الجنى الداني في حروف المعاني بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله بجميع محامده، على جميل عوائده، وصلاته وسلامه على سيدنا
محمد خاتم أنبيائه، ومبلغ أنبائه، وعلى آله الكرام، وأصحابه مصابيح
الظلام. وبعد: فإنه لما كانت مقاصد كلام العرب، على اختلاف صنوفه،
مبنياً أكثرها على معاني حروفه، صرفت الهمم إلى تحصيلها، ومعرفة جملتها
وتفصيلها. وهي مع قلتها، وتيسر الوقوف على جملتها، قد كثر دورها، وبعد
غورها، فعزت على الأذهان معانيها، وأبت الإذعان إلا لمن يعانيها.
وهذا كتاب، أرجو أن يكون نافعاً، ولمعاني الحروف جامعاً. جعلته لسؤال
بعض الإخوان جواباً، ولصدق رغبته ثواباً. ولما وفى لفظه بمعناه، ودنى
من متناوله جناه، سميته ب الجنى الداني في حروف المعاني. ويشتمل على
مقدمة وخمسة أبواب.
(1/19)
الفصل الأول
في حد الحرف
قال بعض النحويين: لا يحتاج في الحقيقة إلى حد الحرف، لأنه كلم محصورة.
وليس كما قال. بل هو مما لابد منه، ولا يستغنى عنه، ليرجع عند الإشكال
إليه، ويحكم عند الاختلاف بحرفية ما صدق الحد عليه.
وقد حد بحدود كثيرة. ومن أحسنها قول بعضهم: الحرف كلمة تدل على معنى،
في غيرها، فقط. فقوله كلمة جنس يشمل الاسم والفعل والحرف. وعلم من
تصدير الحد به أن ما ليس بكلمة فليس بحرف: كهمزتي النقل والوصل، وياء
التصغير. فهذه من حروف الهجاء، لا من حروف المعاني. فإنها ليست بكلمات
بل هي أبعاض كلمات. وهذا أولى من تصدير الحد ب ما، إبهامها.
واعترض بأن تصدير حد الحرف بالكلمة لا يصح، من جهة
(1/20)
أنه يخرج عنه، من الحروف، ما هو أكثر من
كلمة واحدة، نحو: إنما وكأنما. والجواب أنه ليس في الحروف ما هو أكثر
من كلمة واحدة. وأما نحو: إنما وكأنما، مما هو كلمتان، فهو حرفان، لا
حرف واحد، بخلاف نحو كأن مما صيره التركيب كلمة واحدة، فهو حرف واحد.
وقوله تدل على معنى في غيرها فصل، يخرج به الفعل، وأكثر الأسماء، لأن
الفعل لا يدل على معنى في غيره. وكذلك أكثر الأسماء.
وقوله فقط فصل ثان، يخرج به من الأسماء، ما يدل على معنى في غيره،
ومعنى في نفسه. فإن الأسماء قسمان: قسم يدل على معنى في نفسه، ولا يدل
على معنى في غيره، وهو الأكثر. وقسم يدل على معنيين: معنى في نفسه،
ومعنى في غيره: كأسماء الاستفهام، والشرط. فإن كل واحد منها يدل، بسبب
تضمنه معنى الحرف، على معنى في غيره، مع دلالته على المعنى الذي وضع
له. فإذا قلت مثلاً: من يقم أقم معه، فقد دلت من على شخص عاقل بالوضع،
ودلت مع ذلك على ارتباط جملة الجزاء بجملة الشرط، لتضمنها معنى إن
الشرطية. فلذلك زيد في الحد فقط، ليخرج به هذا القسم.
(1/21)
واعترض الفارسي قول من حد الحرف بأنه ما دل
على معنى في غيره بالحروف الزائدة، نحو ما في قولهم: إنك ما وخيراً،
لأنها لا تدل على معنى في غيرها. وأجيب بأن الحروف الزائدة تفيد فضل
تأكيد وبيان، للكثرة، بسبب تكثير اللفظ بها. وقوة اللفظ مؤذنة بقوة
المعنى، وهذا معنى لا يتحصل إلا مع كلام.
فإن قيل: ما معنى قولهم الحرف يدل على معنى في غيره فالجواب: معنى ذلك
أن دلالة الحرف على معناه الإفرادي متوقفة على ذكر متعلقه، بخلاف الاسم
والفعل. فإن دلالة كل منهما، على معناه الإفرادي، غير متوقفة على ذكر
متعلق؛ ألا ترى أنك إذا قلت الغلام فهم منه التعريف. ولو قلت أل مفردة
لم يفهم منه معنى. فإذا قرن بالاسم أفاد التعريف. وكذلك باء الجر فإنها
لا تدل على الإلصاق، حتى تضاف إلى الاسم الذي بعدها، لأنه يتحصل منها
مفردة. وكذلك القول في سائر الحروف.
(1/22)
وقال السيرافي: المراد من قولنا في الاسم
والفعل إنه يدل على معنى في نفسه أن تصور معناه في الذهن غير متوقف على
خارج عنه؛ ألا ترى أنك إذا قلت: ما الإنسان؟ فقيل لك: حي ناطق، وإذا
قلت: ما معنى ضرب؟ فقيل لك: ضرب في زمان ماض أدركت المعنيين باللفظ
المذكور في التفسير. وقولنا في الحرف يدل على معنى في غيره، نعني به أن
تصور معناه متوقف على خارج عنه: ألا ترى أنك إذا قلت: ما معنى من، فقيل
لك: التبعيض، وخليت وهذا، لم تفهم معنى من إلا بعد تقدم معرفتك بالجزء
والكل، لأن التبعيص أخذ جزء من كل.
وقد قيل غير ذلك، ممالا حاجة هنا إلى ذكره. والله الموفق.
الفصل الثاني
في تسميته حرفاً
اختلف النحويون في علة تسميته حرفاً.
فقيل: سمي بذلك، لأنه طرف في الكلام، وفضلة. والحرف، في اللغة، هو
الطرف. ومنه قولهم: حرف الجبل، أي: طرفه، وهو
(1/23)
أعلاه المحدد. فإن قيل: فإن الحرف قد يقع
حشواً، نحو: مررت بزيد، فليست الباء في هذا بطرف! فالجواب أن الحرف طرف
في المعنى، لأنه لا يكون عمدة، وإن كان متوسطا.
وقيل: لأنه يأتي على وجه واحد. والحرف، في اللغة، هو الوجه الواحد.
ومنه قوله تعالى " ومن الناس من يعبد الله على حرف " أي: على وجه واحد.
وهو أن يعبده على السراء دون الضراء، أي يؤمن بالله، ما دامت حاله
حسنة. فإن غيرها الله وامتحنه كفر به. وذلك لشكه وعدم طمأنينته. فإن
قيل: فإن الحرف الواحد قد يرد لمعان كثيرة! فالجواب أن الأصل في الحرف
أن يوضع لمعنى واحد، وقد يتوسع فيه، فيستعمل في غيره. قاله بعضهم.
وأجاب غيره بأن الاسم قد يدل، في حالة واحدة، على معنيين، مثل أن يكون
فاعلاً ومفعولاً، في وقت واحد. كقولك: رأيت ضارب زيد. ف ضارب زيد في
هذه الحالة فاعل ومفعول. والفعل أيضاً يدل على معنيين: الحدث والزمان.
والحرف إنما يدل، في حالة واحدة، على معنى واحد.
والظاهر أنه إنما سمي حرفاً، لأنه طرف في الكلام، كما تقدم. وأما قوله
تعالى: " ومن الناس من يعبد الله على حرف " فهو راجع
(1/24)
إلى هذا المعنى، لأن الشاك كأنه على طرف من
الاعتقاد، وناحية منه. وإلى ذلك ترجع معاني الحروف كلها. كقولهم للناقة
الضامرة الصلبة: حرف، تشبيهاً لها بحرف السيف. وقيل: هي الضخمة،
تشبيهاً لها بحرف الجبل. وكان الأصمعي يقول: الحرف: الناقة المهزولة.
الفصل الثالث
في جملة معانيه وأقسامه
ذكر بعض النحويين للحرف نحواًَ من خمسين معنى. وزاد غيره معاني أخر.
وسأذكر جميع ذلك، مبيناً في مواضعه، إن شاء الله تعالى. وهذه المعاني،
المشار إليها، يرجع غالبها إلى خمسة أقسام: معنى في الاسم خاصة،
كالتعريف. ومعنى في الفعل خاصة، كالتنفيس. ومعنى في الجملة، كالنفي
والتوكيد. وربط بين مفردين، كالعطف في نحو: جاء زيد وعمرو. وربط بين
جملتين، كالعطف في نحو: جاء زيد وذهب عمرو.
وإنما قلت يرجع غالبها لأن منها ما هو خارج عن هذه الأقسام، كالكف،
والتهيئة، والإنكار، والتذكار، وغير ذلك، مما سيأتي ذكره.
وأما أقسام الحرف فثلاثة: مختص بالاسم، ومختص بالفعل، ومشترك بين الاسم
والفعل.
(1/25)
فأما المختص بالاسم فلا يخلو من أن يتنزل
منه منزلة الجزء، أولا. فإن تنزل منه منزلة الجزء لم يعمل، كلام
التعريف. وإن لم يتنزل منزلة الجزء فحقه أن يعمل، لأن ما لازم شيئاً،
ولم يكن كالجزء منه، أثر فيه غالباً. وإذا عمل فأصله أن يعمل الجر،
لأنه العمل المخصوص بالاسم. ولا يعمل الرفع ولا النصب، إلا لشبهه بما
يعملهما. ك إن وأخواتها، فإنها نصيب الاسم ورفعت الخبر، لشبهها بالفعل،
في أوجه مذكورة في موضعها. ولولا شبه الفعل لكان حقها أن تجر، لأنه
الأصل. وقد جروا ب لعل في لغة عقيل، منبهة على الأصل.
وأما المختص بالفعل فلا يخلو أيضاً من أن يتنزل منه منزلة الجزء أولا.
فإن تنزل منه منزلة الجزء لم يعمل، كحرف التنفيس، وإن لم يتنزل منه
منزلة الجزء فحقه أن يعمل. وإذا عمل فأصله أن يعمل الجزم، لأن الجزم في
الفعل نظير الجر في الاسم. ولا يعمل النصب إلا لشبهه بما يعمله، ك أن
المصدرية وأخواتها، فإنها لما شابهت نواصب الاسم نصبت. ولولا ذلك لكان
حقها أن تجزم. وقد حكي عن بعض العرب الجزم ب أن ولن. وسيأتي الكلام
عليه.
(1/26)
وأما المشترك فحقه ألا يعمل، لعدم اختصاصه
بأحدهما، وقد خالف هذا الأصل أحرف، منها ما الحجازية أعملها أهل الحجاز
عمل ليس، لشبهها بها، وأهملها بنو تميم على الأصل.
الفصل الرابع
في بيان عمله
قد علم، مما سبق، أن الحرف قسمان: عامل، وغير عامل. فالعامل هو ما أثر.
فيما دخل عليه رفعاً، أو نصباً، أو جراً، أو جزماً. وغير العامل
بخلافه، ويسمى المهمل.
ثم إن العامل قسمان: قسم يعمل عملاً واحداً، وقسم يعمل عملين.
فالأول إما ناصب فقط، كنواصب الفعل، وإلا في الاستثناء، وواو مع عند من
يراهما عاملين. وإما جار فقط، وهو حروف الجر. وإما جازم فقط، وهو حروف
الجزم.
وليس في الكلام حرف يعمل الرفع فقط، خلافاً للفراء في قوله: إن لولا
ترفع الاسم الذي يليها، في نحو: لولا زيد لأكرمتك.
ومذهب البصريين أن الاسم، بعدها، مرفوع بالابتداء.
(1/27)
والثاني قسم واحد، ينصب ويرفع، وهو إن
وأخواتها، وما الحجازية وأخواتها.
وزاد بعض المتأخرين قسماً آخر، يجر ويرفع. قال: وهو لعل خاصة، على لغة
بني عقيل. وليس كما ذكر، فإن لعل على هذه اللغة جارة فقط. ولرفع الخبر
بعدها وجه غير ذلك.
تنبيه قد اتضح، بما ذكرنا، أن الحرف يعمل أنواع الإعراب الأربعة. ولكن
عمله الجر والجزم بطريق الأصالة، وعمله الرفع والنصب لشبهه بما
يعملهما. والله أعلم.
الفصل الخامس
في عدة الحروف
ذكر بعض النحويين أن جملة حروف المعاني ثلاثة وسبعون حرفاً. وزاد غيره
على ذلك حروفاً أخر، مختلفاً في حرفية أكثرها. وذكر بعضهم نيفاً وتسعين
حرفاً. وقد وقفت على كلمات أخر مختلف
(1/28)
في حرفيتها، ترتقي بها عدة الحروف على
المائة. وهي منحصرة في خمسة أقسام: أحادي، وثنائي، وثلاثي، ورباعي،
وخماسي. فلذلك جعلت لها خمسة أبواب.
(1/29)
|