أسماء للتثنية على غير صورة الأسماء المثناة المتمكنة، فقالوا: أنت
وأنتما، وهو وهما، ولم يقولوا أنتان ولا هوان كما قالوا ذان واللذان
لما ذكرت لك.
ويزيد عندك في وضوح ذلك أنهم قد حقروا الأسماء المشار بها والأسماء
الموصولة كما حقروا المتمكنة، فقالوا: ذيّا وتَيّا، واللَّذَيا
واللَّتَيا، ولم يجئ شيء من التحقير في الأسماء المضمرة، فدل ذلك على
بعدها من الأسماء المتمكنة.
قال أبو علي: ولذلك قالوا: ذا، وأصله ذَيْ، فأبدلوا ياءه ألفا وإن كانت
ساكنة، ولم يقولوا ذي لئلا يشبه كي وأي، فأبدلوا ياءه ألفا ليلحق بباب
متى وإذا، ويخرج عن شبه الجرف بعض الخروج، فهذا أيضًا يؤكد ما تقدم.
فأما الدليل على أن عين "ذا" ياء وأنها ساكنة فقد ذكرته في كتابي في
شرح تصريف أبي عثمان رحمه الله. ويؤنسك بأن لفظ التثنية قد لا يكون
تثنية لواحد قولهم: عقلتُه بثنايين، وقول عنترة1:
أحولي تنفُض استُكَ مِذْرَوَيْها ... لتقتلني فها أنا ذا عمارا2
فصحة الواو والياء إنما هي لأنهم لم يفردوا لهما واحدا. ونظير هذا من
الجمع مقتوين في أحد قولي سيبويه3، لأن صحة واوه تدل على أنه ليس له
واحد.
__________
1 البيت جاء في ديوانه"ص234".
2 البيت لعنترة بن شداد يفتخر فيه بنفسه ويجاهر خصمه عمارة بن زياد
الذي أراد أن يخطب عبلة بأنه مستعد للقائه لا يهابه فلينفض جانبي استه
وليقم وليستعد لحربه وقتله إن أراد أو استطاع.
والشاهد في قوله "مذرويها" وتدل على أن لفظ التثنية قد لا يكون تثنية
لواحد.
3 الكتاب: 2/ 103.
(2/134)
وذهب الفراء إلى أن نون التثنية إنما دخلت
فرقا بين رفع الاثنين ونصب الواحد. ومعنى ذلك أنك إذا قلت "عندي رجلان"
فلولا النون لالتبس بقولك: ضربت رجلا، فإذا جاءت النون أعلمتك أن
الكلمة مثناة، وأنها ليست واحد منصوبًا.
وهذا القول عندنا على نهاية الخطل1 والضعف والفساد، وله وجوه كثيرة
تفسده، وتشهد ببطلانه، منها: أنك لو قلت على قوله ومذهبه: قام الرجلان،
بلا نون، لم يلتبس هذا بالواحد المنصوب، وذلك أنك لا تقول ضربت الرجلا،
بالألف، إنما تقول: ضربت الرجلَ، بغير ألف، فلو كان الأمر على ما ذكره
لقلت قام الرجلا، فأتيت بالألف علمًا للتثنية، ولم تخف لبسًا على ما
قدمناه.
فإن قال قائل: إن من العرب من يقف على ما فيه لام المعرفة في موضع
النصب بالألف، فيقول ضربت الرجلا، فدخلت النون فرقًا بين رفع الاثنين
ونصب الواحد على هذه اللغة.
فالجواب: أن هذه لغة من الشذوذ والقلة على حال لا ينبغي أن يجتمع جميع
العرب على مراعاتها وتخوف اللبس فيها، وإنما يقولها قوم هم من القلة
بحيث لا يعتدّون خلافًا، فضلا عن أن تجتمع العرب كلها قاطبة على تخوف
الإشكال في لغتهم، فأما قوله عَزَّ اسْمُهُ: {وَتَظُنّونَ بِاللهِ
الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] 2، و {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}
[الأحزاب: 67] 3، فإنما ذلك على إشباع الفتحة للوقف على رءوس الآي، كما
قرأت القراء: "والليل إذا يسْرْ" [الفجر: 4] 4، و {ذَلِكَ
__________
1 الخطل: خطل خطلا: أي حاد عن الصواب وأخطأ وأفحش، والخطل أي الكلام
الفاسد.
2 الشاهد فيها كلمة "الظنونا" حيث تقرأ بألف عوضًا عن نون التنوين
المحذوفة للوقف عليها.
إعراب الشاهد: الظنونا: مفعول به منصوب بالمفعولية.
3 هي قراءة ابن كثير والكسائي وغيره عن عاصم بالألف إذا وقفوا وتركها
في الوصل، وقرأ هبيرة عن حفص بالألف في وصل أو قطع. السبعة في القراءات
"ص520".
والشاهد فيها "السبيلا" حيث أبدلت نون التنوين ألفا للوقف عليها.
4 قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي "يسر" بغير ياء في وصل ولا وقف،
وقرأ ابن كثير بالياء في وصل أو قطع، وقرأ نافع بياء في الوصل وبغير
ياء في الوقف، وقرأ أبو عمرو "يسر" جزما إذا وصل وإذا وقف، وروي غير
ذلك عنه. السبعة "ص683-684".
(2/135)
مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64] 1 فحذف
الياء في هذا ونحوه في الوقف إنما هو لرءوس الآي وتشبيههم إياها
بالقوافي في نحو قول زهير2:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ... ـض القوم بخلق ثم لا يفرْ3
يريد: يفري. وكذلك أيضًا من قرأ: {السَّبيلا} و: {الظٌّنونا} إنما هو
مشبه بوقوفهم على القوافي في نحو قول جرير4:
أقلي اللوم عاذل والعتابا ... وقولي إن أصبت: لقد أصابا5
ونحو قول لقيط6:
يا دار عمرة من محتلها الجرعا ... هاجت لي اللهم والأحزان والوجعا7
__________
1 الشاهد فيه حذف الياء.
2 هو زهير بن أبي سلمى، والبيت في ديوانه "ص94".
3 تفري: فري الشيء وانفرى: أى انشق وانقطع.
قوله "لا يفر" أسلوب إنشاء صورة نفي غرضه التأكيد.
الشاهد فيه قوله "لا يفر" حيث حذفت ياؤها ويقصد لا يفري.
إعراب الشاهد: يفر: فعل مضارع مرفوع بضم مقدر على الياء المحذوفة.
4 البيت لجرير بن عطية بن الخطفي، أحد الشعراء المجيدين.
أقلي: اتركي، ذلك أن العرب تستعمل القلة في معنى المنع والنفي بته.
عاذل: أصله عاذلة وحذفت التاء للترخيم.
العتاب: التقريع على فعل شيء أو تركه، ويقول جرير: اتركي أيتها العاذلة
اللوم والتعنيف فإني لن أستمع لما تطلبين من الكف عما آتي من الأمور
والفعل لما أذر منها، وخير لك أن تعترفي بصواب ما أفعل.
والشاهد في قوله "أصابا" حيث وقف عليها بألف الإطلاق لخفتها.
إعراب الشاهد: أصابا: جملة مقول القول في محل نصب، وجواب الشرط محذوف
يدل عليه ما قبله والتقدير إن أصبت فقولي لقد أصابا.
6 هو لقيط بن يعمر الإيادي.
7 البيت نسبه صاحب الأغاني "22/ 392" إلى لقيط بن يعمر الإيادي، وذكر
البيت صاحب المنصف "1/ 60" دون أن ينسبه.
الجرعا: أرض ذات حزونة تشاكل الرمل حيث لا ينبت فيها الزرع "ج" أجارع.
هاجت: أثارت.
الأحزان: جمع يدل على تعدد وتنوع هذه الأحزان وكثرتها.
الوجعا: اسم جامع لكل مرض مؤلم "ج" أوجاع.
والشاهد في قوله "الوجعا".
إعراب الشاهد: معطوف منصوب بالتبعية.
(2/136)
فهذه الأشياء تعرض في الوقف، وهي جارية
مجرى غيرها من سائر التغايير العارضة عند الوقوف نحو خالدّ، ويجعلْ،
وهذا بكرْ، ومررت بعمرْو، فهل يحسن بمثل هذا أن يُجعل أصلا تجتمع
الجماعة عليه، وتنتهي في القياس إليه، هذا ما لا ينبغي لنظّار أن
يركبه، ولا لمنصف من نفسه أن يعتقده.
فإن قال قائل: ما تنكر أن تكون النون إنما لحقت التثنية في النكرة التي
هي الأصل، وذلك قولك ضربت رجلا، فلو قلت مع هذا "عندي رجلا" بلا نون لا
لتبس بما لا يوقف على منصوبه إلا بالألف نحو ضربت رجلا، ثم إنهم أجروا
المعرفة التي هي فرع مجرى النكرة التي هي أصل حملا للفرع على الأصل،
كما أجروا: رأيت الهنداتِ، على: رأيت الزيدينِ، حملا للمؤنث الذي هو
فرع على المذكر الذي هو الأصل، وكغير ذلك مما تجري فيه الفروع على
الأصول طلبا للتجنيس لا لضيق الكلام، ألا ترى أنهم لو قالوا: ضربتُ
الهنداتَ، ففتحوا التاء لم يفسد ذلك بشيء، وإنما مالوا إلى الكسر، كما
أجروا النصب على لفظ الجر في: ضربتُ الزيدينَ.
فالجواب: أن ذلك إنما كان يكون له به تعلق لو لم نجد لنون التثنية علة
قائمة ثابتة صحيحة في لحاقها بعد الألف، وهو ما قدمناه من قول سيبويه:
"وإنما لحقت عوضًا مما منع الاسم من الحركة والتنوين"1 الذي كان يجب له
إذا كان معربا متمكنا، كما وجب للواحد المتمكن، فأما والعلة قائمة
صحيحة فلا وجه للعدول عنها إلى حمل فرع على أصل طلبا لتجنيس الكلام لا
غير.
ألا ترى أن كسر تاء الهندات في موضع النصب ليس له قوة كسرها في موضع
الجر، وإنما هي حركة أقيمت مقام حركة.
__________
1 الكتاب: "1/ 4"، ولفظه: "كأنها عوض لما منع من الحركة والتنوين".
(2/137)
أولا ترى أن أبا الحسن وأبا العباس1 ومن
قال بقولهما قد ذهبا إلى أن كسرة تاء التأنيث في موضع النصب إنما هي
حركة بناء لا حركة إعراب، ولم يقولوا في كسرتها في موضع الجر إنها حركة
بناء، بل قالا بما قال به سيبويه2 والجماعة من أنها حركة إعراب. ولا
شيء حملهما على أن قالا إن كسرة تاء: ضربت الهنداتِ، حركة بناء إلا
ضعفها وقلة تمكنها في هذا الموضع من حيث كانت محمولة على غيرها. فهذا
يدلك على أن ما حمل على غيره ليس كما هو أصل قائم بنفسه، لا سيما إذا
كان في حمله على غيره ما يدعو إل ترك القول بما قد وضحت أدلته، ونطقت
شواهده، وهو قول سيبويه.
ويؤكد عندك أيضًا أن ما حمل على غيره ليس له قوة ما هو قائم بنفسه، أن
حذف الواو من "يَعِدُ" مع الياء أقوى من حذفها مع غيرها من حروف
المضارعة، لأنها في هذا محمولة على الياء، فحذفها مع الياء أقوى من
حذفها مع غيرها من سائر حروف المضارعة المحمولة على الياء، ولهذا
نظائر.
وشيء آخر يفسد هذه الزيادة، وهو أنه لو كانت النون دخلت في المعرفة
حملا على النكرة لوجب أيضًا أن تدخل على المضاف لدخولها على المفرد إذ
كانت الإضافة فرعا على الإفراد، ولَلَزم أن تقول: قام غلامانِ زيدٍ،
وكما كنت تقول قبل الإضافة: قام غلامانِ، فتركهم إلحاق النون في
الإضافة مع أنها فرع على الإفراد دلالة على أنهم يلحقونها في المعرفة
من حيث كانت فرعا على النكرة.
فإن قال قائل: ما تنكر أن يكونوا إنما لم يلحقوها في الإضافة وإن كانت
فرعا على الإفراد كما ألحقوها مع المعرفة من حيث كانت فرعا على النكرة
من قبل أنهم لو قالوا: قام غلامان زيد، لجمعوا في آخر الاسم زيادتين؛
النون والمضاف إليه، فثقل عليهم ذلك، فرفضوه؟
فالجواب: أن يقال لمن قال هذا: مذهبك أدّاك إلى هذا، فإياك فَلُمْ،
فإنك أنت وجهت على نفسك هذا الإلزام.
__________
1 ذهب المبرد في المقتضب "1/ 144-145، 3/ 331" إلى أن الجر والنصب
متساويان في جمع المؤنث بالألف والتاء.
2 الكتاب: "1/ 5".
(2/138)
ومنها1: أنهم يقولون في ما لا ينصرف كله:
هذان أحمران وأصفران، فيلحقون النون، وأنت لو نصبت الواحد من هذا لم
تقف عليه بالألف، إنما كنت تقول: رأيت أحمر وأصفر، فإلحاقهم النون في
التثنية يدل على أنها لم تلحق للفصل بين رفع الاثنين ونصب الواحد كما
ذهب إليه الفراء.
فإن قال قائل: فما تنكر أن يكون لما وجب إلحاق النون في ما ينصرف ألحقت
أيضًا في ما لا ينصرف لئلا يختلف الباب؟
رجع الحجاج إلى ما كنا قدمناه آنفا من أنا لا نحمل الشيء على أن ملحق
بغيره مع وجودنا له علة صحيحة قائمة فيه بنفسه، وهو ما ذهب إليه
سيبويه.
فإن انفصل منفصل من غير هذا الوجه، فقال: إنما لحقت في ما لا ينصرف نحو
أحمران وبابه لأن من العرب من يصرف جميع ما لا ينصرف، فيقول: ضربت
أحمدا، وكلمت عُمرا.
قيل له: هذه اللغة في القلة والضعف كاللغة التي يوقف فيها على ما فيه
لام المعرفة في النصب بالألف، نحو: رأيت الرجلا، وكلمت الغلاما، فالذي
أسقط عنا تلك المعارضة هو الذي يسقط عنا هذه أيضًا.
ومنها: أنهم يقولون في النصب والجر: مررت بالزيدين، وضربت الزيدين،
فيلحقون النون ولا ألف قبلها، فدل ذلك على أن النون لم تلحق التثنية
فصلا بين رفع الاثنين ونصب الواحد.
فإن عارض معارض فقال: إنها لما دخلت في الرفع، نحو الزيدان، والعمران،
حملوا الجر والنصب عليه لئلا تختلف حال التثنية.
عاد الحجاج أيضًا إلى ما قدمناه من أن الشيء لا ينبغي أن يجعل محمولا
على غيره وله صحه علة موجودة فيه نفسه. وكذلك إن قال قائل: إنما لحقت
النون التثنية على لغة بلحارث بن كعب2 إذ كان ما قبل النون في لغتهم
ألفا لا تختلف، وذلك نحو مررت بالزيدان، وضربت الزيدان.
__________
1 أي: من الوجوه التي تشهد ببطلان مذهب الفراء في نون التثنية.
2 النوادر "ص259".
(2/139)
فالجواب عن هذا أيضًا كالجواب عما قبله،
لأن اللغات كلها لا تحمل على لغة بلحارث عن قلتها وشذوذها.
ومنها أيضًا قولهم: قام الزيدون، فلحاق النون هنا ولا ألف قبلها يفسد
أن تكون دخلت فرقًا بين رفع الاثنين ونصب الواحد.
فإن قال: أنها في الجمع أيضًا إنما دخلت فرقًا بين رفع الجمع ورفع
الواحد في لغة من قال1: هذا زيدو، ومررت بزيدى، كما يقول الجميع في
الوقف على المنصوب المنون: رأيت زيدا.
عاد الكلام إلى ما كنا قدمناه من ضعف حمل الشيء على غيره مع وجود العلة
القائمة فيه. ومنه أنه إن جاز للفراء أن يذهب إلى أن نون التثنية إنما
لحقت فرقا بين رفع الاثنين ونصب الواحد، وأن يحتج في دخولها مع اللام
في نحو قولك: الرجلان والغلامان، بأن من العرب من يقول: رأيت الرجلا
والغلاما، جاز لآخر أن يفسد عليه دخولها في ما لا لام فيه ولا هو مضاف
نحو: عندي رجلان وغلامان، بأن يقول: هذا فاسد من قول الفراء، لأن من
العرب من يقف على المنصوب المنون بلا ألف، فيقول: ضربت زيدْ، وكلمت
محمدْ، كما يقف على المرفوع بلا واو، وعلى المجرور بلا ياء، فيقول: هذا
جعفرْ، ومررت بجعفرْ، وحدثنا أبو علي أن أبا عبيدة حكى عنهم2: ضربت
فَرَجْ.
وأنشد للأعشى3:
إلى المرء قيسٍ أطيل السُّرَى ... وآخُذ من كل حيٍّ عُصُمْ4
ولم يقل عُصُما
__________
1 هذه لغة أزد السراة، حكاها أبو الخطاب كما في الكتاب "2/ 281".
2 لم يحك سيبويه هذه اللغة، لكن حكاها الجماعة: أبو الحسن، وأبو عبيدة،
وقطرب، وأكثر الكوفيين، الخصائص "2/ 97".
3 ذكرنا قبل ذلك أنه: أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل.
4 البيت للأعشى في ديوانه "ص87" وهو من قصيدة يمدح فيها قيس بن معد
كرب.
السُّرى: سير عامة الليل، والمقصود بقوله: أطيل السرى، أي أطيل سير
الليل إلى قيس.
الشاهد فيه قوله "عُصُمْ" ولم يقل "عُصُمًا" بالنصب على المفعولية.
(2/140)
وأخبرنا بعض أصحابنا يرفعه إلى قطرب1 أنه
أنشد:
شئز جنبي كأني مهدأٌ ... جعل القينُ على الدَّفِّ إبَرْ2
ولم يقل إبرَا.
وقال الآخر3:
أعددتُ للوِرْدِ إذا الوِرْدُ حفز ... غَرْبًا جَرُورًا وجُلالا
خُزَخِز4
ولم يقل خُزَخِزا. وأخبرنا بعض أصحابنا عن قطرب أنه أنشد لعدي بن زيد5:
أتعرف أمس من لميسَ طَلَلْ ... مثل الكتاب الدارس الأحوَلْ6
قد كنتَ بحرًا كالفراتِ تميرُ ... الناسُ منه درمكًا وحُلَلْ7
ولم يقل طلالا، ولا حلالا.
__________
1 هو محمد بن المستنير بن أحمد نحوي عالم بالأدب واللغة.
2 شئز: قلق.
مهدأ: المنكب درم أعلام واسترخى حمله. كذا قال الفيرزآبادي.
القين: الحداد، ثم أطلق على كل صانع "ج" قيون. القاموس المحيط "4/
262".
الدف: الجنب من كل شيء، ويقال بات يتقلب على دَفَّيهِ. القاموس المحيط
"3/ 140".
والشاهد فيه قوله "إبرْ" بتسكين دون مد، والأصل إبرا.
3 لم نعثر على قائله.
4 البيت ذكره صاحب اللسان في مادة "خزز"، وكذا صاحب المنصف "1/ 27" ولم
ينسباه.
الوِرْدُ: الماء الذي يورد.
غربًا: الدلو العظيم. القاموس المحيط "1/ 109".
الجرور: الذي لا ينقاد بسهولة ويسر من الخيل والإبل. القاموس المحيط
"1/ 389".
الخزخز: القوي المتين من الإبل، والعبيد الذي سيحملون هذا الماء.
القاموس المحيط "2/ 175".
والشاهد في قوله: خزخز: حيث سكن ولم يقل بالمد خزخزا.
5 البيت ينسب لعدي بن زيد وهو في ديوانه "ص157".
6 طلل: ما بقي من آثار الديار ونحوها. القاموس المحيط "4/ 8".
الدارس: الذي ذهب أثره وعفا. لسان العرب "6/ 79" مادة/ درس.
الأحول: الدار والمنزل الذي تغير وأتى عليه أحوال "سنون". القاموس
المحيط "3/ 363".
والشاهد فيه قوله طلل: ولم يقل طللا نصبا على المفعولية وإنما سكن.
7 البيت لم يذكره صاحب اللسان في مادة "درمك" ولم نعثر على قائله فيما
بين أيدينا.
تمير الناس: أي تأخذ الناس منه طعامهم وشرابهم وتجمعهما للسفر، ذلك أن
الميرة الطعام يجمع للسفر ونحوه. وتمير الناس كناية عن شدة كرمه.
"كالفرات" أسلوب بلاغي في صورة تسبيه بليغ بعكس سماحته وكرمه وعطاءه.
حلل: "م" الحلة: الثوب الجيد الجديد غليظا أو رقيقا، وكانت عند العرب
تتكون من قميص وإزار ورداء.
والشاهد فيه قوله "حلل" ولم يقل حلالا نصبا على التبعية.
(2/141)
وأنشدنا له أيضًا:
هل ترى من ظُعُن باكرة ... يتطلعْنَ من النجد أُسُرْ1
ولم يقل أُسُرا. هكذا روينا عنه.
قال: وسمعنا بعض العرب الفصحاء من بني حنظلة2 ينشد:
لما رأَتْ في ظهري انحناءْ ... والمشيَ بعد قَعَسٍ إحناءْ
أَجْلَتْ وكان حبُّها إجلاءْ ... وجعلَتْ نصفَ غَبُوقي ماءْ
ثم تقولُ من بعيدٍ هاءْ ... دحرجةً إن شئتَ أو إلقاءْ3
قال: فوقف على هذا كله بغير ألف.
فإن جاز للفراء أن يحتج في دخول النون في الرجلان بقول من قال: رأيت
الرجلا، جاز أيضًا لآخر أن يفسد أصل مذهبه في النكرة في قولهم عندي
رجلان، بأن من العرب من يقف على المنصوب المنون بغير ألف، فيقول: رأيت
محمدْ، وكلمت جعفرْ، وبهذه الأبيات التي أنشدناها وغيرها.
بل يقول: أنا أولى بالقول من الفراء لكثرة ما جاء عنهم من ضربتُ رجلْ،
وقلة ما جاء عنهم من ضربتُ الرجلا.
__________
1 البيت ينسب لعدي بن زيد وهو في ديوانه "ص60".
2 إحدى قبائل العرب. ويقال أن الأبيات تنسب لأحد شعرائها.
3 الأبيات لم ينسبها الزجاجي في كتابه "الأمالي" وذكرها "ص186-187"،
بينما نسبها ابن درستويه في كتاب الكتاب "ص106" إلى مسلم بن عطية.
قعَس: محركة خروج الصدر ودخول الظهر ضد الحدب. القاموس المحيط "2/
241".
غَبوقي: الغبوق: الشرب بالعشي، وقد غبقه من باب نصر. مادة "غ ب ق".
والشاهد في قوله "احنا- ماء- إلقاء" حيث وقف عليها "سكَّن" بغير ألف.
(2/142)
فان احتج محتج بقول الشاعر1:
أقلي اللوم عاذلَ والعتابا ... ............ .............
و2:
يا دار عمرة من محتلها الجرَعا ... ............ .............
و3:
............ ............. ... سُقِيتِ الغيثَ أيتها الخيامو4
وقوله أيضا5:
أتنسى أن تودعنا سُلَيْمَى ... بفرع بشامة سقي البشامو6
فإنما ألحقت هذه المدات في الوقف لتصحيح الوزن. ومن أجرى الشعر مجرى
الكلام قال في الوقف على القوافي بوقفه في الكلام، قال:
أقلي اللوم عاذلَ والعتابْ ... .............. ...............7
__________
1 سبق تخريج البيت.
2 سبق تخريجه.
3 عجز بيت لجرير، وصدره:
متى كان الخيام بذي طلوح
وهو في ديوانه "ص278".
ذو طلوح: موضع.
4 البيت لجرير في ديوانه "ص278"، والبيت بتمامه:
متى كان الخيام بذى طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيامو
والشاهد فيه قوله "الخيامو" حيث أشبع المد لتصحيح الوزن.
5 البيت لجرير، وهو في ديوانه "ص279".
6 سقى البشام: أي سقى من أبشمه الطعام أي أتخمه. القاموس المحيط "4/
81".
فرع بشامة: البشامة: شجرة طيبة الريح والطعم يستاك بها صغيرة الورق، لا
ثمر لها، إذا قطع ورقها أو غصنها سال منه لبن أبيض "ج" بشام. القاموس
المحيط "4/ 80".
الشاهد فيه إشباع المد فأصبحت "بشامو"، وأصلها "البشام".
7 سبق تخريج البيت.
(2/143)
و:
.............. .............. ... سُقِيتِ الغيثَ أيتها الخيامْ1
و:
يا دار عمرة من محلتها الجرعْ ... ............... ...............
وجميع من يحذف هذه المدات إذا أجرى القافية مجرى سائر الكلام لم يقف
إذا صار إلى مثل قوله3:
قد رابني حفصٌ فحرِّكْ حفصا4
إلا بالألف بعد الصاد، فقد علمت أن من قال: العتابا، والجرعا5،
والخيامو، إنما يلحق الألف والواو لضرورة الشعر وإقامة وزنه. وأن من
قال: ضربت زيدْ، وكلمت محمدْ، فوقف بغير ألف، فليس حذفه الألف لضرورة
الشعر، ألا ترى إلى إجماع الجماعة على إثبات الألف في نحو:
قد رابني حفصٌ فحرِّكْ حفصا6
يقول هذا من يقول العتابا، ومن يقول العتابْ، ومن يقول الخيامو، ومن
يقول الخيامْ، ومن يقول ومنزلي، ومن يقول ومنزلْ، ولم نسمعهم يقولون:
فحرك حفصْ، كما قال: العتابْ، والخيامْ، ومنزلْ.
فإن قيل: فما تنكر أن يكونوا أيضًا لم يقولوا: فحرك حفصْ، لئلا ينقص
وزن الشعر؟
__________
1 سبق تخريج البيت.
2 سبق تخريج البيت.
3 البيت في الكتاب "2/ 300"، واللسان مادة "روى" "19/ 68".
4 البيت ذكره صاحب اللسان ولم ينسبه، وكذلك صاحب الكتاب ولم ينسبه.
رابني: أساء ظني وأفزعني وحرك الشكوك والظنون والريب.
حفص: شبل "ج" أحفاص، أبو حفص: كنية الأسد. القاموس المحيط "2/ 298".
والشاهد إلحاق الألف بعد الصاد في كلمة "حفصا" وقيل هذا لضرورة الشعر
وإقامة الوزن.
5 الجرعا: يقال جرع الغيظ: أي كظمه وكتمه. القاموس المحيط "3/ 12".
6 سبق شرحها.
(2/144)
فذلك فاسد من قبل أنهم قد قالوا:
أقلي اللوم عاذلَ والعتابْ ... ........
و:
........ ... سُقِيتِ الغيثَ أيتها الخيامْ
فوقفوا قبل تمام الوزن، ألا ترى أن هذين من الوافر، وأن تقطيعهما:
أقل لل لو معاذل ول عتابْ ... مفاعلين مفاعلتن فعولْ
وكذلك قول الآخر:
سقي تل غي ثأي يتهل خيامْ ... مفاعلين مفاعلتن فعولْ
فوقوفهم على لام فعولُنْ دون نونها يدل على أن الوزن لم يتكامل، فلو
كان حذف الألف من قول من قال: كلمت جعفرْ، لضرورة الشعر لجاز أن يسمع
عنهم:
قد رابني حفصٌ فحرك حفصْ
فقد علمت بهذا أن ترك الألف في قولك: ضربتُ محمدْ إنما هو لغة، وليس
لضرورة، فلهذا كان الاحتجاج به على الفراء أقوى من احتجاجه بقول من
يقول: ضربت الرجلا، إذ ذلك إنما جاء في ضرورة الشعر، وليس بلغة مستقرة
كقول من قال: ضربت فرجْ، فإذا جاز له أن يحتج في دخول النون للتثنية
بما جاء في الضرورة من قولهم ضربت الرجلا، جاز أن يحتج غيره في سقوطها
بلغة من قال: ضربت فرج، وأشد ما في هذا أن يكون: ضربت الرجلا، في
الكثرة كضربت محمدْ، فقد حصلت رواية برواية، ولغة بلغة، وصح في ما بعد
مذهب سيبويه1 في أن النون دخلت عوضًا مما منع الاسم من الحركة
والتنوين، ولم يعترض عليه ما اعترض على قول الفراء من كثرة التشعب
والإلزامات والإفسادات والمعارضات.
__________
1 الكتاب "1/ 4".
(2/145)
وأما قولهم: لا رجلين عندي، ولا امرأتين
فيها، فإن أبا علي ذهب إلى أن النون إنما ثبتت ههنا وإن كان الاسم
مبنيًّا عنده، وهو مذهب سيبويه1، من قبل أن النون زيادة لحقت حرف
الإعراب كما تلحق الألف الواحد في الشعر نحو: لا رجلا، وكما لحقت النون
في نحو: ضربت اللذين في الدار، وإن لم يكن الواحد معربا ولا منونا،
وهذا يدفع ما ذهب إليه أبو العباس2 وغيره من أن المبني مع لا إذا
ثُنِّي أخرجته التثنية من البناء، فاعرفه.
وأما ما ذهب إليه البغداديون3 من أنه يجوز حذف نون التثنية، وإنشادهم
في ذلك:
قد سالَمَ الحياتِ منه القَدَما ... الأفعوانَ والشجاعَ الشجْعَما4
قالوا: أراد: القدمانِ، فحذف النون، ونصبوا الحيات، وجعلوا الأفعوان
وما بعده بدلا منها.
فهذه رواية لا يعرفها أصحابنا، والصحيح عندنا هو ما رواه سيبويه:
قد سالم الحياتُ منه القدَما ... ..............
برفع الحيات ونصب القدم، نصب الأفعوان وما بعده بفعل مضمر دل عليه
سالَمَ؛ لأنه قد علم أنها مُسالَمة كما أنها مُسالِمة، فكأنه قال في ما
بعد: وسالمت القدمُ الأفعوانَ والشجاعَ الشجعما، كما قال أوس بن حجر،
وهو من أبيات الكتاب أيضا5:
__________
1 الكتاب "1/ 348-349" وقد علل إثبات النون قائلا: "وأثبتوا النون لأن
النون لا تحذف من الاسم الذي يجعل وما قبله أو ما بعده بمنزلة اسم
واحد، ألا تراهم قالوا: الذين في الدار، فجعلوا الذين وما بعده من
الكلام بمنزلة اسمين جعلا اسما واحدا ولم يحذفوا النون لأنها لا تجيء
على حد التنوين، ألا تراها لا تدخل في الألف واللام وما لا ينصرف".
2 يعنى المبرد: المقتضب "4/ 366".
3 هو مذهب البغداديين وفيه يجوزون حذف نون التثنية.
4 سبق تخريجه.
5 هو من أبيات قصيدة لأوس بن حجر، والبيت في ديوانه "ص73".
(2/146)
تواهِقُ رِجْلاها يداها ورأسُه ... لها
قَتَبٌ خلف الحقيبة رادفُ1
فرفع يداها بفعل مضمر، فكأنه قال: تواهق رجلاها يديها، وتواهق يداها
رجليها ثم حذف المفعولين في الموضعين، لأنه قد علم أن المواهقة لا تكون
من واحد، وهذا كثير جدا.
وأما قول امرئ القيس2:
لها متنتان خظاتا كما ... أكب على ساعديه النمر3
فإن الكسائي قال4: أراد خظتا، فلما حرك التاء رد الألف التي هي بدل من
لام الفعل، لأنها إنما كانت حذفت لسكونها وسكون التاء، فلما حرك التاء
ردها، فقال: خظاتا. ويلزمه على هذا أن يقول في قضتا وغزتا: قضاتا
وغزاتا، إلا أن له أن يقول: إن الشاعر لما اضطر أجرى الحركة العارضة
مجرى الحركة اللازمة في نحو: قولا، وبيعا، وخافا.
وذهب الفراء إلى أنه أراد خظاتان5، فحذف النون. كما قال أبو داود
الإيادي6:
__________
1 البيت ذكره المقتضب "3/ 285" ونسبه إلى أوس، وكذا جاء في الكتاب "1/
145".
تواهق: تساير.
قتب: الإكاف الصغير على قدر سنام البعير "ج" أقتاب. القاموس المحيط "1/
114".
الحقيبة: ما يجعل فيه المتاع والزاد، وكل ما يحمل وراء الرحل "ج"حقائب.
والشاهد في قوله "يداها" حيث رفعها بفعل مضمر تقديره تواهق رجلاها
يديها، وتواهق يداها رجليها.
2 البيت في ديوانه "ص164" ونسبه إليه صاحب اللسان في مادة "خظا".
3 البيت ينسب لامرئ القيس، ونسبه إليه صاحب اللسان. "13/ 398" مادة/
متن.
متنتان: جنبتا الظهر.
خظاتا: أي امتلأتا واكتنزتا.
أكب: أكب على الشيء أي أقبل عليه وشغل به. القاموس المحيط "1/ 121".
والشاهد فيه قوله "خظاتا" حيث حذف نون التثنية.
4 انظر: شرح شواهد شرح الشافية "ص157".
5 خظاتان: مكتنزتان قليلا. القاموس المحيط "4/ 324".
6 الإيادي: هو أبو داود الإيادي.
(2/147)
ومتنان خظتان ... كزحلوف من الهضب1
وأنشد الفراء أيضًا:
يا حبذا عينا سليمى والفما2
قال: أراد: والفمان، فحذف، يعني الفم والأنف، فثناهما بلفظ الفم
للتجاور الذي بينهما.
وأجاز الفراء أيضًا أن تنصبه على أنه مفعول معه، كأنه قال: مع الفم.
ومذهب الكسائي في خظاتا أقيس عندي من قول الفراء، لأن حذف نون التثنية
شيء غير معروف.
فأما "الفما" فيجوز أن تنصبه بفعل مضمر، كأنه قال: وأحب الفما. ويجوز
أن يكون "الفما" في موضع رفع إلا أنه اسم مقصور بمنزلة عصا، وعليه جاء
بيت الفرزدق3:
هما نفثا في فِيَّ من فَمَوَيْهِما ... ............4
فاعرفه.
ومما يؤكد عندك مذهب الكسائي في أنه أراد خظتا، فلما حرك التاء -وإن
كانت الحركة عارضة غير لازمة- رد الألف التي هي بدل من الواو التي هي
لام الفعل،
__________
1 البيت ذكره صاحب اللسان في مادة "خظا" ونسبه إلى أبو داود "14/ 223".
زحلوف: المكان المنحدر الأملس من الجبل "ج" زحاليف. القاموس المحيط "3/
147".
الهضب: الجبل المنبسط الممتد على وجه الأرض "ج" هَضْب، وهضاب.
والشاهد فيه عدم حذف النون التي تلحق المثنى في قوله "خظاتان".
2 البيت ذكره صاحب اللسان في مادة "فوه" "13/ 528"، ولم ينسبه، وذكره
صاحب الخصائص "1/ 170" ولم ينسبه أيضًا، وكذا صاحب الدرر اللوامع "1/
13".
ياحبذا: أسلوب مدح.
والشاهد في البيت قوله: "الفما" أراد الفمان.
3 سبق تخريجه.
4 سبق شرحه والتعليق عليه.
(2/148)
قولهم: لَحْمَر، في الأحمر، ولَبْيَضُ، في
الأبيض، ألا ترى أنهم اعتدوا بحركة الهمزة المحذوفة لما ألقوها على لام
المعرفة، فأجروا ما ليس بلازم مجرى اللازم. ونحو من ذلك قوله:
{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف: 38] 1 وأصلها: لكن أنا، فلما
حذفت الهمزة للتخفيف، وألقيت فتحتها على نون لكن، صار التقدير:
لكنَنَا، فلما اجتمع حرفان مثلان متحركان كره ذلك كما كره شَدَدَ
وحَلَلَ، فأسكنوا النون الأولى، وأدغموها في الثانية، فصارت لكنَّا،
كما أسكنوا الحرف الأول من شَدَدَ وحَلَلَ، وأدغموه في الثاني، فقالوا
شَدَّ وحَلَّ، أفلا ترى أنهم أجروا المنفصل، وهو "لكن أنا" مجرى المتصل
في نحو شَدَّ وحَلَّ، ولم يقرأ أحد "لكنَنَا" مظهرا، فهل ذلك إلا
لاعتدادهم بالحركة وإن كانت غير لازمة.
وعلى هذا أيضًا قوله تعالى {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيل} [البقرة: 214] 2 و
{سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40] 3 ونحو ذلك، وأصله
اسأل، فلما خففت الهمزة، فحذفت، وألقيت فتحتها على السين قبلها، اعتد
بها، فحذفت همزة الوصل قبلها لتحرك الحرف بعدها. ونظائر هذا كثيرة.
ومنها قولهم في تخفيف رُؤْيا: رُيّا4، وأصلها رُويا، إلا أنهم أجروا
الواو في رُويا وإن كانت بدلا من الهمزة مجرى الواو اللازمة، فأبدلوها
ياء، وأدغموها في الياء بعدها، فقالوا رُيّا، كما قالوا: طويت طَيًّا،
وشويت شَيًّا، وأصلها طُويًا، وشُويًا، ثم أبدلوا الواو ياء، وأدغموها
في الياء، فصارت طيًّا وشيًّا. فعلى هذا قالوا رُيّا. ومن اعتد بالهمزة
المنوية، وراعى حكمها -وهو الأكثر والأقيس- لم يدغم، فقال: رُويا. ومنه
نُوي في تخفيف نُؤي. وغرضنا في هذا إنما هو رُيّا.
فهذا كله وغيره مما يطول ذكره يشهد بإجرائهم غير اللازم مجرى اللازم.
__________
1 الشاهد فيها قوله تعالى {لَكِنَّا} والتقدير "لكن أنا".
2 الشاهد فيها قوله تعالى {سَلْ} والتقدير: اسأل، وحذفت الهمزة عند
تخفيفها وألقيت فتحتها على السين قبلها.
3 الشاهد في قوله تعالى {سَلْهُمْ} والتقدير: اسأل.
4 رُيّا: أصلها رُؤْيَا، وخففت الهمزة فحذفت، وأبدلوا الواو ياءً
وأدغموها فأصبحت من رؤيا إلى رُيّا.
(2/149)
ويقوي مذهب الكسائي فى أن خظاتا معناه
خظتا، وأنه أجرى الحركة العارضة مجرى الحركة اللازمة على ما قدمنا
ذكره.
إلا أن للفراء أن يحتج لقوله ببيت أبي داود:
ومَتْنانِ خَظاتَانِ ... كزُحْلُوفٍ من الهَضْبِ1
فهذا يقوي أن خظاتا تقديره خظاتان. وأنشدوا بيتًا آخر، وهو قوله2:
لنا أَعْنزٌ لُبْنٌ ثلاثٌ فبعضُها ... لأولادها ثِنْتا، وما بيننا
عَنْزُ3
يريد: ثنتانِ، فحذف النون.
فأما من ذهب إلى أن النون في التثنية عوض من التنوين وحده، وأنها إنما
تثبت مع لام المعرفة لأنها بحركتها أقوى من التنوين، فيفسد قوله عندي
لأنه لم يعوض من الحركة شيئًا.
وقد دلت الدلالة الصحيحة عندنا على أن ألف التثنية ليس فيها تقدير حركة
في معناها، كما أنها ليست موجودة في لفظها، وإذا كان ذلك كذلك، وكان
الاسم المثنى معربًا كما كان الواحد معربًا، فقد يجب أن يعوض من حركة
إعرابه، فلهذا قلنا: إن النون في التثنية عوض مما منع الاسم من الحركة
والتنوين جميعًا، وهذه النون مخففة أبدًا نحو رجلان وامرأتان،
فأما قولهم هذان و {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ} [القصص: 32] 4 واللذان،
فإنما ثقلت في هذه المواضع لأنهم عوضوا بثقليها من حرف محذوف، أما في
هذان فهي عوض من ألف ذا، وكذلك هي في اللذان عوض من ياء الذي، وهي في
ذانك عوض من لام ذلك، وقد يحتمل أيضًا أن تكون عوضًا من ألف ذلك.
__________
1 سبق تخريجه.
2 لم نعثر على قائله.
3 البيت ذكره صاحب الممتع "ص527" ولم ينسبه، وكذا ذكره صاحب الخصائص
"2/ 430"، ولم ينسبه.
والشاهد في قوله "ثنتا" حيث حذف نون التثنية، والتقدير ثنتان.
4 تشديد النون قراءة ابن كثير وأبي عمرو. السبعة "ص493".
(2/150)
وحركة نون التثنية كسرة، وحركة نون الجمع
الذي على حد التثنية فتحة، نحو الزيدانِ والزيدونَ، وكلتاهما محركة
لالتقاء الساكنين، وخالفوا الحركة للفرق بين التثنية والجمع، وكانت نون
التثنية أولى بالكسر من نون الجمع لأن قبلها ألفا، وهى خفيفة، والكسرة
ثقيلة، فاعتدلا، وقبل نون الجمع واو أو ياء، وهي ثقيلة، ففتحوا النون
ليعتدل الأمر.
فإن قلت: فقد تقول: مررت بالزيدينِ، وضربت الزيدينِ، فتكسر النون
وقبلها ياء، فهلا هربت إلى الفتحة لمكان الياء كما هربت إلى الفتحة
لمكان الياء في نحو أين وكيف؟ فالجواب: أن الياء في نحو الزيدينِ
والعمرينِ ليست بلازمة كلزومها في أينَ وكيفَ، ألا تراك تقول في الرفع
الذي هو الأصل -وإنما الجر والنصب فرعان عليه:- رجلانِ وامرأتانِ، فلا
تلزم الياء النون كما تلزم الياء النون والفاء في أين وكيف، فلما كانت
الياء غير لازمة في التثنية، وكان الرفع الذي هو الأصل لا تجد فيه ياء،
أجروا الباب على حكم الألف التي هي أصل، وإنما الياء بدل منها، ولو
أنهم فتحوا النون في الجر والنصب، وكسروها في الرفع لاختلفت حال نون
التثنية، على أن من العرب من يفتحها في حال الجر والنصب تشبيها بأين
وكيف، ويجرى الياء وإن كانت غير لازمة مجرى الياء اللازمة، فيقول: مررت
بالزيدينَ، وضربت العمرينَ.
وأنشدوا في ذلك1:
عَلى أَحْوذِيَّيْنَ استَقَلَّتْ عليهما ... فَما هيَ إِلا لمحةٌ
فَتَغِيبُ2
وفتحها بعضهم في موضع الرفع، قرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد3:
__________
1 يقال هو محمد بن ثور الهلالي.
2 أَحْوذِيَّيْنَ: مثنى أحوذي: هو السريع في كل ما أخذ فيه. القاموس
المحيط "1/ 353".
لمحة: اللمحة: اختلاس النظرة. القاموس المحيط "1/ 247".
والشاهد فيها في قوله "أَحْوذِيَّيْنَ" حيث عوملت الياء معاملة الياء
اللازمة للاسم وليست علامة إعراب للمثنى.
3 يقال أن البيت لشاعر من بني ضبة.
(2/151)
أعرف منها الأنف والعَيْنانا ...
ومَنْخَرَيْنِ أشبها ظبيانا1
وروينا عن قطرب لامرأة من فَقْعَس2:
يارُبَّ خالٍ لك من عُرَيْنَهْ ... حجَّ على قُلَيِّصٍ جُوَيْنَهْ
فَسْوَتُهُ لا تنقضي شَهْرَيْنَهْ ... شَهْرَيْ رَبِيعِ
وَجُمادَيَيْنَهْ3
وقد حكي أن منهم من ضم النون في نحو الزيدان والعمران، وهذان من الشذوذ
بحيث لا يقاس غيرهما عليهما. فهذه حال نون التثنية والجمع الذي على حد
التثنية، ولم يتقصَّ أحد من أصحابنا القول عليها هذا التقصي، ولا علمته
أشبعه هذا الإشباع.
واعلم أن النون قد زيدت علامة للصرف، وهي المسماة تنوينًا، وذلك نحو
قولك هذا رجلٌ وغلامٌ، ورأت رجلا وغلامًا، ومررت برجلٍ وغلامٍ. وهذا
التنوين هو نون في الحقيقة، يكون ساكنًا ومتحركًا، فالساكن نحو
زَيْدُنْ، زَيْدَنْ، زَيْدِنْ، فهذه حاله أبدًا يكون ساكنًا فيها لأنه
حرف جاء لمعنى في آخر الكلمة نحو نون التثنية، والجمع الذي على حد
التثنية، وألف الندبة، وهاء تبيين الحركة، ولم تقع أولا فيلزم أن تحرك
نحو واو العطف وفائه وهمزة الاستفهام ولام الابتداء وغير ذلك. ولا يحرك
التنوين إلا في موضعين:
أحدهما: أن يحرك لالتقاء الساكنين، نحو: هذا زيدُنِ العاقل، ورأيتُ
محمدَنِ الكريم، ونظرتُ إلى جعفرنِ الظريف. وكذلك قولهم في الإنكار:
أَزَيْدَنِيهْ، كسروا التنوين لسكونه وسكون حرف المد بعده.
__________
1 البيت لرجل من بني ضبة كما في النوادر "168"، وكذا في الخزانة "3/
338" ولم ينسبه.
والشاهد فيه قوله "العينانا" ويقصد بها العينين.
إعراب الشاهد: العينانا: مفعول به منصوب بالمفعولية وعلامة نصبه الفتح
المقدر.
2 فقعس: حي من بني أسد.
3 البيتان قالتهما امرأة من فقعس ذكر ذلك صاحب الخزانة "3/ 338"، وكذا
شرح المفصل "4/ 142".
والشاهد في قولها: "شَهْرَيْنَهْ-وَجُمادَيَيْنَهْ" وهو شاذ لا يقاس
عليه حيث استخدم المثنى استخدامًا شاذًا.
(2/152)
قال سيبويه: "وسمعنا من يوثق به يقول: هذا
سَيْفُنِي، يريد هذا سيفٌ، ولكنه تذكر بعده كلاما، فكسر التنوين كما
تكسر دال قد"1 في قوله2:
............ ... وكأن قَدِ
فجرى مجرى التقاء الساكنين.
والآخر: أن تلقى عليه حركة الهمزة المحذوفة للتخفيف، وذلك نحو قولك:
هذا زَيْدُنَ بُوكَ، ورأيت زَيْدَنَ بَاكَ، ومررت بزَيْدِنَ بِيكَ.
وعلى هذا قراءة نافع3 "بِقَبَسِنَ وَجِدَ" [طه: 10] 4 و"إِنَّ
السَّاعَةَ آتِيَتُنَ كَادُ أُخْفِيهَا" [طه: 15] و"مِنْ غَيْرِ سُوءٍ
ايَتَنُ خْرَى" [طه: 22] وما أشبه ذلك، فالتنوين حرف -كما ترى- يتحمل
الحركة كما تتحملها الجيم والقاف والصاد وغيرهن من الحروف، ويكون
ساكنًا ومتحركًا كسائر الحروف غير المدة المنفتحة في نحو قام وحمار
وكتاب، وإنما لم يثبت في الخط لأنه ليس مبنيًّا في الكلمة، وإنما جاء
لمعنى في بعض الأسماء، وهي المفردة المنصرفة، وتبع أيضًا الحركات
اللاحقة بعد تمام الحرف نحو رجلٍ وامراةٍ وإيهٍ وصهٍ وغاقٍ5، فلما تبع
الحركة اللاحقة للكلمة، ولم يكن مبنيًّا معها، ولم يلحق سائر الكلم ضعف
في المرتبة، فحذف في الخط لئلا يشبه النون الأصلية، نحو قَطَنٍ6،
ورَسَنٍ7، أو الملحقة الجارية مجرى الأصلية،
__________
1 الكتاب "2/ 304".
2 سبق تخريجه.
3 قال ابن مجاهد "وروى ورش عن نافع أنه كان يلقي حركة الهمزة على اللام
التي قبلها.. وكذلك إذا كان الساكن آخر كلمة والهمزة أول أخرى ألقي
حركتها على الساكن وأسقطها، مثل "قَدَ افلح المؤمنون" و: "من اله" وما
أشبه ذلك. إلا أن يكون الساكن الذي قبلها واوًا قبلها ضمة مثل: "قالوا
أنصتوا" أو ياء قبلها كسرة مثل "وفي أنفسكم" فإنه لا يدع الهمزة ههنا،
ولم يكن يلقي عليها حركة الهمزة". انظر/ السبعة "ص147".
4 قرأها حفص {بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ} [طه: 10] .
5 وغاق: حكاية صوت الغراب. لسان العرب "10/ 295" مادة/ غوق.
6 قطن: أصل ذنب الطائر، وأسفل الظهر من الإنسان. القاموس المحيط "4/
260".
7 رسن: أي وضع رسنا على أنف الدابة فأرسنها. القاموس المحيط "4/ 227".
(2/153)
نحو رَعْشَنٍ1، وضَيْفَنٍ2، وخَلْبَنٍ3،
وعَلْجَنٍ4، وفَرْسَنٍ5، وكذلك أيضًا حذف من اللفظ في الوقف، فقالوا:
هذا صالحْ، ومررت بجعفرْ، ولم يقفوا عليه لما ذكرناه من كراهيتهم شبهه
بحرف الإعراب.
فإن قلت: إن الهاء التي تبين بها الحركة زائدة أيضًا ولاحقة في الوقف،
ومع ذلك فقد أثبتوها في اللفظ والخط، فقالوا: ارْمِهْ، واغزُهُ،
وهُنَّهْ، وضربتُكَنَّهْ، وقال6:
ويقلن شيْبٌ قد علاكَ ... وقد كبِرتَ، فقلتُ: إنَّهْ7
في أحد القولين8، فلم أثبتت الهاء وحذف التنوين؟
فالجواب: أن بين الحرفين فرقًا، وذلك أن هذه الهاء إنما هي أحد لواحق
الوقف، والخط إنما وضع على الوقف دون الوصل، ولذلك أثبتت فيه همزات
الوصل، فقالوا: ألا اضربْ زيدًا، ويا محمد اقتضِ بكرًا، فكأنهم قالوا:
"ألا" ثم قالوا مبتدئين: اضرب زيدًا، وكأنهم قالوا: يا محمد، ثم
استأنفوا، فقالوا: اقتضِ بكرًا، فلما كان موضوع الخط إنما هو على
الوقف، وكانت هذه الهاء إنما هي من أغراض الوقف ثبتت في الخط، وليس
التنوين كذلك، إنما هو لاحق في الوصل علامة للخفة والتمكن وفصلا بين
المتحركات في الإدراج، فلما صرت إلى الوقف، وزال الإدراج استغني عنه،
فحذف لذلك، ولما كنا قدمناه أيضًا من ضعفه ومخافة شبهه بحرف الإعراب.
__________
1 رَعْشَنٍ: المرتعش، والجبان. القاموس المحيط "2/ 275".
2 وضَيْفَنٍ: الذي يتبع الضيف. القاموس المحيط "3/ 166".
3 وخَلْبَنٍ: الحمقاء. القاموس المحيط "1/ 63".
4 وعَلْجَنٍ: الناقة الكناز اللحم. القاموس المحيط "1/ 200".
5 وفَرْسَنٍ: مقدم خف البعير. القاموس المحيط "2/ 236".
6 قيل هو: عبيد الله بن قيس الرقيات، والبيت في ديوانه "ص66".
7 الشاهد فيه "إنَّه" حيث أثبت الهاء وحذف التنوين.
8 القول الأول: هو أن "إن" بمعنى أجل والهاء للسكت.
والقول الآخر: أن "إن" ناسخة، والهاء اسمها والخبر محذوف يقدر.
(2/154)
فأما إنشاد بعض العرب1:
............ ... سُقِيتِ الغيثَ أيتها الخيامُنْ2
و:
أقلِّي اللَّومَ عاذلَ والعتابَنْ ... ............3
و:
يا أبَتا عَلَّكَ أو عَساكَنْ4
و5:
دايَنتُ أرْوَى والديونُ تُقضَنْ6
و7:
وقاتِمِ الأعماقِ خاوي المُخْتَرَقِنْ8
فإن لهذا التنوين حكمًا غير حكمِ ما لحق علامة للخفة والتمكن، ألا تراه
قد لحق الفعل في نحو تقضن، والضمير في نحو عساكن، ومع لام المعرفة في:
الخيامن، والعتابن، والمخترقن.
وسنذكر حال التنوين في انقسامه، ووجوه مواقعه في كلام العرب مستقصًى
بإذن الله.
__________
1 يقال هم بنو تميم، وذكر ذلك صاحب الكتاب "4/ 206-207".
2 سبق الحديث عنه.
3 سبق شرحه.
4 سبق شرحه.
5 البيت ينسب لرؤبة وهو في ديوانه "ص79".
6 والشاهد فيه قوله "تقضن" حيث أبدل الألف نونًا والتقدير "تقضى".
7 البيت ينسب لرؤبة أيضًا وهو في ديوانه "ص104".
8 والشاهد فيه قوله "المخترقن" حيث أدخل عليها التنوين رغم اقترانها
باللام.
إعراب الشاهد:
المخترقن: مضاف إليه مجرور بكسرة ظاهرة وسكنه لأجل الوقف فالسكون هنا
عارض.
(2/155)
اعلم أن التنوين يقع في كلام العرب على
خمسة أضرب:
أحدها:
أن يكون فرقا بين ما ينصرف وما لا ينصرف، وذلك نحو عثمانَ معرفة
وعثمانٍ نكرة، وأحمدَ معرفة وأحمدٍ نكرة؛ ألا ترى أنك إذا قلت لقيت
أحمدًا فإنما كلفت المخاطب أن يرمي بفكره إلى واحدٍ ممن اسمُهُ أحمد،
ولم تكلفه علم شخص معين، وإذا قلت: لقيت أحمدَ فإنما تريد أن تعرفه أنك
لقيت الرجل الذي اسمه أحمد، وبينك وبينه عهد متقدم فيه، فالتنوين هو
الذي فرق بين هذين المعنيين.
والثاني:
أن يكون التنوين دليلا على التنكير، ولا يوجد هذا القسم في معرفة
البتة، ولا يكون إلا تابعًا لحركات الإعراب، وذلك نحو قولك: إيهٍ،
وغاقٍ، وصهٍ، ومهٍ، وإيهًا1، وواهًا2، وحيهلا3، فإذا نونت فكأنك قلت في
إيهٍ: استزادة، وإذا قلت إيهِ فكأنك قلت: الاستزادة، فصار التنوين علم
التنكير وتركه علم التعريف، قال ذو الرمة4:
وقفنا فقلنا إيهِ أمّ سالمٍ ... وما بال تكليم الديار البلاقع5
فكأنه قال الاستزادة.
وأما من أنكر6 هذا البيت على ذي الرمة فإنما خفي عليه هذا الموضع.
وكذلك إذا قلت في حكاية صوت الغراب: غاقٍ غاقٍ، فكأنك قلت: بعدًا بعدًا
فراقًا فراقًا، فإذا قلت: غاقِ، فكأنك قلت: البعدَ. وكذلك صَهٍ تقديره
سكوتًا، وصَهْ تقديره السكوت. ومَهٍ معناه كفًّا، ومَهْ معناه الكف،
إلا أن صَهْ ومَهْ فى المعرفة ساكنا
__________
1 إيها: اسم فعل أمر ومعناه طلب الزيادة.
2 وواها: واها: اسم فعل مضارع بمعنى أتعجب.
3 وحيهلا: اسم فعل أمر بمعنى ائت.
4 ذو الرمة: البيت في ديوانه "ص778".
5 البيت نسبه صاحب الخزانة "3/ 19" إلى ذي الرمة.
البلاقع: "م" بلقع. وهو الخالي من كل شيء.
والشاهد فيه قوله "أم سالم" حيث نونها دلالة على التنكير.
6 هو الأصمعي كما في ديوان ذي الرمة "ص779"، قال: "أساء في قوله إيهِ
بلا تنوين، كان ينبغي أن يقول: إيهٍ عن أم سالم".
(2/156)
الأواخر، لأن الصاد والميم قبلها متحركتان،
فلم يلتق ساكنان كما التقيا في إيه وغاق، الياء والهاء، والألف والقاف،
فتحركت الهاء في إيه، والقاف في غاق لسكونها وسكون ما قبلها، فلما صرت
إلى التنكير أتيت بالتنوين دلالة عليه. فأما صَهٍ ومَهٍ فإنما كسرت
أواخرهما مع التنوين في النكرة وقد كان آخرهما ساكنًا في المعرفة من
قبل أن التنوين لما جاء دليلا على التنكير وهو ساكن، والهاء قبله
ساكنه، كسرت الهاء لسكونها وسكون التنوين بعدها، فقالوا صَهٍ ومَهٍ.
وكذلك جميع ما هذه حاله من المبنيات، إذا اعتقد في ما دلت عليه التنكير
نونت، وإذا اعتقد فيه التعريف حذف منها التنوين.
ومن ذلك قولهم أيضًا في المعرفة: سيبويهِ، وعمرويهِ، وحمدويهِ، هو
مكسور الآخر في كل حال، قال1:
ياعمرويهِ انطلقَ الرفاقُ ... وأنت لا تبكي ولا تشتاقُ2
فإذا نكرت قلت: سيبويهٍ، وعمرويهٍ، وحمدويهٍ، وزيدويهٍ، إلا أن هذا
التنوين لا يكون إلا بعد حركة البناء في النكرات خاصة، وليس كتنوين زيد
وبكر الذي يكون بعد حركات الإعراب في المعرفة والنكرة جميعًا.
والثالث:
أن يكون التنوين في جماعة المؤنث معادلا للنون في جماعة المذكر، وذلك
إذا سميت رجلا بمسلمات، أو قائمات قلت في المعرفة: هذا مسلماتٌ، ومررت
بمسلماتٍ، وإنَّ مسلماتٍ عاقلٌ، فتثبت التنوين ههنا، كما أنك إذا سميت
رجلا بمسلمون قلت: هذا مسلمون، ورأيت مسلمين، ومررت بمسلمين، والتنوين
إنما يثبت في مسلمات اسمَ رجل معرفة كما تثبت النون في مسلمين اسم رجل،
والتاء والضمة بمنزلة الواو في مسلمون، كما أن التاء والكسرة بمنزلة
الياء في مسلمين، إلا أن التنوين في مسلمات اسمَ رجل معرفة ليس علامة
للصرف بمنزلة تنوين زيدٍ وعمرٍو، ويدلك على صحة ذلك أنه قد اجتمع في
مسلمات معرفة التأنيث والتعريف كما اجتمع في طلحة وحمزة التعريف
والتأنيث، فإذا كان ذلك كذلك فالتنوين في مسلمات معرفة
__________
1 البيت ذكره صاحب النوادر "ص362"، والمقتضب "3/ 181"، ولم ينسبه
أحدهما إلى قائل بعينه.
2 الشاهد فيه قوله: "عمرويه".
(2/157)
ليس علامة للصرف بمنزلة تنوين رجُلٍ
وفَرَسٍ، وإنما هو بمنزلة نون مسلمين، فكما أن تلك النون ليست علمًا
للصرف، فكذلك تنوين مسلمات ليس علمًا للصرف.
فإن قيل: فإن سيبويه قد قال: "إن عرفات منصرفة"1 وقد اجتمع فيها -كما
علمت- التعريف والتأنيث، فما أنكرت أن يكون تنوين مسلمات علمًا للصرف
على ما حكيناه من قول سيبويه؟
فالجواب: أن سيبويه إنما أراد بقوله: "إن عرفات مصروفة" أن فيها
تنوينًا كما أن في رجل وفرس تنوينًا، ألا ترى أن في عرفات من التعريف
والتأنيث ما يمنع الصرف. إلى هذا رأيت أبا علي يذهب، وبهذا الاستدلال
استدل.
واعلم أن من العرب من يشبه التاء في مسلمات معرفة بتاء التأنيث في طلحة
وحمزة، ويشبه الألف التي قبلها بالفتحة التي قبل تاء التأنيث، فيمنعها
حينئذ من الصرف، فيقول: هذه مسلماتُ مقبلةٌ، كما تقول: هذه سعدةُ
مقبلة، وعلى هذا بيت امرئ القيس:
تَنَوَّرْتُها من أذْرِعاتَ2 وأهلُها ... بيثربَ أدنى دارها نظرٌ عالي3
وقد أنشدوه: من أذْرِعاتٍ4. قال الأعشى5:
تَخيَّرَها أخو عاناتَ شهرًا ... ورَجَّى بِرَّها عامًا فَعاما6
وعلى هذا ما حكاه سيبويه من قولهم: "هذهِ قُرَيْشِياتُ"7 غير مصروفة.
__________
1 الكتاب "2/ 18".
2 أذرعات: الوجه الذي يريده ابن الجني هنا فتح التاء فقد جوزه هو
وسيبويه، والكسر وجه جوزه جماعة من النحويين منهم المبرد والزجاج.
3 البيت ذكره صاحب الكتاب "2/ 18" ونسبه إلى امرئ القيس وهو في ديوانه
"ص31".
4 التنوين إنشاد سيبويه وأكثر النحاة وقد ذكر أيضًا بعد إنشاد البيت أن
من العرب من لا ينون أذرعات.
5 البيت في ديوانه "ص247".
6 الشاهد في قوله "عانات". عانات: بلد بالشام.
7 في الكتاب "2/ 18" "قريشيات" بالشين المعجمة والياء المشددة.
(2/158)
فإن سأل سائل، فقال: ما تقول في من قال:
هذه أذرعاتُ ومسلماتُ، فشبه تاء الجماعة بتاء الواحد، فلم ينون للتعريف
والتأنيث؟ وكيف يقول إذا نكَّر أينون أم لا؟
فالجواب: أن التنوين مع التنكير واجبٌ هنا لا محالة لزوال التضعيف،
فأقصى أحوال أذرعات إذا نكرتها في من لم يصرف أن تكون كحمزة إذا
نكرتها، فكما تقول: هذا حمزةُ ومعه حمزةٌ آخر، فتصرف النكرة لا غير،
فكذلك تقول عندي مسلماتُ ونظرت إلى مسلماتٍ أخر، فتنون مسلماتٍ نكرة لا
محالة.
فإن قال قائل: أتقول في تنوين مسلماتٍ هذه النكرة إنه علامة للصرف
كتنوين غلامٍ وجاريةٍ، أم تقول إنه نظير نون مسلمون، وليس علامة للصرف،
كما أن نون مسلمون ليست علامة للصرف؟
فالجواب: أن تنوين مسلماتٍ إذا نكرتها في قول من يقول في تعريفها هذه
مسلماتُ، فلا يصرف لشبه تاء الجماعة بهاء الواحد، تنوين علامة للصرف
بمنزلة تنوين زيد وبكر، وليس كنون مسلمون، لأن مسلمات على هذا الوجه
يجري مجرى حمزة، فكما أن تنوين حمزة في النكرة علم للصرف، فكذلك تنوين
مسلماتٍ اسمًا لرجلٍ أو امرأةٍ علم للصرف.
فإن قال قائل: ما تقول في قول من قال في اسم رجل: هذا مسلمينٌ، فلزم
الياء قبل النون البتة، وجعل النون حرف الإعراب، فأجرى عليها الضمة
والفتحة والكسرة، فقال: هذا مسلمينٌ، ورأيت ملسمينًا، ومررت بمسلمينٍ،
كيف تقول على هذه اللغة في مسلمات إذا سمَّى به رجلا أو امرأة؟
فالجواب: أن قياس من قال هذا مسلمينٌ، فأعرب النون أن يقول في مسلماتٍ
علمًا هذه مسلماتِنٌ، فيكسر التاء في كل حال كما لزم الياء في مسلمين
في كل حال، ويجري على النون بعد التاء في مسلماتِنٍ حركات الإعراب كما
أجراها على نون مسلمين، إلا أن هذا قياس مرفوض لما يؤدي إليه من الذهاب
عن الأصول، وذلك أنك لو تكلفت ذلك، فقلت: هذا مسلماتِنٌ. فجعلت النون
حرف الإعراب لصارت التاء التي هي علم التأنيث حشوًا في الكلمة.
(2/159)
ومحال أن يقع على التأنيث إلا آخرًا طرفًا،
ولهذا قال أصحابنا1: إن من قال في الإضافة إلى دنيا: دنياوي، فإن الألف
في دنياوي ليست الألف التي في دنيا، وذلك أنه لما آثر في الإضافة مد
الكلمة زاد قبل الألف التي في دنيا ألفا أخرى، فالتقت ألفان، فوجب
تحريك الآخرة، فانقلبت في التقدير همزة وإن لم يخرج ذلك إلى اللفظ،
فصار التقدير دنياء، ثم نسب إليها، فقال دنياوي كما تقول في حمراء:
حمراوي، وإنما زاد الألف قبل ألف دنيا، وجعل ألف دنيا آخرًا طرفًا
منقلبة همزة لئلا يقع علم التأنيث حشوًا، فاعرف ذلك، فان له نظائر في
كلام العرب.
وإذا كان الأمر كذلك فقد وجب بما ذكرناه على من قال هذا مسلمينٌ، فجعل
النون حرف الإعراب، ولزم الياء قبلها البتة أن يقول في المؤنث هذه
مسلماتٌ، فيوافق الذين يقولون هذا مسلمون، لما ذكرناه من كراهيتهم مصير
علم التأنيث حشوا في مُسلماتِنٌ لو تكلفه متكلف.
فأما من قال: هيهاتَ هيهاتَ، ففتح، فحكمه أن يقف بالهاء لأنها بمنزلة
علقاة وأرطاة2، وهيهاتَ -على هذا- اسم واحد كما أن علقاة وأرطأة اسم
واحد، فمن نون، فقال هيهاةٌ فإنه نوى النكرة على ما قدمناه في صَهٍ
وإِيهٍ، فكأنه قال: بُعدًا بُعدًا، ومن لم ينون فإنه نوى المعرفة،
فكأنه قال: البعدَ البعدَ.
فأما إذا صرت إلى الجماعة فإن نظير قول من فتح الهاء في الواحد، فقال
هيهاتَ، أن يقول في الجماعة هيهاتِ، فيكسر التاء في الجماعة بغير
تنوين، كما فتح الهاء في الواحد بغير تنوين، ومن كان يقول في الواحد
هيهاةٌ فينون، ويعتقد التنكير، فنظيره في الجماعة أن يقول هيهاتٍ،
فيكسر التاء وينون إرادة للتنكير، كما أنه لما أراد التعريف لم ينون،
فقال هيهاتِ، وذلك أن بإزاء فتح تاء الواحد كسر تاء الجماعة، والتنوين
على هذا في هيهات هو علم التنكير بمنزلة تنوين صهٍ ومهٍ وإيهٍ، وتكون
هيهاةٌ وهيهاتٍ عنده معربة منصوبة على الظرف فإن التنوين في هيهاتٍ
عنده بمنزلة تنوين مسلماتٍ لا فرق بينهما، فيجوز في هيهاتٍ على هذا أن
تكون نكرة.
__________
1 الكتاب "2/ 77".
2 أرطاة: واحدة الأرطى، وهو شجر يدبغ به.
(2/160)
وقد أجاز أبو العباس1 فيها أيضًا أن تكون
مع التنوين معرفة بمنزلة مسلمات معرفة، أخبرنا بذلك أبو علي في مسائله2
المصلحة من كتاب أبي إسحاق رحمه الله.
والرابع من وجوه التنوين، وهو أن يلحق أواخر القوافي معاقبا بما فيه من
الغنة لحروف اللين، وهو في ذلك على ضربين:
أحدهما: أن يلحق متممًا للبناء ومكملا له.
والآخر: أن يلحق زيادة بعد استيفاء البيت جميع أجزائه نيفًا من آخره
بمنزلة الزيادة المسماة خزمًا من أوله.
الأول من هذين نحو قول امرئ القيس في إنشاد كثير من بني تميم3 وقيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلِنٍ ... ..............4
ونحو قول الآخر5:
............... ... لم يعلم لنا الناسُ مَصْرَعَنْ6
وقد ألحقوه أيضًا مع لام المعرفة، قال جرير:
.............. ... سُقِيتِ الغيثَ أيتُها الخيامُنْ7
__________
1 أبو العباس: هو المبرد انظر/ المقتضب "3/ 183".
2 هو كتابه "الأغفال في ما أغفله الزجاج في المعاني".
3 الكتاب "4/ 206-207".
4 البيت من معلقة امرئ القيس وهو صدر أول بيت فيها.
الشاهد في قوله "منزلن".
5 هو يزيد بن الطئرية.
6 البيت ذكره صاحب الكتاب "2/ 298" ونسبه إلى يزيد بن الطئرية، والبيت
جاء في الكتاب كاملا:
فبتنا تحيد الوحش عنا كأننا ... قتيلان لم يعلم لنا الناس مصرعا
والشاهد في قوله "مصرعن".
7 سبق تخريجه.
(2/161)
وقد أدخلوه أيضًا على الفعل، فقالوا:
دايَنْتُ أروى والدِّيُونُ تُقضَنْ1
وجاءوا به أيضًا مع المضمرة نحو قوله:
يا أَبَتا علَّكَ أو عَساكَنْ2
فهذه النون في جميع هذه المواضع وما أشبهها غير زائدة على بناء البيت
ونظمه، بل بها تم الجزء الأخير، ألا ترى أن النون في منزلن، ومصرعن،
إنما هي نون مفاعلن، وهي أيضًا في العتابن، والخيامن نون فعولن، وكذلك
هي في تقضن، وعساكن نون فعولن.
وأما إلحاقها نيفًا من آخر البيت بمنزلة الخزم من أوله نحو ما أنشده
أبو الحسن من قول رؤبة، وذكر أن بعض العرب ينشده:
وقائم الأعماق خاوي المُخْتَرَقِنْ
فهذه النون في المُخْتَرَقِنْ زيادة، لأن القاف قد كمَّلت وزن البيت.
وسمى أبو الحسن3 هذه النون الغالي، وسمى الحركة التي قبلها الغلوّ.
وكذلك قول الآخر:
ومَنْهَلٍ وَرَدْتُهُ طامٍ خالِنْ4
وذكر أبو الحسن عن يونس أنه سمع رؤبة ينشده هكذا. وإنما زادوا هذه
النون في هذا الموضع ونحوه بعد تمام الوزن؛ لأن من عادتهم أن يلحقوه في
ما يحتاج إليه الوزن، نحو:
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِنْ ... ..... ..... .....
__________
1 سبق تخريجه.
2 سبق تخريجه.
3 القوافي "ص36".
4 البيت في قوافي الأخفش "ص35" وشرح المفصل "9/ 34" ولم ينسبه أحدهما.
(2/162)
و:
الحمد لله الوَهُوبِ المُجْزِلِنْ1
و:
............ ... سُقيتِ الغيثَ أيتُها الخيامُنْ
و:
أقلِّي اللومَ عاذلَ والعتابَنْ ... ............
فلما اعتادوه في ما يكمّل وزنه ألحقوه أيضًا في ما هو مستغنٍ عنه.
الخامس من وجوه التنوين: أن يلحق عوضًا من الإضافة، وذلك نحو قولهم:
يومئذ وليلتئذ، وساعتئذ، وحينئذ، وكذلك قول الشاعر2:
نهيتُكَ عن طِلابِكَ أُمَّ عمرٍو ... بعاقبة وأنت إذٍ صحيحٌ3
وإنما أصل هذا أن تكون إذْ مضافة فيه إلى جملة، إما من مبتدأ وخبر،
ونحو: جئتك إذْ زيدٌ أميرٌ، وقصدتك إذْ الخليفة عبد الملك، قال الله
تعالى: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: 71] 4.
وقال القطامي5:
إذ الفوارسُ من قيس بشكَّتها ... حولي شُهودٌ، وما قومي بشُهّادِ6
__________
1 ذكر صاحب الكتاب أن البيت لأبي النجم العجلي "4/ 214"، وكذا ذكره
صاحب الخزانة "2/ 390". الشاهد فيه قوله "المُجْزِلِنْ".
2 البيت ينسب في شرح أشعار الهذليين "ص171" إلى أبي ذؤيب الهذلي.
3 الشاهد في قوله "إذ صحيح" حيث جاءت إذ مضافة.
4 الشاهد في قوله تعالى: {إذ الأغلال} .
5 البيت ينسب إلى القطامي عمير بن شييم وهو في ديوانه "ص86".
6 قيس: يقال هم قيس كبة: قبيلة من بني بجيلة.
شكتها: ما يشك به ويوخز مثل الرمح وغيره. القاموس المحيط "3/ 309".
وشكتها: ما يشك به ويوخز مثل الرمح وغيره. القاموس المحيط "3/ 309".
وشكتها كناية عن الأسلحة.
الشاهد فيه أن "إذ" جاءت مضافة إلى جملة.
(2/163)
وأما من فعل وفاعل، نحو قمت إذ قام زيد،
وجلست إذ سار محمد، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ} [البقرة: 80] 1، {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} [البقرة:
72] 2
وقال الأعشى3:
إذْ سامَهُ خطتَيْ ... خَسْف فقال له
مهما تَقُلْهُ فإني سامعٌ حارِ4
فلما اقتطع المضاف في نحو قوله تعالى {مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ}
[المعارج: 11] 5 و {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] 6 أي: يوم
إذ ذاك كذلك يصَّدَّعون7: فلما حُذف المضاف إليه إذْ عوض منه التنوين،
فدخل وهو ساكن على الذال وهي ساكنة، فكُسرت الذال لالتقاء الساكنين،
فقيل: يومئذٍ، وليست هذه الكسرة في الذال كسرة إعراب وإن كانت إذْ في
موضع جرٍّ بإضافة ما قبلها إليها، وإنما الكسرة فيها لسكونها وسكون
التنوين بعدها، كما كُسرت الهاء في "صَهٍ ومَهٍ" لسكونها وسكون التنوين
بعدها وإن اختلفت جهتا التنوين فيهما، فكان في إذ عوضًا من المضاف
إليه، وفي صَهٍ علمًا للتنكير، ويدل على أن الكسرة في ذال إذْ إنما هي
حركة التقاء الساكنين، وهما هي والتنوين قولُ الآخر:
............... ... وأنت إذٍ صحيحُ
__________
1 الشاهد في قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} [البقرة
80
حيث أضيفت إذ إلى فعل وفاعل.
2 الشاهد في قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ} حيث أضيفت إذ إلى فعل
وفاعل أيضًا.
3 البيت للأعشى في ديوانه "ص229".
4 سَامَهُ: سام سومًا وسوامًا، ويقال سام الإنسانَ ونحوه ذلا أو خسفًا
أو هوانًا: أي أولاه إياه وأراده عليه. القاموس المحيط "4/ 133".
خسف: الخسف الظلم: يقال سام فلانا الخسفَ أي أَذَلَّهُ. لسان العرب "9/
68" مادة/ خسف.
حارِ: يقصد حارث وحذفت "الثاء" للترخيم.
والشاهد فيه قوله "إذ" حيث أضيفت إلى جملة فعلية "سامه".
5 {مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} : أي من عذاب يوم إذا.
6 {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} : أي يوم إذا ذاك كذاك يصدعون.
7 يصدعون: أي يتفرقون.
(2/164)
فأما قول أبي الحسن1 إنه جر إذ لأنه أراد
قلبها حين، ثم حذفها، وبقي الجرُّ فيها، وتقديره حينئذٍ، فساقطٌ غير
لازم، ألا ترى أن الجماعة قد أجمعت على أن إذْ، وكَمْ، ومِنْ من
الأسماء المبنية على الوقف.
وقد قال أيضًا أبو الحسن نفسه في بعض التعاليق عنه في حاشية الكتاب:
بُعْدُ "كم، وإذْ" من المتمكنة أن الإعراب لم يدخلها قط. فهذا تصريح
منه ببناء إذ، وهو الأليق به والأشبه باعتقاده، وذلك القول الذي حكيناه
عنه شيء قاله في كتابه الموسوم بمعاني القرآن، وإنما هو شبيه بالسهو
منه، على أن أبا علي قد اعتذر له منه بما يكاد يكون عذرًا.
ويؤكد عندك ما ذكرته من بناء إذ أنها إذا أضيفت فهي مبنية، وذلك نحو
قوله عَزَّ اسْمُهُ: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: 71] 2
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة:
127] 3 {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [الأحزاب:
37] 4 وقول القطامي5:
إذ لا ترى العينُ إلا كل سابحة ... وسابحٍ مثل سيد الردهة العادي6
"إذْ" في هذا كله ونحوه مضافة إلى الجمل بعدها، وموضعها نصب، وهي كما
ترى مبنية، فإذا كانت في حال إضافتها إلى الجمل مبنية من حيث كانت
الإضافة إلى الجملة كلا إضافة، لأن من حق الإضافة وشرطها أن تقع إلى
الأفراد، فهي إذا لم تضف في اللفظ أصلا أجدر باستحقاق البناء، وذلك نحو
يومئذٍ وحينئذٍ.
__________
1 معاني القرآن للأخفش "ص271".
2 الشاهد فيها "إذ" حيث جاءت مضافة إلى جملة اسمية، وهي مبنية في محل
نصب.
3 الشاهد فيها "إذ" جاءت مضافة إلى جملة فعلية، وهي مبنية في محل نصب.
4 الشاهد فيها "إذ" جاءت مضافة إلى جملة فعلية.
5 البيت في ديوانه "ص85".
6 لا ترى: أسلوب إنشائي في صورة نفي، والفكرة مؤكدة بالقصر الذي استخدم
فيه النفي -لا- والاستثناء -إلا-.
سيد: الذئب، والأسد.
والشاهد في قوله "إذ" حيث جاءت مضافة إلى جملة فعلية.
(2/165)
ويزيد ذلك وضوحًا لك قراءة الكسائي " مِنْ
عَذَابِ يَومَئِذ" [المعارج: 11] 1 فبنى "يوم" على الفتح لما أضافه إلى
مبني غير متمكن، كما بنى النابغة "حين" على الفتح لما أضافه إلى مبني
غير معرب في قوله2:
على حينَ عاتبتُ المشيبَ على الصبا ... وقلت ألما أصح والشيب وازعُ3
وكذلك قول الآخر4:
على حينَ ألهى الناسَ جلُّ أمورهم ... فندلا زريق المال نَدْلَ
الثعالبِ5
وقال -وهو لبيد-6:
على حينَ مَنْ تلبثْ عليه ذنُوبُهُ ... يرث شربه إذ في المقام تداثر7
وكذلك بيت الكتاب أيضًا:
__________
1 الشاهد في قوله "يومئذ" والتقدير "يوم إذ".
2 البيت في ديوانه "ص163".
3 الشيب: بياض الشعر، وربما سمى الشعر نفسه شيبا.
وازع: وزع وزعا: كفه ومنعه وزجره ونهاه. القاموس المحيط "3/ 93".
الشاهد فيه قوله "حين" حيث بُنيت على الفتح لما أضيفت إلى مبني.
4 البيت ينسب إلى الأحوص وهو في ديوانه "ص215".
5 ألهى: شغلهم وأنساهم.
جل أمورهم أي معظم أمورهم.
نَدَلَ: ندل الشيءَ ندلا: نقله بسرعة واختلسه في خفة وسرعة. القاموس
المحيط "4/ 56".
زريق: إحدى قبائل العرب.
6 لبيد: هو أبو عقيل لبيد بن ربيعة بن مالك العامري. أحد الشعراء
الفرسان في الجاهلية وأدرك الإسلام، ووفد على النبي -صلى الله عليه
وسلم- ويعد من الصحابة ومن المؤلفة قلوبهم وهو أحد أصحاب المعلقات ولم
يقل في الإسلام إلا بيتًا واحدًا وهو:
وما عاتبَ المرءَ الكريمَ كنفسِهِ ... والمرءُ يصلِحُهُ الجليسُ
الصالحُ
7 البيت ينسب للبيد كما ذكرنا وهو في ديوانه "ص217".
والشاهد فيه أن "حينَ" مبنيةٌ على الفتح لإضافتها إلى مبني "مَنْ".
(2/166)
لم يمنعِ الشربَ منها غير أن نطقت ...
حمامةٌ في غُصون ذات أوْقالِ1
فكما بُنيت هذه الأشياءُ وغيرها مما يطول ذكره من حيث كانت مضافة إلى
مبني، فاكتست من معناه في البناء، كذلك أيضًا بني "يوم" لإضافته إلى
"ذا" المبنية في قراءة من قرأ: "من عذاب يومئذ"، فإذا صح بما ذكرناه أن
"إذ" مبنية علمت أن الكسرة في ذالِ "يومئذ" إنما هي حركة ساكنين، وهما
هي والتنوين، وأن ماعدا هذا القول فساقط غير متقبل.
فإن قال قائل: فإذا كانت "إذ" إنما بنيت من حيث كانت متقطعا منها ما
أضيفت إليه أو مضافة إلى جملة، تجري الإضافة إليها مجرى لا إضافة، فهلا
أعربت لما أضيفت إلى المفرد في نحو قولهم: قمتُ إذ ذاك، وفعلتُ إذ ذاك،
قال2:
هل ترجعَنَّ ليالٍ قد مضينَ لنا ... والعيشُ منقلبٌ إذْ ذاك أفنانا3
فالجوابُ أن هذه مغالطة من السائل، وذلك أن "ذاك" في قولنا: فعلت إذ
ذاك، ليست مجرورة ولا "إذ" مضافًا إليها وحدها، وإنما "ذاك" في هذا
الموضع مرفوعة بالابتداء، وخبرها محذوف، والتقدير: فعلت إذ ذاك كذلك،
فحذف خبر المبتدأ تخفيفًا وعلمًا بأن "إذ" لا تضاف إلى المفرد، وإذا
كانوا قد حذفوا خبر المبتدأ في الموضع الذي يجوز أن تكون الإضافة فيه
إلى الواحد، نحو ما أنشده سيبويه من قوله:
أيامَ جُمْلٌ خليلا لو يخاف لها ... هجرا لخولط منه العقل والجسد4
__________
1 البيت ذكره صاحب الكتاب "2/ 329" ونسبه إلى شاعر من كنانة، وذكره
صاحب الخزانة "2/ 45"، ونسبه إلى أبي قيس بن الأسلت.
والشاهد في قوله "غيرَ أنْ".
2 قال: قيل هو أعرابي من بني تميم.
3 البيت نسبه صاحب مغني اللبيب إلى رجل أعرابي من بني تميم "2/ 176"،
وذكره صاحب الأغاني "10/ 289" إلى عبد الله بن المعتز.
والشاهد في قوله "إذ" حيث يرى ابن جني أنها أضيف إلى مبتدأ "ذاك" وهي
هنا مضافة إلى جملة اسمية.
4 البيت نسبه صاحب الكتاب "1/ 329" إلى الأخطل.
والشاهد في قوله "أيام" حيث أضيفت إلى جملة اسمية "مبتدأ + خبر" في
المعنى.
(2/167)
ألا ترى أن "أيام" مضافة إلى المبتدأ
والخبر في المعنى، وأن تقديره: أيام جمل أكرم بها خليلا. وغير مستنكر
في غير هذا البيت أن تضاف "أيام" إلى المفرد نحو: أيام زيد، وأيام
عمرو، وأيام الشباب، وأيام السرور، فإن يحذف خبر المبتدأ من الجملة
المضاف إليها من الظروف ما لا يضاف إلا إلى الجملة أجدر، لأن الدلالة
عليه أقوى.
ونظير هذا ما ذهب إليه أبو العباس في قول الآخر:
طلبوا صُلْحَنَا وَلاتَ أوانٍ ... فأجَبْنا أنْ لَيْس حِينَ بَقَاءِ1
وذلك أنه ذهب إلى أن كسرة أوان ليست إعرابًا، ولا علمًا للجر، ولا أن
التنوين الذي بعدها هو التابع لحركات الإعراب، وإنما تقديره عنده أن
"أوان" بمنزلة "إذ" في أن حكمه أن يضاف إلى الجملة نحو قولك: جئتك
أوانَ قام زيد، وأوانَ الحجاجُ أمير، أي: إذ ذاك كذلك، قال: فلما حذف
المضاف إليه "أوانَ" عوض من المضاف إليه تنوينًا. والنون عنده كانت في
التقدير ساكنة كسكون ذالِ "إذْ" لالتقاء الساكنين. فهذا شرح هذه
الكلمة، وقول أبي العباس هذا غير مرضٍ، لأن أوانًا قد يضاف إلى الآحاد،
نحو قوله:
هذا أوانُ الشدِّ فاشتدي زِيَمْ2
وقوله:
فهذا أوانُ العِرْضِ.... ... ............3
وغير ذلك.
__________
1 البيت لأبي زبيد، وهو في ديوانه "ص30".
والشاهد فيه "أوانٍ" فإن كسرتها ليست إعرابًا.
2 البيت نسبه صاحب الأغاني "15/ 199" إلى رشيد بن رميض العنزي، وذكره
صاحب اللسان في مادة "زيم" ولم ينسبه "12/ 280".
زيم: قيل هي ناقته وقيل هي فرسه.
والشاهد في قوله "أوانُ" حيث أضافها إلى الآحاد.
3 البيت نسبه صاحب طبقات فحول الشعراء "ص156" إلى المتلمس وهو جرير بن
عبد المسيح.
(2/168)
فإن قال قائل: فإذا كان الأمر كذلك فهلا
حركوا التنوين في "يومئذٍ وأوانٍ" لسكونه وسكون الذال والنون قبله،
وَلِمَ حركوهما لذلك دونه؟
فالجواب: أنهم لو فعلوا ذلك لوجب أن يقولوا "إذْنِ" فيشبه التنوين
الزائد النون الأصلية، وقد تقدم القول في هذا، وأيضًا فلو فعلوا ذلك في
"إذ" لما أمكنهم أن يفعلوه في "أوان"، لأنهم لو آثروا إسكان النون لما
قدروا على ذلك، لأن الألف قبلها ساكنة، فكان يلزمهم من ذلك أن يكسروا
النون لسكونها وسكون الألف، ثم يأتي التنوين بعدها، فكان لا بد أيضًا
من أن يقولوا: أوانٍ.
فإن قال قائل: فلعل على هذا كسرهم النون من "أوان" إنما هو لسكونها
وسكون الألف قبلها دون أن يكون كسرهم إياها لسكونها وسكون التنوين
بعدها.
فالجواب: ما تقدم من كسرهم ذال "إذ" لسكونها وسكون التنوين بعدها، فعلى
هذا ينبغي أن يحمل كسر النون من "أوانٍ" لئلا يختلف الباب، ولأن
"أوانٍ" أيضًا لم ينطق به قبل لحاق التنوين لنونه فيقدر مكسور النون
لسكونها وسكون الألف قبلها، إنما حذف منها المضاف إليه، وعوض التنوين
عقيب ذلك، فلم يوجد له زمن يلفظ به بلا تنوين فيلزم القضاء بأن نونه
إنما كسرت لسكون الألف قبلها، فاعرف ذلك من مذهب أبي العباس.
وأما الجماعة غيره وغير أبي الحسن فعندها أن "أوانٍ" مجرورة بلات، وأن
ذلك لغة شاذة، وروينا عن قطرب قال: قرأ عيسى: "وَلاتَ حِينِ مَنَاصٍ"
[ص: 3] 1 بالجر.
ومما يسأل عنه من أحوال التنوين قولهم: "جوارٍ وغواشٍ" ونحو ذلك: لأيه
علة لحقه التنوين وهو غير منصرف لأنه على وزن مفاعل؟
__________
= وذكره صاحب الخصائص "2/ 377" ولم ينسبه، وذكره صاحب اللسان في مادة
"لمس" ونسبه إلى المتلمس "6/ 210". والبيت كاملا:
فَهَذَا أوانُ العِرْضِ جن ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمس
العرض: اسم واد باليمامة.
والشاهد في قوله "أوان".
1 الشاهد فيها قوله تعالى: "حينِ "حيث قرأها عيسى بن عمر بالجرِّ.
(2/169)
فالجواب عن ذلك ما ذهب إليه الخليل
وسيبويه1، وذلك أنهما ذهبا إلى أن هذا لما كان جمعًا، والجمع أثقل من
الواحد، وهو أيضًا الجمع الأكبر الذي تتناهى إليه الجموع، وذلك أنك
تقول: كلب وأكلب، ثم تجمع الجمع، فتقول أكالب، ونحوه عبد وأعبد وأعابد،
قال أبو داود2:
لَهَقٌ كَنارِ الرَّأسِ بالعلياء ... تُذكيها الأعابِدْ3
ويقولون: سِقاء4 وأسْقِية وأساقٍ، وشِفاء5 وأشْفِية وأشافٍ، فزاده ما
ذكرناه ثقلا، ووقعت مع ذلك في آخره الياء، وهي مُستثقَلةٌ، فلما اجتمعت
فيه هذه الأشياء خففوه بحذف يائه، فلما حذفت الياء نقص عن مثال مفاعل،
وصار "جوار وغواش" بوزن جناح، فدخله التنوين لنقصانه عن مثال مفاعل،
فقلت: جوارٍ وغواشٍ ومجارٍ.
يدلك على أنه لما نقص في حال الرفع والجر عن مثال مفاعل لحقه التنوين
لنقصانه أنك إذا صرت إلى حال النصب، فجرى مجرى الصحيح كما من عادة
المنقوص إذا نصب فأتممته، فقلت: رأيت جواري وغواشي وعوالي، ونحو ذلك.
وذهب أبو إسحاق إلى أن التنوين في "جوارٍ" ونحوه إنما هو بدل من الحركة
الملقاة لثقلها عن الياء، فلما جاء التوين حذفت الياء لالتقاء الساكنين
هي والتنوين، كما حذفت من المنصرف في نحو: قاضٍ وغازٍ ومشترٍ ومتعالٍ.
وهذا الذي ذهب إليه أبو إسحاق غير مرضٍ من القول، ولا سائغ في القياس،
وقد ترك قول سيبويه والخليل6، وخالفهما إلى خلاف الصواب، وذلك أن الياء
في باب "جوارٍ" ونحوه في الرفع والجر قد عاقبت الحركة، فلم تجتمع معها،
فلما ناوبتها
__________
1 سيبويه: الكتاب "2/ 56-57".
2 البيت ينسب لأبي داود الإيادي في ديوانه "ص307".
3 لَهَقٌ: أي أبيض. القاموس المحيط "3/ 281".
والشاهد في قوله "الأعابد" حيث جمعت جمع الجمع.
4 سقاء: وعاء من جلد يكون للماء واللبن. القاموس المحيط "4/ 343".
5 شفاء: دواء.
(2/170)
فلم تجامعها صارت بدلا منها ووسيلة لها،
فكما لا ينبغي أن يعوض من الحركة وهي موجودة، فكذلك لا ينبغي أن يعوض
من الحركة وهناك من الياء ما يعاقبها ويكون بدلا منها. وأيضًا فلو كان
التنوين في "جوارٍ" إنما هو عوض من حركة الياء في الرفع والجر لوجب
أيضًا أن يعوضوا من ضمة الياء والواو في نحو: يقضي ويغزو.
فإن قلت: إنهم إنما رفضوا ذلك في الفعل من قبل أن الأفعال لا يليق
التنوين بها، ولا له مدخل فيها.
فالجواب: أن الفعل إنما يمتنع فيه من التنوين ما كان دالا على الخفة
والتمكن، فأما غير ذلك من التنوين فقد أدخل عليه في نحو1:
داينت أرْوَى والديونُ تُقْضَنْ2
ونحو قول جرير3:
............. ... وقولي إن أصبتُ لقد أصابَنْ4
ونحو قول امرئ القيس5:
ألا أيها الليل الطويل ألا انْجَلِنْ ... ............6
وقوله7:
__________
1 سبق تخريجه.
2 سبق تخريجه.
3 سبق تعريفه.
4 سبق شرحه.
5 سبق تعريفه.
6 البيت ينسب لامرئ القيس وهو من معلقته الشهيرة والتي تبدأ بقوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
والبيت بتمامه:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
ويقول: أيها الليل الطويل انكشف وتنح بصبح، أي ليزل ظلامك بضياء من
الصبح.
الشاهد فيه قوله "انْجَلِنْ" حيث أدخل عليها التنوين.
7 البيت من معلقة امرئ القيس، وهو في ديوانه، وذكره محمد محيي عبد
الحميد في شواهد قطر الندى وبل الصدى "ص85".
(2/171)
............. ... وأنكِ مهما تأمري القلبَ
يَفْعَلِنْ1
وقول العجاج:
مِنْ طَلَلٍ كالأتْحَمِيِّ أنْهَجَنْ2
والتنوين الذي في جوارٍ وغواشٍ، على قول أبي إسحاق، ليس بالتنوين
اللاحق بعد حركات الإعراب دلالة على التمكن والخفة وعلمًا للصرف، إنما
هو عنده عوض من الحركة، فكما أن الحركة ليست علمًا للصرف، ولا الاسم
مختص بها دون الفعل، فكذلك كان يلزمه على قوله هذا أن يعوض من حركة
نحو: يغزو ويقضي تنوينًا، فيقول يغزُنْ ويقضِنْ، ويحذف لام الفعل
لسكونها وسكون التنوين بعدها كما حذفها في قوله:
.... والديونْ تُقْضَنْ
وهذا الذي ألزمناه أبا إسحاق على مذهبه الذي حكيناه عنه غير لازم
للخليل وسيبويه ومن قال بقولهما، لأن التنوين عندهما3 في "جوارٍ" وبابه
إنما هو التنوين الذي هو علم الصرف، وليس بعوض من الحركة المحذوفة،
فيلزم أن يلحقاه الفعل عوضًا من الحركة المحذوفة منه.
ومما يسأل عنه مما يقرب من هذا الضرب ما أنشده أبو زيد في نوادره،
وقرأته على أبي علي يرفعه إليه بإسناده4:
__________
1 البيت في ديوانه "2/ 13" والبيت بتمامه:
أغركِ مني أن حبك قاتلي
وأنكِ مهما تأمري القلبَ يفعلِ
أي: قد غرك مني كون حبك قاتلي وكون قلبي منقادًا لك بحيث مهما أمرته
بشيء فعله. وألف الاستفهام تفيد التقرير وليس الاستفهام أو الاستخبار.
والشاهد في قوله "يفعلن".
2 البيت ينسب للعجاج وهو بديوانه "2/ 13".
طلل: ما بقي شاخصًا من آثار الديار ونحوها "ج" أطلال، وطلول.
أنهجن: أنهج العمل ونحوه أتعبه العمل والنهج الطريق والنهج التخلق
بالسلوك.
3 انظر/ الكتاب "2/ 56-57".
4 النوادر "ص261-262"، والأبيات تنسب لرجل من الأشعريين يكنى بأبي
الخطيب.
(2/172)
هل تعرف الدارَ بِبَيْدا إنَّهْ ... دارٌ
لِلَيْلَى قد تَعَفَّتْ إنَّهْ1
فإن سأل سائل، فقال: ما تقول في قوله: بِبَيْدا إنَّهْ؟ هل تجيز أن
يكون صرف بيداءَ ضرورة، فصارت في التقدير: بيداءٍ، ثم إنه شدد التنوين
ضرورة على حد التثقيل في قوله2:
ضَخْمٌ يحبُّ الخُلُقَ الأضْخَما3
ونحو قول الآخر4:
كأنَّ مهواها على الكَلْكَلِّ5
وغير ذلك مما أثبتناه في أول كتابنا هذا، وفي غيره مما صنفناه
وأمللناه، فلما ثقل التنوين واجتمع ساكنان فتح الثاني من الحرفين
لالتقائهما، ثم ألحق الهاء لبيان الحركة كما يلحقها في: هُنَّهْ
ولكنَّهْ.
فالجواب: أن هذا غير جائز في القياس، ولا سائغ6 في الاستعمال، وذلك أن
هذا التثقيل إنما أصله أن يلحق في الوقف على ما قدمنا ذكره، ثم إن
الشعراء تضطر إلى إجراء الوصل مجرى الوقف، فيقولون: سَبْسَبَا7،
وكَلْكَلَا، والأَضْخَمَا، ونحو ذلك.
__________
1 تعفت: زال آثارها. اللسان "15/ 78" مادة/ عفا.
والشاعر يتألم لرحيل محبوبته ويتأمل أثر ديارها مستخدما في ذلك أسلوب
الاستفهام الدال على التشويق. والشاهد فيه "بِبَيْدا إنَّهْ" حيث صرف
الكلمة ويريد "بيداء إن" فلما ثقل التنوين واجتمع ساكنان فتح الثاني ثم
ألحق الهاء لبيان الحركة.
2 سبق تخريجه.
3 الشاهد فيه "الأضخما".
4 سبق تخريجه.
5 الشاهد فيه "الكلكل".
6 سائغ: مستحب.
7 سبسبا: هذا بعض بيت من الرجز، وهو مع بيتين قبله:
إن الدبا فوق المتون دبا ... وهبت الريح بمور هبا
تترك ما أبقى الدبا سبسبا
وقد اختلف في قائله، فنسبه بعضهم إلى رؤبة، ونسبه آخرون لربيعة بن
صبيح، وقيل هو لأعرابي. انظر/ ملحقات ديوان رؤبة "ص169"، وشرح الشافية
"2/ 319-320".
الدبا: الجراد قبل أن يطير، والواحدة دباة. القاموس المحيط "4/ 327".
المتون: جمع متن، وهو المكان الذي فيه صلابة وارتفاع. القاموس المحيط
"4/ 269".
المور: الغبار المتردد. القاموس المحيط "2/ 136".
السبسب: المفازة والقفر.
(2/173)
فأما إذا كان الحرف مما لا يثبت في الوقف
البتة مخففًا فهو من التثقيل في الوصل والوقف أبعد، ألا ترى أن التنوين
مما يحذفه الوقف، فلا يوجد فيه البتة، فإذا لم يوجد في الوقف أصلا فلا
سبيل إلى تثقيله، لأنه إذا انتفى الأصل الذي هو التخفيف، فالفرع الذي
هو التثقيل أشد انتفاء.
فإن قلت: فما تقول أنت في ذلك؟
فالجواب: أن البيت يحتمل ثلاثة أوجه أجاز أبو علي جميعها:
فأحدها: أن يكون أراد ببيدا، ثم ألحق "إن" الخفيفة، وهي التي تُلحَق
للإنكار في نحو ما حكاه سيبويه من قول بعضهم وقيل له: "أتخرج إلى
البادية إن أخصبت؟ فقال: أأنا إنيه! منكرًا لأن يكون رأيه على خلاف
الخروج"1 كما تقول: ألمثلي يقال هذا؟ أي: أنا أول خارج إليها، فكذلك
هذا الشاعر أراد: أمثلي يُعرَّفُ ما لا ينكره، ثم إنه شدد النون في
الوقف، ثم أطلقها وبقى التثقيل بحاله فيها على حد "سبسبا"، ثم ألحق
الهاء لبيان الحركة نحو: {كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] و {حِسَابِيَهْ}
[الحاقة: 20] و {اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] .
والوجه الآخر: أن يكون أراد "إن" التي بمعنى "نعم" في نحو قوله:
............ ... .... فقلت إنه2
أي: نعم، وأجل.
والوجه الثالث: أن يكون أراد "إنَّ" التي تنصب الاسم وترفع الخبر،
وتكون الهاء في موضع النصب، لأنها اسم إنَّ، ويكون الخبر محذوفًا، كأنه
قال: إنَّ الأمر كذلك. وعلى هذا حمل أبو بكر3 قول الشاعر:
__________
1 الكتاب "1/ 406".
2 سبق تخريجه.
3 أبو بكر: هو ابن سراج. الأصول "2/ 405-406" ومذهبه على النحو الذي
ذكره ابن جني ليس في الأصول، وإنما فيه بعضه، وتراه مفصلا في "المسائل
البغداديات" لأبى علي الفارسي "ص429".
(2/174)
......... ... .... فقلت: إنه1
فجوز أن يكون بمعنى نعم، وأن يكون أيضًا بمعنى: إنَّ الأمر كذلك، فحذف
الخبر، لأن عنايته إنما هي بإثبات الشيب، كما حذف الأعشى الخبر أيضًا،
فقال2:
إن محلا وإن مرتحلا ... ..............3
أي: أن لنا محلا ومرتحلا. قال: وحسن حذف الخبر أن العناية منه إنما هي
بإثبات المحل والمرتحل دون غيره، فيكون الشاعر في قوله: "ببيدا إنه" قد
أثبت أن الأمر كذلك في ثلاثة الأوجه، لأنَّ "إن" الإنكار مؤكدة موجبة،
ونعم أيضًا كذلك، و"إنّ" الناصبة أيضًا كذلك، ويكون قد قصر "بيداء" في
هذه الأوجه الثلاثة كما قصر الآخر ما مدته للتأنيث في قوله:
لابدَّ مِن صنعا وإن طال السفر4
قال أبو علي5: ولا يجوز أن تكون الهمزة في "بيدا إنه" هي همزتها، لأنه
إذا جر الاسم غير المنصرف، ولم يكن مضافًا ولا فيه لام المعرفة وجب
ضرورة صرفه وتنوينه، ولا تنوين هنا، لأن التنوين لا يثقل، إنما يفعل
ذلك بحرف الإعراب دون غيره. وأجاز أيضًا في قوله:
.............. ... .... قد تعفت إنه
هذه الأوجه الثلاثة التي ذكرناها.
__________
1 سبق تخريجه.
2 البيت في ديوانه "ص283" وعجزه: "وإن في السفر ما مضى مهلا".
السفر المسافرون.
3 محلا: مكان للإقامة.
مرتحلا: مكان للسفر.
الشاهد فيه "إن محلا" حيث حذف الخبر وتقدير الكلام "إن لنا محلا".
4 الشاهد فيه "صنعا" حيث قصر الاسم الممدود للتأنيث ويريد "صنعاء".
5 قال أبو علي: عبارته في المسائل البغداديات "425" هي: "فالجواب أن
هذه لا تخلو من أن تكون الهمزة التي تلحق بيداء أو همزة أخري، فلا يجوز
أن تكون التي هي منبيداء، لأن هذا الاسم إذ جر في الشعر للضرورة، ولم
يلحقه اسم وجب أن ينون وإلا كان لحنا، وهو لم ينون بيداء، فلا يجوز
لهاذ أن تقول إن الهمزة في بيدا إنه التي في بيداء.
(2/175)
واعلم أن كل اسم متمكن فحكمه أن يكون
التنوين فيه تاليًا لإعرابه، وذلك نحو محمدٌ، ومحمدًا، ومحمدٍ، وقد
يحذف هذا التنوين من هذه الأسماء في موضعين: أحدهما الوقف، والآخر
الوصل.
فأما الوقف فكل اسم متمكن منون وقفت عليه في رفعه أو جره حذفت إعرابه
وتنوينه، وذلك قولك: هذا محمدْ، ومررت بمحمدْ، فإن نصبت أبدلت من
تنوينه ألفا، ولم تقرره فيه البتة، وذلك قولك رأيت محمدا. وإنما أبدلت
منه الألف لمضارعة النون بما فيها من الغنة وبالزيادة أيضًا لحروف
اللين، وقد تقدم ذكر هذا في أول الكتاب.
فإن قيل: فهلا أبدل منه في الرفع واو، وفي الجر ياء، كما أبدلوا منه في
النصب ألفا؟
ففي ذلك جوابان: أحدهما -وهو قول سيبويه1- أن الألف خفيفة، فألحقت
لخفتها، والواو والياء ثقيلتان، فلم تزادا بدلا من التنوين لثقلهما.
ويؤكد هذا القول إثباتهم الألف بحيث يحذفون الواو والياء، ألا تراهم
قرءوا: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] و {الْكَبِيرُ
الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9] .
ومن أبيات الكتاب2:
وأخو الغوانِ متى يشأْ يصرمْنه ... ويعدنَ أعداءً بُعيدَ وِدادِ3
__________
1 الكتاب "2/ 281".
2 البيت للأعشى وهو في ديوانه "ص179"، والكتاب "1/ 10".
ورواية الديوان "وأخو النساء"، ولا شاهد فيه على هذه الرواية، وذكره
صاحب اللسان في مادة "غنا" دون أن ينسبه.
3 الغوانِ: جمع غنية وهي المرأة الغنية بحسنها وجمالها عن الزينة.
القاموس المحيط "4/ 371".
يصرمنه: يقطعن وده. القاموس المحيط "4/ 139".
الوداد: المحبة.
وقد استخدم الشاعر الألفاظ التي تدل على مدى تمكن الغواني من المحبة
مثل: "متى يشأ- يصرمنه- يعدن".
والشاهد فيه "الغوانِ" حيث حذفت الياء.
(2/176)
ومنها أيضا1:
وطرتُ بمنصُلي في يعملاتٍ ... دوامي الأيْدِ يخبطنَ السريحا2
وأنشد البغداديون 3:
كفّاك كفٌّ ما تليق درهما ... جودًا، وأخرى تعطِ بالسيف الدَّما4
وقال زهير5:
ولأنت تفري ما خلقتَ ... وبعضُ القوم يخلقُ ثم لا يفْرْ6
وقال سيبويه: "لو كان يغزو قافية لكنت حاذف الواو"7 وقد حذفوا8 الياء
والواو وهما اسمان وعلامتان هربا إلى التخفيف بحذفهما، وذلك نحو قول
الشاعر:
لا يبعِدِ اللهُ أصحابًا تركتهمُ ... لم أدر بعد غداةِ البينِ ما
صَنَعْ9
يريد: صنعوا.
__________
1 البيت نسبه صاحب اللسان إلى مضر بن ربعي في مادة "يدي" "15/ 420"،
وذكره صاحب المتاب بدون نسب "1/ 9".
2 المنصلي: السيف ما لم يكن له مقبض. القاموس المحيط "4/ 57".
اليعملات: جمع يعملة وهي الناقة النجيبة المعتملة المطبوعة. القاموس
المحيط "4/ 21".
السريح: فرس سريح عدي. القاموس المحيط "1/ 228".
والشاهد فيه "الأيدِ" حيث حذفت الياء والتقدير "الأيدي".
3 البيت في معاني القرآن للفراء "2/ 27، 118"، واللسان في مادة "ليق"
"12/ 210".
4 الشاهد فيه "تعط" حيث حذفت الياء.
5 سبق تخريجه.
6 الشاهد فيه "يفْرْ" حيث حذفت الياء تخفيفًا.
7 الكتاب "2/ 300".
8 هذه لغة ناس كثير من قيس وأسد. الكتاب "2/ 301".
9 البيت لتميم بن أبي بن مقبل، وهو في ديوانه "ص168"، والكتاب "2/
301".
البين: الفراق.
والشاعر يدعو الله ألا يفترق الأصحاب لأنه لا يعلم ماذا يفعلون بعد
الفراق.
والشاهد فيه "صنع" حيث حذفت الواو وهي ضمير تخفيفًا والتقدير "ما
صنعوا".
(2/177)
ومن أبيات الكتاب أيضًا1:
لو ساوفتنا بسوف من تحيتها ... سوف العيوف لراح الركبُ قد قنِعْ2
يريد: قنعُوا. ومن أبياته أيضًا:
يا دار عبلة بالجِواءِ تكلَّمْ ... ..............3
يريد: تكلمِي. ومن أبياته4:
كذب العتيقُ وماءُ شنٍّ باردٌ ... إن كنتِ سائلتي غبوقًا فاذهبْ5
يريد: فاذهبى. ولا يحذفون الألف لامًا كانت ولا علامة، لايقولون في
الوقف على يخشى: هو يخشْ، ولايسعْ، ولا في قاما التثنية: قامْ، ولا
قعدا: قعدْ، ولم تخفف الألف في شيء مما ذكرنا إلا شاذًا.
أنشد أبو الحسن6:
__________
البيت للشاعر تميم بن أبي بن مقبل.
2 ساوفتنا بسوف: وعدتنا بقولها سوف. القاموس المحيط "3/ 155".
العيوف من الإبل: الذي يشم الماء فيتركه ولا يشرب وهو عطشان. القاموس
المحيط.
والمعنى: لو وعدتنا وعودا بالتسويف تشبه من يذهب إلى الماء ويعود
عطشانا لقنعنا بذلك.
والشاهد فيه "قنع" حيث حذف الواو تحفيفا ويريد "قنعوا".
3 البيت لعنترة وهو في معلقته وديوانه "ص264"، والكتاب "1/ 342".
الجواء: جمع "جو" وهو الوادي. القاموس المحيط "4/ 314".
والمعنى: ينادي الشاعر على دار حبيبته ويقول لها تكلمي وأخبريني عن
أهلك ما فعلوا.
والشاهد فيه "تكلم" حيث حذف الياء وهي ضمير وتقديره "تكلمي".
4 البيت ينسب إلى عنترة وهو في ديوانه "ص273"، ونسبه صاحب الكتاب لخرز
بن لوذان "2/ 302".
5 العتيق: التمر.
الشن: قريبة الماء. القاموس المحيط "4/ 240".
الغبوق: كصبور ما يشرب بالعشي. القاموس المحيط "3/ 271".
والمعنى: عليك بالتمر والماء، وإن كنت تريدين لبنا فاذهبى.
والشاهد فيه "فاذهبط حيث حذف الياء وهي ضمير تخفيفًا.
6 ذكره صاحب اللسان في مادة "لهف" "9/ 321"، ونسبه إلى ساعدة بن جؤية،
وذكره أبو الحسن في معاني القرآن "ص65"، والخصائص "3/ 135" والإنصاف
"ص390".
(2/178)
فلستُ بمدركٍ ما فاتَ مني ... بلهفَ ولا
بلَيْتَ ولا لوَ أنِّي1
يريد: بلهفا.
ومن أبيات الكتاب2:
وقَبِيلٌ من لُكيز شاهدٌ ... رهطُ مرجومٍ ورهط ابن المعَلْ3
يريد: المُعَلَّى.
وهذان من الشذوذ بحيث لا يسوغ القياس عليهما. فإذا كانوا يحذفون الياء
والواو الأصليتين في الوقف، وما دخل لمعنى فجرى في اللزوم مجرى الأصل،
أو كان أشد لزومًا في بعض المواضع من الأصل، فأن تُرفض الياء والواو
الزائدتان في قام زيدو، ومررت بزيدي، ولا تُتَكَلَّفا أجدر، وتثبت
الألف في رأيت زيدًا ونحوه، كما تثبت ألف يخشى ومثنَّى.
واعتل غير سيبويه في ترك إلحاقهم المرفوع واوًا والمجرور ياءً بدلا في
الوقف من التنوين بأن قال: كرهوا أن يقولوا: قام زيدو لئلا يشبه آخرُ
الاسم آخرَ الفعل في نحو يدعو ويحلو، وهذا غير موجود في الأسماء
استثقالا له وكذلك لو قالوا: مررت بزيدي لالتبس بالمضاف إليك نحو:
غلامي وصاحبي، فكرهوا ذينك لذينك.
قال سيبويه: "وزعم أبو الخطاب أن أزد السراة يقولون: هذا زيدو، ومررت
بعمري، جعلوه قياسا واحدا، فأثبتوا الواو والياء كما أثبتوا الألف"4.
__________
1 لهف: الحزن والأسى. القاموس المحيط "3/ 197".
والمعنى: إن الإنسان لا يستطيع أن يلحق ما فاته مهما فعل.
والشاهد فيه "بلهفَ" حيث حذفت الألف تخفيفًا يريد "بلهفا".
2 البيت للبيد في ديوانه "ص199"، والخصائص "2/ 293"، وشرح شواهد شرح
الشافية "ص207".
3 لكيز: هو أقصى بن عبد القيس.
شاهد: حاضر.
رهط: جماعة.
مرجوم: سمي ذلك لأنه فاخر رجلا عند النعمان فقال له: رجمك بالشرف.
والشاهد فيه "المعل" حيث حذفت الياء تخفيفًا فأصله "المعلى".
4 الكتاب "2/ 281".
(2/179)
وحدثنا أبو علي قال: حكى أبو عبيدة: رأيت
فَرَجْ. فكما حمل أزد السراة المرفوع والمجرور على المنصوب كذلك حمل
أهل هذه اللغة التي حكاها أبو علي عن أبي عبيدة المنصوب على المرفوع
والمجرور. فهذه حال حذف التنوين في الوقف من الاسم المنون، وإبدال حرف
منه في مكانه، وإن كان غير منون فلا نظر في أن الوقف عليه بلا تنوين
البتة، وذلك نحو: ضربتُ عُمَرْ، وقام أحمدُ، ونظرتُ إلى الرجلِ.
وأما حذف التنوين في الوصل من الاسم المتمكن فعلى أضرب:
منها: أن يكون مضافًا، نحو: ضربت غلامَك، وجاءني صاحبُك.
ومنها: أن يكون معرفًا باللام، نحو: قام الرجلُ يا فتى، وضربت المرأة
ياغلام.
ومنها: أن يلحق الاسم علام الندبة، وذلك نحو قولك: واغلامَ زيداه، ووا
أبا جعفراه، ولم يقولوا: واغلامَ زيدِناه، ولا وا أبا جعفرِناه،
فيفتحوا التنوين لأجل الألف، ويثبتوه معها كراهية اجتماع الزيادتين في
آخر الكلمة.
فإن قلت: فكيف جمعوا في الإنكار بين علامة الإنكار والتنوين، فقالوا:
أزيدَنِيه، وأزيدُنِيه، وأزيدِنِيه، وإذا جمعوا بين هاتين الزيادتين في
آخر الاسم مع الإنكار، فهلا جمعوا أيضًا بين التنوين وعلم الندبة،
فقالوا واغلام زيدِناه، وإذ فرقوا بين الموضعين، فما الذي أوجَدَهم
بينهما فرقًا؟
فالجواب: أن الفرق بينهما أن علامة الندبة أشد اتصالا بالمندوب من مدة
الإنكار بالمنكر، ألا ترى أن العلامة في الندبة لا يمكن الفرق بينها
وبين المندوب في نحو: وا زيداه وواعمراه، ومدة الإنكار قد يفصل بينها
وبين الكلام المنكر في نحو قولهم: أزيدَنِيه بـ "إنْ" مؤكدة للإنكار،
فيقال في قول من قال: ضربت زيدًا: أزيدًا إِنيه، وفي قول من قال محمدٌ:
أمحمدٌ إنِيه، وفي قول من قال مررت بجعفر: أجعفرٌ إنِيه، فلما فارقت
المدة التي للإنكار الكلام الذي وليته همزة الاستفهام، وانفصلت منه،
واتصلت "بإنْ"، وقامتا بأنفسهما، ولم تحتاجا إلى ما قبلهما، صارت كأنها
من جزء آخر ومباينة لما قبلها، فلم ينكر اجتماعها مع التنوين، لأن
التقدير فيها والعادة في استعمالها أن تكون منفصلة، ومدة الندبة متصلة
بما فيه التنوين غير
(2/180)
منوية الانفصال منه، فلما اتصلت بما فيه
التنوين لفظًا ومعنًى كُره الجمع بينهما في آخر المندوب لئلا تجتمع في
آخره زيادتان.
فهذا فرق ما بينهما ويزيد الحال وضوحًا لك أنهم يقولون في الإنكار على
من قال: ضربت زيدًا الطويلَ: أزيد الطويلاه، فيوقعون مدة الإنكار على
الوصف دون الموصوف الذي وليته همزة الاستفهام، وهذا غير جائز في
الندبة.
ألا ترى أن سيبويه1 لم يجز ولا سمع من العرب في الندبة، وا زيدُ
الطويلاه، لأن علم الندبة لا يباشر إلا المندوب نفسه دون صفته، ولا علة
ههنا توجب ذلك إلا شدة اتصال علم الندبة بنفس المندوب. فأما ما ذهب
إليه يونس2 من إجازة إلحاق مدة الندبة على الوصف فمدفوع عند الجماعة،
وعلى كل حال فإنه إنما أجازه يونس من حيث كانت الصفة مع الموصوف كالجزء
الواحد، فإذا وليت مدة الندبة صفة المندوب فكأنها قد باشرت المندوب
نفسه، وليست كذلك علامة الإنكار، لأنها في تقدير الانفصال ولفظه
جميعًا، ويؤكد ذلك عندك من حالها أيضا ما حكاه سيبويه، ألا تراه قال:
"وسمعنا رجلا من أهل البادية وقيل له: أتخرج إلى البادية إن أخصبت؟
فقال: أأنا إنيه" أفلا ترى أنه ألحق علامة الإنكار غير كلام السائل،
وأولاها كلامه هو، قال أبو العباس: أخرجه على المعنى دون كلام
المستفهم.
فهذا من مذهبهم يدلك على أن مدة الإنكار قد يباشرها غير الكلام الأول
المنكر، وليست كذلك مدة الندبة، لأنها لا تنفصل من المندوب على حال.
وشيء آخر يزيد عندك الحال وضوحًا أنك إذا قلت في الإنكار: أزيدًا يا
فتى، أو: أمحمدٌ يا جعفر، أو: أبسعيدٍ يا هذا، فوصلت كلامك سقطت علامة
الإنكار، وليست كذلك مدة الندبة، لأنها ثابتة في الوصل والوقف جميعًا،
تقول: وا زيداه، ووا زيدًا وعَمْراه، فهذا يدلك على أنها أوكد عندهم من
مدة الإنكار، فعلى هذا اهتموا بها، وراعوا حكمها، فلم يجمعوها مع
التنوين كما جمعوا مدة الإنكار معه، فاعرف ذلك فإنه واضح إن شاء الله.
__________
1 الكتاب "1/ 323".
2 الكتاب "1/ 323".
(2/181)
ومما حذفوا فيه التنوين أن يكون "ابن"
وصفًا لعلم أو كنية أو لقب مضافًا إلى علم أو كنية أو لقب، فإن التنوين
يحذف من الاسم الأول لكثرة الاستعمال ولالتقاء الساكنين.
وتتركب من ذلك تسع مسائل أصول يقاس عليها غيرها.
فالموصوف العلم إذا وصف بابن مضافًا إلى علم مثله نحو قولك: رأيت زيدَ
بنَ عمرو، والكنية نحو: هذا زيدُ بنُ أبي بكر، واللقب نحو: مررت بزيدِ
بنِ بطة، والموصوف الكنية إذا وصف بابن مضافًا إلى كنية نحو: لقيت أبا
بكر بنَ أبي محمد، والعلم نحو: مررت بأبي بكر بنِ زيد، واللقب نحو: هذا
أبو بكر بنُ بطة.
والموصوف اللقب إذا وصف بابن مضافًا إلى اللقب مثله نحو: هذا كرزُ بن
بطة، والعلم نحو: رأيت كرزَ بنَ زيد، والكنية نحو: مررت بكرزِ بنِ أبى
بكر.
وكل موضع حذفت منه التنوين في هذه المسائل التسع وما شكلها لكثرة
الاستعمال، ولأنك جعلت الاسمين كالاسم الواحد، فالألف في "ابن" محذوفة
من الخط، وذلك أنك لا تقدر الوقف على الأول والابتداء بالثاني، لأنك قد
جعلتهما بكثرة استعمالها، وبأن كل إنسان لابد أن يكون له أب أو أم أو
كنية تجري وصفا عليه، وأن اللقب إذا جرى ووقع كان في الشهرة وكثرة
استعماله جاريا مجرى العلم والكنية -كالاسمين اللذين جعلا كاسم واحد.
يدلك على أن العرب قد أرادت ذلك وقصدته قولهم1:
يا حكمَ بنَ المنذرِ بنِ الجارودْ ... سرادقُ المجدِ عليك ممدودْ2
__________
1 نسبه صاحب اللسان في مادة "سردق" إلى رؤبة "10/ 158"، ونسب في الكتاب
إلى رجل من بني الحرماز "1/ 313"، وذكر في المقتضب بدون نسب "4/ 232".
2 ممدود: ممتد.
السرادق: الذي يمد فوق صحن البيت وأراد ما أحاط بالشيء. القاموس المحيط
"3/ 244".
والشاعر يمدح الحكم بن المنذر بأن المجد يحيط به من كل جانب.
والشاهد فيه: "يا حكمَ بنَ" حيث فتحت ميم حكم.
إعرابه: حكم: منادى مبني على الضم المقدر، ابن: صفة منصوبة بالفتحة.
(2/182)
ففتحهم ميم حكمَ مع أنه منادى مفرد معرفة
إنما هو لأنه قد جعلوه مع ابن كالشيء الواحد، فلما فتحوا نون ابن فتحوا
أيضا ميم حكمَ، لأنهم إذا أضافوا ابنًا فكأنهم قد أضافوا حكمًا، وهذا
أحد ما يدل عندنا على شدة امتزاج الصفة بالموصوف، وهنا أشياء غير هذا
تدل أيضا على شدة امتزاجها.
ويدلك على أن حذفهم التنوين من الاسم الأول في هذا إنما هو لأنهم
اعتقدوا في الاسمين أنهما قد جريا مجرى الاسم الواحد حتى أنهم لما
أضافوا ابنًا فكأنهم قد أضافوا ما قبله، وأنه لم يحذف التنوين لالتقاء
الساكنين كما ذهب إليه قوم ما حكاه سيبويه من قولهم: "هذه هندُ بنتُ
فلانة"1 في قول من صرف هندًا، فتركهم التنوين في هند وهي مصروفة ولا
ساكنين هناك، يدل على أنهم إنما حذفوا التنوين لكثرة الاستعمال لا
لالتقاء الساكنين، وهو رأي أبي عمرو بن العلاء.
ومن ذهب من العرب إلى أن حذف التنوين في نحو: رأيت زيدَ بنَ عمرو، إنما
هو لالتقاء الساكنين قال: هذه هندٌ بنتُ فلانٍ، فنون هندًا إذا كان ممن
يصرفها، قال سيبويه: "وزعم يونس أنها لغة كثيرة جيدة" يعني إثبات
التنوين في هند لأن الباء من بنت متحركة، وكل ما ذكرناه من حال "ابن"
إذا جرى وصفًا، وحال ما قبله، فهو جارٍ على بنت وابنة لأنهما في كثرة
الاستعمال مثله.
فأما ما يذهب إليه الكتاب المحدثون من إثبات الألف خطًا في ابن إذا
تقدمت هناك كنية أو تأخرت، وَكَتْبُهُمْ: رأيتُ أبا بكر ابن زيد، ومررت
بجعفر بن أبي علي، وكلمني أبو محمد ابن أبي سعيد، بألف في "ابن" فمردود
عند العلماء على قياس مذاهبهم، وذلك أن العلة التي لأجلها تحذف الألف
من أول "ابن" إنما هي اختلاطه بما قبله واستغناؤهم عن فصله منه
وابتدائهم به منفردا عنه، فلم تكن به حاجة إلى الألف التي إنما دخلت
للابتداء لما تعذر ابتداؤهم بالساكن، وهذه العلة أيضا موجودة مع
الكنية، ألا ترى إلى قول الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء:
مازلتُ أفتحُ أبوابًا وأغلقها ... حتى أتيتُ أبا عمرِو بنَ عمّارِ2
__________
1 الكتاب "2/ 148" وفيه: "هذه هند بنت عبد الله".
2 الشاهد فيه "أبا عمرِو بن" حيث حذف التنوين من "عمرو" لأنها مع "ابن"
كالاسم الواحد.
(2/183)
وقول الآخر:
فلم أجبُنْ، ولم أنكُلْ ولكنْ ... يممتُ بها أبا صخرِ بنَ عمرِو1
فحذف التنوين إنما هو لأنهم جعلوا الاسمين كالاسم الواحد، وإذا كان
الأمر كذلك لم يلزم الابتداء بابن، فيحتاج إلى الألف، فسبيلها إذن أن
تحذف خطًا لما استغني عنها لفظًا.
فإن قلت: ألست تكتب نحو: قم فاضرب زيدا، واقعد واشتم خالدا، فتثبت
الألف في اضرب واشتم وإن كان قبلهما حرفان لا ينفصلان بأنفسهما، ولا
يمكن تقدير انفرادهما، وهما الفاء والواو، وأنت مع ذلك قد أثبت الألف
في أول فاضرب، وواشتم، وإن كنت الآن لا تنوي فصلهما من الواو والفاء
لضعفهما ولطفهما عن أن تحذفا، فهلا أثبت أيضا الألف في أول "ابن" وإن
كان متصلا بما قبله، بل هلا كان إثبات الألف في ابن أوجب من إثباتها في
فاضرب، وواشتم لأن الواو والفاء أقل في اللفظ وأشد حاجة إلى الاتصال
بما بعدهما من الموصوف بصفته، لأن الموصوف اسم تام قائم بنفسه؟
فالجواب: أن بين الموضعين فرقا، وذلك أن الاستعمال في فاضرب، وواشتم لم
يكثر كثرته في إجراء ابن صفة على ما قبله، وذلك نحو: زيدِ بنِ عمرٍو،
وأبي بكرِ بنِ قاسمٍ، وجعفرِ بنِ أبي علي، وسعيدِ بنِ بطة، وخفافِ بنِ
ندبة، وعطافِ بن ِبشة، ونصرِ بنِ طوعة، وعبدِ بنِ حجلة، وعياضِ بنِ أم
شهمة، والعريانِ بنِ أم سهلة، وحُمَيْدِ بنِ طاعة، وعبدِ اللهِ بنِ
الدمينة، ويزيدَ بنِ ضبة، وربيعةَ بنِ الذبية، وشيبِ بنِ البرصاء، وغير
هؤلاء من الشعراء ممن نُسِبَ إلى أمه2. فلما كان "ابن" مضافًا إلى الأب
والأم لا ينفك من أحدهما كثُر استعماله معهما،
__________
1 أجبن: الجبان الذي يهاب الأشياء ولا يقدم عليها.
أنكل: نكل عن الأمر نكولا: نكص. القاموس المحيط "4/ 60".
يممت: تيمم الشيء توخاه وتعمده. القاموس المحيط "4/ 193".
والشاهد فيه "صخرِ بنَ عمرو" حيث حذف التنوين من "صخر".
2 انظر هذه الأسماء وغيرها ممن نسب إلى أمه في كتاب "من نسب إلى أمه من
الشعراء" لمحمد بن حبيب.
(2/184)
فحذفت الألف من أوله متى جرى وصفًا على
العلم قبله، لأنه لا ينوى فصله مما قبله إذ كانت الصفة والموصوف عندهم
مضارعة للصلة والموصول من ستة أوجه قد ذكرناها في غير هذا الكتاب،
فتركناها كراهية الإطالة بذكرها.
ولم يكن اضرب واشتم متصلين بالفاء والواو ولا منفصلين منهما فتحذف
الألف معهما لاعتماد الواو والفاء عليهما، ولو كثر استعمال ذلك لحذفت
الألف، ألا ترى أنه لما كثر "بسم الله" حذفت منه الألف، وما يحذف لكثرة
استعماله أكثر من أن أذكره، منه قولهم: لا أدرِ، ولم يكُ، ولم أُبَلْ.
وكتبوا باسم المهيمن، وباسم الخلاق، وباسم رب العزة، وغير ذلك مما لم
يكثر استعماله كثرة بسم الله بالألف على الأصل.
والكنية أيضا قد كثرت صفتها بابن مضافًا إلى مثلها أو غيره من العلم
واللقب، وصار ابن مع ما قبله تقدمت الكنية عليه أو تأخرت عنه كالشيء
الواحد، فيجب أن تحذف الألف من الخط إذ لا فرق بين الكنية واللقب
والعلم في ذلك.
واعلم أن الشاعر ربما اضطر، فأثبت التنوين في هذه المواضع التي ذكرناها
لأن ذلك هو الأصل:
قال الشاعر1:
جاريةٌ من قيسٍ ابنِ ثَعْلَبَةْ ... كأنها حِلْيَةُ سيفٍ مُذْهَبَةْ2
وقال الحطيئة3:
إلا يكنْ مالٌ يُثابُ فإنه ... سيأتي ثنائي زيدًا ابنَ مُهَلْهِلِ4
__________
1 نسبه صاحب الكتاب إلى الأغلب العجلي "2/ 148" وذكره في المقتضب بغير
نسب "2/ 313"، وذكره صاحب الخزانة منسوب إليه أيضا "1/ 332".
2 قيسُ ابن ثَعْلَبَة: حيٌّ من بني بكر بن وائل.
والشاعر يهجو امرأة من بني قيس بقوله جارية ثم يصفها بحلية السيف
المذهبة.
والشاهد فيه: "قيسٍ بن ثعلبة" حيث اضطر الشاعر لإثبات التنوين.
3 البيت في ديوانه "ص84" يمدح بذلك زيد الخيل الطائي وكان أسر الشاعر،
فمنَّ عليه.
4 الشاهد فيه: "زيدًا ابن مهلهل" حيث اضطر الشاعر لإثبات التنوين في
كلمة "زيدًا".
(2/185)
ومن فعل ذلك لزمه إثبات الألف في "ابن"
خطًا. إلى هذا رأيت جميع أصحابنا يذهبون1، والذي أرى أنا أنه لم يرد في
هذين البيتين وما جرى مجراهما أن يجري ابنًا وصفًا على ما قبله، ولو
أراد ذلك لحذف التنوين، فقال: من قيسِ بنِ ثعلبة، وزيدَ بن مهلهل، ولكن
الشاعر أراد أن يجري ابنا على ما قبله بدلا منه، وإذا كان بدلا منه لم
يجعل معه كالشيء الواحد، وإذا لم يجعل معه كالشيء الواحد وجب أن ينوى
انفصال ابن مما قبله، وإذا قدر ذلك فيه فقد قام بنفسه، ووجب أن يبتدأ
به، فاحتاج إذن إلى الألف لئلا يلزم الابتداء بالساكن.
وعلى ذلك تقول: كلمت زيدًا ابن بكر، كأنك تقول: كلمت ابنَ بكر، وكأنك
قلت: كلمت زيدًا كلمت ابن بكر، لأن ذلك شرط البدل، إذ البدل في التقدير
من جملة ثانية غير الجملة التي المبدل منه منها، فمتى تجاوز التنوين أن
يكون في غير تلك المسائل التسع التي قدمنا ذكرها ثبت، وألحقت الألف في
أول ابن، وذلك قولك: ضربت زيدًا ابنَ الرجل، لأن الرجل ليس علمًا ولا
كنية ولا لقبًا. وكذلك: لقيت الغلامَ ابنَ زيد، تثبت الألف في ابن، لأن
الغلام ليس علمًا ولا كنية ولا لقبًا. وكذلك: جاءني محمدٌ ابنُ أخينا،
ولقيت جعفرًا ابنَ ذي المال.
وكذلك إن ثنيت أثبت الألف على كل حال لأن ذلك لم يكثر استعماله، وهو
قولك: ضربت الزيدين ابني عمرو، وهذا أجدر أن تثبت فيه الألف، لأن
الزيدين الآن ليسا علمين، وإنما تعرفا باللام كما تقدم. ومنه: أظن
البكرين ابني سعيد، وأحسب القاسمين ابني علي، فاعرفه.
وكذلك إن جعلت ابنًا خبرًا عما قبله أثبت التنوين في الأول والألف في
ابن، وذلك قولك زيدٌ ابنُ عمرو، وإن بكرًا ابنُ جعفر، وكأن محمدًا ابنُ
قاسم، وطننت سعيدًا ابنَ علي، وأظنُ قاسمًا ابنَ ذي المال، وليس عليٌّ
ابنَ أختنا، فأما قوله عزَّ اسمُه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ
ابْنُ اللهِ} [التوبة: 30] 2 فالقراءة فيه على ضربين:
__________
1 انظر/ الكتاب "2/ 148".
2 قرأ عاصم والكسائي "غزيرٌ ابن" منونًا، وروى عبد الوارث عن أبي عمرو
"عزير" منونًا، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عمرو وابن عامر
وحمزة "عزيرُ ابنُ الله" غير منون. انظر/ السبعة "ص313".
(2/186)
إحداهما: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ
ابْنُ اللهِ" بتنوين "عزير" لأن ابنًا الآن خبر عن "عزير" فجرى هذا
مجرى قولك: زيدٌ ابنُ عمرو.
والقراءة الأخرى: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللهِ" وحملها
أصحابنا على وجهين:
أحدهما: أن يكون "عزير" خبر مبتدأ محذوف، وابن وصف له، فحذف التنوين من
"عزير" لأن ابنا وصف له، فكأنهم قالوا: هو عزير بن الله، وهذا عندنا
بعيد وإن كان أبو العباس قد أجازه، لأنه لم يجر لعزير ذكر في ما قبل
فيجوز إضماره.
والوجه الآخر: أن يكون جعل ابنا خبرا عن "عزير"، وحذف التنوين ضرورة،
وهذا وإن كان فيه من الضرورة ما ذكرت لك فإنه أشبه، لأنه موافق معنى
قراءة من نون وجعل ابنا خبرا عن عزير.
فإن قلت: فإن من أجرى ابنا صفة على عزير فقد أخبر عنه أيضا بأنه ابن
كما أخبر عنه من نون عزيرًا، عزَّ اللهُ وعلا علوًّا كبيرًا.
فإن هذا خطل من إلزام الملزم، وذلك أنك إذا قلت: زيدٌ ظريفٌ، فجعلت
ظريفًا خبرًا عن زيد، فقد استأنفت الآن تعريف هذه الحال وإفادتها
للسامع، وإذا قلت: هو زيدٌ الظريفُ فإنما أخبرت عن ذلك المضمر بأنه
زيد، وأفدت هذا من حاله، ثم حليته بالظريف، أي: هو زيد المعروف قديمًا
بالظريف.
وليس غرضك أن تفيد الآن أنه حينئذ استحق عندك الوصف بالظرف. فهذا أحد
الفروق بين الخبر والوصف وكذلك أيضا لو كان تقديره: هو عزير، فأخبرت عن
المضمر بأنه عزير، ثم وصف بابن لكان التقدير هو عزير، الذي عرف من حاله
قديمًا بأنه ابن الله تعالى الله جل ثناؤه عن ذلك علوًّا كبيرًا، وليس
المعنى كذلك، إنما حكى الله سبحانه عنهم أنهم أخبروا بهذا الخبر،
واعتقدوا هذا الاعتقاد، فصار نحوا من قوله: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ
شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [الأنعام: 100] في أنه حكاية عنهم ما أخبروا به
حينئذ من اعتقادهم، وأظهروه من آرائهم، هذا مع ما قدمناه من ضعف إضمار
عزير إذا لم يجر له ذكر.
(2/187)
فأما حذف التنوين من عزير في من جعل ابنا
خبرا عنه، فله نظائر كثيرة تكاد كثرتها تجعلها قياسا، قرأ بعضهم: "قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ" [الإخلاص: 1-2] 1 وذكر أبو
الحسن2 أن عيسى بن عمر كان يجيز3:
فألفيته غيرَ مستعتِبٍ ... ولا ذاكرِ اللهَ إلا قليلا4
يريد: ولا ذاكرٍ اللهَ.
وقرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد5:
لتجدنِّي بالأمير بَرّا ... وبالقناة مِدْعَسًا مِكَرّا
إذا غُطَيْفُ السُّلَمِيُّ فَرّا6
يريد: غُطَيْفٌ. وقرأت عليه أيضا7:
حَيْدةُ خالي ولَقِيطٌ وعَلي ... وحاتمُ الطائيّ وهّاب المِئي8
يريد: وحاتمٌ الطائي.
__________
1 القراءة بضم الدال بغير تنوين في الوصل رواها هارون عن أبي عمرو.
السبعة "ص701".
وفي البحر "8/ 528" أنه قرأ بها: أبان بن عثمان وزيد بن علي ونصر بن
عاصم وابن سيرين والحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمّال وأبو عمرو في
رواية يونس ومحبوب والأصمعي والؤلؤي وعبيد وهارون عنه.
2 معاني القرآن للأخفش "ص86" والكتاب "1/ 169".
3 البيت نسب لأبي الأسود الدؤلي في المنصف "2/ 231"، والخزانة "4/
554"، والكتاب "1/ 169"، وبدون نسب في معاني القرآن للأخفش "ص86".
4 الشاهد فيه "ولا ذاكرِ اللهَ" حيث حذف التنوين، يريد ولا ذاكرٍ
اللهَ.
5 ذكره صاحب اللسان دون أن ينسبه مادة "دعس" "6/ 84"، والنوادر "ص321".
6 برا: رحيما.
المدعس: طعّان. القاموس المحيط "2/ 215".
المكر: الذي يكر في الحرب كثيرًا.
والشاهد فيه "غُطَيْفُ" حيث حذف التنوين فأصله "غُطَيْفٌ".
7 ذكره صاحب اللسان في مادة "أمه" ونسبه إلى "قصي" وهو قصي بن كلاب بن
مرة "13/ 472"، ونسبه لامرأة من بني عقيل في النوادر "ص321"، والخزانة
"3/ 304".
8 والشاهد فيه "حاتمُ الطائي" حيث حذف التنوين.
(2/188)
وأنشد أبو العباس1:
حميدُ الذي أمَجٌ دارُه ... أخو الخمر ذو الشيبةِ الأصلعُ2
أراد: حميدٌ: وأنشد أيضا3:
عمرُو الذي هَشَمَ الثريدَ لقومِه ... ورجال مكةَ مسنتون عجاف4
أراد عمرٌو الذي. وقال ابن قيس5:
كيف نومي على الفراش ولما ... تشملِ الشامَ غارةٌ شعواءُ
تذهلُ الشيخَ عن بنِيه وتبدِي ... عن خدامِ العقيلةُ العذراءُ6
أي وتبدى عن خدامٍ العقيلة، أي تبدي العقيلةُ عن خدامٍ.
وأنشدوا أيضًا:
والله لو كنتَ لهذا خالصا ... لكنت عبدًا آكل الأبارِصا7
أي: أكلا الأبارصا. وإنما جاز حذف التنوين من هذه الأسماء في هذه
الأماكن، وقد كان الوجه تحريكه لالتقاء الساكنين، في نحو رمى القومُ،
__________
1 البيت ذكره صاحب اللسان في مادة "أمج" ونسبه إلى أبي العباس المبرد
"2/ 29"، ونسب في النوادر "ص368" والإنصاف "ص664" إلى حميد الأمجي.
2 أمج: بلدة في المدينة التي منها الشاعر ونسب إليها.
والشاهد فيه "حميدُ" حيث حذف التنوين.
3 البيت ذكره صاحب اللسان في مادة "سنت" ونسبه إلى عبد الله بن الزهري
"2/ 47"، ونسب في الاشتقاق إلى مطرود بن خزاعة.
4 الثريد: ما يفت من الخبر ثم يبل بمرق.
عجاف: عجف عجفًا هزل "ج" عجاف، وفى القرآن الكريم: {يَأْكُلُهُنَّ
سَبْعٌ عِجَافٌ} . [يوسف: 43]
الشاهد فيه "عمرُو الذي" حيث حذف التنوين ويريد "عمرٌو".
5 البيتان لعبد الله بن قيس الرقيات، وهما في ديوانه "ص95-96".
6 الشاهد فيه "خِدامِ العقيلة" حيث حذف التنوين.
7 الشاهد فيه "أَكْلَ الأبارصا" حيث حذف التنوين من كلمة "أكل" ويريد
"أَكْلا الأبارصا" وقد جاز الحذف بسبب التقاء الساكنين.
(2/189)
وقاضي البلدِ، يدعو القومُ، كذلك حذف
التنوين لالتقاء الساكنين وهو مرادٌ، يدلك على إرادته أنهم لم يجروا ما
بعده بإضافته إليه.
ويشبه هذا مما حذف من اللفظ تخفيفًا لا لإضافته ولا لالتقاء الساكنين
لأنه ليس بساكن نون التثنية والجمع، وذلك نحو قول الأخطل1:
أبني كليبٍ إنّ عَمَّيَّ اللذا ... قتلا الملوكَ وفكَّكا الأغلالا2
أراد: اللذان، فحذف النون تخفيفًا لطول الاسم، ولا يجوز أن يكون حذفها
للإضافة، لأن الدلالة قد تقدمت على أن الأسماء الموصولة لا يجوز أن
تضاف أبدا إلا ما كان من أي في نحو قولهم: لأضربن أيَّهم يقوم، على أن
هذا عندنا معرف بصلته دون إضافته. ويمنع أيضا من أن يكون "اللذا" من
بيت الأخطل مضافًا أن ما بعده فعل، وهو "قتلا" والأفعال ليست مما يضاف
إليه. وقال الأشهبُ بنُ رُمَيلة، قرأته على محمد بن محمد عن أحمد بن
موسى عن ابن الجهم عن يحيى بن زياد3:
فإن الذي حانت بفلجٍ دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد4
يريد: الذين، فحذف النون تخفيفًا، ورواه أيضًا: يا أم جعفر، والصحيح:
يا أم خالد، لأن القوافي دالية. وقال الآخر5:
ياربّ عيسى لا تبارك في أحدْ ... في قائم منهم ولا في مَنْ قَعَدْ
إلا الذي قاموا بأطراف المَسَدْ6
يريد: الذين.
__________
1 البيت في ديوانه "ص108".
2 الشاهد فيه "اللذا" حيث حذف النون ويريد "اللذان" فحذفت النون
تخفيفًا.
3 البيت منسوب إليه في الكتاب "1/ 96"، والخزانة "2/ 507".
4 حانت دماؤهم: قرب وقتها. لسان العرب "3/ 135" مادة/ حين.
فلج: اسم نهر، وقيل اسم موضع، وقيل اسم وادي. لسان العرب "2/ 347"
مادة/ فلج.
الشاهد فيه "الذي" حيث حذف النون ويريد "الذين" وقد حذفت تخفيفًا.
5 البيت ذكره صاحب اللسان دون أن ينسبه في مادة "ذا" "15/ 456".
6 المسد: الليف، والحبل المضفور المحكم. القاموس المحيط "1/ 338".
الشاهد فيه "الذي" حيث حذف النون ويريد "الذين".
(2/190)
وقال الآخر1:
فبتُ أساقي الموتَ إخوتي الذي ... غوايتُهم غييِّ ورشدُهم رشدِي2
يريد: الذين. وحُكِيَ عنهم: هم اللاؤو فعلوا ذلك، يريدون: اللاؤون،
فحذوا النون تخفيفًا أيضًا.
وروينا عن قطرب3:
وعكرمةُ الفيّاض منّا وحوشبٌ ... هما فَتَيا الناس اللذا لم يُغَمّرا4
وعنه أيضًا5:
أولئك أشياخِي الذي تعرفونهم ... ليوثٌ سعَوا يوم النبيّ بفيلقِ6
يريد: الذين. وقد فعلوا هذا في بعض الأسماء المتمكنة غير الموصولة
لأنها في معنى الموصولة، أنشدنا أصحابنا7:
الحافظُو عورةَ العشيرة لا ... يأتيهمُ من ورائنا نَطَفُ8
أراد: الحافظون، فحذف النون تشبيها بالذين إذ كان في معناه.
__________
1 لم أقف عليه فيما بين يدي من كتب.
2 غوايتُهم: غوى غيا وغواية أمعن في الضلال. القاموس المحيط "4/ 372".
وفى القرآن الكريم {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2] .
رشدهم: رشد رشدًا: اهتدى.
والشاهد فيه "الذي" حيث حذف النون تخفيفًا.
3 البيت لعديل بن الفرخ العجلي كما في الأغاني "22/ 376".
4 الشاهد فيه "اللذا" حيث حذفت النون تخفيفًا يريد "اللذان".
5 صدره في همع الهوامع "1/ 258".
6 الفيلق: كصقيل الجيش، جمعه فيالق. القاموس المحيط "3/ 277".
والشاهد فيه "الذي" حيث حذفت النون تخفيفًا يريد "الذين".
7 نسبه البغدادي في الخزانة "3/ 272" إلى عمرو بن امرئ القيس الخزرجي،
وكذا جمهرة أشعار العرب "2/ 675"، والكتاب "1/ 95".
8 العورة: الخلل في الثغر وغيره.
النطف: العيب. القاموس المحيط "3/ 201".
والشاهد فيه "الحافظو" حيث حذف النون تشبيها بالذين تخفيفًا.
(2/191)
ويدل على أنه حذفها تخفيفًا لا لإضافة تركه
"عورة" منصوبة، ولو أراد الإضافة لجر العورة البتة.
وقرأ بعضهم: "والمقيمي الصلاة" [الحج: 35] 1 بنصب "الصلاة" على ما
فسرنا. وحكى أبو الحسن عن أبي السمّال أنه قرأ: "وَاعْلَمُواْ
أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهَ" [التوبة: 2] 2 وليس فيه ألف ولام
فيشبه بالذين. وقرأ بعضهم أيضا "إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابَ
الْأَلِيمَ" [الصافات: 38] 3 بالنصب كالذي قبله.
وقال عبيد4:
ولقد يغنَى به جيرانك الـ ... ممسكو منك بأسباب الوصال5
يريد: الممسكون.
وأخبرنا أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس، قال: سمعت عمارة بن عقيل
يقرأ: "وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارَ" [يس: 40] 6 بنصب "النهار"
فقلت له: ما تريد؟ فقال: أريد: سابقٌ النهارَ، فقلت له: فهلا له: فهلا
قلته؟ فقال: لو قلته لكان أوزن. فالأشبه في هذا أن يكون حذف التنوين
لالتقاء الساكنين. وقد حذفوا تشبيها بهذا النون الأصلية لالتقاء
الساكنين.
قرأت على محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى لأبي صخر7:
كأنهما مِ الآنَ لم يتغيرا ... وقد مرَّ للدارين من بعدنا عصرُ8
__________
1 هذه قراءة ابن أبي إسحاق، ورويت عن أبي عمرو. المحتسب "2/ 80"، وذكرت
غير معزوة في معاني القرآن للأخفش "ص85".
2 الشاهد "معجزي الله" حيث حذفت النون فاصلة "معجزين".
3 الشاهد فيه "لذائقو" حيث حذفت النون تخفيفًا وأصله "لذائقون".
4 هو عبيد بن الأبرص. انظر ديوانه "ص115".
5 الشاهد فيه "الممسكو" حيث حذفت النون تخفيفًا يريد الممسكون.
6 انظر/ المحتسب "2/ 82"، والخصائص "1/ 125".
7 هو أبو صخر الهذلي، والبيت في شرح أشعار الهذلييين "ص956" كأنهما:
يريد الدارين.
8 الشاهد فيه "م الآن" حيث حذف نون "من" تشبيها بنون التنوين للتخفيف.
(2/192)
وأنشد أبو الحسن1:
أبلغ أبا دختنوس مالكة ... غير الذي قد يقال مِ الكذب2
يريد أبو صخر: مِنَ الآن، ويريد الآخر: مِنَ الكذب. وقد حذفوا في نحو
هذا النون التي هي لام الفعل لالتقاء الساكنين.
وأنشد قطرب، وقرأناه على بعض أصحابنا يرفعه إليه3:
لم يكُ الحقُّ سوى أنْ هاجَه ... رسمُ دارٍ قد تعفَّى بالسرَرْ4
أي: لم يكن الحق، وكان حكمه إذا وقعت النون موقعًا تحرك فيه، فتقوى
بالحركة، أن لا يحذفها، لأنها بحركتها قد فارقت شبه حروف اللين إذْ
كُنّ لا يكُنّ إلا سواكن، وحذف النون من "يكن" أقبح من حذف التنوين
ونون التثنية والجمع، لأن النون في يكن أصل، وهي لام الفعل، والتنوين
والنون زائدتان فالحذف فيهما أسهل منه في لام الفعل، وحذف النون أيضًا
من يكن أقبح من حذف نون مِنْ في قوله:
............ ... غير الذي قد يقال مِ الكذب
لأن يكن أصله يكون، فقد حذفت منه الواو لالتقاء الساكنين فإذا حذفت منه
النون أيضًا لالتقاء الساكنين أجحفت به لتوالي الحذفين لاسيما من وجه
واحد عليه. ولك أيضًا أن تقول: إن "مِن" حرف، والحذف في الحروف ضعيف
إلا مع التضعيف نحو: ربّ، وإنّ، وأنّ. هذا قول أصحابنا5 في هذا البيت.
وأرى أنا شيئًا آخر غير ذلك، وهو أن يكون جاء بالحق بعدما حذف النون من
يكن، فصار يك مثل قوله عز وجل: {وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67] 6.
__________
1 البيت ذكره صاحب اللسان مادة "ألك" "10/ 392"، وشرح المفصل "8/ 35".
2 الشاهد فيه "يقال مِ الكذب" حيث حذف النون من حرف الجر وتقديره "يقال
من الكذب".
3 البيت ذكره صاحب اللسان دون أن ينسبه، ونُسب في النوادر إلى حسيل بن
عرفطة "ص296"، والخزانة "4/ 72".
4 الشاهد فيه "يكُ" حيث حذفت نون الفعل لالتقاء الساكنين.
5 المسائل العسكريات "ص30".
6 الشاهد فيه "يك" حيث حذفت نون الفعل تخلصًا من التقاء الساكنين.
(2/193)
ونحو بيت الكتاب1:
وكنتَ إذْ كنتَ إلهِي وحدَكا ... لم يكُ شيءٌ يا إلهي قبلَكا2
فلما قدره يك جاء بالحق بعدما جاز الحذف في النون وهي ساكنة تخفيفًا،
فبقي محذوفًا بحاله، فقال: لم يكُ الحقُّ، ولو كان قدره يكُنْ، فبقَّى
النون، ثم جاء بالحق لوجب أن تكسر نونه لالتقاء الساكنين، فتقوى
بالحركة، فلا تجد سبيلا إلى حذفها إلا مستكرَهًا، فكان يجب أن تقول: لم
يكنِ الحقُّ.
فأما ما لا بد من القضاء بحذفه لالتقاء الساكنين فبيت الكتاب3:
فلستُ بآتيه ولا أستطيعه ... ولاكِ اسقني إن كان ماؤكَ ذا فضلِ4
فهذا أراد: ولكنْ اسقني، فحذف النون لالتقاء الساكنين البتة.
ومثله قول الآخر5:
ولا تطلُبا لي أيِّمًا إن طلبتما ... فإن الأيماى لسنَ لي بشُكُول
ولاكِ اطلبا لي ذات بعل محلها ... رواءٌ وخيمٌ بالعذَيبِ ظليلُ6
أراد: ولكن اطلبا لي. وهو مع ذلك أقبح من حذف نون "مِنْ" من قبل أن أصل
لكنِ المخففة لكنَّ المشددة، فحذفت إحدى النونين تخفيفًا، فإذا ذهبت
تحذف النون الثانية أيضًا أجحفت بالكلمة، فلهذا كان أقبح من حذف نون
"من".
__________
1 نسبه صاحب الكتاب إلى عبد الله بن عبد الأعلى القرشي "1/ 316" وشرح
المفصل ط2/ 11"، والعيني "3/ 397".
2 الشاهد فيه "يك" حيث حذفت النون تخفيفًا.
إعرابه: "يك" فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه السكون على النون المحذوفة.
3 سبق تخريجه.
4 الشاهد فيه "ولاك اسقني" حيث حذفت النون لالتقاء الساكنين يريد
"ولكن".
5 البيت الأول ذكر في اللسان مادة "شكل" ونسبه إلى أبي عبيد. "11/
356".
6 الشكول: جمع الشكل، وهو الشبه والمثل. القاموس المحيط "3/ 401".
بعل: زوج.
والشاهد فيه "ولاك اطلبا لي" حيث حذفت النون لالتقاء الساكنين.
(2/194)
ومثل قوله: "لم يك الحق" قول الخنجر بن صخر
الأسدي1:
فإلا تك المرآة أبدت وسامة ... فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم2
يريد: فإلا تكن المرآة، والقول فيها واحد.
ومما يسأل عنه من باب النون قول العرب في ما حكاه سيبويه "لدن غدوة"3
فيقال: لم نصبت غدوة ولم تجر بإضافة لدن إليها؟
والجواب: أنهم شبهوا النون في لدن بالتنوين في ضارب، فنصبوا غدوة
تشبيها بالمميز نحو: عندي راقودٌ خلا، وجبةٌ صوفًا، والمفعول في نحو:
هذا ضاربٌ زيدًا وقاتلٌ بكرًا. ووجه الشبه بينهما اختلاف حركة الدال
قبل النون، وذلك لأنه يقال: لَدُنْ ولَدَنْ بضم الدال وفتحها، فلما
اختلفت الحركتان قبل النون شابهت النون التنوين، وشابهت الحركتان قبلها
باختلافهما حركات الإعراب في نحو: هذا ضاربٌ زيدًا، ورأيت ضاربًا
زيدًا، ولأنهم قد حذفوا النون، فقالوا: لَدُ غُدوة، كما يحذف التنوين
تارة ويثبت أخرى، فلما أشبهت النون التنوين من حيث ذكرنا انتصبت غدوةٌ
تشبيهًا بالمفعول، وكما جاز أن تشبه النون بالتنوين فتنصب غدوةٌ
تشبيهًا بالمفعول، كذلك شبه بعضهم غدوةً بالفاعل، فرفعها، فقال: لدُنْ
غُدوةٌ، كما تقول: أقائم زيد؟ ومنهم من يلزم القياس فيها، فيجر بها،
فيقول: لدُنْ غُدوةٍ، ومن فعل ذلك فلا سؤال عليه، قال سيبويه: "ولا
تنصب غدوة مع غير لدُن"4 لكثرتها في كلامهم، فغيروها -يعني عن الجر-
لكثرتها، فلا تقول على هذا: لدُن بكرةً، لأنه لم يكثر في كلامهم.
فإن سأل سائل، فقال: غُدوةُ إنما وقعت في كلامهم معرفة، وإنما غَداةٌ
هي النكرة، ألا تراك تقول: {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52]
فتعرفها باللام،
__________
1 الضيغم: اسم من أسماء الأسد. القاموس المحيط "4/ 142".
الشاهد فيه "تك" حيث حذفت النون تخفيفًا ويريد "تكن".
2 الكتاب "1/ 24، 28، 79، 107".
3 البيت له كما في العيني "2/ 63"، ونسب في التمام "ص176" إلى بعض بني
أسد.
4 الكتاب "3/ 119".
(2/195)
ولا تقول: "بالغُدْوَةِ والعَشِيّ" إلا في
قراءة شاذة1، فإذا كان ذلك كذلك فما بالهم صرفوها مع لَدُن البتة،
وأجمعوا على ترك الصرف الذي هو الشائع من أمرها مع غير لَدُن؟
فالجواب عندي أنهم إنما أجمعوا على صرفها لأمرين:
أحدهما: كثرة الاستعمال، لأنهم لما كثر استعمالهم إياه أشد تغييرًا.
والآخر: أنهم لو لم يصرفوها لقالوا: لَدُن غُدْوة، فتفتح الهاء، فلا
يعلم أمنصوبة هي أم مجرورة، ألا ترى أن ما لا ينصرف نصبه وجره بلفظ
واحد، نحو: رأيت عمرَ، ومررت بعمرَ، فلما اعتزموا نصب غدوة بعد لدن
وإخراجها لكثرة الاستعمال عن حال نظائرها صرفوها ليكون ظهور التنوين مع
الفتحة يحقق ما نووه واعتقدوه من النصب، ويزيل الشبهة عن المسامع، فلا
يظن أنها مجرورة غير منصوبة.
فإن قلت: فمن رفع فقال: لَدُن غُدْوةٌ، أو جر، فقال: لَدُن غُدْوةٍ، ما
الذي دعاه إلى الصرف؟ ولو لم يصرف فقال: لَدُن غُدْوةُ، ولَدُن غُدْوةَ
لعلم أنه قد جرَّ تارةً، ورفع أخرى؟
فالجواب: أنهم لما أوجبوا صرفها وهي منصوبة، وهو الأكثر من أحوالها،
حملوا المرفوعة والمجرورة لقلة الرفع فيها والجر على النصب الذي قد شاع
وكثر، كما حملوا أَعِدُ ونَعِدُ وتَعِدُ على يَعِدُ، هذا مع ما قدمناه
من تغييرهم لما كثر استعماله عن حال نظائره.
فإن قلت: وكيف يجوز لك أن تحمل الرفع على النصب وأنت تعلم أن الرفع في
كل الأحوال أسبق في المرتبة من النصب؟ أفيحسن أن يحمل الأصل على الفرع؟
وما الفرق بينك وبين الفراء في حمله فتحة فَعَلَ الذي هو للواحد على
فتحة فَعَلَا الذي هو للتثنية؟
فالجواب: أن الرفع بعد لدن في قول من قال: لَدُن غُدْوةٌ، إنما هو في
الحقيقة فرع ههنا ودخيل على النصب، وإن كان في غير هذا الموضع متقدمًا
في الرتبة للنصب والجر، وذلك أن قولنا: لَدُن غُدْوةٌ إنما هو ظرف
وفضلة تتبع الجملة أبدًا، فهو من
__________
1 هذه قراءة سبعية فقد قرأ ابن عامر "بالغدوة" في كل القرآن بالواو.
السبعة "ص258".
(2/196)
مواضع النصب، وليس للرفع في الفضلة حظ،
فالنصب إذن أمكن في هذا الموضع من الرفع، فلذلك جاز أن يحمل الرفع هنا
على النصب.
وشيء آخر، وهو أن اسم الفاعل إذا اختلفت حركاته، فعمل في اسم ظاهر غير
مضاف إلى مضمر، فعمله أبدًا في غالب الأمر للنصب، وذلك نحو: هذا رجل
ضارب زيدا، وإن عمرًا قاتلٌ بكرًا، وكان محمدٌ شاتمًا خالدًا.
فلدن إذن باسم الفاعل الناصب لما بعده أشبه منها باسم الفاعل الرافع
لما بعده، نحو: هذا رجل قائم أبوه، وضربت رجلا قائمًا غلامُه.
ألا ترى أن الأب والغلام مضافان إلى ضمير الأول، وغدوة ليست مضافة إلى
ضمير ولا إلى غيره، فهي بالمنصوب، نحو: هذا ضارب بكرًا، ولقيت شاتمًا
جعفرًا أشبه، فاعرف ذلك، فإني قد أوضحته، وما علمت أحدًا استقصى هذا
الموضع هكذا.
فإن سأل سائل، فقال: من أين جاز أن تفتح الدال في لَدَنْ، وإنما هي
لَدُنْ نحو قوله تعالى: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6] و
{قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76] و {مِنْ لَدُنْهُ}
[النساء: 40] وغير ذلك مما يطول ذكره حتى لما اختلفت حركات الدال قبل
النون أشبهت التنوين، فنصب ما بعدها تشبيها بالمفعول؟
فالجواب: أن الفتحة في لَدَنْ إنما جاءت من قبل أنهم أسكنوا الدال في
لَدُنْ استثقالا للضمة فيها كما يسكن نحو عضُد وسبُع، فيقال: عضْد1
وسبْع، فلما سكنت الدال، وكانت النون بعدها ساكنة التقى ساكنان. ففتحت
الدال لالتقائهما، وشبهت من طريق اللفظ بنحو قولك في الأمر والنهي:
اضربَنْ زيدًا، ولا تضربَنْ عمرًا. هكذا حصلت عن أبي علي وقت قراءة
الكتاب عليه.
ويزيد عندك في شبه نون لَدُنْ بتنوين اسم الفاعل، أن العرب قد حذفتها
في بعض المواضع تخفيفًا، فقالت: من لَدُ الحائط، و: لَدُ الصلاة.
وحذفوها أيضًا ولا ساكن بعدها.
__________
1 عضد: ساعد. القاموس المحيط "1/ 314".
(2/197)
أنشد سيبويه1:
من لَدُ شَوْلا فإلى إتلائها2
فلما حذفت النون تارة، وثبتت أخرى، وضمت الدال تارة، وفتحت أخرى، قوي
شبه النون بالتنوين الذي قد يحذف تارة، ويثبت أخرى، وتختلف الحركات
التي قبله، وهذا واضح جلي.
واعلم أن الشاعر له مع الضرورة أن يصرف ما لا ينصرف، وليس له ترك صرف
ما ينصرف للضرورة. هذا مذهبنا، وذلك أن الصرف هو الأصل، فإذا اضطر
الشاعر رجع إليه، وليس له أن يترك الأصل إلى الفرع.
فأما ما رووه من قول الشاعر3:
فما كان حِصْنٌ ولا حابسٌ ... يفوقانِ مِرْداسَ في مَجْمَعِ4
فإن أبا العباس رواه غير هذه الرواية، وهي قوله:
............ ... يفوقانِ شَيْخِيَ في مَجْمَعِ5
فرواية برواية، والقياس في ما بعد معنا. على أن أبا الحسن قد حكى عنهم
"سلامُ عليكم" غير منون، والقول فيه: إن اللفظة كثرت في كلامهم، فحذف
تنوينها تخفيفًا، كما قالوا: لم يكُ، ولم يُبَلْ، ولا أدرِ.
واعلم أن النون قد حذفت من الأسماء عينًا في قولهم "مُذْ" وأصله
مُنْذُ. ولو صغرت مذ اسم رجل لقلت: مُنَيْذ، فرددت النون المحذوفة ليصح
لك وزن فُعَيْل.
وحذفت أيضًا لامًا في ددن، فقالوا: دد- وهو اللهو واللعب- قال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-: "لستُ من دَدٍ ولا دَدٌ مِنِّي".
__________
1 البيت في العيني "2/ 51"، والخزانة "2/ 84"، والكتاب "1/ 134".
2 الشاهد فيه "من لدُ" حيث حذفت النون تشبيهًا لها بالتنوين.
3 البيت للعباس بن مرداس السلمي كما في الإنصاف "ص499"، والعيني "4/
365".
4 الشاهد فيه "مرْداس" حيث لم يصرفها.
5 الشاهد فيه "شيخي" حيث رويت روايتين.
(2/198)
وقد قالوا أيضًا في هذا المعنى: دَدَا
مقصورًا.
واعتقبت النون وحرف العلة على هذه اللفظة لاما، كما اعتقبت الهاء
والواو في سنة لاما، فقال قوم سَنَوات، ومُساناة1، وسُنَيّة،
وأسْنَتُوا2.
وقال آخرون3:
ليستْ بسَنْهاء..... ... ............
وسُنَيْهة، ومُسانهة. وكذلك أيضًا عضة، فمن قال: بعير عاضِةٌ4،
وعِضاهة، وبعير عِضاهيّ، كانت اللام عنده هاء. ومن قال5:
هذا طريق يأزِمُ المآزما ... وعِضَواتٌ تقطع اللَّهازِما6
فاللام عنده واو، ونظائره كثيرة.
وقد حذفت النون من "إنّ" و"أنّ" تخفيفًا، وذلك قوله عَزَّ اسْمُهُ:
{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [القلم: 51] 7 و {إِنْ كَادَ
لَيُضِلُّنَا} [الفرقان: 42] 8 و {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا
حَافِظٌ} [الطارق: 4] 9، وقول الشاعر10:
شلت يمينك إن قتلتَ لَمُسْلِمًا ... وجبت عليك عقوبةُ المتعمِّدِ11
ف "إنْ" في هذا ونحوه مخففةٌ من الثقيلة.
__________
1 مُساناة: عاملته مُساناة ومُسانَهة: أي الأجل إلى سنة. القاموس
المحيط "4/ 286".
2 أسنتوا: أصابتهم الجدوبة. القاموس المحيط "4/ 345".
3 سبق تخريجه.
4 عاضه: هو كل شجر له شوك واحدته: العضه والعضاهه. القاموس المحيط "2/
337".
5 سبق تخريجه.
6 سبق شرحه والتعليق عليه.
7 الشاهد "إنْ يكادُ" حيث حذفت النون تخفيفًا.
8 الشاهد "إنْ كاد" حيث خففت إن.
9 قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي "لمَا" خفيفة، وقرأ عاصم وابن
عامر وحمزة "لمَّا" مشددة. السبعة "ص678".
10 البيت نسب إلى عاتكة بنت زيد بن عمرو في الخزانة "4/ 348"، والعيني
"2/ 278".
11 الشاهد فيه "إنْ قتلت" حيث خففت "إن" من الثقيلة.
(2/199)
وكذلك قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ
مِنْكُمْ مَرْضَى} [المزمل: 20] 1.
وقول الشاعر2:
زعم الفرزدقُ أنْ سيقتلُ مَرْبَعًا ... أبشرْ بطولِ سلامةٍ يا مربعُ3
وسألت أبا علي عن قول الشاعر4:
أنْ تقرآنِ على أسماءَ ويحكُما ... مني السلامُ وأنْ لا تُعْلِمَا
أحدا5
فقلت له: لم رفع تقرآن؟ فقال: أراد "أن" الثقيلة، أي: أنكما تقرآن، هذا
مذهب أصحابنا6.
وقرأت على محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى في تفسير أن تقرآن، قال: "شبه
أن بما"7 فلم يعملها في صلتها، وهذا مذهب البغداديين. وفي هذا بعد،
وذلك أنَّ "أنْ" لا تقع إذا وصلت حالا أبدًا، إنما هي للمضي أو
الاستقبال، نحو: سرني أن قام زيد ويسرني أن يقوم غدًا، ولا تقول: يسرني
أن يقوم وهو في حال قيام، و"ما" إذا وصلت بالفعل فكانت مصدرًا فهي
للحال أبدًا، نحو قولك: ما تقوم حَسَنٌ، أي: قيامك الذي أنت عليه حسن،
فيبعد تشبيه واحدة منها بالأخرى، وكل واحدة منها لا تقع موقع صاحبتها.
قال أبو علي: وأولى أن المخففة من الثقيلة الفعلَ بلا عوض ضرورة. وهذا
على كل حال وإن كان فيه بعض الصنعة أسهل مما ارتكبه الكوفيون.
__________
1 الشاهد "أَنْ سَيَكُونُ" حيث خففت إن وهي غير عاملة.
2 البيت لجرير وهو في ديوانه "ص916".
مربع: لقب راوية جرير المسمى وعوعة.
3 الشاهد فيه "أنْ سيقتل" حيث خففت إن من الثقيلة.
4 البيت ذكره صاحب الخزانة "3/ 559" بدون نسب، وكذا الخصائص "1/ 390".
5 الشاهد فيه "أن تقرآن" حيث خففت إن من الثقيلة، وذلك هي غير عاملة
والفعل بعدها مرفوع.
6 انظر ما سبق عند قول الشاعر:
أن تهبطين بلاد قوم ... يرتعون من الطلاح
7 مجالس تعلب "ص322".
(2/200)
فأما قوله عَزَّ اسْمُهُ: {إِنَّا كُلَّ
شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] و {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي
وَنُمِيتُ} [ق: 43] ونحو ذلك فأصله "إنّنا" ولكن حذفت إحدى النونين من
"إنّ" تخفيفًا، وينبغي أن تكون الثانية منها لأنها طرف، فهي أضعف، وهي
التي حذفت في قوله:
.... إنْ قتلتَ لَمسلما ... ................1
وقد حذفت مع اللام تشبيها بالنون، فقالوا: لَعَلِّي، وأصله لَعَلَّنِي،
وحذفوها مع ليتَ لأنها أخت لعلّ، ومن أبيات الكتاب2:
كمُنْية جابرٍ إذ قال ليتي ... أصادفُه وأفقدُ جُلَّ مالي3
وروينا عن قطرب لمُهلهِل:
زعموا أنني ذَهَلتُ وليتي ... أستطيع الغداة عنها ذُهولا
أي: ليتني.
وإنما زيدت هذه النون في ضربني ويضربني ليسلم الفعل من الكسر، وتقع
الكسرة على النون.
وزادوها أيضًا مع "إنّ" وأخواتها لمشابهتهن الفعل. وزادوها أيضًا في
نحو مني وعني لأنهما لما سكن آخرهما أشبهتا الفعل. وعلى هذا قالوا:
قطني، وقد قالوا قِطي أيضًا. وقَدْني وقَدِي.
__________
1 سبق تخريجه.
2 البيت لزيد الخيل كما في الكتاب "2/ 370"، والعيني "1/ 346".
3 المنية: ما يتمناه الإنسان. القاموس المحيط "4/ 392".
جابر: رجل من غطفان تمنى أن يلقى زيدًا، فلما التقيا طعنه زيد برمح،
فانكسر ظهره.
(2/201)
|