الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين 10- مسألة: [القول في العامل في الاسم
المرفوع بعد لَوْلَا] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "لولا" ترفع الاسم بعدها، نحو "لولا زيدٌ
لأكرمْتُكَ"، وذهب البصريون إلى أنه يرتفع بالابتداء.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنها ترفع الاسم بعدها
لأنها نائب عن الفعل الذي لو ظَهَرَ لرفع الاسم؛ لأن التقدير في قولك
"لولا زيد لأكرمتك" لو لم يمنعني زيد من إكرامك لأكرمتك، إلا أنهم
حذفوا الفعل تخفيفًا، وزادوا "لا" على"لو" فصار بمنزلة حرفٍ واحدٍ،
وصار هذا بمنزلة قولهم "أما أنت منطلقا انطلقتُ معك" والتقدير فيه: إن
كنت منطلقا انطلقت معك، قال الشاعر:
[32]
أبا خُرَاشَةَ أمَّا أنت ذا نفر ... فإن قوميَ لم تأكُلْهُم الضّبُعُ
والتقدير فيه: إن كنت ذا نفر، فحذف الفعل، وزاد "ما" على أنْ عوضًا عن
__________
[32] هذا البيت للعباس بن مرداس السلمي، وقد أنشده سيبويه "1/ 148"
وابن منظور "ض ب ع" ونسبه له، وهو من شواهد الأشموني "رقم 207" وابن
هشام في أوضح المسالك "رقم 97" وابن عقيل "رقم 74" وأبو خراشة: كنية
خفاف بن ندبة أحد أغربه العرب، وقد أسلم وشهد مع رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- حنينًا، وقيل: شهد فتح مكة. وذا نفر: يريد به ذا رهط كثير
العدد، وأصل الضبع الحيوان المعروف ثم استعير للسنة المجدبة، يقول: إن
كنت تفخر علينا بكثرة عدد قومك، فإن لا فخر لك في ذلك؛ لأن قومي لم تكن
قلتهم بسبب موتهم في القحط والمجاعة، والاستشهاد بالبيت في قوله "أما
أنت" فإن أصل هذه العبارة "أن كنت" فحذفت كان ثم عوض عنها "ما" وأدغمت
ميم ما في نون أن، فناب هذا الحرف الذي هو ما مناب فعل هو كان، قالوا:
وإذا ناب منابه أدّى ما كان الفعل يؤدّيه، وقد كان هذا الفعل يرفع
الاسم الذي بعده، فما رافعة له، وقد أوضح المؤلف هذا الكلام.
__________
1 انظر في هذه المسألة: حاشية الصبان على الأشموني "1/ 207 و 4/ 40
بولاق" والتصريح للشيخ خالد "1/ 212 و 2/ 330 بولاق" ومغني اللبيب لابن
هشام "ص272 بتحقيقنا" وشرح موفق الدين بن يعيش على مفصل الزمخشري "ص116
أوروبة" وشرح الرضي على الكافية "1/ 93".
(1/60)
الفعل، كما كانت الألف في اليَمَاني1 عوضًا
عن إحدى ياءي النسب، والذي يدل على أنها عوض عن الفعل أنه لا يجوز ذكر
الفعل معها؛ لئلا يُجْمَع بين العوض والمعوض، ونحن وإن اختلفنا في أنَّ
"أنْ" ههنا هل بمعنى إن الشرطية أو أنها في تقدير لأنْ فما اختلفنا في
أن "ما" عوض عن الفعل، وكذلك أيضًا قولهم "إما لا فافعل هذا" تقديره:
إن لم تفعل ما يلزمك فافعل هذا؛ لأن الأصل في هذا أن الرجل تلزمه
أشياء، فيطالَبُ بها، فيمتنع منها، فيُقْنَعُ منه ببعضها، فيقال له
"إِمَّا لا فافعل هذا" أي: إن لم تفعل ما يلزمك فافعل هذا، ثم حذف
الفعل لكثرة الاستعمال وزيدت "ما" على "إنْ" عوضًا عنه فصار بمنزلة حرف
واحد، والذي يدل على أنها صارت عوضًا عن الفعل أنه يجوز إمالَتُهَا
فيقال "إما لا" بالإمالة كما أمالوا "بلى" و "يا" في النداء، فلو لم
تكن كافية من الفعل وإلا لما جازت إمالتها؛ لأن الأصل في الحروف أن لا
تدخلها الإمالة، فلما جاز إمالتها ههنا دلّ على أنها كافية من الفعل،
كما كانت "بلى" و "يا" كذلك، وكذلك أيضًا قالوا "من سلم عليك فسلم عليه
ومن لا فلا تَعْبَأْ به" وتقديره: ومن لا يسلم عليك فلا تعبأ به، وقال
الشاعر:
[33]
فطلِّقها فلست لها بندٍّ ... وإلَّا يَعْلُ مَفْرقَكَ الحسام
أراد: وإلا تطلقها يَعْلُ، وكذلك قالوا "حينئذ الآن" تقديره: واسْمَع
الآن، ومعناه أن ذاكرًا ذكر شيئًا فيما مضى يستدعي في الحال مثله فقال
له المخاطب "حينئذ الآن" أي: كان الذي تذكره حينئذ، واسمع الآن، أو
دَعِ الآن ذكره أو نحو ذلك من التقدير، وكذلك قالوا "ما أغفله عنك
شيئًا" وتقديره: انظر شيئًا، كأن قائلا قال "ليس بغافل عني" فقال
المجيب: ما أغفله عنك شيئًا، أي انظر شيئًا، فحذف. والحذف في كلامهم
لدلالة الحال وكثرة الاستعمال أكثر من أن يُحْصَى؛
__________
[33] هذا البيت من كلام الأحوص، واسمه محمد بن عبد الله الأنصاري، وهو
من شواهد الأشموني "رقم 1090" وأوضح المسالك "رقم 516" ومغني اللبيب
"رقم 905" وابن عقيل "رقم 345" وقوله "طلقها" أمر من التطليق وهو فصم
عروة الزواج وحل العصمة "ند" أي مكافئ، ويروى "بكفء" وهو بضم الكاف
وسكون الفاء وآخره همزة المساوي في نسب وغيره مما تعتبره الشريعة صفات
لازمة للتكافؤ بين الزوجين "مفرقك" المفرق -بزنة المجلس والمقعد- وسط
الرأس "الحسام" السيف، والاستشهاد به في قوله "وإلا" فإن هذه الكلمة
مؤلفة من حرفين أولهما إن الشرطية، والثاني لا النافية، وقد حذف فعل
الشرط، وأصل الكلام: وإن لا تطلقها يعل إلخ.
__________
1 اليماني: نسبة إلى اليمن، وأصل القياس أن يقال "يمني" بلفظ المنسوب
إليه مضافًا إليه ياء مشددة ولكنهم حذفوا الياءين وعوضوا منها ألفًا
بعد الميم، ونظيره قولهم شآم في النسبة إلى الشأم.
(1/61)
فدل على أن الفعل محذوف ههنا بعد "لولا"
وأنه اكتفى بلولا، على ما بيّنا؛ فوجب أن يكون مرفوعا بها.
والذي يدل على أن الاسم يرتفع بها دون الابتداء أن "أنَّ" إذا وقعت
بعدها كانت مفتوحة نحو قولك "لولا أنَّ زيدا ذاهب لأكرمتك" ولو كانت في
موضع الابتداء لوجب أن تكون مكسورة؛ فلما وجب الفتح دلّ على صحة ما
ذهبنا إليه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه يرتفع بالابتداء دون
"لولا" وذلك لأن الحرف إنما يعمل إذا كان مختصًّا، ولولا لا تختصُّ
بالاسم دون الفعل، بل قد تدخل على الفعل كما تدخل على الاسم، قال
الشاعر:
[34]
قالت أمامة لما جئتُ زائِرَها: ... هلَّا رمَيْتَ بِبَعْضِ الأَسْهُم
السُّودِ
لا دَرَّ دَرُّكِ؛ إنِّي قد رميتُهُمُ ... لولا حُدِدْتُ ولا عُذْرَى
لمَحْدُودِ
__________
[34] أنشد ابن يعيش هذين البيتين، ونسبهما إلى الجموح، وأنشدهما الرضي
من غير عزو، وشرحهما البغدادي في الخزانة 1/ 221، وأنشدهما ابن منظور
"ع ذ ر" ونسبها للجموح الظفري، ثم قال: "يقال: هذا الشعر لرشاد بن عبد
ربه، وكان اسمه غاويًا، فسماه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- راشدًا" ا.
هـ، وأمامة: اسم امرأة، والأسهم السود: يقال هي كناية عن الأسطر
المكتوبة، يعني هلا كتبت لي كتابا، ويقال: الأسهم السود نظر مقلتيه،
وكلا هذين التفسيرين مما لا أستسيغه، ولا هو مما يلتئم مع البيت
التالي، وحددت: معناه حرمت ومنعت وفارقني الجد والحظ، والعذرى -بضم
العين وسكون الذال- المعذرة، واستشهاد المؤلف بهذا البيت للبصريين في
قوله "لولا حددت" حيث دخلت لولا على الفعل، وقد دخلت على الاسم في
شواهد كثيرة، وذلك يدل على أنها ليست مختصة بالاسم ولا هي مختصة
بالدخول على الفعل، بل تدخل على كل واحد من القبيلين، ومتى سلم أنها
ليست مختصة بأحد القبيلين لم تكن عاملة؛ لأن من المقرر عندهم أن كل حرف
مشترك لا يعمل في أحد القبيلين، وهذا الكلام منقوض من ثلاثة أوجه:
الأول: أنا لا نسلم أن "لولا" في هذا الشاهد هي لولا التي نقول نحن يا
معشر الكوفيين إنها ترفع الاسم الذي يليها، بل هي مؤلفة من حرفين الأول
لو التي هي حرف امتناع لامتناع. والثاني لا النافية، وهذا هو الوجه
الذي ذكره المؤلف، وسيأتي في شرح الشاهد 37 كلام على هذا الوجه.
والوجه الثاني: نسلم أن "لولا" التي في هذا الشاهد هي لولا التي وقع
الخلاف بيننا وبينكم بشأنها، لكن لا نسلم أنها داخلة على الفعل في
اللفظ والتقدير جميعا، بل هي داخلة على الفعل في اللفظ والتقدير
جميعًا، بل هي داخلة على الاسم عند التحقيق، وذلك أن الكلام على تقدير
أن المصدرية التي تنسبك مع هذا الفعل بالاسم، وأصل الكلام لولا أن
حددت، فحذف الشاعر أن وهو ينويها، والتقدير: لولا الحد، أي لولا المنع
والحرمان، وحذف أن المصدرية مع نيتها واقع في كلام العرب، والوجه
الثالث: أنا لا نسلم ما أصلتموه من القاعدة القائلة إن الحرف المشترك
لا يعمل في أحد القبيلين، فكم من الحروف المشتركة وهو عامل، مثل ما ولا
النافيتين، وبعض الحروف المختصة لا يعمل شيئًا مثل أل، فالقاعدة غير
مطردة ولا منعكسة.
(1/62)
فقال "لولا حُدِدْتُ" فأدخَلَهَا على
الفعل؛ فدلّ على أنها تختصّ؛ فوجب أن لا تكون عاملة، وإذا لم تكن عاملة
وجب أن يكون الاسم مرفوعا بالابتداء.
والذي يدل على أنه ليس مرفوعا بلولا بتقدير لو لم يمنعني زيد لأكرمتك
أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يُعْطَفَ عليها بوَلَا؛ لأن الجَحْدَ
يعطف عليه بوَلَا، قال الله تعالي: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى
وَالْبَصِيرُ، وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ، وَلا الظِّلُّ وَلا
الْحَرُورُ، وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:
19-22] ثم قال الشاعر:
[35]
فما الدنيا بِبَاقَاةٍ لحيٍّ ... ولا حيٍّ على الدنيا بباقِ
قوله: "بباقاة" أراد بباقية، فأبدل من الكسرة فتحة، فانقلبت الياء
ألفًا، وهي لغة طيّئ، وقال الآخر:
[36]
وما الدنيا بباقية بِحُزْنٍ ... أَجَلْ، لا، لا، ولا بِرَخَاء بَالِ
فلما لم يجز أن يقال "لولا أخوك ولا أبوك" دلّ على فساد ما ذهبوا إليه.
والصحيح ما ذهب إليه الكوفيون.
وأما الجواب عن كلمات البصريين: أما 39 قولهم "إن الحرف إنما يعمل إذا
كان مختصًّا، ولولا حرف غير مختصّ" قلنا: نسلم أن الحرف لا يعمل إلا
إذا
__________
[35] قول الشعر "بباقاة" أراد بباقية، اسم فاعل من البقاء، ولغة جمهرة
العرب تقتضي بقاء هذه الياء على حالها مثل راغية وثاغية وراضية وحامية؛
لأنهم لا يقلبون الواو والياء المتحركتين ألفا إلا أن يكون ما قبلهما
مفتوحًا نحو سما وعدا وغدا وبدا ونحو الندى والهدى والتقى؛ فإن انكسر
ما قبلهما أو انضم سلمتا نحو العوض والحيل والسور، وإنما يقلبها لمجرد
تحركها طيّئ وحدهم، وقد ورد عنهم في كل فعل واوي اللام أو يائي اللام
وهو مكسور العين قلب واوه أو يائه ألفا فيقولون: رضا وبقى وحيا بفتح
العين وقلب اللام ألفا، وجمهور العرب يقولون: رضي وبقي وحيي بكسر العين
وبقاء الياء إن كانت اللام ياء أو قلب الواو ياء لتطرفها وانكسار ما
قبلها كما في نحو رضي.
والاستشهاد بالبيت في قوله "ولا حي ... إلخ" فإن هذه الكلمة معطوفة على
قوله "فما الدنيا ... إلخ" والمعطوف عليه منفي بما؛ فلزم إدخال حرف
النفي الذي هو لا على المعطوف بعد واو العطف.
[36] أصل الرخاء سعة العيش، وفعله من أبواب كرم ودعا وسعى ورضى، وهو
راخٍ ورخي، ويقولون "فلان رخي البال" يريدون أنه في نعمة وأنه واسع
الحال، والاستشهاد بهذا البيت في قوله "ولا برخاء بال" فإن هذه الكلمة
معطوفة على قوله "بحزن" وقد قرن بواو العطف حرف النفي كما نرى.
(1/63)
كان مختصًّا، ولكن لا نسلم أن لولا غير
مختص، قولهم "إنه يدخل على الفعل كما يدخل على الاسم، كما قال الشاعر:
[34]
لولا حددت ولا عُذْرَى لمحدود
فأدخلها على الفعل "قلنا: لو التي في هذا البيت ليست مركبة مع "لا" كما
هي مركبة مع لا في قولك "لولا زيد لأكرمتك" وإنما لو حرفٌ باقٍ على
أصله من الدلالة على امتناع الشيء لامتناع غيره، و "لا" معها بمعنى لم؛
لأن لا مع الماضي بمنزلة لم مع المستقبل، فكأنه قال: قد رميتهم لو لم
أحدّ، وهذا كقوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11] أي:
لم يقتحم العقبة، وكقوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة:
31] أي: لم يصدق ولم يصلّ، وكقول الشاعر:
[37]
أن تغفر اللهم تغفر جَمًّا ... وأيُّ عبد لك لا ألَمَّا
__________
[37] أنشد هذا البيت ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 406" وقال قبل
إنشاده" وقال أبو خراش الهذلي وهو يطوف بالبيت" وأنشده ابن منظور "ل م
م" ونسبه إلى أمية بن أبي الصلت، ثم قال "قال ابن بري: الشعر لأمية بن
أبي الصلت، قال: وذكر عبد الرحمن عن عمه "الأصمعي" عن يعقوب عن مسلم بن
أبي طرفة الهذلي، قال: مرّ أبو خراش يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول:
لا هم هذا خامس إن تما ... أتمه الله، وقد أتما
إن تغفر الله تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما" ا. هـ
وتقول "ألم الرجل" إذا أتى بصغار الذنوب، مأخوذ من اللمم وهو صغار
الذنوب، والاستشهاد بالبيت في قوله "لا ألما" فإن المؤلف زعم أن لا في
هذا البيت بمعنى لم، والماضي بمعنى المضارع، وكأن الشاعر قد قال "وأي
عبد لك لم يأت بصغار الذنوب"، والسر في ذلك هو أن النحاة يرون أن
النافية إذا دخلت على فعل ماض لفظًا ومعنًى وجب تكراراها، مثل ما في
قوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} ومثل ما جاء في الحديث: "فإن
المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى" ومثل قول الهذلي: "كيف أغرم من لا
شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل":
فإن كان الفعل ماضي اللفظ دون المعنى لم يجب التكرار، نحو قول الشاعر:
حسب المحبين في الدنيا عذابهم ... تالله لا عذبتهم بعدها سقر
فإن عذاب سقر مستقبل لا سابق، ومن هذا الباب فعل الدعاء نحو قولهم "لا
فض الله فاك" وقول الشاعر:
لا بارك الله في الغواني! هل ... يبتن إلا لهن مطلب؟
فلما ورد على النحاة بيت الشاهد والبيت الذي يليه "رقم 38" وقول السفاح
ابن بكير اليربوعي:
من يك لا ساء فقد ساءني ... ترك أبينيك إلى غير راع
=
(1/64)
وكقول الآخر:
[38]
وأيُّ أمر سيِّئٍ لا فَعَلَهْ
أي: لم يفعله، فكذلك ههنا قوله "لولا حددت" أي لو لم أحدّ؛ فدلّ على أن
"لولا" هذه ليست لولا التي وقع فيها الخلاف، فدل على أنها مختصة
بالأسماء دون الأفعال، فوجب أن تكون عاملة على ما بيّنا.
وأما قولهم"لو كانت لولا هي العاملة لأن التقدير لو لم يمنعني زيد لكان
فيها معنى الجَحْدِ، فكان ينبغي أن يعطف عليها بولا: لأن الجحد يعطف
عليه بولا إلى آخر ما قرروه "قلنا: إنما لم يجز ذلك لأن "لولا" مركبة
من لو ولا، فلما ركبتا خرجت لو من حدها ولا من الجحد؛ إذ ركبتا
فصُيِّرتا حرفًا واحدًا؛ فإن الحروف إذا ركب بعضها مع بعض تغيَّر حكمها
الأول، وحدث لها بالتركيب حكم آخر، كما قلنا في "لولا" بمعنى التحضيض،
ولو ما وألَّا وما أشبهه، وكذلك ههنا؛ فلهذا لم يجز العطف عليها بولا،
والله أعلم.
__________
= وذلك من قبل أن لا النافية في قول الشاعر "لا ألما" وقول الآخر "لا
فعله" وقول الثالث "لا ساء" قد دخلت على أفعال ماضية في اللفظ والمعنى
لما رأى النحاة ذلك انطلقوا يلتمسون لأنفسهم مخرجًا، فأما المؤلف فقد
سمعت كلامه، وأما قوم آخرون فقد زعموا في بعض ذلك أن "لا" مكررة في
المعنى وإن لم تتكرر في اللفظ، ومن أمثلة ذلك ما قاله الزمخشري في قوله
تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} قال: "فإن قلت: قلما تقع لا
الداخلة على الماضي إلا مكررة؛ فما لها لم تكرر في الكلام الأفصح؟ قلت:
هي متكررة في المعنى؛ لأن المعنى: فلا فك رقبة ولا أطعم مسكينا، ألا
ترى أنه فسر العقبة بذلك" ا. هـ، وتفسر العقبة هو قوله تعالى: {وَمَا
أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ
ذِي مَسْغَبَةٍ} وذهب قوم في الشواهد التي ذكرناها إلى أنها شاذة لا
يقاس عليها ولا تنبني عليها قاعدة.
[38] هذا بيت من الرجز المشطور، وقد أنشده ابن منظور "ز ن ي" ولم يعزه،
وقد استشهد به رضي الدين في شرح الكافية في باب حروف الجر، وشرحه
البغدادي في الخزانة "4/ 228" ونسبه لشهاب بن العيف، وهو أيضًا من
شواهد الكشاف في تفسير سورة البلد، ومن شواهد مغني اللبيب "رقم 405"
وقبله قول الراجز
لا هم إن الحارث بن جبلة ... زنى على أبيه ثم قتله
وكان في جاراته لا عهد له
وقوله: "زنى على أبيه" يروى بتخفيف النون ويروى بتشديدها، ومعناها ضيق
على أبيه، وقال ابن هشام "أصله زنى بامرأة أبيه، فحذف المضاف، وأناب
على عن الباء" ا. هـ، وهو تكلف لا مبرر له، والاستشهاد بالبيت في قوله
"لا فعله" حيث دخلت لا النافية على الفعل الماضي لفظًا ومعنًى ولم
تتكرر، والمؤلف يذكر أن لا بمعنى لم والماضي بمعنى المضارع، على نحو ما
أسلفناه لك في شرح الشاهد السابق.
(1/65)
11- مسألة: [القول في عامل النصب في
المفعول] 1
ذهب الكوفيون إلى أن العامل في المفعول النصب الفعلُ والفاعلُ جميعًا،
نحو "ضرب زيدٌ عمرًا". وذهب بعضهم إلى أن العامل هو الفاعل، ونصَّ هشام
بن معاوية صاحب الكسائي على أنك إذا قلت "ظننت زيدًا قائمًا" تنصب
زيدًا بالتاء وقائمًا بالظن. وذهب خلف الأحمر من الكوفيين إلى أن
العامل في المفعول معنى المفعولية، والعامل في الفاعل معنى الفاعلية.
وذهب البصريون إلى أن الفعل وحده عمل في الفاعل والمفعول جميعًا.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن العامل في المفعول النصب
الفعل والفاعل وذلك لأنه لا يكون مفعول إلا بعد فعل وفاعل، لفظًا أو
تقديرًا، إلا أن الفعل والفاعل بمنزلة الشيء الواحد، والدليل على ذلك
من سبعة أوجه:
الأول: أن إعراب الفعل في الخمسة الأمثلة يقع بعده نحو "يفعلان،
وتفعلان، ويفعلون، وتفعلون، وتفعلين، يا امرأة" ولولا أن الفاعل بمنزلة
حرف من نفس الفعل وإلا لما جاز أن يقع إعرابُهُ بعده.
والوجه الثاني: أنه يُسَكَّن لام الفعل إذا اتصل به ضمير الفاعل، نحو
"ضربتَ، وذهبتَ" لئلا يجتمع في كلامهم أربعُ حركات متواليات في كلمة
واحدة، ولولا أن ضمير الفاعل بمنزلة حرف من نفس الفعل وإلا لما سكنت
لام الفعل لأجله.
والوجه الثالث: أنه يلحق الفعل علامة التأنيث إذا كان الفاعل مؤنثًا،
فلولا أنه يتنزل منزله بعضِهِ وإلا لما أُلْحِقَ علامة التأنيث؛ لأن
الفعل لا يؤنَّث، وإنما يؤنث الاسم.
__________
1 انظر في شرح هذه المسألة: شرح المفصل "ص153 وشرح الكافية "1/ 115"
وأسرار العربية للمؤلف "ص37 ط ليدن" والتصريح للشيخ خالد الأزهري "1/
374 بولاق".
(1/66)
والوجه الرابع: أنهم قالوا "حَبَّذَا"
فركبوا حَبَّ وهو فعل مع ذا وهو اسم؛ فصار منزلة شيء واحد، حُكِم على
موضعه بالرفع على الابتداء.
والوجه الخامس: أنهم قالوا في النسب إلى كُنْتُ "كُنْتِيُّ" فأثبتوا
التاء1 ولو لم يتنزل ضميرُ الفاعل منزلة حرفٍ من نفس الفعل وإلا لما
جاز إثباتها.
والوجه السادس: أنهم قالوا "زيد ظننت منطلق" فألغوا ظننت، ولولا أن
الجملة من الفعل والفاعل بمنزلة المفرد وإلا لما جاز إلغاؤها؛ لأن
العمل إنما يكون للمفردات لا للجمل.
والوجه السابع: أنهم قالوا للواحد "قِفَا" على التثنية؛ لأن المعنى
قِفْ قِفْ، قال الله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24]
فَثَنَّى وإن كان الخطابُ لملك واحد وهو مالكٌ خازنُ النار؛ لأن
المعنى: أَلْقِ أَلْقِ، والتثنية إنما تكون للأسماء لا للأفعال؛ فدلّ
على أن الفاعل مع الفعل بمنزلة الشيء الواحد.
وإذا كان الفعل والفاعل بمنزلة الشيء الواحد، وكان المفعول لا يقع إلا
بعدهما؛ دلّ على أنه منصوب بهما، وصار هذا كما قلتم في الابتداء
والمبتدأ إنهما يعملان في الخبر؛ لأنه لا يقع إلا بعدهما. والذي يدل
على أنه لا يجوز أن يكون الناصب للمفعول هو الفعل وحده أنه لو كان هو
الناصب للمفعول لكان يجب أن يليه، ولا يجوز أن يُفْصَلَ بينه وبينه؛
فلما جاز الفصل بينهما دلّ على أنه ليس هو العامل فيه وحده، وإنما
العامل فيه الفعل والفاعل.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن الناصب للمفعول هو
الفعل دون الفاعل وذلك لأنا أجمعنا على أن الفعل له تأثير في العمل،
أما الفاعل فلا تأثير له في العمل؛ لأنه اسم، والأصل في الأسماء أن لا
تعمل، وهو باقٍ على أصله في الاسمية؛ فوجب أن لا يكون له تأثير في
العمل، وإضافة ما لا تأثير له في العمل إلى ما له تأثير ينبغي أن يكون
لا تأثير له.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن الناصب للمفعول الفعل
والفاعل لأنه لا يكون إلا بعدهما إلى آخر ما قرروا" قلنا: هذا لا يدل
على أنهما العاملان فيه؛ لما بيّنا أن الفاعل اسم، والأصل في الأسماء
أن لا تعمل، وبهذا يبطل قول من ذهب منهم إلى أن الفاعل وحده هو العامل،
والكلام عليه كالكلام على مَنْ ذهب من البصريين إلى أن الابتداء
والمبتدأ يعملان في الخبر لهذا المعنى.
__________
1 مثل ما في قول الشاعر:
فأصبحت كنتيا، وأصبحت عاجنا ... وشر خصال المرء كنت وعاجن
(1/67)
وقد بيّنا فساد ذلك مستقصى في مسألة
المبتدأ والخبر؛ فلا نعيده ههنا.
وأما قولهم: "لو كان الفعل هو العامل في المفعول لكان يجب أن يليه ولا
يفصل بينه وبينه" قلنا: هذا يبطل بإنَّ؛ فإنا أجمعنا على أنه يجوز أن
يقال "إن في الدار لزيدًا، وإن عندك لعمرًا" قال الله سبحانه: {إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [البقرة: 248] وقال تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا
أَنْكَالًا} [المزمل: 12] فنصب الاسم بإنَّ وإن لم تَلِهِ فكذلك ههنا؛
وإذا لم يلزم ذلك في الحرف -وهو أضعف من الفعل؛ لأنه فرع عليه في
العمل- فلأن لا يلزم ذلك في الفعل وهو أقوى كان ذلك من طريق الأولى،
على أنا نقول: إن الفعل قد وَلِيَ المفعول؛ لأن الفعل لما كان أقوى من
حرف المعاني صار يعمل عملين؛ فهذا بذاته رافع للفاعل وناصب للمفعول؛
لزيادته على حروف المعاني؛ فتقديره تقدير ما عمل وليس بينه وبين معموله
فاصل، وإذا لم يكن بينه وبين معموله فاصل بان أنه قد وليه العامل1،
فدلّ على أن العامل هو الفعل وحده.
وأما ما ذهب إليه الأحمر من إعمال معنى المفعولية والفاعلية فظاهر
الفساد؛ لأنه لو كان الأمر كما زعم لوجب أن لا يرتفع ما لم يُسَمَّ
فاعله نحو"ضُرِبَ زَيْدٌ" لعدم معنى الفاعلية، وأن يُنْصَبَ الاسم في
نحو "مات زيدًا" لوجود معنى المفعولية، فلما ارتفع ما لم يسم فاعله مع
وجود معنى المفعولية وارتفع الاسم في نحو "مات زيد" مع عدم معنى
الفاعلية؛ دلّ على فساد ما ذهب إليه. والله أعلم.
__________
1 كذا، ولعل الصواب"بان أنه قد وليه المعمول".
(1/68)
12- مسألة: [القول في ناصب الاسم المشغول
عنه] 1
ذهب الكوفيون إلى أن قولهم "زيدًا ضَرَبْتُهُ" منصوب بالفعل الواقع على
الهاء، وذهب البصريون إلى أنه منصوب بفعل مقدر، والتقدير فيه: ضربت
زيدًا ضربته.
أما الكوفيون فاتجهوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه منصوب بالفعل الواقع
على الهاء، وذلك لأن المَكْنِىَّ -الذي هو الهاء العائد- هو الأول في
المعنى؛ فينبغي أن يكون منصوبًا به، كما قالوا "أكرمت أباك زيدًا،
وضربت أخاك عَمْرًا".
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه منصوب بفعل مقدر وذلك
لأن في الذي ظهر دلالة عليه، فجاز إضماره استغناء بالفعل الظاهر عنه،
كما لو كان متأخرًا وقبله ما يدل عليه.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: قولهم "إنما قلنا إنه منصوب بالفعل
الواقع على الهاء لأن المكنِي هو الأول في المعنى، فينبغي أن يكون
منصوبًا به كقولهم: "أكرمت أباك زيدًا" على البدل، وجاز أن يكون بدلًا
لأنه تأخر عن المبدل عنه؛ إذ لا يجوز أن يكون البدل إلا متأخرًا عن
المبدل منه، وأما ههنا فقد تقدم زيد على الهاء؛ فلا يجوز أن يكون بدلًا
منها؛ لأنه لا يجوز أن يتقدم البدل على المبدل منه، على أنا نقول: إن
العامل في البدل عندنا غير العامل في المبدل منه، وإن العامل في المبدل
منه على تقدير التكرير في البدل، والذي يدل على ذلك إظهاره في البدل
كما أظهر في المبدل منه، قال الله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ
مِنْهُمْ} [لأعراف: 75] فقوله: {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} بدل من قوله:
{لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} فأظهر العامل في البدل كما
__________
1 انظر في هذه المسألة: التصريح للشيخ خالد "1/ 350 بولاق" وحاشية
الصبان على الأشموني "2/ 57 وما بعدها" وشرح المفصل "ص198 وما بعدها"
وشرح الرضي على الكافية "1/ 148"
(1/69)
أظهره في المبدل منه، وقال تعالى:
{وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ
يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف:
33] فقوله: "لبيوتهم" بدل من قوله: {لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ}
فأظهر العامل في البدل كما أظهره في المبدل منه، فدلّ على أنه في تقدير
التكرير، وأن العامل في البدل غير العامل في المبدل منه، والله أعلم.
(1/70)
13- مسألة: [القول في أولى العاملين بالعمل
في التنازع] 1
ذهب الكوفيون في إعمال الفعلين، نحو "أَكْرَمَنِي وأكرمتُ زيدًا،
وأكرمتُ وأكرمنِي زيدٌ" إلى أن إعمال الفعل الأول أولى، وذهب البصريون
إلى أن إعمال الفعل الثاني أولى.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن إعمال الفعل الأول أولى
النقلُ، والقياسُ.
أما النقل فقد جاء ذلك عنهم كثيرًا، قال امرؤ القيس:
[39]
فَلَوْ أنَّ ما أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي، ولم
أَطْلُبْ، قَلِيلٌ من المال
__________
[39] البيت كما قال المؤلف من قصيدة لامرئ القيس بن حجر الكندي؛ مطلعها
قوله:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي؟
وقد استشهد بالبيت رضي الدين في باب التنازع، وشرحه البغدادي "1/ 158"
وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 417 بتحقيقنا" وفي شرح قطر الندى "رقم
81" والأشموني "رقم 407" وسيبويه "1/ 41" وابن يعيش "ص95" وسيذكر
المؤلف فيما يلي البيت التالي لهذا البيت من القصيدة، و "لو" حرف شرط
يدل على امتناع الشرط، وفهم الامتناع منه كالبديهي، فإن كل من سمع
قائلا يقول "لو كان كذا" أو "لو فعل فلان كذا" فهم عدم وقوع الفعل من
غير تردد، ولهذا يصح في كل موضع استعملت فيه لو أن تعقبه بحرف
الاستدراك داخلًا على فعل الشرط منفيًّا لفظًا أو معنًى، تقول "لو
جاءني أكرمته، لكنه لم يجئ" ومنه قول الشاعر:
فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت ... ولكن حمد الناس ليس بمخلد
وقول الحماسي:
ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت، ولكنه لم يطر =
__________
1 انظر في شرح هذه المسألة: حاشية الصبان على الأشموني "2/ 87 بولاق"
وتصريح الشيخ خالد "1/ 386 بولاق" وشرح الأشموني "2/ 310 بتحقيقنا"،
وشرح المفصل لابن يعيش "ص94 أوروبة" وشرح الرضي على الكافية "1/ 70".
(1/71)
فَأَعْمَلَ الفعل الأول، ولو أعمل الثاني
لنصب "قليلا" وذلك لم يَرْوِه أحد، وقال رجل من بني أسد:
[40]
فَرَدَّ على الفُؤَادِ هَوًى عميدًا ... وَسُوئِل لو يُبِينُ لنا
السُّؤَالَا
__________
= ومثلهما قول الحماسي أيضًا، وهو قريط بن أنيف أحد بني العنبر:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
ثم قال بعد ذلك:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... لبسوا من الشر في شيء وإن هانا
وذلك أن معنى هذا البيت الأخير: لكنني لست من مازن، ونظير هذا قول الله
تعالى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ
فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} [الأنفال: من الآية43] ومن
هنا تعلم أن قول الشلوبين وابن هشام الخضراوي: إن "لو" لا يدل على
امتناع شرط ولا جوابه ولكنه يدل على التعليق في الماضي كلام غير
مستقيم، والاستشهاد بالبيت في قوله "كفاني ولم أطلب قليل من المال" فإن
المؤلف نقل عن الكوفيين أنهم زعموا أن هذا البيت من باب التنازع لتقدم
فعلين على اسم واحد، وقد أعمل الشاعر أول الفعلين -وهو قوله "كفاني"-
في الاسم المتأخر فرفعه به، والدليل على ذلك أنه لو أعمل الثاني وهو
أطلب لنصب الاسم به؛ لأنه يطلب مفعولًا، وهذا الكلام غير صحيح؛ لأن شرط
التنازع أن يكون كل واحد من العاملين المتقدمين طالبًا للمعمول مع صحة
المعنى على فرض عمل أيهما فيه، وفي هذا البيت لا يتم ذلك؛ فإنك لو قلت:
لو ثبت كون سعيي لأدنى معيشة كفاني قليل من المال ولم أطلب ذلك القليل،
لكان كلامًا متناقضا لا محصول له، وإنما يتم معنى بيت امرئ القيس إذا
قدرت لقوله "ولم أطلب" مفعولًا يدل عليه البيت بعده، وتقديره "ولم أطلب
الملك" وإذا انحل البيت إلى قولك: ولو ثبت كون سعيي لأدنى معيشة كفاني
قليل من المال ولم أطلب الملك، كان كلاما صحيحا مقبولا، ولم أجد من
المؤلفين من بين ذلك بيانًا شافيًا كافيًا كابن هشام في كتابه شرح قطر
الندى، فارجع إليه إن شئت.
[40] هذان البيتان من كلام المرار الأسدي، وهما من شواهد سيبويه "1/
40" والهوى: العشق، وعميد: أي فادح يبهظ صاحبه ويدنفه ويسقمه، فعيل
بمعنى فاعل، وأصله قولهم "عمده المرض" أي أضناه وأوجعه، و"نغنى" مضارع
"غنى بالمكان" من مثال رضى؛ أي أقام فيه وتوطنه، ومنه سمي منزل القوم
ومحل إقامتهم المغنى، والخرد -بضم الخاء والراء جميعا- جمع خريدة، وهي
المرأة الحيية الطويلة السكوت، أو هي البكر التي لم تمس، والخدال -بكسر
الخاء- جمع خدلة -بفتح فسكون- وهي الغليظة الساق المستديرتها،
والاستشهاد بالبيتين في قوله "ونرى يقتدننا الخرد الخدالا" حيث كانت
هذه العبارة من باب التنازع لتقدم فعلين هما نرى ويقتاد، وتأخر معمول
هو الخرد الخدال، وقد أعمل الشاعر الفعل الأول في هذا المعمول بدليل
أنه نصبه وأتى بضميره معمولا للفعل الثاني وهو نون النسوة، ولو أنه
أعمل الفعل الثاني لقال: نرى يقتادنا الخرد الخدال، فيرفع المعمول على
أنه فاعل ليقتاد ويحذف ضميره لكون الأول يطلب معمولًا فضلة، وهذا يدل
على أن إعمال العامل الأول أولى، وهو مذهب الكوفيين، والحق أن هذه
الشواهد كلها لا تدل على أكثر من أن إعمال العامل الأول جائز، وهو ما
لا يختلف فيه أحد، فما أولويته فلا.
(1/72)
وقد نَغْنَى بها ونرى عُصُورًا ... بها
يَقْتَدْنَنَا الخُرُدَ الخِدَالَا
فأَعْمَلَ الأول، ولذلك نَصَبَ "الخرد الخدالا" ولو أعمل الفعل الثاني
لقال: "تقتادنا الخردُ الخدالُ" بالرفع، وقال الآخر:
[41]
ولما أَنْ تَحَمَّل آلُ لَيْلَى ... سمعت ببينهم نَعَبَ الغُرَابَا
فأعمل الأول، ولذلك نصب الغراب، ولو أعلم الثاني لوجب أن يرفع.
وأما القياس فهو أن الفعل الأول سابق الفعل الثاني، وهو صالح للعمل
كالفعل الثاني، إلا أنه لما كان مبدوءًا به كان إعماله أولى؛ لقوة
الابتداء والعناية به؛ ولهذا لا يجوز إلغاء "ظننت" إذا وقعت مبتدأة،
نحو "ظننت زيدًا قائمًا" بخلاف ما إذا وقعت متوسطة أو متأخرة، نحو "زيد
ظننت قائم، وزيد قائم ظننت" وكذلك لا يجوز إلغاء "كان" إذا وقعت مبتدأة
نحو "كان زيد قائما" بخلاف ما إذا كانت متوسطة، نحو "زيد كان قائم" فدل
على أن الابتداء له أثر في تقوية عمل الفعل.
والذي يؤيد أن إعمال الفعل الأول أولى من الثاني أنك إذا أعملت الثاني
أدَّي إلى الإضمار قبل الذِّكر، والإضمار قبل الذِّكر لا يجوز في
كلامهم.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أن الاختيار إعمال الفعل
الثاني النقلُ، والقياسُ.
أما النقل فقد جاء كثيرًا، قال الله تعالى: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ
قِطْرًا} [الكهف: 96]
__________
[41] تحمل آل ليلى: وضعوا حمولهم وهموا بالارتحال، والبين -بالفتح-
البعد والفراق. والاستشهاد بالبيت في قوله "سمعت ببينهم نعب الغرابا"
فإن هذه العبارة من باب الاشتغال، حيث تقدم عاملان -وهما سمعت، ونعب-
وتأخر عنهما معمول واحد وهو قوله الغراب، والأول يطلبه مفعولًا لأنه
استوفى فاعله، والثاني يطلبه فاعلا لأنه فعل لازم ولم يستوفِ فاعله
ظاهرًا، وقد أعمل الشاعر العامل الأول في هذا المعمول فنصبه به، ولو
أنه أعمل العامل الثاني لرفعه، فكان يقول "سمعت ببينهم نعب الغراب" وقد
زعم الكوفيون أن هذا يدل على أن إعمال العامل الأول أولى من إعمال
العامل الثاني، ولكن الحقيقة أن هذا الشاهد ونحوه يدل على جواز إعمال
العامل الأول، فأما الدلالة على أولوية ذلك فلا دلالة للبيت ولا لغيره
عليه، وورود شواهد أخرى فيها إعمال العامل الثاني دون الأول يدل على
جواز إعمال الثاني، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنها تدل على أولويته،
فليكن المقرر أن إعمال الأول جائز وإعمال الثاني جائز أيضًا. وليس
إعمال أحدهما بأولى من إعمال الآخر، وستأتي لهذا الكلام بقية مع
الشواهد 42 و 44 و 48.
ونظير هذا قول رياح الزنجي:
أن الفرزدق صخرة عادية ... طالبت، فليس تنالها الأجبالا
يريد طالت الأجبال، أي غلبتها في الطول، فليس تنالها الأجبال.
(1/73)
فأعمل الفعل الثاني، وهو أفرغ، ولو أعمل
الفعل الأول لقال: أفرغه عليه، وقال تعالى: {هَاؤُمُ اقْرَأوا
كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] فأعمل الثاني وهو اقرءوا، ولو أعمل الأول
لقال: اقرءوه، وجاء في الحديث "ونَخْلَعُ ونَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ"
فأعمل الثاني، ولو أعمل الأول لأظهر الضمير بُدًّا، وقال الشاعر وهو
الفرزدق:
[42]
ولكنَّ نَصْفًا لو سَبَبْتُ وسَبَّنِي ... بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ مِنْ
مَنْافٍ وهَاشِم
فأعمل الثاني، ولو أعمل الأول لقال "سببت وسبوني بني عبد شمس" بنصب
"بني" وإظهار الضمير في سبني، وقال طُفَيْل الغَنَوِي:
[43]
وكُمْتًا مُدَمَّاةً كأن مُتُونَهَا ... جَرَى فوقها واستشعرت لون
مُذْهَبِ
__________
[42] هذا البيت كما قال المؤلف للفرزدق همام بن غالب، وهو من شواهد
سيبويه "1/ 39" وابن يعيش "ص94" وهو في ديوان الفرزدق "ص844" ثاني
بيتين، والبيت الذي قبله هو قوله:
وليس بعدل أن سببت مجاشعا ... بآبائي الشم الكرام الخضارم
وقوله فيما روى المؤلف "ولكن نصفا" أي إنصافًا وعدلًا، وفي الديوان
"ولكن عدلًا" وقوله "بنو عبد شمس من مناف وهاشم" ليس بمستقيم؛ فإن
هاشمًا ليس بابن عبد شمس، وإنما هو ابن عبد مناف، وقد جاء الفرزدق بهذه
العبارة على وجها الصحيح مرارًا، من ذلك قوله من قصيدة يمدح فيها يزيد
بن عبد الملك:
وإن لكم عيصا ألف غصونه ... له ظل بيتَي عبد شمس وهاشم
ومن ذلك قوله من قصيدة يهجو فيها أحد بني باهلة:
وهل في معد من كفاء نعده ... لنا غير بيتي عبد شمس وهاشم
ومن ذلك قوله من قصيدة يهجو فيها باهلة وبني عامر بن صعصعة وجريرًا:
ولو سُئِلْتُ مَنْ كُفْؤُ الشَّمْسِ أومأتُ ... إلى ابنَي مناف عبد شمس
وهاشم
والاستشهاد بالبيت في قوله "سببت وسبني بني عبد شمس" فإن هذه العبارة
من باب الاشتغال حيث تقدم فيها عاملان -وهما قوله سببت وقوله سبني-
وتأخر عنهما معمول واحد هو قوله "بنو عبد شمس" والأول يطلبه مفعولا
والثاني يطلبه فاعلا، وقد أعمل فيه الثاني، ولو أنه أعمل الأول لقال
"سببت وسبوني بني عبد شمس" وهذا يدل على أن إعمال العامل الثاني في باب
التنازع جائز، ولكنه كما قلنا من قبل لا يدل على أنه أولى من إعمال
العامل الأول؛ وإذا كانت الشواهد الواردة عن العرب المحتج بكلامهم قد
أعمل العامل الأول في بعضها وأعمل العامل الثاني في بعضا الآخر، فقد
تكافأ العاملان في جواز الإعمال، ولم يبقَ أحدهما أولى من أخيه، فأما
سبق الأول صاحبه وقرب الآخر من المعمول فلا يفيد، فإنا نعلم أن الأفعال
تعمل متقدمة على المعمول ومتأخرة عنه، وتعمل متصلة بمعمولها ومنفصلة
منه، وذلك كله واقع في أفصح كلام، ولهذا نرى أن الخلاف في هذه المسألة
مما لا طائل له.
[43] هذا البيت -كما قال المؤلف- من قصيدة لطفيل بن كعب الغنوي، وهو من
شعراء =
(1/74)
وقال الآخر، وهو رجل من باهلة:
[44]
ولقد أرى تَغْنَى به سَيْفَانَةٌ ... تُصْبِي الحليم ومثلها أصْبَاهُ
__________
= الجاهلية، وقد اشتهر بوصف الخيل، حتى قال عبد الملك بن مروان: من
أراد أن يتعلم ركوب الخيل فليرو شعر طفيل، والبيت الشاهد في وصف الخيل
أيضًا، وهو من شواهد سيبويه "1/ 39" وشرح المفصل "ص94" والأشموني "رقم
416" والمكمت: جمع أكمت وإن لم يكن هذا المفرد مستعملًا، وإنما
المستعمل "كميت" بزنة المصغر، قال شارح الجمل: الكميت من الأسماء
المصغرة التي لا تكبير لها، وهو مصغر أكمت تصغير الترخيم بمنزلة حميد
من أحمد غير أن أكمت لم يستعمل، والكميت: الذي لونه الحمرة يخالطها
سواد، ومدماة: شديدة الحمرة حتى كأنها قد طليت بالدم، والمتون: جمع
متن، وهو الظهر، وجرى: سال، واستشعرت لون مذهب: جعلت هذا اللون شعارها
وأصل الشعار -بزنة الكتاب- العلامة يتخذها المحارب ليعرف بها، أو هو ما
يلي الجسد من الثياب، والمذهب -بزنة المكرم- المموه بالذهب. والاستشهاد
به في قوله "جرى فوقها واستشعرت لون مذهب" فإن هذا الكلام من باب
التنازع؛ فقد تقدم عاملان -وهما قوله جرى وقوله استشعرت- وتأخر عنهما
معمول واحد -وهو قوله لون مذهب- وكل واحد من هذين العاملين يطلب هذا
المعمول، وقد أعمل الشاعر العامل الثاني منهما في لفظ المعمول، ولو
أعمل الأول منهما لرفع "لون مذهب" لأن الأول يطلبه فاعلًا، ولأني بضمير
المعمول بارزا مع العامل الثاني، فكان يقول: جرى فوقها واستشعرته لون
مذهب.
[44] هذا البيت من شواهد سيبويه أيضًا "1/ 39" ولم يزد في نسبته عما
نقله المؤلف، وتغنى به: مضارع "غني بالمكان يغنى على مثال رضي يرضى" أي
أقام، وتصبي الحليم: تورثه الصبوة، وهي الميل إلى شهوات الصبا وملذاته
والاستشهاد به في قوله "أرى تغنى به سيفانة" فإن هذه العبارة من باب
التنازع لتقدم عاملين -وهما قوله أرى وقوله تغنى به- وتأخر عنهما معمول
واحد -وهو قوله سيفانة- وأول العاملين يطلب هذا المعمول مفعولا،
وثانيهما يطلبه فاعلا، وقد أعمل الشاعر العامل الثاني في هذا المعمول؛
بدليل مجيئه مرفوعا، ونظير هذه الشواهد في إعمال العامل الثاني قول
الشاعر:
إذا كنت ترضيه ويرضيك صاحب ... جهارًا فكن في الغيب أحفظ للود
وقول الآخر:
هوينني وهويت الغانيات إلى ... أن شبت فانصرفت عنهن آمالي
قول الآخر:
جفوني ولم أجف الأخلاء؛ إنني ... لغير جميل من خليلي مهمل
ثم نقول: قد تبين لك أن كلام العرب قد جاء بإعمال أول العاملين في لفظ
المعمول المتأخر عنهما، وبإعمال العامل الثاني في لفظه أيضًا، ومن
إعمال العامل الأول الشواهد التي استدل بها الكوفيون، ومن إعمال الثاني
الشواهد التي استدل بها البصريون؛ فليس لواحد من الفريقين أن يدعي أن
الاستعمال العربي يؤيده وحده؛ لأن الاستعمال العربي يؤيد كل واحد
منهما، وكل ما هناك أنه يبقى سؤال، وهو هل العامل الأول أولى بالعمل =
(1/75)
وقال الآخر:
[45]
قَضَي كل ذي دين فَوَفَّى غَرِيمَهُ ... وعزَّة مَمْطُولٌ مُعَنَّى
غَرِيمُهَا
__________
= لكونه متقدما وقد طلب المعمول قبل أن يطلبه الثاني، أم العامل الثاني
أولى لكونه أقرب إلى المعمول ومجاورًا له، وأما العامل الأول فهو مفصول
من المعمول بالعامل الثاني على الأقل؟ ولا نرى لك أن تحاول ترجيح إحدى
هاتين القضيتين؛ فإن لكل منهما مستندًا من التعليل والقياس، لا من
الاستعمال العربي.
[45] هذا البيت لكثيّر بن عبد الرحمن المشهور بكثير عزة، وهو من شواهد
الأشموني "رقم 411" وأوضح المسالك "رقم 241" وممطول: اسم المفعول من
قولك "مطل المدين دائنه يمطله -من باب نصر-" وذلك إذا لواه بدينه وسوّف
في قضائه ولم يؤده، و"معنى" اسم المفعول من قولك "عنى الأمر الفلاني
فلانًا -بتضعيف عين الفعل وهي النون هنا-" وذلك إذا شق عليه الأمر وكان
سببًا في عنائه وشقوته، والاستشهاد في هذا البيت في موضعين: الأول في
قوله "قضى كل ذي دين فوفّى غريمه" فإن هذه العبارة من باب التنازع، فقد
تقدم عاملان -وهما قوله "قضى" وقوله "وفّى"- وتأخر عنهما معمول واحد
وهو قوله "غريمه" وكل واحد من العاملين المتقدمين يطلب المعمول المتأخر
مفعولًا، وقد أعمل الشاعر المعمول الثاني منهما في لفظ المعمول،
والدليل على أنه أعمل الثاني هنا أنه لم يصل ضمير المعمول بالعامل
الثاني، لأنه لو كان قد أعمل الأول لوجب أن يقول "قضى كل ذي دين فوفاه
غريمه" على أن يكون تقدير الكلام: قضى كل ذي دين غريمه فوفاه، والموضع
الثاني من موضعي استشهاد المؤلف بالبيت قوله "ممطول معنى غريمها" فإن
ظاهر هذه العبارة أنها من باب التنازع؛ لتقدم عاملين وهما قوله "ممطول"
وقوله "معنى" وتأخر عنهما معمول واحد وهو قوله "غريمها" وكل واحد من
هذين العاملين يطلبه نائب فاعل؛ لأن كل واحد منهما اسم مفعول على ما
بيّنا، وأنت تعلم أن اسم المفعول يعمل عمل الفعل المبني للمجهول. وقد
اغتر المؤلف بهذا الظاهر؛ فخيل إليه أن العبارة من باب التنازع، وأن
الشاعر قد أعمل العامل الثاني، لأنه لو كان قد أعمل العامل الأول لوجب
عليه أن يقول: وعزة ممطول معنى هو غريمها؛ فيكون "هو" نائب فاعل معنى،
وغريمها: نائب فاعل ممطول، فإن قلت: فلماذا لا يكون في "معنى" ضمير
مستتر جوازًا تقديره هو ويكون هذا الضمير نائب فاعل معنًى على تقدير
إعمال ممطول في لفظ المعمول المتأخر؟ فالجواب على هذا أن نقول: إن قوله
"وعزة" مبتدأ، وخبره قوله "ممطول" والمطول وصف الغريم لا وصف عزة، فقد
جرى ضمير الخبر على غير مبتدئه، وإذا جرى ضمير الخبر على غير المبتدأ
وجب إبراز ذلك الضمير، هكذا خيل للمؤلف، وهو كلام منقوص من ثلاثة أوجه؛
الوجه الأول: أن وجوب إبراز الضمير من الخبر إذا جرى هذا الضمير على
غير مبتدئه هو مذهب البصريين، ومذهب الكوفيين أنه لا يجب إبراز الضمير
من الوصف إذا جرى على غير موصوفه، كما بينه المؤلف نفسه في المسألة رقم
8 السابقة، وإذا كان الأمر كذلك لم يجز أن يحتج على مذهب قوم بمذهب قوم
آخرين كما هو مقرر في علم الجدل، والوجه الثاني: أن الشاعر لو كان قد
أعمل العامل الثاني لوجب =
(1/76)
فأعمل الثاني في هذا البيت في مكانين:
أحدهما "وَفّى" ولو أعمل الأول لقال: وفَّاه، والثاني "مُعَنًّى" ولو
أعمل الأول لوجب إظهار الضمير بعد معنى؛ فيقول "وعزة ممطول معنى هو
غريمها" وتقديره: وعزة مطول غريمها معنى هو؛ لأنه قد جرى على عزة، وهو
فعل الغريم؛ فقد جرى على غير مَنْ هو له، واسم الفاعل إذا جرى على غير
من هو له وجب إظهار الضمير فيه، فلما لم يظهر الضمير دلّ على أنه قد
أعمل الثاني، إلا أنهم يقولون على هذا: يجوز أن يكون قد أعمل الأول ولم
يظهر الضمير وذلك جائز عندنا، وقد بينا فساد ذلك في اسم الفاعل إذا جرى
على غير من هو له مستقصًى في موضعه.
وأما القياس فهو أن الفعل الثاني أقرب إلى الاسم من الفعل الأول؛ وليس
في إعماله دون الأول نَقْصُ معنًى، فكان إعماله أولى، ألا ترى أنهم
قالوا: "خشنت بصدره وصدر زيد" فيختارون إعمال الباء في المعطوف، ولا
يختارون إعمال الفعل فيه؛ لأنها أقرب إليه منه؛ وليس في إعمالها نقض
معنى؛ فكان إعمالها أولى.
والذي يدل على أن للقرب أثرًا أنه قد حملهم القربُ والجوارُ حتى قالوا:
"جُحْرُ ضَبّ خَرِب" فأجروا خربٍ على ضبٍّ، وهو في الحقيقة صفة للجحر؛
لأن الضب لا يوصف بالخراب؛ فههنا أَوْلَى.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قول امرئ القيس:
[39]
فلو أن ما أسعى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي، ولم أطلب، قليلٌ من
المال
__________
= عليه أن يقول: وعزة ممطول هو معنى غريمها؛ فيبرز الضمير المستكن في
الخبر الأول لنفس السبب الذي احتج به على الكوفيين، وهو أن الضمير
المستكن في الخبر جارٍ على غير مبتدئة، وهذا الاحتجاج ملزم للبصريين
لأنه مذهبهم وغير ملزم للكوفيين لأنهم لا يذهبون إليه كما قدمنا،
والوجه الثالث: -وهو مترتب على الوجهين السابقين- أن النحارير من
العلماء كابن مالك رحمه الله ذهبوا إلى أن هذه العبارة ليست من باب
التنازع أصلًا؛ لأنه لا يصح أن يكون الشاعر قد أعمل العامل الأول كما
لا يصح أن يكون قد أعمل العامل الثاني؛ لأنه لو أعمل أحدهما أيًا كان
لوجب على مذهب البصريين أن يبرز ضمير المعمول مع العامل الذي لم يعمله
في لفظ المعمول لكونه جاريًا على غير من هو له، وعلى هذا يكون قوله
"عزة" مبتدأ أول وقوله "غريمها" مبتدأ ثانيًا، وقوله "ممطول" خبر
المبتدأ الثاني تقدم عليه، وقوله "معنى" خبرًا ثانيًا للمبتدأ الثاني،
وجملة المبتدأ الثاني وخبريه في محل رفع خبر المبتدأ الأول، ومن هذا
تعلم أن الاسمين المتقدمين -وهما قوله "ممطول" وقوله "معنى"- ليسا
عاملين لأنهما خبران، والاسم المتأخر -وهو قوله "غريمها"- ليس معمولا؛
لأنه مبتدأ، والمبتدأ ليس معمولا لخبره إلا على قول ضعيف، وكأن الشاعر
قد قال: وعزة غريمها ممطول معنى.
(1/77)
فنقول: إ نما أعمل الأول منهما مراعاة
للمعنى؛ لأنه لو أعمل الثاني لكان الكلام متناقضًا، وذلك من وجهين؛
أحدهما: أنه لو أعمل الثاني لكان التقدير فيه: كفاني قليل ولم أطلب
قليلًا من المال، وهذا متناقض؛ لأنه يخبر تارة بأن سعيه ليس لأدنى
معيشة، وتارة يخبر بأنه يطلب القليل، وذلك متناقض؛ والثاني: أنه قال في
البيت الذي بعده:
ولَكِنَّمَا أسعى لمجد مُؤَثّلِ ... وقد يُدْرِكُ المجد المُؤَثّلَ
أمثالي
فلهذا أعمل الأول ولم يعمل الثاني. وأما قول الآخر:
[40]
وقد نغنى بها ونرى عصورًا ... بها يُقْتَدْننا الخردَ الخِدالا
فنول: إنما أعمل الأول مراعاة لحركة الرويّ؛ فإن القصيدة منصوبة،
وإعمال الأول جائز، فاستعمل الجائز ليخلص من عيب القافية، ولا خلاف في
الجواز، وإنما الخلاف في الأولى، وكذلك أيضًا قول الآخر:
[41]
"ولما أن تحمل آل ليلى" ... سمعت ببينهم نعب الغرابا
يدل على الجواز، وهو مُعَارض بأمثاله.
وأما قولهم "إن الفعل الأول سابق فوجب إعماله للعناية به" قلنا: هم وإن
كانوا يُعْنَوْنَ بالابتداء إلا أنهم يعنون بالمقاربة والجِوَار أكثر،
على ما بيّنا في دليلنا.
وأما قولهم "لو أعملنا الثاني لأدَّى إلى الإضمار قبل الذكر" قلنا:
إنما جوزنا ههنا الإضمار قبل الذكر لأن ما بعده يفسّره؛ لأنهم قد
يتسغنون ببعض الألفاظ عن بعض إذا كان في الملفوظ دلالة على المحذوف
لعلم المخاطب، قال الله تعالي: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ
وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا َالذَّاكِرَاتِ}
[الأحزاب: 35] فلم يعمل الآخر فيما أعمل فيه الأول استغناء عنه بما
ذكره قبلُ، ولعلم المخاطب أن الثاني قد دخل في حكم الأول، وقال الله
تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}
[التوبة: 3] فاستغنى بذكر خبر الأول عن ذكر خبر الثاني؛ لعلم المخاطب
أن الثاني قد دخل في ذلك، قال ضابئ البُرْجُمِيُّ:
[46]
فمن يَكُ أمسى بالمدينةِ رَحْلُةُ ... فإنِّي وقَيَّارٌ بها لغريبُ
__________
[46] هذا البيت -كما قال المؤلف- لضابئ بن الحارث البرجمي، وقد استشهد
به سيبويه "1/ 38" وابن هشام في مغني اللبيب "رقم 735" وفي أوضح
المسالك "رقم 142" والأشموني "رقم 274" وقوله "رحله" هو هنا بمعنى
منزله، ويروى في مكانه "رهطه" ورهط الرجل: أهله وقومه الأقربون،
و"قيار" ذكر أبو زيد في نوادره أنه اسم جمل الشاعر، ونقل عن الخليل بن
أحمد أنه اسم فرس الشاعر، والاستشهاد بالبيت في قوله "إني وقيار لغريب"
=
(1/78)
فاستغنى بذكر خبر الآخر عن خبر الأول، وقال
دِرْهَمُ بن زيد الأنصاريّ:
[47]
نحن بما عندنا، وأنت بما ... عندك راضٍ، والرأيُ مختلف
__________
= حيث ذكر الشاعر إن واسمها، ثم ذكر مبتدأ مرفوعًا، وهو قوله "وقيار"
وذكر بعد ذلك خبر إن وهو قوله "لغريب" وحذف خبر المبتدأ -وهو قوله
"وقيار"- لأن معرفة هذا الخبر المحذوف لا تعسر على سامع هذا الكلام، بل
هو متبادر إلى ذهنه من غير تكلف ولا مشقة، وأصل الكلام: فإني لغريب
وقيار كذلك، أو غريب، أو مثلي، أو ما أشبه هذا، ولا يجوز في هذا البيت
أن يكون قوله "لغريب" خبرًا لقوله "وقيار" لوجود لام الابتداء في هذا
الخبر، ولام الابتداء تدخل في خبر إن، ولا تدخل في خبر المبتدأ إلا
شذوذًا، كما لا يجوز أن يكون قوله "وقيار" معطوفًا على اسم إن، وذلك من
ثلاثة أوجه: الأول: أن اسم إن منصوب، وهذا مرفوع، ومن شرط صحة العطف
اتفاق المتعاطفين في الإعراب، والوجه الثاني: أن الذين صح رأيهم ممن
جوزوا عطف الاسم المرفوع على اسم إن المنصوب لكون اسم إن مبتدأ في
الأصل والمبتدأ مرفوع، إنما جوزوا ذلك إذا وقع الاسم المرفوع بعد
استكمال إن معموليها الاسم والخبر كما في قول الشاعر:
فمن يك لم ينجب أبوه وأمه ... فإن لنا الأم النجيبة والأب
فقد جاء بالاسم المرفوع -وهو قوله "والأب"- بعد أن أوفى جملة إن حقها،
والوجه الثالث: أنا لو جرينا على القول المرجوح الذي يجوز مجيء الاسم
المرفوع معطوفًا على اسم إن باعتبار أصله ولو لم تستوفِ إن معموليها؛
لم يجز لنا في هذا البيت أن نعطف قوله "وقيار" على اسم إن؛ لأنه لو عطف
على اسم إن لوجب أن يقال: فإني وقيار بها لغريبان، لأنه حينئذ يكون
خبرًا عن اثنين.
[47] هذا البيت من شواهد سيبويه "1/ 38" ومغني اللبيب لابن هشام "رقم
873" وشواهد إيضاح القزويني "رقم 95 بتحقيقنا" وليس هو لدرهم بن زيد
الأنصاري كما ذكر المؤلف، ولكنه من كلام قيس بن الخطيم، والاستشهاد به
في قوله "نحن وأنت راض" فإن قوله "نحن" مبتدأ، وخبره محذوف، وقوله
"وأنت" مبتدأ آخر، وخبره هو قوله "راضٍ" وقد حذف الشاعر خبر المبتدأ
المتقدم لدلالة خبر المبتدأ الذي بعده عليه، وتقدير الكلام: نحن راضون
بما عندنا وأنت راض بما عندك، ولا يجوز أن يكون قوله "راض" خبرًا عن
المبتدأ المتقدم وحده، ولا أن يكون خبرًا عن "نحن" و"أنت" جميعًا، لكون
هذا الخبر مفردًا، ولا يخبر بالمفرد عن الجمع، ونظير هذا البيت في حذف
خبر السابق وذكر خبر الثاني قول الشاعر:
خليلي هل طب فإني وأنتما ... -وإن لم تبوحا بالهوى- دنفان؟
فإن قوله "دنفان" يتعين أن يكون خبرًا عن "أنتما" ولا يجوز أن يكون
خبرًا لإن وحدها، ولا أن يكون خبرًا لإن والاسم المرفوع بعدها معًا،
وذلك لأن "دنفان" مثنى واسم إن مفرد، وهو مع الاسم المرفوع بعده جمع،
ولا يجوز أن يخبر بالمثنى عن المفرد ولا عن الجمع.
(1/79)
واستغنى بذكر خبر الآخر عن ذكر خبر الأول،
وقال الفرزدق:
[48]
إني ضَمِنْتُ لِمَنْ أَتَانِي ما جَنَى ... وأَبَى، فكنتُ وكان غَيْرَ
غَدُورِ
فاستغنى بخبر الثاني عن الأول، والشواهدُ على هذا النحو كثيرة؛ فدلّ
على جواز الإضمار ههنا قبل الذكر؛ لأن ما بعده يفسره، وإذا جاز الإضمار
مع عدم تقدم ذكر المظهر لدلالة الحال عليه كما قال تعالى: {حَتَّى
تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] يعني الشمس وإن لم يجرِ لها ذكر، وكما
قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] يعني الأرض،
وكما قال الشاعر:
[49]
على مثلها أَمْضِي إذا قال صاحبي: ... ألا لَيْتَنِي أَفْدِيكَ منها
وأَفْتَدِي
يعني الفلاة وإن لم يجرِ لها ذكر؛ لدلالة الحال، فلأن يجوز ههنا
الإضمار قبل الذكر لشريطة التفسير ودلالة اللفظ كان ذلك من طريق
الأولى، ثم إن كان هذا ممتنعًا فينبغي أن لا يجوز عندكم، ولا خلاف بين
جميع النحويين أنه جائز، إلا فيما لا يعدُّ خلافًا، فدلّ على فساد ما
ذكرتموه، والله أعلم.
__________
[48] لم أجد هذا البيت في نسخ ديوان الفرزدق المطبوعة، وهو من شواهد
سيبويه "1/ 38" ومفرداته ومعناه مما لا يحتاج إلى شرح، والاستشهاد به
في قوله "فكنت وكان غير غدور" فإن المؤلف قد زعم أن قوله "غير غدور"
خبر لكان الثانية، وأن الشاعر قد حذف خبر كان الأولى ارتكانًا على
انفهام المعنى وأن السامع سيفهم أن أصل الكلام فكنت غير غدور وكان غير
غدور، فحذف خبر كان الأول لدلالة خبر كان الثانية عليه، فصار كما جاء
في كلام الشاعر، لكن الذي ذكره المؤلف ليس بلازم، بل يجوز أن يكون
المذكور هو خبر كان الأولى، وأن الشاعر قد حذف خبر كان الثانية لدلالة
خبر الأولى عليه، بل هذا -وهو أن يكون المذكور خبر كان الأولى والمحذوف
هو خبر كان الثانية- هو الأولى؛ لأنه هو الأكثر دورانًا على ألسنة
العرب وهذا في المواضع التي يحتمل الكلام فيها الوجهين جميعًا كما في
هذا البيت، أما المكان الذي يتعين فيه أحد الأمرين كالشواهد السابقة
فإن الكلام يحمل على ما يتعين فيه، وهذه اللفتة ترجح مذهب الكوفيين في
كون العامل المتقدم أولى بالإعمال في لفظ المعمول، نعني فيما لو احتمل
الكلام إعمال كل منهما، فتنبه لذلك.
[49] هذا البيت هو البيت التاسع والثلاثون من معلقة طرفة بن العبد
البكري، وهو من أبيات في وصف ناقته. وقوله "على مثلها" يريد على مثل
هذه الناقة الموصوفة، وأمضي: أي أسير، وقوله "ألا ليتني أفديك منها"
الضمير عائد على الفلاة أي الصحراء وقد أتى بضمير الفلاة وإن لم يجر
لها ذكر في الكلام قبل هذا؛ لأن المراد يفهم من سياق الكلام، ونظيره
كما قال المؤلف قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} فإن
المراد -والله أعلم- حتى توارت الشمس وراء الأفق، فأضمر في الفعل ضميرا
يعود إلى الشمس وإن لم يجرِ لها ذكر في الكلام ارتكانًا على أن السامع
سيفهم المقصود ويعرف المراد من سياق الكلام، وقول طرفة "ألا ليتني ...
إلخ" واقع موقع قوله: إنا هالكون لأن السير في هذه الصحراء شاق عسير لا
يتيسر لأحد أن يمضي فيه ويستمر عليه.
(1/80)
مسألة القول في نعم
وبئس، أفعلان هما أما اسمان
...
14- مسألة: [القول في نِعْمَ وبِئْسَ، أَفِعْلَانِ هما أم اسمان؟] 1
ذهب الكوفيون إلى أن "نِعْمَ، وبِئْسَ" اسمان مُبْتَدَآن. وذهب
البصريون إلى أنهما فعلان ماضيان لا يتصرَّفَان، وإليه ذهب علي بن حمزة
الكسائي من الكوفيين.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنهما اسمان دخول حرف
الخفض عليهما؛ فإنه قد جاء عن العرب أنها تقول "ما زيد بنعم الرجُلُ"
قال حسّان بن ثابت:
[50]
ألستُ بِنِعْمَ الجارُ يُؤْلِفُ بَيْتَهُ ... أخَا قِلَّةٍ أو مُعْدِمَ
المال مُصْرِمَا
__________
[50] هذا البيت كما قال المؤلف لحسان بن ثابت الأنصاري، والجار: أراد
به هنا الذي يستجير به الناس من الفقر والحاجة فينزلون في حماه
ويستظلون بظله ويجعلون عليه قضاء حاجاتهم، ويؤلف بيته ببناء الفعل
للمعلوم: أي يجعل المقل يألف بيته، وذلك ببسط الكف وبذل العرف وبشاشة
الوجه ونحو ذلك، وأخو القلة: الفقير الذي لا يجد كفايته، والمصرم: أراد
به المعدم الذي لا يجد شيئًا، وأصله من الصرم الذي هو القطع، ومنه
قالوا: ناقة صرماء، وناقة مصرمة، للتي انقطع لبنها وجفَّ، وذلك أن يصيب
الضرع شيء فيكوى بالنار فلا يخرج منه لبن أبدًا والاستشهاد بالبيت في
قوله "بنعم الجار" فإن الكوفيين استندوا إلى ظاهر هذه العبارة فزعموا
أن "نعم" اسم بمعنى الممدوح بدليل دخول حرف الجر عليه، وقد علمنا أن
حرف الجر لا يدخل إلا على الأسماء، وربما استدلوا بقول الراجز:
صبحك الله بخير باكر ... بنعم طير وشباب فاخر
والبصريون يقولون: إن نعم وبئس فعلان جامدان، بدليل دخول تاء التأنيث
عليهما، في =
__________
1 انظر في هذه المسألة: التصريح للشيخ خالد "2/ 117 بولاق" وشرح
الأشموني "4/ 192" وما بعده بتحقيقنا" وحاشية الصبان "3/ 23 بولاق"
وشرح رضي الدين على الكافية "2/ 289 وما بعدها" وشرح موفق الدين بن
يعيش على المفصل "ص1028 أوروبة" وأسرار العربية للمؤلف "ص41 ط ليدن"
وشرحنا على شرح قطر الندى لابن هشام "ص27 ط سنة 1959" وشرح ابن عقيل
على الألفية "2/ 127 بتحقيقنا".
(1/81)
وحُكي عن بعض فُصَحَاء العرب أنه قال
"نِعْمَ السَّيْرُ على بِئْسَ العَيْرُ" وحكى أبو بكر بن الأنباري عن
أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب عن سلمة عن الفراء أن أعرابيًّا بُشِّرَ
بمولودة فقيل له: نعم المولودة مولودتك! فقال "والله ما هي بنعم
المولودة: نُصْرَتُهَا بكاء، وبِرُّها سرقة" فأَدْخَلُوا عليها حرف
الخفض، ودُخُولُ حرف الخفض يدل على أنهما اسمان؛ لأنه من خصائص
الأسماء.
ومنهم من تمسّك بأن قال: الدليل على أنهما اسمان أن العرب تقول: "يا
نعم المولى ويا نعم النصير" فنداؤهم نعم يدل على الاسمية؛ لأن النداء
من خصائص الأسماء، ولو كان فعلا لما تَوَجَّهَ نحوه النداء. قالوا: ولا
يجوز أن يقال: إن المقصود بالنداء محذوف للعلم به -والتقدير فيه: يا
ألله نعم المولى ونعم النصير أنت- فحذف المنادى لدلالة حرف النداء عليه
كما حذف حرف النداء لدلالة المنادى عليه؛ لأنا نقول: الجواب عن هذا أن
المنادى إنما يقدر محذوفًا إذا ولي حرفَ النداء فعلُ أمر وما جرى
مجراه، كقراءة الكسائي وأبي جعفر المدني ويعقوب الحضرمي وأبي عبد
الرحمن السلمي والحسن البصري وحميد الأعرج:
__________
= نحو قوله -صلى الله عليه وسلم: "من توضأ يوم الجمعة؛ فبها ونعمت"
وأنت تقول: بئست المرأة حمالة الحطب، وبدليل اقتران ضمائر الرفع
المتصلة بهما، تقول: نعما، ونعموا، وضمائر الرفع المتصلة لا تقترن بغير
الأفعال، وأما حرف الجر فقد يدخل في اللفظ على الفعل وعلى الحرف أيضًا،
ولكنه في التقدير داخل على الاسم، فمثال دخوله على الفعل المتفق على
فعليته قول الراجز "انظر الشاهد رقم 64 الآتي":
والله ما ليلي بنام صاحبه ... ولا مخالط الليان جانبه
ومثال دخوله على الحرف قولك "عجبت من أن تلعب" والفريقان متفقان على
مجيء مثل ذلك عن العرب، وهما أيضًا متفقان على أن هذا الظاهر غير مرضي،
وأن الباء في قول الراجز "بنام صاحبه" لا بدّ أن تكون داخلة في التقدير
على اسم محذوف، وتقدير الكلام والله ما ليلي بليل مقول فيه نام صاحبه،
فمدخول الباء في البيت جملة تقع مقول قول محذوف، وهذا القول المحذوف
صفة لموصوف محذوف أيضًا، وهذا الموصوف المحذوف هو مدخول الباء عند
التحقيق، فإذا كان هذا تأويل الفريقين في قول الراجز "بنام صاحبه"
فليكن هو تأويل قول حسان "بنعم الجار" أي بجار مقول فيه نعم الجار،
وليكن هو تأويل قول الآخر "بنعم طير" إن سلمنا صحة هذه الرواية، أي
بطير مقول في نعم طير، ولكن هذه الرواية غير صحيحة، والرواية الصحيحة
"بنعم طير" بضم النون وسكون العين وهي رواية الكسائي، وإذا كان دخول
حرف الجر في ظاهر اللفظ على كلمة لا يدل دلالة قاطعة على كونها اسمًا،
وكذلك غير حرف الجر من الحروف التي قلنا: إنها من خصائص الأسماء كحروف
النداء، وقد رأينا الاستعمال العربي الذائع يصل تاء التأنيث وضمائر
الرفع الساكنة بكلمتي نعم وبئس من غير ضرورة ولا حاجة إلى تأويل؛ فليكن
الصحيح في هذه المسألة هو مذهب البصريين، فاعرف ذلك.
(1/82)
"أَلَا يَسْجُدُوا لِلَّهِ" أراد يا هؤلاء
اسجدوا، وكما قال الأخطل:
[51]
ألَا يا اسْلَمِي يا هندُ هندَ بنِي بَدْرِ ... وإنْ كَانَ حيَّانَا
عِدًى آخر الدَّهْرِ
وقال الآخر، وهو ذو الرُّمَّة:
[52]
ألا يا اسلمِي يا دار ميَّ على البِلَى ... ولا زال مُنْهَلًّا
بِجَرْعَائِكِ القَطْرُ
__________
[51] هذا البيت كما قال المؤلف من كلام الأخطل التغلبي، واسمه غياث من
الغوث، وقد أنشده ابن منظور "ع د ى" ونسبه إليه، وقوله "عدى" أراد به
متباعدين لا أرحام بينهم ولا حلف، وقد روي في بيت الأخطل هذا اللفظ
بكسر العين وبضمها، وأنكر الأصمعي الضم إلا أن تقول "عداة" بالتاء في
آخره، وقوله "آخر الدهر" منصوب على تقدير نزع الخافض وأصله إلى آخر
الدهر، فحذف الحرف وأوصل الاسم الذي يشبه الفعل إلى المجرور فنصبه،
والاستشهاد بالبيت في قوله "ألا يا اسلمي" فإن الفريقين الكوفيين
والبصريين متفقون على أن "يا" حرف نداء، وعلى أن حرف النداء مما يختص
بالدخول على الاسم، وقد د خل في هذا البيت على ما هو فعل أمر بالاتفاق،
فوجب أن يكون التقدير دخوله على اسم محذوف، وكأنه قد قال: ألا يا هند،
اسلمي، يا هند هند بني بكر، ونظير ذلك مما لم ينشده المؤلف قول الآخر:
ألا يا اسلمي ذات الدماليج والعقد ... وذات الثنايا الغر والفاحم الجعد
وقول الكوفيين "إن هذا خاص بما إذا وقع بعد حرف النداء فعل أمر" غير
صحيح فقد دخلت "يا" في اللفظ على أفعال غير فعل الأمر، وعلى الحرف
أيضًا، نحو قول الراجز:
يا ليتني وأنت يا لميس ... في بلدة ليس بها أنيس
وقول الآخر:
ياليت زوجك قد غدا ... متقلدًا سيفًا ورمحًا
وقول الآخر:
يا ليت أنا ضمنا سفينه ... حتى يعود الوصل كينونه
وقول الآخر:
يا رب مثلك في النساء غريرة ... بيضاء قد متعتها بطلاق
وقد ورد مثل ذلك في أفصح الكلام، فمن دخول "يا" على فعل الأمر قول الله
تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} ومن دخول "يا" على الحرف قوله
سبحانه: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} وقوله: {يَا لَيْتَنَا
نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ} وقوله: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ}
وقوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} .
[52] هذا البيت من كلام ذي الرمة، واسمه غيلان بن عقبة، وهو من شواهد
الأشموني "رقم 11 وابن هشام في المغني "رقم 402" وفي أوضح المسالك "رقم
82" وابن عقيل "رقم 62" والبلى -بكسر الباء مقصورًا- مصدر بلي الثوب
ونحوه يبلى بلاء وبلى؛ إذا رث وقدم، ومنهلًا: اسم الفاعل من قولك انهل
المطر، أي انسكب وانصب، والجرعاء: رملة مستوية لا تنبت شيئًا، والقطر:
المطر، والاستشهاد به في قوله "يا اسلمي" حيث دخل =
(1/83)
وقال الآخر، وهو المرقِّش:
[53]
أَلَا يا اسلمي لا صَرْمَ لي اليَوْمَ فَاطِمَا ... ولا أبدًا ما دام
وَصْلُكِ دائما
وقال الآخر:
[54]
ألَا يا اسلمي قبل الفراق ظَعِينَا ... تحيَّة من أَمْسَى إليك
حَزِينَا
وقال الآخر: وهو الكُمَيْتُ:
[55]
ألا يا اسلمي يا تِرْبَ أسماء من تِرْبِ ... ألا يا اسلمي حُيِّيتِ
عنِّي وعن صَحْبِي
__________
= حرف النداء في اللفظ على الفعل المتفق على فعليته، ولم يخرجه ذلك عن
الفعلية؛ لأن الكلام على تقدير اسم يدخل يا عليه، وأصل الكلام: ألا يا
دار مية أسلمي دار مي إلخ، وهو نظير ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق.
[53] هذا البيت كما قال المؤلف للمرقش، والصرم -بالفتح وبالضم أيضًا-
الهجران والقطعية وبتّ أواصر المحبة والألفة، و"فاطما" أراد يا فاطمة،
فحذف حرف النداء ورخم المنادى بحذف التاء، والاستشهاد به في قوله "ألا
يا اسلمي" حيث دخل حرف النداء -وهو"يا"- في اللفظ على فعل متفق على
فعليته، وقد اتفق الفريقان على أن حرف النداء مما يختص به الاسم.
فلزمهم أن يقدروا اسمًا يكون حرف النداء داخلًا عليه، وأصل الكلام: ألا
يا فاطمة اسلمي لا صرم لي إلخ، وهذا مما يؤنس بأن يكون قول حسّان بن
ثابت "ألست بنعم الجار" الذي استدل به الكوفيون على أن نعم اسم ليس مما
يصح التمسك به؛ لأن الباء داخلة على اسم مقدر، وأصل الكلام: ألست بجار
مقول فيه نعم الجار، على ما قررناه سابقًا.
[54] لم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين، وظعين: أراد يا
ظعينة، فحذف حرف النداء ورخم الاسم المنادى بحذف التاء، وجاء به على
لغة من ينتظر الحرف المحذوف فأبقى فتحة النون التي كانت لها قبل الحذف،
وهذه الألف للإطلاق، والظعينة: المرأة ما دامت في الهودج، وقد تطلق على
المرأة مطلقًا، وتحية: يجوز فيه النصب على أن يكون مفعولًا مطلقًا
عامله محذوف يدل عليه سابق الكلام، وكأنه قال: أحييك تحية، ويجوز فيه
الرفع على أن يكون خبر مبتدأ محذوف، وكأنه قال: هذه تحية إلخ،
والاستشهاد به في قوله "يا اسلمي" حيث اقترن حرف النداء -وهو "يا"-
بكلمة وقع الإجماع على أنها فعل؛ فدل على أن اقتران حرف النداء في
اللفظ بكلمة ما لا يقطع بأنها اسم، ويكون نظير ذلك أن اقتران حرف الجر
بالكلمة لا يدل دلالة قاطعة على أن هذه الكلمة اسم؛ لجواز أن يكون
مدخول حرف الجر محذوفًا من اللفظ، كما أن مدخول حرف النداء في هذا
البيت محذوف.
[55] هذا البيت -كما قال المؤلف- من كلام الكميت بن زيد الأسدي، والترب
-بكسر التاء وسكون الراء- الذي يساويك في سنك. والاستشهاد بالبيت في
قوله "يا اسلمي" والقول فيه كالقول في الأبيات السابقة.
(1/84)
وقال الآخر، وهو العجاج:
[56]
يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي ... بِسَمْسَمِ وعن يمين سَمْسَمِ
وقال الآخر:
[57]
أمسلم يا اسمع يابْنَ كلّ خليفةٍ ... ويا سائِسَ الدنيا ويا جبل الأرض
أراد "يا هذا اسمع". وقال الآخر:
[58]
وقالت: ألا يا اسمع نَعِظْكَ بِخُطَّةٍ ... فقلتُ: سمعيًا فانطقِي
وأصيبِي
__________
[56] هذان بيتان من الرجز المشطور للعجاج بن رؤبة، الراجز المشهور، وقد
أنشدهما ابن منظور "س م م" ونسبهما إليه، ووقع عنده "بسمسم أو عن يمين
سمسم" وسمسم: اسم موضع بعينه، وقال ابن السكيت: هو رملة معروفة، وفيها
يقول طفيل الغنوي:
أسف على الأفلاج أيمن صوبة ... وأيسره يعلو مخارم سمسم
وموطن الاستشهاد قوله "يا اسلمي" حيث اقترن حرف النداء بكلمة اتفق
الفريقان على أنها فعل، فكان مما لا بدّ منه تقدير اسم يقترن به حرف
النداء ليصح قولهم: إن حرف النداء مما يختص بالأسماء وقد أرشد العجاج
نفسه إلى هذا الاسم المقدر، فأنت تراه قد قال في صدر الشاهد "يا دار
سلمى" ثم قال "يا اسلمي" فكأنه قال: يا دار سلمى يا دار سلمى اسلمي ثم
اسلمي" والكلام فيه كالكلام فيما مر من الأبيات.
[57] ورد هذا البيت في اللسان "ن ف ض" منسوبا إلى أبي نخيلة، وقوله
"أمسلم" الهمزة فيه لنداء القريب، ومسلم -بفتح الميم الأولى- مرخم
مسلمة، وقوله "يا جبل الأرض" أراد به أن الذي يحفظ توازن هذه الأرض من
أن ترتجف بها الراجفة وتزعزعها أعاصير الاضطرابات، أخذه من قوله تعالي:
{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِي أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} .
والاستشهاد بالبيت في قوله "يا اسمع" فإن حرف النداء -وهو "يا"- قد
اقترن في هذه العبارة بكلمة اتفق الطرفان جميعًا على أنها فعل -وهي
قوله "اسمع"- والكلام فيه نظير ما قلناه فيما قبله، ورواية اللسان
"أمسلم إني يا ابن ... إلخ" ولا شاهد فيها.
[58] وهذا البيت مما لم نعثر له على نسبة إلى قائل معين، وقوله "نعظك"
مجزوم في جواب الأمر السابق عليه، وكأنه قال: إن تسمع نعظك، والخطة
-بضم الخاء وتشديد الطاء- شبه القصة، وهو أيضًا الأمر، ويقال: سمته خطة
سوء، وقال تأبط شرًّا:
هما خطتا إما إسار ومنة ... وإما دم، والقتل بالحر أجدر
وقوله "فقلت سميعا" ينتصب على أنه مفعول ثانٍ لفعل محذوف أو على أنه
حال حذف عامله، وتقدير الكلام: وجدتني سمعيًا، أو لقيتني سميعًا، ونحو
ذلك. والاستشهاد بالبيت في قوله: "ألا يا اسمع" والقول فيه كالقول في
نظائره من الأبيات السابقة ونحوها، وكلها يدل على أن اقتران علامة من
العلامات الدالة على اسمية الكلمة في اللفظ لا يدل دلالة قاطعة على
اسميَّتها في اللفظ وفي التقدير جميعًا، فالاقتران في اللفظ وحده غير
كافٍ في القطع باسميه الكلمة؛ لجواز أن يكون قد حذف من الكلام شيء يكون
هو المقترن بهذه =
(1/85)
أراد "وقالت يا هذا اسمع" فحذف المنادى
لدلالة حرف النداء عليه.
وإنما اختصّ هذا التقدير بفعل الأمر دون الخبر لأن المنادَى مخاطبٌ،
والمأمور مخاطبٌ، فحذفوا الأول من المخاطَبَيْنِ اكتفاء بالثاني عنه،
وإذا كان هذا المنادى إنما يقدر محذوفًا فيما إذا ولي حرفَ النداء فعلُ
أمرٍ فلا خلاف أن "نعم المولى" خبر؛ فيجب أن لا يقدَّر المنادى فيه
محذوفًا، يدل على أن النداء لا يكاد ينفكُّ عن الأمر أو ما جرى مجراه
من الطلب والنهي، ولذلك لا يكاد يوجد في كتاب الله تعالى نداء ينفك عن
أمر أو نهي، ولهذا لما جاء بعده الخبر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ} [الحج: 73] شَفَعه الأمر في وقوله:
{فَاسْتَمِعُوا لَهُ} فلما كان النداء لا يكاد ينفكُّ عن الأمر وهما
جملتا خطاب جاز أن يحذف المنادى من الجملة الأولى، وليس كذلك "يا نعم
المولى ونعم النصير" لأن نِعْمَ خبر؛ فلا يجوز أن يقدَّر المنادى فيه
محذوفًا.
ومنهم من تمسّك بأن قال: الدليل على أنهما ليسا بفعلين أنه لا يحسن
اقتران الزمان بهما كسائر الأفعال، ألا ترى أنك لا تقول "نعم الرجل
أمْسِ" ولا "نعم الرجل غدًا" وكذلك أيضًا لا تقول "بئس الرجل أمس" ولا
"بئس الرجل غدًا" فلما لم يحسن اقتران الزمان بهما عُلم أنهما ليسا
بفعلين.
ومنهم من تمسّك بأن قال: الدليل على أنهما ليسا بفعلين أنهما غيرُ
متصرفين، لأن التصرف من خصائص الأفعال، فلما لم يتصرَّفَا دلّ على
أنهما ليسا بفعلين.
ومنهم من تمسّك بأن قال: الدليل على أنهما ليسا بفعلين أنه قد جاء عن
العرب "نعيم الرجلُ زيدٌ" وليس في أمثلة الأفعال فعيل أَلبتة، فدلّ على
أنهما اسمان، وليسا بفعلين.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليلُ على أنهما فعلان اتصالُ
الضمير المرفوع بهما على حدِّ اتصاله بالفعل المتصرف؛ فإنه قد جاء عن
العرب أنهم قالوا "نِعْمَا رجلين، ونِعْمُوا رجالًا" وحكى ذلك الكسائي،
وقد رفعا مع ذلك المُظْهَرَ في نحو "نعم الرجلُ، وبئس الغلامُ" والمضمر
في نحو "نعم رجلًا زيدٌ، وبئس غلامًا عمرو" فدلّ على أنهما فعلان.
ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنهما فعلان اتصالهما بتاء التأنيث
__________
= العلامة، كما كان اقتران حرف النداء في هذه الشواهد واقتران حرف الجر
في بيت حسان غير دليل على اسمية ما دخل عليه حرف النداء وحرف الجر؛ لأن
الكلام على تقدير محذوف ألبتة.
(1/86)
الساكنة التي لا يقلبها أحدٌ من العرب في
الوقف هاء كما قلبوها في نحو رحمة وسنة وشجرة، ولك قولهم "نعمتِ
المرأةُ، وبئست الجاريةُ" لأن هذه التاء يختصّ بها الفعل الماضي لا
تَتَعَدَّاه، فلا يجوز الحكم باسمية ما اتصلت به.
اعترضوا على هذا بأن قالوا: قولكم "إن هذه التاء يختصّ بها الفعلُ" ليس
بصحيح؛ لأنها قد اتصلت بالحرف في قولهم "رُبَّتَ، وثُمَّتَ، ولَاتَ" في
قوله تعالى: {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [صّ: 3] قال الشاعر:
[59]
مَاوِيَّ بل رُبَّتَمَا غَارَةٍ ... شَعْوَاءَ كاللَّذْعَةِ
بِالمِيسَمِ
__________
[59] هذا البيت لضمرة بن ضمرة النهشلي، ويروى صدره:
ماوي يا ربتما غارة
وهو من شواهد ابن عقيل "رقم 216" وأنشده ابن منظور "ر ب ب". والغارة:
الاسم من قولك "أغار القوم" أي أسرعوا السير إلى الحرب، وقوله "شعواء"
يريد متفرقة منتشرة، و"اللذعة" مأخوذ من قولك "لذعته النار تلذعه" من
باب قطع -أي أحرقته- و"الميسم" بكسر الميم أوله: اسم الآلة من الوسم،
وبها توسم الإبل، توضع في النار ثم تمس بها الإبل لتكون علامة على
أصحابها، وكان لكل قبيلة ميسم على هيئة وشكل مخصوص يعلمون بها إبلهم
حتى يعرفها الناس ويفسحوا لها المجال لتشرب الماء. وموطن الاستشهاد
بهذا البيت هنا قوله "ربتما" حيث اقترنت تاء التأنيث برب، وقد علم أن
تاء التأنيث لا تقترن إلا بالأفعال، وقد اتفق الفريقان على أن رب ليس
فعلًا، فيكون اقتران رب بتاء التأنيث كاقتران حرف النداء بالفعل
وبالحرف فيما مضى من الشواهد، ونظير اقتران تاء التأنيث برب في هذا
البيت اقترانها بها في قول الآخر وأنشده ابن منظور:
وربت سائل عني حفي ... أعارت عينه أم لم تعارا
وبعض الكوفيين ينشد هذه الأبيات ونحوها لنقض دليل البصريين الذي
استدلوا به على أن نعم وبئس فعلان، فيقولون: أنتم تستدلون على أن نعم
وبئس فعلان باقتران كل واحدة من هاتين الكلمتين بتاء التأنيث، وتزعمون
أن تاء التأنيث مختصة بالدخول على الأفعال، ولكنا لا نسلم أن كل ما
تدخل عليه تاء التأنيث يكون فعلا، بدليل أن هذه التاء قد دخلت على "ثم"
وهو حرف عطف بالإجماع، كما دخلت على "لا" وهو حرف نفي بالإجماع، ودخلت
على "رب" ونحن وأنتم متفقون على أنه ليس فعلًا، فيكون هذا نظير ما
نقضتم به مذهبنا حيث قلتم: إن دخول حرف الجر على الكلمة لا يكون دليلًا
قطعًا على اسميه الكلمة؛ لأن حرف الجر قد دخل في اللفظ على الفعل وعلى
الحرف وإن حرف النداء الذي هو من خصائص الأسماء قد دخل في اللفظ على
الفعل المتفق على فعليته وعلى الحرف المتفق على حرفيته، وإذن فلم يتم
دليلكم كما لم يتم دليلنا، فما المرجح لمذهبكم على مذهبنا؟. وهذا كلام
ظاهره صحيح، ولكنه عند البحث والتحقيق لا ينهض ولا يستقيم، وبيان ذلك
من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن تاء التأنيث التي تلحق الفعل والتي هي
خاصة من خصائصه ساكنة، تقول: قامت، وقعدت، وأقامت، وسافرت، فتجد تاء =
(1/87)
وقال الآخر:
[60]
ثُمَّتَ قُمْنَا إلى جُردٍ مُسَوَّمَةٍ ... أَعْرَافُهُنَّ
لِأَيْدِينَا مَنَادِيلُ
فلحاقها بالحرف يبطل ما ادّعَيْتُمُوهُ من اختصاص الفعل بها، وإذا بطل
الاختصاص جاز أن تكون نعم وبئس اسمين لحقتهما هذه التاء كما لحقت
رُبَّتَ وثُمَّتَ. هذا على أن نعم وبئس لا تلزمهما التاء بوقوع المؤنث
بعدهما كما تلزم الأفعال، ألا ترى أن قولك "قام المرأة، وقعد الجارية"
لا يجوز في سَعة الكلام،
__________
= التأنيث اللاحقة لهذه الأفعال ساكنة، بخلاف تاء التأنيث في ثمت وفي
ربت وفي لات، فإنها متحركة مفتوحة، فلما اختلفت التاء في هذه الكلمات
عن التاء اللاحقة للأفعال دلّ على أنها ليست هي التاء التي نجعلها خاصة
من خصائص الأفعال، بدليل أننا نقول: إن تاء التأنيث المختصة بالأفعال
هي تاء التأنيث الساكنة، والوجه الثاني: أن تاء التأنيث اللاحقة
للأفعال والتي هي خاصة من خصائص الفعل الماضي إنما تلحق الفعل لتدل على
أن فاعله مؤنث؛ فأنت تقول: قامت هند، وقعدت فاطمة، وأقامت سلمى، وسافرت
سعدى، فتأتي بهذه التاء ألبتة مع الفاعل المؤنث للفرق بين الفعل المذكر
وفعل المؤنث؛ لأن بعض الأسماء يشترك في التسمية بها المذكر والمؤنث فلا
يكفي ذكر هذه الأسماء من غير تأنيث الفعل للدلالة على أن المراد بها
مؤنث، أما التاء اللاحقة لرب وثم ولا ليست بهذه المنزلة، بل المراد بها
تأنيث اللفظ، فلتكن التاء التي هي من خصائص الأفعال هي التاء الدالة
على تأنيث الفاعل الذي يسند الفعل المقترن بها إليه، والوجه الثالث:
أنا نقول: إن لحاق هذه التاء لهذه الحروف شاذ عن القياس بالإجماع منا
ومنكم، والحكم فيما عدا هذه الكلمات المحفوظة باقٍ على أصله لا ينقضه
شيء.
[60] هذا البيت من قصيدة مستجادة لعبدة بن الطبيب، وهو شاعر مخضرم،
وقصيدته التي منها بيت الشاهد هي المفضلية رقم 26، والجرد: جمع أجرد أو
جرداء، والأجرد من الخيل: القصير الشعر، والمسومة: المعلمة، والأعراف:
جمع عرف -بالضم- وهو الشعر الذي في عنق الفرس، والمناديل: جمع منديل،
وهو الذي تمسح به يديك من وضر الطعام ونحوه، يقول: إنهم بعد أن طعموا
ركبوا الخيل الجرداء المعلمة ومسحوا أيديهم من آثار الطعام بأعرافها،
والاستشهاد بالبيت في قوله "ثمت" حيث اتصلت تاء التأنيث بثم، ومن
المتفق عليه بين الفريقين أن ثم حرف من حروف العطف، وقد بينا وجه
الاستشهاد بذلك في شرح البيت السابق، ونظير بيت عبدة هذا في اقتران ثم
بتاء التأنيث قول شمر بن عمرو الحنفي، وهو من شعر الأصمعيات:
ولقد مررت على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت: لا يعنيني
وقول الآخر وأنشده ابن منظور "ب ي ع - ث م م":
ثمت ينباع انبياع الشجاع
وقول عمر بن أبي ربيعة "د 258 بتحقيقنا":
اسأليه ثمت استمعي ... أينا أحق بالظلم؟
(1/88)
بخلاف قولك: "نعم المرأة، وبئس الجارية"
فإنه حَسَن في سَعَة الكلام؟ فبان الفرق بينهما.
وهذا الاعتراض الذي ذكروه ساقط، وأما التاء التي اتصلت برُبَّتَ
وثَمَّتَ وإن كانت للتأنيث إلا أنها ليست التاء التي في نعمت وبئست،
والدليل على ذلك من وجهين؛ أحدهما: أن التاء في "نعمت المرأةُ، وبئست
الجاريةُ" لحقت الفعل لتأنيث الاسم الذي أسند إليه الفعل، كما لحقت في
قولهم "قامت المرأة" لتأنيث الاسم الذي أسند إليه الفعلُ، والتاء في
"ربت، وثمت" لحقت لتأنيث الحرف؛ لا لتأنيث شيء آخر، ألا ترى أنك تقول
"رُبَّتَ رجل أَهَنْتُ" كما تقول "رُبَّتَ امرأة أكرمت" ولو كانت
كالتاء في نعمت وبئست لما جاز أن تثبت مع المذكر كما لا يجوز أن تثبت
مع المذكر في قولك "نعمت الرجل، وبئست الغلام"؛ فلما جاز أن تثبت التاء
في رُبَّتَ مع المذكر دلّ على الفرق بينهما، والوجه الآخر: أن التاء
اللاحقة للفعل تكون ساكنة، وهذه التاء التي تلحق هذين الحرفين تكون
متحركة، فبان الفرق بينهما، وأما "لاَتَ" فلا نسلم أن التاء مزيدة
فيها، بل هي كلمة على حيالها، وإن سلمنا أن التاء مزيدة فيها فالجواب
من أربعة أوجه: وجهان ذكرناهما في ربت وثمت، ووجهان نذكرهما الآن؛
أحدهما: أن الكسائي كان يقف عليها بالهاء؛ فاحتجَّ بأنه سأل أبا
فَقْعَس الأسديّ عنها فقال: "وَلَاهْ" فإذًا لا تكون بمنزلة التاء في
ربت وثمت، ولا بمنزلة التاء في نعمت وبئست، والوجه الثاني: أن تكون
التاء في "لات حين" متصلة بحين، لا بلا، كذلك ذكره أبو عُبيد القاسمُ
بن سَلَّام، وحكى أنهم يزيدون التاء على حين وأوان والآن؛ فيقولون:
"فعلت هذا تَحِينَ كذا، وتأوَانَ كذا، وتألآنَ" أي: حين كذا، وأوان
كذا، والآن. وقال الشاعر وهو أبو وَجْزَةَ السعدي:
[61]
العاطفون تَحِينَ ما مِنْ عاطفٍ ... والمُطْعِمُون زمان أين المُطْعِمُ
__________
[61] هذا البيت لأبي وجزة كما قال المؤلف، وقد أنشده ابن منظور "ح ي ن"
عن ابن سيده وعن الجوهري، ونسبه في المرتين لأبي وجزة، وقد لفق كل واحد
من هؤلاء الأئمة البيت من بيتين، وصواب الإنشاد هكذا:
العاطفون تحين ما من عاطف ... والمسبغون يدًا إذا ما أنعموا
والمانعون من الهضيمة جارهم ... والحاملون إذا الشعيرة تغرم
واللاحقون جفانهم قمع الذرى ... والمطعمون زمان أين المطعم
والاسشتهاد بالبيت في قوله "العاطفون تحين" وللعلماء في هذه العبارة
رأيان: أحدهما: وهو الذي ذكر المؤلف ههنا أن هذه التاء زائدة في أول
كلمة "حين" وأصل هذا الرأي لأبي زيد، زعم أنه سمع من بعض العرب زيادة
التاء في أوائل بعض الظروف مثل الحين =
(1/89)
وقال أبو زبيد الطّائي:
[62]
طلبوا صلحنا ولا تأَوَانٍ ... فَأَجَبْنَا أنْ ليس حين بَقَاء
__________
= والآن، قال أبو زيد "سمعت من يقول: حسبك تلان، يريد الآن، فزاد
التاء" ا. هـ. والرأي الثاني: أن هذه التاء زائدة في قوله "العاطفون"
وأصلها هاء الوقف، ثم أجرى الكلمة في حال الوصل مجراها في حال الوقف،
ثم قلب الهاء تاء مبسوطة، وعلى ذلك ينبغي أن تكتب "العاطفونت حين ...
إلخ" وقد ذكر هذا الرأي ابن سيده بعد أن ذكر الرأي الأول عن أبي زيد،
قال: "وقيل: أراد العاطفونه، فأجراه في الوصل على حد ما يكون عليه في
الوقف، وذلك أنه يقال في الوقف: هؤلاء مسلمونه، وضاربونه، فتلحق الهاء
لبيان حركة النون كما أنشدوا:
أهكذا يا طيب تفعلونه ... أعللا ونحن منهلونه
فصار التقدير: العاطفونه، ثم إنه شبه هاء الوقف بهاء التأنيث، فلما
احتاج لإقامة الوزن إلى حركة الهاء قلبها تاء، كما تقول: هذا طلحة،
فإذا وصلت صارت الهاء تاء فقلت: هذا طلحتنا، فعلى هذا قال: العاطفونه،
وفتحت التاء كما فتحت في آخر ربت وثمت وذيت وكيت" ا. هـ. وقال ابن بري
في بيت أبي وجزة:"هذه الهاء هي هاء السكت اضطر إلى تحركها، قال: ومثله:
هم القائلون الخير والأمرونه ... إذا ما خشوا من محدث الأمر معظمًا"
ا. هـ
ونريد أن نبين لك أن هذه الهاء في قول أبي وجزة "العاطفونه" وفي تمثيل
ابن سيده بقوله "هؤلاء مسلمونه" و "ضاربونه" ليست هاء ضمير الغائب على
ما قد يتسرب إلى ذهنك، وذلك أن هذه الهاءات لو كانت ضمائر لكان الاسم
مضافًا إليها، فكان يجب أن تحذف النون التي تلي علامة الإعراب وهي
الواو في كل هذه الأمثلة، لما تعرف من أنه يحذف للإضافة تنوين الاسم
المفرد ونون المثنى وجمع المذكر السالم، فتنبه لهذا، على أن من هذه
الأمثلة ما لا يتعدى بنفسه مثل "الآمرونه" في البيت الذي أنشده ابن
بري، وإنما يتعدى بالباء إلى المأمور به، فتقول: أمرته بكذا، ولا تقول:
أمرته كذا، إلا على التوسع كما جاء في قول الشاعر:
أمرتك الخير، فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
[62] هذا البيت من قصيدة لأبي زبيد الطائي، كما قال المؤلف، وهو من
شواهد مغني اللبيب "رقم 416" وشواهد الأشموني "رقم 229" والاستشهاد
بهذا البيت في قوله "ولات أوان" وفي هذه التاء رأيان للنحاة؛ أحدهما:
أنها مزيدة على لا النافية، وأنها نظير التاء في ربت وثمت، وقد مضى
بيان ذلك، والرأي الثاني: أن هذه التاء مزيدة في أول كلمة "أوان" كما
زيدت في أول الآن فقيل: تالآن، وقيل: تلان، على ما رواه أبو زيد، وقد
ذكرنا ذلك في شرح الشاهد السابق "رقم 61" وهذا هو الوجه الذي روى
المؤلف البيت في هذا الموضع لتقريره. ثم إن في جر "أوان" أربعة آراء
للعلماء، الأول: أن "لات" في هذا ونحوه عاملة الجر، وكلمة "أوان"
مجرورة بالكسرة الظاهرة، وتنوينها تنوين التمكين الذي يلحق الأسماء
المعربة، وهذا رأي الفراء، ولا يجري إلا على أن التاء متصلة بلا،
والرأي الثاني: أن =
(1/90)
وقال الآخر:
[63]
نَوِّلِي قبل يوم نَأْيِي جِمَانَا ... وصِلِينَا كما زعمت تَلَانَا
واحتجَّ بحديث ابن عمر حين ذكر لرجل مَنَاقِب عثمان فقال له "اذهب بها
تَالآنَ إلى أصحابك" واحتج بأنه وجدها مكتوبة في المصحف الذي يقال له
الإمام "تَحِينَ" فدلّ على ما قلناه.
وقولهم "إن التاء لا تلزم نعم وبئس إذا وقع المؤنث بعدهما" فليس بصحيح،
لأن التاء تلزمهما في لغة شطر العرب، كما تلزم في قام، ولا فرق عندهم
بين "نعمت المرأة"، و "قامت المرأة" وإنما جاز عند الذين قالوا "نعم
المرأة" ولم يجز عندهم "قام المرأة" لأن المرأة في قولهم "نعم المرأة
هند" واقعة على الجنس كقولهم "الرجل أفضل من المرأة" أي جنسُ الرجال
أفضل من جنس النساء، وكقولهم "أهلك الناس الدينارُ والدرهمُ" أي
الدراهم والدنانير، وكوقوع الإنسان على الناس، قال الله تعالي: {لَقَدْ
خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] أراد
الناس، وإذا كان المراد بالمرأة استغراق الجنس فلا خلاف أن أسماء
الأجناس والجموع يجوز تذكيرُ أفعالِها وتأنيثُها؛ فلهذا المعنى حذف تاء
التأنيث من حذفها من "نعم المرأة" وإذا كانوا قد حذفوها في حال السعة
من فعل المؤنث الحقيقي من قولهم "حضر القاضيَ اليوم امرأةٌ" فلا يبعد
أن يحذفوها من فعل المؤنث الواقع
__________
= "لات" ههنا حرف نفي يعمل عمل إن ويدل على نفي الجنس، و "أوان" في هذا
البيت مبني لا معرب، وبناؤه على السكون الذي هو الأصل في المبنيّات،
ولكنه لما اجتمع ساكنان: سكون البناء، وسكون الألف السابقة، كسر آخره
على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، ثم نوّن للضرورة، والرأي
الثالث: أن "لات" حرف نفي، و "أوان" مبني على الكسر تشبيهًا له بنزال
ونحوه لأنه على وزنه، وتنوينه للضرورة أيضًا، وهذان الرأيان يجريان على
أن التاء مزيدة على "لات" ويجريان أيضًا على أن التاء مزيدة أيضًا على
أوان، وعليه يكون العامل هو "لا" النافية للجنس، والرأي الرابع: أن
تكون "لا" نافية، والتاء مزيدة على "أوان" وتأوان: مجرور بحرف جر
محذوف، وحرف الجر هو من الاستغراقية، وكأنه قال: لا من أوان صلح لهم،
وفي هذا القدر كفاية ومقنع.
[63] لم أقف لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين. وقد أنشده ابن منظور
"ح ي ن" ولم يعزه لقائل معين، و "نولي" أصل معناه أعطي وامنحي، وأراد
هنا صليني وكفي عن الهجر، وما يؤدي هذا المعنى، والنأي: البعد والفراق،
و"جمانا" اسم امرأة، وهو منادى بحرف نداء محذوف، وأصله "جمانة" فرخمه
الشاعر بحذف التاء، ومحل الاستشهاد بهذا البيت قوله "تلانا"حيث زاد على
"الآن" تاء في أوله وفي حديث ابن عمر "اذهب بها تالآن معك" قال أبو
زيد: سمعت من يقول "حسبك تلان" يريد الآن، فزاد التاء، وقال ابن سيده
في بيت الشاهد: أراد الآن، فزاد التاء، وألقى حركة الهمزة على ما
قبلها. ا. هـ.
(1/91)
على الجنس. وقد قالوا "ما قعد إلا المرأة،
وما قام إلا الجارية" فحذفوا تاء التأنيث ألبتة، ولم تأتِ مثبتة إلا في
ضرورة.
فإن قالوا: إنما حذفت تاء التأنيث ههنا تنبيهًا على المعنى؛ لأن
التقدير: ما قعد أحد إلا المرأة، وما قام أحد إلا الجارية.
قلنا: هذا مُسَلَّم، ولكن اللفظ يدل على أن المرأة والجارية غير بدل من
أحد، وإن كان المعنى يدل على أنهما بدل، كما أن اللفظ يدل على أن
"شَحْمًا" في قولك "تَفَقّأ الكبشُ شحمًا" غير فاعل، وإن كان المعنى
يدل على أنه فاعل، فكما أنهم حذفوا تاء التأنيث من قولهم "ما قعد إلا
المرأة" تنبيهًا على المعنى فكذلك حذفوها من قولهم "نعم المرأة"
تنبيهًا على أن الاسم يراد به الجنس.
ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنهما فعلان ماضيان أنهما مبنيان
على الفتح، ولو كانا اسمين لما كان لبنائهما وجه؛ إذ لا علة ههنا توجب
بناءهما. وهذا تمسّكٌ باسْتِصْحَاب الحال، وهو من أضعف الأدلة،
والمعتمد عليه ما قدمناه.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "الدليل على أنهما اسمان
دخول حرف الجر عليهما في قوله:
ألست بنعم الجارُ يُؤْلَفُ بيتَهُ
وقول بعض العرب: نعم السير على بئس العير، وقول الآخر: والله ما هي
بنعم المولودة" فنقول: دخول حرف الجر عليهما ليس لهم فيه حجة؛ لأن
الحكاية فيه مقدَّرة، وحرف الجر يدخل مع تقدير الحكاية على ما لا
شُبْهَة في فعليته، قال الراجز:
[64]
والله ما ليلي بنامَ صاحِبُهْ ... ولا مخالط اللّيانِ جانِبُهْ
__________
[64] لم أقف لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين، وقد أنشده ابن منظور
"ن وم" ولم يعزه، وهو من شواهد الأشموني في باب نعم وبئس "رقم 744"
وابن هشام في شرح قطر الندى "رقم 8" والرضي في باب أفعال المدح، وانظر
الخزانة "4/ 106" ويروى صدره:
والله ما زيد بنام صاحبه
والليان -بفتح اللام والياء جميعًا- أحد مصادر "لان" تقول: لان فلان
يلين لينًا وليانًا؛ إذا سهل. ومحل الاستشهاد بالبيت قول "بنام" حيث
دخل عليه حرف الجر -وهو الباء- على الفعل، في اللفظ، وقد علم أن حرف
الجر مختص بالدخول على الأسماء فلزم تقدير اسم يكون معمولًا لحرف الجر،
وتقدير الكلام: ما ليلي بليل مقول فيه نام صاحبه، وقد روى البصريون هذا
البيت لإبطال حجة الكوفيين القائلين إن نعم وبئس اسمان بدليل دخول =
(1/92)
ولو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يحكم لنام
بالاسمية؛ لدخول الباء عليه، وإذا لم يجز أن يحكم به بالاسمية لتقدير
الحكاية فكذلك ههنا لا يجوز أن يحكم لنعم وبئس بالاسمية لدخول حرف الجر
عليهما لتقدير الحكاية، والتقدير في قولك:
[50]
ألست بنعم الجار يؤلف بيته
ألست بجارٍ مقولٍ فيه نعم الجار، وكذلك التقدير في قول بعض العرب "نعم
السير على بئس العير" "نعم السير على عَيْرٍ مقول فيه بئس العير" وكذلك
التقدير في قول الآخر "والله ما هي بنعم المولودة" والله ما هي بمولودة
مقول فيها نعم المولودة، وكذلك أيضًا التقدير في البيت الذي ذكرناه
"والله ما ليلي بليل مقول فيه نام صاحبه" إلا أنهم حذفوا منها الموصوف
وأقاموا الصفة مُقَامة. كقوله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:
11] أي دُرُوعًا سابغات، وكقوله تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}
[البينة: 5] أي المِلَّة القيمة؛ فصار التقدير فيها ألست بمقول فيها
نعم الجار، ونعم السير على مقول فيه بئس العير، وما هي بمقول فيها نعم
المولودة، وما ليلى بمقول فيه نام صاحبه، ثم حذفوا الصفة التي هي
"مقول" وأقاموا المحكيَّ بها مُقَامَهَا، لأن القول يحذف كثيرًا كما
يذكر كثيرًا، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
زُلْفَى} [الزمر: 3] أي
__________
= حرف الجر عليهما، ووجه الأبطال أنه لا يلزم من دخول حرف الجر في
اللفظ على كلمة ما أن تكون هذه الكلمة اسمًا؛ لأن حرف الجر قد يدخل في
اللفظ على كلمة قد اتفقنا على أنها فعل مثل نام في هذا البيت. وهذا
الذي ذكرناه وذكره مؤلف الكتاب في هذا البيت أحد رأيين للعلماء في هذا
الشاهد، والرأي الآخر حكاه ابن منظور، وخلاصته أن "نام" ليس فعلًا
باقيًا على فعليته، ولكنه صار مع ما بعده علمًا، فهو من باب الأعلام
المحكية عن الجمل، وأنت خبير أن الأعلام المحكية عن الجمل تدخل عليها
عوامل الأسماء، ويجوز أن تضاف إليها الأسماء كما قال الشاعر:
كذبتم وبيت الله لا تنكحونها ... بني شاب قرناها تصر وتحلب
فقول الشاعر هنا "نام صاحبه" مثل قول الشاعر "شاب قرناها" وهذا التخريج
إنما ذهب إليه من روى في بيت الشاهد:
والله ما زيد بنام صاحبه
فكأنه قال: ما زيد بهذا الرجل المسمى نام صاحبه، إلا أن قوله بعد ذلك
"ولا مخالط الليان" لا يلتئم مع الكلام السابق، على هذا التخريج، فإنه
يسأل: على م يعطف قوله "ولا مخالط الليان"؟ فإنه لا يجوز حينئذ أن يعطف
على "نام صاحبه" لكونه في هذه الحالة ليس صفة، إلا إذا لحظت معناه
الأول قبل أن يصير علمًا، ولهذا استبعد جماعة من العلماء أن يكون "نام
صاحبه" في هذا البيت علمًا.
(1/93)
يقولون: ما نعبدهم، وقال تعالى: {الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] أي:
يقولون ربنا، وقال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ
مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23، 24] أي يقولون: سلام عليكم، وقال تعالى:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127] أي يقولون:
ربنا؛ وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ
أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106] أي يقال لهم:
أكفرتم، وقال تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ}
[الواقعة: 65-66] أي تقولون: إنا لمغرمون.
وهذا في كلام الله تعالى وكلام العرب كثيرًا جدًا، فلما كثر حَذْفه
كثرة ذكره حذفوا الصّفة التي هي مقول؛ فدخل حرف الجر على الفعل لفظًا
وإن كان داخلًا على غيره تقديرًا، كما دخلت الإضافة على الفعل لفظًا
وإن كانت داخلة على غيره تقديرًا في قوله:
[65]
ما لك عندي غيرُ سهم وحَجَر، ... وغير كبدَاءَ شديدة الوَتَر
جادت بِكَفَّيْ كان من أَرْمَى البشر
أي: بكفَّيْ رجل كان من أرمى البشر، فحذف الموصوف الذي هو "رجل" وأقام
الجملة مقامه، فوقعت الإضافة إلى الفعل لفظًا وإن كانت داخلة على غيره
تقديرًا، فكذلك ههنا: دخل حرف الجر على الفعل لفظًا، وإن كان داخلًا
على غيره تقديرًا.
__________
[65] لم أعثر لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين، وهو من شواهد مغني
اللبيب "رقم 266" والأشموني "رقم 791 بتحقيقنا" وشواهد الرضي، وقال
البغدادي "2/ 312" "لم يعرف له قائل" والسهم: واحد السهام، وهي النبال،
وهو أيضًا حجر يوضع فوق باب بيت يبنى لاصطياد الأسد فإذا دخل الأسد هذا
البيت وقع الحجر فسد الباب عليه، والكبداء -بفتح فسكون- القوس إذا كانت
واسعة المقبض، والوتر: مجرى السهم من القوس، والضمير المستتر في "ترمي"
راجع على الكبداء التي هي القوس، وأرمى البشر: أشدهم رميًا وأكثرهم
إصابة للهدف، والاستشهاد بالبيت في قوله "بكفي كان من أرمى البشر" حيث
حذف الموصوف وأبقى صفته، وأصل الكلام: بكفي رجل كان من أرمى البشر، أما
الموصف فهو "رجل" الذي يضاف قوله "بكفي" إليه، وأما الصفة فهي جملة
"كان من أرمى البشر" ويجوز لك أن تعتبر "كان" زائدة لا تعمل شيئًا؛
لوقوعها بين شيئين متلازمين ليسا جارًّا ومجرورًا وهما النعت ومنعوته،
وعلى هذا يكون قوله "من أرمى البشر" جارًّا ومجرورًا متعلقًا بمحذوف
نعت للمنعوت المحذوف.
(1/94)
ونحو هذا من الاتّساع مجيء الجملة
الاستفهامية وَصْفًا في نحو قوله:
جاءوا بِضَيْحٍ هل رأيت الذئب قطّ
فقوله "هل رأيت الذّئب قط" جملة استفهامية في موضع وَصْف لضيح، وإن
كانت لا تحتمل صدقًا ولا كذبًا، ولكنه كأنه قال: جاءوا بضيح يقول مَنْ
رآه هل رأيت الذئب قط، فإنه يشبهه.
ونحو ذلك أيضًا من الاتساع مجيء الجملة الأمرية حالًا في قوله:
[67]
بئس مَقَامُ الشَّيخ أَمْرِسْ أَمْرِسِ ... إمَّا على قَعْوٍ، وإمَّا
اقْعَنْسِسِ
__________
[66] ينسب بعض الناس بهذا الرجز إلى العجاج بن رؤبة الراجز المشهور،
ولكن الأكثرين على أنه لراجز لا يعلم، وكان قد نزل بقوم وانتظر طويلا
عساهم أن يجيئوه بقراه، ثم جاءوه بلبن مشوب بكثير من الماء فقال فيهم:
بتنا بحسّان ومعزاه تئط ... تلحس أذنيه، وحينا تمتخط
ما زلت أسعى بينهم وألتبط ... حتى إذا جن الظلام واختلط
جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط
وقد أنشده ابن منظور "ض ي ح" ولم يعزه إلى معين، والبيت من شواهد
الأشموني "رقم 874" وابن عقيل "رقم 287" وأوضح المسالك "رقم 294" ومغني
اللبيب "رقم 408" والرضي في باب المبتدأ والخبر وفي باب النعت، وشرحه
البغدادي "1/ 275". وحسان: جعله البغدادي اسم رجل، وقيل: هو موضع بين
دير العاقول وواسط، والصواب ما قاله البغدادي؛ لقوله فيما بعد "تلحس
أذنيه" وتئط: تصوّت، وجن الظلام: ستر كل شيء، والمذق اللبن إذا كثر
خلطه بالماء، ويروى "بضيح" وهي الرواية التي حكاها المؤلف، والضيح
-بفتح الضاد وسكون الياء- هو اللبن الرقيق الذي خلط كثيرًا بالماء،
ومحل الاستشهاد بالبيت في قوله "بضيح هل رأيت ... إلخ فإن ظاهر هذه
العبارة يفيد أن الجملة الإنشائية وهي جملة الاستفهام التي هي قوله "هل
رأيت الذئب قط" قد وقعت نعتًا للنكرة التي هي قوله "مذق" أو "ضيح" ولما
كان العلماء جميعا متفقين على أن الجملة الإنشائية لا يجوز أن تقع نعتا
للنكرة فإنهم اتفقوا جميعًا على أن هذا الظاهر في هذا البيت ونحوه غير
مراد، ومن أجل ذلك اتفقوا على أن جملة الاستفهام معمولة لعامل مقدر هو
الذي يقع نعتًا لهذه النكرة، وأصل الكلام: جاءوا بضيح مقول عند رؤيته
هل رأيت الذئب قط.
[67] أنشد ابن منظور هذين البيتين "ق ع س - م ر س" ولم يعزهما إلى معين
والمقام: اسم مكان الإقامة، و "أمرس" فعل أمر أصله المرس، والمرس: مصدر
"مرس الحبل يمرس مرسًا" وهو أن يقع الحبل في أحد جانبي البكرة بين
الخطاف والبكرة، وتقول "أمرس الحبل يمرسه، مثل أكرمه يكرمه" إذا أعاده
إلى موضعه وتأمر من ذلك فتقول "أمرس حبلك على مثال أكرم ضيفك" أي أعده
إلى مجراه، والقعو -بفتح القاف وسكون العين =
(1/95)
أراد بئس مقام الشيخ مقولا فيه أمرس أمرس،
ذمَّ مقامًا يقال له ذلك فيه، و "أمرس" أعِدِ الحبل إلى موضعه من
البكرة.
وإنما جاءت هذه الأشياء في غير أماكنها لسَعَة اللغة؛ وحَسَّنَ ذلك ما
ذكرناه من إضمار القول؛ فدلّ على أن ما تمسّكوا به من دخول حرف الجر
عليهما ليس بحجة يُسْتَنَدُ إليها، ولا يعتمد عليها.
وأما قولهم "إن العرب تقول: يا نعم المولى ويا نعم النصير" فنقول:
المقصود بالنداء محذوف للعلم به، والتقدير فيه: يا الله نعم المولي
ونعم النصير أنت.
وأما قولهم: "إن المنادى إنما يقدر محذوفًا إذا ولي حرف النداء فعل
أمر" فليس بصحيح؛ لأنه لا فرق بين الفعل الأمريّ والخبريّ في امتناع
مجيء كل واحد منهما بعد حرف النداء، إلا أن يقدَّر بينهما اسم يتوجه
النداء إليه، والذي يدلُّّّ على أنه لا فرق بينهما مجيء الجملة الخبرية
بعد حرف النداء بتقدير حذف المنادى كما
__________
= المهملة- هو أحد خشبتين يكتنفان البكرة وفيهما المحور، وهما قعوان،
وقيل: القعوان الحديدتان اللتان تجري البكرة بينهما، وقال الأصمعي: إذا
كان ما تجري البكرة وتدور فيه من حديد فهو خطاف، وإن كان من خشب فهو
القعو، واقنسس: تأخر وارجع إلى خلف، ومعنى قوله "إما على قعو وإما
اقعنسس" قال ابن منظور: إن استقى المستقي ببكرة فوقع حبلها في غير
موضعه قيل له: أمرس، أي أعد حبلك إلى موضعه، وإن كان يستقي بغير البكرة
ومتح حتى أوجعه ظهره فيقال له: اقعنسس واجذب الدلو، والاستشهاد بالبيت
في قوله "بئس مقام الشيخ أمرس أمرس" فإن قوله "أمرس" جملة إنشائية
لكونها مؤلفة من فعل أمر وفاعله وهو الضمير المستتر فيه وجوبًا، وقد
وقعت هذه الجملة حالًا في ظاهر الأمر، ولما كان العلماء لا يجيزون مجيء
الجملة الإنشائية حالا، إلا من لا يعتد بقوله، فقد جعلوا هذه الجملة
معمولة لعامل محذوف هو الذي يقع حالا، وتقدير الكلام: بئس مقام الشيخ
مقولا فيه: أمرس أمرس، وصاحب الحال هو قوله "الشيخ" المضاف إليه، وفي
كلام ابن منظور ما يفيد أن هذه الجملة الإنشائية معمولة لعامل محذوف
يقع نعتًا لمخصوص بالذم، وكأنه قال: بئس مقام الشيخ مقام مقول له فيه
أمرس أمرس، وهو كلام مستقيم؛ فإن مجيء بئس وقائلها في أول الكلام يرشح
لمجيء المخصوص بالذم؛ لأنه هو الذي جرت عادتهم في هذا الأسلوب أن يأتوا
به، ولو قلت: إن هذه الجملة معمولة لقول محذوف يقع تمييزا، وإن
التقدير: بئس مقام الشيخ مقاما مقولا فيه أمرس أمرس، لم تكن قد أبعدت،
والاستشهاد على أية هذه الأحوال الثلاثة جارٍ مؤدٍ للغرض الذي يريده
المؤلف، فإنه يقصد إلى أن يقول: إن من سنن العرب في كلامهم أن يحذفوا
الكلمة من الكلام -وخاصة ما كان من مادة القول- وهم يريدونها، وإن ذلك
واقع في أساليب كثيرة من أساليبهم.
(1/96)
تجيء الجملة الأمرية بعد حرف النداء بتقدير
حذف المنادى، قال الشاعر:
[68]
يا لعَنْةَ ُالله والأقوام كلهمُ ... والصالحين على سِمْعَانَ من جَارِ
أراد: يا هؤلاء لعنة الله على سمعان، وقال الآخر:
[69]
يا لعْنَةُ الله على أهل الرَّقَم ... أَهْلِ الحَمِير والوَقِيزِ
والخُزُمْ
وقال الآخر:
[70]
يا لعنَ الله بني السِّعْلَاتِ ... عمرو بن مَيْمُونٍ شِرَارِ النَّاتِ
__________
[68] هذا البيت من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 620" وهو من
شواهد سيبويه "1/ 320" وابن يعيش "ص1173". والاستشهاد به في قوله "يا
لعنة الله" فقد وقع بعد حرف النداء جملة مؤلفة من مبتدأ هو قوله "لعنة
الله" وخبر وهو الجار والمجرور الذي هو قوله "على سمعان" وذلك مبني على
أن الرواية برفع "لعنة الله" فلو رويته بنصب اللعنة كان الكلام على
تقدير عامل يعمل النصب وعلى تقدير المنادى بيا أيضًا، وتقدير الكلام
على هذا: يا هؤلاء أستدعي لعنة الله، ويكون الجار والمجرور متعلقًا
باللعنة، وهذا أحد تخريجات ثلاثة في البيت، والتخريج الثاني: أن تعتبر
"يا" لمجرد التنبيه، والثالث: ولا يتم إلا على رواية النصب أن تكون
اللعنة نفسها هي المنادى، وكأنه قال: يا لعنة الله انصبي على سمعان،
كما نودي الأسف في قوله تعالى: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} وكما نوديت
الحسرة في قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} وفي قوله
سبحانه {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} .
[69] هذا البيت لابن دارة، واسمه سالم بن مسافع، ودارة أمه، وقد أنشده
ابن منظور "خ زم" ونسبه إليه. والرقم -بفتح الراء والقاف جميعا- جمع
رقمة، والرقمة: نبات يقال إنه الخبازى، وقيل: الرقمة من العشب العظام
تنبت متسطحة وهي من أول العشب خروجًا، تنبت في السهل، ولا يكاد المرء
يأكلها إلا من حاجة، والحمير: جمع حمار، وهو معروف، والوقير: صغار
الشاء، وقال أبو النجم:
نبح كلاب الشاء عن وقيرها
والخزم -بضم الخاء والزاي جميعًا- جمع خزومة، وهي البقرة، والاستشهاد
به في قوله "يا لعنة الله" وهي نظير ما ذكرناه في شرح الشاهد السابق.
[70] هذان بيتان من الجرز المشطور، وهما لعلباء بن أرقم اليشكري أحد
شعراء الجاهلية، وهما من شواهد شرح الرضي على شافية ابن الحاجب "رقم
223" وشرح المفصل لموفق الدين ابن يعيش "ص1380 أوروبة" وقد أنشدهما مع
ثالث ابن منظور تبعا للجوهري "ن وت - س ي ن" ونسبهما في المرتين لعلباء
بن أرقم، والرواية عنده -وهي المشهورة في كتب الصرف- هكذا:
يا قبح الله بني السعلات ... عمرو بن يربوع شرار النات
غير أعفاء ولا أكيات
=
(1/97)
أراد بالنات الناس فحول السين تاء، وقال
الآخر:
[71]
يا قَاتَلَ الله صِبْيَانًا تجيء بهم ... أم الهُنَيْبِر من زَنْدٍ لها
وَارِي
وهي جملة خبرية، فدل على أنه لا فرق في ذلك بين الجملة الأمرية
والخبرية، فوجب أن يكون المنادى محذوفًا في قولهم "يا نعم المولى ويا
نعم النصير".
والذي يدل على فساد ما ذهبوا إليه أنا أجمعنا على أن الجمل لا تُنَادى؛
وأجمعنا على أن "نعم الرَّجُلُ" جملة، وإن وقع الخلاف في نعم هل هي اسم
وفعل، وإذا امتنع للإجماع قولنا "يا زيد منطلق" فكذلك يجب أن يمتنع "يا
نعم الرجل" إلا على تقدير حذف المنادى على ما بينَّا.
وأما قولهم "إن النداء لا يكاد ينفك عن الأمر أو ما جرى مجراه، ولذلك
لا
__________
= و "قبح الله فلانا" أي نحاه وأبعده عن الخير، ويروى "يا قاتل الله"
وهو دعاء بالهلكة، و "السعلاة" -بكسر السين وسكون العين المهملة- أنثى
الغول، ويقال: هي ساحرة الجن، وقد زعموا أن عمر بن يربوع تزوج سعلاة
فأقامت دهرًا في بني تميم وأولدها عمرو أولادًا، و "عمرو بن يربوع"
قالوا: هو بدل من السعلاة، ولو جعلته معطوفًا عليه بعاطف محذوف لم تكن
قد أبعدت، و"النات" أرادبه الناس، و "أكيات" أراد به الأكياس: جمع كيس،
وهو الحاذق الفطن. ومحل الاستشهاد به ههنا قوله "يا قبح الله" حيث
اقترن حرف النداء بجملة فعلية دعائية، وقد اتفق الفريقان على أن
المنادى لا يكون جملة؛ فلزمهما جميعا أن يقدرا اسمًا مفردًا ليكون هو
المنادى بهذا الحرف، وأصل الكلام عندهم: يا قوم قبح الله، أو يا هؤلاء
قبح الله، وما أشبه ذلك. وهذا أحد توجيهين في هذا البيت ونحوه،
والثاني: أن "يا" ههنا حرف تنبيه، لا حرف نداء، وحرف التنبيه يدخل على
الجمل الفعلية والاسمية، ونظير هذا البيت قول جرير:
يا حبذا جبل الريان من بلد ... وحبذا ساكن الريان من كانا
وقول الفرزدق:
يا أرغم الله أنفًا أنت حامله ... يا ذا الخنى ومقال الزور والخطل
[71] هذا البيت للقتال الكلابي، واسمه عبيد بن المضرجي، وقد أنشده ابن
منظور "هـ ن ب ر" ونسبه إليه، وأنشد بعده:
من كل أعلم مشقوق وتيرته ... لم يوف خمسة أشبار بشبار
وقال بعد إنشاد البيتين "ويروى يا قبح الله ضبعانًا، وفي شعره: من زند
لها حاري، والحاري: الناقص، والواري: السمين، والأعلم: المشقوق الشفة
العليا، والوتيرة: إطار الشفة، وأبو الهنبر: الضبعان، ثم قال: وأم
الهنبر: الضبع، وقيل: هي الحمارة الأهلية، والهنبر -بوزن الخنصر، بكسر
أوله وثالثة- ولد الضبع، ويقال الهنبر الجحش" ا. هـ.
ومحل الاستشهاد قوله "يا قاتل الله ... إلخ" والقول فيه كالقول في
الشاهد السابق.
(1/98)
يكاد يوجد في كتاب الله تعالى نداء ينفك عن
أمر أو نهي" قلنا: لا نسلم، بل يكثر مجيء الخبر والاستفهام مع النداء
كثرة الأمر والنهي، أما الخبر فقد قال الله تعالى: {يَا عِبَادِ لا
خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف: 68]
، وقال تعالى في موضع آخر: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ
عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45] ، وقال تعالى في موضع آخر: {يَا
أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} [يوسف: 4]
وقال تعالى في موضع آخر: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ
قَبْلُ} [يوسف: 100] ، وقال تعالى في موضع آخر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23] وقال تعالى في
موضع آخر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى
اللَّهِ} [فاطر: 15] إلى غير ذلك من المواضع، وأما الاستفهام فقد قال
الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] ، وقال تعالى في موضع آخر: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] ،
وقال تعالى في موضع آخر {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ
وَلا يُبْصِرُ} [مريم: 42] ، وقال تعالى في موضع آخر: {وَيَا قَوْمِ
مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}
[غافر: 41] إلى غير ذلك من المواضع؛ فإذا كثر مجيء الخبر والاستفهام
كثرة الأمر والنهي فقد تكافآ في الكثرة؛ فلا مزية لأحدهما عن الآخر.
وأما قولهم "إنه لا يحسن اقتران الزمان بهما؛ فلا يقال: نعم الرجل أمس،
ولا بئس الغلام غدًا، ولا يجوز تصرفهما" فنقول: إنما امتنعا من
اقترانهما بالزمان الماضي، وما جاء التصرف لأن "نعم" موضوع لغاية المدح
و "بئس" موضوع لغاية الذم؛ فجعل دلالتهما مقصورة على الآن؛ لأنك إنما
تمدح وتذم بما هو موجود في الممدوح أو المذموم، لا بما كان فزال، ولا
بما سيكون ولم يقع.
وأما قولهم "إنه قد جاء عن العرب نَعِيْمَ الرَّجُلُ" فهذا مما ينفرد
بروايته أبو علي قُطْرُب، وهي رواية شاذة، ولئن صحت فليس فيها حجة؛ لأن
نِعْمَ أصله نَعِمَ على وزن فعل -بكسر العين- فأشبع الكسرة فنشأت الياء
كما قال الشاعر:
[13]
تَنْفِي يَدَاهَا الحَصَى في كل هَاجِرَةٍ ... نَفْيَ الدَّرَاهِيم
تَنْقَادُ الصَّيَارِيفِ
أراد الدرهم والصيارفَ، والذي يدلّ على أن أصل نِعْمَ نَعِمَ أنه يجوز
فيها أربع لغات: نعم -بفتح النون وكسر العين- على الأصل، ونعم -بفتح
النون وسكون العين- ونعم -بكسر النون والعين- ونعم -بكسر النون وسكون
العين.
فمن قال نعم -بفتح النون وكسر العين- أتى بها على الأصل كقراءة ابن
(1/99)
عامر وحمزة والكسائي والأعمش وخلفٍ
"فَنَعِمَّا" -بفتح النون وكسر العين- وكما قال طرفة:
[72]
ما أَقَلَّت قَدَم نَاعِلَهَا ... نَعِمَ السَّاعُونَ في الأمر
المُبِرّ
__________
[72] هذا البيت من كلام طرفة بن العبد البكري "د 73" وقد أنشده الرضي
في شرح الكافية "2/ 290" وشرحه البغدادي في الخزانة "4/ 101" وابن
منظور في اللسان "ن ع م" وقد اختلفت الرواية في صدر هذا البيت اختلافًا
كثيرًا؛ فيروى:
ما أقلت قدم ناعلها
وهي رواية المؤلف هنا، ويروى:
ما أقلت قدماي إنهم
وهي رواية ابن منظور، ويروى:
ما أقلت قدمي إنهم
وعلى الروايتين الأخيرتين يكون مفعول أقلت محذوفًا، والتقدير، ما
أقلتني قدماي، أو ما أقلتني قدمي، و "ما" مصدرية ظرفية، وأقلت: معناه
حملت أو رفعت، والقدم -بالتحريك- الرجل، والناعل: لابس النعل، وجملة
"إنهم نعم الساعون ... إلخ" للتعليل، والساعون: جمع ساع، والأمر المبر:
الذي يعجز الناس عن دفعه؛ لأنه يفوق طاقتهم ويزيد على قدر ما يحتملونه،
ويروى:
نعم الساعون في القوم الشطر
والشطر -بضم الشين والطاء جميعًا- جمع شطير، ويراد به هنا الغرباء،
وأصل الشطير الناحية، وسُمِّي الغريب به لأن كل من بعد عن أهله يأخذ في
ناحية من نواحي الأرض والاستشهاد به في قوله "نعم الساعون" حيث استعمل
هذا الفعل على ما هو الأصل فيه بفتح النون وكسر العين، على مثال علم
وفهم وضحك، وإنما قالوا فيه "نعم" بسكر النون وسكون العين للتخفيف،
وذلك أن حرف الحلق في ذاته ثقيل، والكسرة ثقيل أيضًا، ولهذا يفر العرب
في كل كلمة ثلاثية مفتوحة الأول مكسورة الثاني إذا كان الحرف الثاني من
حروف الحلق -وهي الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء- إلى تغيير
هذه الزنة إلى واحد من ثلاثة أوزان: الأول: أن يسكنوا الحرف المكسور
ويبقوا ما عداه على حاله، فيقولون: نعم، وضحك، وفهم، وبأس بفتح أوائل
هذه الأفعال وسكون ثانيها، والثاني: أن يسكنوا الحرف المكسور بعد أن
ينقلوا كسرته إلى الحرف الأول، فيقولون: نعم، وضحك، وفهم، وبئس -بكسر
أوائل هذه الكلمات وسكون ثانيها- والثالث: أن يبقوا الثاني مكسورًا على
حاله، ويكسروا الأول اتباعًا لثانيه، فيقولون: نعم، وضحك، وفهم، وبئس
بكسر أوائل هذه الكلمات وكسر ثانيها أيضًا، فإن قلت: فقد ذكرت أن
الكسرة ثقيلة، وهم إنما خرجوا بهذا النوع من الكلمات عن أوزانها
الأصلية إلى أوزان أخرى غير أصلية قصدًا إلى التخفيف، وفرارًا من الثقل
الذي جلبه أمران: كون ثاني الكلمة من حروف الحلق المستفلة التي يشبه
النطق بها التهوع، وكون هذا الحرف مكسورًا، فكيف يجيئون بكسرة أخرى وهي
ثقيلة فيزيدوا الكلمة ثقلًا؟ فالجواب عن هذا أن من أسباب =
(1/100)
ومَنْ قال نعم -بفتح النون وسكون العين-
حذف كسرة العين، كقراءة يحيى بن وَثَّاب "فَنَعْمَ عُقْبَى الدَّار"
بفتح النون وسكون العين، وكما قال الشاعر:
[73]
فَإِنْ أَهْجُهُ يضْجَرْ كما ضَجْرَ بَازِلٌ ... من الأُدْمِ دَبْرَتَ
صَفْحَتَاه وَغَارِبُهْ
أراد "ضجر، ودَبِرَت" فحذف، وقال الآخر:
[74]
إذا هَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ ونَشَبَتْ ... له الأَظْفَارُ تُرْكَ له
المَدَار ُ
__________
= الثقل الخروج من الشيء إلى ما يخالفه؛ ففي "نعم" بكسر النون والعين
جميعًا نوع من الثقل ونوع من التخفيف، أما الثقل فناجم عن الكسر، وأما
التخفيف فمنشؤه أن اللسان حين ينطق بالنون مكسورة ثم يأتي بالعين
مكسورة أيضًا قد خرج من شيء إلى ما يشبهه ويوائمه فليس بحاجة إلى تغيير
ضغطه وحركته، أما حين ينتقل من النون المفتوحة إلى العين المكسورة فإنه
ينتقل من الشيء إلى ما يغايره ويخالفه فهو مضطر إلى أن يغير ضغطه
وحركته؛ فلهذا كان نعم بكسر أوله وثانيه أخف من نعم بفتح أوله وكسر
ثانيه، فاعرف ذلك وتنبّه له والله يرشدك.
[73] هذا البيت للأخطل التغلبي، من قصيدة يهجو فيها كعب بن جعيل، وقد
أنشده صاحب اللسان "ض ج ر" وصاحب الكشاف في تفسير سورة النساء "1/ 183
بولاق" وضجر -بوزن علم في الأصل، وخفف هنا بإسكان ثانيه- أي قلق وتبرم
وضاقت نفسه، والبازل: من الجمال الذي انشقت نابه وذلك إذا بلغ سنه
التاسعة، والأدم: جمع آدم أو أدماء، والآدم: الأسمر اللون، ودبرت: أصله
بوزن فرح، وخفف هنا بإسكان ثانيه، ومعناه جربت، والدبر والجرب واحد في
الوزن وفي المعنى، وصفحتاه: جانباه، وغاربه: أعلاه، والاستشهاد به في
قوله "ضجر" وقوله "دبرت" فإن أصل كل واحد من هذين الفعلين مفتوح الأول
مكسور الثاني، وقد خففه الشاعر بإسكان ثانيه؛ لأن الكسرة كما قلنا
ثقيلة وهم يطلبون التخفيف ما أمكن، ولهذا لو كان ثاني الكلمة الثلاثية
مفتوحًا مثل كتب وضرب ونصر لم يلجأوا إلى تخفيفها بإسكان ثانيها؛ لأن
الفتحة في نفسها خفيفة وأول الفعل مفتوح فالخفة حاصلة، فلا يرون أن بهم
حاجة إلى تغير زنة الكلمة.
[74] لم أقف لهذا البيت على نسبة إلى قائل معين، وهدرت: أصله قولهم
"هدر البعير" إذا ردد صوته في حنجرته، والشقاشق: جمع شقشقة -بكسر
الشينين جميعًا- وأصله شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج،
ويقولون للفصيح البليغ الذي يخطب فيجيد: هدرت شقشقته، هدرت شقاشقه،
وخطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خطبة مشتملة على كثير من الحكم،
فقال له ابن عباس: لو اضطردت خطبتك من حيث أفضيت، فقال له: هيهات: تلك
شقشقة هدرت ثم قرت، وسموا هذه الخطبة "الشقشقية" بسبب هذه العبارة،
وقالوا "فلان شقشقة قومه" يريدون أنه شريفهم وفصيحهم، ونشبت: أصله بفتح
النون وكسر الشين ومعناه علقت، وقد خففه هنا بإسكان شينه، والمدار:
أراد مدار الأمر، وهو ما يجري عليه غالبًا. والاستشهاد بالبيت في قوله
"ونشبت" وقوله "ترك" فإن أصل الفعل الأول مكسور الشين مبنيًّا للمعلوم
فسكن الشاعر شينه قصدًا إلى التخفيف، وأصل الفعل الثاني "ترك" بضم أوله
وكسر ثانيه مبنيا للمجهول، فسكن الراء للتخفيف أيضًا.
(1/101)
أراد "نَشِبَتْ، وتُرِكَ" وقال الآخر وهو
أبو النجم:
[75]
هَيَّجَهَا نَضْحٌ من الطّلِّ سَحَرْ
وهَزَّتِ الرِّيحُ النَّدَى حين قَطَرْ ... لو عُصْرَ منها البَان
والمسكُ انْعَصَرْ
أراد "عُصِرَ" وقال الآخر:
[76]
رُجِمَ به الشيطان من هَوَائِه
أراد "رجم" وقال الآخر:
[77]
ونُفْخُوا في مَدَائِنِهم فَطَارُوا
أراد "ونُفِخُوا".
ومن قال نعم -بكسر النون والعين- كسر النون إتباعًا لكسرة العين،
كقراءة زيد بن علي والحسن البصري ورؤبة "الْحَمْدِ لِلَّهِ" بكسر الدال
إتباعًا لكسرة اللام، وكقراءة إبراهيم بن أبي عبلة "الْحَمْدُ لُلَّهِ"
بضم اللام إتباعًا لضمة الدال، وكقولهم "مِنْتِن" بكسر الميم إتباعًا
لكسرة التاء، وكقولهم أيضًا "مُنْتُن" بضم التاء إتباعا لضمة الميم.
__________
[75] هذه ثلاثة أبيات من الرجز المشطور قائلها أبو النجم العجلي كما
قال المؤلف وقد أنشد ثالثها -وفيه محلّ الاستشهاد- ابن منظور "ع ص ر"
ونسبه إلى أبي النجم، والنضح -بالفتح- أصله رشاش الماء، والطل: المطر
الضعيف، والندى -بفتح النون مقصورًا- المطر، والبان: شجر سبط القوام
لين الورق يشبه به قدود الحسان، له زهرة طيبة الريح، والمسك معروف،
والاستشهاد بالبيت في قوله "عصر" فإن أصله بضم العين وكسر الصاد، ولكن
الشاعر خففه بإسكان الصاد.
[76] لم أقف لهذا الشاهد على نسبة إلى قائل معين، ورجم: فعل ماضٍ مبني
للمجهول، وأصله بضم الراء وكسر الجيم، ولكن الشاعر خففه بتسكين الجيم،
على نحو ما ذكرنا في شرح الشواهد السابقة، ومعنى الرجم الرمي بالحجارة،
وكانوا في جاهليتهم إذا أرادوا أن يقتلوا رجلا رموه بالحجارة حتى
يقتلوه، ثم قيل لكل قتل رجم، وقد ورد في القرآن الكريم الرجم بمعنى
القتل في مواضع كثيرة، ومحلّ الاستشهاد بهذا البيت قوله "رجم" وقد
بيَّنَّا وجهه.
[77] هذا عجز بيت من كلام القطامي، وصدره قوله:
ألم يخز التفرق جند كسرى
وقد أنشده ابن منظور "ن ف خ" ونسبه للقطامي، والمدائن: جمع مدينة،
ومحلّ الاستشهاد في هذا البيت قوله "ونفخوا" فإن أصله فعل ماضٍ مبني
للمجهول بضم النون وكسر الفاء، ولكن الشاعر خففه بإسكان الفاء.
(1/102)
ومن قال نِعْمَ -بكسر النون وسكون العين-
نقل كسرة العين من نَعِمَ -بفتح النون وكسر العين- إلى النون، وعليها
أكثر القراء؛ فلما جاز فيها هذه الأربع اللغات دلّ على أن أصلها نَعِمَ
على وزن فَعِلَ؛ لأن كل ما كان على وزن فَعِلَ من الاسم والفعل وعينهُ
حرف من حروف الحلق فإنه يجوز فيه أربع لغات، فالاسم نحو: فَخِذ وفِخِذ
وفَخْذ وفِخْذ، والفعل نحو: قد شَهِدَ وشِهِدَ وشَهْدَ وشِهْدَ، على ما
بيَّنَّا في نعم، وإذا ثبت أن الأصل في نِعْمَ نَعِمَ كانت الياء في
"نَعِيم الرجل" إشباعًا؛ فلا يكون فيه دليل على الاسمية؛ فدلّ على
أنهما فعلان لا اسمان، والله أعلم.
(1/103)
|