الجنى الداني في حروف المعاني

الباب الخامس
في الخماسي
وهو ثلاثة أحرف: واحد متفق على حرفيته، وهو

لكن، واثنان فيهما خلاف، وهما: أنتما، وأنتن، إذا وقعا فصلا. فأما
لكن
فهو حرف استدراك. ومعنى الاستدراك أن تنسب حكماً لاسمها، يخالف المحكوم عليه قبلها. كأنك لما أخبرت عن الأول، بخبر، خفت أن يتوهم من الثاني مثل ذلك، فتداركت بخبره، إن سلباً، وإن إيجابياً. ولذلك لا يكون إلا بعد كلام، ملفوظ به، أو مقدر. وقال وقال بعضهم: لكن للاستدراك، والتوكيد.

(1/615)


ولا تقع لكن إلا بين متنافيين، بوجه ما. فإن كان ما قبلها نقيضاً لما بعدها، نحو: قام زيد لكن عمراً لم يقم، أو ضداً نحو: ما هذا أحمر لكنه أصفر، جاز بلا خلاف. وإن كان خلافاً، نحو: ما أكل لكنه شرب، ففيه خلاف، والظاهر الجواز. وإن كان وفاقاً لم يجز، بإجماع.
وقال الزمخشري: لكن للاستدراك، توسطها بين كلامين متغايرين، نفياً وإيجاباً. فتستدرك بها النفي بالإيجاب، والإيجاب بالنفي. وذلك قولك: ما جاءني زيد لكن عمراً جاءني، وجاءني زيد لكن عمراً لم يجئ. والتغاير في المعنى بمنزلته في اللفظ. كقولك: فارقني زيد لكن عمراً حاضر، وجاءني زيد لكن عمراً غائب، وقوله تعالى " ولو أراكهم كثيراً لفشلتم، ولتنازعتم

(1/616)


في الأمر. ولكن الله سلم "، على معنى النفي، وتضمن ما أراكهم كثيراً.
ومذهب البصريين أن لكن بسيطة. وهو حرف نادر البناء، لا مثال له في الأسماء، ولا في الأفعال. قال ابن يعيش: وألفه أصل، لأنا لا نعلم أحداً، يؤخذ بقوله، ذهب إلى أن الألفات في الحروف زائدة. فلو سميت به لصار اسماً، وكانت ألفه زائدة، ويكون وزنه فاعلاً، لأن الألف لا تكون أصلاً في ذوات الأربعة، من الأسماء والأفعال.
وقال الفراء: لكن مركبة؛ أصلها لكن أن، فطرحت الهمزة ونون لكن. ونقل صاحب اللباب، عن الكوفيين، أنها مركبة من لا وإن، والكاف زائدة، والهمزة محذوفة. ونقله عنهم ابن يعيش أيضاً، قال: وذهب الكوفيون

(1/617)


إلى أنها مركبة، وأصلها إن زيدت عليها لا والكاف. وهو قول حسن، لندرة البناء، وعدم النظير. ويؤيده دخول اللام في خبره، كما تدخل في خبر إن، على مذهبهم. ومنه:
ولكنني، من حبها، لعميد
والمذهب الأول، لضعف تركيب ثلاثة أشياء، وجعلها حرفاً واحداً. انتهى.
وقيل: إنها مركبة من لا وكأن، والكاف للتشبيه، وأن على أصلها. ولذلك وقعت بين كلامين، من نفي لشيء، وإثبات لغيره. وهو رأي السهيلي.
ولكن لها أحكام، مذكورة في باب إن، نشير هنا إلى بعضها: فمنها أنها تنصب الأسم، وترفع الخبر، لشبهها بالفعل، كأخواتها. وتقدم مذهب من أجاز نصب الجزءين بها، وبأخواتها.

(1/618)


ومنها أنها تكف بما، فتدخل على الجملتين. فالأسمية كقول الشاعر:
ولكنما أهلي بود، أنيسه ... سباع تبغى الناس، مثنى، وموحد
والفعلية كقول امرئ القيس:
ولكنما أسعى، لمجد، مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل، أمثالي
وتقدم قول من أجاز الإعمال، وجعل ما زائدة ملغاة.
ومنها أن اللام لا تدخل في خبرها، خلافاً للكوفيين. وأما قول الشاعر:
ولكنني، من حبها، لعميد

(1/619)


فلا حجة فيه، لأنه بيت مجهول، لا يعرف له تمام، ولا شاعر، ولا راو عدل يقول: سمعته ممن يوثق بعربيته. هكذا قال ابن مالك. وأيضاً فإنه متأول على تقدير: ولكن إنني. فنقلت حركة الهمزة، ثم حذفت النون، وأدغم.
ومنها أنها قد تخفف، فيبطل عملها، خلافاً ليونس، والأخفش، في إجازتها إعمالها. وقد سبق بيان مذهبهما.
وما سوى هذا، من أحكام لكن، فلا حاجة لذكره هنا. والله أعلم.
وأما

أنتما وأنتن
إذا وقعا فصلاً، ففيهما خلاف مشهور. وقد تقدم في أخواتهما.
فهذا آخر الكلام على الخماسي. وبتمامه تم الكلام على جميع حروف المعاني.
وقد ذكر بعضهم أن كان الزائدة حرف. وكذلك

(1/620)


أصبح وأمسى في قول العرب: ما أصبح أبردها، وما أمسى أدفأها. قالا: لأن الأفعال لا تزاد.
وقال بعضهم: إن الذي تكون حرفاً، على مذهب يونس، والفراء، لأنها تكون عندهما مصدرية، لا تحتاج إلى عائد.
وقد كان حق هذا الألفاظ أن أذكرها في باب الثلاثي، والرباعي. وإنما أهملت ذكرها هناك، لشهرتها، وغرابة القول بحرفيتها. وللكلام عليها موضع، هو أليق به من هذا الكتاب.
والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب. والله،

(1/621)


سبحانه وتعالى، المسؤول أن يجعلنا ممن دعي فأجاب، وأن يرشدنا للتسديد في السؤال والجواب، وممن فهم الحكمة وفصل الخطاب، وأن يصلي على سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى الآل والأصحاب، وتابعيهم إلى يوم المآب، آمين.

(1/622)