الأصول في النحو

باب الحروف التي جاءت للمعاني
مدخل
...
باب الحروف التي جاءت للمعاني:
قد ذكرنا أول الكتاب ما يعرفُ به الحرف والفرق بينه وبين الاسم والفعل، وإنما هي أدوات قليلة تدخل في الأسماء والأفعال وتحفظ لقلتها, وسنذكرها بجميع أنواعها وكلها مبني, وحقها البناء على السكون وما بنيَ منها على حركة فإنما حرك لسكون ما قبله أو لأنه حرف واحد فلا يمكن أن يبتدأ به إلا متحركًا، وهي تنقسم أربعة أقسامٍ: ساكنٌ يقال لهُ موقوفٌ, ومضمومٌ, ومكسور, ومفتوح الأولِ.
الموقوف: ويبدأ بما كان منه على حرفين وذلكَ أَمْ، وأَوْ، وهَلْ وتكون بمعنى: "قَدْ", ولَم نفيُ فَعَلٍ, ولَنْ نفيُ سيفعلُ, فإنْ للجزاء ووجوب الثاني لوجوب الأول، وتكون لغوًا في "ما إنْ يفعلُ" وتكون "كما" في معنى "ليسَ" قال الشاعر:
وَرجِّ الفتى لِلخَيْرِ ما إنْ رأَيتَهُ1
__________
1 من شواهد سيبويه 2/ 306 على زيادة "إن" بعد "ما" للتوكيد، وما ههنا مؤدية عن معنى الزمان، فموضعها نصب على الظرفية. وهو صدر بيت عجزه:
على السن خيرًا لا يزال يزيد
والمعنى: وجه للخير ما رأيته يزيد خيره بزيادة سنه ويكف عن صباه وجهله، ولم يعرف قائل هذا البيت.
وانظر: شرح السيرافي 5/ 513, والخصائص 1/ 110, والارتشاف 383، ومفاتيح العلوم للسكاكي/ 53، وابن يعيش 8/ 130، والمغني 2/ 756.

(2/206)


ومن ذلك "أنْ" المفتوحة يكون وما بعدها بمنزلة المصدر، وتكون بمنزلة "أَي" وتكون مخففة من الثقيلة وتكون لغوًا نحو قولك: لمَّا أَنْ جَاءَ. وأما واللهِ أَنْ فَعَلْتَ, فأما كونها بمنزلة المصدر فقولك: أَنْ تأتيني خيرٌ لَك واللام تحذف من أَنْ كقوله: أَنْ تقتلَ أحدهما وأنْ كانَ ذَا مالٍ, ويجوز أن تضيف إلى "أَنْ" الأسماء تقول: إنهُ أَهلٌ أَن يفعلَ ومخافة أَن يفعلَ، وإنْ شئت قلت: إنَّهُ أهلٌ أنْ يفعلَ ومخافةُ أنْ يفعلَ, وإنَّهُ خليقٌ لأَنْ يفعلَ, وإنَّهُ خليقٌ أنْ يفعلَ, وعسيتَ أَنْ تفعلَ, وقاربتَ أَنْ تفعلَ ودنوتَ أَنْ تفعلَ، ولا تقول: عسيتَ الفعل ولا للفعلِ وتقول: عسى أَنْ يفعلَ وعسى أَن يفعلا وعسى أَن يفعلوا، وتكون عسى للواحد وللاثنين وللجميع, والمذكر والمؤنث. ومن العرب من يقول: عَسى, وعَسيا، وعسوا، وعسيتُ، وعسيتِ، وعسينَ، فمن قال ذاك كانت "أَنْ" فيهن منصوبةً, ومن العرب من يقول: عس يفعلُ فشبهها بكادَ يفعلُ، فيفعلُ في موضعِ الاسمِ المنصوب في قوله: عسَى الغويرُ أَبؤسًا1.
فأما "كادَ" فلا يذكرونَ فيها "أَنْ" وكذلك كربَ يفعلُ ومعناهما واحدٌ, وجعلَ وأَخذَ فالفعلُ هنا بمنزلة الفعلِ في "كانَ" إذا قلت: كانَ يقولُ, وهو في موضع اسم منصوب بمنزلته ثَم وقد جاء في الشعر: كادَ أن يفعلَ, ويجوزُ في الشعر: لعلِّي أَن أفعلَ بمنزلة عسيتُ أَنْ أفعلَ، وتقول: يوشكُ أَنْ تجيءَ، فيكون موضعُ "أَن" رفعًا, ويجوز أن يكون نصبًا وقد يجوز: "يُوشكُ" تجيء بمنزلة "عسَى" قال أمية بن أبي الصلتِ:
__________
1 هذا مثل استشهد به سيبويه 1/ 478 وفي مجمع الأمثال 2/ 17 "الغوير: تصغير غار, والأبؤس جمع بؤس وهو الشدة". وأصل هذا المثل فيما يقال من قول الزباء, حين قالت لقومها عند رجوع قصير من العراق ومعه الرجال, وبات بالغوير على طريقه: عسى الغوير أبؤسًا، أي: لعل الشر يأتيكم من قبل الغار.
وهو يضرب للرجل يخبر بالشر فيتهم به.
وانظر: مجالس ثعلب/ 372, ومعجم البلدان 4/ 220, واللسان 19/ 284, والخزانة 4/ 78-79, وجمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري 2/ 50.

(2/207)


يُوشكُ مَنْ فُرَّ مِنْ منيتهِ ... في بعضِ غراتهِ يُوافقُها1
قال سيبويه: وسألتهُ, يعني الخليل عن معنى أريدُ لأَنْ تفعلَ؟ فقال: المعنى إرادتي لهذا, كما قال تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} 2.
وأما "أنْ" التي بمعنى "أيْ" فنحو قوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} 3 ومثله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّه} 4 فأما كتبت إليه أن افعل، وأمرتهُ أَنْ قُمْ فتكون على وجهينِ: على التي تنصب الأفعالَ وعلى "أَي" ووصلك لها بالأمرِ كوصلِكَ للذي يفعلُ إذا خاطبتَ, والدليل على أنَّها يجوز أن تكون الناصبة قولُكَ: أَوعز إليهِ بأَن افعلْ وقولُهم: أرسل إليه أنْ ما أَنتَ وذَا فهي على أي والتي بمعنى أَنْ لا تجيء إلا بعد استغناء الكلام؛ لأنها تفسيرٌ وأما مخففةٌ من الثقيلة فنحو قوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 5، يريدُ "أَنهُ" ويجوز الإِضمار بعد أَنْ هذه وقولُكَ "كأنَّ" وهي أنَّ دخلت عليها الكاف6 كما دخلت على ما خففت منه, وقال سيبويه:
__________
1 من شواهد الكتاب 1/ 479 على إسقاط أن بعد يوشك ضرورة كما أسقطت بعد "عسى" والمستعمل في الكلام إثباتها، ومعنى يوشك يقارب، والغرة: الغفلة عن الدهر وصروفه أي: لا ينجي من المنية شيء.
وانظر: الكامل 43, والصاحبي 172, والمفصل للزمخشري 172, وابن يعيش 7/ 126, والتصريح 1/ 206, والأشموني 1/ 444, وشواهد الألفية للعاملي 102.
2 الزمر: 12, في سيبويه 1/ 479 كما قال عز وجل:.... الآية, إنما هو أمرت لهذا.
3 سورة ص: 6.
4 المائدة: 117.
5 يونس: 10 وانظر الكتاب 1/ 480.
6 اتفق البصريون والكوفيون على تركيب "كأن" فقد ذكر الفراء أنها مركبة من "إن" وكاف التشبيه والأصل: إن زيدًا كأسد، ثم قدم الكاف للاهتمام بالتشبيه، وفتحت همزة إن؛ لأن المكسورة لا تقع بعد حرف الجر. وانظر الكتاب 3/ 67، وشرح الكافية 2/ 334, والهمع 9/ 133.

(2/208)


لو أنَّهم جعلوا أن المخففة بمنزلة إنَّما كان قويا1 وفي هذا البابِ شيءٌ مشكلٌ أنا أبينهُ.
اعلم: أن الأفعال على ضروب ثلاثة: فضرب منها يقين وهو عَلِمتُ وضَرب هو لتوقعِ الشيءِ نحو: رجوتُ وخفتُ، وضربٍ هو بينهما يحمل على ذا, وعلى ذَا نحو: ظننتُ وحسبتُ.
واعلم: أن "أنّ" إنما هي لما تتيقنه ويستقر عندك و"أَنْ" الخفيفة إنما هي لما لَم يقعْ نحو قولك: أُريد أَنْ تذهبَ، فإذا كانت أن الخفيفة بعد "علمتُ" فهي مخففةٌ من الثقيلة وإذا خففت أتى بلا والسين وسوف عوضًا مما حذف, وجعلوا حذفها دليلًا على الإِضمار, وقد ذكروا فيما تقدم و"أَنْ" التي تنصب بها الأفعال تقع بعد رجوت وخفتُ؛ تقول: خفتُ أَنْ لا تفعلَ. فأما بعد حسبت وظننت فإنها تكون على ضربين: إنْ كان حسبانكَ قد استقر كانت مخففة من الثقيلة وإن حملته على الشك كانت خفيفة كقوله: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 2, تقرأ بالرفع والنصب, فمن رفع فكأنه أرادَ وحسبوا أَنْ لا تكون لما استقر تقديرهم فصار عندهم بمنزلة اليقين وهذا مذهب مشايخنا3.
وقد حكي عن المازني نحو منه ثم يتسعون فيحملون "رجوتُ" على علمتُ إذا استقر عندهم الرجاء وهذا أبعدها.
وحكي عن أبي العباس ولستُ أحفظهُ من قوله, أنه إن سُئلَ عن "أَنْ" الخفيفة المفتوحة ومواضعها قال: "أنْ" الخفيفة المفتوحة أصلها أَنَّ المفتوحة الثقيلة في جميع أحوالها، وإنها مفتوحة كما انفتحت أَنَّ المعمول فيها كأنما خففت أنَّ فصارت أنْ مخففة, فلها في الكلام موضعان: أحدهما تقع فيه على
__________
1 انظر الكتاب 1/ 466.
2 المائدة: 71 "والقراءتان برفع الفعل ونصبه من السبعة". غيث النفع/ 86, والنشر 2/ 255.
3 انظر المقتضب 2/ 32 و3/ 7-8.

(2/209)


الأسماء والأخبار, والآخر: تقع فيه على الأفعال المضارعة للأسماء. فأما كون وقوعها على الأسماء والأخبار, فإن ذلك لها إذا دخلت محل "أَنَّ" الثقيلة أعني: في التأكيد للابتداء والخبر, فإذا كانت بهذه المنزلة لم يقع عليها إلا فعل واجب وكانت مؤكدة لما تدخل عليه, وأما كون وقوعها على الأفعال المضارعة فلأنَّ العامل فيها غير واجب ولا واقع، وإنما يترجى كونه ووقوعه فإذا وجدت العامل فيها واجبًا على "أن" ففتحتها وأوقعتها على المضمر وجعلته اسمًا لها. وأما قولهم: أما أَن جزاكَ الله خيرًا، أو أما أنْ يغفر الله لكَ, قال سيبويه: إنما جاز لأنه دعاءٌ وقال: سمعناهم يحذفونَ إنَّ المكسورة في هذا الموضع، ولا يجوز حذفها في غيره. يقولون: أما إنْ جزاكَ الله خيرًا1، وهذا على إضمار الهاء في المحذوفة وقال: يجوزُ ما علمتُ إلا أنْ تأتيهُ إذا أردت معنى الإِشارة، لا أنكَ علمتَ ذلك وتيقنتهُ2, والمبتدأ وخبره بعد "أَن" يحسنُ بلا تعويض تقول: قَد علمتُ أَن عمرو ذاهبٌ وأَنت تريدُ "أَنهُ" ويجوز: كتبتُ إليه أن لا تقلْ ذاكَ، وأَن ترفعَ "تقولُ" وأنْ تنصب, فالجزم على النهي، والنصبُ على "لئلا", والرفعُ على "لأنَكَ لا تقول" أو بأنَّكَ لا تقول وقد تكون أَنْ بمنزلة لام القسم في قول الله: {أنْ لَوْ فَعَلَ} وتوكيدًا في قوله: لَما أَن فَعَلَ.
ومن الحروف "مَا" وهي تكونُ نفي هو يفعلُ إذا كان في الحال وتكونُ كلَيْسَ في لغة أهل الحجاز3, وتكون توكيدًا لغوًا4 تغيرُ الحرفَ عن عمله نحو: إنما وكأَنما ولعلما جعلتهنَّ بمنزلة حروف الابتداء، ومن [ذلك] 5 حيثما
__________
1 انظر الكتاب 1/ 482.
2 انظر الكتاب 1/ 482.
3 في الكتاب 1/ 28 "وأما أهل الحجاز فيشبهونها بليس، إذ كان معناها كمعناها".
وانظر الخصائص 1/ 125, وأمالي ابن الشجري 2/ 260, والإنصاف/ 107.
4 قال المبرد في المقتضب 2/ 54: "فما" تدخل على ضربين: أحدهما: أن تكون زائدة للتوكيد فلا يتغير الكلام بها عن عمل ولا معنى.
5 أضفت كلمة "ذلك" لإيضاح المعنى.

(2/210)


صارت بمجيء "ما" بمنزلة "إنْ" التي للجزاء وما في "لمَّا" مغيرة عن حال لم كما غيرت "لو ما" ألا ترى أنك تقول: "لمَّا" ولا تتبعها شيئًا, ومنها "لا" وهي نفي لقوله يَفْعل ولم يقع الفعلُ، وتكون "كما" في التوكيد واللغو في قوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} 1 وهو لأن يعلم ولا تكون توكيدًا إلا في الموضع الذي لا يلتبس فيه الإِيجاب بالنفي من أجل المعنى. وقد تغير الشيء عن حاله كما تفعلُ "مَا" وذلك قولك: "لولا" غيرت معنى لَو وستبين إذا ذكرنا معنى "لو" وكذلك هَلا صيرتْ "لا" هل في معنى آخر، وتكون ضدا لنَعَمْ وَبَلى, ومنها "لوْ" وهو كان التي للجزاء لأَنَّ إنْ توقع الثاني مِنْ أجل وقوع الأول، ولم تمنع الثاني من أجل امتناع الأول تقول: إنْ جئتني أكرمتك فالإِكرامُ إنما يكون متى إذا كان منك مجيءٌ وتقول: لو جئتني لأكرمتُكَ، والمعنى: أنه امتنع إكرامي من أجل امتناع مجيئك. وقال سيبويه: "لو" لما كان سيقع لوقوع غيره2، وهو يرجع إلى هذا المعنى؛ لأنه لم يقع الأول لَمْ يقع الثاني, فتقدير إنْ قبل "لَو" تقول: إنْ أتيتني أَتيتكَ, يريد فيما يستقبل, فإذا لم تفعلْ وطالبتكَ بالإِتيان قلت: لو أتيتني أَتيتُكَ. ومنها "لَولا" وهي مركبة مِنْ معنى إنْ ولَو, وتبتدأ بعدها الأسماء وذلك أنها تمنع الثاني لوجود الأول, تقول: لَولا زيدٌ لهَلكنا تريدُ: لولا زيدٌ في هذا المكان لهلكنا, وإنما امتنع الهلاك لوجود زيدٍ في المكان وقال عز وجل: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} 3 وقد يستعملونها بمعنى هَلا يولونها الفعل، ومنها "كي" وهي جواب لقوله: كيمه, كما تقول: لِمه4. ومنها "بَلْ" وهي لترك شيءٍ من الكلام وأخذٍ في غيره. ومنها "قَدْ" وهي جوابٌ لقوله: لمَّا يفعلْ, وزعم الخليل: أَنَّ هذا لقومٍ
__________
1 الحديد: 29، قال سيبويه 1/ 306: وأما "لا" فتكون "كما" في التوكيد واللغو. وذكر الآية وقال: وتكون لا نفيًا لقوله: يفعل ولم يقع فتقول: لا يفعل.
2 انظر الكتاب 2/ 307.
3 سبأ: 31.
4 قال سيبويه 2/ 306: وأما "كي" فجواب لقوله: كيمه، كما يقول: لمه فتقول: ليفعل كذا وكذا.

(2/211)


ينتظرونَ الخبرَ1, وقد تكونُ "قَدْ" بمنزلة رُبَّما. ومنها "يَا" وهي تنبيهٌ وقد ذكرناها في بابِ النداء، ومنها "مِنْ" وهي لابتداء الغايةِ وتكون للتبعيض وتدخل توكيدًا بمنزلة "مَا" إلا أنها تجرُّ, وذلك قوله: ما أتاني من رجلٍ وويحَهُ من رجلٍ أكدتهما بمنْ, وقد ذكرناها فيما تقدمَ. ومنها "مذْ" وهي في قول مَن جَرَّ بَها حرفٌ فهي لابتداء غاية الأيام والأحيان وحقُّ "مذ" أن لا تدخل على ما تدخلُ عليهِ "مِن" وكذلك "مِنْ" لا تدخلُ على ما تدخل عليه "مذ". ومنها "عن" وهي لِمَا عدا الشيء وقد استعملت اسمًا, وقد ذكرتها في الظروف. وذكرها سيبويه في الحروف وفي الأسماء فقال: "عن" اسم إذا قلتَ: مِنْ عَن يمينِ كذا2, وأما "مَع" فهي اسمٌ3 ويدلك على أَنها اسمٌ أنها متحركة، ولو كانت حرفًا لَمَا جاز أَن تحرك العين؛ لأنَّ الحروفَ لا تحرك إذا كان قبلها متحركٌ.
__________
1 انظر الكتاب 2/ 307.
2 انظر الكتاب 2/ 309، قال سيبويه: "وأما عن فاسم إذا قلت: من عن يمينك، لأن "من" لا تعمل إلا في الأسماء". وقال في 2/ 308: "وأما عن فلما عدا الشيء وذلك قولك: أطعمه عن جوع, جعل الجوع منصرفًا تاركًا له قد جاوزه".
3 قال سيبويه 2/ 309: "وإذ وهي لما مضى من الدهر" وهي ظرف بمنزلة "مع".

(2/212)


باب أم وأو والفصل بينهما:
اعلم: أنَّ "أَمْ" لا تكون إلا استفهامًا، وهي على وجهين: على معنى أيهما وأيهم, وعلى أن تكون منقطعة من الأول. فإذا كان الكلام بها بمنزلة أيهما وأيّهم فهو نحو قولك: أزَيدٌ عندكَ أمْ عمرٌو؟ وأزيدًا لقيت أم بشرًا؟ تقديم الاسم أحسن؛ لأَنكَ عنه تسألُ ويجوزُ تقديم الفعل. وإذا قلت: أضَربتَ زيدًا أمْ قتلتَهُ كان البدء بالفعلِ أحَسن لأنك عنهُ تسأل، وتقول: ما أبالي أزَيدًا لقيتُ أمْ عمرًا وسواءٌ عليَّ أزَيدًا كلمتُ أمْ عمرًا، وما أدَري أزيدٌ ثُمَّ عمرو أدخلت حرف الاستفهام للتسوية وعلى ذا: ما أدري أقامَ أمْ قعدَ على التسوية. وأما المنقطعة، فنحو قولك: أعَمرٌو عندكَ أمْ عندكَ زيدٌ؟ وإنَّها لإِبلٌ أَمْ شاءٌ؟ ويجوز حذف ألف الاستفهام في الضرورة. فأما "أو" فقد ذكرناها مع حروف العطف كما ذكرنا أمْ, وقد تختلطُ مسائلهما لاشتراك بينهما في بعض المعاني.
واعلم: أنَّ "أَوْ" إنما تثبت أحد الشيئين أو الأشياء, وأنَّ أَمْ مرتبتها أنْ تأتي بعد أو, ويقول القائل: لقيَ زيدٌ عمرًا أوْ خالدًا, فيثبت عندك أنه قد لقيَ أحدهما إلا أنكَ لا تدري أيَّهما هو فتقول: حَسبَ أعَمرًا لقيَ زيدٌ أَمْ خالدًا. وكذلك إذا قال لك القائل: قد وهبَ لكَ أبوك غلامًا أوْ جاريةً, فقد ثبت عندك أن أحدهما قد وهب لك, إلا أنك لا تدري أَغلامٌ أم جاريةٌ, فإذا سألتَ أباكَ عنْ ذلك قلتَ: أَغلامًا وهبتَ لي أمْ جاريةً؟ وتقول: أَيَّهم تضربُ أو تقتلُ؟ ومن يأتيكَ أو يحدثكَ؟ لأن "أَمْ" قد استقر على أَي ومَنْ, وكأنَّكَ قلتَ: زيدًا أمْ عمرًا تضربُ أوَ تقتلُ؟ ثم أَتيت بأَي موضع زيدٍ وعمرٍو

(2/213)


فقلت: أيهما تضربُ أوْ تقتلُ؟ وعلى هذا يجري "مَا ومَتى وكيفَ وأينَ" لأن جميع هذه الأسماء إذا كانت استفهامًا فقد قامت مقام الألف وأمْ جميعًا.
واعلم: أن جواب أوْ, نَعَمْ أو لا, وجواب "أَم" الشيء بعينه؛ إن سأل سائلٌ عن اسم أجبت بالاسم وإن سأل عن الفعل أجبتَ بالفعل، إذا قال: أَزيدٌ في الدارِ أَوْ عمرٌو؟ فالجوابُ نَعَمْ أو لا؛ لأن المعنى: أَأَحدهُما في الدار؟ وجوابُ أَأَحدهما في الدار: نَعَمْ أو لا, وكذلك إذا قال: أَتقعدُ أو تقومُ؟ فالجوابُ: نَعمْ أو لا, فإن قال: أزيدٌ أم عمرو في الدار؟ فالجواب أن تقولَ: زيدٌ إذا كانَ هو الذي في الدار. وكذلك إذا قال: أَتقومُ أمَ تقعدُ؟ قلت: أَقعدُ, "فأَوْ" تثبتُ أَحدَ الشيئين أَو الأشياء مبهمًا وأم تقتضي وتطلب إيضاح ذلك المبهم, و"أَوْ" تقوم مقامَ "أَمْ" مع هل وذلك لأنكَ لم تذكر الألف وأو لا تعادلُ الألفَ وذلك قولُهم: هَلْ عندكَ شعيرٌ أو برٌّ أو تَمرٌ؟ وهل تأتينا أو تحدثنا؟ لا يجوز أن تدخلَ "أَمْ" في "هَلْ" إلا على كلامين وكذلك سائر حروف الاستفهام وتقول: ما أدري هَل تأتينا أو تحدثنا؟ يكون في التسوية كما هو في الاستفهام وإذا قلت: أَزيدٌ أفضل أَمْ عمرو؟ لا يجوز إلا "بأَمْ" لأنك تسأل عن أيهما أفضلُ ولو قلت: "أَو" لم يصلح؛ لأن المعنى يصير أحدهما أفضل فليسَ هذا بكلام ولكنك لو قلت: أَزيدٌ أو عمرو أَفضلُ أم خالدٌ؟ جاز لأنَّ المعنى أحد ذَينِ أفضل أمْ خالدٌ؟ وجواب هذه المسألة أن تقول: خالدٌ إنْ كان هو الأفضل، أو أحدهما إنْ كان هو الأفضل, ويوضح هذه المسألة أن يقول القائل: الحسنُ أو الحسينُ أَشرفُ أم ابن الحنفيةِ؟ فالجواب في هذه المسألة أن تقول: أحدهما بهذا اللفظ ولا يجوز أن تقول: الحسنُ دونَ الحسينِ أو الحسينُ دونَ الحسنِ؛ لأنه إنما سألك: أأَحدهما أَشرفُ أَم ابن الحنفيةِ؟ وكذَاكَ الدرُّ أو الياقوتُ أَفضلُ أم الزجاج؟ فالجواب أحدهما, فإن كان قال: الزُّجاجُ أو الخزفُ أفضلْ أم الياقوت؟ قلت: الياقوتُ. وتقول: ما أدري أقامَ أو قعدَ، إذا لم يطل القيام ولم يبن من سرعته وكان بمنزلة ما لم يكن, كما تقول: تكلمتُ ولَم أَتكلم فيجوز أن يكونَ ثمَّ كلامٌ ولكنه لقلّته جعلهُ بمنزلة مَنْ لم يتكلمْ، ويجوز أن يكون لَم يبلغ

(2/214)


به المراد فصار بمنزلة مَنْ لم يتكلم، وهذا في الحكم بمنزلة قولك: صليتَ ولَمْ تصلِّ فإذا قال: ما أَدري أقام أو قعدَ، وهو يريد ذا المعنى فهو قد عَلمَ منه قيامه, ولكنه لم يعتد به وليس "لأمْ" هنا معنى؛ لأنهُ إذا قال: ما أَدري أَقامَ أمْ قعدَ, فقد استوى جهلهُ في القيام والقعود، وههنا قيام قد علم إلا أنه جعل بمنزلة ما يشك فيه لما خبرتك، فعلى هذا تقول: ما أدري أَقامَ أو قعدَ إذا كان لم يبن قيامهُ حتى قعدَ, فهذا الباب كله إنما جعل بأَوْ. وكذلك أَأَذنَ أو أقامَ إذا كان ساعة إذنٍ أقامَ، وما أدري أَبكى أو سكتَ لأنهُ لم يعد بكاؤهُ بكاءً ولا سكوته سكوتًا، فإن كان لا يدري أَأَذنَ أم أَقامَ قال: ما أدري أَأذنَ أم أقامَ كما تقول: ما أدري أَزيدٌ في الدار أو عمرٌو، إذا كنت تستيقن أن أحدهما في الدار ولا تدري أيهما هو.

(2/215)


باب ما جاء من ذلك على ثلاثة أحرف:
فمن ذلك "عَلَى" ذكر محمد بن يزيد أنها تكون حرفًا واسمًا وفعلًا1، وأنّ جميع ذلك مأخوذٌ من الاستعلاء وقد ذكرتها فيما تقدم. وقال سيبويه: "عَلى" معناها استعلاءُ الشيءِ، ويكون أَن تطوي مستعليًا كقولك: أمررت يدي عليه ومررتُ على فلانٍ كالمثل, وكذلك علينا أميرٌ وعليه دينٌ؛ لأنهُ شيءٌ اعتلاهُ2, ويكونُ مررتُ عليه: مررت على مكانه. ويجيءُ كالمثل وهو اسم لا يكونُ إلا ظرفًا، قال3: ويدل على أنه اسمٌ قول بعضهم: غَدَتْ مِنْ عَليهِ4.... ومن ذلكَ "إلى" وهي منتهًى لابتداءِ الغايةِ ومنها "سَوفَ" وهي
__________
1 قال المبرد في المقتضب 1/ 46: وقد يكون اللفظ واحدًا ويدل على اسم وفعل نحو قولك: زيد على الجبل يا فتى، وزيد علا الجبل، فيكون "علا" فعلًا، ويكون حرفًا خافضًا، والمعنى قريب. وقال في ج3/ 53: فأما "على" فلا تصلح إمالتها؛ لأنها من علوت وهي اسم، يدلك على ذلك قولهم: جئت من عليه، أي: من فوقه.
2 انظر الكتاب: 2/ 310.
3 الذي قال هو سيبويه, انظر الكتاب 2/ 310.
4 يشير إلى قول الشاعر مزاحم العقيلي في وصف قطاة:
غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها ... تصل وعن قيض ببيداء مجهل
وهو من شواهد سيبويه 2/ 310، على دخول "من" على "على" لأنها اسم في تأويل "فوق" كأنه قال: غدت من فوقه.
وصف قطاة غدت عن فرخها طالبة للورد بعد تمام الخمس، وهو أن تبقى عن الماء ثلاثًا بعد يوم الورد ثم ترد اليوم الخامس ليوم الورد، معنى تصل: يصل جوفها يبس من العطش، والصلال والصلصال: كل شيء جاف يصوت إذا قرع كالفخار.
والقيض: قشور البيض، يريد أنها كما أفرخت بيضها فهي تسرع في طيرانها إشفاقًا عليها، والبيداء: القفر، والمجهل: الذي لا يهتدى فيه، ويروى البيت: بزيراء مجهل.
وانظر: المقتضب 2/ 53, والكامل 488، وأدب الكاتب 500، ومعجم مقاييس اللغة 4/ 116، والمخصص 14/ 57، وابن يعيش 8/ 39، والاقتضاب للبطليوسي 428, والعيني 3/ 311، والخزانة 4/ 253.

(2/216)


تنفيسٌ فيما لم يكن بعد. ألا تراه يقول: سوفتهُ وهذا لفظُ سيبويه1، ومنها "إنَّ" وهي توكيد لقوله: زيدٌ منطلقٌ، وإذا خففت فهي كذلك غير أنَّ لامَ التوكيد تلزمها إذا خفضت عوضًا لما ذهب منها لئلا تلتبس بأن التي للنفي، ومنها "ليت" وهي تَمنٍّ, ومنها بَلى, وهي توجبُ [بها بعد النفي] 2 ومنها نعم وهي عدةٌ وتصديقٌ, قال سيبويه: ولَيس بَلى ونَعَمْ اسمين وإذا استفهمتَ فأجبتَ بنَعمْ3، قال أبو بكر: والدليلُ على أنَّ "نعَم" حرفٌ, أنها نقيضةُ "لا" ومنها "إذن" وهي جوابٌ وجزاءٌ, ومنها إلا وهي تنبيهٌ.
__________
1 انظر الكتاب 2/ 311.
2 التصحيح من سيبويه 2/ 312.
3 انظر الكتاب 2/ 312.

(2/217)


باب ما جاء منها على أربعة حروف:
من ذلك: حتى, هي كإلى وقد بين أَمرها في بابها ولها نحو ليس "لإِلى" يقول الرجلُ: إنما أَنا إليكَ أي: أنتَ غايتي ولا تكون "حتى" ههُنا، وهي أَعم في الكلام [من] 1 حتى. تقول: قمتُ إليه فتجعلهُ منتهًى لهُ مِنْ مكانِكَ، ولا تقولُ: حتاهُ، ومنها "لكنْ" خفيفةٌ وثقيلةٌ, توجبُ بها بعد النفي, وقد ذكرناها فيما تقدمَ. لَعَلَّ, قال سيبويه: لعلَّ وعسى طَمعٌ وإشفاق2.
__________
1 أضفت كلمة "من" لإيضاح المعنى، وانظر الكتاب 2/ 310 " ... ولها في الفعل نحو: ليس لإلى ويقول الرجل: إنما أنا إليك ... أي: إنما أنت غايتي، ولا تكون "حتى" ههنا، فهذا أمر "إلى" وأصله وإن اتسعت، وهي أعم في الكلام من "حتى".
2 انظر الكتاب 2/ 311.

(2/218)


باب ما جاء منها على حرف واحد:
كل هذه التي جاءت على حرف واحد متحركات إلا لام المعرفة, فإنها ساكنة, فإذا أرادوا أن يبدءوا أيضًا أتوا بألف الوصل قبلها، وأما لام الأمر فهي مكسورة, ويجوز أن تسكن ولا تسكن إلا أن يكون قبلها شيءٌ نحو قولك: فليقمْ زيدٌ, فالحروف على ثلاثة أضربٍ: مبني على السكون وعلى الفتح وعلى الكسر؛ فأما المبني على الفتح فواو العطف وليس فيه دليل أن أحد المعطوفين قبل الآخر, والفاء كالواو غير أنها تجعل ذلك بعضه في أثر بعض, وكاف الجر للتشبيه ولام الإِضافة مع المضمر وفي الاستغاثة وواو القسم وتاء القسم بمنزلتها, والسين في "سيفعلُ" وزعم الخليل أنها جواب لَن1, وألف الاستفهام ولام اليمين في لأفعلنَّ، ولام الابتداء في قولك: لزيدٌ منطلقٌ, وأما المبني على الكسر فباء الجر, وهي للإِلزاق والاختلاط، ولام الإِضافة مع الظاهر، ومعناها المُلْك واستحقاقُ الشيء. فجميع هذه جاءت قبل الحرف الذي جيء بها له, فأَما ما جاء بَعْدُ فالكاف التي تكون للخطاب فقط في قولك: ذاكَ, والتاء في أَنتَ.
__________
1 انظر الكتاب 2/ 304.

(2/219)


باب الحرف المبني مع حرف:
من الحروف ما يبنى مع غيره ويصير كالحرف الواحد ويغير المعنى؛ فمن ذلك لولا غيرت، "لاَ" معنى لَو, وكذلك لما غيرت "مَا" معنى لَمْ و"مهما" زعموا أنها "ما" ضُمت إليها "مَا" وأبدلوا الألف الأولى هاء1، ولما فعلوا ذلك صار فيها معنى المبالغة والتأكيد، فكأنَّ القائل إذا قال: مهما تفعلْ أَفعلْ فقد قال: لا أصغر عن كبير من فعلكَ ولا أكبر عن صغيرٍ أو ما أشبه هذا المعنى. ومن ذلك "إنَّما" إذا رفعت ما بعدها يصير فيها معنى التقليل, تقول: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} 2، إذا أردت التواضع, وقال أَصحابنا: إنَّ اللام في "لعل"3 زائدة؛ لأنهم يقولون عَلَّ، والذي عندي أنهما لغتان وأن الذي يقول لَعلَّ لا يقولُ عَلَّ إلا مستعيرًا لغةَ غيره؛ لأَني لَم أَرَ زائدًا لغير معنًى. فإنْ قيل: إنها زيدت توكيدًا فهو قولٌ. ومن ذلكَ كأَنَّ بنيت الكافَ للتشبيه مع أنَّ
__________
1 مهما: مركبة عند الخليل من "ما" أدخلت معها "ما" لغوًا بمنزلتها مع "متى" إذا قلت: متى ما تأتني آتك ... ولكنهم استقبحوا أن يكرروا لفظًا واحدًا، فيقولوا: ما ما، فأبدلوا الهاء من الألف التي في الأولى، أما عند سيبويه فمركبة من "مه" ضُم إليها "ما" كما تُضم "ما" إلى "إذ" فتصبح إذ ما فيجازى بها. وانظر الكتاب 1/ 433.
2 قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110] .
3 استدل سيبويه على زيادة اللام الأولى في لعل أنها تجيء محذوفة اللام، قال: ألا ترى أنك تقول: علك. انظر الكتاب 2/ 67.

(2/220)


وجعلت صدرًا1، ولولا بناؤها معها لم يجز أن تبتدئ بها إلا وأنتَ تريد التأخير، ومنها: هلاّ بنيت "لا" مع "هَلْ" فصار فيها معنى التحضيض وما لم أذكره فهذا مجراه فيما بني له حرفٌ مع حرفٍ، قال أبو بكر: قد أَتينا على ذكر الاسم والفعل والحرف وإعرابها وبنائها ونحنُ نتبعُ ذلك ما يعرض في الكلام من التقديم والتأخير والإِضمار والإِظهار, إن شاء الله.
__________
1 انظر الكتاب 2/ 67، 3 من هنا تبدأ نسخة المتحف البريطاني.

(2/221)