الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين مسألة القول في أفعل
في التعحبب، اسم هو أو فعل
...
15- مسألة: [القول في "أفعل" في التعجب، اسم هو أو فعل] 1
ذهب الكوفيون إلى أن أفعل في التعجب نحو "ما أَحْسَنَ زيدًا" اسمٌ.
وذهب البصريون إلى أنه فعل ماضٍ، وإليه ذهب أبو الحسن علي بن حمزة
الكسائي من الكوفيين.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه اسم أنه جامد لا
يتصرّف، ولو كان فعلًا لوجب أن يتصرّف؛ لأن التصرّف من خصائص الأفعال،
فلما لم يتصرّف وكان جامدًا وجب أن يلحق بالأسماء.
ومنهم من تمسّك بأن قال: الدليل على أنه اسم أنه يدخله التصغير،
والتصغير من خصائص الأسماء، قال الشاعر:
[78]
يَامَا أُمَيْلِحَ غِزْلَانًا شَدَنَّ لنَا ... مِنْ هَاؤُليَّائكُنَّ
الضَّالِ والسَّمُر
__________
[78] استشهد بهذا البيت كثير من النحاة وأهل اللغة منهم ابن منظور "م ل
ح" وابن يعيش "ص1042" والأشموني "رقم 735" وابن هشام في المغني "رقم
937" والرضي، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/ 45 و 4/ 95"، وقد عثرت به
ثاني ثلاثة أبيات في دمية القصر للباخرزي "ص29 ط حلب" وقد نسبها إلى
بدوي اسمه كاهل الثقفي. والغزلان: جمع غزال، وأصله ولد الظبية، ويشبه
العرب به حسان النساء، وشدن: أصله قولهم "شدن الظبي يشدن شدونا من باب
قعد" إذا قوي وترعرع واستغنى عن أمه، وهؤلياء: تصغير هؤلاء على غير
قياس، والضال: السدر البري: واحدته ضالة، والسمر -بفتح السين وضم
الميم- شجر الطلح، واحدته سمرة، والاستشهاد بالبيت ههنا في قوله
"أميلح" فإنه تصغير أملح، وأصل التصغير من خصائص الأسماء، ولهذا قال
الكوفيون إن صيغة أفعل في التعجب اسم بدليل =
__________
1 انظر في هذه المسألة: لسان العرب "م ل ح" وشرح موفق الدين بن يعيش
على المفصل "1041" وشرح رضي الدين على كافية ابن الحاجب "2/ 285" وشرح
الأشموني "4/ 167 بتحقيقنا" وحاشية الصبان "3/ 16 بولاق" والتصريح
للشيخ خالد "2/ 108 بولاق" ومغني اللبيب لابن هشام "ص682 بتحقيقنا" وسر
العربية "47".
(1/104)
فأميلح: تصغير أملح، وقد جاء ذلك كثيرًا في
الشعر وسَعَةِ الكلام.
قالوا: ولا يجوز أن يقال: "إن فعل التعجب لزم طريقة واحدة، وضارع
الاسم، فلحقه التصغير "لأنا نقول: هذا ينتقض بليس وعسى فإنهما لزما
طريقة واحدة، ومع هذا لا يجوز تصغيرهما، وأبلغ من هذا النقض وأَوْكَد
مثال "أَفْعِل به" في التعجب فإنه فعل لزم طريقة واحدة، ومع هذا فإنه
لا يجوز تصغيره.
ومنهم من تمسّك بأن قال: الدليل على أنه اسم أنه تَصِحّ عينه نحو "ما
أَقْوَمَهُ، ولا أَبْيَعَهُ" كما تصح العين في الاسم في نحو "هذا أقوم
منك، وأبيع منك" ولو أنه فعل كما زعمتم لوجب أن تُعَلّ عينه بقلبها
ألفًا، كما قلبت من الفعل في نحو: قام وباع وأقام وأباع في قولهم
"أَبَعْتُ الشيء" إذا عرّضته للبيع، وإذا كان قد أُجْرِي مجرى الأسماء
في التصحيح مع ما دخله من الجمود والتصغير وجب أن يكون اسمًا.
والذي يدل على أنه ليس بفعل وأنه ليس التقدير فيه: شيء أَحْسَنَ زيدًا
قولهم "ما أَعْظَمَ الله" ولو كان التقدير فيه ما زعمتم لوجب أن يكون
التقدير: شيء أعظم الله، والله تعالى عظيم لا بِجَعْلِ جاعل، وقال
الشاعر:
[79]
ما أَقْدَرَ اللهَ أنْ يُدْنِي على شَحَطٍ ... مَنْ دَارُهُ الحَزْنُ
مِمَّن دَارُهُ صُولُ
__________
= مجيئها مصغرة في هذا البيت، والبصريون لا يرتضون ذلك، ويقولون إن
تصغير "أملح" في هذا البيت شاذ، ألا ترى هذا الشاعر قد صغر هؤلاء في
نفس البيت مع أننا متفقون على أن التصغير من خصائص الأسماء المعربة؛
فهذا وجه، ومنهم من يسلك في الرد مسلكًا آخر، فيقول: إن صيغة التعجب
لما أشبهت صيغة التفضيل في الوزن وكان فعل التعجب -مع ذلك- جامدًا
أعطوا فعل التعجب حكم اسم التفضيل؛ فأجازوا تصغيره، وقد ذكر ذلك ابن
منظور في اللسان وابن هشام في المغني قال ابن هشام في المغني، "الثالث
-مما أعطي حكم الشيء لمشابهته له لفظًا ومعنًى- نحو اسم التفضيل وأفعل
في التعجب؛ فإنهم منعوا التفضيل أن يرفع الظاهر لشبهه بأفعل في التعجب
وزنًا وأصلًا وإفادة للمبالغة، وأجازوا تصغير أفعل في التعجب لشبهه
بأفعل التفضيل فيما ذكرنا، وقال:
يا ما أميلح غزلانا..
ولم يسمع ذلك إلا في أحسن وأملح، ذكره الجوهري، ولكن النحويين مع هذا
قاسوه" ا. هـ.
[79] هذا البيت من كلمة لحندج بن حندج المري يصف فيها طول ليله وما
يقاسيه من فرقة أحبابه، وهي من شعر الحماسة أبي تمام" انظر شرح
المرزوقي ص1828"، والبيت من شواهد الأشموني "رقم 41" والشحط -بفتح
الشين والحاء جميعًا- هو البعد، و "الحزن" بفتح الحاء وسكون الزاي موضع
بعينه، وفي بلاد العرب موضعان بهذا الاسم: أحدهما: حزن بني يربوع،
والثاني: ما بين زبالة فما فوق ذلك مصعدًا في بلاد نجد، وصول: =
(1/105)
ولو كان الأمر كما زعمتم لوجب أن يكون
التقدير فيه: شيءٌ أَقْدَرَ اللهَ، والله تعالى قادر لا بِجَعْلِ جاعل.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه فعل أنه إذا وُصِلَ
بياء الضمير دخلت عليه نون الوقاية، نحو "ما أَحْسَنَنِي عندك، وما
أظرفني في عينك، وما أعلمني في ظنك" ونون الوقاية إنما تدخل على الفعل
لا على الاسم، ألا ترى أنك تقول في الفعل "أَرْشَدَنِي، وأسعدني،
وأبعدني" ولا تقول في الاسم "مرشدني" ولا "مُسْعِدني" فأما قوله:
[80]
وَلَيْسَ حَامِلَني إلَّا ابن حَمَّالِ
__________
= مدينة من بلاد الخزر في نواحي باب الأبواب، والاستشهاد به هنا في
قوله "ما أقدر الله" فإن بعض الكوفيين زعم أن مثل هذه العبارة تدل على
أن أفعل في التعجب ليس فعلًا؛ إذ لو كان فعلًا لكان فيه ضمير مستتر
يكون هو فاعله، ويكون لفظ الجلالة منصوبًا بهذا الفعل، فيكون المعنى:
شيء أقدر "هو، أي ذلك الشيء" الله تعالى، أي جعله قادرًا وقد قام
الدليل العقلي والنقلي على أن الله تعالى قادر من غير جعل جاعل؛ فيكون
هذا المعنى باطلا، وإنما أدّى إلى هذا المعنى الباطل ذهابكم إلى أن
أفعل في باب التعجب فعل، فوجب ألا نصير إليه.
[80] هذا عجز بيت من البسيط، وصدره قوله:
ألا فتى من بني ذبيان يحملني
وقد استشهد بهذا البيت رضي الدين في شرح الكافية في باب الإضافة، وفي
باب المضمرات، وشرحه البغدادي في خزانة الأدب "2/ 185 بولاق" وأنشده
أبو العباس الْمُبَرِّد في الكامل ثالث خمسة أبيات، وقال قبل إنشادها
"أنشدنا أبو محلم السعدي". و "ألا" في أول البيت حرف دال على العرض، و
"فتى" منصوب بفعل محذوف، والتقدير: ألا ترونني فتى، و "بني ذبيأن" أراد
بني ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر،
"يحملني" أراد يعطيني دابة تحملني إلى المكان الذي أقصده، و "حمال"
صيغة مبالغة لحامل. ومحلّ الاستشهاد بهذا البيت قوله: "حاملني" حيث
لحقت نون الوقاية الاسم عند إضافته إلى ياء المتكلم، وذلك شاذ، والقياس
أن يقترن الاسم بياء المتكلم من غير توسط النون بينهما، سواء أكان هذا
الاسم جامدًا نحو: غلامي وكتابي وداري، أم كان مشتقًّا نحو: حاملي
وضاربي ومكتوبي ومضروبي وما أشبه ذلك؛ لأن النون إنما توسطت بين الفعل
وياء المتكلم لأن ياء المتكلم تستوجب كسر ما قبلها، ولما كان الفعل لا
يدخله الجر، وكان الكسر أخا الجر؛ تحاموا أن يقرنوا الفعل بياء
المتكلم؛ لئلا ينكسر آخره فيدخلوا عليه ما ليس منه في شيء، لكن الجر
يدخل على الأسماء بغير نكير، فلم يجدوا أنفسهم محتاجين إلى نون الوقاية
معه حين يضيفونه إلى ياء المتكلم، هذا، والرواية عند أبي العباس
الْمُبَرِّد "وليس يحملني ... " وعلى ذلك يكون البيت مستقيمًا لا شذوذ
فيه؛ لأن نون الوقاية حينئذ متوسطة بين الفعل والياء كما هو الأصل.
(1/106)
فمن الشّاذ الذي لا يُلْتَفَتْ إليه ولا
يُقَاسُ عليه، وإنما دخلت هذه النون على الفعل لتقي آخره من الكسر؛ لأن
ياء المتكلم لا يكون ما قبلها إلا مكسورًا، وإذا كانوا قد منعوه من
كسرة الإعراب لثقلها وهي غير لازمة فَلأَن يمنعوه من كسرة البناء وهي
لازمة كان ذلك من طريق الأولى، فلما منعوه من الكسر أدخلوا هذه النون
لتكون الكسرة عليها؛ فلو لم يكن أفعل في التعجب فعلًا وإلا لما دخلت
عليه نون الوقاية كدخولها على سائر الأفعال.
اعترضوا على هذا بأن قالوا: نون الوقاية قد دخلت على الاسم في نحو
"قَدْنِي وقَطْنِي" أي حسبي، قال الشاعر:
[81]
امتَلَأَ الحوض وقال: قَطْنِي ... مهلًا، رُوَيْدًا، قد مَلَأْتَ
بَطْنِي
ولا يدل ذلك على الفعلية، فكذلك ههنا.
وما اعترضوا فيه ليس بصحيح؛ لأن "قدني، وقطني" من الشاذ الذي لا يعرج
عليه؛ فهو في الشذوذ بمنزلة مِنّي وعَنِّي، وإنما حَسُنَ دخول هذه
النون على قد وقط لأنك تقول "قَدْكَ من كذا، وقَطْكَ من كذا" أي
اكْتَفِ به، فتأمر بهما كما تأمر بالفعل؛ فلذلك حسن دخول هذه النون
عليهما، على أنهم قالوا "قَطِي وقَدِي" من غير نون كما قالوا "قطني
وقدني" بالنون، قال الشاعر:
[82]
قدني من نصر الخُبَيْبَيْنِ قَدِي ... ليس الإمام بالشَّحِيح
المُلْحِدِ
__________
[81] هذان بيتان من الرجز المشطور، ولم أجد أحدًا نسبهما إلى قائل
معين، وقد استشهد به ابن منظور وشارح القاموس "ق ط ط"، ومن النحاة:
الأشموني "رقم 63" وابن الناظم، وابن يعيش "ص318 و 443". وقوله "امتلأ
الحوض وقال" أطلق القول ههنا على ما يشهد به الحال وتدل عليه الطبيعة،
و "قطني" هو اسم بمعنى حسب، أو اسم فعل بمعنى يكفي، و "مهلًا" هو مصدر
نائب عن الفعل، تقول: مهلًا يا رجل، ومهلًا يا رجلان، ومهلًا يا رجال،
وتقول في التأنيث كذلك، بلفظ واحد، والمراد أمهل وتريث ولا تعجل و
"رويدًا" يأتي على واحد من أربعة أوجه: الأول: أن يكون اسم فعل بمعنى
أرود، أي أمهل، والثاني: أن يكون مصدرًا نائبًا عن فعله كالذي قلناه في
مهلًا، والثالث: أن يقع صف كما تقول: ساروا سيرًا رويدًا، والرابع: أن
يقع حالا كما تقول: ساروا رويدا بحذف المصدر الذي نصبته على المفعولية
الطلقة في الاستعمال الثالث. ومحلّ الاستشهاد بالبيت ههنا قوله "قطني"
حيث وصل نون الوقاية بقط عندما أراد أن يضيفه إلى ياء المتكلم وليس
"قط" فعلًا؛ فيدل ذلك على أن نون الوقاية قد تلحق بعض الأسماء لغرض من
الأغراض، والغرض ههنا المحافظة على سكون "قط" حتى لا يذهب ما بني عليه
اللفظ وهو السكون، وإذا كان الأمر كذلك لم يكن لحاق نون الوقاية لكلمة
من الكلمات دالًّا على أن هذه الكلمة فعل، وهذا ظاهر إن شاء الله.
[82] هذان بيتان من الرجز المشطور، وقد رواهما الجوهري في الصحاح "ل ح
د" ونسبهما =
(1/107)
ولا خلاف أنه لا يجوز أن يقال "ما
أَكْرَمِي" بحذف النون كما يقال "ما أكرمني" كما يقال "قَدْنِي،
وقَدِى" فلما لم يجز ذلك بَانَ الفرقُ بينهما.
ومنهم من تمسّك بأن قال: الدليل على أن أفعل في التعجب فعلٌ أنه ينصب
المعارف والنكرات، وأَفْعَلُ إذا كان اسمًا لا ينصب إلا النكرات خاصة
على التمييز، نحو قولك "زيد أَكْبَرُ منك سنًّا، وأكثر منك علمًا" ولو
قلت "زيد أكبر منك السنّ، أو أكثر منك العلم" لم يجز، ولما جاز أن يقال
"ما أكبر السن له، وما أكثر العلم له" دلّ على أنه فعل.
اعترضوا على هذا بأن قالوا: قد ادّعيتم أن أفعل إذا كان اسمًا لا ينصب
إلا
__________
= لحميد بن ثور الهلالي، وقال ابن منظور "ل ح د" بعد أن رواهما عن
الجوهري: "قال ابن بري: البيت المذكور لحميد بن ثور هو لحميد الأرقط،
ولس هو لحميد بن ثور كما زعم الجوهري" ا. هـ. ورواهما ابن منظور "خ ب ب
- ق د د" منسوبين لحميد الأرقط، وأنشدهما ابن يعيش في شرح المفصل
"ص442" ونسبهما لأبي بحدلة، وهما من شواهد سيبويه "1/ 387" وشواهد رضي
الدين في شرح الكافية، والأشموني "رقم 62" وقد قال البغدادي في خزانة
الأدب "2/ 453": "قال ابن المستوفي: ولم أرَ البيت الأول في ديوانه
"يريد ديوان حميد الأرقط" وكذلك أورد الأبيات القالي في أماليه، ولم
يورد بيت:
قدني من نصر الخبيبين قدي
ا. هـ. المقصود من كلام البغدادي، وقد: تأتي اسمًا بمعنى حسب، وتأتي
اسم فعل بمعنى يكفي، مثل قط في الوجهين، و "الخبيبين" يروى بصورة
المثنى وبصورة جمع المذكر السالم، فأما روايته بصورة المثنى فقيل: عنى
عبد الله بن الزبير بن العوام الذي كان قد خرج على دولة مروان بن الحكم
وتملك الحجازيين وابنه خبيب بن عبد الله بن الزبير، وقيل: عنى عبد الله
وأخاه مصعب بن الزبير، وأما روايته بصورة جمع المذكر السالم فالمعنى به
عبد الله وشيعته كلهم، وقوله:
ليس الإمام بالشحيح الملحد
يروى في مكانه:
ليس أميري بالشحيح الملحد
والشحيح: البخيل، وكان عبد الله بن الزبير متهمًا بالبخل، والملحد:
مأخوذ من قولهم: "ألحد فلان في الحرم" إذا استحل حرمته وانتهكها.
والاستشهاد بالبيت في قوله "قدني"، وقوله: "قدي" فقد وصل الشاعر "قد"
بنون الوقاية في المرة الأولى عندما أضاف الكلمة إلى ياء المتكلم، ولم
يأتِ بهذه النون في المرة الثانية، وهذا يدل على أن الوجهين جائزان في
هذه الكلمة، أما اقترانها بالنون فلقصد المحافظة على ما بنيت عليه
الكلمة وهو السكون، وأما حذف النون فلكون الكلمة اسمًا، وفي هذا الكلام
مقال لنا ذكرناه في شرحنا المطول على شرح أبي الحسن الأشموني "1/ 112
وما بعدها" فأرجع إليه هناك.
(1/108)
النكرة، وقد وجدنا العرب قد أعملته في
المعرفة، قال الحارث بن ظالم:
[83]
فما قومي بثعلبة بْنِ بَكْرٍ ... ولا بِفَزَارَةَ الشُّعْرِ
الرِّقَابَا
فنصب الرقاب بالشعر، وهو جمع أَشْعَر، ولا خلاف أن الجمع في باب العمل
أضعف من واحدهِ؛ لأن الجمع يباعده عن مشابهة الفعل؛ لأن الفعل لا يجمع،
وإذا بَعُد عن مشابهة الفعل بَعُد عن العمل، وإذا عمل جمع أَفْعَلَ مع
بُعده عن العمل؛ فالواحد أَوْلى أن يعمل، وقال الآخر:
[84]
ونَأْخُذُ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عيشٍ ... أَجَبَّ الظّهْرَ ليس له
سَنَامُ
__________
[83] هذا البيت من قصيدة للحارث بن ظالم المري، وكان قد فتك بخالد بن
جعفر بن كلاب وهو في جوار النعمان بن المنذر ثم هرب يستجير القبائل،
والبيت من شواهد سيبويه "1/ 103" وابن يعيش "ص843" والأشموني "رقم 729"
وقوله "بثعلبة بن بكر" المحفوظ "بثعلبة بن سعد" وكذلك هو في رواية
سيبويه وابن يعيش، وكذلك هو في نسب ثعلبة؛ فإنه ثعلبة بن سعد بن ذبيان
بن بغيض بن ريث بن غطفان، وفزارة هو فزارة بن ذبيان أخو سعد بن ذبيان
أبي ثعلبة، والشاعر في هذا البيت ينتفي من بني سعد بن ذبيان، والشعر
-بضم الشين وسكون العين- جمع أشعر، والأشعر: الكثير الشعر، والرقاب:
جمع رقبة، والعرب ترى من علامات الغباء أن يكون الرجل كثير شعر القفا،
ويسمون ذلك الغمم، وقال في ذلك شاعرهم:
ولا تنكحي إن فرّق الدهر بيننا ... أغم القَفَا والوجه ليس بأنزعا
ومحل الاستشهاد بالبيت قوله "الشعر الرقابا" حيث نصب قوله "الرقابا"
بقوله "الشعر" والشعر جمع أشعر وهو هنا صفة مشبهة، واتفق الفريقان
الكوفيون والبصريون على أنه يجوز أن يكون انتصابه على التشبيه بالمفعول
به، وزاد الكوفيون أنه يجوز أيضًا أن يكون انتصابه على التمييز، وذلك
لأن الكوفيين يجوزون أن يجيء التمييز معرفة، فأما علماء البصر فلكونهم
يوجبون كون التمييز نكرة لم يجيزوا انتصاب "الرقاب" في هذا البيت على
التمييز، فاعرف هذا، ويروى في هذه العبارة "الشعرى رقابا" بتجريد
المعمول من أل، والبصريون لا يرون بأسًا في نصبه حينئذ على التمييز،
وقد روى سيبويه البيت بالروايتين جميعًا.
[84] هذا البيت من كلام النابغة الذبياني، وهو من شواهد سيبويه "1/
100" وابن يعيش "ص841" والأشموني "رقم 722" والرضي، وشرحه البغدادي في
الخزانة "4/ 95" وقبل بيت الشاهد قوله:
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والبلد الحرام
وقوله: "ربيع الناس" شبه الملك النعمان بالربيع الذي تترادف فيه
الخيرات لكثرة عطائه ووفرة بره، و "البلد الحرام" شبهه أيضًا بالبلد
الحرام لأن رحابه موضع الأمن من كل مخافة وفي كنفه يلجأ اللاجئون فلا
تجسر يد على أن تمتد إليهم بسوء، وقوله "بذناب =
(1/109)
فنصب الظَّهْرَ بأجبَّ، وقال الآخر:
[85]
ولقد أَغْتَدِي وما صَقَعَ ... الدِّيكُ على أدهم أجَشَّ الصَّهِيلَا
فنصب الصَّهِيل بأجشَّ، فبطل ما ادّعيتموه.
وما اعترضوا به ليس بصحيح: أما بيتُ الحارث بن ظالم:
[83]
ولا بفزارة الشُّعْرِ الرّقابا
__________
= عيش" ذناب كل شيء -بكسر الذال المعجمة- عقبه وما يأتي في أواخره، و
"أجب الظهر" مقطوع الظهر كأنه جمل قد قطع سنامه، ويقال: بعير أجب،
وناقة جباء؛ إذا كان قد قطع سنامهما. والاستشهاد بالبيت في قوله "أجب
الظهر" وهذه العبارة تروى على ثلاثة أوجه: برفع الظهر، وتخريج هذه
الرواية أن تجعل الظهر فاعلًا لأجب، وبنصب الظهر، وتخريج هذه الرواية
أن تجعل فاعل الصفة التي هي أجب ضميرًا مستترًا وتنصب الظهر على أنه
مشبه بالمفعول به، وهذه الرواية هي محلّ الخلاف بين الكوفيين
والبصريين، وبجر الظهر، وتخريج هذه الرواية أن يكون أجب مضافًا والظهر
مضافًا إليه. والوجه الأول: قبيح، والثاني: ضعيف، والثالث: حسن.
[85] لم أعثر على نسبة هذا البيت إلى قائل معين، وقوله "أغتدي" معناه
أخرج في وقت الغداة، والغداة -بفتح الغين- ما بين انبثاق الفجر وطلوع
الشمس، ويقال "غديه" بوزن قضية، و "غدوة" بضم فسكون، وربما قيل "غديه"
بضم الغين وفتح الدال، وهو تصغير الغدوة أو الغداة، ومراد الشاعر أنه
يخرج من داره مبكرًا، وقوله "وما صقع الديك" معناه صاح، وهذا تأكيد لما
استفيد منمعنًى "أغتدي" وقوله "على أدهم" أراد على فرس أدهم، وهو الذي
لونه الدهمة، والدهمة -بضم الدال وسكون الهاء- لون قريب من الأسود، و
"أجش" الغليظ الصوت من الإنسان والخيل، وقال النجاشي:
ونجى ابن حرب سابح ذو علالة ... أجش هزيم، والرماح دواني
ومحل الاستشهاد بالبيت قول "أجش الصهيلا" حيث نصب الصهيل بقوله أجش،
وأجش هذا صفة مشبهة، ومعمولها مقترن بالألف واللام، وبه استدل الكوفيون
على أنه يجوز أن ينتصب بعد "أفعل" كل من المعرفة والنكرة، وقد سوى
المؤلف في التمثيل والاستشهاد بين أفعل الذي هو اسم تفضيل وأفعل الذي
هو صفة مشبهة؛ فهو يمثل أولًا بقوله "زيد أكبر منك سنا، وأكثر منك
علما" ثم يستشهد بأجب الظهر، والشعر الرقابا، وأجش الصهيلا، ثم يلزم
الكوفيين الحجة بأن المنصوب في هذه الشواهد منصوب على التشبيه بالمفعول
به، لا على التمييز، وكأنه ينكر أن يكون التمييز مقترنًا بأل، وقد ورد
التمييز مقترنًا بأل من غير أن يكون العامل أفعل التفضيل ولا أفعل
الصفة المشبهة، وذلك في قول الشاعر:
رأيتك لما أن عرفت وجوهنا ... صددت وطبت النفس يا قيس عن عمرو
ولكن البصريين لم يرقهم أن يجيء هذا البيت ونحوه على غير ما أصلوا من
القواعد، فذهبوا إلى أن "ال" في "طب النفس" زائدة، وليست معرفة؛ فيكون
على ما ذهبوا إ ليه مدخول أل نكرة كالمجرد منها، وهذا هو المسلك الذي
سلكوه في هذه الشواهد.
(1/110)
فقد روي "الشُّعْرَى رِقَابًا": حكى ذلك
سيبويه عن أبي الخطاب عن بعض العرب أنهم ينشدون البيت كذلك، على أنا
وإن لم ننكر صحة ما رويتموه، فلا حجة لكم فيه؛ لأنه من باب "الحسن
الوجه، والحسان الوُجُوه" وقد قالوا "الحسن الوجهَ" بنصب الوجه تشبيها
بالضارب الرجل، كما قالوا "الضارب الرجلِ" بالجر تشبيها بـ "الحسن
الوجه" وقد ذهب بعض البصريين إلى زيادة الألف واللام فيه، فلما كان في
تقدير التنكير جاز نصبُه على التمييز، فبان أن ما عارضتم به ليس بشيء.
وأما قول النابغة:
[84]
أَجَبَّ الظهر ليس له سَنَامُ
بفتحهما قد روي "أجب الظهر" بجرهما، وروي "أجب الظهر" برفع الظهر لأنه
فاعل والتقدير فيه عندنا: أجب الظهرُ منه، وعندكم الألف واللام قامتَا
مَقَام الضمير العائد؛ فلا حجة لكم في هذا البيت، والجر فيهما هو
القياس، وإن صحت رواية النصب؛ فيكون على التشبيه بالمفعول على ما
بيَّنَّا في البيت الأول، لا على تقدير زيادة الألف واللام ونصبه على
التمييز على ما ذهبتم إليه، ولئن سلمنا على قول بعض البصريين، وهو
الجواب عن جميع ما احتججتم به؛ لأنكم إذا قدرتم أن الألف واللام فيه
زائدة فهو عندكم نكرة، فإذن ما عمل في معرفة، وإنما عمل في نكره،
والخلاف ما وقع في أنَّ "أفعل" تعمل في النكرة، وإنما وقع الخلاف في
أنها تعمل في المعرفة.
وأما قول الآخر:
[85]
عَلَى أَدْهَم أَجْشَّ الصَّهيلا
فالوجه جر "الصهيلا" إلا أنه نَصَبَه على التشبيه بالمفعول، أو على
زيادة الألف واللام على ما قَدَّمنا.
ثم لو سلمنا لكم صحة ما ادّعيتموه في هذه الأبيات، وأجريناها في ذلك
مُجْرَى "ما أحسن الرجلَ" فهل يمكنكم أن توجدونا أَفْعَلَ وصفًا نَصَبَ
اسمًا مضمرًا وعلمًا أو اسمًا من أسماء الإشارة؟ وإذا لم يمكن ذلك
ووجدنا أفعل في التعجب تعمل في جميع أنواع المعارف النصب دلّ على بطلان
ما ذهبتم إليه من دعوى الاسمية.
ومنهم من تمسك بأن قال: الدليل على أنه فعل ماضٍ أنا وجدناه مفتوح
الآخر، ولولا أنه فعل ماضٍ لم يكن لبنائه على الفتح وجه؛ لأنه لو كان
اسمًا لارتفع لكونه خبرًا لـ "ما" على كلا المذهبين، فلما لزم الفتح
آخرُهُ دلّ على أنه فعل ماضٍ.
(1/111)
اعترضوا على هذا من وجهين؛ أحدهما: أنهم
قالوا: ما احتججتم به من فتح آخره ليس فيه حجة؛ لأن التعجب أصله
الاستفهام، ففتحوا آخر أفعل في التعجب ونصبوا زيدًا فرقًا بين
الاستفهام والتعجب. والثاني: أنهم قالوا: إنما فتح آخر أفعل في التعجب
لأنه مبني لتضمنه معنى حرف التعجب؛ لأن التعجب كان يجب أن يكون له حرف
كغيره من الاستفهام والشرط والنفي والنهي والتمني والترجي والتعريف
والنداء والعطف والتشبيه والاستثناء، إلى غير ذلك؛ إلا أنهم لما لم
ينطقوا بحرف التعجب وضمّنوا معناه هذا الكلام استحقَّ البناء، ونظير
هذا أسماء الإشارة؛ فإنها بنيت لتضمنها معنى حرف الإشارة، وإن لم ينطق
به فكذلك ههنا.
وما اعترضوا به ليس بصحيح: أما قولهم "إن التعجب أصله الاستفهام ففتحوا
آخر أفعل في التعجب للفرق بين الاستفهام والتعجب" فمجرد دعوى لا يقوم
عليها دليل، إلا بوحي وتنزيل، وليس ذلك سبيل، مع أنه ظاهر الفساد
والتعليل؛ لأن التفريق بين المعاني لا توجب إزالة الإعراب عن وجهه في
موضع ما، فكذلك ههنا ولأن التعجب إخبار يحتمل الصدق والكذب، والاستفهام
استخبار لا يحتمل الصدق والكذب؛ فلا يصح أن يكون أصلًا له.
وأما قولهم "إنه بني لتضمنه معنى حرف التعجب وإن لم ينطق به"؛ فكذلك
نقول: كان يجب أن يوضع له حرف كما وضع لغيره من المعاني، ولكن لما لم
يفعلوا ذلك ضمّنوا "ما"معنًى حرفه فبنوها، كما ضمّنوا "ما"
الاستفهاميةمعنًى الهمزة، وضمّنوا "ما" الشرطية معنى أن التي وضعت
للشرط، وبنوهما وإن لم يكن للكلمة التي بعدهما تعلق بالبناء؛ فكذلك ما
بعد "ما" التعجبية لا يكون له تعلق بالبناء، فبان بذلك فساد اعتراضهم،
وأنه إنما فتح لأنه فعل ماضٍ على ما بيَّنَّا.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "الدليل على أنه اسم أنه لا
يتصرف" قلنا: عدم تصرفه لا يدل على أنه اسم؛ فإنا أجمعنا على أن "ليس،
وعسى" فعلان، ومع هذا فإنهما لا يتصرفان، وإنما لم يتصرف فعل التعجب
لوجهين؛ أحدهما: أنهم لما لم يَضَعُوا للتعجب حرفًا يدل عليه جعلوا له
صيغة لا تختلف؛ لتكون أمارة للمعنى الذي أرادوه، وأنه مُضَمن معنى ليس
في أصله، والثاني -وهو الصحيح- إنما لم يتصرف لأن المضارع يحتمل زمانين
الحال والاستقبال، والتعجب إنما يكون مما هو موجود مشاهد، وقد يتعجب من
الماضي، ولا يكون التعجب مما لم يكن، فكرهوا أن يستعملوا لفظًا يحتمل
الاستقبال؛ لئلا يصير اليقين شكًا، وأما قولهم "ما أملح ما يَخْرُجُ
هذا الغلام، وما أطولَ ما يكون هذا" فلا يقال ذلك حتى يُرَى فيه
مَخِيلَة ذلك، فدلّك ما رأيت في
(1/112)
وقتك على ما يكون بعد ذلك، فكأنك قد شاهدته
موجودًا، ولما كرهوا استعمال المضارع كانوا لاستعمال اسم الفاعل
أَكْرَه لأنه لا يختص زمانًا بعينه؛ فلهذا منعوه من التصرّف، وعدم
التصرّف لا يدل على أنه اسم كما قلنا في "ليس، وعسى".
وأما قولهم "إنه يصغر، والتصغير من خصائص الأسماء فنقول: الجواب عن هذا
من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن التصغير في هذا الفعل ليس على حد التصغير في الأسماء؛ فإن
التصغير على اختلاف ضروبه: من التحقير كقولك رُجَيْل، والتقليل كقولك
دُرَيْهِمَات، والتقريب كقولك قُبَيْل المغرب، والتعطف كقوله صلى الله
عليه وسلم "أُصَيْحَابي أصيحابي" والتعظيم كقول الشاعر:
[86]
وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ منها الأنامل
يريد الموت، ولا داهية أعظم من الموت، والتمدّح كقول الحُبَاب بن
المنذر يوم السَّقِيفَة: "أنا جُذَيْلُهَا المُحَكَّكُ، وعُذَيْقُهَا
المُرَجَّبُ" فإنه يتناول الاسم لفظًا ومعنًى، والتصغير اللاحق فعل
التعجب إنما يتناوله لفظًا لا معنًى، من حيث كان متوجِّهًا إلى المصدر،
وإنما رَفَضُوا ذكر المصدر ههنا لأن الفعل إذا أزيل عن التصرف لا يؤكد
بذكر المصدر؛ لأنه خرج عن مذهب الأفعال، فلما رفضوا المصدر وآثروا
تصغيره صغّروا الفعل لفظًا، ووجهوا التصغير إلى المصدر، وجاز تصغير
المصدر بتصغير فعله؛ لأن الفعل يقوم في الذكر مقام مصدره؛ لأنه يدل
عليه بلفظه، ولهذا يعود الضمير إلى المصدر بذكر فعله، وإن لم يَجْرِ له
ذكر، قال الله تعالى:
{وَلا يحْسَبَنَّ الَّذِينَ يبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ هُوَ خَيرًا لَهُمْ} [آل عمران: 180]
__________
[86] هذا البيت من كلام لبيد بن ربيعة العامري، وقد استشهد به ابن يعيش
في شرح المفصل "ص709" والمحقق رضي الدين في شرح شافية ابن الحاجب "رقم
38". والأناس: هو أصل الناس، وحذفت الهمزة من الأناس للتخفيف، وهذا عند
من يرى أن الناس مأخوذ من الأنس، ومن العلماء من يذهب إلى أن الناس
مأخوذ من النوس ومعناه الحركة، ومنهم من يذهب إلى أن الناس مأخوذ من
النسيان، و "سوف" في هذا الموضع للتحقيق والتأكيد، و "دويهية" تصغير
داهية، وأصل الداهية المصيبة من مصائب الدهر، وأراد بها ههنا الموت،
ويروى في مكانه "خويخية" وهو مصغر الخوخة -بفتح الخاءين وسكون الواو
بينهما- والمراد بالمصغر الداهية أيضًا، وقوله "تصفر منها الأنامل"
أراد بالأنامل ههنا الأظفار؛ لأنها هي التي تصفر بالموت، والاستشهاد
بالبيت في قوله "دويهية" فإن تصغير هذه الكلمة عند علماء الكوفة
للتعظيم، لا للتحقير، وقد حقق العلامة رضي الدين أن تصغير هذه الكلمة
للتحقير، لا للتعظيم كما زعمه الكوفيون، وكذلك قال ابن يعيش وفسره
بقوله "فالمراد أن أصغر الأشياء قد يفسد الأصول العظام" ا. هـ.
(1/113)
قوله "هو" ضمير للبخل وإن لم يكن مذكورًا؛
لدلالة "يبخلون" عليه، ومنه قولهم "من كذب كان شرًا له" أي كان الكذب
شرًا له، ومنه قول الشاعر:
[87]
إذا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إليه ... وخَالَفَ، والسفيه إلى خِلَافِ
يريد جَرَى إلى السفه، وهذا كثير في كلامهم؛ فكما أنه يجوز أن يعود
الضمير إلى المصدر وإن لم يجرِ له ذكر استغناء بذكر فعله، فكذلك يجوز
أن يتوجّه التصغير اللاحق لفظ الفعل إلى مصدره وإن لم يجرِ له ذكر،
ونظير هذا إضافتهم أسماء الزمان إلى الفعل نحو قوله تعالى: {قَالَ
اللَّهُ هَذَا يوْمُ ينْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119]
وإن كانت الإضافة إلى الأفعال غير جائزة، وإنما جاز ذلك لأن المقصود
بالإضافة إلى الفعل مصدره من حيث كان ذكر الفعل يقوم مقام ذكر مصدره؛
فالتقدير فيه: هذا يومُ نَفْعِ الصادقين صدقُهم، وإنما خصوا أسماء
الزمان1 بهذه الإضافة لما بين
__________
[87] هذا البيت من الشواهد التي لم أقف لها على نسبة إلى قائل معين،
وقد أنشده رضي الدين في شرح الكافية "2/ 4" وذكر البغدادي في الخزانة
"2/ 384" أن جماعة من النحاة أنشدوه منهم ابن جني في إعراب الحماسة
والفراء في معاني القرآن وثعلب في أماليه، ولم يعزه واحد منهم، وزجر
-بالبناء للمجهول- ويروى "إذا نهي السفيه" ومتعلق الزجر أو النهي عام،
والتقدير: إذا زجر عن شيء ما، أو إذا نهي عن شيء ما، والسفيه: وصف من
السفه، وهو الطيش والحمق ورقة العقل، وجرى: سارع، ومفعول "خالف" محذوف
للعلم به، وتقدير الكلام: خالف زاجره أو خالف ناهيه، وجملة "والسفيه
إلى خلاف" للتذييل، والمعنى: ومن شأن السفيه وديدنه وطبعه مخالفة
ناصحه. والاستشهاد بالبيت في قوله "جرى إليه" فإن مرجع الضمير المجرور
محلا بإلى لم يتقدم صريحًا في الكلام، ولكن تقدم الوصف الدال عليه وهو
قوله "السفيه" فإن هذه الكلمة دالة على الذات والحدث الذي تتصف به وهو
السفه، فاكتفى الشاعر بتقدم المرجع في ضمن الوصف، ونظيره قوله تعالى:
{وَلا يحْسَبَنَّ الَّذِينَ يبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ هُوَ خَيرًا لَهُمْ} فإن "هو" في هذه الآية راجع إلى البخل
المستفاد من "يبخلون" ولم يتقدم ذكر البخل صراحة، وقوله تعالى:
{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فإن "هو" راجع إلى العدل، ولم
يقدم ذكر العدل صراحة ولكنه تقدم في ضمن قوله "اعدلوا" لأن الفعل يدل
على الحدث والزمان كما هو معلوم، ونظيرهما قوله جلت كلمته: {الَّذِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} فإن فاعل "زادهم" ضمير مستتر
جوازًا تقديره هو يعود إلى قول الناس ولم يتقدم صراحة، وإنما تقدم في
ضمن الفعل الذي هو قوله "قال لهم الناس" ونظير ذلك أيضًا قوله تباركت
أسماؤه: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يرْضَهُ لَكُمْ} أي يرضى الشكر، ولم يتقدم
ذكر الشكر صراحة، ولكنه تقدم في ضمن قوله سبحانه {وَإِنْ تَشْكُرُو ا}
.
__________
1 أضيف بعض أسماء المكان أيضًا إلى الجملة الفعلية ومنه قوله تعالى:
{الله أعلم حَيثُ يجْعَلُ رِسَالَتَهُ} .
(1/114)
الزمان والفعل من المناسبة، من حيث اتفقا
في كونهما عَرَضين، وأن الزمان حركات الفلك كما أن الفعل حركة الفاعل،
وكما أن هذه الإضافة لفظية، فكذلك التصغير اللاحق فعل التعجب لفظيّ؛
وكما أن هذه الإضافة لا اعتداد بها، فكذلك هذا التصغير لا اعتداد به.
والوجه الثاني: إنما دخله التصغير حملًا على باب أفعل الذي
للمُفَاضَلَة؛ لاشتراك اللفظين في التفضيل والمبالغة، ألا ترى أنك تقول
"ما أَحْسَنُ زيدًا" لمن بلغ الغاية في الحسن، كما تقول "زيد أحسنُ
القوم" فتجمع بينه وبينهم في أصل الحسن وتفضّله عليهم؛ فلوجود هذه
المشابهة بينهما جاز "ما أُحَيْسن زيدًا، وما أميلح غزلانًا" كما تقول:
"غلمانك أحيسنُ الغلمان، وغزلانك أميلح الغزلأن" ولهذه المشابهة حملوا
"أَفْعَلَ منك" و "هو أَفْعَلُ القوم" على قولهم "ما أَفْعَلَه" فجاز
فيهما ما جاز فيه، وامتنع منهما ما امتنع منه، ألا ترى أنك لا تقول "هو
أعرج منك" ولا "أعرج القوم" لأنك لا تقول "ما أعرجه" وتقول "هو أقبح
عرجًا منك" و "هو أقبح القوم عرجًا" كما تقول "ما أقبح عَرَجَهُ" وكذلك
لا تقول "هو أحسن منك حسنًا" فتؤكده بذكر المصدر؛ لأنك لا تقول "ما
أحسن زيدًا حسنًا" فأما قولهم "ألجّ لَجَاجَةً من الخُنْفَسَاءِ" وما
أشبهه فمنصوب على التمييز.
والوجه الثالث: إنما دخله التصغير لأنه أُلْزِم طريقةً واحدة، فأشبه
بذلك الأسماء، فدخله بعض أحكامها، وحَمْلُ الشيء على الشيء في بعض
أحكامه لا يخرجه عن أصله، ألا ترى أن اسم الفاعل محمول على الفعل في
العمل، ولم يخرج بذلك عن كونه اسمًا، وكذلك الفعل المضارع محمول على
الاسم في الإعراب، ولم يخرج بذلك عن كونه فعلا؛ فكذلك تصغيرهم فعل
التعجب تشبيهًا بالاسم لا يخرجه عن كونه فعلًا.
وأما ما ذكروه من "ليس، وعسى" فالكلام عليه من أربعة أوجه:
أحدها: أن "ليس، وعسى" وإن كانا قد أشبها فعل التعجب في سَلْبِ التصرّف
فإنهما قد فارقاه من وجهين؛ أحدهما: أنهما يرفعان الظاهر والمضمر، كما
ترفعهما الأفعال المتصرفة، فبَعُدَا عن شبه الاسم، وأفعل في التعجب
إنما يرفع المضمر دون الظاهر، فقرب من الاسم الجامد؛ فلهذا دخله
التصغير دونهما.
والثاني: أن "ليس، وعسى" وُصِلَا بضمائر المتكلمين والمخاطبين
والغائبين، نحو: لست ولستم وليسوا، وعسيت وعسيتهم وعَسَوا، كما تتصل
بالأفعال المتصرفة، وأفعل في التعجب أُلْزِمَ ضمير الغيبة لا غير، فلما
تصرف ليس وعسى.
(1/115)
في الاتصال بضمائر الأفعال الماضية هذا
التصرف وألزم هذا الفعل في الإضمار وجهًا واحدًا جاز أن يدخله التصغير
دونهما.
والثالث: أن "ليس، وعسى" لا مصدر لهما من لفظهما، فتنزل اللفظ بهما
منزلة اللفظ به، والتصغير ههنا في الحقيقة للمصدر، فإذا لم يكن لهما
مصدر من لفظهما بطل تصغيرهما، بخلاف فعل التعجب؛ فإن له مصدرًا من لفظه
نحو الحسن والملاحة وإن لم يكن جاريًا عليه على ما يقتضيه القياس، فقام
تصغيرُهُ مقام تصغير مصدره، فبَان الفرق بينهما.
والرابع: أن "ليس، وعسى" لا نظير لهما من الأسماء يحملان عليه كما حمل
ما أَفْعَلَهُ على أَفْعَلَ الذي للمفاضلة، فيحمل "ما أحسنهم" على
قولهم "هو أحسنهم" فبان الفرق بينهما.
فإن قالوا: هذا يبطل بنعم وبئس؛ فإنهما للمبالغة في المدح والذم، كما
أن التعجب موضوع للمبالغة، وإنهما لا يتصرّفان، ومع هذا فلا يجوز
تصغيرهما.
قلنا: هذا الإلزام على مذهبكم ألزم؛ لأنهما عندكم اسمان كأفعل في
التعجب؛ فهلّا جاز فيهما التصغير كما جاز فيه؟ فإن قلتم "إن ذلك لم
يسمع من العرب" قلنا: كما قلتم، ثم فرقنا بينهما، وذلك أنهما وإن كانا
لا يتصرفان فهما أشبه منه بالأفعال المتصرفة، وذلك من ثلاثة أوجه؛
أحدها: اتصال الضمير بهما على حد اتصاله بالفعل المتصرف نحو قولهم
"نعما رجلين، ونعموا رجالًا" والثاني: اتصال تاء التأنيث الساكنة بهما
نحو "نعمت المرأة، وبئست الجارية" والثالث: أنهما يرفعان الظاهر
والمضمر كالفعل المتصرف، فلما قربا من الفعل المتصرف هذا القرب بَعُدَا
من الاسم؛ فلهذا لم يجز تصغيرهما، بخلاف فعل التعجب على ما بيَّنَّا،
وأما مثال "أَفْعِل به" فإنما لم يجزْ تصغيره لأنه لا نظير له في
الأسماء إلا أصْبِغ؛ وهي لغة رديئة في إصْبَع وفيها سبع لغات:
فُصْحَاهنّ إصبع -بكسر الهمزة وفتح الباء- ثم أصبع -بضم الهمزة وفتح
الباء- ثم أصبع -بفتح الهمزة والباء- ثم أصبع -بضم الهمزة والباء- ثم
إصبع -بكسر الهمزة والباء- ثم أصبع -بفتح الهمزة وكسر الباء- ثم أصبوع
وإذا لم يكن له في كلامهم نظير سوى هذا الحرف في لغة رديئة باعَدَه ذلك
من الاسم، فلم يجز فيه التصغير. ألا ترى أن وزن الفعل الذي يغلب عليه
أو يخُصُّه أحد الأسباب المانعة من الصرف، فإذا كان الاسم يقرب من
الفعل لمجيئه على بعض أبنيته حتى يكون ذلك علة مانعة له من الصرف فكذلك
الفعل يبعد من الاسم لمخالفته له في البناء، هذا مع أن لفظه لفظ الأمر،
والأمر يختص به الفعل، فأما ما جاء من الأسماء مضمنًا معنى.
(1/116)
الأمر نحو "صَهْ، ومَهْ" وما أشبه ذلك فإنه
أقيم مقام الأفعال وهي الأصل في الأمر، وإنما فعلوا ذلك توخِّيًا
للاختصار لئلا يفتقر إلى إظهار ضمير التثنية والجمع والتأنيث الذي يظهر
في الفعل نحو "اسْكُتَا، واسكُتُوا، واسكُتْنَ" وما أشبه ذلك.
وأما قولهم "الدليل على أنه اسم تصحيح عينِهِ في "ما أقوَمَهُ، وما
أَبْيَعَهُ" قلنا: التصحيح حصل له من حيث حصل له التصغير، وذلك بحمله
على باب أفعل الذي للمفاضلة، فصحح كما صحح من حيث إنه غلب عليه شبَهُ
الأسماء بأن ألزم طريقة واحدة، والشبه الغالب على الشيء لا يخرجه عن
أصله، ألا ترى أن الأسماء التي لا تنصرف لما غلب عليها شبه الفعل منعت
الجر والتنوين كما منعهما الفعل، ولم تخرج بشبهها للفعل عن أن تكون
أسماء؛ فكذلك ههنا: تصحيح العين في نحو: "ما أَقْوَمَهُ، وما أبيعه" لا
يخرجه عن أن يكون فعلا، على أن تصحيحه غير مستنكر في كلامهم؛ فإنه قد
جاءت أفعال متصرفة مصححة في نحو قولهم: أَغْيَلَتِ المرأة، وأَغْيَمَتِ
السماء، واسْتَنْوَقَ الجمل، واسْتَتْيَسَتِ الشاة، واسْتَحْوَذَ
يستحوذ. قال الله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيهِمُ الشَّيطَانُ}
[المجادلة: 19] وقال تعالى: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيكُمْ
وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 141] وقد قرأ الحسن
البصري: "حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَُهَا وَأََزْيَنَتْ"
على وزن أَفْعَلَتْ، ونحو قولهم: اسْتَصْوَبْتُ، وأَجْوَدْتُ، وأطيبت،
وأطولت، قال الشاعر:
[88]
صَدَدْتِ وأطولت الصُّدُودَ، وقَلَّمَا ... وِصَالٌ على طُول
الصُّدُودِ يَدُومُ
__________
[88] هذا البيت للمرار الفقعسي، وقد أنشده ابن منظور في اللسان "ط ول"
ولم يعزه، وقد استشهد به سيبويه "1/ 12 و 459" وقد نسب في صدر الكتاب
إلى عمر بن أبي ربيعة، ونسب في شواهد الأعلم إلى المرار الفقعسي كما
ذكرنا، وممن استشهد به ابن هشام في مغني اللبيب "رقم 514" ورضي الدين
في شرح الكافية "2/ 320" وانظر خزانة البغدادي "4/ 287" وابن يعيش
"ص1417" وقوله "صددت" معناه أعرضت، و "أطولت" كان قياسه أن يقول "أطلت"
بحذف العين التي هي الواو؛ لأن هذه الواو تنقلب ألفًا في الفعل، تقول:
أطال، وأقام، وأفاء، وأقاد، وأنال، وأمال، وما أشبه ذلك، فإذا وصلت تاء
الضمير بالفعل حذفت هذه الألفات فقلت: أطلت، وأقمت، وأفأت، وأقدت،
وأنلت، وأملت، وذلك لأن آخر الفعل يسكن عند اتصال الضمائر المتحركة به،
فيلتقي ساكنان: الألف المنقلبة عن الواو أو الياء، وآخر الفعل، فتحذف
الألف للتخلص من التقاء الساكنين، هذه لغة جمهرة العرب، ومن العرب من
لا يقلب حرف العلة ألفًا، بل يبقيه على أصله في صيغة أفعل وصيغة
استفعل، فيقول: أغيمت السماء، وأغيل الصبي، واستتيست الشاة، واستنوق
الجمل، فإذا اتصل الفعل بالضمير المتحرك على هذه اللغة لم يلتقِ ساكنان
فيبقى الفعل على حاله، وعلي هذه اللغة جاءت هذه الكلمة، وانظر كتابنا
"دروس التصريف =
(1/117)
وإذا جاء التصحيح في هذه الأفعال المتصرفة
تنبيهًا على الأصل مع بُعدها عن الاسم فما ظنك بالفعل الجامد الذي لا
يتصرف؟
فإن قالوا: التصحيح في هذه الأفعال إنما جاء عن طريق الشذوذ، وتصحيح
أَفْعَلَ في التعجب قياس مطرد.
قلنا: قد جاء التصحيح في الفعل المتصرف على غير طريق الشذوذ، وذلك نحو
تصحيح "حَوِلَ، وعَوِرَ، وصَيِدَ" حملًا على "احْوَلّ، واعْوَرّ،
واصْيَدّا" وكذلك جاء التصحيح أيضًا في قولهم "اجْتَوْرَوْا،
واعْتَوْنَوْا" حملًا على "تَجَاوَروا، وتَعَاوَنُوا" فكذلك أيضًا
ههنا: حمل "ما أقومه وما أبيعه" على "هذا أقوم منك، وأبيع منك" ومع هذا
فلا ينبغي أن تحكموا له بالاسمية لتصحيحه؛ لأن أفعل به قد جاء مصححًا
وهو فعل، كما أن التصحيح في قولهم "أَقْوِمْ به، وأَبْيِعْ به" لا
يخرجه عن كونه فعلًا، فكذلك التصحيح في ما أفعله لا يخرجه عن كونه
فعلًا.
وأما قولهم "لو كان التقدير فيه شيء أَحْسَنَ زيدًا لوجب أن يكون
التقدير في قولنا ما أَعْظَمَ الله شيء أعظم الله، والله تعالى عظيم لا
بِجَعْلِ جاعل" قلنا: معنى.
__________
= ص164". والاستشهاد بالبيت هنا في قوله "أطولت" حيث صحت عين الفعل مع
أن قياس نظائرها أن تعتل بقلبها ألفًا ثم تحذف الألف عند الاتصال
بالضمائر المتحركة، في لغة جمهرة العرب، على ما بيَّنَّا، وقد أتى
الشاعر بهذا الفعل على أصله من غير أن يقلب أو يحذف، والعلماء يختلفون
في هذا وأشباهه؛ فمنهم من يقول: هو شاذ يحفظ ما سمع منه ولا يقاس عليه،
ومنهم من يقول: هو لغة لجماعة من العرب، يجوز القياس عليها، وفي قول
الشاعر "وقلما وصال ... إلخ" شاهد آخر للنحاة، وذلك حيث اتصلت "ما"
بقل، واعلم أولا أن "ما" هذه تتصل بثلاثة أفعال وهي: قل، وطال، وكثر
تقول: قلما كان ذلك، وطالما نهيتك عن الشر، وكثر ما أرشدتك، هذا هو
الأصل، نعني أنه إذ اتصلت "ما" بواحد من هذه الأفعال الثلاثة كفّته عن
طلب الفاعل ووليه الفعل، وربما وليه الاسم المرفوع كما في هذا البيت،
وللعلماء في ذلك الأسلوب أربعة أقوال:
الأول: أن "ما" كافة على أصلها ولا يحتاج الفعل المقترن بها إلى فاعل،
والاسم المرفوع بعده مبتدأ خبره ما بعده، وهذا هو ما ذهب إليه سيبويه،
وجعل ذلك من ضرورات الشعر، والثاني: أن "ما" هذه زائدة لا كافة، والاسم
المرفوع بعدها فاعل، وكأن الشاعر قد قال: وقل وصال يدوم على طول
الصدود، والثالث: أن "ما" كافة أيضًا، والاسم المرفوع بعدها فاعل لفعل
محذوف يفسره الفعل الآخر، وكأنه قد قال: قلما يدوم وصال على طول
الصدود، وهو مذهب ذهب إليه الأعلم الشنتمري، والرابع: أن "ما" حينئذ
كافة أيضًا، والاسم المرفوع بعدها فاعل بنفس الفعل المتأخر، وهذا مذهب
كوفي؛ لأنهم هم الذين يجوّزون تقدم الفاعل على ما هو معلوم.
(1/118)
قولهم شيء أعظم الله أي وَصَفَهُ بالعظمة،
كما يقول الرجل إذا سمع الأذان: كَبَّرْتَ كبيرًا، وعَظَّمَتَ
عَظِيمًا، أي وصفته بالكبرياء والعظمة، لا صيّرته كبيرًا عظيمًا، فكذلك
ههنا، ولذلك الشيء ثلاث معانٍ: أحدها: أن يُعْنَى بالشيء مَنْ يعظمه من
عباده، والثاني: أن يعنى بالشيء ما يدل على عظمة الله تعالى وقدرته من
مصنوعاته: والثالث: أن يعنى به نفسه، أي أنه عظيم لنفسه لا لشيء جعله
عظيمًا، فرقًا بينه وبين خلقه.
وحُكِيَ أن بعض أصحاب أبي العباس محمد بن يزيد الْمُبَرِّد قَدِمَ من
البصرة إلى بغداد قبل قدوم الْمُبَرِّد إليها، فحضر في حلقة أبي العباس
أحمد بن يحيى ثعلب، فسئل عن هذه المسألة، فأجاب بجواب أهل البصرة،
وقال: التقدير في قولهم "ما أحسن زيدًا" شيء أحسن زيدًا، فقيل له: ما
تقول في قولنا "ما أعظم الله"؟ فقال: شيء أعظم الله، فأنكروا عليه،
وقالوا: هذا لا يجوز؛ لأن الله تعالى عظيم لا بِجَعْلِ جاعل، ثم
سَحَبُوه من الحلقة وأخرجوه، فلما قَدِمَ الْمُبَرِّد إلى بغداد أوردوا
عليه هذا الإشكال، فأجاب بما قدمنا من الجواب، فبَانَ بذلك قبح إنكارهم
عليه، وفساد ما ذهبوا إليه.
وقيل: يحتمل أن يكون قولنا "شيء أعظم الله" بمنزلة الإخبار أنه عظيم،
لا على معنى شيء أعظمه؛ فإن الألفاظ الجارية عليه سبحانه يجب حملها على
ما يليق بصفاته، ألا ترى أن "عسى، ولعل" فيها طَرَفٌ من الشك، ولايحمل
في حقه سبحانه على الشك، وكذلك الامتحان يحمل منا على معانٍ تستحيل في
حقه سبحانه، إلى غير ذلك مما لا يُحْصَى كثرةً، فكذلك ههنا: يكون
المراد بقولهم "ما أعظم الله" الإخبار أنه عظيم، لا شيء جعله عظيمًا
لاستحالته؛ وإن كان ذلك يقدَّر في غيره لجوازه وعدم استحالته.
وأما قول الشاعر
[79]
ما أَقْدَرَ اللهَ أن يُدْنِي على شَحَطٍ ... مَنْ دَارُه الحَزْنُ ممن
دَارُهُ صُولُ
فإنه وإن كان لفظه تعجب فالمراد به المبالغة في وصف الله تعالى
بالقدرة، كقوله تعالى {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم:
75] فجاء بصيغة الأمر، وإن لم يكن في الحقيقة أمرًا؛ لامتناع ذلك في حق
الله تعالى، وإن شئت قدَّرته تقدير: "ما أَعْظَمَ الله" على ما
بيَّنَّا، والله أعلم.
(1/119)
16- مسألة: [القول في جواز التعجب من
البياض والسواد، دون غيرهما من الألوان] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز أن يستعمل "ما أفعله" في التعجب من البياض
والسود خاصة، من بين سائر الألوان، نحو أن تقول: هذا الثوب ما
أَبْيَضَهُ، وهذا الشعر ما أَسْوَدَهُ. وذهب البصريون إلى أن ذلك لا
يجوز فيهما كغيرهما من سائر الألوان.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما جوّزنا ذلك للنقل، والقياس:
أما النقل فقد قال الشاعر:
[89]
إذا الرجال شَتَوْا واشْتَدّ أَكْلُهُمُ ... فأنت أبيضُهُم سِرْبَالَ
طَبَّاخِ
__________
[89] روى صاحب اللسان "ب ي ض" هذا البيت كما رواه المؤلف، ولم يعزه
لقائل معين، ورواه ابن يعيش "ص847 و 1046" كذلك من غير عزو، ورواه في
مجمع الأمثال "1/ 81 بتحقيقنا" ونسب قوم هذا البيت إلى طرفة بن العبد
البكري من أبيات يهجو فيها عمرو بن هند الملك، لكنني رجعت إلى ديوان
طرفة فوجدت فيه "ص15" أبياتًا يهجو فيها عمرو بن هند فيها كلمته التي
يستشهد بها المؤلف، لكن رواية هذا البيت على غير ما جاء في اللسان وفي
كلام المؤلف، وهي هكذا.
أنت ابن هند فأخبر من أبوك إذا ... لا يصلح الملك إلا كل بذاخ
إن قلت نصر فنصر كان شر فتى ... قدمًا، وأبيضهم سربال طباخ
__________
1 انظر في هذه المسألة: شرح المفصل لابن يعيش "ص847 و1046" وشرح كافية
ابن الحاجب لرضي "2/ 198" وأسرار العربية لصاحب الإنصاف "ص51 ليدن" وقد
بنى رضي الدين الكلام على أنه لا يبنى اسم التفضيل من فعل الألوان، جعل
"أبيضهم وأسودهم" أفعل تفضيل، وأنت ترى المؤلف يبني الكلام على أنه لا
يبنى فعل التعجب من الفعل الدال على الألوان، ثم يستشهد بالشواهد التي
تشتمل على أفعل التفضيل، والخطب في ذلك سهل؛ لأنك تعلم أن كل ما يشترط
في صوغ أفعل التفضيل هو بعينه يشترط في اشتقاق صيغ التعجب، وقد ذكر
المؤلف نفسه ذلك، ثم انظر شرح الأشموني "4/ 254 بتحقيقنا" وحاشية
الصبان "3/ 19 و 37" والتصريح للشيخ خالد "2/ 113-116 بولاق" ولسان
العرب "ب ي ض"
(1/120)
وَجْهُ الاحتجاج أنه قال "أَبْيَضُهُمْ"
وإذا جاز ذلك في "أفعلهم" جاز في "ما أَفْعَلَه وأَفْعِلْ به" لأنهما
بمنزلة واحدة في الباء، وقد قال الشاعر:
[90]
جارية في دِرْعِهَا الفَضْفَاضُ ... تُقَطِّعُ الحديث بالإِيمَاضِ
أبيضُ من أخت بني أَبَاضِ
فقال "أبيض" وهو أفعل من البياض، وإذا جاز ذلك في أفعل من كذا جاز في
ما أفعله وأفعل به؛ لأنهما بمنزلة واحدة في هذا الباب، ألا ترى أن ما
لا يجوز فيه
__________
= وقوله "إذا الرجال شتو" أي صاروا في زمان الشتاء، والشتاء عندهم هو
زمان القحط والجدب، وفيه يظهر كرم الكرام وبخل البخلاء، وقوله "واشتد
أكلهم" أراد أنه تعسر على أكثرهم الحصول على ما يأكلون، وقوله "فأنت
أبيضهم سربال طباخ" معناه أن ثياب طباخك تكون في هذا الوقت بيضاء شديدة
البياض نقية من الوضر ودهن اللحم وغيره، يريد أنه لا يطبخ فلا تتدنس
ثيابه، وهذه العبارة كناية عن شدة البخل. والاستشهاد بالبيت في قوله
"أبيضهم" حيث اشتق أفعل التفضيل من البياض، وهذا مما يجيزه الكوفيون،
ويأباه البصريون، وقد اختلفوا في التعليل للمنع؛ فمنهم من ذهب إلى أن
السر في منع صوغ أفعل التفضيل وصيغتي التعجب من الألوان أن الألوان من
المعاني اللازمة التي تشبه أن تكون خلقة كاليد والرجل، ومنهم من ذهب
إلى سبب المنع هو كون أفعال الألوان ليست ثلاثية مجردة. وإنما تأتي
أفعال الألوان على أحد مثالين: أولهما أفعل -بتشديد اللام- نحو أبيض
وأسود، والثاني أفعال -بزيادة ألف بعد العين وبتشديد اللام- نحو ادهام
وابياض واسواد وما أشبه ذلك.
[90] نسب البغدادي نقلًا عن ابن هشام اللخمي "3/ 483" هذا الرجز إلى
رؤبة بن العجاج، وقد أنشده رضي الدين في شرح الكافية "2/ 199" وابن
يعيش "847 و 1046" وابن منظور "ب ي ض" والميداني في مجمع الأمثال "1/
81 بتحقيقنا" ولم يعزه أحد منهم إلى قائل معين، والدرع -بكسر فسكون-
القميص، والفضفاض: الواسع ويروى بدل البيت الأول:
جارية في رمضان الماضي
ومعنى قوله "تقطع الحديث بالإيماض" أن القوم إذا كانوا يتحدثون فأومضت
تركوا الحديث واشتغلوا بالنظر إليها لبراعة جمالها، وبنو أباض -بفتح
الهمزة- قوم اشتهروا ببياض ألوانهم. والاستشهاد بالبيت في قوله "أبيض"
حيث جاء بأفعل التفضييل من البياض، وهو يشهد للكوفيين الذي يجيزون
مجيءأفعل التفضيل وصيغتي التعجب من خصوص البياض والسواد دون سائر
الألوان لكونهما أصلي الألوان كلها، والبصريون يمنعون ذلك، ويحكمون على
ما جاء من كلام العرب مما ظاهره ذلك بأنه شاذ، أو يكون "أفعل" في مثل
قول هذا الراجز صفة مشبهة لا أفعل تفضيل، وقد ذكر ذلك المؤلف وابن يعيش
في الموضعين اللذين أرشدناك إليهما من شرحه على المفصل.
ونظير ذلك قول أبي الطيب المتنبي يذم الشيب:
أبعد بعدت بياضا لا بياض له ... لأنت أسود في عيني من الظلم
(1/121)
ما أفعله يجوز فيه أفعل من كذا، وكذلك
بالعكس منه: وكذلك بالعكس منه: ما جاز فيه ما أفعله جاز فيه أفعل من
كذا، فإذا ثبت أنه يمتنع في كل واحد منهما ما يمتنع في الآخر، ويجوز
فيه ما يجوز في الآخر، دلّ على أنهما بمنزلة واحدة، وكذلك القول في
"أَفْعِل به" في الجواز والامتناع، فإذا ثبت هذا فوجب أن يجوز استعمال
ما أفعله من البياض.
وأما القياس فقالوا: إنما جوزنا ذلك من السواد والبياض دون سائر
الألوان لأنهما أصلا الألوان، ومنهما يتركب سائرها من الحمرة والصفرة
والخضرة والصُّهْبَة والشُّهْبَة والكُهْبَة إلى غير ذلك، فإذا كانا
هما الأصليين للألوان كلها جاز أن يثبت لهما ما لا يثبت لسائر الألوان؛
إذ كانا أصلين لها ومتقدمين عليها.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنه لا يجوز استعمال "ما
أفعله" من البياض والسواد أنا أجمعنا على أنه لا يجوز أن يستعمل مما
كان لونًا غيرهما من سائر الألوان؛ فكذلك لا يجوز منهما، وإنما قلنا
ذلك لأنه لا يخلو امتناع ذلك: إما أن يكون لأن باب الفعل منهما أن يأتي
على افْعَلّ نحو احمرّ واصفرّ واخضرّ وما أشبه ذلك، أو لأن هذه الأشياء
مستقرة في الشخص لا تكاد تزول فجرت مجرى أعضائه، وأي العلتين قدرنا
وجدنا المساواة بين البياض والسواد وبين سائر الألوان في علة الامتناع؛
فينبغي أن لا يجوز فيهما كسائر الألوان.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما احتجاجهم بقول الشاعر:
[89]
فأنت أبيضهم سربال طباخ
فلا حجّة فيه من وجهين؛ أحدهما: أنه شاذ فلا يؤخذ به، كما أنشد أبو
زيد:
[91]
يقول الخَنَا وأَبْغَضُ العُجْم نَاطقًا ... إلى ربِّنَا صوت الحمار
اليُجَدَّعُ
__________
[91] هذان البيتان من كلام ذي الخرق الطهوي، وليسا متتاليين في كلامه
كما قد يظن من صنيع المؤلف. بل بين أولهما وثانيهما بيتان، وقد استشهد
بالبيت الأول رضي الدين في شرح الكافية، وشرحه البغدادي في الخزانة "1/
15 و 2/ 488" وأنشده ابن منظور "ج د ع" مع بيت سابق عليه ونسبهما لذي
الخرق، وأنشده مرة أخرى "ل وم" وذكر له نظائر كثيرة، وأنشده الأشموني
"1/ 171 بتحقيقنا" واستشهد به ابن هشام في المغني "رقم 68" وقد روى أبو
زيد في نوادره "ص66 و 67" سبعة أبيات يقع أول هذين البيتين ثانيها،
ويقع ثاني البيتين خامسها، والخنى: الفاحش من الكلام، وأبغض: أفعل
تفضيل من البغض، وفعله بغض فلان إلي، وتقول: ما أبغضني إلى فلان؛ إذا
كان هو المبغض لك، وقالوا: ما أبغضني لفلان؛ إذا كنت المبغض له،
والعجم: جمع أعجم أو عجماء، والأعجم: =
(1/122)
ويَسْتَخْرِجُ اليَرْبُوعَ من نَافِقَائِهِ
... ومِنْ جُحْرِهِ بالشِّيخَةِ اليَتَقَصَّعُ
فأدخل الألف واللام على الفعل، وأجمعنا على أن استعمال مثل هذا خطأ
لشذوذه قياسًا واستعمالًا، فكذلك ههنا، وإنما جاء هذا لضرورة الشعر،
والضرورة لا يقاس عليها، كما لو اضطر إلى قصر الممدود على أصلنا وأصلكم
أو إلى مَدِّ المقصور على أصلكم، وعلى ذلك سائر الضرورات ولا يدل جوازه
في الضرورة على جوازه في غير الضرورة، فكذلك ههنا، فسقط الاحتجاج به.
وهذا هو الجواب عن قول الآخر:
[90]
أبيض من أخت بني أباض
والوجه الثاني: أن يكون قوله: "فأنت أبيضهم" أفعل الذي مؤنثه فَعْلَاء
كقولك أبيض وبيضاء، ولم يقع الكلام فيه، وإنما وقع الكلام في أفعل الذي
يراد به المفاضلة نحو "هذا أحسن منه وجهًا، وهو أحسن القوم وجهًا"
فكأنه قال مُبْيَضّهم، فلما أضافه انتصب ما بعده عن تمام الاسم، وهذا
هو الجواب عن قول الآخر:
[90]
أَبْيَضُ من أخت بني أباض
ومعنا: في درعها جسد مُبيض من أخت بني أباض، ويكون "من أخت" ههنا في
موضع رفع؛ لأنها صفة لأبيض، كأنه قال أبيضٌ كائنٌ من أخت، كقولهم "أنت
كريمٌ من بن فلان" ونحوه قول الشاعر:
[92]
وأبيضُ مِنْ ماء الحديد كأنّه ... شهابٌ بَدَا واللّيل داجٍ عَسَاكرُه
__________
= الحيوان الذي لا ينطق، والأعجم من الإنسان الذي في كلامه عجمة، شبهوه
بالحيوان الأعجم، واليجدّع: الذي يقطع أنفه، أو أذنه، أو يده، أو شفته،
كل ذلك يقال، واليربوع: دويبه تحفر الأرض والنافقاء: جحر يكتمه اليربوع
ويستره ويظهر جحرًا آخر غيره، وقوله "بالشيخة" هو بالخاء المعجمة رملة
بيضاء في بلاد بني أسد وحنظلة، واليتقصع: أراد الذي يتقصع، وتقول "تقصع
اليربوع" إذا دخل في قاصعائه، والقاصعاء: جحر آخر من جحرة اليربوع.
والاستشهاد بالبيت الأول في قوله "اليجدع" والاستشهاد بالبيت الثاني في
قوله "اليتقصع" فإنه أراد الذي يجدع والذي يقتصع، فوصل أل الموصولة
بالفعل المضارع، وقد اتفق الفريقان على أن وصل أل الموصولة بالفعل
المضارع شاذ، هكذا قال المؤلف، لكن الذي نعرفه أن من الكوفيين قومًا
يجيزون ذلك في الاختيار، وقد ذهب ابن مالك إلى مذهب وسط بين المذهبين،
فقال: إن ذلك قليل لا شاذ، وانظر التصريح للشيخ خالد الأزهري "1/ 169"
وشرح الأشموني بتحققنا "1/ 171" فقد ذكرنا ثمة كثيرًا من الشواهد،
وحاشية الصبان "1/ 161 بولاق"
[92] أنشد البغدادي هذا البيت في الخزانة "3/ 485 بولاق" والشريف
المرتضي في أماليه "2/ 317" وذكر أن ابن جني استشهد به، ولم يعزه
أحدهما إلى معين، والشهاب: النجم، =
(1/123)
...................................................................
__________
= وبدا: أي ظهر، والليل داجٍ: أي مظلم. والاستشهاد بالبيت في قوله
"وأبيض من ماء الحديد" فإن "أبيض" في هذه العبارة ليس أفعل تفضيل، لكنه
صفة مشبهة، و "من" التالية له ليست من التي تدخل على المفضول في نحو
قولك: فلان أكرم خلقًا من فلان، وأشرف نفسًا منه، وأطهر قلبًا منه، وما
أشبه ذلك، وعلى ذلك لا تكون "من" هذه متعلقة بأبيض، بل هي متعلقة
بمحذوف يقع صفة لأبيض وكأنه قد قال: وأبيض كائن من ماء الحديد، أي
مأخوذ ومصنوع من ماء الحديد، والكلام في وصف سيف، وإذا كان لفظ "أبيض"
يأتي صفة مشبهة كما في هذا البيت وفي الشاهد الذي يليه فإنه لا يمتنع
أن يكون أبيض في قول الراجز:
أبيض من أخت بني أباض
وفي البيت المنسوب إلى طرفة:
... أبيضهم سربال طباخ
وأسود في قول المتنبي الذي أنشدناه لك:
... أسود في عيني من الظلم
صفة مشبهة أيضًا، وكأن المتنبي قد قال: لأنت مسود في عيني، ولأنت من
الظلم؛ وكأن طرفة قد قال: أنت مبيضهم سربال طباخ، وكأن الراجز قد قال:
جسد مبيض كائن من أخت بني أباض، وقد اتفق مع المؤلف على هذا التخريج
ابن يعيش والشريف المرتضي والحريري في دره الغواص، وكلهم تابعون لابن
جني. ويقول أبو رجاء: إنه ليس من المنكر أن يجيء وزن أفعل من البياض
والسواد وغيرهما من الألوان ومن غير الألوان صفة مشبهة، نقول: فلان
أبيض اللون وفلان أسود، أو أخضر، أو أصفر، وتقول: فلان أهيف البطن.
وفلان أجب الظهر، وفلان أوحد دهره، وما لا يحصى من المثل، ومن ذلك قول
أبي الطيب المتنبي أيضًا:
يلقاك مرتديًا بأحمر من دم ... ذهبت بخضرته الطلى والأكبد
ومن ذلك قول أبي تمام:
له منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنه في القلب أسود أسفع
وقد قال المفسرون في قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} : إن
"أهون" في هذه الآية بمعنى هين، كما قالوا في قول معن بن أوس:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تغدو المنية أول
إن "أوجل" هنا صفة مشبهة وليست أفعل تفضيل، أقول: نحن لا ننكر أن هذا
الوزن يأتي صفة مشبهة خالية من معنى تفضيل شيء على شئ، كما لا ننكر أن
من هذه البابة قول الشاعر:
وأبيض من ماء الحديد كأنه
وما معه من الأبيات، لكنا لا نستطيع أن نستسيغ أن يكون من هذه البابة
قول الراجز:
أبيض من أخت بني أباض
مع قول الرواة الموثوق بهم: إن نساء بني أباض مشهورات ببياض ألوانهن؛
وعلى هذا يكون هذا الجواب غير مستقيم، ولو كان القائل به ابن جني ومن
تبعه من فحولة النحاة.
(1/124)
فقوله "من ماء الحديد" في موضع رفع؛ لأنه
صفة أبيض، وتقديره وأبيض كائنٌ من ماء الحديد، ونحوه أيضًا قول الآخر
[93]
لما دعاني السَّمْهَرِيُّ أجبتُهُ ... بأبيض من ماء الحديد صَقيلِ
وأما قولهم "إنما جوَّزنا ذلك لأنهما أصلان للألوان ويجوز أن يثبتَ
للأصل ما لا يثبتُ للفرع" قلنا: هذا لا يستقيم، وذلك لأن سائر الألوان
إنما لم يجز أن يستعمل منها "ما أفعله، وأفعل منه" لأنها لازمت
مَحَالها، فصارت كعضوٍ من الأعضاء، فإذا كان هذا هو العلة فنقول: هذا
على أصلكم ألزم، وذلك لأنكم تقولون: إن هذه الألوان ليست بأصل في
الوجود، على ما تزعمون، بل هي مركبة من البياض والسواد؛ فإذا لم يجز
مما كان متركبًا منها لملازمته المحل فلأن لا يجوز مما كان أصلًا في
الوجود وهو ملازم للمحل كان ذلك من طريق الأولى، والله أعلم.
__________
[93] أنشد ابن يعيش "ص1046" عجز هذا البيت، ولم يعزه إلى قائل، والظاهر
أن "السمهري" هنا اسم رجل، وأصل السمهري الرمح، منسوب إلى رجل كان يبيع
الرماح بالخط، واسم امرأته ردينة، فأحيانًا ينسبون الرماح إليه
فيقولون: رمح سمهري، ورماح سمهرية، وأحيانًا يضيفونها إلى امرأته
فيقولون: رديني، أو رماح ردينية، وأحيانا ينسبونه إلى مكانهم فيقولون:
خطي، والقول في الاستشهاد بهذا البيت كالذي ذكرناه في الشاهد السابق.
(1/125)
17- مسألة: [القول في تقديم خبر "ما زال"
وأخواتها عليهن] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز تقديم خبر "ما زال" عليها، وما كان في
معناها من أخواتها، وإليه ذهب أبو الحسن بن كَيْسَان، وذهب البصريون
إلى أنه لا يجوز ذلك، وإليه ذهب أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء من
الكوفيين، وأجمعوا على أنه لا يجوز تقديم خبر "ما دَامَ" عليها.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا ذلك لأن "ما زال" ليس بنفي
للفعل، وإنما هو نفي لمفارقة الفعل، وبيان أن الفاعل حاله في الفعل
متطاولة، والذي يدل على أنه ليس بنفي إن "زال" فيه معنى النفي، و "ما"
للنفي، فلما دخل النفي على النفي صار إيجابًا، والذي يدل على أن النفي
إذا دخل على النفي صار إيجابًا، أنك إذا قلت "انتفى الشئ" كان ضدًا
للإثبات، فإذا أدخلت عليه النفي نحو "ما انْتَفَى" صار موجبًا؛ فدل على
أن نفي النفي إيجاب، وإذا كان كذلك صار "ما زال" بمنزلة "كان" في أنه
إيجاب، وكما أن "كأن" يجوز تقديم خبرها عليها نفسها، فكذلك"ما زال"
ينبغي أن يجوز تقديم خبرها عليها، ولذلك لم يقولوا "ما زال زيد إلا
قائمًا" كما لم يقولوا "كان زيد إلا قائمًا" لأن "إلا" إنما يؤتى بها
لنقض النفي، كقولك "ما مررت إلا بزيد، وما ضربت إلا زيدًا" نفيت المرور
والضرب أولًا، وأدخلت "إلا" فأثبتهما لزيد، وأبطلت النفي ونقضته، ولهذا
إذا قلتم إنها إذا دخلت على "ما" التي ترفع الاسم وتنصب الخبر أبطلت
عملها؛ لأنها إنما عملت لشبهها بليس في أنها تنفي الحال، كم أن ليس
تنفي الحال؛ فإذا دخلت "إلا" عليها أبطلت معنى النفي، فزال شبهها بليس،
فبطل عملها؛ فإذا كان الكلام ثابتًا فلا يفتقر إلى إثباته؛ ألا ترى أنك
لو قلت "مررت إلا بأحد" لم يجز؛ لأن إثبات الثابت
__________
1 انظر في هذه المسألة: أسرار العربية للمؤلف "ص57" وشرح الأشموني "1/
352 بتحقيقنا" وحاشية الصبان "1/ 224" والتصريح للشيخ خالد "1/ 236
بولاق" وشرح موفق الدين بن يعيش على المفصل "ص1015" وشرح رضي الدين على
الكافية "2/ 267".
(1/126)
ونقض النفي مع تعرِّي الكلام منه محال، فدل
على أن "ما زال" في الإثبات بمنزلة "كان" فكما لا يقال "كان زيد إلا
قائمًا" فكذلك لا يقال "ما زال زيد إلا قائمًا" فأما قول الشاعر:
[94]
حَرَاجِيجُ ما تَنْفَكُّ إلا مُنَاخَةً ... على الخسف أو نرمي بها
بلدًا قَفْرَا
__________
[94] هذا البيت من كلام ذي الرمة غيلان بن عقبة، وقد استشهد به سيبويه
"1/ 428" والزمخشري وابن يعيش "1010" والرضي "2/ 275" والأشموني "رقم
2100" وانظر خزانة الأدب "4/ 49 بولاق" والحراجيج: جمع حرجوج، أو حرجيج
وهي هنا الناقة الضامرة الهزيلة، ومناخة: اسم المفعول المؤنث من قولك
"أناخ الرجل بعيره أو ناقته" إذا أبركها، والخسف -بالفتح- الجوع، وذلك
أن يبيت على غير علف، وكان الأصمعي وأبو عمرو بن العلاء يخطِّئان ذا
الرمة في هذا البيت؛ لأنه أدخل حرف الاستثناء -وهو إلا- على خبر تنفك،
وقد خلص العلماء ذا الرمة من هذا الخطأ، ولهم في ذلك التخلص خمسة أوجه؛
الأول أن الرواية ليست كما زعم أبو عمرو والأصمعي، وليس التالي لقوله
"ما تنفك" هو إلا التي هي حرف استثناء، بل هو "آلا" بمد الألف، والآل:
الشخص، وذلك نظير قول ذي الرمة نفسه في كلمة أخرى:
فلم نهبط على سفوان حتى ... طرحن سخالهن وصرن آلا
ويروى أن ذا الرمة لما نبّه إلى الخطأ فَطن له وقال: أنا لم أقل "إلا
مناخة" وإنما قلت "ما تنفك آلا مناخة" وعلى هذا الوجه يكون قوله "آلا"
خبر تنفك، ومناخة صفة وحينئذ يسأل عن وجه تأنيث الصفة مع أن الموصوف
مذكر، والجواب عن ذلك أن الآل -وهو الشخص- يطلق على المذكر والمؤنث
كالشخص الذي هو بمعناه، ولما كان المراد هنا النوق أنث الصفة، وهذا
التخريج قد ذكره كثير من العلماء، وقد سمعت أنه يروى عن ذي الرمة نفسه،
والتخريج الثاني: أن "تنفك" هنا تامة، وليست ناقصة، والتي يمنع دخول
إلا عليها هي الناقصة، وهذا تخريج ذكره الفراء في معاني القرآن، ونسبه
المؤلف إلى الكسائي، وذكره الأعلم في شرح شواهد سيبويه، والتخريج
الثالث: أن تجعل تنفك ناقصة لكن لا يكون "مناخة" خبرها، بل خبرها هو
متعلق الجار والمجرور الذي هو قوله "على الخسف" وعلى هذا الوجه يكون
قوله "مناخة" حالًا، وكأنه قد قال: ما تنفك كائنة على الخسف إلا في حال
كونها مناخة، وقد ذكر هذا التخريج الأعلم أيضًا، والتخريج الرابع: أن
تكون تنفك ناقصة أيضًا ولكن يكون خبرها محذوفًا، و "مناخة" حال، و "على
الخسف" يتعلق بمناخة، وتقدير الكلام على هذا الوجه: ما تنفك مقيمة في
أوطانها إلا في إحدى حالتين: الأولى: أن تكون مناخة على الخسف
والثانية: أن نرمي بها بلدًا قفرا، وهذا التوجيه قد ذكره الزمخشري،
والتخريج الخامس: أن تجعل "تنفك" ناقصة، و "مناخة" خبرها، ولكن "إلا"
ليست للاستثناء، بل هي حرف زائد لا يدل على معنًى، والممتنع إنما هو
دخول إلا الدالة على الاستثناء على خبر "تنفك" وهذا التخريج -كما قال
ابن يعيش- للمازني، وتبعه أبوعلي الفارسي في بعض كتبه، ونسبه ابن هشام
في مغني اللبيب إلى الأصمعي وابن جني، وفي هذا القدر غناء أي غناء
(1/127)
فالكلام عليه من أربعة أوجه؛ فالوجه الأول:
أنه يروى "ما تنفك آلا مناخة" والآل: الشخص؛ يقال "هذا آلٌ قد بدا" أي
شخص؛ وبه سمي الآل؛ لأنه يرفع الشخوص أول النهار وآخره؛ قال الشاعر:
[95]
كأننا رَعْنُ قَفٍّ يرفع الآلَا
أي يرفعه الآل؛ وهو من المقلوب. والوجه الثاني: أنه يروى "ما تنفك إلا
مناخَةٌ" بالرفع، فلا يكون فيه حجة. والوجه الثالث: أنه قد رُوِي
بالنصب، ولكن ليس هو منصوبًا لأنه خبر "ما تنفك" وإنما خبرها "على
الخسف" فكأنه قال: ما تنفك على الخسف، أي تُظْلَم إلا أن تناخ. والوجه
الرابع: أنه جعل "ما تنفك"
__________
[95] هذا عجز بيت من كلام النابغة الجعدي، وصدره قوله:
حتى لحقنا بهم تعدى فوارسنا
وتعدى فوارسنا: أي تحمل أفراسها على العدو، وهو السير السريع، والرعن
-بفتح الراء وسكون العين- أنف الجبل، والقف -بضم القاف وتشديد الفاء-
الجبل، غير أنه ليس بطويل في السماء، والآل: الذي تراه في أول النهار
وآخره كأنه يرفع الشخوص، وليس هو السراب، ومحلّ الاستشهاد بالبيت قوله
"الآل" ومعناه ما ذكرناه يريد المؤلف أن الذي في بيت ذي الرمة هو
"الآل" كالذي في هذا البيت، وقد تقدم بيانه، وقد تبين لك من تفسيرنا
للآل وجه قول المؤلف "وهو من المقلوب" يعني أن المعروف أن الآل هو الذي
يرفع الشخوص، وقد جاء في هذا البيت أن رعن القف يرفع الآل، فرعن القف
في ظاهر هذا البيت رافع، والآل مرفوع، والجاري على ألسنة العرب أن تجعل
الآل رافعًا والشخوص التي منها رعن القف مرفوعة، قال ابن منظور بعد أن
أنشد البيت "أراد يرفع الآل، فقلبه" وقد أنكر ابن سيده القلب في هذا
البيت، وزعم أن كل واحد من رعن القف والآل يصلح أن يكون رافعًا ويصلح
كذلك أن يكون مرفوعًا، قال: "وجه كون الفاعل فيه مرفوعًا والمفعول
منصوبًا باسم صحيح مقول به، وذلك أن رعن هذا القف لما رفعه الآل فرؤي
فيه ظهر به الآل إلى مرآة العين ظهورًا لولا هذا الرعن لم يبن للعين
بيانه إذا كان فيه، ألا ترى أن الآل إذا برق للبصر رافعًا شخصه كان
أبدى للناظر إليه منه لو لم يلاق شخصًا يزهاه فيزداد بالصورة التي
حملها سفورًا، وفي مسرح الطرف تجليًّا وظهورًا؟ فإن قلت: فقد قال
الأعشى:
إذ يرفع الآل رأس الكلب فارتفعا
فجعل الآل هو الفاعل والشخص هو المفعول، قيل: ليس في هذا أكثر من أن
هذا جائز، وليس فيه دليل على أن غيره ليس بجائز، ألا ترى أنك إذا قلت:
ما جاءني غير زيد، فإنما في هذا دليل على أن الذي هو غيره لم يأتك،
فأما زيد نفسه فلم يعرض للأخبار بإثبات مجيءله أو نفيه عنه؛ فقد يجوز
أن يكون قد جاء وأن يكون أيضًا لم يجيء" ا. هـ كلامه بحروفه.
(1/128)
كلمة تامة؛ لأنك تقول "انفكت يده" فتوهم
فيه التمام، ثم استثنى، وهذا الوجه رواه هشام عن الكسائي.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز تقديم خبر "ما
زال" عليها لأن "ما" للنفي، والنفي له صدر الكلام؛ فجرى مَجْرَى حرف
الاستفهام في أن له صدر الكلام، والسّرّ فيه هو أن الحرف إنما جاء
لإفادة المعنى في الاسم والفعل؛ فينبغي أن يأتِيَ قبلهما، لا بعدهما،
وكما أن حرف الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله فكذلك ههنا، ألا ترى
أنك لو قلت في الاستفهام "زيدًا أَضَرَبْتَ" لم يجز، لأنك تقدم ما هو
متعلق بما بعد حرف الاستفهام عليه؛ فكذلك ههنا؛ إذا قلت "قائما ما زال
زيدٌ" ينبغي أن لا يجوز لأنك تقدم ما هو متعلق بما بعد حرف النفي عليه.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إن ما زال ليس بنفي للفعل،
وإنما هو نفي لمفارقة الفعل، والنفي إذا دخل على النفي صار إيجابًا"
قلنا: هذا حجة عليكم، فإنّا كما أجمعنا على أن "ما زال" ليس بنفي للفعل
أجمعنا على أن "ما" للنفي، ثم لو لم تكن "ما" للنفي لما صار الكلام
بدخولها إيجابًا، فالكلام إيجابءَ و "ما" نفي؛ بدليل أنا لو قدرنا زوال
النفي عنها لما كان الكلام إيجابًا، وإذا كانت للنفي فينبغي أن لا
يتقدم ما هو متعلق بما بعدها عليها؛ لأنها تستحق صدر الكلام
كالاستفهام.
وأما "ما دام" فلم يجز تقديم خبرها عليها نفسها لأن "ما" فيه مصدرية لا
نافية، وذلك المصدر بمعنى ظرف الزمان؛ ألا ترى أنك إذا قلت "لا أفعل
هذا ما دام زيد قائمًا" كان التقدير فيه: زَمَنَ دوام زيد قائمًا،
كقولك "جِئْتكَ مَقْدَمَ الحاجِّ، وخُفُوق النجم" أي زمن مقدم الحاج
وزمن خفوق النجم، إلا أنه حُذِفَ المضاف الذي هو الزمن، وأقيم المصدر
الذي هو المضاف إليه مقامه، وإذا كانت "ما" في"ما دام" بمنزلة المصدر
فما كان من صلة المصدر لا يتقدم عليه، والله أعلم.
(1/129)
18- مسألة: [القول في تقديم خبر "ليس"
عليها] 1
ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم خبر "ليس" عليها، وإليه ذهب أبو
العباس الْمُبَرِّد من البصريين، وزعم بعضهم أنه مذهب سيبويه، وليس
بصحيح، والصحيح أنه ليس له في ذلك نص2. وذهب البصريون إلى أنه يجوز
تقديم خبر "ليس" عليها كما يجوز تقديم خبر كان عليها3.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه لا يجوز تقديم خبر ليس
عليها وذلك لأن "ليس" فعل غير متصرف؛ فلا يجري مجرى الفعل المتصرف كما
أجريت "كأن" مجراه لأنها متصرفة، ألا ترى أنك تقول: كان يكون فهو كائن
وكن، كما تقول: ضرب يضرب فهو ضارب ومضروب واضرب، ولا يكون ذلك في ليس،
وإذا كان كذلك فوجب أن لا يجري مجرى ما كان فعلًا متصرفًا، فوجب أن لا
يجوز تقديم خبره عليه كما كان ذلك في الفعل المتصرف؛ لأن الفعل إنما
يتصرف عمله إذا كان متصرفًا في نفسه. فأما إذا كان غير متصرف في نفسه
فينبغي أن لا يتصرف علمه؛ فلهذا قلنا: لا يجوز تقديم خبره عليه، والذي
يدل على هذا أن "ليس" في معنى ما؛ لأن ليس تنفي الحال كما أن ما تنفي
الحال، وكما أن ما لا تتصرف ولا يتقدم معمولها عليها فكذلك ليس، على أن
من النحويين من يُغَلِّبُ
__________
1 انظر في هذه المسألة: أسرار العربية للمؤلف "ص58 ليدن" وشرح رضي
الدين على كافية ابن الحاجب "2/ 276" وشرح موفق الدين بن يعيش على
المفصل "ص1016" والأشموني "1/ 355 بتحقيقنا" وحاشية الصبان "1/ 225"
وتصريح الشيخ خالد الأزهري "1/ 225 بولاق".
2 يريد أنه لا يوجد في كتاب سيبويه نص في هذا الموضوع، لا بالجواز ولا
بالمنع.
3 الذي ذكره النحاة أن القائلين بامتناع تقديم خبر ليس عليها هم جمهور
الكوفيين، والمتأخرون من البصريين، وقد اختار هذا الرأي شيخ المحققين
ابن مالك فقال في الخلاصة "الألفية":
ومنع سبق خبر ليس اصطفى
وأن الذين يجيزون تقديم خبر ليس عليها هم قدماء البصريين، والفراء،
وتبعهم ابن برهان، والزمخشري، والشلوبيي، وابن عصفور، وهم من المتأخرين
الذي يؤيدون مذهب أهل البصرة غالبًا.
(1/130)
عليها الحرفية، ويحتج بما حكي عن بعض العرب
أنه قال: "ليس الطَّيب إلا المسك" فرفع الطيب والمسك جميعًا، وبما حكي
أن بعض العرب قيل له: فلان يتهدَّدك، فقال: "عليه رجلًا ليسي" فأتى
بالياء وحدها من غير نون الوقاية، ولو كان فعلًا لوجب أن يأتي بها
كسائر الأفعال، ولأنها لو كانت فعلًا لكان ينبغي أن يرد إلى الأصل إذا
اتصلت بالتاء فيقال في لست "لَيِسْتُ" ألا ترى أنك تقول في صَيِد
البعيرُ "صِيْدَ البعيرُ" فلو أدخلت عليه التاء لقلت "صَيِدْتَ" فرددته
إلى الأصل وهو الكسر، فلما لم يردّ ههنا إلى الأصل -وهو الكسر- دلّ على
أن المغلَّبَ عليه الحرفية، لا الفعلية، وقد حكى سيبويه في كتابه أن
بعضهم يجعل ليس بمنزلة ما في اللغة التي لا يعملون فيها "ما"؛ فلا
يعملون ليس في شيء، وتكون كحرف من حروف النفي؛ فيقولون: ليس زيد منطلق،
وعلى كل حال فهذه الأشياء وإن تكن كافية في الدلالة على أنها حرف فهي
كافية في الدلالة على إيغالها في شبه الحرف، وهذا ما لا إشكال فيه،
وإذا ثبت أنها لا تتصرف وأنها موغلة في شبه الحرف فينبغي أن لا يجوز
تقديم خبرها عليها، ولأن الخبر مجحود فلا يتقدم على الفعل الذي جحده
على ما بيَّنَّا.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على جواز تقديم خبرها عليها
قوله تعالى: {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ}
[هود: 8] وَجْهُ الدليل من هذه الآية أنه قدَّم معمول خبر ليس على ليس،
فإن قوله {يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} يتعلق بمصروف، وقد قدمه على ليس، ولو لم
يجز تقديم خبر ليس على ليس وإلا لما جاز تقديم معمول خبرها عليها؛ لأن
المعمول لا يقع إلا حيث يقع العامل، ألا ترى أنه لم يجز أن تقول "زيدًا
أكرمت" إلا بعد أن جاز "أكرمت زيدًا" فلو لم يجز تقديم "مصروف" الذي هو
خبر ليس على ليس، وإلا لما جاز تقديم معموله عليها، والذي يدل على ذلك
أن الأصل في العمل للأفعال، وهي فعل، بدليل إلحاق الضمائر وتاء التأنيث
الساكنة بها، وهي تعمل في الأسماء المعرفة والنكرة والظاهرة والمضمرة
كالأفعال المتصرفة، فوجب أن يجوز تقديم معمولها عليها، وعلى هذا تخرج
"نعم، وبئس، وفعل التعجب وعسى" حيث لا يجوز تقديم معمولها عليها، أما
"نعم، وبئس" فإنهما لا يعملان في المعارف الأعلام، بخلاف "ليس"
فنقصَتَا عن رتبتها، وأما فعل التعجب فأجروه مجرى الأسماء لجواز تصغيره
فبعُد عن الأفعال، ومع هذا فلا يتصل به ضمير الفاعل، وإنما يضمر فيه،
ولا تلحقه أيضًا تاء التانيث، بخلاف "ليس" فنقص عن رتبتها، وأما "عسى"
وإن كانت تلحقها الضمائر وتاء التأنيث.
(1/131)
كليس، إلا أنها لا تعمل في جميع الأسماء،
ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون معمولها إلا "أنْ" مع الفعل نحو "عسى زيد
أن يقوم" ولو قلت"عسى زيد القيام" لم يجز؛ فأما قولهم في المثل "عسى
الغُوَيْرَ أَبْؤُسًا" فهو من الشاذ الذي لا يقاس عليه، فلما كان
مفعولها مختصًّا بخلاف "ليس" نقصت عن رتبة ليس؛ فجاز أن يمنع من تقديم
معمولها عليها، ولا يجوز أن تقاس "ليس" على ما في امتناع تقديم خبرها
عليها؛ لأن ليس تخالف ما، بدليل أنه يجوز تقديم خبر ليس على اسمها نحو
"ليس قائمًا زيد" ولا يجوز تقديم خبر ما على اسمها؛ فلا يقال: "ما
قائمًا زيد" وإذا جاز أن تخالف ليس "ما" في جواز تقديم خبرها على اسمها
جاز أن تخالفه في جواز تقديم خبرها عليها، وتلحق بأخواتها.
والصحيح عندي ما ذهب إليه الكوفيُّون.
وأما الجواب عن كلمات البصريين: أما قوله تعالى: {أَلا يَوْمَ
يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} [هود: 8] فلا حجة لهم فيه؛
لأنا لا نسلم أن {يَوْمَ} متعلق بمصروف، ولا أنه منصوب، وإنما هو مرفوع
بالابتداء، وإنما بني على الفتح لإضافته إلى الفعل، كما قرأ نافع
والأَعْرَج قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ
صِدْقُهُمْ} فإن {يَوْمَ} في موضع رفع، وبني على الفتح لإضافته إلى
الفعل، فكذلك ههنا. وإن سلمنا أنه منصوب إلا أنه منصوب بفعل مقدر دلّ
عليه قوله تعالى: {لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} [هود: 8] وتقديره:
يلازمهم يوم يأتيهم العذاب؛ لقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا
عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيقُولُنَّ مَا
يحْبِسُهُ} [هود: 8] .
وأما قولهم "إن الأصل في العمل للأفعال، وهي فعل يعمل في الأسماء
المعرفة والنكرة والمظهرة والمضمرة" قلنا: هذا يدل على جواز إعمالها؛
لأنها فعل، والأصل في الأفعال أن تعمل، ولا يدل على جواز تقديم
معمولها؛ لأن تقديم المعمول على الفعل يقتضي تصرف الفعل في نفسه، و
"ليس" فعل غير متصرف، فلا يجوز تقديم معموله عليه؛ فنحن عملنا بمقتضى
الدليلين: فأثبتنا لها أصل العمل لوجود أصل الفعلية، وسلبناها وصف
العلم لعدم وصف الفعلية وهو التصرف؛ فاعتبرنا الأصل بالأصل؛ والوصف
بالوصف. والذي يشهد لصحة ذلك الأفعال المتصرفة نحو ضرب وقتل وشتم،
فإنها لما كانت أفعالًا متصرفة أُثْبِتَ لها أصل العمل ووصفُهُ؛ فجاز
إعمالها، وجاز تقديم معمولها عليها نحو "عمرًا ضَرَبَ زيدٌ" وكذلك
سائرها، والأفعال غير المتصرفة نحو عسى ونعم وبئس وفعل التعجب خصوصًا
على مذهب البصريين؛ فإنها لما كانت أفعالًا غير متصرفة أثبت لها أصل
العمل فجاز إعمالها، وسلبت وصف العمل؛ فلم يجز تقديم معمولها عليها
فكذلك ههنا.
(1/132)
وأما قولهم: "إنه لا يجوز أن تقاس ليس على
ما" قلنا: قد بيَّنَّا وجه المناسبة بينهما واتفاقهما في المعنى؛ لأن
كل واحد منهما لنفي الحال كالآخر.
وقولهم "إن ليس تخالف ما؛ لأنه يجوز تقديم خبر ليس على اسمها، بخلاف
ما" قلنا: ليس من شرط القياس أن يكون المقيس مساويًا للمقيس عليه في
جميع أحكامه، بل لا بُدّ أن يكون بينهما مُغَاير في بعض أحكامه.
قولهم: "فإذا جاز أن تخالفها في تقديم خبرها على اسمها جاز أن تخالفها
في تقديم خبرها عليها" قلنا: هذا لا يلزم؛ لأن "ليس" أخذت شبها من كان؛
لأنها فعل كما أنها فعل، وشبها من ما لأنها تنفي الحال كما أنها تنفي
الحال، وكان يجوز تقديم خبرها عليها، وما لا يجوز تقديم خبرها على
اسمها، فلما أخذت شبهًا من كان وشبهًا من ما صار لها منزلة بين
المنزلتين، فجاز تقديم خبرها على اسمها؛ لأنها أقوى من ما؛ لأنها فعل
وما حرف، والفعل أقوى من الحرف، ولم يجز تقديم خبرها عليها؛ لأنها أضعف
من كان؛ لأنها لا تتصرف وكان تتصرف، وهذا في غاية الوضوح والتحقيق،
والله أعلم
(1/133)
|