الجنى الداني في حروف المعاني الباب الرابع
في الرباعي
وهو ضربان: متفق عليه، ومختلق فيه. وجملته تسعة عشر حرفاً:
إذ ما، وألا، وإلا، وأما، وإما، وأنتم، وإيا، وأيمن، وحتى، وحاشا،
وكأن، وكلا، ولعل، ولكن، ولما، ولولا، ولوما، ومهما، وهلا وأنا أذكرها
على هذا التريب. إن شاء الله تعالى.
إذ ما
حرف شرط، عند سيبويه، تجزم فعلين مثل إن الشرطية. وتقدم ذكرها في أقسام
إذ. وإنما ذكرتها في الرباعي، وفاقاً لمن عدها فيه، لكونها تركبت مع ما
فصارا كأنهما كلمة واحدة.
(1/508)
ألا بفتح الهمزة
والتشديد
حرف تحضيض لا عمل لها. وهي مختصة بالأفعال، كسائر أحرف التحضيض. فلا
يليها إلا فعل، نحو: ألا فعلت. أو معمول فعل ظاهر، نحو: ألا زيداً
ضربت. أو مضمر، نحو: ألا زيداً ضربته.
وقال بعض النحويين: يجوز مجيء الجملة الأسمية، بعد أدوات التحضيض، كقول
الشاعر:
فهلا نفس ليلى شفيعها
ولا حجة في هذا البيت. ويأتي بيان ذلك في هلا.
قال بعضهم: وألا يحتمل أن يكون أصلها هلا، فأبدلت الهاء همزة. وقال
بعضهم: الهاء في هلا بدل من همزة ألا، ولا يصح العكس، لأن إبدال الهاء
من الهمزة أكثر من إبدال الهمزة من الهاء. فالحمل على الأكثر أولى.
(1/509)
واعلم أن ألا قد تكون مركبة من أن الناصبة
للفعل، أو المخففة، ولا النافية، فتعد حرفين، لا حرفاً واحداً كقوله
تعالى " ألا تعلوا ". وقد أجازوا في أن هذه أن تكون مصدرية ناصبة
للفعل، ومخففة من الثقيلة، ومفسرة. وذلك واضح. والله أعلم.
إلا بكسر الهمزة والتشديد
حرف استثناء. هذا معناها المشهور. وقد تكون بمعنى غير، وبمعنى الواو
عند الأخفش، والفراء، وعاطفة تشرك في الإعراب، لا في الحكم، عند
الكوفيين، وزائدة عند الأصمعي، وابن جني. فهذه خمسة أقسام.
الأول: أن تكون حرف استثناء، نحو: قام القوم إلا زيداً. إلا هذه، التي
يستثنى بها، أحكام كثيرة. ونذكر هنا ما تدعو الحاجة إلى ذكره، في سبع
مسائل:
(1/510)
الأولى: في حد الاستثناء: وهو إخراج ب إلا،
أو إحدى أخواتها، تحقيقاً أو تقديراً. فالإخراج جنس، وبإلا أو إحدى
أخواتها مخرج للتخصيص بالنعت، ونحوه. والمراد بالمخرج تحقيقاً: المتصل،
وبالمخرج تقديراً: المنقطع، نحو " ما صم، من علم، إلا اتباع الظن ".
فإن الظن، وإن لم يدخل في العلم، فهو في تقدير الداخل فيه. إذ هو
مستخضر بذكره، لقيامه مقامه في كثير من المواضع. ولذلك لم يحسن استثناء
الأكل والشرب بعد العلم، إذ لا يشعر بهما، بخلاف الظن. قال ابن السراج:
إذا كان الاستثناء منقطعاً فلا بد أن يكون الكلام الذي قبل إلا قد دل
على ما يستثنى. فتأمله، فإنه يدق.
الثانية: في المستثنى منه: وهو المخرج منه، مذكوراً كان، نحو: قام
القوم إلا زيداً، أو متروكاً، نحو: ما قام إلا زيد، أي: ما قام أحد.
وشرطه ألا يكون مجهولاً؛ فلا يصح استثناء معلوم من مجهول، نحو: قام
رجال إلا زيداً، ولا استثناء مجهول من مجهول، نحو قام رجال إلا رجلاً.
لأن فائدة الاستثناء إخراج الثاني من
(1/511)
الأول، لكونه لو لم يستثن لكان ظاهره أنه
داخل فيما دخل فيه الأول. وإذا كان المستثنى منه مجهولاً لم يكن كذلك.
الثالثة: في المستثنى، وهو المخرج: وهو ضربان متصل، ومنقطع. لأنه إن
كان بعض الأول فهو متصل، وإن لم يكن بعضه فهو منقطع. قال ابن مالك:
وذكر البعضية أولى من ذكر الجنسية، لأن المستثنى قد يكون بعدما هو من
جنسه، وهو منقطع، كقولك قام بنوك إلا ابن زيد.
الرابعة: في مقدار المستثنى: ذهب أكثر البصريين إلى أن ما دون النصف.
فلا يجوز عندهم استثناء النصف، ولا استثناء الأكثر. وذهب بعضهم إلى
جواز استثناء النصف. فيجيزون: عندي عشرة إلا خمسة. وذهب الكوفيون إلى
جواز استثناء الأكثر. ووافقهم ابن مالك. والخلاف إنما هو في الاستثناء
المتصل. واستدل من أجاز استثناء النصف، بقوله تعالى " قم الليل إلا
قليلاً، نصفه "، لأن نصفه بدل من قليلاً، والضمير
(1/512)
عائد على الليل. وأطلق على النصف قليل،
والمعنى: قم نصف الليل أو أقل أو أكثر. قاله ابن خروف. واستدل من أجاز
استثناء الأكثر بقوله تعالى " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، إلا من
اتعبك، من الغاوين ". ومعلوم أن الغاوين أكثر. وتأويل المانعون هاتين
الآيتين ونحوهما وأجمع النحويون على أن المستثنى لا يكون مساوياً
للمستثنى منه، ولا أزيد.
الخامسة: في معنى الإخراج: قلل الكسائي: الإخراج من الأسم وحده. فإذا
قلت: قلم القوم إلا زيداً، فكأنك قلت: قام القوم الذين بعض منهم زيد.
ولم تتعرض للإخبار عن زيد بقيام ولا غيره. فيحتمل أن يكون قد قام، وأن
يكون غير قائم. وذهب الفراء إلى أن الإخراج من الفعل فإذا قلت: قام
القوم إلا زيداً لم تخرج زيداً من القوم، وإنما أخرجت إلا وصفه من
القوم. وذهب سيبويه إلى أن إلا أخرجت الأسم من الأسم، والفعل من الفعل.
إذ لم يقم دليل على حمل الاستثناء على أحدهما دون الآخر.
(1/513)
فإن قلت: قام القوم إلا زيداً، كنت قد
استثنيت زيداً من القوم، وقيامه من قيامهم. وهذا هو الصحيح: والخلاف في
المتصل.
السادسة: في إعراب المستثنى بإلا: اعلم أن المستثنى بإلا له حالان:
أحدهما أن يفرغ له العامل، والآخر أن يشغل العامل بغيره. ويسمى الأول
التفريغ، والثاني التمام.
وحكمه، في التفريغ، كحكمه لو لم يوجد إلا، كقولك: ما قام إلا زيد. فزيد
فاعل قام كقولك: ما قام زيد. ولا أثر إلا في ذلك. ولا يكون التفريغ إلا
بعد نفي، أو شبهه. ويكون في جميع المعمولات، إلا المصدر المؤكد. وأما
قوله " إن نظن إلا ظناً " فمتأول على حذف الصفة، أي: إلا ظناً ضعيفاً.
وقد قيل فيه غير ذلك.
وأما في التمام فله أقسام: قسم يب نصبه، وهو المستثنى بعد الإيجاب،
نحو: قام القوم إلا زيداً.
(1/514)
وقسم يجوز نصبه، وإبداله من المستثنى منه،
والإبدال أرجح. وهو المستثنى بعد النفي وشبهه، إذا كان متصلاُ، نحو "
ما فعلوه إلا قليل منهم ".
وقسم يجوز نصبه وإبداله، والنصب أرجح. وهو المنقطع، إذا وقع بعد نفي أو
شبهه، بشرط أن يصح إغناؤه من المستثنى منه. نحو " ما لهم به من علم،
إلا اتباع الظن ". فهذا فيه لغتان: لغة الحجازيين أن نصبه واجب، ولغة
بني تميم جواز نصبه وإبداله، ويقرؤون " إلا اتباع الظن " بالرفع. قال
بعضهم: والنصب عندهم أرجح. فإن لم يصح إغناؤه عن المستثنى منه تعين
نصبه عند الجميع. وهو كل استثناء منقطع، لا يجوز فيه تفريغ ما قبل إلا
للإسم الواقع بعدها. نحو: ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضر.
هذا كله حكم المستثنى، إذا كان مؤخراً. فإن تقدم على المستثنى منه وجب
نصبه مطلقاً. وأما نحو: مالي إلا أخوك ناصر، فمؤول على التفريغ، وناصر
بدل. وقد اختصرت هذا الفصل، لشهرة أحكامه.
(1/515)
السابعة: في ناصب المستثنى: اعلم أن في
ناصب المستثنى أقوالاً كثيرة: أحدها أن ناصبه إلا. واختاره ابن مالك.
قال: وهو مذهب سيبويه، والمبرد، والجرجاني. وقد خفي كون هذا مذهب
سيبويه، على كثير من شراح كتابه.
وثانيها أن الناصب ما قبل إلا من فعل أو غيره، بتعدية إلا. قال ابن
عصفور: وهو مذهب سيبويه، والفارسي، وجماعة. وقال الشلوبين: هو مذهب
المحققين.
وثالثها أن الناصب ما قبل إلا مستقلاً. وهو مذهب ابن خروف. واستدل على
ما ذهب إليه بما فهمه من كتاب سيبويه.
ورابعها أن الناصب أستثني مضمراً بعد إلا. حكاه السيرافي عن المبرد،
والزجاج.
وخامسها أن الناصب أن مقدرة بعد إلا. والتقدير: إلا أن زيداً لم يقم.
حكاه السيرافي عن الكسائي.
(1/516)
وسادسها أن الناصب إن المكسورة المخففة،
مركباً منها ومن لا: إلا. حكاه السيرافي أيضاً عن الفراء.
وسابعها: أن الناصب له مخالفته للأول. ونقل عن الكسائي.
وهذه أقوال، أكثرها ظاهر البعد. وأظهرها الأول والثاني. وقد بسطت
الكلام عليها، في غير هذا الكتاب. وذكر بعض المتأخرين قولاً ثامناً،
وهو أن المستثنى ينتصب عن تمام الكلام. فالعامل فيه ما قبله من الكلام،
بدليل قولهم: القوم إخوتك إلا زيداً. وليس ههنا فعل، ولا ما يعمل عمله.
قال: وهو مذهب سيبويه، وهو الصحيح.
فهذا ما يتعلق بالقسم الأول من أقسام إلا على سبيل الاختصار.
القسم الثاني: التي بمعنى غير: اعلم أن أصل إلا أن تكون استثناء، وأصل
غير أن تكون صفة. وقد تحمل إلا على غير، فيوصف بها، كما حملت غير على
إلا فاستثنى بها. وللموصوف بإلا شرطان: أحدهما أن يكون جمعاً أو شبهه،
والآخر أن
(1/517)
يكون نكرة أو معرفاً بأل الجنسية، كقوله
تعالى " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا "، فإن قلت: كيف يوصف بإلا
وهي حرف؟ قلت: التحقيق أن الوصف إنما هو بها وبتاليها، لا بها وحدها.
ولذلك ظهر الإعراب في تاليها. ومن قال: إن إلا يوصف بها، فقد تجوز في
العبارة. وإنما صح أن يوصف بها وبتاليها لأن مجموعهما يؤدي معنى الوصف،
وهو المغايرة.
واعلم أن إلا التي يوصف بها تفارق غيراً من وجهين: أحدهما أن موصوفها
لا يحذف وتقام هي مقامه؛ فلا يقال: جاءني إلا زيد، بخلاف غير. والآخر
أنها لا يوصف بها إلا حيث يصح الاستثناء؛ فلا يجوز: عندي درهم إلا جيد،
بخلاف غير.
القسم الثالث: التي بمعنى الواو. وهذا قسم نفاه الجمهور، وأثبته
الفراء، والأخفش، وأبو عبيدة معمر بن المثنى. وجعلوا من ذلك قوله "
لئلاً يكون للناس عليكم حجة، إلا الذين ظلموا منهم "،
(1/518)
أي: ولا الذين ظلموا، وقول الشاعر:
ما بالمدينة دار، غير واحدة ... دار الخليفة، إلا دار مروانا
وقول الآخر:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك، إلا الفرقدان
أي: ودار مروان، والفرقدان. والمعنى أنهما يفترقان. ولا حجة فيما
استدلوا به. وتأويله ظاهر.
القسم الرابع: التي هي عاطفة لا بمعنى الواو، بل تشرك في الإعراب
(1/519)
لا في الحكم. هذا القسم لم يقل به إلا
الكوفيون. فإنهم يجعلون إلا عاطفة، في نحو: ما قام أحد إلا زيد، مما
وقع بعد النفي وشبهه. والبصريون يعربون ذلك بدلاً، كما سبق. ورد ثعلب
قول البصريين، بان الأول منفي عن القيام، والثاني مثبت له، والبدل يكون
على وفق المبدل منه، في المعنى.
ورد مذهب الكوفيين بأن إلا لو كانت عاطفة لم تباشر العامل، في نحو: ما
قام إلا زيد. وأجيب، عما قاله ثعلب، بأن هذا من بدل البعض، وبدل البعض
الثاني فيه مخالف للأول، في المعنى؛ ألا ترى أنك إذا قلت: رأيت القوم
بعضهم، كان قولك أولاً رأيت القوم مجازاً، ثم بينت من رأيته منهم.
القسم الخامس: التي هي زائدة. هذا قسم غريب، قال به الأصمعي، وابن جني،
في قول الشاعر:
(1/520)
حراجيح، ما تنفك إلا مناخة ... على الخسف،
أو نرمي بها بلداً، قفرا
أي: ما تنفك مناخة، وإلا زائدة، لأن ما زال وأخواتها لا تدخل إلا على
خبرها. لأن نفيها إيجاب، فلا وجه لدخول إلا وهذا قول ضعيف، فإن إلا لم
تثبت زيادتها. وقد خرج البيت على وجهين: أحدهما أن تنفيك تامة، وهي
مطاوع فكه إذا خلصه أو فصله. ومناخة حال. والثاني أنها ناقصة والخبر
قوله على الخسف، ومناخة حال من الضمير المستكين في الجار. وهذا قول
الفراء.
ومن أغرب ما قيل في إلا أنها قد تكون بمعنى بعد. وجعل هذا القائل من
ذلك قوله تعالى " إلا الذين ظلموا منهم "، وقوله " إلا ما قد سلف "،
وقوله " إلا الموتة الأولى ".
وأما إلا في نحو قوله تعالى " إلا تفعلوه تكن فتنه
(1/521)
في الأرض، وفساد كبير "، و " إلا تنصروه
فقد نصره الله "، فهي مركبة من إن الشرطية، ولا النافية. وهي حرفان، لا
حرف واحد. وأمرها واضح. والله سبحانه وتعالى أعلم.
أمتا بفتح الهمزة
حرف بسيط، فيه معنى الشرط، مؤول بمهمها يكن من شيء، لأنه قائم مقام
أداة الشرط وفعل شرط. ولذلك يجاب بالفاء. وقال ابن مالك وغيره: أما حرف
تفصيل. وقال بعض النحويين: إنها قد ترد حيث لا تفصيل فيه، كقولك: أما
زيد فمنطلق. ولذلك قال بعضهم: هي حرف إخبار مضمن معنى الشرط. فإذا قلت:
أما زيد فمنطلق، فالأصل إن أردت معرفة حال زيد فزيد منطلق، حذفت أداة
الشرط وفعل الشرط، وأنيبت أما مناب ذلك.
والجمهور يقدرون أما بمهما يكن من شيء، كما تقدم. فإذا قلت: أما زيد
فمنطلق، فالتقدير: مهما يكن من شيء فزيد منطلق. فحذف فعل الشرط وأداته،
وأقيمت أما مقامهما، فصار التقدير:
(1/522)
أما فزيد منطلق. فأخرت الفاء إلى الجزء
الثاني، لضرب من إصلاح اللفظ.
قال صاحب رصف المباني: ولا يلزم تكريرها، خلافاً لبعضهم. فإنه يرى أن
التفصيل لا يكون إلا بتكرار الفصل بينه وبين الأول. وهذا غير لازم.
اللهم، إن كان في اللفظي فنعم. وأما المعنوي فلا يلزم. انتهى.
وذهب ثعلب إلى أن أما جزءان، وهي إن الشرطية وما، حذف فعل الشرط بعدها،
ففتحت همزتها مع حذف الفعل، وكسرت مع ذكره.
ولأما أحكام: فمنها أن الفاء بعدها لازمة لا تحذف، إلا مع قول أغنى عنه
المحكي به، كقوله تعالى " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم ". أي: فيقال
لهم أكفرتم.
(1/523)
أو في ضرورة شعرية، كقول الشاعر:
فأما القتال لا قتال لديكم ... ولكن سيراً، في عراض المواكب
قيل: أو في ندور، كما جاء في صحيح البخاري: أما بعد ما بال رجال. أي
فما بال رجال.
ومنها أنه لا يجوز أن يفصل بين أما والفاء بجملة، إلا إن كانت دعاء،
بشرط أن يتقدم الجملة فاصل بينها وبين أما. نحو: أما اليوم، رحمك الله،
فالأمر كذا.
(1/524)
ولا يلي أما فعل، لأنها قائمة مقام شرط
وفعل شرط. فلو وليها فعل لتوهم أنه فعل الشرط. وإنما يليها مبتدأ، نحو:
أما زيد فقائم. أو خبر، نحو: أما قائم فزبد. وفي كتاب الصفار أن الفصل
بينهما بالخبر قليل. أو مفعول مقدم، نحو " فأما اليتيم فلا تقهر ". أو
مفعول بفعل مقدر، يفسره المذكور، نحو: أما زيداً فأكرمته. أو ظرف، نحو:
أما اليوم فأقوم. أو مجرور، نحو وأما بنعمة ربك فحدث ". أو حال، نحو:
أما مسرعاً فزيد ذاهب. أو مفعول له، نحو: أما العلم فعالم. أو مصدر،
نحو: أما ضرباً فاضرب. أو شرط، نحو " فأما إن كان من المقربين فروح ".
ومذهب سيبويه أن الجواب في ذلك لأما، لا للشرط، وحذف جواب الشرط،
لدلالة جواب أما عليه. ولذلك لزم معنى جواب أما عليه. وذهب الفارسي، في
أحد قوليه، إلى أن الجواب
(1/525)
للشرط، وجواب أما محذوف. وقوله الآخر كمذهب
سيبويه. وذهب الأخفش إلى أن الفاء وما بعدها جواب لأما وللشرط معاً.
والأصل: مهما يكن م شيء فإن كان من المقربين فروح. ثم تقدمت إن والفعل
الذي بعدها، فصار التقدير: فأما إن كان من المقربين ففروح. فالتقت
فاءان، فأغنت إحداهما عن الأخرى، فصار فروح.
ومنها أن الفاء، الواقعة جواباً لها، يجوز أن يعمل ما بعدها فيما
قبلها. وهذا متفق عليه في الجملة. واختلفوا في شرط ذلك. فذهب سيبويه،
والمازني، والزجاج، وابن السراج، إلى اعتبار ذلك بأن يقدر حذف أما وحذف
الفاء. فما جاز أن يعمل فيه، بعد تقدير حذفهما، جاز أن يعمل فيه مع
وجودهما. وما لا فلا. فلذلك منعوا: أما زيداً فإني ضارب. وذهب المبرد،
وابن درستويه، إلى أن ما بعد إن يجوز أن يعمل فيما قبل الفاء. فأجازا:
أما زيداً فإني ضارب. وقيل: يجوز ذلك في الظرف والمجرور، نحو: أما
اليوم فإني ذاهب،
(1/526)
وأما في الدار فإن زيداً جالس. وأجاز
الفراء تقديم معمول ما بعد إن على الفاء، وفاقاً للمبرد. وزاد أنه أجاز
ذلك في ليت ولعل وكل ما يدخل على المبتدأ.
ومنها أنها قد تبدل ميمها الأولى ياء، فيقال أيما. وأنشدوا:
رأت رجلاً، أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحى، وأما بالعشي فيخصر
ومنها أن أما قد تعمل في الظرف، والحال، والمجرور. قيل: والتحقيق أن
العمل للفعل الذي نابت عنه. فإذا قلت: أما علماً فعالم، فعلماً حال،
وعاملها فعل الشرط المحذوف، وصاحبها هو المرفوع بفعل الشرط. وفي هذه
المسألة طول، لا يليق بهذا الموضع.
ويشتبه بلفظ أما التفصيلية لفظان آخران: أحدهما
(1/527)
مركب من أم المنقطعة وما الاستفهامية،
كقوله تعالى " أماذا كنتم تعملون ". والآخر مركب من أن المصدرية وما
التي هي عوض من كان، كقول الشاعر.
أبا خراشة، أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع
والله أعلم.
إما بكسر الهمزة
حرف من حروف العطف، عند أكثر النحويين هكذا نقل ابن
(1/528)
مالك عنهم. ونقل عن يونس، وأبي علي، وابن
كيسان، أنها ليست بعاطفة. قال: وبه أقوال، تخلصاً من دخول عاطف على
عاطف، ولأن وقوعها بعد الواو، مسبوقة بمثلها، شبيه بوقوع لا بعد الواو
مسبوقة بمثلها، في مثل: لا زيد ولا عمرو فيها. ولا هذه غير عاطفة،
بإجماع. فلتكن إما كذلك.
ونقل ابن عصفور اتفاق النحويين على أن إما ليست بعاطفة، وإنما أوردوها
في حروف العطف، لمصاحبتها لها. قلت: عد سيبويه إما من حروف العطف، فحمل
بعضهم كلامه على ظاهره، وقال: الواو رابطة بين إما الأولى وإما
الثانية. واستدل الرماني، على أنها عاطفة، بأن الواو للجمع، وليست هنا
كذلك، لأنا نجد الكلام لأحد الشيئين، فعلم أن العطف لإما. وقال بعض
المتأخرين: الواو عطفت إما الثانية على إما الأولى، وإما الثانية عطفت
الأسم الذي بعدها على الأسم الذي بعد الأولى. وتأول بعضهم كلام سيبويه
بأن إما لما كانت صاحبة المعنى،
(1/529)
ومخرجة الواو عن الجمع، والتابع يليها،
سماها عاطفة مجازاً.
وهذا الخلاف إنما هو في إما الثانية، في نحو: قام إما زيد وإما عمرو.
ولا خلاف في أن الأولى غير عاطفة، لأنها بين الفعل ومرفوعة. وذلك واضح.
ويتعلق بإما مسائل: الأولى: في معناها، وهي خمسة: الشك نحو: قام إما
زيد وإما عمرو. والإبهام نحو " وآخرون مرجون لأمر الله، إما يعذبهم
وإما يتوب عليهم ". والتخيير نحو " إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم
حسناً ". والإباحة نحو: جالس إما الحسن وإما ابن سيرين. والتفصيل نحو "
إما شاكراً وإما كفوراً ".
وتقدم الفرق بين الشك والإبهام، وبين التخيير والإباحة، في أو. وإما في
ذلك مثل أو. وزاد بعضهم أو وإما معنى سادساً. وهو أن تكونا لإيجاب أحد
الشيئين، في وقت دون
(1/530)
وقت. نحو قولك للشجاع: إنما أنت إما طعن
وإما ضرب.
الثانية: في الفرق بين أو وإما. والفرق بينهما من ثلاثة أوجه. الأول:
أن أو قد تكون بمعنى الواو وبمعنى بل، عند بعضهم، كما تقدم. وإما لا
تكون كذلك. والثاني: أن إما لا بد من تكرارها، في الغالب، بخلاف أو،
فإنها لا تكرر. والثالث: أن الكلام مع إما مبني من أوله على ما جيء بها
لأجله، من شك وغيره، بخلاف أو فإن الكلام معها قد يفتتح على الجزم، ثم
يطرأ الشك أو غيره. ولهذا وجب تكرار إما في غير ندور.
الثالثة: قد يستغنى عن الثانية بأو. كقراءة من قرأ " وإنا أو إياكم
لإما على هدى، أو في ضلال مبين ". وهو في الشعر كثير، كقول الشاعر:
وقد شفني أن لا يزال يروعني ... خيالك، إما طارقاً، أو مغاديا
(1/531)
وقد يستغنى عنها أيضاً بإن الشرطية، مع لا
النافية، كقول الشاعر:
فإما أن تكون أخي، بصدق ... فأعرف منك غثي، من سميني
وإلا فاطر حني، واتخذني ... عدواً، أتقيك، وتتقيني
ونص النحاس على أن البصريين لا يجيزون فيها إلا التكرار. وأجاز الفراء
ألا تكرر، وأن تجرى مجرى أو. وقال الفراء: يقولون: عبد الله يقوم وإما
يقعد.
وقال ابن مالك: وقد يستغنى عن الأولى بالثانية، كقول الشاعر:
(1/532)
تهاض بدار، قد تقادم عهدها ... وإما بأموات
ألم خيالها
أي إما بدار، فحذف. وربما استغني عن واو وإما كقول الشاعر:
يا ليتما أمنا شالت نعامتها ... إما إلى جنة، إما إلى نار
وهو نادر.
الرابعة: اختلف في إما هذه. فقيل: بسيطة. واختاره
(1/533)
الشيخ أبو حيان، لأن الأصل البساطة. وقيل:
هي مركبة من إن وما. وهو مذهب سيبويه. والدليل عليه اقتصارهم على إن في
الضرورة، كقول الشاعر:
وقد كذبتك نفسك، فاكذبنها ... فإن جزعاً، وإن إجمال صبر
أي: فإما جزعاً، وإما إجمال صبر. فحذفت ما اكتفي بإن. وأجيب بأنه يحتمل
أن تكون إن في البيت شرطية حذف جوابها. والتقدير: فإن كنت ذا جزع
فاجزع، إن كنت مجمل صبر فاصبر.
وعلى القول بالتركيب قالوا: قد تحذف إما الأولى، تحذف ما من الثانية،
كقول الشاعر:
سقته الرواعد، من صيف ... وإن من خريف فلن يعدما
(1/534)
أي: إما من صيف، وإما من خريف. على ذلك
أنشده سيبويه. وذهب الأصمعي، والمبرد، إلى أن إن في البيت شرطية،
والفاء فاء الجواب، والتقدير: وإن سقته من خريف فلن يعدم الري، وذهب
أبو عبيدة إلى أن إن زائدة، والتقدير: من صيف ومن خريف.
الخامسة: في إما أربع لغات: كسر الهمزة، وفتحها، وإبدال ميمها الأولى
ياء مع الكسر، والفتح. وفتح همزتها لغة قيس وتميم وأسد. وبالإبدال
أنشدوا:
لا تفسدوا آبالكم ... إيما لنا، إيما لكم
السادسة: ذهب الكسائي إلى أن إما قد تكون جحداً. تقول: إما زيد قائم.
تريد: إن زيد قائم. وما صلة.
وتشتبه بلفظ إما المتقدمة إما المركبة من إن الشرطية وما الزائدة. نحو
" إما تخافن من قوم خيانة
(1/535)
فاسد إليهم ". وهي ظاهرة. والله سبحانه
أعلم.
أنتم
إذا وقع فصلاً. فيه خلاف تقدم ذكره في نظائره.
إيا في إياك وأخواته
للنحويين فيها مذاهب: الأول: أن إيا اسم مضمر، ولواحقه - أعني الياء،
والكاف، والهاء - حروف تبين أحوال الضمير، من تكلم، وخطاب، وغيبة. وهو
مذهب سيبويه، واختاره الفارسي، وابن جني. ونسبه صاحب البديع إلى
الأخفش.
الثاني: أن إيا اسم مضمر، ولواحقه ضمائر. وهو مضاف إليها. ولا يعلم
ضمير أضيف، غيره وهذا مذهب الخليل، والمازني. واختاره ابن مالك، ونسبه
إليهما، وإلى الأخفش.
الثالث: أن إيا اسم ظاهر مبهم، ولواحقه ضمائر مجرورة
(1/536)
بإضافته إليها. وهو مذهب الزجاج.
الرابع: أن إياك بكماله اسم واحد مضمر. ونسب للكوفيين.
الخامس: أن إياك بكماله اسم واحد، ظاهر مبهم. حكاه بعضهم. وهو غريب.
السادس: أن إيا دعامة، تعتمد عليها اللواحق، لتفصل عن المتصل. وهو مذهب
الفراء. ولم يصرحوا بأن هذه الدعامة، عند الفراء، اسم أو حرف. ولكنهم
ردوا عليه بما يدل على أنها اسم. فإنهم قالوا: إن جعل أيا دعامة فاسد،
لأن الأسم لا يسوغ أن يكون دعامة. وصرح صاحب رصف المباني بأن إيا حرف.
قال: لأنه لا معنى له في نفسه. وإنما معناه في غيره، كسائر الحروف.
ومعناه هنا الاعتماد عليه في النطق بالمضمر المتصل.
وقد بسطت الكلام على هذه المسألة، في غير هذا الكتاب. وإنما ذكرت إيا
هنا، لأجل القول بحرفيتها.
وعلى هذه الأقوال كلها فليست مشتقة. وذهب أبو عبيدة إلى
(1/537)
أنه مشتق. وهو ضعيف. قالوا: ولم يكن أبو
عبيدة يحسن النحو، وإن كان إماماً في اللغة وأيام العرب. وعلى القول
بالاشتقاق فمن أي شيء اشتق؟ فيه أقوال، لا نطول بذكرها. والله أعلم.
أيمن المستعمل في القسم
ذهب الزجاج، والرماني، إلى أنه حرف جر. وشذا في ذلك. وذهب الجمهور إلى
أنه اسم، ثم اختلفوا.
فقال سيبويه، والبصريون: إنه اسم مفرد، همزته همزة وصل مفتوحة، كهمزة
لام التعريف. وهو مشتق من اليمن. وقد حكي كسر همزته.
وقال الكوفيون: هو جمع يمين. واعتذروا عن وصل همزته، بكثرة الاستعمال.
على أن أبا الحسن قد حكى قطعها. وقولهم في ذلك ضعيف، لثلاثة أوجه
الأول: أن هذا همزته همزة وصل وأيمن
(1/538)
الذي هو جمع يمين همزته قطع، كقول زهير:
فتجمع أيمن، منا، ومنكم ... بمقسمة، تمور بها الدماء
والظاهر أنه غيره، ولا عدول عن الظاهر بلا دليل. الثاني: من العرب من
يكسر همزته، في الابتداء. وهمزة الجمع لا تكسر. الثالث: أن من العرب من
يفتح ميمه، فيكون على وزن افعل. ولا يوجد ذلك في الجموع. وذكر بعضهم
وجهاً رابعاً. وهو أنه لو كان جمع يمين لجاز فيه من الإعراب ما جاز في
مفرده، من النصب، والرفع. واعترض بأنهم قد يخصون بعض الألفاظ بأحكام.
واحتج الكوفيون بأن همزته مفتوحة، وهمزة الوصل في الأسماء لا تكون
مفتوحه. وبأن أفعل بناء جمع، ولا يوجد في الآخاد.
وقال الشلوبين: أيمن مغير كامرئ وابن. فلا يطالب بوزنه، كما لا يطالب
بوزن امرئ. إذ ليس في الكلام
(1/539)
مثله. قال ابن طاهر: وهو مغير عند سيبويه
من يمين. وقال غيره: هو مغير من فعل اسم مشتق من اليمين، كامرئ مغير من
مرء. وقال الأخفش: إن سميت بأيمن، ثم صغرته، قلت: يمين. قال ابن خروفك
وهو قول صحيح.
ويتعلق بأيمن مسألتان:
الأولى في حكمه. وهو اسم، يلزمه الرفع بالابتداء. وأجاز ابن درستويه
جره بواو القسم، نحو: وأيمن الله. وقد تدخل عليه لام الابتداء. ويلزم
الإضافة إلى اسم الله تعالى. وقد أضيف إلى الكعبة، في قولهم: أيمن
الكعبة. وإلى الكاف، في قول عروة بن الزبير: ليمنك لئن ابتليت لقد
عافيت. وإلى الذي، كقول النبي صلى الله عليه وسلم ويم الذي نفس محمد
بيده. وقد أضيف إلى
(1/540)
غير ذلك في الشعر؛ أنشد الكسائي:
ليمن أبيهم لبئس العذرة اعتذروا
الثانية في لغاتها. وهي عشرون لغة: أيمن، بفتح الهمزة وضم الميم. وهي
المشهورة. وأيمن، بكسر الهمزة وضم الميم. وهي المشهورة. وأيمن، بكسر
الهمزة وضم الميم. وايمن، بفتح الهمزة وفتح الميم. وأيم، بفتح الهمزة
وحذف النون. وأيم، بكسر الهمزة وحذف النون. والميم مضمومة فيهما. وضم
الميم في هاتين اللغتين علامة رفع. وام، بكسر الهمزة وضم الميم. وحكى
بعضهم أم الله بضم الميم، وفتحها، وكسرها، ثلاث لغات. وأم الله بفتح
الهمزة وضم الميم، أو كسرها، أو فتحها. ثلاث لغات. وأم الله بفتح
الهمزة وضم الميم، أو كسرها، أو فتحها. ثلاث لغات. ومن، بضم الميم
والنون، أو فتحهما، أو كسرهما. وم الله بميم مضمومة، أو مفتوحة، أو
مكسورة. وهيم الله بإبدال همزة أيم هاء. وأيم الله بهمزة مكسورة وميم
مكسورة أيضاً. وكسرة الميم عند الأخفش بحرف
(1/541)
قسم مقدر. وقيل: هو مبني. وهذه كلمة كثرت
لغاتها، لكثرة استعمال العرب لها. والله أعلم.
حتى
حرف، له عند البصريين ثلاثة أقسام: يكون حرف جر، وحرف عطف، وحرف
ابتداء. وزاد الكوفيون قسماً رابعاً، وهو أن يكون حرف نصب، ينصب الفعل
المضارع. وزاد بعض النحويين قسماً خامساً، وهو أن يكون بمعنى الفاء.
ولا بد من بيان هذه الأقسام واحداً واحداً.
الأول: حتى الجارة. ومعناها انتهاء الغاية. ومذهب البصريين أنها جارة
بنفسها. وقال الفراء: تخفض، لنيابتها عن إلى. وربما أظهروا إلى بعدها.
قالوا: جاء الخبر حتى إلينا. جمعوا بينهما على تقدير إلغاء أحدهما.
ومجرورها إما اسم صريح، نحو " حتى حين "، أو مصدر مؤول من أن والفعل
المضارع، نحو
(1/542)
" حتى يقول الرسول "، لأن التقدير: حتى أن
يقول.
هذا مذهب البصريين. وزاد ابن مالك، في أقسام مجرورها، أن يكون مصدراً
مؤولا من أن وفعل ماض، نحو " حتى عفوا وقالوا ". قال الشيخ أبو حيان:
ووهم في هذا، لأن حتى ههنا ابتدائية، وأن غير مضمرة بعدها.
ولمجرورها شرطان: الأول: أن يكون ظاهراً، فلا تجر الضمير هذا مذهب
سيبويه، وجمهور البصريين. وأجازه الكوفيون، والمبرد، كقول الشاعر:
(1/543)
فلا، والله، لا يلفي أناس ... فتى، حتاك،
يابن أبي يزيد
وهذا عند البصريين ضرورة.
والثاني: أن يكون آخر جزء، أو ملاقي آخر جزء. فمثال كونه آخر جزء: أكلت
السمكة حتى رأسها. ومثال كونه ملاقي آخر جزء: سرت النهار حتى الليل.
ولو قلت أكلت السمكة حتى نصفها، أو ثلثها لم يجز. قال الزمخشري: لأن
الفعل المتعدي بها الغرض فيه أن ينقضي شيئاً فشيئاً، حتى يأتي عليه.
وقال ابن مالك: هذا لا يلزم. واستدل بقول الشاعر:
عينت ليلة، فما زلت حتى ... نصفها راجياً، فعدت يؤوسا
قال الشيخ أبو حيان: ولا حجة في هذا البيت، لأنه لم يتقدم حتى
(1/544)
ما يكون ما بعدها جزءاً منه، ولا ملاقياً
لآخر جزء منه. فلو صرح، في الجملة، بذكر الليل، فقال فما زلت راجياً
وصلها تلك الليلة حتى نصفها كان حجة.
واختلف في المجرور بحتى هل يدخل فيما قبلها أو لا؟ فذهب المبرد، وابن
السراج، وأبو علي، وأكثر المتأخرين، إلى أنه داخل. وقال ابن مالك: حتى
لانتهاء العمل بمجرورها، أو عنده. يعني أنه يحتمل أن يكون داخلاً فيما
قلبها، أو غير داخل، فإذا انتهى الضرب به. ويجوز أن يكون غير مضروب،
انتهى الضرب عنده. وذكر أن سيبويه والفراء أشارا إلى ذلك. وحكى عن ثعلب
أن حتى للغاية، والغاية تدخل وتخرج. يقال: ضربت القوم حتى زيد فيكون
مرة مضروباً، ومرة غير مضروب. وحكى في الإفصاح عن الفراء، والرماني،
أنهما قالا: يدخل ما لم يكن
(1/545)
غير جزء، نحو: إنه لينام الليل حتى الصباح.
قال: وصرح سيبويه بأن ما بعدها داخل فيما قبلها، ولا بد. لكنه مثل بما
هو بعض.
فإن قلت: حتى وإلى كلاهما لانتهاء الغاية، فهل بينهما فرق؟ قلت: بينهما
فروق: الأول: أن مجرور إلى يكون ظاهراً وضميراً، بخلاف حتى فإن مجرورها
لا يكون ضميراً. الثاني: أن مجرور إلى لا يلزم كونه آخر جزء أو ملاقي
آخر جزء. تقول: أكلت السمكة إلى نصفها. بخلاف حتى. الثالث: أن أكثر
المحققين على أن إلى لا يدخل ما بعدها فيما قبلها بخلاف حتى.
القسم الثاني: حتى العاطفة، نحو: قدم الحجاج حتى المشاة، ورأيت الحجاج
حتى المشاة، ومررت بالحجاج حتى المشاة. فهذه حرف عطف، تشرك في الإعراب
والحكم. وقد روى سيبويه، وغيره من أئمة البصريين، والعطف بها. وخالف
الكوفيون، فقالوا: حتى ليست بعاطفة. ويعربون ما بعدها، على إضمار عامل.
(1/546)
وللمعطوف بحتى شرطان: الأول: أن يكون بعض
ما قبلها، أو كبعضه. فمثال كونه بعضاً: قدم الحجاج حتى المشاة. ومثال
كونه كبعض: قدم الصيادون حتى كلابهم. وقد يكون مبايناً، فتقدر بعضيته
بالتأويل، كقول الشاعر:
ألقى الصحيفة، كي يخفف رحله ... والزاد، حتى نعله ألقاها
لأن المعنى: ألقى ما يثقله حتى نعله. ولا يكون إلا واحداً من جمع، نحو:
أكلت السمكة حتى رأسها. فلو قلت ضربت الرجلين حتى أفضلهما لم يجزم لأنه
ليس جزءاً من أجزاء المعطوف، ولا واحداً من جمع.
(1/547)
قلت: هذا الشرط ذكره النحويون، في باب
العطف، ولم أرهم ذكروه في باب الجر، إلا ابن مالك فإنه قال: ومجرورها،
يعني حتى، إما بعض لما قبلها، من مفهم جمع إفهاماً صريحاً، أو غير
صريح، وإما كبعض. قال: عنيت بالصريح كونه بلفظ موضوع للجمعية، فيدخل في
ذلك الجمع الاصطلاحي واللغوي، كرجال وقوم. وعنيت بغير الصريح ما دل على
الجمعية، بلفظ غير لها، كقوله تعالى " ليسجننه حتى حين ". فإن مجرور
حتى فيه منتهى لأحيان، مفهومة، غير مصرح بذكرها. انتهى ما ذكره. وعندي
فيه نظر. فإن المجرور بحتى قد يكون ملاقياً لآخر جزء. نحو: سرت النهار
حتى الليل.
الثاني: أ، يكون غاية لما قبلها، في زيادة، أو نقص. والزيادة تشمل
القوة والتعظيم. والنقص يشمل الضعف والتحقير. وقد اجتمعت الزيادة
والنقص، في قول الشاعر:
(1/548)
قهرناكم، حتى الكماة، فإنكم ... لتخشوننا،
حتى بنينا، الأصاغرا
فإن قلت: ما الفرق بين حتى الجارة وحتى العاطفة؟ قلت: الفرق بينهما من
أوجه: الأول: أن العاطفة يدخل ما بعدها في حكم ما قبلها. وأما الجارة
فقد يدخل وقد لا يدخل، كما سبق. فالذي بعد العاطفة يكون الانتهاء به.
والذي بعد الجارة قد يكون الانتهاء به، وقد يكون الانتهاء عنده.
الثاني: أن العاطفة يلزم أن يكون ما بعدها غاية لما قبلها، في زيادة،
أو نقص. وأما الجارة ففيها تفصيل؛ وهو أن مجرورها إن كان بعض ما قبله
من مصرح به، وكان منتهى به، فهو كالمعطوف، في اعتبار الزيادة والنقص.
وإن كان بعضاً لشيء لم يصرح به، نحو " ليسجننه حتى حين "، أو كان منتهى
عنده، لم يعتبر فيه ذلك.
(1/549)
الثالث: أنا ما بعده الجارة قد يكون
ملاقياً لآخر جزء، بخلاف العاطفة، وقد تقدم.
تنبيه
قد ظهر، بما ذكرته، أن الجارة أعم، لأن كل موضع جاز فيه العطف يجوز فيه
الجر، ولا عكس، لأن الجر يكون في مواضع لا يجوز فيها العطف. منها أن
يقترن بالكلام ما يدل على أن ما بعدها غير شريك لما قبلها. نحو: صمت
الأيام حتى يوم الفطر. فهذا يجب فيه الجر. ومنها ألا يكون قبلها ما
يعطف عليه، نحو " حتى مطلع الفجر "، و " حتى حين ". فيجب الجر أيضاً.
قال ابن هشام في الإفصاح: اتفقوا على أنها لا يعطف بها، إلا حيث تجر،
ولا يلزم العكس.
وتتعلق بحتى العاطفة مسائل، نذكرها مختصرة: الأولى: أن حتى بالنسبة إلى
الترتيب كالواو، خلافاً لمن زعم أنها للترتيب، كالزمخشري.
(1/550)
الثانية: لا تكون حتى عاطفة للجمل. وإنما
تعطف مفرداً على مفرد. وذلك مفهوم من اشتراط كون معطوفها بعض المعطوف
عليه.
الثالثة: حيث جاز العطف والجر فالجر أحسن، إلا في نحو: ضربت القوم حتى
زيداً ضربته فالنصب أحسن، وله وجهان: أحدهما أن تكون عاطفة، وضربته
توكيداً. والآخر أن تكون ابتدائية، وضربته مفسراً لناصب زيد من باب
الاشتغال.
الرابعة: إذا عطف بحتى على مجرور. قال ابن عصفور: الأحسن إعادة الجار،
ليقع الفرق بين العاطفة والجارة. وقال ابن الخباز: لزم إعادة الجار،
فرقاً بينها وبين الجارة. وقال ابن مالك في التسهيل: لزم إعادة الجار
ما لم يتعين العطف. ومثل بعجبت من القوم حتى بنيهم. وفيه نظر.
القسم الثالث: حتى الابتدائية. وليس المعنى أنها يجب أن
(1/551)
يليها المبتدأ والخبر. بل المعنى أنها
صالحة لذلك. وهي حرف ابتداء، يستأنف بعدها الكلام، فيقع بعدها المبتدأ
والخبر، كقول جرير:
فما زالت القتلى تمج دماءها ... بدجلة، حتى ماء دجلة أشكل
ويليها الجملة الفعلية، مصدرة بمضارع مرفوع، نحو " وزلزلوا حتى يقول
الرسول "، على قراءة الرفع، أو بماض، نحو قوله تعالى " حتى عفوا وقالوا
".
والجملة بعدها لا محل لها من الإعراب، خلافاً للزجاج. فإنه ذهب إلى أن
حتى هذه جارة، والجملة في موضع جر بحتى. وهو ضعيف. قال ابن الخباز:
لأنه يفضي إلى تعليق حرف الجر عن العمل، وذلك غير معروف.
وحتى هذه - أعني الابتدائية - تدخل على جملة مضمونها
(1/552)
غاية لشيء قبلها، فتشارك الجارة والعاطفة،
في معنى الغاية.
وقد اجتمعت الثلاثة، في قول الشاعر:
ألقى الصحيفة، كي يخفف رحلة ... والزاد، حتى نعله ألقاها
يروى بجر النعل على أن حتى جارة، وبنصها على وجهين: أحدهما أنها عاطفة،
والآخر أنها ابتدائية، والنصب بفعل مقدر، يفسره الظاهر، من باب
الاشتغال. والرفع على أنها ابتدائية، ونعله مبتدأ، وألقاها خبره. ويروى
بالثلاثة أيضاً قول الآخر:
عممتهم بالندى، حتى غواتهم ... فكنت مالك ذي غي، وذي رشد
قال بعضهم: ومذهب البصريين أنه لا يجوز الرفع بالإبتداء، إلا إذا كان
بعده ما يصلح أن يكون خبراً. فإن صح الرفع في غواتهم كان حجة على
الجواز.
(1/553)
القسم الرابع: حتى الناصبة للفعل. هذا
القسم أثبته الكوفيون. فإن حتى عندهم تنصب الفعل المضارع بنفسها.
وأجازوا إظهار أن بعدها توكيداً. ومذهب البصريين أنها هي الجارة،
والناصب أن مضمرة بعدها.
ويتعلق بها مسألتان: الأولى: في معناها. والمشهور أن لها معنيين:
أحدهما الغاية، نحو " قالوا: لن نبرح عليه عاكفين، حتى يرجع إلينا موسى
". والثاني التعليل، نحو: لأسيرن حتى أدخل المدينة. وعلامة كونها
للغاية أن يحسن في موضعها إلى أن وعلامة كونها للتعليل أن يحسن في
موضعها كي.
وزاد ابن مالك في التسهيل معنى ثالثاً، وهو أن تكون بمعنى إلا أن،
فتكون بمعنى الاستثناء المنقطع. كقول الشاعر:
(1/554)
ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتى تجود،
وما لديك قليل
وهو معنى غريب، ذكره ابن هشام، وحكاه في البسيط عن بعضهم. وقول سيبويه
في قولهم والله لا أفعل كذا إلا أن تفعل: والمعنى: حتى أن تفعل، ليس
نصاً على أن حتى إذا انتصب ما بعدها تكون بمعنى إلا أن، لأن ذلك تفسير
معنى. ولا حجة في البيت، لإمكان جعلها فيه بمعنى إلى.
الثانية: شرط الفعل المنصوب بحتى أن يكون مستقبلاً أو مؤولاً
بالمستقبل. ومنه قراءة غير نافع " حتى يقول الرسول ". فهذا مؤول
بالمستقبل. ومعنى ذلك أنه فعل قد وقع، ولكن المخبر يقدر اتصافه بالعزم
عليه، حال الإخبار، فيصير مستقبلاً بالنسبة إلى تلك الحال، فينصب. وإذا
كان الفعل حالاً، أو مؤولاً بالحال، رفع. فالحال نحو: سألت عنك حتى لا
أحتاج إلى سؤال. والمؤول بالحال قراءة نافع " وزلزلوا حتى يقول ".
(1/555)
والمراد بالمؤول بالحال أن يكون الفعل قد
وقع، فيقدر اتصافه بالدخول فيه، فيرفع لأنه حال بالنسبة إلى تلك الحال.
وهنا تنبيهات: الأول: إذا كان الفعل حالاً، أو مؤولاً به، فحتى
ابتدائية.
الثاني: علامة كونه حالاً، أو مؤولاً به، صلاحية جعل الفاء في موضع
حتى. ويجب حينئذ كون ما بعدها فضلة، متسبباً عما قبلها.
الثالث: قد فهم من هذا أن الرفع يمتنع، في نحو: كان سيري حتى أدخلها،
إذا جعلت ناقصة، لأنه لو رفع لكانت ابتدائية، فتبقى كان بلا خبر. وفي
نحو: سرت حتى تطلع الشمس، لانتفاء السببية، خلافاً للكوفيين. وفي نحو:
ما سرت، أو، أسرت حتى تدخل المدينة؟ مما يدل على حدث غير واجب، لأنه لو
رفع لزم أن يكون مستأنفاً، مقطوعاً بوقوعه، وما قبلها سبب له.
(1/556)
وذلك لا يصح، لأن ما قبلها منفي في نحو ما
سرت، ومشكوك في وقوعه في نحو أسرت فيلزم وقوع المسبب مع نفي السبب، أو
الشك فيه.
وأجاز الأخفش الرفع في نحو: ما سرت حتى أدخل المدينة. فقيل: هي مسألة
خلاف بينه وبين سيبويه. وقيل: إنما أجازه على أن يكون أصل الكلام
واجباً، ثم أدخلت أداة النفي على الكلام، بأسره. فنفيت أن يكون عنك سير
كان عنه دخول. قال ابن عصفور: وهذا الذي قاله جيد، وينبغي ألا يعد
خلافاً.
القسم الخامس: حتى التي بمعنى الفاء اعلم أنه قد تقدم، آنفاً، حتى إذا
رفع المضارع بعدها لكونه حالاً، أو مؤولاً به، فهي كالفاء في إفادة
معنى السببية. وتصلح الفاء في موضعها، ولكنها مع ذلك حرف ابتداء، لا
حرف عطف، لأن حتى العاطفة لا تعطف الجمل عند الجمهور.
وذهب أبو الحسن إلى أنها إذا كانت بمعنى الفاء فهي عاطفة،
(1/557)
وتعطف الفعل. وذلك إذا دخلت على الماضي، أو
المستقبل، على جهة وتعطف الفعل على الفعل. وذلك إذا دخلت على الماضي،
أو المستقبل، على جهة السبب. نحو: ضربت زيداً حتى بكى. ولأضربنه حتى
يبكي. وثمرة الخلاف أن الأخفش يجيز الرفع في يبكي، على العطف، والجمهور
لا يجيزون فيه إلا النصب.
ويتعلق به حتى فروع كثيرة. وفيما ذكرته كفاية.
فائدة
في حتى ثلاث لغات: المشهورة، وإبدال حائها عيناً، وهي لغة هذيلية، وبها
قرأ ابن مسعود " ليسجننه حتى حين "، وإمالة ألفها، وهي لغة يمنية.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
حاشا
لها ثلاثة أقسام: الأول: أن تكون فعلاً ماضياً، بمعنى استثنى، ومضارعها
أحاشي. كقول النابغة:
(1/558)
ولا أحاشي، من الأقوام، من أحد
وحكى ابن سيده أن حاشيت بمعنى: استثنيت، وأحاشي بمعنى: أستثني. ولا
إشكال في فعلية هذه.
الثاني: أن تكون للتنزيه. كقوله: حاشى لزيد. وحاشى هذه ليس معناها
الاستثناء، بل معناها التنزيه عما لا يليق بالمذكور. وقد يراد به تنزيه
اسم، فيبتدرون تنزيه اسم الله تعالى، على جهة التعجب، والإنكار على من
ذكر السوء فيمن لم يروه منه. وحاشى هذه - أعني التي للتنزيه - ليست
حرفاً، بلا خلاف. كذا قال ابن مالك. وفيها قولان: أحدهما أنها فعل. وهو
قول المبرد، والكوفيين. وبه قال ابن جني، وغيره، في قوله تعالى " وقلن:
حاشى لله ". واستدلوا على فعليتها، بدخولها على الحرف، وبالتصرف فيها
(1/559)
بالحذف. قلت: وهذان الوجهان يدلان على
انتفاء حرفيتها - أما الأول فظاهر. وأما الثاني فلأن الحذف من الحروف
قليل - ولكنهما لا يدلان على الفعلية، لأن الأسم يشارك الفعل، في هذين
الأمرين.
ثم اختلف القائلون بفعليتها. فقال أكثرهم: فيها ضمير الفاعل. قدره
بعضهم: حاشى يوسف نفسه من الفاحشة لله. وقيل: حاشى يوسف الفعلة لأجل
الله. وهو بمعناه. وقال ابن عطية: حاشى يوسف لطاعته لله، أو لمكانته
عند الله، أو لترفيع الله له أن يرمى بما رمته به، أو يدعى إلى مثله.
لأن تلك أفعال البشر، وهو ليس منهم، إنما هو ملك.
وقال الفراء: حاشى فعل، ولا فاعل له. فإذا قلت: حاشى لله، فاللام
موصولة بمعنى الفعل، والخفض بها. وإذا قلت: حاشى الله، بحذف اللام،
فاللام مرادة، والخفض بها. وهذا قول ظاهر الضعف.
وثانيهما أنها اسم. وهو ظاهر قول الزجاج. وصححه ابن مالك.
(1/560)
قال: الصحيح أنها اسم منتصب انتصاب المصدر،
الواقع بدلاً من اللفظ بالفعل. فمن قال: حاشى لله، فكأنه قال: تنزيهاً
لله. ويؤيد هذا قراءة أبي السمال " حاشى لله " بالتنوين. فهذا مثل
قولهم: رعياً لزيد. وقراءة ابن مسعود " حاشى الله " بالإضافة. فهذا
مثل: سبحان الله، ومعاذ الله. وقال الزمخشري في المفصل: وقولهم حاشى
لله بمعنى براءة لله من السوء.
قلت: وخرج ابن عطية قراءة ابن مسعود على أنها حاشا الجارة. فإن قلت:
إذا قلنا باسمية حاشى فما وجه ترك التنوين، في قراءة الجماعة، وهي غير
مضافة؟ قلت: قال ابن مالك: الوجه فيها أن يكون حاشى مبنياً، لشبهه
بحاشا الذي هو حرف. فإنه شابهه لفظاً ومعنى، فجرى مجراه في البناء.
الثالث: أن تكون من أدوات الاستثناء. نحو: قام القوم حاشا زيد. وفيها
مذاهب: أحدهما: مذهب سيبويه، وأكثر البصريين، أنها حرف
(1/561)
خافض، دال على الاستثناء كإلا. ولا يجيز
سيبويه النصب بها، لأنه لم يبلغه.
والثاني: أنها تكون حرفاً، فتجر، كما ذكر سيبويه. وتكون فعلاً، فتنصب.
بمنزلة خلا وعدا. وهذا مذهب الجرمي، والمازني، والمبر، والزجاج. وهو
الصحيح، لأنه قد ثبت عن العرب الوجهان. وممن حكى النصب بها، عن العرب،
أبو زيد، والفراء، والأخفش، والشياني، وابن خروف، حكى الشيباني، عن بعض
العرب اللهم، اغفر لي، ولمن سمع حاشى الشيطان وابا الإصبع بالنصب ويروى
وابن الأصبغ، وهو بالصاد المهملة والغين المعجمة. ويروى بالوجهين قول
الجميح:
حاشا أبي ثوبان، إن به ... ضناً، عن الملحاة، والشتم
هكذا أنشده المبرد، والسيرافي، وكثير من النحويين. وفيه تخليط من جهة
الرواية. وذلك أنهم ركبوا صدره على عجز غيره. والصواب ما أنشده المفضل:
حاشا أب ثوبان، إن أبا ... ثوبان ليس ببكمة، فدم
عمرو بن عبد الله، إن به ... ضناً، عن الملحاة، والشتم
(1/562)
واستدل المبرد على فعلية أحاشى بتصرفها.
فتقول: حاشيت أحاشي. قال النابغة:
ولا أحاشي، من الأقوام، من أحد
وأجيب بأن أحاشي يجوز أن يكون تصريف فعل، من لفظ
(1/563)
حاشا الذي هو حرف يستثى به. قال بعضهم: ولا
ينكر سيبويه أن ينطق بها فعلاً، في غير الاستثناء. فتكون في الاستثناء
حرفاً، وفي غيره فعلاً. تقول: حاشى لك أن تفعل كذا. ومعناه: جانب لك
السوء. ويتعدى بنفسه، وباللام.
والثالث: أن حاشى فعل لا فاعل له. وإذا خفض الأسم بعده فخفضه باللام
المقدرة. وهو مذهب الفراء، وتقدم ذكره، في القسم الثاني. وقال بعضهم:
ذهب بعض الكوفيين إلى أنها فعل، استعملت استعمال الحروف، فحذف فاعلها.
قلت: والظاهر أن هذا مذهب الفراء.
ويتعلق بحاشا التي يستثنى بها مسائل: الأولى: إذا جر بحاشا فالكلام على
ما يتعلق به كالكلام على ما يتعلق به خلا وعدا، وقد تقدم. وإذا نصب ففي
محل الجملة الخلاف المتقدم في خلا وعدا أيضاً.
الثانية: حاشا تفارق خلا وعدا من وجهين: أحدهما
(1/564)
أن الجر بحاشا أكثر والآخر أن حاشا لا تصحب
ما. قال سيبويه لو قلت: أتوني ما حاشى زيداً، لم يكن كلاماً. وأجازه
بعضهم على قلة. وقال ابن مالك: وربما قيل ما حاشى وهو مسموع من كلامهم.
قال الشاعر:
رأيت الناس ما حاشى قريشاً ... وأنا نحن أفضلهم فعالا
وذكر ابن مالك أن في مسند أبي أمية الطرسوسي، عن ابن عمر، رضي الله
عنهما، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم أسامة أحب الناس إلي،
ما حاشى فاطمة.
(1/565)
الثالثة: إذا استثني بحاشى ضمير المتكلم،
وقصد الجر قيل حاشاي، كما قال الشاعر:
في فتية، جعلوا الصليب إلههم ... حاشاي، إني مسلم، معذور
وإذا قصد النصب قيل حاشاني، بنون الوقاية. قال الفراء: من نصب بحاشى
قال حاشاني، كما يقال عداني. قال الشاعر:
تمل الندامى، ما عداني، فإنني ... بكل الذي، يهوى نديمي، مولع
الرابعة: إذا نصب بحاشى فهي فعل غير متصرف، لأنها واقعة موقع إلا،
ومؤدية معناها. فلا تتصرف كما لا تتصرف عدا وخلا وليس ولا يكون. بل هي
أحق بالمنع، لأن فيها، مع مساواتها للأربع، شبهها بحاشا الحرفية لفظاً
ومعنى.
(1/566)
وزعم المبرد أن حاشى مضارع حاشى التي
يستثنى بها. وقد تقدم أنه استدل بذلك على فعليتها. قال ابن مالك: وهذا
غلط، وأما أحاشي فإنه مضارع حاشيت بمعنى: استثيت. وهو فعل متصرف، مشتق
من لفظ حاشى المستثنى بها، كما اشتق سوفت من لفظ سوف، ولوليت من لفظ
لولا، ولاليت من لفظ لا، وأيهت من لفظ إيهاً. وأمثال ذلك كثيرة.
الخامسة: في حاشى التي يستثنى بها لغتان: حاشى بإثبات الألفين، وحشى
بحذف الألف الأولى، كقول الشاعر:
حشى رهط النبي، فإن منهم ... بحوراً، لا تكدرها الدلاء
وأما التي للتنزيه ففيها ثلاث لغات: هاتان المذكورتان، وحاش بحذف الألف
الثانية. وزاد في التسهيل: حاش بإسكان الشين. وقد قرئ بالأربع " حاشا
لله ": قرأ أبو عمرو
(1/567)
حاشا لله بالألف. وقرأ باقي السبعة حاش لله
بحذفها. وقرأ بعضهم حشى لله بحذف الألف الأولى. وقرأ الحسن حاش لله
بالإسكان. وفيه جمع بين ساكنين، على غير حده. وظاهر كلام ابن مالك في
الألفية أن اللغات الثلاث في حاشا التي يستثنى بها. وقال غيره: إن حاش
لم يستثن بها. والله أعلم.
كأن
حرف، ينصب الأسم، ويرفع الخبر، من أخوات إن. ومذهب الخليل، وسيبويه،
والأخفش، وجمهور البصريين، والفراء، أنها مركبة من كاف التشبيه وإن.
فأصل الكلام عندهم: إن زيداً كالأسد. ثم قدما الكاف، اهتماماً
بالتشبيه، ففتحت إن، لأن المكسورة لا يدخل عليها حرف الجر. قال
الزمخشري: والفصل بينه وبين الأصل أنك ههنا بان كلامك على التشبيه، من
أول الأمر. وثم بعد مضي صدره على الإثبات.
وهل تتعلق الكاف، على هذا، بشيء؟ قال أبو الفتح:
(1/568)
لا تتعلق بشيء، وليست بزائدة، لأن معنى
التشبيه فيها موجود. وقد بقي النظر في أن التي دخلت عليها؛ هل هي
مجرورة بها أو غير مجرورة؟ فأقوى الأمرين عندي أن تكون مجرورة بالكاف.
انتهى. وقال الزجاج: الكاف في موضع رفع. فإذا قلت كأني أخوك ففي الكلام
عنده حذف، وتقديره: كأخوتي إياك موجود. لأن أن وما عملت فيه بتقدير
مصدر. قال ابن عصفور: وما ذهب إليه أبو الفتح أظهر، من جهة أن العرب لم
تظهر ما ادعي أبو إسحاق إضماره.
قلت: الصحيح أن الكاف لا تتعلق بشيء، وأن ما بعدها ليس في موضع جر بها،
لأن التركيب صير أن والكاف حرفاً واحداً. وفي هذا الموضع بحث، لا يليق
بهذا المختصر.
وذهب بعضهم إلى أن كأن بسيطة غير مركبة. واختاره صاحب رصف المباني،
ونسبه إلى أكثرهم، واستدل له بأوجه: منها أن الأصل البساطة، والتركيب
طارئ. ومنها أنه لو كان مركباً لكانت الكاف حرف جر، فيلزمها ما تتعلق
به، إذ ليست
(1/569)
بزائدة. ومنها أن الكاف إذا كانت داخلة على
أن لزم أن تكون وما عملت فيه في موضع مصدر، مخفوض بالكاف، فترجع الجملة
التامة جزء جملة، فيكون التقدير في كأن زيداً قائم: كقيام زيد. فيحتاج
إلى ما يتم الجملة، وكأن زيداً قائم كلام قائم بنفسه، لا محاله. ومنها
أنه لا يتقدر بالتقديم والتأخير، في بعض المواضع. فتقول: كأن زيداً قام
وكأن زيداً في الدار، وكأن زيداً عندك، وكأن زيداً أبوه قائم.
قلت: وفي نسبة القول بالبساطة إلى أكثرهم نظر. فإن الظاهر أن الأكثر
يقولون بالتركيب. ولعدم اشتهار القول بالبساطة، قال ابن هشام: لا خلاف
في أن كأن مركبة، من أن وكاف التشبيه.
وجملة معاني كأن أربعة معان: الأول: التشبيه. ولم يثبت لها أكثر
البصريين غيره. وقال ابن مالك: هي للتشبيه المؤكد؛ فإن الأصل إن زيداً
كالأسد،
(1/570)
فقدمت الكاف، وفتحت أن، وصار الحرفان
واحداً، مدلولاً به على التشبيه، والتوكيد.
الثاني: التحقيق. ذهب الكوفيون، والزجاجي، إلى أنها قد تكون للتحقيق،
دون تشبيه. وجعلوا منه قول عمر بن أبي ربيعة:
كأنني، حين أمسي لا تكلمني ... ذو بغية، يشتهي ما ليس موجوداً
ورد بأن التشبيه فيه بين بأدنى تأمل. واستدلوا أيضاً، بقول الشاعر:
فأصبح بطن مكة مقشعراً ... كأن الأرض ليس بها هشام
وأجيب بأن بالمعنى: أن بطن مكة كان حقه ألا يقشعر، لأن
(1/571)
هشاماً في أرضه، وهو قائم مقام الغيث، فلما
اقشعر صارت أرضه كأنها ليس بها هشام، فهي للتشبيه. وقال ابن مالك:
يتخرج على أن هشاماً وإن مات فهو باق ببقاء من خلفه، سائراً بسيرته.
قال: وأجود من هذا أن تجعل الكاف من كأن للتعليل، في هذا الموضع، وهي
المرادفة للام، كأنه قيل: لأن الأرض ليس بها هشام.
الثالث: أن تكون للشك، بمنزلة ظننت. ذهب إلى ذلك الكوفيون، والزجاجي.
قالوا: إن كان خبرها اسماً جامداً كانت للتشبيه. وإن كان مشتقاً كانت
للشك، بمنزلة ظننت. وإلى هذا ذهب ابن الطراوة، وابن السيد. قال ابن
السيد: إذا كان خبرها فعلاً، أو جملة، أو صفة، فهي للظن والحسبان، نحو:
كأن زيداً قام، وكأن زيداً أبوه قائم، وكأن زيداً قائم.
والصحيح أنها للتشبيه؛ فإذا قلت كأن زيداً قائم كنت
(1/572)
قد شبهت زيداً، وهو غير قائم، به قائماً.
والشيء يشبه، في حالة ما، به في حالة أخرى. قاله ابن ولاد. وقيل: في ال
كلام حذف، والمعنى: كأن هيئة زيد
هيئة قائم. فحذف. قاله أبو علي. قال بعضهم: والتوجيه الأول أظهر.
الرابع: التقريب. هذا مذهب الكوفيين؛ ذهبوا إلى أن كأن تكون للتقريب.
وذلك في نحو: كأنك بالشتاء مقبل، وكأنك بالفرج آت، وقول الحسن البصري:
كأنك بالدنيا لم تكن، وكأنك بالآخرة لم تزل. والمعنى على تقريب إقبال
الشتاء، وإتيان الفرج، وزوال الدنيا، ووجود الآخرة.
والصحيح أن كأن في هذا كله للتشبيه. وخرج الفارسي هذه المثل، على أن
الكاف في كأنك للخطاب، والباء زائدة، والشتاء والفرج والدنيا والآخرة
اسم كأن. والتقدير: كأن الشتاء مقبل. وكذا في البواقي. وخرجه بعضهم على
حذف مضاف،
(1/573)
والتقدير: كأن زمانك بالشتاء مقبل، وكأن
زمانك بالفرج آت.
ويتأول قول الحسن البصري، على أن الكاف اسم كأن، ولم تكن خبرها،
وبالدنيا متعلق بالخبر. والتقدير: كأنك لم تكن بالدنيا. والضمير في تكن
للمخاطب، وتكن تامة. ويحتمل أن تكون ناقصة، والتشبيه في الحقيقة
للحالين.
وقال ابن عصفور: الكاف للخطاب، وكأن ملغاة، والشتاء مبتدأ، والباء
زائدة كما زيدت في بحسبك، ومقبل هو الخبر.
وخرج بعضهم قول الحسن، على أن الكاف اسم كأن، والمجرور هو الخبر،
والجملة بعده حال، وإن لم يستغن الكلام عنها، لأن من الفضلات ما لا يتم
الكلام إلا به، كقوله تعالى " فما لهم عن التذكرة معرضين ".
ومن أحكام كأن أنها قد تخفف. وإذا خففت لم يبطل عملها. وقال الزمخشري
في المفصل: وتخفف، فيبطل عملها. قال
(1/574)
الشاعر:
ونحر، مشرق اللون ... كأن ثدياه حقان
ومنهم من يعملها. وحمل ابن يعيش قوله يبطل عملها على معنى: يبطل
ظاهراً، وتعمل في ضمير الشأن.
وقد أطلق بعضهم عليها أنها ملغاة. وقد فسر أبو موسى الإلغاء المذكور،
فقال: ومعنى الإلغاء فيها معناه في أن المفتوحة. يعني أنها تكون عاملة
في اسم مضمر، فسميت ملغاة، إذ لم يظهر عملها، لأن اسمها في الغالب
منوي، كاسم أن. وقد ورد ملفوظاً به، في قول الشاعر:
(1/575)
كأن وريده رشاءا خلب
وقول الآخر كأن ثدييه حقان، على إحدى الروايتين، وقول الآخر:
ويوماً، توافينا بوجه مقسم ... كأن ظبية تعطو، إلى وارق السلم
على رواية من مصب ظبية. وكلام ابن مالك في التسهيل يقتضي أن يكون ظهور
اسمها مخصوصاً بالشعر. فإنه قال: وقد يبرز اسمها في الشعر. وأما على
رواية كأن ظبية بالرفع فظبية خبر كأن، واسمها محذوف. والتقدير: كأنها
ظبية. ويروى أيضاً بجر ظبية بكاف التشبيه، وأن زائدة.
ولكأن أحكام أخر، مذكورة في مواضعها من كتب النحو، لا حاجة إلى ذكرها،
في هذا الموضع. والله عز وجل أعلم.
(1/576)
كلا
حرف ردع وزجر. هذا مذهب الخليل، وسيبويه، وعامة البصريين. وذهب
الكسائي، وتلميذه نصير بن يوسف، ومحمد بن أحمد بن واصل، إلى أنها تكون
بمعنى حقاً. ومذهب النضر بن شميل أنها بمعنى نعم. وركب ابن مالك هذه
المذاهب الثلاثة، فجعلها مذهباً واحداً. قال في التسهيل كلا حرف ردع
وزجر، وقد تؤول بحقاً، وتساوي إي معنى واستعمالاً. وذهب أبو حاتم إلى
أنها تكون رداً للكلام الأول، وتكون للإستفتاح بمعنى ألا، ووافقه
الزجاج. وذهب عبد الله بن محمد الباهلي إلى أنها تكون على وجهين:
أحدهما أن تكون رداً الكلام قبلها، فيجوز الوقف عليها، وما بعدها
استئناف. والآخر أن تكون صلة للكلام، فتكون بمعنى إي وقيل: إن كلا
بمعنى سوف.
(1/577)
وعدة ما جاء في القرآن من لفظ كلا ثلاثة
وثلاثون موضعاً، تتضمنها خمس عشرة سورة وليس في النصف الأول منها شيء.
قيل: وحكمة ذلك أن النصف الأخير نزل أثره بمكة، وأكثرها جبابرة، فتكررت
هذه الكلمة، على وجه التهديد، والتعنيف لهم، والإنكار عليهم. بخلاف
النصف الأول، وما نزل منه في اليهود، لم يحتج إلى إيرادها فيه، لذلهم
وصغارهم.
وأما الوقف عليها فالراجح أن حالها فيه مختلف. فمنها ما يوقف عليه ولا
يبتدأ به. ومنها ما يبتدأ به ولا يوقف عليه. ومنها ما يجوز فيه
الأمران. ومنها ما لا يوقف عليه ولا يبتدأ به. فهذه أربعة أقسام. وقد
ذكرت ذلك في كراسة أفردتها لكلا وبلى.
واختلف في كلا: هل هي بسيطة أو مركبة؟ ومذهب الجمهور أنها بسيطة. وذهب
ثعلب إلى أنها مركبة من كاف التشبيه ولا التي للرد، وزيد بعد الكاف
لام، فشددت، لتخرج عن معناها التشبيهي. وقال صاحب رصف المباني: هي
بسيطة عند النحويين، إلا ابن العريف جعلها مركبة من
(1/578)
كل ولا. وهذا كلام خلف، لأن كل لم يأت لها
معنى في الحروف، فلا سبيل إلى ادعاء التركيب من أجل لا والله سبحانه
أعلم.
لعل
حرف، له قسمان: الأول: أن يكون من أخوات إن، فينصب الأسم، ويرفع الخبر.
ومذهب أكثر النحويين أنه حرف بسيط، وأن لامه الأولى أصلية. وقيل: هو
حرف مركب، ولامه الأولى لام الابتداء. وقيل: بل هي زائدة، لمجرد
التوكيد يدليل قولهم عل في لعل. وهذا مذهب المبرد وجماعة من البصريين.
ولعل لها ثمانية معان: الأول: الترجي. وهو الأشهر والأكثر. نحو: لعل
الله يرحمنا.
(1/579)
الثاني: الإشفاق: نحو: لعل العدو يقدم.
والفرق بينهما أن الترجي في المحبوب، والإشفاق في المكروه.
الثالث: التعليل. هذا معنى أثبته الكسائي، والأخفش، وحملا على ذلك ما
في القرآن، من نحو " لعلكم تشكرون "، " لعلكم تهتدون "، أي: لتشكروا،
ولتهتدوا. قال الأخفش في المعاني: " لعله يتذكر " نحو قول الرجل
لصاحبه: افرغ لعلنا نتغدى. والمعنى: لنتغدى. ومذهب سيبويه، والمحققين،
أنها في ذلك كله للترجي، وهو ترج للعباد. وقوله تعالى " فقولا له قولاً
ليناً، لعله يتذكر أو يخشى " معناه: اذهبا على رجائكما ذلك، من فرعون.
الرابع: الاستفهام. وهو معنى، قال به الكوفيون. وتبعهم ابن مالك، وجعل
منه " وما يدريك لعله يزكى "، وقول النبي صلى الله عليه وسلم، لعبض
الأنصار، وقد خرج إليه مستعجلاً: لعلنا أعجلناك. وهذا عند البصريين
خطأ. والآية عندهم ترج،
(1/580)
والحديث إشفاق.
وذكر الشيخ أبو حيان أنه ظهر له أن لعل من المعلقات لأفعال القلوب.
ومنه " وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً "، " وما يدريك لعله يزكى ".
قال: ثم وقعت، لأبي علي الفارسي، على شيء من هذا.
الخامس: نقل النحاس عن الفراء، والطوال، أن لعل شك. وهذا عند البصريين
خطأ أيضاً.
وقال الزمخشري: لعل هي لتوقع مرجو، أو مخوف. قال: وقد لمح فيها معنى
التمني من قرأ " فأطلع " بالنصب. وهي في حرف عاصم. وقال الجزولي: وقد
أشر بها معنى ليت من قرأ فأطلع نصباً. إنما احتج إلى هذا التأويل، لأن
الترجي ليس له جواب منصوب، عند البصريين. وقد تقدم، في الفاء، ذكر
الخلاف في ذلك. قال ابن يعيش: والفرق بين الترجي
(1/581)
والتمني أن الترجي توقع أمر مشكوك فيه، أو
مظنون. والتمني طلب أمر موهوم الحصول، وربما كان مستحيل الحصول، نحو "
يا ليتها كانت القاضية ".
وفي لعل اثنتا عشرة لغة. وهي: لعل، وعل، ولعن، وعن، ولأن، وأن، ورعل،
ورعن، ولغن، ورغن، وغن، وهذه الثلاثة بالغين المعجمة، ولعلت، بتاء
التأنيث. واختلف في الغين المعجمة، في تلك اللغات الثلاث. فقيل: هي بدل
من المهملة. وقيل: ليست بدلاً منها. قال صاحب رصف المباني: وهو أظهر،
لقلة وجود الغين بدلاً من العين. ولذلك جعل غن بالمعجمة حرفاً مفرداً
بباب.
وما سوى ما ذكرته، من أحكام لعل، لا حاجة إليه هنا.
القسم الثاني: أن تكون حرف جر، في لغة عقيل. يقولون: لعل زيد قائم.
والجر بلعل مراجعة أصل مرفوض، لأن
(1/582)
أصل كل حرف اختص بالاسم، ولم يكن كالجزاء
منه، أن يعمل الجر، كما تقدم في صدر الكتاب. وإنما خرجت إن وأخواتها،
عن هذا الأصل، فعملت النصب والرفع، لشبهها بالفعل. ولذلك قال الجزولي:
وقد جروا بلعل منبهة على الأصل. وروى الجر بها، عن العرب، أبو زيد،
والفراء، والأخفش، وغيرهم من الأئمة. ومن ذلك قول الشاعر:
لعل الله يمكنني عليها ... جهاراً، من زهير، أو أسيد
وأنشد الفراء:
(1/583)
على صروف الدهر، أو دولاتها ... يدلننا
اللمة، من لماتها
فتستريح النفس، من زفراتها
وأنشد غيره:
لعل الله فضلكم، علينا ... بشيء، أن أمكم شريم
وقول الآخر: فقلت:
ادع أخرى وارفع الصوت جهرة ... لعل أبي المغوار منك قريب
(1/584)
هذه الأبيات كلها بالجر، على هذه اللغة.
وأنكر بعضهم هذه اللغة، وتآول قول الشاعر لعل أبي المغوارمنك قريب:
فقيل لعل في البيت مخففة، واسمها ضمير الشأن، واللام المفتوحة لام
الجر، ولأبي المغوار منك قريب جملة في موضع خبرها. وهذا ضعيف، من أوجه:
أحدها أن تخفيف لعل لم يسمع في هذا البيت. والثاني أنها لا تعمل في
ضمير الشأن. والثالث أن فتح لام الجر مع الظاهر شاذ. ونقل بعضهم هذا
التخريج عن الفارسي، على رواية من كسر لام لعل أبي المغوار فلا يلزمه
الاعتراض الثالث.
وقيل: يجوز أن يكون لعاً في البيت هي التي تقال للعاثر، واللام للجر،
والكلام جملة قائمة بنفسها. والموصوف محذوف، تقديره: فرج، أو شبهه.
وهذا بعيد أيضاً. وقيل: أراد الحكاية.
(1/585)
وإذا صحت الرواية بنقل الأئمة فلا معنى
لتأويل بعض شواهدها بما هو بعيد.
وفي لعل الجارة أربع لغات: لعل، وعل، بفتح اللام فيهما. ولعل، وعل،
بكسر اللام فيهما. قال ابن مالك: والجر بلعل ثابتة الأول أو محذوفته،
مفتوحة الآخر أو مكسورته، لغة عقيلية. والله سبحانه أعلم.
لكن
بتخفيف النون حرف، له قسمان: الأول: أن تكون مخففة من لكن الثقيلة. ولا
عمل لها، إذا خففت، خلافاً ليونس، والأخفش فإنهما أجازا ذلك. ورد بأنه
غير مسموع. وقد حكي عن يونس أنه حكاه عن العرب. وعلى مذهب الجمهور يكون
ما بعدها مبتدأ وخبراً، نحو " ولكن الشياطين
(1/586)
كفروا ". واختار الكسائي، والفراء، وأبو
حاتم، والتشديد إذا كان قبلها الواو، لأنها حينئذ تكون عاملة عمل إن،
وليست عاطفة، والتخفيف إذا لم يكن قبلها واو، لأنها حينئذ عاطفة، فلا
تحتاج إلى واو ك بل. وهذا القسم - أعني لكن المخففة - ليس حرفاً
أصلياً. وإنما هو فرع لكن المشددة. ويأتي الكلام عليها في باب الخماسي.
الثاني: أن تكون حرف عطف. هذا مذهب جمهور النحويين. ثم اختلفوا على
ثلاثة أقوال: أحدها أنها لا تكون عاطفة، إلا إذا لم تدخل عليها الواو.
وهو مذهب الفارسي. قيل: وأكثر النحويين.
والثاني أنها عاطفة، ولا تستعمل إلا بالواو، والوا مع ذلك زائدة. وصححه
ابن عصفور. قال: وعليه ينبغي أن يحمل كلام سيبويه، والأخفش. لأنهما
قالا: إنها عاطفة. ولما مثلا العطف بها مثلاً مع الواو.
(1/587)
والثالث أن العطف بها، وأنت مخير في
الإتيان بالواو. وهو مذهب ابن كيسان.
وذهب يونس إلى أن لكن ليست عاطفة، بل هي حرف استدراك، والواو قبلها
عاطفة لما بعدها، عطف مفرد عل مفرد. ووافقه ابن مالك، في التسهيل، على
أنها غير عاطفة، لكنه ذكر في شرحه أن الواو قبلها عاطفة جملة، وتضمر
لما بعدها عاملاً. فإذا قلت ما قام سعد ولكن سعيد فالتقدير: ولكن قام
سعيد. وإنما جعله من عطف الجمل، لما يلزم، على مذهب يونس، من مخالفة
المعطوف بالواو لما قبلها، وحقه أن يوافقه.
واستدل من قال، بأن لكن غير عاطفة، بلزوم اقترانها بالواو قبل المفرد.
قال ابن مالك: وما يوجد في كتب النحويين، من نحو ما قام سعد لكن سعيد،
فمن كلامهم لا من كلام العرب. ولذلك لم يمثل سيبويه، في أمثلة العطف،
إلا ب ولكن. وهذا من شواهد أمانته، وكمال عدالته، لأنه يجيز العطف بها
غير مسبوقة
(1/588)
بواو، وترك التمثيل به لئلا يعتقد أنه مما
استعملته العرب.
قلت: وفي قوله إن سيبويه يجيز العطف بها غير مسبوقة بواو نظر. وتقدم ما
قاله ابن عصفور.
وإذا ولي لكن جملة لم يلزم اقترانها بالواو، بل تجيء بالواو ودونها.
قال زهير:
أن ابن ورقاء لا تخشى بوادره ... لكن وقائعه، في الحرب، تنتظر
وقرر ابن يعيش، في شرح المفصل مذهب يونس، على خلاف ما تقدم. قال: وكان
يونس، رحمه الله، يذهب إلى أنها إذا خففت لا يبطل علمها، ولا تكون حرف
عطف، بل تكون عنده مثل إن وأن. فكما أنهما بالتخفيف لم يخرجا عما كانا
عليه، قبل التخفيف، فكذلك لكن. فإذا قلت: ما جاءني زيد لكن
(1/589)
عمرو، فعمرو مرتفع بلكن، والاسم مضمر
محذوف، كما في قوله:
ولكن زنجي، عظيم المشافر
وإذا قلت: ما ضربت زيداً لكن عمراً، ففيها ضمير القصة، وعمراً منصوب
بفعل مضمر. وإذا قال: ما مررت بزيد لكن عمرو، فعمرو مخفوض بباء محذوفة،
وفي لكن ضمير القصة أيضاً، والجار والمجرور يتعلق بفعل محذوف، دل عليه
الظاهر، كأنه قال: لكنه مررت بعمرو. انتهى، وفيه نظر.
واعلم أن لكن لا يعطف بها، إلا بعد نفي، نحو: ما قام زيد لكن عمرو، أو
نهي، نحو: لا تضرب زيداً لكن عمراً. والمعطوف بها محكوم له بالثبوت،
بعد النفي والنهي. ولا تقع في
(1/590)
لإيجاب عند البصريين. وأجاز الكوفيون أن
يعطف بها، في الإيجاب، نحو: أتاني زيد لكن عمرو.
تنبيه
إنما يشترك النفي والنهي، في الواقعة قبل المفرد. وتقدم الخلاف في
كونها عاطفة. وأما إذا وليها جملة فيجوز أن تقع بعد إيجاب، أو نفي، أو
نهي، أو أمر. ولا تقع بعد استفهام. فلا يجوز: هل زيد قائم لكن عمرو لم
يقم.
فإن قلت: إذا وقعت قبل الجملة فهل هي عاطفة أو غير عاطفة؟ قلت: الذي
ذهب إليه أكثر المغاربة أنها، حينئذ، حرف ابتداء، لا حرف عطف. وقيل:
إنها تكون حرف عطف، تعطف جملة على جملة، إذا وردت بغير واو. قال ابن
أبي الربيع: وهو ظاهر كلام سيبويه.
ومعنى لكن، في جميع مواضعها، الاستدراك. قال صاحب رصف المباني: ويكون
معناها الإضراب، إذا كانت حرف
(1/591)
ابتداء، كقوله تعالى " لكن الله يشهد بما
انزل إليك ". وقد حذفوا نونها، في الشعر، ضرورة، كما قال:
فلست بآتيه، ولا أستطيعه ... ولاك اسقني، إن كان ماؤك ذا فضل
لما
حرف له ثلاثة أقسام: الأول: لما التي تجزم الفعل المضارع. وهي حرف نفي،
تدخل على المضارع فتجزمه، وتصرف معناه إلى المضي، خلافاً لمن زعم أنها
تصرف لفظ الماضي إلى المبهم. وتقدم ذكر الخلاف في لم،
(1/592)
فلا حاجة لإعادته. فإن الكلام عليهما واحد.
وتقدم ذكر الفروق التي بين لم ولما. واختلف في لما، فقيل: مركبة من لم
وما. وهو مذهب الجمهور. وقيل: بسيطة.
الثاني: لما التي بمعنى إلا. ولها موضعان: أحدهما بعد القسم، نحو:
نشدتك بالله لما فعلت، وعزمت عليك لما ضربت كاتبك سوطاً. قال الراجز:
قالت له: بالله، يا ذا البردين ... لما غنثت نفساً، أو اثنين
وثانيهما بعد النفي، ومنه قراءة عاصم وحمزة " وإن كلما جميع، لدينا،
محضرون "، " وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا "، أي: ما كل إلا جميع،
وما كل ذلك إلا متاع
(1/593)
الحياة الدنيا.
ولما التي بمعنى إلا حكاها الخليل، وسيبويه، والكسائي. وهي قليلة الدور
في كلام العرب. فينبغي أن يقتصر فيها، على التركيب الذي وقعت فيه. وزعم
أبو القاسم الزجاجي أنه يجوز أن تقول: لم يأتني من القوم لما أخوك، ولم
أر من القوم لما زيداً. يريد: إلا أخوك، وإلا زيداً. قيل: وينبغي أن
يتوقف في إجازة ذلك، حتى يرد في كلام العرب ما يشهد بصحته.
الثالث: لما التعليقية. وهي حرف وجوب لوجوب. وبعضهم يقول: حرف وجود
لوجود، بالدال. والمعنى قريب. وفيها مذهبان: أحدهما: أنها حرف. وهو
مذهب سيبويه. والثاني: ظرف بمعنى حين. وهو مذهب أبي علي الفارسي. وجمع
ابن مالك في التسهيل بين المذهبين، فقال: إذا ولي لما فعل ماض لفظاً
ومعنى فهي ظرف بمعنى إذ، فيه معنى الشرط، أو حرف يقتضي، فيما مضى،
وجوباً لوجوب.
والصحيح ما ذهب إليه سيبويه، لأوجه: أحدها أنها ليس فيها
(1/594)
شيء، من علامات الأسماء. والثاني أنها
تقابل لو. وتحقيق تقابلهما أنك تقول: لو قام زيد قام عمرو، ولكنه لما
لم يقم لم يقم. والثالث أنها لو كانت ظرفاً لكان جوابها عاملاً فيها،
كما قال أبو علي. ويلزم من ذلك أن يكون الجواب واقعاً فيها، لأن العامل
في الظرف يلزم أن يكون واقعاً فيه. وأنت تقول: لما قمت أمس أحسنت إليك
اليوم. وقال تعالى " وتلك القرى أهلكنا هم لما ظلموا ". والمراد أنهم
أهلكوا بسبب ظلمهم، لا أنهم أهلكوا حين ظلمهم، لأن ظلمهم متقدم على
إنذارهم، وإنذارهم متقدم على إهلاكهم. والرابع أنها تشعر بالتعليل، كما
في الآية المذكورة، والظروف لا تشعر بالتعليل. وبهذا استدل ابن عصفور
على حرفيتها. والخامس أن جوابها قد يقترن بإذا الفجائية، كقوله تعالى:
" فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون "، وما بعد إذا الفجائية لا
يعمل فيما قبلها.
واعلم أن لما هذه لا يليها إلا فعل ماض مثبت، أو منفي
(1/595)
بلم. وقد تزاد أن بعدها، كقوله تعالى "
فلما أن جاء البشير ". وجوابها فعل ماض مثبت، نحو: لما قام زيد قام
عمرو. أو منفي بما، نحو: لما قام زيد ما قام عمرو. أو مضارع منفي بلم
نحو: لما قام زيد لم يقم عمرو. أو جملة اسمية مقرونة بإذا الفجائية،
كما تقدم.
وزاد ابن مالك في التسهيل أن جوابها قد يكون جملة اسمية مقرونة بالفاء،
وماضياً مقروناً بالفاء، وقد يكون مضارعاً. قال الشيخ أبو حيان: ولم
يقم دليل واضح على ما ادعاه. وقد ذكرت ذلك في شرح التسهيل.
ويجوز حذف جواب لما للدلالة عليه، كقوله تعالى " فلما ذهبوا به وأجمعوا
" الآية، أي: فعلوا ما أجمعوا عليه " وأوحينا إليه ". والكوفيون يجعلون
أوحينا جواب لما، والواو زائدة.
(1/596)
تنبيه
الفرق بين أقسام لما الثلاثة، من جهة اللفظ، أن الجازمة لا يليها إلا
مضارع، ماضي المعنى. والتي بمعنى إلا لا يليها إلا ماضي اللفظ، مستقبل
المعنى. والتي هي حرف وجوب لوجوب لا يليها إلا ماضي اللفظ والمعنى، أو
مضارع منفي بلم. والله أعلم.
لولا
حرف له قسمان: الأول: أن يكون حرف امتناع لوجوب. وبعضهم يقول: لوجود،
بالدال. قيل: ويلزم، على بعارة سيبويه في لو، أن يقال: لولا حرف لما
كان سيقع لانتفاء ما قبله.
وقال صاحب رصف المباني: الصحيح أن تفسيرها بحسب الجمل التي تدخل عليها.
فإن كانت الجملتان بعدها موجبتين فهي حرف امتناع لوجوب، نحو قولك: لولا
زيد لأحسنت إليك. فالإحسان
(1/597)
امتنع، لوجود زيد. وإن كانتا منفيتين فهي
حرف وجوب لامتناع، نحو: لولا عدم قيام زيد لم أحسن إليك. وإن كانتا
موجبة ومنفية فهي حرف وجوب لوجوب، نحو: لولا زيد لم أحسن إليك. وإن
كانتا منفية وموجبة فهي حرف امتناع لامتناع، نحو: لولا عدم قيام زيد
لأحسنت إليك. انتهى ما ذكره.
وجواب لولا ماض مثبت، مقرون باللام، نحو " لولا أنتم لكنا مؤمنين "، أو
منفي بما، نحو " ولولا فضل الله عليكم، ورحمته، ما زكى منكم من أحد
أبداً ". وقد يخلو المثبت من اللام، كقول الشاعر:
لولا الحياء، وباقي الدين، عبتكما ... ببعض ما فيكما، إذ عبتما عوري
وقال ابن عصفور: حذف اللام من جواب لولا ضرورة. وقال
(1/598)
أيضاً: يجوز في قليل من الكلام. وسوى بعضهم
بين حذف اللام وإثباتها في لو ولولا. وقد يقترن باللام لمفني بما، كقول
الشاعر:
لولا رجاء لقاء الظاعنين لما ... أبقت نواهم لنا روحاً، ولا جسدا
وإذا دل دليل على جواب لولا جاز حذفه، كقوله تعالى " ولولا فضل الله
عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ".
ثم اعلم أن لولا الامتناعية مختصة بالأسماء. ولها حالان: أحدهما أن
تكون حرف ابتداء. وذلك إذا وليها اسم ظاهر، أو ضمير رفع منفصل، نحو:
لولا زيد لأكرمتك، ولولا أنت لأكرمته. فلولا، في هذا ونحوه، حرف
ابتداء، والأسم بعدها مرفوع بالابتداء عند أكثر النحويين. ثم اختلفوا
في خبره.
فقال الجمهور: هو محذوف، واجب الحذف مطلقاً. ولا يكون عندهم إلا كوناً
مطلقاً. فإذا أريد الكون المقيد جعل مبتدأ، نحو:
(1/599)
لولا قيام زيد لأتيتك. ولا يجوز لولا زيد
قائم. ولذلك لحنوا المعري، في قوله:
يذيب الرعب منه كل عضب ... فلولا الغمد يمسكه لسالا
قلت: وتأويله بعضهم، على أن يمسكه حال. ورد بأن الأخفش حكى عن العرب
أنهم لا يأتون، بعد الأسم الواقع بعد لولا الامتناعية، بالحال، كما لا
يأتون بالخبر. وتأوله بعضهم على تقدير أن، والتقدير: فلولا الغمد أن
يمسكه. وأعربه بدلاً، أي: لولا إمساكه.
وذهب الرماني، وابن الشجري، والشلوبين، إلى أن الخبر، بعد لولا، ليس
بواجب الحذف على الإطلاق. بل فيه تفصيل. وهو أنه إن كان كوناً مطلقاً،
غير مقيد، وجب حذفه، نحو: لولا زيد لأكرمتك، لأن تقديره موجود أو نحوه.
وإن
(1/600)
كان مقيداً، ولا دليل عليه، وجب إثباته،
كقوله عليه الصلاة والسلام، لعائشة رضي الله عنها لولا قومك حديثو عهد
بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم. وإن كان مقيداً، وله دليل يدل
عليه، جاز إثباته وحذفه، كقولك: لولا أنصار زيد لهلك، أي: نصروه. فهذا
يجوز إثباته، لكونه مقيداً، وحذفه للدليل الدال عليه. واختار ابن مالك
هذا المذهب، وجعل قول المعري فلولا الغمد يمسكه مما يجوز فيه الإثبات
والحذف.
وقال ابن أبي الربيع: أجاز قوم لولا زيد قائم لأكرمتك، وهذا لم يثبت
بالسماع. والمنقول: لولا قيام زيد.
وقال ابن الطراوة: جواب لولا هو خبر المبتدأ الواقع بعد لولا. وهو
ضعيف.
وذهب الكوفيون إلى أن الأسم المرفوع بعد لولا ليس بمبتدأ، ثم اختلفوا.
فقال الكسائي: مرفوع بفعل مقدر، تقديره:
(1/601)
لولا وجد زيد. وقال بعضهم: هو مرفوع بلولا،
لنيابتها مناب لو لم يوجد. حكاه الفراء عن بعضهم، ورده بأنك تقول لولا
زيد لا عمرو لأتيتك، ولا يعطف بلا بعد النفي. وقال الفراء: هو مرفوع
بلولا نفسها، لا لنيابتها مناب لو لم يوجد.
وقال صاحب رصف المباني: ويرفع، عند الكوفيين، على تقدير فعل، نابت لا
منابه. فإذا قلت: لولا زيد لأكرمتك، و " لولا أنتم لكنا مؤمنين "،
فالمعنى: لو انعدم زيد، ولو انعدمتم. قال: وهذا هو الصحيح، لأنه إذا
زالت لا ولي لو الفعل ظاهراً، أو مقدراً. وإذا دخلت لا كان بعدها
الأسم. فهذا يدل على أن لا نائبة مناب الفعل. وقد اتفق الطائفتان على
أن لولا مركبة من لو التي هي حرف امتناع لامتناع، ولا النافية. وكل
واحدة منهما باقية على بابها، من المعنى الموضوعة له قبل التركيب.
انتهى ما ذكره.
والثاني من حالي لولا الامتناعية أن تكون حرف جر.
(1/602)
وذلك إذا وليها الضمير المتصل، الموضوع
للنصب والجر، كالياء والكاف والهاء. قال الشاعر:
وكم موطن، لولاي طحت، كما هوى ... بأجرامه، من قلة النيق، منهوي
فلولا، في ذلك، حرف جر عند سيبويه، والضمير مجرور بها، لأن الياء
وأخواتها لا يعرف وقوعها إلا في موضع نصب أو جر، والنصب في لولاي
ممتنع، لأن الياء لا تنصب بغير اسم، إلا ومعها نون الوقاية وجوباً، أو
جوازاً، فيتعين كونها في موضع جر.
وإذا قلنا بأن لولا حرف جر فهل تتعلق بشيء أو لا؟
(1/603)
فقال بعضهم: لا تتعلق بشيء، كالزوائد. وهو
الظاهر. وقيل: تتعلق بفعل واجب الإضمار. فإذا قلت لولاي لكان كذا
فالتقدير لولاي حضرت،. فألصقت ما بعدها بالفعل، على معناها من امتناع
الشيء. ولا يجوز أن يعمل فيها الجواب، لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما
قبلها. قيل: وما ذهب إليه فاسد. لأن في تقديره تعدي فعل المضمر المتصل
إلى ضميره المجرور، وهو كالمنصوب.
وذهب الأخفش، والكوفيون، إلى أن لولا في ذلك حرف ابتداء، والضمير
المتصل في موضع رفع بالابتداء، نيابة عن ضمير الرفع المنفصل، كما عكسوا
في قولهم: ما أنا كأنت، ولا أنت كأنا.
والخلاف في ذلك شهير. واختار صاحب رصف المباني مذهب الأخفش، وقال:
الأولى أن يحكم عليها بالبقاء على أنها حرف ابتداء، عند من يرى ذلك، أو
على أن يحذف الوجود قبل الضمير، ويبقى على خفضه، كما بقي في قوله:
(1/604)
رحم الله أعظماً، دفنوها ... بسجستان، طلحة
الطلحات
وأنكر المبرد استعمال لولاي وأخواته، وزعم أنه لا يوجد في كلام من يحتج
بكلامه. قال الشلوبين: اتفق أئمة البصريين والكوفيين، كالخليل،
وسيبويه، والكسائي، والفراء، على رواية لولاك عن العرب، فإنكار المبرد
له هذيان.
فرع
إذا عطف على الضمير المتصل بلولا ظاهر لم يجز، على مذهب سيبويه، لأن
لولا تجر المضمر، ولا تجر الظاهر. فلو رفع المعطوف، على توهم أنك أتيت
بضمير الرفع المنفصل، ففي جواز ذلك نظر. كذا قال الشيخ أبو حيان.
القسم الثاني من قسمي لولا: أن تكون حرف تحضيض،
(1/605)
فتختص بالأفعال، ويليها المضارع، نحو "
فلولا تشكرون ". والماضي، نحو " فلولا نفر من كل فرقة، منهم، طائفة ".
وقد يليها اسم معمول لفعل مقدر، نحو: لولا زيداً ضربته، أو معمول لفعل
مؤخر، نحو: لولا زيداً ضربت، كما تقدم في ألا. وإذا وليها الماضي كان
فيها معنى التوبيخ. وكذلك غيرها من حروف التحضيض. ومن تقدير الفعل
بعدها قول الشاعر:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى، لولا الكمي المقنعا
أي: لولا تعدون الكمي، أو لولا تبارزون الكمي، ونحو ذلك.
واعلم أنه قد بقي للولا قسم آخر، تكون فيه بمعنى لو لم.
(1/606)
وهذه غير مركبة. بل كان من الكلمتين على ما
كانت عليه، قبل التركيب. كقول الشاعر:
ألا زعمت أسماء أن لا أحبها ... فقلت: بلى، لولا ينازعني شغلي
فهذه قد وليها الفعل، وليست للتخضيض، والامتناعية لا يليها الفعل. فقال
أبو البركات ابن الأنباري: لولا في البيت غير مركبة، بل لا باقية على
حالها، ولو باقية على حالها. إلا أنهم أولوا لا الفعل الماضي كما وليها
في قوله تعالى " فلا اقتحم
(1/607)
العقبة "، أي: لم يقتحم.
وتأويل غيره هذا البيت ونحوه، على إضمار أن، والفعل صلة لها، وارتفع
الفعل بسقوط أن. وتكون لولا هي التي تختص بالأسماء، ومحل أن وصلتها رفع
بالابتداء.
وقد أشار ابن مالك إلى هذين الوجهين، فقال في التسهيل: وقد يلي الفعل
لولا، غير مفهمة تحضيضاً، فتؤول بلولم، أو تجعل المختصة بالأسماء،
والفعل صلة لأن مقدرة. والله أعلم.
وزعم علي بن عيسى، والنحاس، أن لولا تأتي بمعنى ما النافية. وحملا على
ذلك قوله تعالى " فلولا كانت قرية آمنت "، أي: ما كانت قرية. والله عز
وجل أعلم.
لوما
حرف، له قسمان:
(1/608)
أحدهما: أن يكون حرف امتناع لوجوب، فيختص
بالأسماء، ويرتفع الأسم بعده بالأبتداء، نحو: لو ما زيد لأكرمتك.
والثاني: أن يكون حرف تحضيض، فلا يليه إلا فعل، أو معمول فعل.
وحكمه، في الحالين، حكم لولا. وقد تقدم، فلا نعيده. وقال صاحب رصف
المباني: اعلم أن لوما لم تجئ في كلام العرب، إلا لمعنى التحضيض. ولم
يذكر المعنى الأول، وقد ذكره غيره. والله سبحانه أعلم.
مهما
المشهور أنها اسم من أسماء الشرط، مجرد عن الظرفية، مثل من. وذكر ابن
مالك أنها قد ترد ظرفاً. ذكر في التسهيل، وفي الكافية. وقال في شرحها:
إن جميع النحويين يجعلون ما ومهما مثل من، في لزوم التجرد عن
(1/609)
الظرفية، مع أن استعمالها ظرفين ثابت، في
أشعار الفصحاء من العرب. وأنشد أبياتاً، منها قول حاتم:
وإنك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك، نالا منتهى الذم، أجمعا
وقال ابنه بدر الدين: لا أرى في هذه الأبيات حجة، لأنه يصح تقديرها
بالمصدر. وقد ذكرت ذلك في شرح التسهيل.
وقال الزمخشري في الكشاف: وهذه الكلمة في عداد الكلمات، التي يحرفها من
لا يدله في علم العربية، فيضعها في غير موضعها، ويحسب مهما بمعنى متى
ما. ويقول: مهما جئتني أعطيتك. وهذا من وضعه، وليس من كلام واضع
العربية في
(1/610)
شئ ثم يذهب فيفسر " مهما تأتنا به، من آية
" بمعنى الوقت، فيلحد في آيات الله، وهو لا يشعر. وهذا وأمثاله مما
يوجب الجثو بين يدي الناظر في كتاب سيبويه. انتهى كلامه.
وذكر ابن مالك في التسهيل أن مهما قد يستفهم بها. والمشهور أنها لا
تخرج عن الشرطية. وأما قوله:
مهما لي، الليلة، مهما ليه ... أودى بنعلي، وسرباليه
فلا حجة فيه، لاحتمال أن تكون مه بمعنى: اكفف، وما هي الاستفهامية.
وزعم السهيلي أن مهما قد تخرج عن الأسمية، وتكون حرفاً
(1/611)
إذا لم يعد عليها من الجملة ضمير، كقول
زهير:
ومهما تكن عند امرئ، من خليقة ... وإن خالها تخفي على الناس، تعلم
وهو قول غريب. وقد حكى خطاب الماردي، عن بعضهم، أنها تكون حرفاً، بمعنى
إن. ولذلك ذكرتها في هذا الموضع. ويتعلق بها أحكام مذكورة في موضعها.
واختلف النحويون فيها، فقيل: إنها بسيطة، ووزنها فعلى، وألفها إما
للتأنيث، وإما للإلحاق وزال التنوين للبناء. فهي، على هذا من باب سلس.
وقال ابن إياز: لو قيل إنها مفعل، تحامياً لذلك، لم أر به بأساً. وقال
الخليل: هي مركبة من ماما، وما الأولى التي للجزاء، والثانية التي تزاد
بعد الجزاء. واستقبحوا التكرير، فأبدلوا من ألف الأول هاء، وجعلوهما
كالشيء الواحد. وقال الأخفش، والزجاج، والبغداديون: هي مركبة من مه
بمعنى:
(1/612)
اسكت، وما الشرطية. قالوا: وقد تستعمل مه
مع من التي هي شرط، فيقال: مهمن. وقال قطرب: لم يحمل الجزم بها عن
فصيح. يعني مهمن. وقد أجاز سيبويه أن تكون مه أضيف إليها ما. والله
أعلم.
هلا
حرف تحضيض، لا يليه إلا فعل، أو معموله، كما تقدم في أخواته. وذهب بعض
النحويين إلى جواز مجيء الجملة الابتدائية، كقول الشاعر:
ونبئت ليلى أرسلت، بشفاعة ... إلي، فهلا نفس ليلى شفيعها
وتأوله ابن طاهر، وغيره، على إضمار كان الشأنية. وتأويله بعضهم على أن
نفس فاعل فعل مضمر، أي: فهلا شفعت نفس ليلى وشفيعها خبر مبتدأ محذوف،
أي: هي شفيعها، والأول
(1/613)
أقرب. وأما قول الشاعر:
هلا التقدم، والقلوب صحاح
فعلى إضمار كان التامة.
وهلا أكثر استعمالاً، في التحضيض، من ألا. وتقدم ما قاله بعض النحويين،
من أن هاء هلا بدل من همزة ألا. والله أعلم.
(1/614)
|