إسفار الفصيح

المبحث السادس: الموازنة بين شرح أبي سهل لكتاب الفصيح وبعض شروحه الأخرى.
أشرت في تمهيد هذه الدراسة إلى أهمية كتاب الفصيح، وانعكاس هذه الأهمية على جهود العلماء الذي تناولوه بالشرح والتهذيب والنقد والاستدرك والتذييل. وأحصيت من شروحه (48) شرحا ما بين مطبوع ومخطوط ومفقود.
وقد تفاوتت هذه الشروح فيما بينها من حيث الأهمية والمنهج، وسأكتفي في هذا المبحث بالموازنة بين أربعة من شروح الفصيح تمثل على وجه التقريب مناهج وبيئات وأزمنة مختلفة، وهي شرح أبي سهل هذا، وتصحيح الفصيح لابن درستويه، وشرح ابن هشام اللخمي، وموطئة الفصيح لابن الطيب، أو شرح نظم الفصيح.
أولا: تصحيح الفصيح.
مؤلف هذا الشرح أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه، من علماء اللغة والنحو والأدب، أخذ عن ابن قتيبة والمبرد وثعلب وغيرهم، وكان شديد الانتصار للمذهب البصري، له مصنفات كثيرة في فنون مختلفة من أهمها كتابه هذا موضوع الموازنة، توفي - رحمه الله - في بغداد سنة 347هـ1.
__________
1 ترجمته في: تاريخ بغداد 9/428، وأنباه الرواة 2/113، وبغية الوعاة 2/36، وابن درستويه (دراسة شاملة عن حياته وآثاره، للدكتور: عبد الله الجبوري) .

(1/246)


منهجه في تصحيح الفصيح:
استهل ابن درستويه شرحه بمقدمة أشار فيها إلى أن سبب تأليف الكتاب، وهو تصحيح ما في الفصيح من أوهام، وإكمال ما فيه من نقص مع شرح ألفاظه وتفسيرها، وذلك لإقبال الناس عليه وحاجة كتاب الدواوين إليه.
ثم أبان فيها عن منهجه الذي سلكه في تأليفه، فقال: "فشرحنا لمن عني بحفظه معاني أبنيته وتصريف أمثلته ومقاييس نظائره، وتفسير ما يجب تفسيره من غريبه، واختلاف اللغات منه، دون ما لا يتعلق به، وبينا الصواب والخطأ منه، ونبهنا منه على مواضع السهو والإغفال من مؤلفه، لتتم فائدة قارئه، وتكثر المنفعة له فيه، ويعرف كثير من علل النحو، وضروبا من أبنية وتصاريف صحيح اللغة معتلها ووجوها من المجازات والحقائق والتشبيهات والاستعارات المؤدية إلى علم كثير من كتاب الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر مخاطبات بلغاء العرب وشعرائها"1.
وقد التزم بهذا المنهج في الكتاب كله تقريبا، ويمكن توضيح طريقته في ذلك بما يلي:
ابتدأ بشرح الباب الأول مضيفا إلى عنوان الباب كلمة "تصحيح"وهكذا في سائر الأبواب، لينبئ منذ البدء أنه معني بتصحيح
__________
1 تصحيح الفصيح 103، 104.

(1/247)


ما في تلك الأبواب من أخطاء، وذلك كقوله: "تصحيح الباب الأول، وهو باب فعلت بفتح العين "، وقوله في الباب الأخير: "تصحيح الباب الثاني والثلاثين، وهو المترجم باب الفرق".
2- قسم باب المصادر على ثلاثة أبواب، فبلغت أبواب كتابه، اثنين وثلاثين بابا، وهي في الفصيح ثلاثون بابا فقط.
3- يبدأ في شرح الباب بعرض بعض مسائل العربية ذات العلاقة بالألفاظ الواردة في الباب، وينبه في أثناء ذلك إلى أخطاء ثعلب وأوهامه، كإدراج بعض الألفاظ في غير أبوابها، أو التنبيه على أن بعض الأبواب مما بمكن الاستغناء عنه بباب سابق أو لاحق، أو بتفريق ألفاظه على سائر أبواب الكتاب. وقد يناقش في أثناء ذلك بعض أقوال العلماء فيقبل ما يراه صوابا ويرد ما يراه خاطئا.
فإذا انتهى من ذلك عمد إلى تفسير الغريب من ألفاظ الباب، فيبسط معنى اللفظ، ويذكر اشتقاقه وتصريفه. وكان يبدأ التفسير في الغالب بعبارة "فأما تفسير غريب هذا الباب"أو نحو ذلك.
4- يستشهد على ما يقول بالقرآن الكريم والحديث الشريف، وكلام العرب شعرا ونثرا، وتوزعت شواهده الشعرية عصور مختلفة، فاستشهد بشعر الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين، كما استشهد بشعر بعض المولدين.

(1/248)


5- يعد الكتاب من الشروح المطولة التي تنزع إلى التوسع في شرح ألفاظ الفصيح، واستقصاء القول في المسائل والتعليل لها، ولكن ابن درستويه قد يخالف هذا المنهج فيوجز في شرح بعض الألفاظ إيجازا شديدا، بل قد يدع بعضها من غير شرح.
6- يعنى عناية فائقة بلحن العامة، فلا يكاد يدع لفظا ذكره ثعلب إلا نبه على مقابله العامي، مصدرا ذلك بعبارة: "وإنما ذكره، لأن العامة تقول ... "، ثم يحكم على قولها بالخطأ، أو يصوبه حملا على لغة من لغات العرب، أو على قول أحد العلماء1.
7- ينتصر للمذهب البصري، بل يتعصب له أحيانا فيحمل كلام ثعلب على الخطأ "في أمور هي في الحقيقة من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين"2.
8- اعتمد القياس في أكثر ردوده على ثعلب، وعبر عن موقفه من القياس بمثل قوله: "....إنما المصدر الصحيح في الأم على الفعولة منها: الأموهة، لأن الكلام لا ضرورة فيه، ولأن القياس أولى من الشذوذ. وكان يجب عليه إذا حكى المسموع الشاذ أن يعين المقيس ولا يختار إلا الأجود"3.
__________
1 تصحيح الفصيح- ينظر مثلا -: ص 151، 159، 177، 182، 192، 216، 350.
2 الفصيح (مقدمة المحقق) 156. وينظر: تصحيح الفصيح 330، 331، (197/أ) ، (198/أ) ، (203/ب) ، (213/أ) ، وابن درستويه 123.
3 تصحيح الفصيح 385.

(1/249)


ثانيا- شرح ابن هشام اللخمي.
مؤلفه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن هشام اللخمي الأندلسي السبتي، أخذ عن أبي بكر بن العربي، وأبي طاهر السلفي، وغيرهما. له مصنفات عدة منها: شرح مقصورة ابن دريد، والمدخل إلى تقويم اللسان، وشرح الفصيح موضوع الموازنة. توفي – رحمه الله – بإشبيلية سنة 577 هـ1.
منهجه في شرح الفصيح:
افتتح ابن هشام شرحه بمقدمة ذكر فيها سبب تأليف هذا الكتاب ووضح منهجه فيهن فقال: "سألتني – وفقني الله وإياك لمنهجه القويم وصراطه المستقيم – أن أشرح لك ما وقع في كتاب الفصيح من الألفاظ المشكلة والمعاني المقفلة، وأنبهك على ما فيه من الهفوات والسقطات على ما اتصل بي في أصح الروايات، وذكرت أن أكثر ما تقدم إلى شرحه لم يشفوا عليلا، ولا بردوا غليلا، ولا استوفوا غرضا، ولا ميزوا من جوهره عرضا، وإنما فسروا من كل بعضا، وذكروا من فيض غيضا، وتركوا ما كان إيضاحه واجبا عليهم وفرضا، ولا سيما للمبتدئ الذي يخبط في الجهالة خبط عشواء، وتنبهم عليه أكثر الأشياء، وليس عنده من الأداة إلا القلم والدواة، فأجبتك إلى ذلك، رجاء ثواب الله وغفرانه، وابتغاء فضله وريحانه ولم أترك فيه حرفا إلا شرحته، ولا معنى مستغلقا إلا أبنته
__________
1 ترجمته في: الذيل والتكملة 6/70، وإشارة التعيين 298، والبلغة 189، وبغية الوعاة 1/48.

(1/250)


وأوضحته ... وها أنا أبدأ بشرح أبوابه، وذكر المهم من معانيه وإعرابه، على طريق الإيجاز والاختصار، ومجانبة الإكثار"1
ثم شرع مباشرة بعد هذه الخطبة في شرح ألفاظ الباب الأول من كتاب الفصيح، ثم ألفاظ الباب الثاني.... وهكذا إلى الباب الأخير. ويمكن توضيح المنهج الذي سار عليه في هذا الشرح بما يلي:
1- يذكر عبارة الفصيح كاملة مسبوقة بعبارة: "وقوله"أو "وقول أبي العباس"ويعني بالتعبيرين أبا العباس ثعلب مؤلف الفصيح، ثم يعقب ذلك وقوله: "قال الفسر"أو "قال الشارح". وقد يبدأ في شرح عبارة الفصيح دون إشارة.
2- يوضح معاني الألفاظ، ويذكر صيغها ومشتقاتها، بأسلوب أدبي واضح بين بعيد عن الغموض والإكثار والتكرار.
3- يشير إلى الألفاظ التي تلحن فيها العامة، ويوضح سبب الخطأ، ويذكر صوابه، وقد يحمل بعض ما تقوله العامة على لغة من لغات العرب، وإن كانت رديئة أو أقل فصاحة2.
4- عرض لعدد من المسائل اللغوية والصرفية والنحوية3، وقد يشير في أثناء ذلك إلى بعض مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين4.
__________
1 شرح ابن هشام 45.
2 ينظر مثلا: ص 137، 141، 161، 181ن 218ن 231، 245ن 247، 270.
3 ينظر: ص 27-32 من مقدمة محقق الكتاب الدكتور مهدي عبيد جاسم.
4 ص 130، 200، 203، 221.

(1/251)


5- يستشهد على كثير مما يقول بالقرآن الكريم وبعض قراءاته، وبالحديث الشريف، وبكلام العرب شعرا ونثرا. وكانت شواهده الشعرية موزعة على شعراء جاهليين، ومخضرمين وإسلاميين، ومحدثين.
6- يورد أقوال العلماء كالخليل، والأصمعي، وأبي زيد، ويونس، وسيبويه، والكسائي، والفراء، وابن السكيت، وأبي عبيد، وابن قتيبة، وغيرهم، وكان يصرح بأسمائهم في الغالب، وقد يشير إلى كتبهم.
7- اطلع على بعض ما كتب حول الفصيح من شروح واستدراكات ومآخذ، فنقل عن شرح الفصيح لابن درستويه، وشرح ابن خالويه، وشرح أبي عمر الزاهد، وشرح ابن جني، كما نقل بعض مآخذ الزجاج على ثعلب في المحاورة التي جرت بينهما، ومآخذ علي ابن حمزة أيضا على ثعلب في التنبيه على ما في الفصيح من الغلط1.
وقد تباين موقفه من مآخذ العلماء على ثعلب فأحيانا يوافقهم، وأحيانا يرد عليهم، وأحيانا يورد أقوالهم دون أن يبدئ في ذلك رأيا2.
8- نبه على بعض أوهام ثعلب كما شرط على نفسه في المقدمة، ولكن من غير تحامل أو تعسف في إصدار الأحكام3.
__________
1 ينظر مثلا: ص 47، 56، 92، 106، 107، 117، 185، 215، 216، 253، 263، 284.
2 ينظر مثلا: ص 47، 56، 92، 106، 107، 117، 185، 215، 216، 253، 263، 284.
3 ينظر مثلا: ص 47، 72، 95، 185، 277، 281.

(1/252)


9- السمة الغالبة على شرحه الإيجاز والاختصار، ولكنه قد ينزع إلى الاستطراد فيشرح بعض الألفاظ العارضة، ويفسر بعض الشواهد الشعرية، وينسبها إلى رواياتها وأقوال العلماء فيها، وقد يورد بعض القطوعات الشعرية، ويجري بعض الموازنات النقدية1.
10- ترجم لبعض الأعلام2، وعرف ببعض الأماكن والبلدان3، وشرح قصص بعض الأمثال، فعرف بقائليها، والمناسبات التي قيلت فيها4.
ثالثا: موطئة الفصيح لموطأة الفصيح (أو شرح نظم الفصيح) .
مؤلف هذا الشرح أبو عبد الله شمس الدين محمد بن الطيب بن محمد الفاسي، المغربي، المدني، ولد في مدينة فاس سنة 1110هـ، وبها نشأ وتلقى تحصيله العلمي، ثم ارتحل إلى أرض الحجاز، واستوطن المدينة ومنها أخذ يتنقل ويرتحل ويعود إلى أن توفي بها سنة 1173هـ.
أخذ عنه عدد كبير من طلاب العلم، من أشهرهم السيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي المتوفى سنة 1205هـ، صاحب تاج العروس، وترك عددا من الآثار في فنون مختلفة، من أهمها: إضاءة الراموس،
__________
1 ينظر مثلا: ص 48، 49، 56، 59، 108، 109، 112، 113، 191، 217، 224، 225، 253، 254، 259، 278، 301.
2 ينظر مثلا: ص 196، 217، 277.
3 ينظر مثلا: ص 123، 197، 269، 272، 273، 283.
4 ينظر مثلا: ص 217، 218، 219، 222، 223-225.

(1/253)


وهو حاشية على القاموس المحيط، وتحرير الرواية في تقرير الكفاية، وهو شرح كفاية المتحفط لابن الإجدابي، وموطئة الفصيح لموطأة الفصيح، وهو شرح نظم الفصيح لمالك بن المرحل المتوفى سنة 699هـ، وهو موضوع الموازنة في هذا المبحث1.
واخترت هذا الكتاب للموازنة، لأنه يمثل منهجا مختلفا من شروح الفصيح، وهو كونه شرحا غير مباشر للفصيح من خلال شرح إحدى منظوماته، فضلا عن تأخر زمن مؤلفه واختلاف بيئته.
منهجه في الكتاب:
استهل ابن الطيب شرحه بمقدمة ضافية وضح فيها تفاصيل المنهج الذي سلكه في تأليف هذا الشرح، فقال: "فهذه تحريرات..... حليت بها جيد نظم الفصيح، وأودعتها كل لفظ وائق ومعنى فصيح، وأوضحت فيها مشكلات حارت فيها العقول، وفتحت مقفلات ترددت فيها النقول، ولم أكن ممن ديدنه التقليد لأحد من البشر....ولكن أدور مع الحق حيثما دار، وأتصف بالإنصاف – بتوفيق الله تعالى – لأنه منار الفهم الذي عليه المدار ... وقد حققت القول في كل مسألة من المسائل.... ووشحت عطفه بوشاح الإعراب، فاستغنت ألفاظه عن الإيضاح والإعراب، ولم أدع تركيبا إلا أوضحت معناه، وبينت مبناه، ولم أخله من النصوص
__________
1 ينظر في ترجمة ابن الطيب: سلك الدرر 4/91-94، وفهرس الفهارس 2/1067-1071، والتاج 1/3، 360، وموطئة الفصيح (مقدمة المحقق)

(1/254)


والشواهد وربما قلدته من جواهر الآداب أسنى القلائد، لأنه قد يشير لحكم أدبية، ويستدعي أمثالا عربية، فنلم ببعض ما قيل في ذلك، ونقتصد في سلوك تلك المسالك، وإذا أنشدنا شاهدا بينا غريبه، وأوضحنا بعيده وقريبه، وإذا ألم بأحد عينا كنيته واسمه، وبينا في التعريف به حالته ولقبه ووسمه، وأوردنا ماله من الأخبار العجيبة، وقصدنا من مستحسنها بديعه وعجيبه، إحماضا لسائمة العقول والأبصار، وتنشيطا لها بالانتقال من مضمار إلى مضمار، وإذا أعاد لفظا عدنا لتفسيره، ولم نكتف بما مر من تقريره"1.
وبعد هذه المقدمة أخذ في شرح ألفاظ البسملة في نحو ست صفحات، ثم شرع بعد ذلك "في شرح أبيات الموطأة بيتا بيتا، وكلمة كلمة، ويفسر ألفاظ كل بيت على حدة، وأحيانا شطر بيت أو أقل، ويعلق عليه بما يوضح معناه العام، وينصب اهتمامه على اللفظ الفصيح الذي أورده ثعلب، ونظمه ابن المرحل، فيبين اللغات فيه، وينبه على أفصحيتها أو رداءتها، ويورد أقوال العلماء المؤيدة لأحدهما، وإن كان ثمة خلاف يوضحه، ويناقشه ثم يرد عليه أحيانا مدعوما بالدليل السماعي أو القياسي، وإن كانت اللغة عامية أو خاطئة أشار إلى ذلك.... ثم يختم ذلك بإعراب بيت الموطأة المشروح ... مع إشارة سريعة إلى ما فيه من نكات بلاغية وعروضية.
بعد ذلك ينتقل إلى البيت أو الشطر الذي يليه، فيفعل فيه كما فعل
__________
1 موطئة الفصيح (مقدمة الحقق الدكتور عبد الرحمن الحجيلي) 124.

(1/255)


بسابقه، وهكذا....حتى ينتهي من أبيات الباب الأول، ثم الباب الثاني، فالثالث فالرابع ... وهكذا. مع ملاحظة ما يقوم به من شرح لترجمة كل باب ذكره ثعلب قبل البدء في الكلام عليه"1.
وسأذكر فيما يلي نموذجا من شرح أبي سهل الهروي، وما يقابله من الشروح الثلاثة على الترتيب، ثم أوازن بين هذه الشروح في طريقة تناول المادة اللغوية، مبينا أوجه الاتفاق والافتراق فيما بينها.
1- قال أبو سهل:
"وأجن الماء يأجن ويأجن أجنا وأجونا، فهو آجن: إذا تغير لونه وريحه وطعمه، لتقادم عهده في الموضع الذي يكون فيه، إلا أنه يمكن شربه.
ومنه قول الراجز:
منهل الغراب فيه ميت ... كأنه من الأجون زيت
سقيت منه القوم واستقيت
شبه لون الماء لتغيره بلون الزيت. وقال علقمة بن عبدة:
إذا وردت ماء كأن جمامه
من الأجن حناء معا وصبيب
__________
1 ص 342-343.

(1/256)


جمام الماء: معظمه وكثرته. فشبهه في صفرته بالحناء، وهو معروف، وبالصبيب، وهو شجر يكون بالحجاز يختضب به مثل الحناء، يصفر ويصبغ به، وتخضب أيضا به الرؤوس. وفيه أقوال أخر غير هذا، تركت ذكرها هنا خوف الإطالة، وقد ذكرتها في الكتاب "المنمق"وبالله التوفيق"1.
2- وقال ابن درستويه:
"وأما قوله: أجن الماء يأجن، فمعناه: تغير لونه وطعمه لطول وكوده وتقادم عهده. ولذلك قال الشاعر:
ومنهل فيه الغراب ميت ... كأنه من الأجون زيت
سقيت منه القوم واستقيت
والأجون مصدره، واسم فاعله آجن، على بناء الفاعل، وإنما ذكره لأن العامة تقول فيه: أجن بكسر الجيم من الماضي، وهو خطأ، إلا بالفتح، فأما مستقبله فيكسر ويضم على قياس الباب"2.
3- وقال ابن هشام اللخمي:
"أجن الماء: تغير لونه وطعمه لتقادم عهده، وقالوا: أجن وأسن
__________
1 تصحيح الفصيح 138.
2 شرح ابن هشام 57.

(1/257)


كذلك، والأجنة في الماء أقل في الفساد من الأسنة، وقالوا: أسن".
4- وقال ابن الطيب الفاسي:
"قوله1:
وأجن الماء وماء آجن ... وأسن الماء وماء آسن
معناهما تغير في الطعم ... واللون والريح فقل بعلم
وقل من الفعلين في استقبال ... يفعل أو يفعل لا تبالي
يقال: أجن الماء يأجن بالضم، كينصر، ويأجن بالكسر، كيضرب، أجنا بالفتح، وأجونا بالضم، فهو آجن على فاعل، وفيه لغة: أجن بالكسر، يأجن بالفتح، كيفرح، أجنا بالتحريك فهو أجن ككتف، وهذه مقابلة الفصيح، والله أعلم: إذا تغير طعمه ولونه وريحه.
وأسن كأجن في لغاته وتصريفه ومعناه وفصيحه ومقابله، كما قال في القاموس والصحاح وغيرها. وفرق بينهما في المعنى صاحب المصباح، فقال: أجن: تغير إلا أنه يشرب، وأسن تغير فلم يشرب، وذكر هذه التفرقة ابن القطاع أيضا"2.
وعند الموازنة بين هذه النصوص تتضح لنا أوجه الاتفاق والافتراق
__________
1 أي قول ناظم الفصيح مالك بن المرحل.
2 موطئة الفصيح 229.

(1/258)


التالية:
1- اتفق الجميع على بيان المدلول اللغوي لمادة "أجن"إلا أن أبا سهل كان أكثر توضيحا لها من الباقين.
2- اتفق الجميع على ذكر تصاريف المادة عدا ابن هشام.
3- اتفق الجميع على ذكر اللغة الأخرى في الفعل المضارع عدا ابن هشام أيضا.
4- استشهد أبو سهل وابن درستويه لتوضيح شرحهما بشاهد من الرجز، ولم ينسباهن وزاد عليه أبو سهل شاهدا آخر من الشعر ونسبه لقائله، أما ابن هشام وابن الطيب فلم يستشهدا على شرح هذه المادة.
5- انفرد أبو سهل بذكر بعض الظواهر البلاغية، كما استطرد في شرح وتوضيح بعض ألفاظ الشاهد الشعري، ولكن بإيجاز، معللا ذلك بخشية الإطالة، مع الإحالة على أحد كتبه لاستيفاء القول فيما أوجز، وكأنه أدرك أن من مقومات المنهج العلمي السليم ألا يستطرد أو يتوسع في شرح ألفاظ خارجة عن مادة كتاب الفصيح.
6- عد ابن درستويه "أجن"بكسر الجيم في الماضي من خطأ العامة، وعدها ابن هشام وابن الطيب لغة أخرى تقابل الفصيح، ولم يرد شيء من ذلك عند أبي سهل.

(1/259)


7- م يذكر أبوسهل وابن درستويه مادة "أسن"، وقد ذكرت في الفصيح والتلويح تالية لمادة "أجن"وفسرتا بمعنى واحد، وكذلك ذكهما معا ابن هشام وابن الطيب، لكنهما اختلفا في تفسيرهما، ففرق بينهما الأول، وفسرهما الثاني بمعنى واحد، ثم أشار إلى تفريق بعض العلماء بينهما.
8- صرح ابن الطيب ببعض المصادر التي اعتمد عليها، ولم يرد شيء من ذلك عند الباقين.
وبعد فهذه النصوص المذكورة لا تمثل مناهج الشراح الأربعة بكامل تفاصيلها، ففي شروحهم أمثلة أخرى كثيرة تتفق وتفترق، وغاية الأمر مما ذكرناه التمثيل لا الحصر.

(1/260)