الجنى الداني في حروف المعاني

الباب الثالث
في الثلاثي
وهو ضربان: متفق عليه، ومختلف فيه. وجملة ذلك ستة وثلاثون:

أجل،
وإذن، وإذا، وألا، وإلى، وأما، وإن، وأن، وأنا، وأنت، وأنت وآي، وأيا، وبجل، وبلى، وبله، وثم، وجلل، وجير، وخلا، ورب، وسوف، وعدا، وعسى، وعلى، وكما، ولات وليت، وليس، ومنذ، ومتى، ونعم، ونحن، وهما، وهن، وهيا. وأنا أذكرها على هذا التريب، إن شاء الله تعالى.
أجل
حرف جواب مثل نعم. تكون لتصديق الخبر، ولتحقيق

(1/359)


الطلب. تقول لمن قال قام زيد: أجل. ولمن قال اضرب زيداً: أجل. قال الشاعر:
ولو كنت تعطي حين تسأل سامحت ... لك النفس، واحلولاك كل خليل
أجل، لا، ولكن أنت أشأم من مشى ... وأسأل من صماء، ذات صليل
وقال آخر:
وقلن: على الفردوس أول مشرب ... أجل جير، إن كانت أبيحت دعائره
قال صاحب رصف المباني: ولا تكون جواباً للنفي، ولا للنهي. وقال غيره: أجل لتصديق الخبر، ماضياً كان أو غيره، موجباً

(1/360)


أو غيره، ولا تجيء جواباً للإستفهام. قال بعضهم: وتختص بالخبر. وعن الأخفش أنها تكون في الخبر والاستفهام، إلا أنها في الخبر أحسن من نعم، ونعم في الاستفهام أحسن منها. فإذا قال: أنت سوف تذهب. قلت: أجل. وكان أحسن من نعم. وإذا قال: أتذهب؟ قلت: نعم. وكان أحسن من أجل.
إذن
حرف ينصب الفعل المضارع، بثلاثة شروط: الأول: أن يكون الفعل مستقبلاً. فإن كان حالاً رفع، كقولك لمن يحدثك: إذا أظنك صادقاً.
الثاني: أن تكون مصدرة. فإن تأخرت ألغيت حتماً، نحو: أكرمك إذاً. وغن توسطت، وافتقر ما قبلها لما بعدها مثل أن تتوسط بين المبتدأ وخبره، وبين الشرط وجزائه، وبين القسم وجوابه - وجب إلغاؤها، أيضاً كالمتأخرة.
قال ابن مالك: وشذ النصب بإذن بين ذي خبر وخبره،

(1/361)


في قول الراجز:
لا تتركني، فيهم شطيرا ... إني إذن أهلك، أو أطيرا
وأجاز ذلك بعض الكوفيين. وتأوله البصريون على حذف الخبر، والتقدير: إني لا أقدر على ذلك. ثم استأنف بإذن، فنصب. وإن تقدمها حرف عطف نفيها وجهان: الإلغاء، والإعمال. والإلغاء أجود، وبه قرأ السبعة " وإذا لا يلبثون ". وفي بعض الشواذ: " وإذن لا يلبثوا " على الإعمال.
الثالث: ألا يفصل، بينهما وبين الفعل، بغير القسم. فإن فصل بينهما بغيره ألغيت، نحو: إذاً زيد يكرمك. وإن فصل بالقسم لم يعتبر، نحو: إذن، والله، أكرمك.
وأجاز ابن عصفور الفصل بالظرف، نحو: إذن غداً أكرمك. وأجاز ابن بابشاذ الفصل بالنداء والدعاء، نحو: إذن، يا زيد، أحسن

(1/362)


إليك، وإذن - يغفر الله لك - يدخلك الجنة. ولم يسمع من ذلك، فالصحيح منعه.
وأجاز الكسائي، وهشام، الفصل بمعمول الفعل. وفي الفعل، حينئذ، وجهان. والاختيار عند الكسائي النصب، وعند هشام الرفع.
وبعض العرب يلغني إذن مع استيفاء الشروط، وهي لغية نادرة، حكاها عيسى، وسيبويه. ولا يقبل قول من أنكرها.
ويتعلق بإذن مسائل.
الأولى: مذهب الجمهور أنها حرف، كما تقدم. وذهب بعض الكوفيين إلى أنها اسم، وأصلها إذا. والأصل أن تقول: إذا جئتني أكرمتك. فحذف ما يضاف إليه، وعوض منه التنوين.
ثم اختلف القائلون بحرفيتها. فقال الأكثرون: إنها بسيطة. وذهب الخليل، في أحد أقواله، إلى أنها مركبة من إذ وأن. واختلف القائلون بأنها بسيطة. فذهب الأكثرون إلى أنها ناصبة بنفسها. وذهب الخليل، فيما روى عنه أبو عبيدة، إلى أنها ليست ناصبة

(1/363)


بنفسها، وأن بعدها مقدرة. وإليه ذهب الزجاج، والفارسي. والصحيح أنها ناصبة بنفسها.
الثانية: قال سيبويه في إذن: معناها الجواب والجزاء. فحمله قوم، منهم الشلوبين، على ظاهره وقال: إنها للجواب والجزاء، في كل موضع. وتكلف تخريج ما خفي فيه ذلك. وحمله الفارسي على أنها قد ترد لهما، وهو الأكثر، وقد تكون للجواب وحده، نحو أن يقول القائل أحبك: فتقول: إذاً أطنك صادقاً. فلا يتصور هنا الجزاء.
وقال بعض المتأخرين: إذن، وإن دلت على أن ما بعدها متسبب عما قبلها، على وجهين: أحدهما: أن تدل على إنشاء الارتباط والشرط، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها، في ثاني حال. فإذا قال: أزورك، فقلت: إذن أزوك، فإنما أردت أن تجهل فعله شرطاً للفعل. وإنشاء السببية، في ثاني حال، من ضرورته أنها تكون في الجواب، وبالفعلية، وفي زمان مستقبل. والوجه الثاني: أن تكون

(1/364)


مؤكدة جواب، ارتبط بمتقدم، أو منبهة على سبب، حصل في الحال. نحو: إن أتيتني إذاً آتك، ووالله إذاً فهم الربط. وإذا كان بهذا المعنى ففي دخولها على الجملة الصريحة، نحو: إن يقم زيد إد عمرو قائم، نظر. قال: والظاهر الجواز.
الثالثة: إذا وقع بعد إذاً الماضي، مصحوباً باللام، كقوله تعالى " إذاً لأذقناك "، فالظاهر أن اللام جواب قسم مقدر، قبل إذا وقال الفراء: لو مقدرة قبل إذاً، والتقدير: لو ركنت لأذقناك. وقدز، في كل موضه، ما يليق به.
الرابعة: اختلف النحويون في الوقف على إذن. فذهب الجمهور إلى أنها يوقف عليها بالألف، لشبهها بالمنون المنصوب. وذهب بعضهم إلى أنها يوقف عليها بالنون، لأنها بمنزلة أن ولن، ونقل عن المازني والمبرد.

(1/365)


الخامسة: اختلف النحويون أيضاً، في رسمها، على ثلاثة مذاهب: أحدها: أنها تكتب بالألف. قيل: وهو الأكثر، وكذلك رسمت في المصحف. ونسب هذا القول إلى المازني، وفيه نظر، لأنه إذا كان يرى الوقف عليها بالنون، كما نقل عنه، فلا ينبغي أن يكتبها بالألف. والثاني: أنها تكتب بالنون. قيل: وإليه ذهب المبرد والأكثرون. وعن المبرد: أشتهى أن أكوي يد من يكتب إذن بالألف، لأنها مثل أن ولن ولا يدخل التنوين في الحروف والثالث: التفصيل، فإن ألغيت كتبت بالألف، لضعفها، وإن عملت كتبت بالنون. وقال صاحب رصف المباني: والذي عندي فيها الاختيار أن ينظر، فإن وصلت في الكلام كتبت بالنون، علمت أو لم تعمل، كما يفعل بأمثالها من الحروف. وإذا وقف عليها كتبت بالألف، لأنها إذ ذاك مشبهة بالأسماء المنقوصة، مثل: دماً، ويداً. والله أعلم.

(1/366)


لفظ مشترك؛ يكون اسماً وحرفاً.
فإذا كانت اسماً فلها أقسام: الأول: أن تكون ظرفاً لما يستقبل من الزمان، متضمنة معنى الشرط. ولذلك تجاب بما تجاب به أدوات الشرط، نحو: إذا جاء زيد فقم إليه. وكثر مجيء لماضي بعدها، مراداً به الاستقبال.
ومع تضمنها معنى الشرط لم يجزم بها، إلا في الشعر، كقول الشاعر:
وإذا تصبك خصاصة فارج الغنى ... وإلى الذي يعطي الرغائب، فارغب
وإنما لم يجزم بها، لمخالفتها إن الشرطية. وذلك لأن إذا لما تيقن وجوده أو رجح، بخلاف إن فإنها للمشكوك فيه، وقد تدخل على المتيقن وجوده إذا أبهم زمانه، كقوله تعالى " أفإن

(1/367)


مت فهم الخالدون ". وقد تدخل على المستحيل، كقوله تعالى " قل: إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ". وأجاز الكوفيون الجزم بإذا مطلقاً.
ومذهب سيبويه أن إذا لا يليها إلا فعل ظاهر، أو مقدر. فالظاهر نحو " إذا جاء نصر الله والفتح ". والمقدر نحو " إذا السماء انشقت ". ولا يجيز غير ذلك. هذا هو المشهور، في النقل عن سيبويه. ونقل السهيلي أن سيبويه يجيز الابتداء بعد إذا الشرطية، وأدوات الشرط، إذا كان الخبر فعلاً. وأجاز الأخفش وقوع المبتدأ بعد إذا. قال ابن مالك: وبقوله أقول، لأن طلب إذا للفعل ليس كطلب إن. ومن ذلك قول الشاعر:
إذا باهلي تحته حنظلية ... له ولد، منها، فذاك المذرع

(1/368)


وأول بعضهم البيت على أن التقدير: استقرت تحته حنظلية. فحنظلية: فاعل وباهلي: مرفوع بفعل يفسره العامل في تحته.
ومذهب الجمهور أن إذا مضافة للجملة التي بعدها، والعامل فيها الجواب. وذهب بعض النحويين إلى أنها ليست مضافة إلى الجملة، بل هي معمولة للفعل الذي بعدها، لا لفعل الجواب.
قال الشيخ أبو حيان: ومذهب الجمهور فاسد، من وجوه: أحدها: أن إذا الفجائية قد تقع جواباً إذا الشرطية، وما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها. والثاني: اقتران جوابها بالفاء، وما بعد فاء الجزاء لا يعمل فيما قبلها. والثالث: أن جوابها جاء منفياً بما، نحو " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم "، وما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها. والرابع: اختلاف وقتي الشرط والجواب، في بعض المواضع، نحو: إذا جئتني غداً أجيئك بعد غد.
قلت: والجواب عن هذه الوجوه أن الجمهور إنما يقولون: إن العامل فيها جوابها، إذا كان صالحاً للعمل. فإن منع من عمله فيها مانع كإذا الفجائية، وإن، ونحوهما، فالعامل فيها حينئذ

(1/369)


مقدر، يدل عليه الجواب هذا حاصل كلامهم. وصرح أبو البقاء، في إعرابه بأن الفاء الداخلة في جواب إذا لا تمنع من عمل ما بعدها في إذا. وذكر الحوفي، والزمخشري، أن العامل في " إذا جاء نصر الله ": فسبح. وقد بسطت الكلام، على ذلك، في غير هذا الكتاب.
الثاني: أن تكون ظرفاً لما يستقبل من الزمان، مجردة من معنى الشرط. نحو قوله تعالى " والليل إذا يغشى "، " والنجم إذا هوى ". والماضي بعدها في معنى المستقبل، كما كان بعد المتضمنة معنى الشرط. وقال الفراء: لا يكون بعدها الماضي إلا إذا كان فيها معنى الشرط والإبهام. ومنه قوله تعالى " وقالوا لإخوانهم، إذا

(1/370)


ضربوا في الأرض "، كأنه قال: كلما ضربوا، أي: لا تكونوا كهؤلاء، إذا ضرب إخوانهم في الأرض.
الثالث: أن تكون ظرفاً لما مضى من الزمان، واقعة موقع إذ، كقوله تعالى " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت: لا أجد "، وقوله " وإذا تجارة، أو لهواً، انفضوا إليها ". فإذا، في هذا ونحوه، بمعنى إذا. هذا مذهب بعض النحويين، وبه قال ابن مالك. قال في التسهيل: وربما وقعت موقع إذ وإذا موقعها. والذي صححه المغاربة أن إذا لا تقع موقع إذ، ولا إذ موقعها. وتأولوا ما أوهم ذلك.
الرابع: أن تخرج عن الظرفية، فتكون اسماً، مجرورة بحتى كقوله تعالى " حتى إذا جاؤوها ". وهو في القرآن كثير. فإذا، في ذلك، فيها وجهان: أحدهما أن تكون مجرورة بحتى،

(1/371)


واختاره ابن مالك. والثاني: أن تكون حتى ابتدائية، وإذا في موضع نصب على ما استقر لها. وبه جزم أبو البقاء. وجوز الزمخشري الوجهين. قلت: وأشار الفارسي في التذكرة إلى جواز الوجهين. وتقدير الغاية على الأول: " وسبق الذين كفروا إلى جهنم "، إلى وقت مجيئهم لها. وعلى هذا، فلا جواب لها. وعلى الثاني، تكون الغاية ما ينسبك من الجواب مرتباً على الشرط. والتقدير المعنوي: إلى تفتح أبوابها وقت مجيئهم، فينقطع السوق ويؤيد أنها بعد حتى شرطية، في موضع نصب، اتفاق النحويين على طلب جوابها، في قوله تعالى " حتى إذا جاؤوها وفتحت "، فقيل: الواو زائدة. وقيل: الجواب محذوف.
وذهب ابن جني إلى أن إذا قد تخرج عن الظرفية، وتكون مبتدأة، كقوله تعالى " إذا وقعت الواقعة ". فإذا مبتدأ، و " إذا رجت " خبره، في قراءة من نصب " خافضة

(1/372)


رافعة ". قال ابن مالك: وهو صحيح. زاد أنها تكون مفعولاً به، كقوله عليه السلام، لعائشة رضي الله عنها " إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبي ". والظاهر أنها لا تكون مبتدأة، ولا مفعولاً، وأنها لا تخرج عن الظرفية، وما استدل به محتمل للتأويل.
وأما إذا الحرفية فقسم واحد، وهي الفجائية. والفرق بينها وبني إذا الشرطية من خمسة أوجه: الأول: أن إذا الشرطية لا يليها إلا جملة فعلية، وإذا الفجائية لا يليها إلى جملة اسمية. والثاني: أن إذا الشطرية تحتاج إلى جواب، وإذا الفجائية لا جواب هلا. والثالث: أن إذا الشطرية للإستقبال، وإذا الفجائية للحال. قال سيبويه: وتكون للشيء توافقه في حال أنت فيها. يعني الفجائية. وقال الفراء: وقد يتراخى، كقوله تعالى " ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ". والرابع: أن الجملة، بعد إذا الشرطية، في موضع خفض بالإضافة، والجملة بعد إذا الفجائية

(1/373)


لا موضع لها. والخامس: أن إذا الشرطية تقع صدر الكلام، وإذا الفجائية لا تقع صدراً. وقد جمعت هذه الفروق، في هذه الأبيات:
الفرق بين إذا لشرط، والتي ... لفجاءة من أوجه، لا تجهل
طلب التي للشرط فعلاً بعدها ... وجوابها، وأتت لما يستقبل
وتضاف للجمل التي من بعدها ... وتكون في صدر المقالة، أول
واختلف النحويون في إذا الفجائية، على ثلاثة أقوال: الأول: أنها ظرف زمان. وهو مذهب الزجاج، والرياشي، واختاره ابن طاهر، وابن خروف، ونسب إلى المبرد. قيل: وهو ظاهر كلام سيبويه.
والثاني: أنها ظرف مكان. وهو مذهب المبرد، والفارسي، وابن جي، ونسب إلى سيبويه. واستدل القائلون، بأنها ظرف مكان،

(1/374)


بوقوعها خبراً عن الجثة، في نحو: خرجت فإذا زيد. وأجاب الأولون، بأنه على حذف مضاف، أي: حضور زيد.
والثالث: أنها حرف. وهو مذهب الكوفيين، وحكي عن الأخفش. واختاره الشلوبين، في أحد قوليه. وإليه ذهب ابن مالك، واستدل على صحته بثمانية أوجه ذكرتها والإعتراض على بعضها في غير هذا الكتاب.
وتقع إذا الفجائية في مواضع.
منها نحو قولهم: خرجت فإذا الأسد. وفي هذه الفاء، الداخلة عليها، أقول تقدمت في بابها.
ومنها جواب الشرط، بأربعة شروط: أولها أن يكون الجواب جملة اسمية. وثانيها أن تكون غير طلبية، احترازاً من نحو: إن عصى زيد فويل له. فهذا تلزمه الفاء. وثالثها: ألا تدخل عليها أداة نفي. ورابعها ألا يدخل عليها إن. مثال ذلك " وإن

(1/375)


تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ". فإذا، في ذلك، نائبة مناب الفاء، في ربط الجواب بالشرط وليست الفاء مقدرة قبلها، خلافاً لزاعمه. إذا لو كانت مقدرة لم يمتنع التصريح بها.
ومنها بعد بينا وبينما كقول الحرفة:
فبينا نسوس الناس، والأمر أمرنا ... إذا نحن، فيهم، سوقة، نتنصف
وقول الآخر:
بينما المرء في فنون الأماني ... فإذا رائد المنون موافي
وقال الأصمعي: إذ وإذا في جواب بينا وبينما لم يأت عن فصيح. والصحيح أنه عربي، ولكن تركها أفصح.

(1/376)


وقد جاءت إذا الفجائية في مواضع أخر. فقد جاءت جواب إذا الشرطية، كقوله تعالى " فإذا أصاب به من يشاء، من عباده، إذا هم يستبشرون ". وقد جاءت بعد لما، كقوله تعالى " فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون ". وهو دليل على حرفية لما. إذ لو كانت ظرفاً لكان جوابها عاملاً فيها، وإذا الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها.
فإن قلت: ما العامل في إذا الفجائية، على القول باسميتها؟ قلت: خبر المبتدأ الواقع بعدها، نحو: خرجت فإذا زيد قائم. فقائم ناصب لإذا. والتقدير: ففي المكان الذي خرجت فيه، أو في الزمان الذي خرجت فيه، زيد قائم. وإن لم يذكر بعدها خبر، نحو: خرجت فإذا زيد، أو نصب على الحال، نحو: خرجت فإذا زيد قائماً، كانت إذا خبر المبتدأ. فإذا كان جئة، وقلنا إنها ظرف زمان، كان الكلام على حذف مضاف، أي ففي الزمان حضور زيد.
فإن قلت: ما تقرر، من أن العامل فيها خبر ما بعدها،

(1/377)


يشكل بوقوع إن المكسورة بعدها، في قوله: إذا إنه عبد القفا، واللهازم
على رواية من كسرها. ووجه الإشكال أن إن لا يعمل ما بعدها فيما قبلها! قلت: هذا من أحسن أدلة القائلين بحرفيتها. وقد أجاب عنه بعض القائلين، باسميتها، بأن في الكلام حذف. فإذا قلت: خرجت فإذا إن زيداً منطلق فالتقدير فإذا انطلاق زيد، إنه منطلق. فتكون إذا خبر مبتدأ محذوف. والعامل فيها الكون المقدر والجملة المبدوءة بإن دليل على المحذوف.

تنبيه
ذكر الزمخشري في الكشاف أن التحقيق في إذا الفجائية

(1/378)


أنها بمعنى الوقت، وأنها طالبة ناصباً لها، وجملة تضاف إليها، خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً، وهو فعل المفاجأة، والجملة ابتدائية لا غير. وذكر أن التقدير في قوله تعالى " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه، من سحرهم، أنها تسعى ": ففاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيتهم. وهذا تمثيل، والمعنى: على مفاجأته حبالهم وعصيتهم مخيلة إليه السعي. وقال في قوله تعالى " ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ": ثم فاجأتم وقت كونكم بشراً منتشرين. وقال في قوله تعالى " فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون ": فإن قلت: كيف جاز أن تجاب لما بإذا المفاجأة؟ قلت: لأن فعل المفاجأة معها مقدر، وهو عامل النصب في محلها. كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجؤوا وقت ضحكهم.
قال الشيخ أبو حيان: ولا نعلم نحوياً، ذهب إلى ما ذهب إليه

(1/379)


هذا الرجل، من أن إذا الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر، تقديره: فاجأ. بل هي منصوبة بالخبر، أو خبر على ما تقدم تقديره، وليست مضافة إلى الجملة، كما سبق. ثم إن المفاجأة التي ادعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من الكلام، السابق. بل المعنى يدل على أن المفاجأة تكون من الكلام الذي فيه إذا. تقول: خرجت فإذا الأسد. فالمعنى: ففاجأني الأسد. وليس المعنى: ففاجأت الأسد.
قلت: وقد قدر أبو البقاء العامل في إذا الفجائية فعلاً، في مواضع. منها قوله تعالى " فإذا حبالهم ". قال: التقدير: فألقوا فإذا. وإذا في هذا ظرف مكان، والعامل فيه ألقوا. ورد بأن الفاء تمنع من عمل ما قبلها فيما بعدها.
واعلم أنه قد بقي، م أقسام إذا، قسم آخر، وهو إذا الزائدة. وهذا قال به أبو عبيدة بعد بينا وبينما. وهو ضعيف. والله أعلم.

(1/380)


ألا
حرف، يرد لثلاثة معان: الأول: استفتاح الكلام وتنبيه المخاطب. وهي تدخل على الجملة الأسمية، نحو " ألا إن أو لياء الله لا خوف عليهم " والفعلية نحو " ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم ". وعلامتها صحة الكلام بدونها. وقيل: معناها: حقاً. وجوز هذا القائل أن تفتح أن بعدها، كما تفتح بعد حقاً. وهذا في غاية البعد.
واختلف في ألا الاستفتاحية: هي هي مركبة أو بسيطة؟ فقيل: مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية. وإليه ذهب الزمخشري. وقيل: هي بسيطة. وإليه ذهب ابن مالك. ورد الشيخ أبو حيان دعوى التركيب، بأن الأصل عدمه، وبأنها قد وقعت

(1/381)


قبل إن ورب وليت والنداء، ولا يصلح النفي قبل شيء من ذلك.
الثاني: العرض. وهذه مختصة بالأفعال، نحو: ألا تنزل عندنا فتحدث. وإن وليها اسم فعلى إضمار فعل، كقول الشاعر:
ألا رجلاً، جزاه الله خيراً ... يدل على محصلة، تبيت
التقدير: ألا تروني رجلاً. هذا قول الخليل وقال يونس: إنه أراد: ألا رجل، فنون مضطراً.
وقد تذكر ألا هذه مع أحرف التحضيض، لكونها للطلب. ولكن التحضيض أشد توكيداً من العرض. والفرق بينهما أنك في العرض تعرض عليه الشيء، لينظر فيه. وفي التحضيض تقول: الأولى

(1/382)


لك أن تفعل، فلا يفوتنك. قيل: ولذلك يحسن قول العبد لسيده: ألا تعطيني. ويقبح: لولا تعطيني.
قال ابن الخباز: من الناس من جعله يغني: العرض - استفهاماً، ومنهم من جعله قسماً برأسه. وما ذكره ابن الحاجب، من دخول ألا التي للعرض على الاسم، وتركيبه معها، نحو: ألا نزول عندنا، غير ثابت. بل هي مختصة بالفعل، كما تقدم.
وألا هذه مركبة. قال ابن مالك: ألا التي للعرض مركبة من لا النافية والهمزة، بخلاف التي للإستفتاح فإنها غير مركبة. قال الشيخ أبو حيان: الذي أذهب إليه أنها بسيطة. قلت: وهو ظاهر كلام صاحب رصف المباني.
الثالث: الجواب. كقول القائل: ألم تقم. فتقول: ألا فتكون حرف جواب بمعنى: بلى. ذكره صاحب رصف المباني، وقال: إنه قليل شاذ.
واعلم أن ألا قد تكون كلمتين: إحداهما همزة الاستفهام، والأخرى لا النافية. فلا تعد حينئذ حرفاً واحداً، بل حرفين.

(1/383)


وذلك في ثلاثة مواضع: الأول: أن يقصد بها مجرد الاستفهام عن النفي، نحو: ألا رجل في الدار. ومنه قول الشاعر: ألا اصطبار لسلمى، أم لها جلد الثاني: أن يقصد بها التوبيخ، كقول حسان.
ألا طعان، ألا فرسان عادية الثالث: أن يقصد بها التمني، كقول الشاعر:
ألا عمر، ولى، مستطاع رجوعه ... فيرأب ما أثات يد الغفلات
فألا في المواضع الثلاثة مركبة، بغير إشكال، ولا باقية على

(1/384)


حكمها الذي لها، قبل دخول الهمزة. ولذلك بني الأسم معها. وذلك واضح. والله أعلم.

إلى
حرف جر، يرد لمعان ثمانية: الأول: انتهاء الغاية في الزمان، والمكان، وغيرهما. وهو أصل معانيها. وفي دخول ما بعدها في حكم ما قبلها أقول. ثالثها: إن كان من جنس الأول دخل، وإلا فلا. وهذا الخلاف عند عدم القرينة مع القرينة ألا يدخل، فيحمل عند عدمها على الأكثر، وأيضاً فإن الشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء، إلا أن يتجوز فيجعل القريب الانتهاء انتهاء. ولا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة. فهو إذاً غير داخل.
الثاني: أن تكون بمعنى مع، كقوله تعالى " من أنصاري

(1/385)


إلى الله ". قال الفراء: قال المفسرون: أي: مع الله، وهو وجه حسن. قال: وإنما تجعل إلى ك مع، إذا ضممت شيئاً إلى شيء، كقول العرب: الذود إلى الذود إبل. قال: فإن لم يكن ضم لم تكن إلى كمع. فلا يقال في مع فلان مال كثير: إلى فلان مال كثير. انتهى.
وكون إلى بمعنى مع حكاه ابن عصفور، عن الكوفيين. وحكاه ابن هشام عنهم، وعن كثير من البصريين. وتأويل بعضهم ما ورد، من ذلك، على تضمين العامل، وإبقاء إلى على أصلها والمعنى في قوله تعالى " من أنصاري إلى الله ": من يضيف نصرته إلى نصرة الله. وإلى في هذا أبلغ من مع، لأنك لو قلت: من ينصرني مع فلان، لم يدل على أن فلاناً وحده ينصرك، ولا بد، بخلاف إلى، فإن نصرة ما دخلت عليه محققة واقعة، مجزوم بها. إذ المعنى على التضمين: من يضيف نصرته إلى نصرة فلان.
الثالث: التبيين. قال ابن مالك: هي المتعلقة، في تعجب أو تفضيل،

(1/386)


بحب أو بغض، مبينة لفاعلية مصحوبها. كقوله تعالى " رب السجن أحب إلي ".
الرابع: موافقة اللام. مثله ابن مالك بقوله " والأمر إليك "، لأن اللام في هذا هي الأصل، وبقوله تعالى " ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ". وقال بعضهم إلى في قوله تعالى " والأمر إليك " لانتهاء الغاية، على أصلها، والمعنى: والأمر منته إليك.
الخامس: موافقة في. ذكره القتبي، وابن مالك. كقول النابغة:
فلا تتركني، بالوعيد، كأنني ... إلى الناس، مطلي به القار، أجرب
أي: في الناس. قال ابن مالك: ويمكن أن يكون من هذا قوله تعالى

(1/387)


" ليجمعنكم إلى يوم القيامة ".
ورد ابن عصفور كون إلى بمعنى في، بأنها لو كانت بمعنى في لساغ أن يقال: زيد إلى الكوفة، أي: في الكوفة. فلما لم تقله العرب وجب أن يتأول ما أوهم ذلك. وتأول البيت على أن قوله مطلي ضمن معنى مبغض. وأوله غيره على تقدير: كأنني مضافاً إلى الناس. فإلى تتعلق بمحذوف، دل عليه الكلام.
واستدل بعضهم، على ذلك بقوله تعالى " فقل: هل لك إلى أن تزكى ". وتؤول على أن المعنى: أدعوك إلى أن تزكى.
السادس: موافقة من، كقول ابن أحمر:
تقول، وقد عاليت بالكور، فوقها ... أيسقى، فلا يروى إلى، ابن أحمرا؟

(1/388)


أي: مني. هذا قول الكوفيين والقتب، وتبعهم ابن مالك. وخرج على التضمين، أي: فلا يأتي إلي الرواء.
السابع: موافقة عند، كقول أبي كبير الهذلي:
أم لا سبيل إلى الشباب، وذكره ... أشهى إلى من الرحيق، السلسل
أي عندي.
واعلم أن أكثر البصريين لم يثبتوا لها غير معنى انتهاء الغاية. وجميع هذه الشواهد عندهم متأول.
الثامن: أن تكون زائدة. وهذا لا يقول به الجمهور، وإنما قال به الفراء، واستدل بقراءة من قرأ " فاجعل أفئدة، من الناس، تهوى إليهم " بفتح الواو.
وخرجت هذه القراءة على تضمين تهوى معنى: تميل. وقال

(1/389)


ابن مالك: وأولى من الحكم بزيادتها أن يكون الأصل تهوي بكسر الواو، فجعل موضع الكسرة فتحة، كما يقال في رضي: رضى، وفي ناصية: ناصاة. وهي لغة طائية. واعترض بأن طيئاً لا يفعلون ذلك في كل موطن، بل في مواضع مخصوصة، مذكورة في التصريف. والله أعلم.

أما
حرف، له ثلاثة أقسام: الأول: أن يكون حرف استفتاح، مثل ألا. وكثر قبل القسم، نحو: أما والله لقد كان كذا وكذا. كما كثر ألا قبل النداء، نحو: ألا يا زيد. وقد تبدل همزة أما هاء، أو عيناً، فيقال: هما والله، وعما والله وقد تحذف ألفها، في الأحوال الثلاثة، فيقال: أم والله، وهم والله، وعم والله.
الثاني أن تكون بمعنى حقاً روى سيبويه في أما

إنك ذاهب الكسر على أنها حرف استفتاح كألا والفتح على

(1/390)


جعل أما بمعنى حقاً، فتفتح بعدها، كما تفتح بعد حقاً، لأنها مؤولة بمصدر مبتدأ، وحقاً مصدر واقع ظرفاً مخبراً به ومنه: أحقاً أن جيرتنا استقلوا تقديره، عند سيبويه: أفي حق. فأما كذلك. شرح بعضهم كلام سيبويه، بأنها إذا فتحت فالهمزة للإستفهام، وما بمنزلة شيء: ذلك الشيء حق. فكأنك قلت: أحقاً أنك ذاهب. وانتصابه على الظرف.
قلت: وعلى هذا فأما كلمتان: حرف وهو الهمزة، واسم وهو ما. وعلى الأول فهو كلمة واحدة. إلا أن في عدها من الحروف نظراً، لأن التقدير السابق يأباه. وفي كلام ابن خروف

(1/391)


تصريح بحرفيتها. فإنه جعل أما أنك ذاهب بفتح الهمزة من تركيب حرف مع اسم، نحو يا زيد على مذهب أبي علي.
الثالث: أن تكون للعرض، كأحد معاني ألا المتقدمة الذكر. ذكر هذا القسم صاحب رصف المباني. ومثله بقوله: أما تقوم، وأما تقعد. والمعنى أنك تعرض عليه فعل القيام والقعود، لترى هل يفعلهما، أو لا. قال: فلا يكون بعدها إلا الفعل، كألا المذكورة، فإن أتى بعدها الأسم فعلى تقدير الفعل. فتقول: أما زيداً، أما عمراً، والمعنى: أما تبصر زيداً. أو نحو ذلك، من تقدير الفعل الذي تدل عليه قرينة الكلام. ونص على أن أما التي للعرض بسيطة، كأما التي للإستفتاح.
قلت: وكون أما حرف عرض لم أره في كلام غيره. والظاهر أن أما، في هذه المثل التي مثل بها، مركبة من الهمزة وما النافية. فهي كلمتان. وقد ذكر هو وغيره أن أنا قد تكون همزة استفهام، داخلة على حرف النفي. فيكون المعنى، على التقدير، كما في نحو ألم.

(1/392)


وقد ذكر ابن السيد، في إصلاح الخلل، أن ما قد تكون محذوفة من أما. وأنشد قول الشاعر:
ما ترى الدهر قد أباد معداً ... واباد السراة، من قحطان
أراد أما فحذف الهمزة. والله أعلم.
إن
حرف، له قسمان: الأول: أن يكون حرف توكيد، ينصب الأسم ويرفع الخبر. نحو: إن زيداً ذاهب. خلافاً للكوفيين، في قولهم: إنها لم تعمل في الخبر شيئاً، بل هو باق على رفعه قبل دخولها.
وأجاز بعض الكوفيين نصب الإسم والخبر معاً، بإن

(1/393)


وأخواتها. وأجازه الفراء في ليت خاصة. ونقل ابن أصبغ عنه أنه أجاز في لعل أيضاً. قال ابن عصفور: وممن ذهب إلى جواز ذلك، في إن وأخواتها، ابن سلام في طبقات الشعراء. وزعم أنها لغة رؤية وقومه. وقال ابن السيد: نصب خبر إن وأخواتها لغة قوم من العرب. وإلى ذلك ذهب ابن الطراوة. والجمهور على أن ذلك لا يجوز. ومن شواهد نصب خبر إن قول عمر بن أبي ربيعة:
إذا اسود جنح الليل فلتأت، ولتكن ... خطاك خفافاً، إن حراسنا أسدا
وأوله المانعون على أنه حال، والخبر محذوف، أي: تلقاهم أسداً. أو خبر كان محذوفة، أي: كانوا أسداً.
ومن أحكام إن أنها قد تخفف، كما تقدم في باب الثنائي، خلافاً للكوفيين. فإن المخففة عندهم نافية، وهي حرف ثنائي

(1/394)


الوضع، واللام بعدها بمعنى إلا. وإن المشددة لا تخفف عندهم. ويبطل قولهم أن من العرب من يعملها، بعد التخفيف، عملها وهي مشددة. فيقول: إن عمراً لمنطلق. حكاه سيبويه.
ومن أحكامها أنها قد تتصل بها ما الزائدة، فيبطل عملها، ويليها الجملتان: الأسمية والفعلية، فتكون ما كافة لها عن العمل، ومهيئة لدخولها على الأفعال. والجمهور على أن إعمالها، عند اتصال ما، غير مسموع. ثم اختلفوا في جوازه قياساً. وذهب قوم إلى منعه، وهو مذهب سيبويه، فإنه لا يجيز أن يعمل عنده، من هذه الأحرف، أعني إن وأخواتها، إذا لحقتها ما، إلا ليت وحدها وذكر ابن مالك أن الإعمال قد سمع في إنما وهو قليل. وذكر أن الكسائي، والأحفش، روياه عن العرب.

مسألة
اشتهر في كلام المتأخرين، من أهل النحو، أن إنما للحصر. قال الشيخ أبو حيان: والذي تقرر، في علم النحو، أن ما الداخلة

(1/395)


على إن وأخواتها كافة لها عن العمل، فإن فهم حصر فمن سياق الكلام، لا منها. ولو أفادت الحصر لأفادته أخواتها المكفوفة بما.
وقال ابن عطية: إنتما لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد، حيث وقع. ويصلح، مع ذلك، للحصر. فإذا دخل في قصة، وساعد معناها على الأنحصار، صح ذلك وترتب. كقوله تعالى " أنتما آلهكم إله واحد "، وغير ذلك من الأمثلة. وإذا كانت القصة لا تتأنى للإنحصار بقيت إنما للمبالغة فقط، كقوله عليه السلام إنما الربا في النسيئة.
واحتج من ذهب إلى أنها تفيد الحصر بوجهين: أحدهما لفظي، وهو أن العرب أجرت عليها حكم النفي وإلا ففصلت الضمير بعدها، كقول الفرزدق:

(1/396)


أنا الذائد، الحامي الذمار، وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا، أو مثلي
لما كان غرضه أن يحصر المدافع لا المدافع عنه فصل الضمير. ولو قال وإنما أدافع عن أحسابهم لأفهم غير المراد. فدل ذلك على أن العرب ضمنت إنما معنى ما وإلا.
والثاني معنوي، وهو وجه يسند إلى علي بن عيسى الربعي، وهو من أكابر نحاة بغداد، أنه لما كانت كلمة إن لتأكيد إثبات المسند للمسند إليه، ثم اتصلت بها ما الزائدة المؤكدة، ناسب أن تضمن معنى الحصر لأن الحصر ليس إلا تأكيد على تأكيد. فإن قولك: زيد جاء لا عمرو، لمن يردد المجيء الواقع بينهما، يفيد إثباته لزيد في الابتداء صريحاً، وفي الآخر ضمناً.
واستدل الإمام فخر الدين، على أنها للحصر، بأن إن للإثبات، وما للنفي، فإن لإثبات المذكور، وما لنفي ما عداه. ورد بأنه قول من لا وقوف له على علم النحو، وهو ظاهر الفساد، لوجوه

(1/397)


منها: أن فيه إخراج ما النافية عما تستحقه، من وقوعها صدراً. ومنها أن فيه الجمع بين حرف نفي وحرف إثبات، بلا فاصل. ومنها أنه لو كانت نافية لجاز أن تعمل، فيقال: إنما زيد قائماً. ذكر بعضهم هذه الأوجه. ولا يحتاج، في بيان فساد هذا القول، إلى ذلك. فإنه لا يخفى فساده.
قلت: ذكر القرافي في شرح المحصول أن أبا علي الفارسي نقل في مسائله الشيرازيات أن ما في إنما للنفي والله أعلم.
القسم الثاني: أن تكون حرف جواب، بمعنى نعم. ذكر ذلك سيبويه، والأخفش. وحمل المبرد، على ذلك، قراءة من قرأ " إن هذان لساحران ". وأنكر أبو عبيدة أن تكون إن بمعنى نعم. ومن شواهدها قول الراد، حين قال القائل: لعن الله

(1/398)


ناقة حملتني إليك، فقال: إن وراكبها، أي: نعم ولعن راكبها.
ويبطل كون إن في هذا الكلام هي المؤكدة، من وجهين: أحدهما عطف جملة الدعاء على جملة الخبر. والثاني أنه لم يوجد حذف اسم إن وخبرها في غير هذا الكلام.
قلت: وقد صحح بعض النحويين جواز عطف الطلب على الخبر، وقال: هو مذهب سيبويه.
وأما قول الشاعر:
ويقلن: شيب قد علا ... ك، وقد كبرت، فقلت: إنه
فيحتمل أن تكون إن فيه بمعنى نعم، كما قال الأخفش. ويحتمل أن تكون المؤكدة والهاء اسمها، والخبر محذوف، كما قال أبو عبيدة. وإذا جعلت بمعنى نعم فالهاء للسكت.

(1/399)


فائدة
ذكر بعض النحويين لإن في الكلام عشرة أنحاء: الأول: أن تكون حرف توكيد.
والثاني: أن تكون حرف جواب، بمعنى نعم. وقد تقدم الكلام على هذين.
والثالث: أن تكون أمراً للواحد المذكر، من الأنين. نحو: إن، بازيد.
والرابع: أن تكون فعلاً ماضياً، مبنياً لما لم يسم فاعله، من الأنين، على لغة رد، بالكسر. نحو: إن في الدار.
والخامس: أن تكون أمراً لجماعة الإناث، من الأين، وهو التعب. نحو: إن، يا نساء، أي: تعبن.
والسادس: أن تكون فعلاً ماضياً، خبراً عن جماعة الإناث، من ألأين أيضاً. نحو: النساء إن، أي: تعبن.

(1/400)


والسابع: أن تكون أمراً، من وأي بمعنى: وعد، للمؤنثة. كقول بعض المتأخرين:
إن هند، الجميلة، الحسناء ... وأي من أضمرت لخل، وفاء
فإن فعل أمر مؤكد بنون التوكيد الشديدة. وكان أصله قبل لحاق النون إي بياء المخاطبة، لأنه أمر للمؤنث. فلما لحقته النون حذفت الياء، لالتقاء الساكنين. وهند في البيت منادى، تقديره: يا هند. والجميلة الحسناء: نعت لهند على المحل، كقوله: يا عمر، الجوادا وأجاز بعضهم أن تكون الجميلة مفعولاً لفعل الأمر الذي هو إن. وقوله وأي مصدر منصوب بإن.

(1/401)


والثامن: أن تكون أمراً لجماعة الإناث، من: آن يئين، أي: قرب. فتقول: إن يا نساء، أي اقربن.
والتاسع: أن تكون ماضياً، خبراً عن الإناث، من آن أيضاً. نحو: النساء إن، أي: قربن.
والعاشر: أن تكون مركبة من إن النافية وأنا كقول العرب: إن قائم. يريدون: إن أنا قائم. فنقلوا حركة الهمزة إلى نون إن، وحذفوا الهمزة، وأدغموا. ونظيره قوله " لكنا هو الله ربي ". وسمع من بعضهم: إن قائماً، بالنصب، على إعمال إن عمل ما الحجازية. والله أعلم

أن المفتوحة الهمزة
لها قسمان: الأول: أن تكون حرف توكيد، تنصب الاسم، وترفع الخبر، مثل إن المكسورة التي تقدم ذكرها. وأن المفتوحة من الأحرف المصدريات. ونص النحويون على أنها تفيد التوكيد

(1/402)


كإن المكسورة. واستشكله بعضهم. قال: لأنك لو صحرت بالمصدر المنسبك منها لم يفد توكيداً. وليس هذا الإشكال بشيء.
واختلف في المفتوحة الهمزة، فقيل: هي فرع المكسورة. وهو مذهب سيبويه، والمبرد في المقتضب، وابن السراج في الأصول. ولذلك قال هؤلاء في إن وأخواتها: الأحرف الخمسة. ولم يعدوا أن المفتوحة، لأنها فرع. وهو مذهب الفراء وقيل: إن المفتوحة أصل للمكسورة وقيل: هما أصلان.
والأول هو الصحيح، ويدل على صحته أوجه: الأول: أن الكلام مع المكسورة جملة غير مؤولة بمفرد، بخلاف المفتوحة. والأصل أن يكون لمنطوق به جملة من كل وجه، أو مفرداً من كل وجه.
الثاني: أن المكسورة مستغنية بمعموليها عن زيادة، بخلاف المفتوحة.
الثالث: أن المفتوحة تصير مكسورة، بحذف ما تتعلق به.

(1/403)


كقولك في عرفت أنك بر: إنك بر. ولا تصير المكسورة مفتوحة، إلا بزيادة. والمرجوع إليه بحذف أصل.
الرابع: أن المكسورة تفيد معنى واحداً، وهو التوكيد. والمفتوحة تفيده، وتعلق ما بعدها بما قبلها. فكانت فرعاً.
الخامس: أن المكسورة أشبه بالفعل، لأنها عاملة غير معمولة، كما هو أصل الفعل.
السادس: أن المكسورة كلمة مستقلة، والمفتوحة كبعض اسم.
إذا تقرر هذا فاعلم أن أن لها أحوال: تارة يجب كسرها، وتارة يجب فتحها، وتارة يجوز الوجهان.
فيجب كسرها في كل موضع، يمتنع فيه تأويلها مع اسمها وخبرها بمصدر. وذلك في ثمانية مواضع: الأول: ابتداء الكلام حقيقة، نحو " إنا أعطيناك الكوثر "،

(1/404)


أو حكماً، نحو " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ".
الثاني: صلة الموصول، نحو " وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء ". فإن وما دخلت عليه صلة ما. فإن لم تكن صلة بل جزء صلة فتحت، نحو: جاء الذي في ظني أنه فاضل. وإذا وردت مفتوحة بعد الموصول جعلت الصلة محذوفة، وأن معمولة لذلك المحذوف، كقولهم: لا أكلمه ما أن في السماء نجماً، أي: ما ثبت أن.
الثالث: جواب القسم نحو " والعصر، إن الإنسان لفي خسر " فإن كان في جملتها اللام، كالآية، فلا خاف في وجوب كسرها. وإن لم يكن ففيه خلاف، سيأتي.
الرابع: إذا حكيت بالقول، نحو " قال الله: إني معكم ".

(1/405)


فلو وقعت بعد القول، غير محكية، فتحت، نحو: أتقول أنك فاضل. لأن القول، في هذا، عامل عمل الظن.
الخامس: أن تقع موقع الحال مصاحبة لواو الحال، نحو " وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون "، أو غير مصاحبة، نحو " إلا إنهم ليأكلون الطعام ".
السادس: أن تكون قبل لام معلقة، نحو " والله يعلم إنك لرسوله ". فهذه لولا اللام لفتحت.
السابع: أن تكون واقعة موقع خبر اسم عين، نحو: زيد إنه قائم. ومنه قوله تعالى " إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والصائبين، والنصارى، والمجوس، والذين أشركوا، إن الله يفصل بينهم ". وكذا الواقعة موقع المفعول الثاني في باب ظن، لأنه خبر في الأصل. كقول الشاعر:

(1/406)


منا الأناة، وبعض القوم يحسبنا ... إنا بطاء، وفي إبطائنا سرع
فإن قلت: فهل يجوز فتح إن إذا وقعت خبر اسم عين، وتجعل من باب الإخبار بالمعنى عن العين، مبالغة، فيقال: زيد أنه قائم، كما يقال: زيد قيام؟ قلت: الحرف المصدري أضعف من صريح المصدر، فلا يلزم أن يجوز فيه ما جاز في المصدر الصريح. وقد نص ابن مالك، على أن الحرف المصدري لا يؤكد به فعل، ولا يقع نعتاً، ولا حالاً.
الثامن: أن تقع بعد حيث نحو: من حيث إنه فاضل. قال بعض النحويين: وقد أولع عوام الفقهاء بفتح أن بعدها قلت: يلزم من أجاز إضافة حيث إلى المفرد، وهو الكسائي، أن يجيز فتح أن بعدها.
ويجب فتح: أن في كل موضع، يلزم فيه تأويلها، مع اسمها وخبرها، بمصدر. وذلك في ثمانية مواضع: الأول: أن تقع في موضع فاعل، نحو " أو لم يكفهم

(1/407)


أنا أنزلنا عليك الكتاب ".
الثاني: أن تقع في موضع نائبة، نحو " قل: أوحي إلي أنه استمع ".
الثالث: أن تقع في موضع مبتدأ، نحو: في ظني أنك فاضل. ويجب تقديم خبرها، لأن المفتوحة لا تقع في ابتداء الكلام، خلافاً لبعضهم، ما لم تكن بعد أما فيجوز التقديم والتأخير، نحو أما أنك فاضل ففي ظني.
الرابع: أن تقع اسم كان، نحو: كان، في ظني أنك فاضل.
الخامس: أن تقع اسم إن مفصولة بالخبر، نحو: إن عندي أنك فاضل. وكذا باقي أخواتها. وقد تتصل بليت سادة مسد اسمها وخبرها، عند سيبويه. وقال الأخفش: بل مسد الأسم فقط، والخبر محذوف. كقول الشاعر:
فيا ليت أن الظاعنين تلفتوا ... فيعلم ما بي، من جوى، وغرام
وأجاز الأخفش ذلك في لعل، قياساً على ليت. وعنه أنه

(1/408)


أجازه في لكن أيضاً.
وأجازه الفراء، وهشام، دخول إن المكسورة على أن المفتوحة، نحو: إن أنك قائم يعجبني. والصحيح المنع، وهو مذهب سيبويه.
السادس: أن تكون خبر اسم معنى، نحو: أمرك أنك ذاهب.
السابع: أن تقع في موضع منصوب، غير خبر، نحو قوله تعالى " ولا تخافون أنكم أشر كتم الله ". وإنما احترزت عن الخبر، والمراد به ثاني مفعولي ظن فإنه خبر في الأصل، لأنها يجب كسرها فيه، بعد اسم عين، كما تقدم.
الثامن: أن تقع في موضع مجرور، بحرف، نحو " ذلك بأن الله هو الحق ". وإما أن تقع في موضع مجرور بإضافة، نحو " إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ".

(1/409)


وهذه المواضع الثمانية ترجع إلى ثلاثة أشياء: أولها: أن تقع في موضع مصدر مرفوع. وثانيها: أن تقع في موضع مصدر منصوب. وثالثها: أن تقع في موضع مصدر مجرور.
وزاد بعضهم، في مواضع وجوب فتحها: أن تقع بعد لولا ولو وما التوقيتية. نحو " فلولا أنه كان من المسبحين "، " ولو أنهم صبروا "، وحكى ابن السكيت: لا أكلمك ما أن في السماء نجماً. وهذه المواضع الثلاثة راجعة إلى ما تقدم، لأنها بعد لولا في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف، على الصحيح. وبعد لو في موضع رفع على الفاعلية، بفعل مقدر، أي: ولو ثبت أن. وهو مذهب الكوفيين، والمبرد، والزجاج، والزمخشري. أو على الابتداء، والخبر محذوف، وهو مذهب سيبويه. وقيل: لا حذف، لأنها سدت مسد الجزءين. وبعد ما التوقيتية في موضع رفع بفعل مقدر، تقديره: ما ثبت أن في السماء نجماً.
ويجوز الفتح والكسر في كل موضع، يجوز فيه تأويلها بمصدر

(1/410)


وعدم تأويلها به. وذلك في ثمانية مواضع: الأول: في نحو: أول قولي إني أحمد الله. فالكسر على تقدير: أول قولي هذا الكلام المفتتح بإني. والفتح على تقدير: أول قولي حمد الله. وفي هذه المسألة أقوال، لا يحتمل هذا الموضع ذكرها.
الثاني: بعد إذا الفجائية، كقول الشاعر:
وكنت أرى زيداً، كما قيل، سيداً ... إذا أنه عبد القفا، واللهازم
يروى بالكسر، على عدم التأويل، والتقدير: إذا هو عبد. وبالفتح، على تقدير: فإذا عبوديته. فعبوديته مبتدأ، وإذا الفجائية خبره، عند من جعلها ظرفاً. وأما من جعلها حرفاً فالخبر عنده محذوف، تقديره: حاصلة.
الثالث: بعد فاء الجواب، كقوله تعالى " كتب ربكم على

(1/411)


نفسه الرحمة: أنه من عمل منكم سوءاً، بجهالة، ثم تاب من بعده، وأصلح، فإنه غفور رحيم ". قرئ بالوجهين. فالكسر على جعل ما بعدها جملة تامة، أي: فهو غفور. والفتح على تقديرها بمصدر مبتدأ والخبر محذوف، أو خبر والمبتدأ محذوف، والتقدير: فغفرانه حاصل، أو: فجزاؤه الغفران.
الرابع: بعد أما، نحو: أما أنك ذاهب. رواه سيبويه بالكسر والفتح فالكسر على جعل أما حرف استفتاح. والفتح على جعلها بمعنى حقاً. وقد تقدم بيان ذلك.
الخامس: بعد القسم، إذا لم توجد اللام، بشرط تقدم فعل القسم، نحو: أحلف بالله أن زيداً قائم. فالكسر على جعلها جواباً للقسم. والفتح على تقدير على وتكون متعلقة بفعل القسم. وقد روى بالوجهين قول الشاعر:

(1/412)


أو تحلفي بربك، العلي ... أني أبو ذيالك الصبي
وأجاز الكوفيون فتح أن إذا وقعت جواب القسم، دون لام، نحو: والله أن زيداً قائم. والصحيح وجوب الكسر، وهو مذهب البصريين. وقال ابن خروف: لم يسمع فتحها بعد اليمين، ولا وجه له. قلت: وهو كما قال وقد أوضحت ذلك، في غير هذا الكتاب.
السادس: بعد حتى، نحو: عرفت أمورك حتى أنك فاضل. إن جعلت حتى جاره أو عاطفة فتحت أن. وإن جعلت حتى ابتدائية كسرت، كقولهم: مرض حتى إنه لا يرجى، بالكسر.
السابع: بعد لا جرم. المشهور بعدها فتح أن، كقوله تعالى " لا جرم أن لهم النار ". ومذهب سيبويه أن لا

(1/413)


نافية، وهي رد لما قبلها، متما يدل عليه سياق الكلام وجرم فعل ماض بمعنى: حق. وأن مع صلتها في موضع رفع بالفاعلية. وقال بعضهم: جرم بمعنى كسب، وفاعلها ضمير مستتر، وأن مع صلتها في موصع نصب بالمفعولية. والتقدير: كسب لهم كفرهم أن لهم النار. قال الشاعر:
نصبنا رأسه، في رأس جذع ... بما جرمت يداه، وما اعتدينا
أي: بما كسبت.
وقال الكوفيون: لا نافية، وجرم اسم لا، وهي بمعنى: لا بد، ولا محالة، وأن على تقدير من، أي: لا جرم من أن لهم النار. فجرم عند الكوفيين اسم. قال الزمخشري: من الجرم، وهو القطع، كما يقال إن بداً من التبديد، وهو التفريق. فكما أن معنى لا بد أنك تفعل كذا بمعنى: لا بد من فعله، فكذلك لا جرم أن لهم النار أي: لا قطع لذلك. بمعنى أنهم أبداً يستحقون

(1/414)


النار، ولا انقطاع لاستحقاقهم. وروى عن العرب: لا جرم أنه يفعل، بضم الجيم وسكون الراء، بزنة: بد. وفعل وفعل أخوان، كرشد ورشد.
وأما وجه الكسر بعد لا جرم فهو ما حكاه الفراء. قال: العرب تقول: لا جرم لآتينك، ولا جرم لقد أحسنت. فتراها بمنزلة اليمين. قال ابن مالك: ولإجرائها مجرى اليمين حكي عن العرب كسر إن بعدها. قلت: والظاهر أن إن إذا كسرت بعدها فهي جواب قسم، مقدر بعد لا جرم. وهو ظاهر قول ابن مالك التسهيل: وربما أغنت لا جرم عن لفظ القسم، مراداً. ويؤيد ذلك أن بعض العرب صرح بالقسم بعدها، فقال: لا جرم، والله لافارقتك.
الثامن: بعد أما، إذا جاء بعدها ظرف، أو مجرور، نحو، أما في الدار فإن زيداً قائم، فيجوز الكسر على تقدير: فزيد قائم، ويتعلق المجرور بما في أما من معنى الفعل. ويجوز الفتح على تقدير: فقيامه،

(1/415)


والمجرور في موضع الخبر.
وزاد بعضهم موضعاً آخر، وهو أن تقع بعد مذ ومنذ. قلت: أما الفتح بعدهما فمتفق عليه. وأما الكسر فلم يذكره سيبويه، وصرح بعضهم بامتناعه، وصرح الأخفش بجوازه.
واعلم أن بسط الكلام على هذه المواضع يستدعي تطويلاً. فلذلك اختصرت الكلام عليها.

مسألة
إذا كفت أن المفتوحة بما بطل عملها. وأجاز بعضهم إعمالها قياساً، ولم يسمع. وذهب الزمخشري إلى أن إن المكسورة وأن المفتوحة، كليهما، إذا كفا بما يفيدان الحصر، كقوله تعالى: " قل: إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ". ورده الشيخ أبو حيان، في تفسيره بأن ما مع إن كهي مع

(1/416)


كأن ولعل. فكما لا تفيد الحصر، في التشبيه، والترجي، فكذا لا تفيده مع إن المكسورة. وأما جعله أنما المفتوحة للحصر فشيء انفرد به، ولا يعلم الخلاف إلا في المكسورة. ثم إن الحصر يقتضي أنه لم يوح إليه إلا التوحيد، وهو باطل. انتهى.
وانتصر بعض الناس للزمخشري بأن قال: إن المفتوحة هي فرع المكسورة، بدليل أن سيبويه عدها خمسة، واستغنى بإن المكسورة عن المفتوحة. فلا فرق بينهما في الحصر، وعدمه. وقوله: ثم إن الحصر الخ، جوابه أن الحصر، عند القائلين به، باعتبار المقام. وهو هنا خطاب للمشركين، والموحي إليه في حقهم أولا، هو التوحيد. والله أعلم.
القسم الثاني: أن تكون بمعنى لعل، كقول العرب: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً. حكاه الخليل، ومنه قراءة من فتح الهمزة، في قوله تعالى " وما يشعر كم أنها إذا جاءت

(1/417)


لا يؤمنون "، أي: لعلها. وأن هذه إحدى لغات لعل. وسيأتي ذكرها، إن شاء الله تعالى.

أنا وأنت وأنت
هذه الألفاظ الثلاثة ضمائر منفصلة.
وإنما ذكرتها لأن قوماً، من النحويين، ذهبوا إلى حرفيتها، إذا وقعت فصلاً بين المبتدأ والخبر، أو ما أصلهما مبتدأ وخبر. وكذلك الخلاف في جميع الضمائر المنفصلة، المرفوعة الموضع، إذا وقعت فصلاً وتقدم ذكر ذلك في باب الثنائي. فلا حاجة لإعادته. والله أعلم.

أي بالمد
حرف نداء، حكاه الكوفيون، ولم يذكره سيبويه. قال ابن مالك: رواها الكوفيون عن العرب الذين يثقون بعربيتهم، ورواية العدل مقبولة. وهي لنداء البعيد، كسائر حروف النداء، إلا الهمزة. وتقدم

(1/418)


الكلام على أي بالقصر. والله أعلم.

أيا
حرف من حروف النداء المتفق عليها. وهي للبعيد. قال الشاعر:
أيا ظبية الوعساء، بين جلاجل ... وبين النقى، آأنت أم أم سالم؟
قال صاحب رصف المباني: ولا يجوز حذفها وإبقاء المنادى. وإذا وجدنا منادى، دون حرف نداء، حكمنا بالحذف ليا لأنها أم الباب. والله أعلم.

بجل
لفظ مشترك؛ يكون اسماً، وحرفاً.
فأما بجل الحرفية فحرف جواب، بمعنى نعم. وتكون في الخبر والطلب. ذكرها صاحب رصف المباني.
وأما بجل الأسمية فلها قسمان: أحدهما: أن تكون اسم فعل، بمعنى: أكتفي، فتلحفها نون

(1/419)


الوقاية، مع ياء المتكلم، فيقال: بجلني.
والثاني: أن تكون اسماً بمعنى: حسب. فتكون الياء المتصلة بها مجرورة الموضع، ولا تلحقها نون الوقاية. وذكروا أنها قد تلحقها نون الوقاية قليلاً، والأكثر ألا تلحق كقول طرفة: ألا، بجلي من الشراب، ألا بجل

بلى
حرف ثلاثي الوضع، والألف من أصل الكملة، وليس أصلها بل التي للعطف، فدخلت الألف للإيجاب، أو للإضراب والرد، أو للتأنيث، كالتاء في ربت وثمت، خلافاً لزاعمي ذلك. وهي حرف جواب.
وهي مختصة بالنفي، فلا تقع إلا بعد نفي في اللفظ، أو في المعنى.

(1/420)


وتكون رداً له، سواء أقترنت به أداة استفهام أو لا.
وقد وقعت جواباً للإستفهام، في نحو: هل يستطيع زيد مقاومتي؟ فيقول: بلى. إذا كان منكراً لمقاومته. ومنه قول الجحاف بن حكيم:
بلى، سوف نبكيهم، بكل مهند ... ونبكي عميراً، بالرماح، الخوطر
جواباً، لقول الأخطل له:
ألا، فسل الجحاف: هل هو ثائر ... بقتلي، أصيبت، من نمير بن عامر؟
ولا تقول لمن قال قام زيد: بلى. لأنه موصع نعم،

(1/421)


لا موضع بلى، لأن بلى إيجاب لنفي مجرد، كقولك بلى، لمن قال ما قام زيد. أو مقرون باستفهام حقيقة، نحو: أليس زيد بقائم؟ فتقول: بلى. أو للتقرير، كقوله تعالى " ألست بربكم؟ قالوا: بلى ". أجرت العرب التقرير مجرى النفي. ولذلك قال ابن عباس: لو قالوا: نعم لكفروا. لأن نعم لتصديق المخبر في الإيجاب والنفي. فإذا قال: ليس لك عندي وديعة، فقلت نعم، كان تصديقاً له. وإن قلت بلى، كان إيجاباً لما نفى.
قال ابن مالك: وقد توافقها نعم بعد المقرون، يعني بعد النفي المفرون بالاستفهام، كقول جحدر:
أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيانا، فذاك بنا تداني

(1/422)


نعم، وترى الهلال، كما أراه ... ويعلوها النهار، كما علاني
وقول الأنصار للنبي، صلى الله عليه وسلم ألستم ترون ذلك؟ قالوا نعم. ويؤول قول الأنصار على أن ذلك لأمن اللبس، وقول جحدر على أن نعم جواب المقدر في نفسه، من اعتقاده أن الليل يجمعه وأم عمرو، أو يكون جواباً لما بعده، فقدم عليه. قال الشيخ أبو حيان: والأولى، عندي، أن يكون جواباً لقوله فذاك بنا تداني.
وقال بعضهم: يجوز أن يؤتي بنعم، بعد التقرير، تصديقاً له، لأن معناه الإيجاب. وإنما يمتنع، إذا جعلت جواباً. قال: ولا يكون الشاعر، في قوله نعم، بعد قوله أليس، مخالفاً لابن عباس، رضي الله عنهما، فيما قاله من ذلك، لأنه لم يتوارد معه على معنى واحد فإن الذي منعه إنما منعه، على أن نعم جواب، وإذا كانت

(1/423)


جواباً إنما تكون تصديقاً لما بعد ألف الاستفهام. والذي أجزناه إنما أجزناه، على أن تكون غير جواب. وإنما نعم فيه على وجه التصديق، لمعنى الاستفهام الذي هو تقرير. واعترض هذا القائل، بأن ما ذهب إليه لا دليل عليه. والله أعلم.

بله
تكون اسم فعل بمعنى دع، فتنصب المفعول، وهي مبنية، نحو: بله زيداً.
وتكون مصدراً بمعنى ترك، النائب عن اترك، فتستعمل مضافة، نحو: بله زيد. وهو مصدر مضاف إلى المفعول، وقال أبو علي: مضاف إلى الفاعل. وروى أبو زيد فيه القلب، إذا كان مصدراً، تقول: بهل زيد. وحكى أبو الحسن الهي

ثم فتح الهاء واللام، فتقول: بهل زيد.
وأجاز قطرب، وأبو الحسن، أن تكون بمعنى كيف،

(1/424)


فتقول: بله زبد؟ بالرفع. ويروى قوله:
تذر الجماجم ضاحياً هاماتها ... بله الأكف، كأنها لم تخلق
بنصب الأكف على أن بله اسم فعل، وبجره على أنها مصدر، وبرفعه على انها بمعنى كيف.
وقيل: هي اسم فعل، بمعنى: بقي وأنكر أبو علي الرفع بعدها. وذكر، عن قطرب، أنه رواه.
وعدها الكوفيون والبغداديون من أدوات الاستثناء، وأجازوا النصب بعدها، على الاستثناء، نحو: أكرمت العبيد بله الأحرار. رأوا ما بعدها خارجاً مما قبلها في الوصف، فجعلوه استثناء. إذا المعنى أن إكرامك الأحرار يزيد على إكرامك العبيد.

(1/425)


وذهب جمهور البصريين إلى أنها لا يستثنى بها، وأنه لا يجوز فيما بعدها إلا الخفض. وليس بصحيح، بل النصب مسموع من كلام العرب.
وذهب بعض الكوفيين إلى أن بله بمعنى غير. فمعنى بله الأكف: غير الأكف.
وذهب الأخفش إلى أن بله حرف جر. ولهذا ذكرتها. في هذا الكتاب.
وبله ليست مشتقة. وذهب العبدي إلى أنها مشتقة من البله.
ثم
حرف عطف، يشرك في الحكم، ويفيد الترتيب بمهلة. فإذا قلت: قام زيد ثم عمرو، آذنت بأن الثاني بعد الأول بمهلة. هذا مذهب الجمهور، وما أوهم خلاف ذلك تأولوه.

(1/426)


وذهب الفراء، فيما حكاه عنه السيرافي، والأخفش، وقطرب، فيما حكاه أبو محمد عبد المنعم بن الفرس في مسائله الخلافيات عنه، إلى أن ثم بمنزلة الواو، لا ترتب. ومنه عندهم " خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها "، ومعلوم أن هذا الجعل كان قبل خلقنا.
وزعم بعضهم أنها تقع موقع الفاء، كقول الشاعر:
كهز الرديني، تحت العجاج ... جرى في الأنابيب، ثم اضطرب
أي: فاضطرب. وإليه ذهب ابن مالك؛ قال: وقد تقع ثم

(1/427)


في عطف المتقدم بالزمان، اكتفاء بترتيب اللفظ. وهذا منقول عن الفراء، كقولك: بلغني ما صنعت اليوم، ثم ما صنعت أمس أعجب. ومن ذلك قول الشاعر:
إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده
وقال ابن عصفور: ما ذكره لفراء، من أن المقصود بثم ترتيب الإخبار، لا ترتيب الشيء في نفسه، وكأنه قال اسمع مني هذا الذي هو: بلغني ما صنعت اليوم، ثم اسمع مني هذا الخبر الآخر الذي هو: ما صنعت أمس أعجب، ليس بشيء، لأن ثم تقتضي تأخر الثاني عن الأول بمهلة، ولا مهلة بين الإخبارين.

(1/428)


فينبغي أن يحمل على ظاهره، ويكون الجد قد أتاه السؤدد من قبل الأب، وأتى الأب من قبل الابن. وذلك مما يمدح به، وإن كان الأكثر في كلامهم المدح بتوارث السودد. ويكون البيت، إذ ذاك، مثل قول ابن الرومي:
قالوا: أبو الصقر من شيبان، قلت لهم: ... كلا، لعمري، ولكن منه شيبان
فكم أب قد علا، بابن، ذرى حسب ... كما علت، برسول الله، عدنان
قلت: ما ذكره ابن عصفور، في تأويل البيت، لا يساعد عليه قوله قبل ذلك.
وقال بعضهم: قد ترد ثم لترتيب الذكر. وهو معنى قول غيره: ترتيب الإخبار.
وقد حمل بعضهم قول تعالى " ثم جعل منها زوجها " على

(1/429)


أن ثم، في الآية، لترتيب الإخبار. وقيل: أخرج ذرية آدم، من ظهره كالذر، ثم خلق بعد ذلك حواء. فعلى هذا تكون ثم على أصلها، من الترتيب في الزمان.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه قوله ثم جعل منها زوجها، وما تعطيه ثم من معنى التراخي؟ قلت: هما آيتان، من جملة الآيات، التي عددها، دالاً على وحدانيته وقدرته، تشعيب هذا الخلق الفائت الحصر، من نفس آدم، وخلق حواء من قصيراه. إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة، والأخرى لم تجربها العادة، ولم تخلق أنثى، غير حواء، من قصيري رجل، فكانت أدخل في كونها آية، وأجلب لعجب السامع. فعطفها بثم على الآية الأولى للدلالة على مباينتها، فضلاً ومزية. وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية. فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود.

(1/430)


تنبيه
ذكر صاحب رصف المباني أن لثم في الكلام موضعين: الأول: أن تكون حرف عطف، يعطف مفرداً على مفرد، وجملة على جملة.
والثاني: أن تكون حرف ابتداء؛ إما أن تكون حرف ابتداء، على الاصطلاح، أي: يكون بعدها المبتدأ والخبر. وإما ابتداء كلام. فالأول نحو أن تقول: أقول لك اضرب زيداً، ثم أنت تترك الضرب. ومنه قول تعالى " قل الله ينتجيكم منها ومن كل كرب. ثم أنتم تشركون ". وابتداء الكلام كقولك: هذا زيد قد خرج، ثم إنك تجلس. قال الله عز وجل

(1/431)


" فتبارك الله أحسن الخالقين "، ثم قال بعد ذلك " ثم إنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ". وقد يرجع هذا إلى عطف الجمل، إذا كان الجملتان في كلام واحد. وذلك بحسب إرادة المتكلم. والأظهر، في الجمل، الانفصال في المراد، إلا حيث يدل الدليل على أن مقصود الكلام واحد. انتهى.
ولا يصح كونها حرف ابتداء. وإنما هي حرف عطف، تعطف جملة على جملة، كما تعطف مفرداً على مفرد. والله أعلم.

فائدة:
في ثم أربع لغات: ثم وهي الأصل. وفم بإبدال الثاء فاء. وثمت بتاء التأنيث الساكنة. وثمت بتاء التأنيث المتحركة. والله أعلم.

جلل
حرف من حروف الجواب، بمعنى نعم. ذكره صاحب

(1/432)


رصف المباني، وقال: إن جلل ليس لها في كلام العرب إلا معنى الجواب خاصة. يقول القائل: هل قام زيد؟ فتقول في الجواب: جلل. ومعناها نعم حكى ذلك الزجاج في كتاب الشجرة فعلى هذا لا تعمل شيئاً، إنما هي نائبة مناب الجملة الواقعة جواباً. وهي تعد في كلامهم قليلة الاستعمال.

جير
بكسر الراء وفتحها، والكسر أشهر فيها

خلاف: منهم من قال: إنها حرف جواب بمعنى نعم. ومنهم من قال: إنها اسم بمعنى حقاً.
قال ابن مالك: جير حرف بمعنى نعم، لا اسم بمعنى حقاً، لأن كل موضع وقعت فيه جير يصلح أن تقع فيه نعم. وليس كل موضع وقعت فيه نعم يصلح أن تقع فيه حقاً فإلحاقها بنعم أولى. وأيضاً فإن لها شبهاً بنعم لفظاً، واستعمالاً. ولذلك بنيت. ولو وافقت حقاً في الأسمية

(1/433)


لأعربت، ولجاز أن يصحبها اللام، كما أن حقاً كذلك. ولو لم تكن بمعنى نعم لم يعطف عليها في قول بعض الطائيين:
أبى كرماً، لا آلفاً جير أو نعم ... بأحسن إيفاء، وأنجز موعد
ولم تؤكد نعم بها، في قول طفيل الغنوي:
وقلن: على البردي أول مشرب ... أجل، جير، إن كانت رواء أسافله
ولا قوبل بها، في قول الراجز:
إذا تقول لا ابنة العجير ... تصدق لا، إذا تقول: جير

(1/434)


فهذا تقابل ظاهر. ومثله في التقرير قول الكميت:
يرجون عفوي، ولا يخشون بادرتي ... لا جير، لا جير، والغربان لم تشب
أي: لا يثبت مرجوهم، نعم تلحقهم بادرتي أي: سرعة غضبي. واحتج من أثبت اسمية جير بتنوينه، في قول الشاعر:
وقائلة: أسيت، فقلت: جير ... أسي، إنني من ذاك، إنه
ولا حجة فيه، لأنه فعل مضطر. ويحتمل أن يكون قائلة أراد توكيد جير بإن التي بمعنى نعم، فحذف همزتها، وخفف ويحتمل أن يكون شبه آخر النصف بآخر البيت، فنون تنوين الترنم. وهو لا يختص بالأسماء، بل يلحق الفعل والحرف.
قلت: أشار الشلوبين إلى هذا الاحتمال الثاني. وهو أقرب من الذي قبله. والله أعلم.

(1/435)


خلا
لفظ مشترك؛ يكون حرفاً من حروف الجر، وفعلاً متعدياً. وهي، في الحالين، من أدوات الاستثناء. فإذا كانت حرفاً جرت الأسم المستثنى بها، نحو: قام القوم خلا زيد. وإذا كانت فعلاً نصبت الاسم المستثنى بها، نحو: قام القوم خلا زيداً. وكلا الوجهين، أعني الجر والنصب، ثابت بالنقل الصحيح عن الع

رب. وإذا استثنى بها ضمير المتكلم، وقصد الجر، لم يؤت بنون الوقاية. وإذا قصد النصب أتي بها. فيقال، على الأول: خلاي. وعلى الثاني: خلاني.
وتتعين فعليتها بعد ما المصدرية، نحو: قام القوم ما خلا زيداً. فخلا هنا فعل، لأن ما المصدرية لا توصل بحرف الجر، وإنما توصل بالفعل. وذهب الجرمي والكسائي، والفارسي في كتاب الشعراء له، والربعي، إلى إجازة الجر بها، بعد ما فتكون ما زائدة،

(1/436)


لا مصدرية، وخلا حرف جر. وكذلك اختلفوا في عدا نحو: ما عدا زيد. وقد روى الجرمي، عن بعض العرب في كتاب الفرخ، الجر بخلا وعدا، بعد ما.
وقال بعضهم: الجرمي يخفض بها، ويجعل ما زائدة، دخولها كخروجها. فإن كان ذلك قياساً منه فهو فاسد، لأن ما لا تكون زائدة أول الكلام. لأنها ضد الاعتناء الذي قدمت له. وإن كان يحكي ذلك، عن العرب، فهو من الشذوذ بحيث لا يقاس عليه.
واعلم أن خلا إذا جرت ففيها خلاف. فقيل: هي في موضع نصب، عن تمام الكلام. وقيل: تتعلق بالفعل، أو معنى الفعل، كسائر حروف الجر غير الزوائد، وما في حكم الزوائد.
وإذا نصبت فاختلف في جملتها: هل لها محل أم لا؟ أجاز السيرافي أن تكون في موضع نصب على الحال، كأنك قلت: خالين زيداً. وأجاز أيضاً ألا يكون لها موضع من الإعراب، وإن كانت مفتقرة، من

(1/437)


حيث المعنى، إلى ما قبلها، من حيث كان معناها معنى إلا. قال ابن عصفور: وهو الصحيح.
وإذا دخلت عليها ما المصدرية فما والفعل في موضع نصب، بلا خلاف. ولكن اختلفوا في وجه انتصابه، فقيل: إنه مصدر موضوع موضع الحال، كما يجوز ذلك في المصدر الصريح. وهذا قول السيرافي. وذهب ابن خروف إلى أن انتصابه على الاستثناء، كانتصاب غير في قولك: قام القوم غير زيد. وقيل: منصوب على الظرف، وما مصدرية ظرفية. أي: وقت خلوهم. ودخله معنى الاستثناء.
والكلام على عدا في جميع ما ذكر كالكلام على خلا. وسيأتي في موضعها، إن شاء الله تعالى.
رب
حرف جر، عند البصريين. ودليل حرفيتها مساواتها الحرف، في الدلالة على معنى غير مفهوم جنسه بلفظها، بخلاف أسماء الاستفهام والشرط، فإنها تدل على معنى في مسمى مفهوم جنسه بلفظها.

(1/438)


وذهب الكوفيون، والأخفش في أحد قوليه، إلى أنها اسم يحكم على موضعه بالإعراب. ووافقهم ابن الطراوة. واستدلوا، على اسميتها، بالإخبار عنها في قول الشاعر:
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ... عاراً عليك، ورب قتل عار
ورد بأن الرواية الشهيرة وبعض قتل عار. وإن صحت هذه الرواية فعار خبر مبتدأ محذوف، أي: هو عار. أو خبر عن مجرور رب، إذ هو في موضع رفع بالابتداء، ودخل عليه حرف جر هو كلا زائد. ومما يدل على حرفيتها أنها مبنية. ولو كانت اسماً لكان حقها الإعراب.
واختلف النحويون، في معنى رب، على أقوال: الأول: أنها للتقليل. وهو مذهب أكثر النحويين. ونسبه صاحب البسيط

(1/439)


إلى سيبويه. والثاني: أنها للتكثير. نقله صاحب الإفصاح عن صاحب لعين، وابن درستويه، وجماعة. ولم يذكر صاحب العين أنها تجيء للتقليل. الثالث: أنها تكون للتقليل والتكثير. فهي من الأضداد. وإلى هذا ذهب الفارسي في كتاب الحروف. الرابع: أنها أكثر ما تكون للتقليل. الخامس: أنها أكثر ما تكون للتكثير، والتقليل بها نادر. وهو اختيار ابن مالك. السادس: أنها حرف إثبات، لم يوضع لتقليل ولا تكثير. بل ذلك مستفاد من السياق. السابع: أنها للتكثير في موضع المباهاة والافتخار.
والراجح، من هذه الأقوال، ما ذهب إليه الجمهور: أنها حرف تقليل. والدليل على ذلك أنها قد جاءت في مواضع، لا تحتمل إلا التقليل، وفي مواضع ظاهرها التكثير، وهي محتملة لإرادة التقليل، بضرب من التأويل. فتعين أن تكون حرف تقليل، لأن ذلك هو المطرد فيها. فمما جاءت فيه للتقليل قول الشاعر:

(1/440)


ألا، رب مولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان
وذي شامة سوداء، في حر وجهه ... مجللة، لا تنقضي لزمان
ويكمل في تسع، وخمس، شبابه ... ويهرم في سبع، معاً، وثماني
يعني بالمولود الذي له أب: عيسى بن مريم عليه السلام، وبذي ولد لم يلده أبوان: آدم عليه السلام، وبذي الشامة: القمر. وهذه الثلاثة ليس نظير. وقول زهير:
وأبيض، فياض، يداه غمامة ... على معتفيه، ما تغب فواضله

(1/441)


وهذا خصوص، لا وجه فيه للتكثير، لأنه إنما أراد بالأبيض: حصن ابن حذيفة بن بدر الفزاري. ولم يرد جماعة كثيرة، هذه صفتهم؛ ألا تراه يقول بعده:
حذيفة ينميه، وبدر، كلاهما ... إلى باذخ، يعلو على من يطاوله
وقول بعض شعراء غسان، يصف وقعة كانت بينهم وبين مذحج، في موضع يعرف بالبقاء:
ويوم على البلقاء، لم يك مثله ... على الأرض، يوم، في بعيد، ولا داني
ونظير ذلك في أشعار المتقدمين والمتأخرين كثير. وليس بنادر، كما زعم ابن مالك.
ومما تأتي رب فيه للتقليل، إتياناً مطرداً، الأشعار التي في الألغاز، والأشعار التي يصف بها الشعراء أشياء مخصوصة بأعيانها، فإنهم كثيراً ما يستعملون في أوائلها رب مصرحاً بها، والواو التي تنوب

(1/442)


مناب رب.
ومما جاءت فيه للتقليل قولهم: ربه رجلاً، إذا مدحوه. وهذا تقليل محض، لا يتوهم فيه، لأن الرجل لا يمدح بكثرة النظير، وإنما يمدح بقلة النظير، أو عدمه بالجملة. وإنما يريدون بقولهم: ربه رجلاً، أنه قليل غريب في الرجال. كأنهم قالوا: ما أقله في الرجال، أي: ما أقل نظيره! وأما ما جاءت فيه رب، وظاهره التكثير، فهو كثير جداً، وغالبه في مواضع المباهاة والافتخار. كقول امرئ القيس:
ألا، رب يوم، لك، منهن، صالح ... ولا سيما يوماً، بدارة جلجل
ولسنا نشك في أن القائلين بأن رب للتقليل قد وقعوا على هذه المواضع، التي التكثير فيها ظاهر، لأنها كثيرة جداً. فواجب على المنصف أن يتهم رأيه، ولا يسرع إلى تخطئتهم، ويعلم أن لهم في ذلك

(1/443)


غرضاً، ينبغي أن يبحث عنه. وقد ذكروا لذلك ثلاثة أوجه: الأول: أن رب في ذلك لتقليل النظير، فالمفتخر يزعم أن الشيء الذي يكثر وجوده منه يقل من غيره. وذلك أبلغ في الافتخار.
الثاني: أن القائل قد يقول: رب عالم لقيت، وهو قد لقي كثيراً من العلماء، ولكنه يقلل من لقيه تواضعاً.
الثالث: أن الرجل يقول لصاحبه: لا تعادي فربما ندمت. وهذا موضع ينبغي أن تكثر فيه الندامة، ولكن المراد أن الندامة لو كانت قليلة لوجب أن يتجنب ما يؤدي إليها، فكيف وهي كثيرة؟ فصار لفظ التقليل هنا أبلغ من التصريح بلفظ التكثير. وعلى هذا تأول النحويون قوله تعالى: " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ". وعليه تأول قوم قول امرئ القيس:
ألا، رب يوم، لك، منهن، صالح

(1/444)


قال بعضهم: رب حرف يكون لتقليل الشيء، في نفسه، ويكون لتقليل النظير. فالتي لتقليل الشيء في نفسه، كقول الشاعر:
ألا رب مولود وليس له أب
والتي لتقليل النظير، وهي الكثيرة الاستعمال، كقول الشاعر:
فإن أمس مكروباً فيا رب قينة، ... منعمة، أعملتها، بكران
والمعنى أن كثيراً، من هذه القينات، كان لي، وقل مثلها لغيري. فإطلاق النحويين على رب أنها تقليل إنما يعنون النظير، الذي هو الغالب فيها.
وقال ابن مالك: الصحيح أن معنى رب التكثير. ولذا يصلح كم في كل موضع وقعت فيه، غير نادر. ونسبه هو، وابن خروف قبله، لسيبويه. واستدلا بقوله في باب كم: ومعناها معنى رب. وبقوله في الباب: واعلم أن كم في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه

(1/445)


رب، لأن المعنى واحد. إلا أن كم اسم، ورب غير اسم قال ابن مالك: هذا نصه، ولا معارض له في كتابه.
قلت: أما استدلاله بصلاحية كم في كل موضع وقعت فيه، غير نادر، فقد أجاب الشلوبين عن ذلك بما معناه: إن لمجرور رب، في تلك المواضع، نسبتين مختلفتين: نسبة كثرة إلى المفتخر، ونسبة قلة إلى غيره. فتارة يأتي بلفظ كم على نسبة الكثرة، وتارة يأتي بلفظ رب على نسبة القلة. وأما قوله ولا معارض له في كتابه فغير مسلم، لأن سيبويه إذا تكلم في الشواذ في كتابه فمن عادته، في كثير منها، أن يقول: ورب شيء هكذا. يريد أنه قليل نادر. كقوله في باب ما، وقد أنشد بيت الفرزدق:
إذ هم قريش، وإذا ما مثلهم بشر
وهذا لا يكاد يعرف، كما أن لات حين مناص كذلك. ورب شيء هكذا.
قال الشلوبين: فكيف يتوهم أنه أراد بقوله إن معنى كم كمعنى رب أنها مثلها في الكثرة، وهو يستعملها في كلامه بضد ذلك؟ قال: وكل من شرح كتاب سيبويه لم يقل أحد منهم: إن سيبويه أراد بهذا الكلام أن رب للتكثير. وقد فسر أبو علي هذا الموضع، فقال: إنما قال إن معنى كم

(1/446)


كمعنى رب لأنها تشارك رب في أنها تقع صدراً، وأنهما لا تدخلان إلا على نكرة، وأن الأسم المنكور الواقع بعدهما يدل على أكثر من واحد، وإن كان الاسم الواقع بعد كم يدل على كثير، والأسم الواقع بعد رب يدل على قليل. وكذا قال ابن درستويه، والرماني، وغيرهما، في شرح هذا الموضع من كلام سيبويه.
واعلم أن رب فيه لغات وله أحكام: وخصائص ينفرد بها عن سائر حروف الجر. ولا بد من ذكر ذلك، على وجه الإيجاز. وفيه مسائل.
الأولى: في لغات رب، وهي سبع عشرة لغة. وهي: رب بضم الراء، وفتحها، كلاهما مع تخفيف الباء، وتشديدها،

(1/447)


مفتوحة، فهذه أربع.
وربت بالأوجه الأربعة مع تاء التأنيث الساكنة وربت بالأوجه الأربعة، مع تاء لتأنيث المتحركة. ورب بضم الراء، وفتحها، مع إسكان الباء. ورب بضم الراء والباء معاً، مشددة، ومخففة. وربتا.
الثانية: مجرور رب قسمان: ظاهر، ومضمر. فالظاهر لا يكون إلا نكرة، لأن التقليل والتكثير لا يكون في المعرفة. وأجاز بعض النحويين أن تجر المعرف بأل، وأنشد قول الشاعر:
ربما الجامل، المؤبل، فيهم ... والعناجيج، بينهن المهار

(1/448)


بجر الجامل وصفته. فإن صحت الرواية حمل على زيادة أل.
وقد يعطف على مجرورها مضاف إلى ضميره، نحو: رب رجل وأخيه. وإنما اغتفر ذلك في المعطوف لأنها لم تباشره. قيل: وشرط ذلك أن يكون العطف بالواو.
وحكى الأصمعي: رب أبيه ورب أخيه، على نية الانفصال. وهو نادر.
والمضمر يلزم أن يكون مبهماً مفسراً بنكرة، متأخرة، منصوبة على التمييز. نحو: ربه رجلاً أكرمت. وهذا الضمير يلزم الإفراد، والتذكير، استغناء بتثنية تمييزه، وجمعه، وتأنيثه. نحو: ربه رجلين، وربه رجالاً، وربه امرأة. وحكى الكوفيون تثنيته وجمعه وتأنيثه، فيطابق التمييز. نحو: ربهما رجلين، وربهم رجالاً، وربها امرأة. حكوا ذلك، نقلاً عن العرب. وقال ابن عصفور: إنهم أجازوا ذلك قياساً. وليس كما قال.

(1/449)


واختلف في هذا الضمير المجرور برب. فذهب كثير، منهم الفارسي، إلى أنه معرفة، ولكنه جرى مجرى النكرة، في دخول رب عليه، لما أشبهها في أنه غير معين. وذهب قوم إلى أنه نكرة. وبه قال الزمخشري، وابن عصفور.
الثالثة: ذهب المبرد، وابن السراج، والفارسي، وأكثر المتأخرين، إلى وجوب وصف مجرورها الظاهر، إما بمفرد، نحو: رب رجل صالح، وإما بجملة، نحو: رب رجل لقيته. فلقيته جملة في موضع خفض، على الصفة. قال بعضهم: لأن المراد التقليل. وكون النكرة موصوفة أبلغ في التقليل. ولأنه لما كثر حذف عاملها، ألزموها الصفة، لتكون الصفة كالعوض من حذف العامل. وذكر في البسيط أن وجو وصفها رأي البصريين.
وذهب الأخفش، والفراء، والزجاج، وابن طاهر، وابن خروف، إلى أنه لا يلزم وصف مجرورها. وهو ظاهر مذهب سيبويه،

(1/450)


واختاره ابن عصفور، ونقله ابن هشام عن المبرد. واستدل من لم يلتزمه بالسماع، مع ضعف ما علل به الملتزمون. قال ابن مالك: وهو ثابت، بالنقل الصحيح، في الكلام الفصحيح. وأنشد أبياتاً، منها قول أم معاوية:
يا رب قائلة، غداً: ... يا لهف أم معاوية
ولقائل أن يقول: الموصوف، في هذا البيت، محذوف، تقديره: يا رب امرأة قائلة. وكذا في جميع الأبيات التي استشهد بها، لأن جميعها صفات.
الرابعة: من خصائص رب، عند أكثر النحويين، أن الفعل الذي تتعلق به يجب أن يكون ماضياً. تقول: رب رجل كريم لقيت. ولا يجوز سألقي. وإنما لزم مضي فعلها، لأنها جواب لفعل ماض. وقيل: لأنها للتقليل، فأولوها الماضي، لأنه قد تحققت قلته.

(1/451)


وذهب ابن السراج إلى أن يجوز أن يكون حالاً. ومنع أن يكون مستقبلاً. وذهب بعض النحويين إلى أن يجوز أن يكون ماضياً، وجالاً، ومستقبلاً، والمضي أكثر. وهو اختيار ابن مالك. فمن وقوعه مستقبلاً قول جحدر:
فإن أهلك فرب فتى سبيكي ... علي، مهذب، رخص البنان
ومن وقوعه حالاً قول الشاعر:
ألا رب من تغتشه، لك ناصح ... ومؤتمن، بالغيب، غير أمين
وتؤول بيت جحدر، على أنه من حكاية المستقبل، بالنظر إلى المضي. كأنه قال: فرب فتى بكى علي فيما مضى، وإن كنت لم أهلك، فكيف يكون بكاؤه إذا هلكت؟ كقولك: لم تركت زيداً وقد كان سيعطيك. وقيل: هو على

(1/452)


إضمار القول، أي: أقول فيه سيبكي. هذا إذا جعل سيبكي جواب رب. وأما إن جعل صفة مجرورها، والجواب محذوف، أي: لم أقض حقه، فلا إشكال.
الخامسة: مذهب الجمهور أن رب تتعلق بالفعل، كسائر حروف الجر غير الزوائد. وذهب الرماني، وابن طاهر، إلى أنها لا تتعلق بشيء. قال بعضهم: وتجري رب، مع إفادتها التقليل، مجرى اللام المقوية للتعدية، في دخولها على المفعول به.
السادسة: من خصائص رب أنها يلزم تصديرها. فلا تتعلق إلا بمتأخر عنها، كقولك: رب رجل عالم لقيت. فموضع المجرور بها نصب، كما يكون موضع المجرور، في قولك: بزيد مررت. وإنما وجب تصديرها، لأن التقليل كالنفي، فلا يقدم عليه ما في حيزه.
السابعة: من خصائصها أيضاً أن عاملها يكثر حذفه، لأنها جواب لمن قال لك: ما لقيت رجلاً عالماً. أو قدرت أنه يقول.

(1/453)


فتقول في جوابه: رب رجل عالم، أي: قد لقيت. قال ابن يعيش: ولا يكاد البصريون يظهرون الفعل العامل، حتى إن بعضهم قال: لا يجوز إظهاره، إلا في ضرورة شعر.
الثامنة: من خصائص رب أنها قد تحذف، ويبقى عملها. ولا يكون ذلك ذلك في غيرها، إلا نادراً. قال ابن مالك: يجر برب محذوفة بعد الفاء كثيراً، وبعد الواو أكثر، وبعد بل أقل، ومع التجرد أقل.
قلت: تقدم ذكر الجر بها بعد الواو، والفاء، وبل، والخلاف في ذلك. ومثال الجر بها، مع التجرد من هذه الأحرف، قول الراجز:

(1/454)


رسم دار وقفت في طلله
أراد: رب رسم دار. فحذف رب، وأبقى عملها. وقول ابن مالك إن الجر بها محذوفة، بعد الفاء، كثير فيه نظر، لنه لم يرد إلا في بيتين، كما قال بعضهم. ولعله أراد بالنسبة إلى بل.
التاسعة: قد تزاد ما بعد رب كافة، وغير كافة. فمثالها، كافة، قول الشاعر:
ربما الجامل، المؤبل، فيهم ... والعناجيج، بيتهن المهار
والبيت لأبي دؤاد الإيادي. والجامل: القطيع من الإبل مع رعاتها والمؤبل: المعد للقنية. يقال: إبل مؤبلة، إذا كانت للقنية والصناجيج: جياد الخيل. والمهار: جمع مهر. ومثالها، غير كافة، قول الشاعر:

(1/455)


ربما ضربة، بسيف، صقيل ... بين بصرى، وطعنة، نجلاء
وزيارتها كافة أكثر.
واعلم أن مذهب المبرد، ومن وافقه، أن رب إذا كفت بما جاز أن يليها الجملتان: الأسمية، والفعلية. فالأسمية كالبيت السابق. والفعلية كقول تعالى " ربما يود الذين كفروا ". وإلى هذا ذهب الزمخشري. وذهب سيبويه، فيما نقل بعضهم عنه، إلى أن رب إذا كفت بما لا يليها إلا الجملة الفعلية، قيل: وهو مذهب الجمهور. وتأولوا البيت المتقدم على أن ما نكرة موصوفة، والأسم المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف، والجملة صفة ما. على هذا تأوله الفارسي، وابن عصفور. قال ابن مالك: والصحيح أن ما في البيت زائدة كافة، هيأت رب للدخول على الجملة الأسمية، كما هيأتها للدخول على الفعلية.
العاشرة: إذا وقع الفعل المضارع بعد ربما صرفت معناه إلى المضي، نحو: ربما يقوم زيد، أي: ربما قام زيد. وإنما صرفت

(1/456)


معنى المضارع إلى المضي، لأنها قبل افترانها بما مستعملة في المضي، فاستصحب لها ذلك بعد الاقتران.. وما للتوكيد، وليست بناقلة من معنى إلى معنى. قال أبو علي: لما كانت رب لما مضى وجب أن تكون ربما أيضاً كذلك.
قال بعضهم: وقد أولعت العامة، بإدخالها على المستقبل، نحو: ربما يقوم زيد. وأما قوله تعالى " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين " فظاهره الاستقبال، وتأولوه على تقدير ربما ود، جعل فيه المستقبل بمعنى الماضي، لصدق الموعود به، ولقصد التقريب لوقوعه. فجعل، وإن كان غير واقع، كأنه واقع مجازاً.
وقال بعضهم: قد جاء الفعل بعدها مفتتحاً بحرف التنفيس، نحو:
فإن أهلك فرب فتى سيبكي
فعلى هذا، يجيء الاستقبال بعدها قليلاً. وتحمل الآية على ذلك، لأن

(1/457)


في التخريج المذكور تكلفاً، إذ مآله إلى أنه عبر بالمستقبل عن ماض، وذلك الماضي مجاز عن المستقبل. والله أعلم

سوف
حرف تنفيس، يختص بالفعل المضارع، ويخلصه للإستقبال، كالسين. وفيه لغات، حكاها الكوفيون، وهي: سف، وسو، وسي. وأنشدوا:
فإن أهلك فسو تجدون فقدي ... وإن أسلم يطب لكم، المعاش
وقاب بعضهم: هذا البيت شاذ، وحذف الفاء منه للضرورة. قلت: نقل الكسائي، عن أهل الحجاز سو أفعل، بحذف الفاء في غير ضرورة. فدل على أنها لغة. وقد تقدم الخلاف في أن السين،

(1/458)


في نحو ستفعل، أصل برأسه، أو فرع مقتطع من سوف.
وهل سوف أبلغ في التنفيس من السين، أو هما سيان؟ في ذلك خلاف. ومذهب البصريين أن سوف أبلغ. واختار ابن مالك استواءهما في ذلك. وتقدمت الإشارة إلى هذا.

مسألة
ذكر بعض النحويين لسوف موضعاً، لا تدخل فيه السبن، وهو أن لام الابتداء والتوكيد تدخل على سوف، نحو " ولسوف يعطيك ربك، فترضى "، ولا يكون ذلك في السين. قال: لئلا يجتمع حرفان، على حرف واحد، مفتوحان زائدان، على الكلمة. ولشدة اتصال بعضها ببعض، واتصالهما بالكلمة، ربما أدى ذلك، في بعض الكلمات، إلى اجتماع أربع متحركات وأكثر، نحو: لسيجد، ولسيتعلم، فثقل الكلمة.

(1/459)


ولذلك سكن آخر الفعل، مع الفاعل، أو ما في حكمه. نحو: ضربته. وكثيراً ما يهربون من هذا الثقل. فطرحوا دخول اللام على السين، لذلك.
قلت: وقد سمع وقوع السين في موضع، لم تسمع فيه سوف، وهو خبر

عسى. فإنه قد ورد فيه وقوع السين موقع أن، لأنها نظيرتها في الاستقبال، في قول الشاعر:
عسى طيئ من طيئ، بعد هذه ... ستطفئ غلات الكلى، والجوانح
وهذا شاذ، لا يقاس عليه، والله أعلم

عدا
لفظ مشترك، يكون حرفاً، وفعلاً. وهو، في الحالين، من أدوات الاستثناء. فإذا كان حرفاً جر المستثنى، وإذا كان فعلاً نصبه. فتقول: قام القوم عدا زيداً، بالنصب والجر، على ما ذكره في خلا. وتتعين فعليته بعد ما المصدرية، كما تقدم. والتزم سيبويه فعلية عدا، ولم يذكر أنها تكون حرفاً، لأن حرفيته قليلة. وقد حكى حرفيته غير سيبويه، من الأئمة، فوجب قبولها.
والكلام على ما يتعلق به إذا كان حرفاً، وعلى محل جملته إذا كان فعلاً، كما تقدم في خلا. فلا معنى لإعادته، والله أعلم.

(1/460)


عسى
ذهب النحويين إلى أنه حرف. ونقله بعضهم عن ابن السراج. وحكاه أبو عمر الزاهد، عن ثعلب. وذهب الجمهور إلى أنه فعل، وهو الصحيح. والدليل على فعليته اتصال ضمائر الرفع البارزة

(1/461)


به، نحو: عسيت، وعسيتهم، ولحاق تاء التأنيث له، نحو: عست هند أن تقوم.
وهو فعل لا يتصرف، يرد للرجاء والإشفاق. وقد اجتمعا في قوله تعالى " وعسى أن تكرهو شيئاً، وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً، وهو شر لكم ". وعملها، في الأصل، عمل كان. إلا أن خبرها التزم كونه فعلاً مضارعاً، والأكثر اقترانه بأن. وقد تحذف، كقوله الشاعر:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج، قريب
وجمهور البصريين على أن حذف أن من خبر عسى ضرورة.

(1/462)


وظاهر كلام سيبويه أنه لا يختص بالشعر.
وقد ندر وقوع خبرها مفرداً، في قول الزباء عسى الغوير أبؤساً، وقول الشاعر:
أكثرت في العذل، ملحاً، دائماً ... لا تكثرن، إني عسيت صائماً.
واعلم أن عسى لها أحوال: الأول: أن يكون خبرها فعلاً مضارعاً مجرداً من أن. وهو قليل، كما سبق. ولا إشكال في أن الفعل خبرها، وهي عاملة عمل كان.
الثاني: أن يكون خبرها فعلاً مضارعاً مقروناً بأن وهذا هو الكثير. واختلف، في إعرابه، على ثلاثة مذاهب:

(1/463)


أحدها: أن عسى عاملة عمل كان أيضاً، وأن والفعل في موضع خبرها. قال ابن عصفور: وهو الصحيح، لأن العرب لما نطقوا به،

على الأصل، نطقوا به اسم فاعل، كما تقدم في المثل، والبيت.
وثانيها: أن عسى، في ذلك، ليست عاملة عمل كان. بل المرفوع بها فاعل، وأن والفعل في موضع نصب على المفعولية، والفعل مضمن معنى: قارب. فإذا قلت: عسى زيد أن يقوم، فالتقدير: قارب زيد القيام. أو يكون أن والفعل منصوباً، على إسقاط الخافض. وهذا مذهب سيبويه، والمبرد. ووجهه أن أن والفعل مقدر بالمصدر، والمصدر لا يكون خبراً عن الجثة. وأجيب عنه بأن المصدر قد يخبر به، على سبيل المبالغة.
وثالثها: أن أن والفعل بدل اشتمال من فاعل عسى. وهو مذهب الكوفيين. قال صاحب البسيط: وأظم قولهم مبنياً

على أن هذه الأفعال ليست ناقصة. فيكون المعنى عندهم: قرب قيام زيد. ثم قدمت الاسم، وأخرت المصدر، فقلت: قرب

(1/464)


زيد قيامه. ثم جعلته بأن والفعل. ويحتج، على هذا، بقولهم: عسى أن يقوم زيد، وأن هذا هو الأصل، وهي تامة. ثم إن تقدم الأسم فهو على البدل، حملاً لها على طريقة واحدة.
ورد ما ذهب إليه الكوفيون، بوجهين: أحدهما أنه إبدال قبل تمام الكلام. والآخر أنه لازم، والبدل لا يكون لازماً.
واختار ابن مالك في شرح التسهيل أن عسى في ذلك ناقصة، والمرفوع اسمها، وأن والفعل بدل اشتمال سد مسد جزأي الإسناد. ونظره بقراءة حمزة " ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم " بالخطاب، على أن يكون أنما بدلاً من الذين، وسد مسد المفعلوين.
الثالث: أن يسند إلى أن والفعل، فلا يحتاج حينئذ إلى خبر. ومقتضى كلام بعض النحويين أنها تكون، إذ ذاك، تامة كما تكون كان تامة. وقال ابن مالك: الوجه عندي أن تجعل عسى ناقصة أبداً. فإذا أسندت إلى أن والفعل وجهت بما وجه به وقوع حسب عليهما، في نحو " أحسب الناس أن

(1/465)


يتركوا ". فكما لم تخرج حسب بهذا عن أصلها، لا تخرج عسى عن أصلها، بمثل " وعسى أن تكرهوا ". بل يقال في الموضعين: سدت أن والفعل مسد الجزين.
الرابع: أن يتصل بعسى الضمير الموضوع للنصب، نحو: عساني، وعساك، وعساه. ومنه قول الشاعر:
ولي نفس أقول لها، إذا ما ... تنازعني: لعلي، أو عساني
وقول الآخر:
يا أبنا، علك، أو عساكا

(1/466)


وهذا من المواضع المشكلة، لأن حق الضمير المتصل بعسى أن يكون بصيغة المرفوع، كما ورد في القرآن، نحو " فهل عسيتهم "، لأنها ترفع الأسم. فإذا ورد بصيغة المنصوب احتاج إلى توجيه. وفي ذلك ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب سيبويه. وهو أن عسى، في ذلك، محمولة على لعل في العمل. فالياء وأخواتها في موضع نصب اسماً لها، وأن والفعل في موضع رفع خبراً لها.
وثانيها مذهب المبرد: أن عسى باقية على أصلها، ولكن انعكس الإسناد، فجعل المخبر عنه خبراً. فالياء في موضع نصب خبراً لعسى تقدم، وأن والفعل في موضع رفع اسماً لها.
وثالثها مذهب الأخفش: أن عسى باقية على رفعها الأسم، ونصبها الخبر، ولكن ضمير النصب، الذي هو الياء وأخواتها، وضع موضع المرفوع. فهو نائب عنه، وأن والفعل في موضع نصب خبراً لها، كما كان.

(1/467)


ورابعها مذهب السيرافي: أن عسى في قولهم: عساك، وعساني، حرف عامل عمل لعل. وضعف بأن، فيه اشتراك فعل وحرف في لفظ واحد.
واختار ابن مالك. ورحمه الله، مذهب الأخفش، لسلامته من عدم النظير. إذ ليس فيه إلا نيابة ضمير، غير موضوع للرفع، عن موضوع له. وذلك موجود، كقول الراجز:
يا بن الزبير، طالما عصيكا ... وطالما عنيتكما إليكا
ولأن نيابة المرفوع موجودة، في نحو: ما أنا كأنت. ولأن العرب قد تقتصر على عساك ونحوه. فلو كان في موضع نصب لزم الاستغناء بفعل ومنصوبه، ولا نظير لذلك. ولأن قول سيبويه يلزم منه حمل فعل

(1/468)


على حرف، في العمل، ولا نظير لذلك. انتهى ما ذكره ابن مالك مختصراً.
وقال غيره: مذهب سيبويه هو الصحيح. ويبطل مذهب الأخفش تصريحهم بالأسم، موضع أن والفعل، في مثل هذا التركيب مرفوعاً، كقوله:
فقلت: عساها نار كأس، وعلها ... تشكى، فأتي نحوها، فأعودها
وأما ما ذكره ابن مالك، من نيابة الكاف عن التاء في عصيكا، فليس كذلك. بل الكاف فيه بدل من التاء، كما نص عليه أبو علي وغيره. وهو شاذ. ولو كان ضمير نصب لم يسكن آخر الفعل، لأجله، كما لم يسكن في عساكا. وأما النيابة في نحو ما أنا كأنت فذلك لعلة أن الكاف لا تدخل على الضمير المجرور، فاحتيج للنيابة. وأما علة الاقتصار على المنصوب فالحمل على لعل.

(1/469)


قلت: ذكر الفارسي في التذكرة أن قوله:
يا أبتا، علك، أو عساكا
على حد إني عسيت صائماً، في أن الفاعل مضمر في الفعل، والكاف هو الخبر، كما أن صائماً هو الخبر، وإن خالفه في أنه معرفة وصائماً نكرة. وهذا تخريح غريب. والكلام على هذه المسألة يستدعي بسطاً، لا يليق بهذا الكتاب. فليقتصر على هذا القدر. فإن فيه كفاية. والله سبحانه أعلم.
على
التي تجر ما بعدها فيها خلاف، فمشهور مذهب البصريين أنها حرف جر، إلا إذا دخل عليها حرف الجر كقول الشاعر:
غدت من عليه، بعد ما تم ظمؤها ... تصل، وعن قيض، بزيزاء، مجهل

(1/470)


فعلى في هذا اسم بمعنى: فوق.
وزاد بعضهم أنها تكون اسماً في موضع آخر، وهو قول الشاعر:
هون عليك، فإن الأمور ... بكف الإله سقاديرها
وما أشبهه، لأنها لو جعلت حرفاً في ذلك لأدى إلى تعدي فعل المخاطب إلى ضميره المتصل. وذلك لا يجوز في غير أفعال القلوب،

(1/471)


وما حمل عليها. ونقل بعضهم أن هذا مذهب الأخفش. فإنه قال باسميتها في نحو: سويت علي ثيابي.
قال الشيخ أبو حيان: ولا يلزم في نحو هون عليك ولا في سويت علي أن تكون اسماً. فإنه قد ورد مثل هذا التركيب في إلى نحو قوله تعالى " وهزي إليك "، " واضمم إليك جناحك ". ولا نعلم خلافاً في حرفية إلى، فيخرج هون عليك ونحوه على ما خرج عليه وهزي إليك.
قلت: تقدم مثل هذا في عن. وذكرت ثم ما يخرج عليه وهزي إليك. ولقائل أن يقول: إن عن وعلى قد ثبتت اسميتهما بدخول من، فلم يحتج فيهما إلى تأويل، يخالف الظاهر، بخلاف إلى. وتقدم ذكر مذهب الفراء، في أن عن وعلى حرفان، إذا دخلت من عليهما.

(1/472)


وذهب ابن طاهر، وابن خروف، وابن الطراوة، والزبيدي، وابن معزوز، والشلوبين في أحد قوليه، إلى أنها اسم، ولا تكون حرفاً. وزعموا أن ذلك مذهب سيبويه.
قلت: صرح سيبويه بهذا في باب عدة ما يكون عليه الكلام. قيل: ويحتمل التأويل على أن يريد: ولا تكون إلا ظرفاً، إذا كانت اسماً. لأنه نص، في أول الكتاب، على أن على حرف، لأنه ذكر فيما يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بحرف الجر، قول الملتمس:
آليت حب العراق، الدهر، أطعمه
أي: على حب العراق.
وقد تحصل في على الجارة، مما ذكرته، أقوال أحدها: أنها

(1/473)


حرف، في كل موضع. وهو قول الفراء. والثاني: أنها اسم، في كل موضع. وهو قول ابن طاهر، ومن وافقه. والثالث: أنها حرف، إلا في موضع واحد. والرابع: أنها حرف إلا في موضعين. وبه جزم ابن عصفور، وهو قول الأخفش.
وقد استدل على حرفيتها بحذفها في الشعر، ونصب ما بعدها، كقول الشاعر:
تحن، فتبدي ما بها، من صبابة ... وأخفي الذي، لولا الأسى لقضاني
أي: لقضي علي، وقد أجاز الأخفش ذلك، في قوله تعالى " لأقعدن لهم صراطك المستقيم "، أي: على صراطك. واستدل أيضاً، علي حرفيتها، بجواز حذفها مع الضمير في الصلة، كقول الشاعر:
وإن لساني شهدة، يشتفى بها ... وهو، على من صبه الله، علقم

(1/474)


أي: صبه الله عليه. ولو كانت اسماً لم يجز فيها ذلك.
فإن قلت: إذا قلنا باسميتها فهل هي معربة أو مبنية؟ قلت: ذكر بعضهم أنها معربة، عند من قال إنها لا تكون إلا اسماً. وأما من جوز فيها، إذا كانت حرفاً، أن تنتقل إلى الأسمية، بدخول من، أو على مذهب الأخفش، في نحو: سويت علي ثيابي، فقال بعضهم: هي إذ ذاك معربة. وقال أبو محمد القاسم بن القاسم: هي مبنية، والألف فيها كألف هذا.
واعلم أن على قد تكون فعلاً، من العلو، ترفع الفاعل. كقوله تعالى " إن فرعون علا في الأرض "، وأمر هذا بين. وليست من الحرفية في شيء، إلا في الصورة.
وأما على الأسمية فقال ابن يعيش: مختلف فيها؛ فمذهب أبي العباس، وجماعة، أنها على الاشتراك اللفظي فقط، لأن الحرف لا يشتق ولا يشتق منه. فكل واحد من هذه الثلاثة مباين

(1/475)


لصاحبه إلا من جهة اللفظ. وقال قوم: الأصل أن تكون حرفاً. وإنما كثر استعمالها، فشبهت في بعض الأحوال بالأسم، فأجريت مجراه، وأدخل عليها حرف الجر، كما يشبه الأسم بالحرف، ويجري مجراه، نحو من وكم انتهى.
والغرض هنا إنما هو على الحرفية، وذكر معانيها. وذكر ابن مالك لها ثمانية معان: الأول: الاستعلاء حساً، كقوله تعالى " كل من عليها فان "، أو معنى كقوله " فضلنا بعضهم على بعض ". ولم يثبت، لها، أكثر البصريين غير هذا المعنى، وتأولوا ما أوهم خلافه.
الثاني: المصاحبة، كقوله تعالى " وآتى المال على حبه "، " وإن ربك لذو مغفرة للناس، على ظلمهم ".

(1/476)


الثالث: المجاوزة، كقول الشاعر:
إذا رضيت علي بنو قشير ... لعمر أبيك، أعجبني رضاها
أي: عني. قال ابن مالك: وكذلك الواقعة بعد: خفي، وتعذر، واستحال، وغضب، وأشباهها.
الرابع: التعليل، كقوله تعالى " ولتكبروا الله على ما هداكم ".
الخامس: الظرفية، كقوله تعالى " واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ". وتؤولت الآية على تضمين تتلو معنى: تتقول.

(1/477)


السادس: موافقة من، كقوله تعالى " إذا اكتالوا على الناس يستوفون ". قاله بعض النحويين. والبصريون يذهبون في هذا إلى التضمين، أي: إذا حكموا على الناس في الكيل.
السابع: موافقة الباء، كقوله تعالى " حقيق على ألا أقول "، أي بألا أقول. وقرأ أبي بأن، فكانت قراءته تفسيراً لقراءة الجماعة. وقالت العرب: اركب على اسم الله، أي: باسم الله.
الثامن: أن تكون زائدة للتعويض، كقول الراجز:
إن الكريم، وأبيك، يعتمل ... إن لم يجد، يوماً، على من يتكل
قال ابن جني: أراد من يتكل عليه، فحذف عليه وزاد على قبل من عوضاً. انتهى. ويحتمل أن يكون الكلام تم عند

(1/478)


قوله إن لم يجد يوماً، ثم قال: على من يتكل، وتكون من استفهامية.
قال ابن مالك: وقد تزاد دون تعويض. واستدل، على ذلك، بقول حميد بن ثور:
أبى الله إلا أن سرحة ملك ... على كل أفنان العضاه، تروق
زاد على لأن راق متعدية، مثل أعجب. تقول: راقني حسن الجارية. وفي الحديث: من حلف على يمين والأصل: حلف يميناً. قيل: ولا حجة في ذلك، لأنه يحتمل تضمين تروق

(1/479)


معنى: تشرف، وتضمين حلف: جسر. وقد نص سيبويه على أن على لا تزاد.
وزاد بعضهم في معاني على موافقة اللام، كقوله تعالى " أذلة على المؤمنين ".
وأكثر هذه المعاني إنما قال به الكوفيون، ومن وافقهم، كالقتبي. والبصريون يؤولون ذلك. والله أعلم.

كما
اعلم أن كما، عند التحقيق، كلمتان. وهما: كاف التشبيه أو التعليل، وما. ثم إن ما المتصلة بالكاف قد تكون اسماً، وقد تكون حرفاً.
فإذا كانت اسماً فلها قسمان: الأول: أن تكون موصولة. والثاني: أن تكون نكرة موصوفة. كقولك: الذي عندي كما عندك، أي. كالذي عندك، أو كشي. عندك. فهذا المثال يحتمل الوجهين.

(1/480)


وإذا كانت حرفاً فلها ثلاثة أقسام: مصدرية، وكافة، وزائدة ملغاة.
فالمصدرية نحو: قمت كما قمت، أي: كقيامك. فالكاف في ذلك جارة للمصدر لمنسبك، من ما وصلتها.
والكافة كقول زياد الأعجم:
وأعلم أنني، وأبا حميد ... كما النشوان، والرجل الحليم
أريد هجاءه، وأخاف ربي ... وأعلم أنه عبد، لئيم
وجعل بعضهم ما كافة في قوله تعالى " كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم " وفي قوله تعالى: واذكروه كما هداكم " وممن جوز ذلك الزمخشري، وابن عطية. وضعفه بعضهم، وقال: الأولى، في الآيتين ونحوهما، أن تكون ما مصدرية، لأن فيه

(1/481)


إقرار الكاف على ما استقر هلا، من عمل الجر.
وقد منع أبو سعيد علي بن مسعود الفرخان صاحب المستوفى أن تكون الكاف مكفوفة بما. ورد عليه بقوله كما النشوان والرجل الحليم. قيل: وهذا تفريع على أن ما المصدرية لا توصل بالجملة الأسمية. أما إذا قلنا إنها توصل بها فلا تكون ما كافة، بل مصدرية والكاف جارة للمصدر المنسبك من ما وصلتها.
والزائدة الملغاة كقول الشاعر:
وننصر مولانا، ونعلم أنه ... كما الناس، مجروم عليه، وجارم
بجر الناس، أي: كالناس. وما زائدة.
فهذه أقسام كما. وليس فيها شيء يعد حرفاً واحداً. بل هي مركبة، في هذه الأقسام كلها. وذكر صاحب رصف

(1/482)


المباني أن كما تكون تارة مركبة من كاف التشبيه، وما الموصولة أو المصدرية. فالكلام عليها هو الكلام على الكاف المفردة في بابها. قال: وتكون كما بسيطة، وهي مقصدنا، ولها ثلاثة مواضع: الأول: أن تكون بمعنى كي، فتنصب ما بعدها كما تنصب كي. كقولك: أكرمتك كما تكرمني، أي: كي تكرمني. قال الشاعر:
وطرفك إما جئتنا فاحبسنه ... كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
أي: كي يحسبوا.
الثاني: أن تكون بمعنى كأن. تقول: شتمني كما أنا

(1/483)


أبغضه، أي: كأني أبغضه، ومنه قول الشاعر:
تهددني بجندك، من بعيد ... كما أنا من خزاعة، أو ثقيف
الثالث: أن تكون بمعنى لعل. تقول: لا تضرب زيداً كما لا يضربك. ومنه قول الراجز:
لا تشتم الناس، كما لا تشتم
أي: لعلك لا تشتم.
وهي، في هذين الموضعين الأخيرين، غير عاملة لفظاً، وإن كانت في موضع عامل، من جهة المعنى. انتهى ما ذكره.
ولم أر أحداً ذكر أن كما تكون حرفاً بسيطاً، غير هذا الرجل. وليس الأمر كما ذكر. وكما، في هذه المواضع الثلاثة،

(1/484)


مركبة من كاف التشبيه، أو كاف التعليل، وما. واختلف النحويون، في وجه النصب بكما، في قوله كما يحسبوا. فقال أبو علي الفارسي: الأصل كيما فحذفت الياء. ونقل عن الكوفيين. قال ابن مالك: وهذا تكلف، لا دليل عليه، ولا حاجة إليه. وذهب إلى أنها الكاف المكفوفة بما، دخلها معنى التعليل، فنصبت لشبهها بكي، لا لأن الأصل كيما والله أعلم

لات
حرف نفي، أصله لا، ثم زيدت عليها التاء كما زيدت في ثمت وربت. هذا مذهب الجمهور. وقيل: هي مركبة من لا والتاء. فلو سميت بها حكيت.
وقال ابن أبي الربيع: لات أصلها ليس. فقلبت ياؤها ألفاً، وأبدلت سنيها تاء، كراهة أن تلتبس بحرف التمني. ويقويه

(1/485)


قول سيبويه إن اسمها مضمر فيها، ولا يضمر إلا في الأفعال.
وذهب ابن الطراوة إلى أن التاء متصلة بالحين الذي بعدها، لا بها وهو مذهب أبي عبيد. قال: ولم نجد في كلام العرب لات. وذكر أن التاء في الإمام متصلة بحين، كتبت " ولا تحين مناص ". قال الزمخشري: وأما قول أبي عبيد. إن التاء داخلة على حين فلا وجه له. واستشهاده بأن التاء ملتزقة بحين في الإمام لا متشبث به. فكم وقعت في المصحف أشياء خارجة عن قياس الخط.
قلت: وقد ورد دخول التاء على الأحيان في قول ابن عمر اذهب بها تلآن إلى أصحابك. وقول الشاعر:

(1/486)


تولي، قبل يوم بين، جمانا ... وصلينا، كما زعمت، تلانا
وقول الآخر:
العاطفون، تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان أين المطعم؟
وزعم بعض النحويين أن التاء في تلان بدل من ألف الوصل. وهو زعم لا يصح. وأول بعضهم تحين على أنه أراد: لات حين، فحذف لا وأبقى التاء دالة عليها. وقيل: أراد العاطفونه بهاء السكت، ثم أثبتها وصلاً، وحركها مبدلة تاء، تشبيهاً بهاء التأنيث. وهذا بعيد جداً. وقول أبي عبيد: ولم نجد في كلام

(1/487)


العرب: لات معارض بنقل الخليل، وسيبويه، وغيرهما من الأئمة.
واختلف النحويون في لات، فقيل: لا عمل لها. ونقل عن الأخفش، وما ينتصب بعدها عنده منصوب بفعل مضمر، تقديره: ولا أرى حين مناص. ونقل صاحب البسيط عن السيرافي أنه قال في " ولات حين مناص ": هو على الفعل، أي: ولات أراه حين مناص. وقيل: تعمل عمل إن. وهو مذهب الأخفش. وهي عنده لا النافية للجنس، زيدت عليها التاء، وحين مناص اسمها، والخبر محذوف، أي: لهم، ونحوه. وقال سيبويه، ومن وافقه: تعمل عمل ليس. وهي على هذا لا المشبهة بليس، زيدت عليها التاء.
ولم يسمع الجمع بين اسمها وخبرها. بل الأكثر أن يحذف اسمها، ويبقى خبرها. كقوله تعالى " ولات حين مناص "، والتقدير: ليس الحين حين مناص. وقد يحذف خبرها، ويبقى الأسم، كقراءة بعضهم " ولات حين مناص " بالرفع. والتقدير: ولات حين مناص حيناً لهم. وعلى قول الأخفش، فالمرفوع بعدها مبتدأ وخبره محذوف.

(1/488)


وإذا وقعت لات قبل هنا، كقول الشاعر:
حنت نوار، ولات هنا حنت ... وبدا الذي كانت نوار أجنت
ففيها خلاف: ذهب الفارسي إلى أنها مهملة، لا اسم لها ولا خبر. وهنا في موضع نصب على الظرفية، لأنه إشارة إلى مكان. وحنت مع أن مقدرة قبله في موضع رفع بالابتداء، والتقدير: ولا هنالك حنين. وقيل: هنا اسم لات، وحنت خبرها، على تقدير مضاف، أي: ليس ذلك الوقت حين حنين. وهو اختيار ابن عصفور، وشيخه أبي على الشلوبين. ورده ابن مالك بأن هنا من الظروف التي لا تنصرف، فلا تخرج عن الظرفية، إلا بأن تجر بمن أو إلى.

فائدة
قرئ " ولات حين مناص " بفتح التاء، وضمها، وكسرها.

(1/489)


والفتح هو المشهور. والوقف عليها بالتاء عند سيبويه، والفراء، وابن كيسان، والزجاج. وبه وقف أكثر القراء. وبالهاء عند الكسائي، والمبرد. وبه قرأ الكسائي. وقرئ حين مناص بالنصب والرفع والجر، فالنصب والرفع تقدم توجيههما. وأما الجر فوجهه ما حكاه الفراء، أن من العرب من يخفض بلات. وأنشد:
طلبوا صلحنا، ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه الكسر في أوان؟ قلت: مشبهة بإذ في قوله:
وأنت، إذ، صحيح

(1/490)


في أنه زمان قطع منه المضاف إليه، وعوض التنوين، لأن الأصل ولات أوان صلح. فإن قلت: فما تقول في حين مناص، والمضاف إليه قائم؟ قلت: نزل قطع المضاف إليه من مناص، لأن أصله: حين مناصهم، منزلة قطعة من حين، لاتحاد المضاف والمضاف إليه. وجعل تنويه عوضاً من الضمير المحذوف. ثم بني الحين لكونه مضافاً إلى غير متمكن. انتهى.
وما ذكره في لات أوان هو تخريج الزجاج، وغيره. وفيه بعد. وما ذكره في لات حين مناص أبعد. وخرج الشيخ أبو حيان هذه القراءة، والبيت أيضاً، على إضمار من، أي: لات من حين، ولات من أوان. وخرج الأخفش ولات أوان على إضمار حين، أي: ولات حين أوان. فحذف حين، وابقى أوان على جره. والله سبحانه أعلم.

ليت
حرف تمن، تكون في الممكن والمستحيل. ولا تكون في

(1/491)


الواجب. فلا يقال: ليت غداً يجيء. وذكر بعضهم أنه يقال فيها لت بالإدغام. وذكر صاحب رصف المباني أنه يقال لوت بالواو قليلاً. وهي تنصب الإسم وترفع الخبر.
وأجاز الفراء نصب الجزءين بها، دون أخواتها، وأجازه بعض أصحابه في الأحرف الستة. ونقل بعضهم عنه أنه أجاز ذلك في لعل وكأن أيضاً، نقله عنه ابن أصبغ. وتقدم ما استلدل به من أجاز ذلك في أن وبيان تأويله، وأنه لا حجة فيه. ومما ورد في ليت قول الشاعر:
يا ليت أيام الصبا رواجعا
وقول الآخر:

(1/492)


ليت الشباب هو الرجيع على الفتى ... والشيب كان هو البديء الأول
وتأول ذلك المانعون على الوجهين المتقدم ذكرهما في أن.
ولليت أحكام أخر، مشهورة، لا حاجة إلى التطويل والله أعلم.

ليس
فعل لا يتصرف. هذا مذهب الجمهور. ودليل فعليتها اتصال الضمائر المرفوعة البارزة بها، واتصال تاء التأنيث. ووزنها فعل بكسر العين، فخفت، ولزم التخفيف. ولا يجوز أن تكون فعل بالفتح، لأنه لا يخفف، فكان يقال: لاس. ولا فعل بالضم، إذ لو كان كذلك لزم ضم لامها، مع ضمير المتكلم والمخاطب. وكان قياسها كسر اللام في نحو: لست. وقد حكاه الفراء عن بعضهم والأكثر الفتح وسبب ذلك عدم تصرفها.
وقد سمع فيها لست يضم اللام، وهو يدل على بنائها على

(1/493)


فعل بضم العين ك هيؤ زيد، بمعنى: حسنت هيئته، فيكون في أصلها لغتان: فعل، وفعل.
وذهب ابن السراج، والفارسي في أحد قوليه، وجماعة من أصحابه، وابن شقير، إلى أنها حرف. ولهذا ذكرتها في هذا الموضع. وقال صاحب رصف المباني: ليس ليست محضة في الفعلية، ولا محضة في الحرفية، ولذلك وقع الخلاف بين سيبويه والفارسي. فزعم سيبويه أنها فعل، وزعم أبو علي أنها حرف، ثم قال: والذي ينبغي أن يقال فيها، إذا وجدت بغير خاصية من خواص الأفعال، وذلك إذا دخلت على الجملة الفعلية، أنها حرف لا غير، كما النافية. كقول الشاعر:
تهدي كتائب خضراً، ليس يعصمها ... إلا ابتدار، إلى موت، بأسياف
انتهى.

(1/494)


واعلم أن ليس لها أربعة أقسام: الأول: أن تكون من أخوات كأن. فترفع الأسم، وتنصب الخبر. وأمرها واضح.
الثاني: أن تكون من أدوات الاشتثناء. ويجب نصب المستثنى بها، نحو: قام القوم ليس زيداً. وهذه في الحقيقة هي الرافعة للإسم، الناصبة للخبر. ولذلك وجب نصب المستثنى بها، لأنه خبرها. واسمها ضمير، عائد على البعض، المفهوم من الكلام السابق، عند البصريين. وقال الكوفيون: اسمها ضمير عائد على الفعل المفهوم من الكلام السابق. والتقدير: ليس هو، أي: ليس فعلهم فعل زيد. فحذف المضاف ورد بوجهين: أحدهما أن فيه دعوى حذف مضاف، لم يلفظ به قط. والاخر انه لا يصح تقديره في كل موضع، نحو: القوم أخوتك ليس زيداً.
الثالث: أن تكون مهملة، لا عمل لها. وذلك في نحو ليس الطيب إلا المسك والوجه الثالث أن يكون الطيب اسم ليس وإلا المسك، عند بني تميم. فإن إلا عندهم تبطل عمل

(1/495)


ليس، كما تبطل عمل ما الحجازية. حكى ذلك عنهم أبو عمرو ابن العلاء. وله في ذلك، مع عيسى بن عمر، حكاية مشهورة. وقال بعضهم: ولا يكون ذلك إلا على اعتقاد حرفيتها، ولا ضمير في ليس.
وتأول أبو علي قولهم ليس الطبيب إلا المسك، وزعم أنه يحتمل وجوهاً: أحدها أن يكون في ليس ضمير الشأن، والطيب مبتدأ، والمسك خبره. ورد بأنه لو كان كذلك لدخلت إلا على الجملة. فكان يقال: ليس إلا الطيب المسك. كما قال الشاعر:
ألا ليس إلا ما قضى الله كائن ... ولا يستطيع المرء نفعاً، ولا ضراً
وقد أجاب أبو علي، عن هذا، بأن إلا دخلت في غير موضعها، ونظير ذلك قوله تعالى " إن نظن إلا ظناً "، وقول

(1/496)


الشاعر:
وما اغتره الشيب، إلا اغترارا
وأجيب بأن الآية والبيت محمولان على حذف الصفة، لفهم المغنى.
قال أبو علي: والوجه الثاني أن يكون الطيب اسم ليس، والخبر محذوف، وإلا المسك بدل منه. كأنه قيل: ليس الطيب في الوجود إلا المسك نعت له، والخبر محذوف. كأنه قال: ليس الطيب، الذي هو غير المسك، طيباً في الوجود.
ولأبي نزار، الملقب ملك النحاة، تخرج غريب. وهو أن الطيب اسم ليس، والمسك مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: إلا المسك أفخره والجملة في موضع خبر ليس.

(1/497)


والذي يبطل هذه التأويلات نقل أبي عمرو أن ذلك لغة بني تميم.
الرابع: أن تكون حرفاً عاطفاً، على مذهب الكوفيين. ومن حجتهم قول الشاعر:
أين المفر، والإله الطالب ... والأشرم المغلوب، ليس الغالب
ولم يثبت كونها عاطفة، عند البصريين. ويوجه هذا البيت، على مذهب البصريين، بأن يجعل الغالب اسم ليس، ويجعل خبرها ضميراً متصلاً عائداً على الأشرم، ثم حذف لاتصاله. كما تقول: الصديق كأنه زيد، ثم تحذف الهاء تخفيفاً. وممن نقل أنها تكون حرفاً عاطفاً، عند الكوفيين، ابن بابشاذ، والنحاس، وابن مالك. وحكاه ابن عصفور، عن البغداديين.
قيل: وفي الحقيقة ليست عندهم حرف عطف، لأنهم أضمروا

(1/498)


الخبر في قولهم: قام زيد ليس عمرو. وفي النصب والجر جعلوا الأسم ضمير المجهول، وأضمروا الفعل بعدها. وذلك الفعل المضمر في موضع خبر ليس. هذا تحرير مذهبهم، وهو المفهوم من كلام هشام، وابن كيسان. وهما أعرف بتقرير مذهب الكوفيين.

مسألة
مذهب أكثر النحويين أن ليس وما الحجازية مخصوصان بنفي الحال. قال ابن مالك: والصحيح أنهما ينفيان الحال، والماضي، والمستقبل. وقد حكى سيبويه: ليس خلق الله مثله. ومن نفيها المستقبل قول حسان:
فما مثله فيهم، ولا كان قبله ... وليس يكون، الدهر، ما دام يذبل
وينبغي أن يحمل كلام الأكثرين على ما إذا لم تقترن به قرينة تخصه بأحد الأزمنة، فيحمل إذ ذاك على الحال، كما يحمل عليه الإيجاب. وقد أشار إلى ذلك الشلوبين. والله أعلم.

(1/499)


منذ
لفظ مشترك، يكون حرف جر، ويكون اسماً، كما تقدم في مذ. والمشهور أنهما حرفان، إذا انجر ما بعدهما، واسمان إذا ارتفع ما بعدهما. وقيل: هم اسمان مطلقاً. وعامة العرب على الجر بهما، إن كان ما بعدهما حالاً، نحو: منذ الساعة. وإن كان ماضياً، والكلمة مذ، فالرفع وقل الجر، أو منذ فالجر وقل الرفع.
وفي النهاية: قالوا منذ ومذ حرفان. وفي هذا نظر، إذ قالوا: أصل مذ منذ. ويلزم على قولهم أن أن المخففة من أن وأن حرفان، وأن رب باعتبار لغاتها عشرة أحرف. قلت: الذي يظهر أن مرادهم أن مذ كان أصلها منذ كأختها، فحذفت نونها، وتركت أختها على أصلها؛ ألا تراهم قالوا: إن الأغلب على مذ الأسمية، والأغلب على منذ الحرفية. فلو كانت مذ فرع منذ هذه لساوتها في الحكم. وتحقيق هذا أن منذ تكون اسماً، وتكون حرفاً. فإذا كانت اسماً كثر

(1/500)


فيها حرف النون، وإذا كانت حرفاً لم تحذف منها النون إلا قليلاً.
واختلف في منذ، فقال البصريون: بسيطة. وقال الكوفيون: مركبة. ثم اختلفوا، فقال الفراء: أصلها من ذو: من الجارة، وذو الطائية. وقال غيره منهم: أصلها من إذ: من الجارة، وإذ الظرفية. وقال محمد بن مسعود الغزني: اصلها من ذا: من الجارة، وذا اسم إشارة. ولهم في تقرير هذه الأقوال تكلفات واهية. والصحيح مذهب البصريين. وفيهما لغتان: ضم الميم، وهي الفصحى. وكسرها، وهي لغة سليم.
واعلم أن مذ ومنذ لهما ثلاثة أحوال: الأول: أن يليهما اسم مرفوع نحو: ما رأيته مذ يوم الجمعة، أو منذ يومان. فهما إذ ذاك اسمان. وفي إعرابهما أربعة مذاهب:
الأول: أنهما مبتدآن، والزمان المرفوع بعدهما خبرهما. ويقدر أن في المعرفة بأول الوقت، وفي النكرة بالأمد فإذا قلت: ما رأيته مذ يوم الجمعة، فالتقدير: أول انقطاع الرؤية يوم الجمعة. وإذا قلت: ما رأيته

(1/501)


مذ يومان، فالتقدير: أمد انقطاع الرؤية يومان. وهذا قول المبرد، وابن السراج والفارسي. ونقله ابن مالك عن البصريين. وليس هو قول جميعهم.
والثاني: أنهما ظرفان منصوبان على الظرفية. وهما في موضع الخبر، والمرفوع بعدهما مبتدأ. والتقدير: بيني وبين لقائه يومان. وهو مذهب الأخفش، والزجاج، وطائفة من البصريين.
والثالث: أن المرفوع بعدهما فاعل بفعل مقدر، وتقديره: مذ كان يومان. وهما ظرفان مضافان إلى جملة حذف صدرها. وهذا مذهب الكوفيين. واختاره السهيلي، وابن مالك.
والرابع: أنه خبر مبتدأ محذوف. وهو قول لبعض الكوفيين. وتقديره: ما رأيته من الزمان الذي هو يومان. ونقله ابن يعيش عن الفراء. قال: لأن منذ مركبة من من وذو التي بمعنى الذي، والذي توصل بالمبتدأ والخبر.
والحال الثاني: أن يليهما اسم مجرور، نحو: ما رأيته مذ يومين.

(1/502)


وقول الشاعر:
قفا نبك من ذكرى حبيب، وعرفان ... ورسم، عفت آياته منذ أزمان
وفي ذلك مذهبان: أحدهما أن منذ ومذ حرفا جر. وهو الصحيح. وإليه ذهب الجمهور. ولا يجران إلا الزمان. فإن كان معرفة ماضياً فهما بمعنى من لابتداء الغاية. نحو: ما رأيته مذ يوم الجمعة. وإن كان معرفة حالاً فهما بمعنى في، نحو: ما رايته منذ الليلة. وإن كان نكرة فهما بمعنى من وإلى، فيدخلان على الزمان الذي وقع فيه ابتداء الفعل وانتهاؤه. نحو: ما رأيته مذ أربعة أيام. والمذهب الثاني أنهما ظرفان مضافان، وهما في موضع نصب بالفعل الذي قبلهما. وعلى هذا فهما اسمان في كل موضع.
الحال الثالث: أن يليهما جملة. والكثير أن تكون فعلية، كقول الفرزدق:

(1/503)


ما زال مذ عقدت يداه إزاره ... فسما، فأدرك خمسة الأشبار
وقد تكون اسمية، كقول الشاعر:
وما زلت محمولاً على ضغينة ... ومضطلع الأضغان، مذ أنا يافع
وفي ذلك مذهبان: أحدهما أن منذ ومذ ظرفان مضافان إلى الجملة. وصرح به سيبويه. والثاني أنهما مبتدآن، ويقدر زمان مضاف إلى الجملة، يكون خبراً عنهما ولا يدخلان عنده، إلا على زمان ملفوظ به، أو مقدر.
والمختار أن مذ ومنذ إن وليهما مرفوع، أو جملة، فهما ظرفان مضافان إلى الجملة. وإن وليهما مجرور فهما حرفان وهذا اختيار ابن مالك في التسهيل. وقد بينته في شرحه. وهذا القدر كاف هنا. والله أعلم.

(1/504)


متى
المشهور فيها أنها اسم من الظروف، تكون شرطاً واستفهاماً. وإنما ذكرتها هنا لأنها تكون حرف جر بمعنى من، في لغة هذيل، كقول الشاعر:
شربن بماء البحر، ثم ترفعت ... متى لجج، خضر، لهن نئيج
أي: من لجج. ومن كلامهم: أخرجها متى كمه، أي: من كمه. والله سبحانه أعلم.

نعم
حرف، من حروف الجواب. وفيها ثلاث لغات: نعم، بفتح

(1/505)


العين. ونعم، بكسرها، وهي لغة كنانة، وبها قرأ الكسائي. ونحم، بإبدال عينها حاء. حكاها النضر بن شميل، وبها قرأ ابن مسعود.
وهي لتصديق مخبر، أو إعلام مستخبر، أو وعد طالب. فالأول كقولك نعم لمن قال: قام زيد. والثاني كقولك نعم لمن قال: هل جاء زيد؟ والثالث كقولك نعم لمن قال: اضرب زيداً. أي: نعم أضربه. والنفي كالموجب. والسؤال عن النفي كالنفي. ففي الموجب والسؤال عنه تصديق الثبوت. وفي النفي والسؤال عنه تصديق النفي، وتقدم الفرق بينها وبين بلى.
وزعم بعض النحويين أن نعم تحكون حرف تذكير، لما بعدها. وذلك إذا وقعت صدر الجملة بعدها، نحو: نعم هذه أطلالهم. وهذا يحتمل التأويل.
وعبارة سيبويه فيها قوله نعم عدة وتصديق.
قال بعض النحويين: يعني أنها إن كان قبلها طلب فهي عدة، لا غير. وإن كان قبلها خبر فهي تصديق، لا غير. والله أعلم.

(1/506)


نحن وهما وهن
إذا وقعت فصلاً. فيها خلاف، تقدم ذكره. والله أعلم.

هيا
حرف نداء، ينادي بها البعيد مسافة أو حكماً. قال الشاعر:
هيا أم عمرو، هل لي اليوم عندكم ... بغيبة أبصار الوشاة، سبيل؟
واختلف النحويون في هائها، فقيل: هي بدل من همزة أيا. وهو قول ابن السكيت، وابن الخشاب. وقيل: هي أصل لا بدل. وتقدم مذهب من قال: إن يا وأخواتها أسماء أفعال. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(1/507)