الفصول المفيدة في الواو المزيدة 11 - فصل فِيمَا احْتج بِهِ لِلْقَائِلين
بِأَن الْوَاو للتَّرْتِيب
وَذَلِكَ وُجُوه
أَحدهَا
مَا تقدم من الْآيَات الَّتِي وَقع التَّرْتِيب على مُقْتَضى مَا
فِيهَا من تَقْدِيم وَتَأْخِير كَقَوْلِه تَعَالَى {ارْكَعُوا واسجدوا}
وَمَا ذكر مَعَه
وَجَوَابه مَا تقدم أَن التَّرْتِيب لَيْسَ مستفادا من هَذِه الْآيَات
بل بِدَلِيل من خَارج مثل فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّكُوع قبل
السُّجُود وَقَوله (صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) فالترتيب وَقع
مَعَ اللَّفْظ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمل فِيهِ
وَثَانِيها
قَوْله تَعَالَى {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} الْآيَة
وَثَبت فِي حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ الَّذِي سَاقه فِي صفه
الْحَج بقوله إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(1/88)
لما خرج إِلَى السَّعْي قَرَأَ هَذِه
الْآيَة وَقَالَ (نبدأ بِمَا بَدَأَ الله بِهِ) هَكَذَا فِي صَحِيح
مُسلم بِصفة الْخَبَر وَهُوَ عِنْد النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ
فِي رِوَايَة بِصِيغَة الْأَمر (ابدأوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ)
وَسَنَد ذَلِك جيد صَحِيح يحْتَج بِهِ وَجَوَابه أَن الْوَاو لَو
اقْتَضَت التَّرْتِيب لما احْتِيجَ إِلَى ذَلِك ولكان التَّعْلِيل وَقع
بمدلول الْوَاو لابتداء الله تَعَالَى بالصفا
وَأما مَا يُوجد فِي كتب أَئِمَّة الْأُصُول أَن الصَّحَابَة رَضِي
الله عَنْهُم قَالُوا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَ نبدأ
فَقَالَ ابدأوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ فَإِنَّهُ لَا يُوجد هَكَذَا
فِي شَيْء من كتب الحَدِيث وَالْجَوَاب على تَقْدِير صِحَة هَذِه
الرِّوَايَة ظَاهر فَإِنَّهُ لَو كَانَت الْوَاو للتَّرْتِيب لفهم
الصَّحَابَة مدلولها وَمَا احتاجوا إِلَى سُؤال
(1/89)
وَثَالِثهَا
مَا جَاءَ فِي صَحِيح مُسلم أَن خَطِيبًا قَامَ بَين يَدي النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ (من يطع الله وَرَسُوله فقد رشد وَمن
يعصهما فقد غوى) وَالدّلَالَة من هَذَا ظَاهِرَة فَإِنَّهَا لَو كَانَت
لمُطلق الْجمع لم يكن بَين الْكَلَامَيْنِ فرق
وَأجَاب عَنهُ جمَاعَة من أَئِمَّة الْأُصُول وَغَيرهم بِأَنَّهُ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أنكر عَلَيْهِ لإتيانه بالضمير
الْمُقْتَضِي للتسوية فَأمره بالْعَطْف وإفراد اسْم الله تَعَالَى
تَعْظِيمًا لَهُ بِتَقْدِيم اسْمه بِدَلِيل أَن مَعْصِيّة الله
مَعْصِيّة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَلِكَ الْعَكْس فَلَا
تَرْتِيب بَينهمَا بل كل مِنْهُمَا مستلزمة لِلْأُخْرَى
وَهَذَا الْجَواب يرد عَلَيْهِم شَيْئَانِ
أَحدهمَا قَوْلهم إِن معصيتهما لَا تَرْتِيب فِيهَا فَإِن كَانَ
المُرَاد التَّرْتِيب الزماني فَمُسلم وَلَا يلْزم مِنْهُ عدم
التَّرْتِيب مُطلقًا فَإِن التَّرْتِيب تَارَة يكون بِالزَّمَانِ
وَتارَة يكون بالرتبة
وَإِن كَانَ المُرَاد بِهِ عدم التَّرْتِيب مُطلقًا فَلَيْسَ ذَلِك
بِصَحِيح لِأَن فِيهَا التَّرْتِيب بالرتبة إِذْ لَا شكّ أَن مَعْصِيّة
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرتبَة على مَعْصِيّة الله تَعَالَى
وَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا يسْتَلْزم الْأُخْرَى
(1/90)
الثَّانِي مَا روى أَبُو دَاوُد فِي سنَنه
بِسَنَد صَحِيح عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ (علمنَا
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خطْبَة الْحَاجة) فَذكرهَا وفيهَا
(من يطع الله وَرَسُوله فقد رشد وَمن يعصهما فَإِنَّهُ لَا يضر إِلَّا
نَفسه وَلَا يضر الله شَيْئا) وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث أنس رَضِي الله
عَنهُ أَيْضا (وَمن يعصهما فقد غوى) من قَول النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم
وَقيل فِي الْجمع بَين هَذِه الْأَحَادِيث وُجُوه
أَحدهَا أَن هَذَا خَاص بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَإِنَّهُ يُعْطي مقَام الربوبية حَقه وَلَا يتَوَهَّم فِيهِ تسويته
لَهُ بِمَا عداهُ أصلا بِخِلَاف غَيره من الْأَئِمَّة فَإِنَّهُ
مَظَنَّة التَّسْوِيَة عِنْد الْإِطْلَاق وَالْجمع فِي الضمائر بَين
مَا يعود إِلَى اسْم الله تَعَالَى وَغَيره فَلهَذَا جَاءَ بالإتيان
بِالْجمعِ بَين الاسمين بضمير وَاحِد من كَلَام النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحَدِيثين الْمشَار إِلَيْهِمَا وَفِي قَوْله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا (من كَانَ الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ
مِمَّا سواهُمَا) وَغير ذَلِك
(1/91)
وَأمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك
الْخَطِيب بِالْإِفْرَادِ لِئَلَّا يُوهم كَلَامه التَّسْوِيَة وَهُوَ
مثل الحَدِيث الْمُتَقَدّم من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا
تَقولُوا مَا شَاءَ الله وشئت قُولُوا مَا شَاءَ الله ثمَّ شِئْت)
وَهَذَا يرد عَلَيْهِ أَن حَدِيث ابْن مَسْعُود الْمُتَقَدّم فِيهِ
تَعْلِيم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته تِلْكَ الْخطْبَة
ليقولوها عِنْد الْحَاجة وَفِيه (وَمن يعصهما) فَيدل على عدم الخصوصية
بِهِ إِلَّا أَن يُقَال يُؤْخَذ من مَجْمُوع الْحَدِيثين أَن يَقُولُوا
فِي خطْبَة الْحَاجة (وَمن يعْص الله وَرَسُوله) كم علم النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك الْخَطِيب وَيكون حَدِيث ابْن مَسْعُود
فِيهِ تَعْلِيم أصل خطْبَة الْحَاجة لَا بِجَمِيعِ ألفاظها وَفِيه نظر
وَثَانِيها أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ أنكر على
ذَلِك الْخَطِيب كَانَ هُنَاكَ من يتَوَهَّم مِنْهُ التَّسْوِيَة بَين
المقامين عِنْد الْجمع بَين الاسمين بضمير وَاحِد فَمنع من ذَلِك
وَحَيْثُ لم يكن هُنَاكَ من يلبس عَلَيْهِ أَتَى بضمير الْجمع وَهَذَا
لَعَلَّه أقرب من الَّذِي قبله
وَثَالِثهَا أَن ذَلِك الْمَنْع لم يكن على وَجه التحتم بِدَلِيل
الْأَحَادِيث الآخر بل على وَجه النّدب والإرشاد إِلَى الْأَوْلَوِيَّة
فِي إِفْرَاد اسْم الله تَعَالَى بِالذكر من التَّعْظِيم اللَّائِق
بجلاله
وَهَذَا يرجع فِي الْحَقِيقَة إِلَى مَا قَالَه أَئِمَّة الْأُصُول
أَولا لَكِن بِزِيَادَة أَن ذَلِك لَيْسَ حتما وَحِينَئِذٍ فَلَا تكون
الْوَاو مقتضية للتَّرْتِيب
وَرَابِعهَا أَن ذَلِك الْإِنْكَار كَانَ مُخْتَصًّا بذلك الْخَطِيب
وَكَأن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فهم عَنهُ أَنه لم يجمع
بَينهمَا فِي الضَّمِير إِلَّا لتسويته بَينهمَا فِي الْمقَام فَقَالَ
لَهُ (بئس الْخَطِيب أَنْت) فَيكون ذَلِك مُخْتَصًّا بِمن حَاله
كَذَلِك
وَلَعَلَّ هَذَا الْجَواب هُوَ الْأَقْوَى لِأَن هَذِه الْقِصَّة
وَاقعَة عين وَمَا ذَكرْنَاهُ مُحْتَمل ويؤثر هَذَا الِاحْتِمَال
فِيهَا أَن يحمل على الْعُمُوم فِي حق كل أحد
(1/92)
فَإِذا انْضَمَّ إِلَى ذَلِك حَدِيث أبي
دَاوُد الَّذِي علم فِيهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته
كَيْفيَّة خطْبَة الْحَاجة وفيهَا {وَمن يعصهما} بضمير التَّثْنِيَة
قوي ذَلِك الِاحْتِمَال
وَهَذَا مثل مَا قيل فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا
تفضلُونِي على مُوسَى) مَعَ قَوْله (أَنا سيد ولد آدم) فَقيل فِي
الْجمع بَينهمَا وُجُوه مِنْهَا أَن الَّذِي مَنعه من التَّفْضِيل فهم
مِنْهُ غضا من منصب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد التَّفْضِيل
عَلَيْهِ فَمَنعه مِنْهُ فَيكون ذَلِك مُخْتَصًّا بِمن هُوَ مثل حَاله
وَالْعلم عِنْد الله
وَرَابِعهَا
مَا رُوِيَ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ أنكر على سحيم عبد بني الحسحاس
قَوْله
(كفى الشيب وَالْإِسْلَام للمرء ناهيا)
وَقَالَ لَو قدمت الْإِسْلَام على الشيب
(1/93)
وَأَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
أَنْكَرُوا على عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أمره
بِتَقْدِيم الْعمرَة على الْحَج وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى
{وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} فلولا أَنهم فَهموا من الْآيَة
التَّرْتِيب لما أَنْكَرُوا ذَلِك عَلَيْهِ وَفهم الصَّحَابَة رَضِي
الله عَنْهُم حجَّة فِي مثل ذَلِك لأَنهم أهل اللِّسَان وَهَذَا
الْأَثر ذكره جمَاعَة من أَئِمَّة الْأُصُول وَلم أَجِدهُ فِي شَيْء من
كتب الحَدِيث بعد كَثْرَة الْبَحْث عَنهُ
وَكَذَلِكَ أَيْضا لم أجد لإنكار عمر رَضِي الله عَنهُ على سحيم سندا
وَلكنه مَشْهُور فِي كثير من الْكتب وَقد أُجِيب عَنهُ بِأَن ذَلِك
الْإِنْكَار على وَجه الْأَدَب فِي تَقْدِيم الأهم فِي الذّكر وَإِن
كَانَت الْوَاو لَا تَقْتَضِي ترتيبا فَإِن التَّرْتِيب لَهُ سَبَب
إِرَادَة لفظية كالفاء وَثمّ وطبيعة زمانية فالنطق الْوَاقِع فِي
الزَّمَان الأول مُتَقَدم بالطبع على النُّطْق الْوَاقِع فِي الزَّمَان
الَّذِي بعده وَهُوَ السِّرّ فِيمَا حكى سِيبَوَيْهٍ عَن الْعَرَب
أَنهم يبدأون بِمَا هُوَ الأهم عِنْدهم وَكَانَت الْعِنَايَة بِهِ أَشد
فَكل مَا قدم بِالزَّمَانِ دلّ على أَن الْمُتَكَلّم قصد الاهتمام بِهِ
أَكثر مِمَّا بعده وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَفْضِيلًا فإنكار عمر رَضِي
الله عَنهُ لهَذَا الْمَعْنى
وَأما إِنْكَار الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم على ابْن عَبَّاس
فَأجَاب عَنهُ فَخر
(1/94)
الدّين بِأَن فهمهم معَارض لفهم ابْن
عَبَّاس وَفِيه نظر لِأَن الْكَثْرَة مقتضية للترجيح
وَأجَاب عَنهُ الْآمِدِيّ بِأَنَّهُ لم يكن مُسْتَند إنكارهم أمره
بِتَقْدِيم الْعمرَة على الْحَج كَون الْآيَة مقتضية للتَّرْتِيب
حَتَّى تتأخر الْعمرَة على الْحَج بل لِأَنَّهَا مقتضية للْجمع
الْمُطلق وَأمره بالترتيب مُخَالف لمقْتَضى الْآيَة
وَأجَاب غَيره بِمَا تقدم من الاهتمام بِذكر الأول فَإِنَّهُم فَهموا
من الْآيَة الاهتمام بِأَمْر الْحَج فتقديم الْعمرَة عَلَيْهِ فِي
الْفِعْل يُنَاقض ذَلِك الاهتمام وَإِن لم تكن الْوَاو مقتضية
للتَّرْتِيب
وخامسها
أَن التَّرْتِيب على سَبِيل التعقيب وضعُوا لَهُ الْفَاء وعَلى سَبِيل
التَّرَاخِي وضعُوا لَهُ ثمَّ وَمُطلق التَّرْتِيب وَهُوَ الْقدر
الْمُشْتَرك بَين الخاصتين معنى مَعْقُول أَيْضا فَلَا بُد لَهُ من لفظ
يدل عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ لِأَن الْمُقْتَضِي لذَلِك قَائِم
وَالْمَانِع
(1/95)
مُنْتَفٍ وَيلْزم من ذَلِك أَن تكون
الْوَاو هِيَ الْمَوْضُوعَة لَهُ إِذْ لَا غَيرهَا مَوضِع لَهُ
بالِاتِّفَاقِ
وَجَوَابه الْمُعَارضَة بِمثلِهِ كَمَا تقدم فِي الْجمع الْمُطلق
وَالْحَاجة إِلَيْهِ أَعم فَيكون أَكثر فَائِدَة فَكَانَ أولى
بِالْوَضْعِ
وَاعْترض على هَذَا بِأَنا إِذا جعلنَا الْوَاو حَقِيقَة فِي
التَّرْتِيب كَانَ الْجمع الْمُطلق جُزْءا من الْمُسَمّى ولازما لَهُ
فَيجوز جعله مجَازًا فِيهِ لما بَينهمَا من الْمُلَازمَة بِخِلَاف
الْعَكْس فَإنَّا إِذا قُلْنَا إِنَّهَا حَقِيقَة فِي الْجمع الْمُطلق
لَازِما لَهُ فَلَا يتجوز بهَا فِيهِ لعدم الْمُلَازمَة
وَبِعِبَارَة أُخْرَى أَنه تعَارض احْتِمَالَانِ أَحدهمَا كَون
اللَّفْظ حَقِيقَة فِي الْأَخَص مجَازًا فِي الْأَعَمّ وَالْآخر كَونه
حَقِيقَة فِي الْأَعَمّ مجَازًا فِي الْأَخَص وَالْأول أولى لِأَن
الْأَخَص يسْتَلْزم الْأَعَمّ وَلَا ينعكس
وَجَوَابه هَذَا يمْتَنع أَنه لَا يَصح التَّجَوُّز بهَا فِي
التَّرْتِيب إِذا كَانَت حَقِيقَة فِي الْجمع الْمُطلق بل هَذَا هُوَ
الْأَقْوَى لِأَن إِطْلَاق اللَّفْظ الْأَعَمّ وَإِرَادَة الْأَخَص
كثير سَائِغ وَلَيْسَت وُجُوه العلاقة الْمُقْتَضِيَة للتجوز منحصرة
فِي التلازم حَتَّى يلْزم مَا ذَكرُوهُ بل لَهَا وُجُوه كَثِيرَة غير
ذَلِك
وَالله تَعَالَى أعلم
(1/96)
12 - فصل فِي مسَائِل فقهية
تتخرج على أَن الْوَاو للْجمع الْمُطلق أَو للتَّرْتِيب
فَمِنْهَا إِذا قَالَ لغير الْمَدْخُول بهَا أَنْت طَالِق وَطَالِق
وَطَالِق فمذهب الْحَنَفِيَّة وَالْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي
أَنه لَا يَقع عَلَيْهِ إِلَّا طَلْقَة وَاحِدَة بِخِلَاف مَا إِذا
قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا فَإِنَّهَا تطلق لَهَا وَهَذَا هُوَ
الَّذِي ذهب
(1/97)
إِلَيْهِ جمَاعَة من الْمَالِكِيَّة وَذهب
آخَرُونَ مِنْهُم إِلَى أَنَّهَا تطلق ثَلَاثًا فِي هَذِه الْوَاو
وَهُوَ مَذْهَب أحمدبن حَنْبَل وَاللَّيْث بن سعد وَابْن أبي ليلى
وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب من الْمَالِكِيَّة وَحَكَاهُ بعض
الْأَصْحَاب قولا قَدِيما للْإِمَام الشَّافِعِي وَبَعْضهمْ ذكره وَجها
أَيْضا للأصحاب
وَهَؤُلَاء مأخذهم أَن الْكَلَام كُله فِي حكم جملَة وَاحِدَة لَا أَن
الْوَاو تَقْتَضِي الْمَعِيَّة بل لَا فرق بَين قَوْله أَنْت طَالِق
ثَلَاثًا وَبَين الصُّورَة الْأُخْرَى بالْعَطْف بِالْوَاو بِخِلَاف
مَا إِذا قَالَ أَنْت طَالِق ثمَّ طَالِق أَو طَالِق فطالق فَإِن ابْن
شَاس حكى عَن مَذْهَب مَالك أَنه لَا يَقع إِلَّا طَلْقَة وَاحِدَة
لِأَنَّهَا تبين بِالْأولَى فتجيء الثَّانِيَة بعد الْبَيْنُونَة لما
تَقْتَضِيه الْفَاء من التَّرْتِيب وَثمّ من المهلة بِخِلَاف الْوَاو
وَذكر بعض الْمُتَأَخِّرين من الْمَالِكِيَّة عَن مَذْهَبهم أَنه لَا
فرق بَين الْوَاو وَبَين الْفَاء وَثمّ فِي وُقُوع الثَّلَاث وَإِن
كَانَت غير مَدْخُول بهَا وَغلط ابْن شَاس فِيمَا
(1/98)
نقل فيحرر ذَلِك من كتبهمْ
وَأما الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَقع إِلَّا وَاحِدَة فمأخذهم أَنه
إِذا قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا فَإِن قَوْله ثَلَاثًا تَفْسِير
لقَوْله أَنْت طَالِق وَالْكَلَام بِهِ جملَة وَاحِدَة وَهُوَ مُعْتَبر
بِآخِرهِ فَتَقَع الثَّلَاث وَأما إِذا نسق بِالْوَاو فقد عدد الْجمل
فَكَانَت الْجُمْلَة الأولى غير مُقَيّدَة بِشَيْء فتقتضي وُقُوع
الطَّلَاق بهَا فتصادفها الْجُمْلَة الثَّانِيَة وَهِي بَائِنَة فَلَا
تُؤثر لعدم تأثر الْمحل بهَا وَالْوَاو لَا تَقْتَضِي الْجمع بِقَيْد
الْمَعِيَّة بل الْمَوْجُود من هَذَا الْكَلَام ثَلَاث إيقاعات
مُتَوَالِيَات من غير أَن يكون للْبَعْض تعلق بِالْبَعْضِ وَهِي مترتبة
بِالزَّمَانِ ضَرُورَة التَّلَفُّظ بهَا فَتبين بِالْجُمْلَةِ الأولى
وَلَا يلْحقهَا شَيْء بعْدهَا وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن تكون الْوَاو
للتَّرْتِيب
فَائِدَة
ذكر الشَّيْخ أَبُو عمر بن الْحَاجِب فِي مُخْتَصره فِي أصُول الْفِقْه
عَن مَالك رَحمَه الله أَنه قَالَ فِي الْوَاو الْأَظْهر أَنَّهَا مثل
(ثمَّ) ثمَّ حمله على أَنه لم يرد بذلك أَنَّهَا مثل ثمَّ فِي إِفَادَة
التَّرْتِيب بل مُرَاده فِي الْمَدْخُول بهَا أَنه لَا ينوى
(1/99)
فِي التَّأْكِيد إِذا ادَّعَاهُ فِي قَوْله
أَنْت طَالِق وَطَالِق كَمَا لَا يقبل مِنْهُ أَيْضا فِي قَوْله أَنْت
طَالِق ثمَّ طَالِق
وَقد تخبط شرَّاح كتاب الْمُخْتَصر فِي هَذَا الْموضع بِكَلَام
مُخْتَلف لَا فَائِدَة فِي الإطالة بِهِ
وَيعرف ذَلِك بِبَيَان مَذْهَب مَالك رَحمَه الله فِي هَذِه الْمسَائِل
فقاعدته أَنه إِذا قَالَ للمدخول بهَا أَنْت طَالِق أَنْت طَالِق أَنْت
طَالِق وَنوى تَأْكِيد الأولى لم يَقع عَلَيْهِ غَيرهَا وَيقبل مِنْهُ
دَعْوَى نِيَّة التَّأْكِيد فَإِن كَانَ ذَلِك بِالْفَاءِ أَو بثم لم
يقبل مِنْهُ نِيَّة التَّأْكِيد وَلَا تَنْفَعهُ وَيَقَع عَلَيْهِ
الثَّلَاث وَإِن كَانَ الْعَطف بِالْوَاو قَالَ ابْن الْقَاسِم توقف
عَنْهَا مَالك وَقَالَ فِي النسق بِالْوَاو إِشْكَال قَالَ وَرَأَيْت
الْأَغْلَب على رَأْيه أَنَّهَا مثل ثمَّ وَلَا ينوى وَهُوَ رَأْيِي
هَذَا نقل صَاحب الْجَوَاهِر عَن ابْن الْقَاسِم
(1/100)
وَالَّذِي نَقله عَنهُ ابْن يُونُس أَنه
قَالَ أَعنِي ابْن الْقَاسِم قَالَ مَالك وَفِي النسق بِالْوَاو
إِشْكَال قَالَ ورأيته يَعْنِي مَالِكًا يُرِيد بقوله إِنَّهَا ثَلَاث
تَطْلِيقَات وَلَا ينوى وَهُوَ رَأْيِي فَظهر بِهَذَا أَن معنى كَون
الْوَاو بِمَعْنى ثمَّ عِنْد مَالك فِي هَذِه الصُّورَة الْخَاصَّة
إِذا خَاطب الْمَدْخُول بهَا لَا فِي كل الصُّور وَأما فِي غير
الْمَدْخُول بهَا فقد تقدم الْكَلَام فِيهِ وَالله أعلم
2 - وَمِنْهَا مَا إِذا قَالَ لغير الْمَدْخُول بهَا إِن دخلت الدَّار
فَأَنت طَالِق وَطَالِق وَطَالِق فَدخلت فِيهَا وَجْهَان
لِأَصْحَابِنَا وَخلاف بَين الْحَنَفِيَّة أَيْضا
أحد الْوَجْهَيْنِ وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة لَا يَقع بِالدُّخُولِ
إِلَّا وَاحِدَة
وَالثَّانِي وَبِه قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن يَقع بِهِ
الثَّلَاث وَهُوَ الَّذِي رَجحه الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ
(1/101)
وَوجه أَصْحَابنَا الأول بِالْقِيَاسِ على
مَا إِذا نجز ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يَقع بِهِ إِلَّا وَاحِدَة كَمَا
تقدم وَالثَّانِي بِأَن الثَّلَاث جَمِيعًا مُتَعَلقَة بِالدُّخُولِ
وواقعة عِنْده فَلَا تقدم وَلَا تَأَخّر
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة يُمكن بِنَاء الْوَجْهَيْنِ على الْخلاف
بَين أَصْحَابنَا فِي أَن الْوَاو للْجمع الْمُطلق أَو للتَّرْتِيب
قلت وَفِي هَذَا الْبناء نظر من جِهَة أَن مُقْتَضى مَا وجهوه أَن يكون
الْوَاو للْجمع بِقَيْد الْمَعِيَّة لَا لمُطلق الْجمع
وَأما الْحَنَفِيَّة فمأخذ الْخلاف عِنْدهم الْبناء على كَيْفيَّة تعلق
الْجَزَاء الثَّانِي وَالثَّالِث بِالشّرطِ لَا لِأَن الْوَاو اقْتَضَت
الْمُقَارنَة أَو التَّرْتِيب فَقَالَ أَبُو حنيفَة الْجَزَاء الأول
تعلق بِالشّرطِ بِلَا وَاسِطَة وَالثَّانِي تعلق بِهِ بِوَاسِطَة الأول
وَالثَّالِث تعلق بِهِ بواسطتين وَالْمُعَلّق تطليق عِنْد وجود
الشَّرْط والوسائط من ضَرُورَة صِحَة
(1/102)
الْعَطف فَينزل الْمُعَلق حَيْثُ ينزل
مُتَفَرقًا وَمن ضَرُورَته أَن تبين بِالْأولِ فَلَا يُصَادف الثَّانِي
وَالثَّالِث محلا قَابلا للوقوع
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد مُوجب اللَّفْظ التَّشْرِيك بَين
الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ وَالْجُمْلَة الأولى تَامَّة لوُجُود
الشَّرْط وَالْجَزَاء وَقَوله طَالِق جملَة نَاقِصَة وَكَذَلِكَ
الثَّالِثَة فتشارك كل وَاحِدَة مِنْهُمَا الأولى فِي التَّعْلِيق لَا
فِي التَّطْلِيق فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الأجزية مَا يُوجب صفة
التَّرْتِيب إِذْ الْوَاو لَا يَقْتَضِي ذَلِك وَلما تعلّقت غير
مَوْصُوفَة بالترتيب وَقعت كَذَلِك أَيْضا بِخِلَاف مَا إِذا نجز
الطَّلَاق فَإِنَّهُ يَقع بِالْجُمْلَةِ الأولى وَتَكون الثَّانِيَة
كالمعادة للإيقاع وَقد بَانَتْ بِالْأولَى
وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة بسط مَا وَجه بِهِ أَصْحَابنَا وُقُوع
الثَّلَاث
وَقَالَ بعض الْحَنَفِيَّة فِي تَوْجِيهه أَيْضا إِن عطف الْجُمْلَة
النَّاقِصَة على الْكَامِلَة يُوجب إِعَادَة مَا فِي الْكَامِلَة لتصير
النَّاقِصَة مثلهَا بِخِلَاف عطف الْجُمْلَة الْكَامِلَة أَلا ترى إِذا
قَالَ هَذِه طَالِق ثَلَاثًا وَهَذِه طلقت الْأُخْرَى ثَلَاثًا لِأَن
خبر الأولى يصير معادا فِي حَقّهَا بِخِلَاف مَا لَو قَالَ هَذِه
طَالِق ثَلَاثًا وَهَذِه طَالِق فَإِن الثَّانِيَة لَا تطلق إِلَّا
وَاحِدَة لِأَن جُمْلَتهَا مفيدة بِنَفسِهَا فَلَا تَقْتَضِي ذكر
الْخَبَر مرّة أُخْرَى فَقَوله وَطَالِق بعد قَوْله إِن دخلت الدَّار
فَأَنت طَالِق جملَة نَاقِصَة لَا شَرط لَهُ فَيصير الشَّرْط كالمذكور
مرّة أُخْرَى فَكَأَنَّهُ قَالَ إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق
وَطَالِق إِن دخلت الدَّار فَيَقَع ثَلَاث تَطْلِيقَات بدخلة وَاحِدَة
وَيصير فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة كَمَا لَو كرر الشَّرْط صَرِيحًا
(1/103)
أما إِذا قدم الْجَزَاء فَقَالَ أَنْت
طَالِق وَطَالِق وَطَالِق إِن دخلت الدَّار فَفِيهَا طَرِيقَانِ عِنْد
أَصْحَابنَا
إِحْدَاهمَا أَنه على الْخلاف الْمُتَقَدّم وَالأَصَح أَنه تقع
الثَّلَاث إِذا دخلت وَالطَّرِيق الثَّانِي الْقطع بالأصح وَهُوَ
مَذْهَب الْحَنَفِيَّة كلهم لِأَنَّهَا جَمِيعًا تعلّقت بِالدُّخُولِ
فَتَقَع جملَة بِخِلَاف مَا إِذا تقدم الشَّرْط إِذْ يُمكن أَن يُقَال
إِن الْمُعَلق فِيهِ بِالدُّخُولِ الطَّلقَة الأولى والأخريان معطوفتان
ومترتبتان عَلَيْهَا كَمَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَذَلِكَ لَا يتخيل
هُنَا
وَلِهَذَا جمع بعض أَصْحَابنَا بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ وَذكر فيهمَا
ثَلَاثَة أوجه وَالثَّالِث الْفرق بَين تقدم الشَّرْط وتأخره وَالأَصَح
فيهمَا جَمِيعًا مَا تقدم أَنه تقع الثَّلَاث بِالدُّخُولِ وَالله أعلم
3 - وَمِنْهَا إِذا قَالَ الرجل لعَبْدِهِ إِذا مت وَدخلت الدَّار
فَأَنت حر فَإِنَّهُ يشْتَرط الدُّخُول بعد الْمَوْت إِلَّا أَن يُصَرح
بِأَنَّهُ أَرَادَ الدُّخُول قبله
هَكَذَا نَقله الرَّافِعِيّ وَلم يحك فِيهِ خلافًا وَحكى أَيْضا عَن
أَكثر الْأَصْحَاب مثله فِيمَا إِذا قَالَ إِذا مت وشئت الْحُرِّيَّة
أَو شَاءَ فلَان فَأَنت حر كَمَا إِذا قَالَ إِذا مت ثمَّ دخلت الدَّار
فَأَنت حر
وَمُقْتَضى هَذَا كُله الْجَزْم بِأَن الْوَاو للتَّرْتِيب إِلَّا أَن
يُقَال إِن قرينَة التَّعْلِيق هُنَا صرفت الْوَاو عَن حَقِيقَتهَا
إِلَى الْمجَاز وَفِيه نظر
4 - وَمِنْهَا مَا إِذا قَالَ إِن كلمت زيدا وَدخلت الدَّار فَأَنت
طَالِق فَفِيهِ وَجْهَان لِأَصْحَابِنَا أصَحهمَا أَنه مَتى وجد
الفعلان وَقع الطَّلَاق سَوَاء وجدا مَعًا أَو أَحدهمَا قبل الآخر على
وفْق مَا قَالَ أَو على عَكسه لِأَن الْوَاو إِنَّمَا تَقْتَضِي مُطلق
الْجمع كَمَا تقدم وَالثَّانِي أَنه لَا تطلق حَتَّى يتَقَدَّم تكليمها
زيدا على دُخُول الدَّار فَإِذا وجدا كَذَلِك طلقت وَهَذَا ذهَاب من
قَائِله إِلَى أَن الْوَاو
(1/104)
تَقْتَضِي التَّرْتِيب وَهُوَ وَجه
مَشْهُور وَلَكِن الرَّاجِح خِلَافه
5 - وَمِنْهَا إِذا وكل رجلا فِي المخالعة فَقَالَ خُذ مَالِي ثمَّ
طَلقهَا لم يجز تَقْدِيم الطَّلَاق على أخد المَال وَلَو قَالَ خُذ
مَالِي وَطَلقهَا فَهَل يشْتَرط تَقْدِيم المَال كَمَا فِي الصُّورَة
الأولى أم لَا يشْتَرط ذَلِك وَيجوز تَقْدِيم الطَّلَاق كَمَا لَو
قَالَ طَلقهَا وَخذ مَالِي مِنْهَا
فِيهِ وَجْهَان حَكَاهُمَا الرَّافِعِيّ وَقد رجح صَاحب التَّهْذِيب
مِنْهُمَا الأول يَعْنِي الِاشْتِرَاط للتقديم وَهَذَا يحْتَمل أَن
يكون ذَهَابًا من الْبَغَوِيّ إِلَى أَن الْوَاو تَقْتَضِي التَّرْتِيب
وَيحْتَمل أَن يكون اعْتِبَارا للِاحْتِيَاط للْمُوكل فِي تَقْدِيم
أَخذ المَال لِأَن الرَّافِعِيّ حكى عقيب ذَلِك أَنه لَو قَالَ طَلقهَا
ثمَّ خُذ مَالِي أَنه يجوز تَقْدِيم أَخذ المَال على الطَّلَاق
فَإِنَّهُ زِيَادَة خير فَدلَّ على أَن الْمُعْتَبر لَيْسَ مُرَاعَاة
التَّقْدِيم اللَّفْظِيّ بل شَيْئا آخر
6 - وَمِنْهَا على مَذْهَب الْحَنَفِيَّة إِذا زوج رجل أمتين برضاهما
من رجل بِغَيْر إِذْنه وَبِغير إِذن الْمولى فَالنِّكَاح عِنْدهم
مَوْقُوف على إجَازَة كل وَاحِد مِنْهُمَا فَإِن
(1/105)
أجَاز أَحدهمَا يُوقف على إجَازَة الآخر
فَإِن اعتقهما الْمولى قبل الْإِجَازَة بِلَفْظ وَاحِد لم يبطل
النِّكَاح فيهمَا مُطلقًا لِأَنَّهُ لم يتَحَقَّق الْجمع بَين الْحرَّة
وَالْأمة لَا فِي حَال العقد وَلَا فِي حَال الْإِجَازَة لَكِن لم يبْق
لاجازة الْمولى أثر
وَإِن أعتقهما مفترقا فِي زمانين سقط حق الْمولى من الْإِجَازَة فِي حق
الأولى وَبَقِي مَوْقُوفا على إجَازَة الزَّوْج وَبَطل النِّكَاح فِي
الثَّانِيَة لِأَنَّهُ يلْزم قبل عتقهَا الْجمع بَين الْحرَّة وَالْأمة
حَالَة الْإِجَازَة إِذْ كَانَ حق الْمولى بَاقِيا فِي إجَازَة
نِكَاحهَا إِلَى أَن أعْتقهَا
وَلَو قَالَ هَذِه حرَّة وَهَذِه حرَّة كَانَ كَمَا لَو أعتقهما فِي
وَقْتَيْنِ وَهَذَا مشْعر بِأَن الْوَاو عِنْدهم للتَّرْتِيب
قَالُوا وَلَيْسَ ذَلِك لهَذَا الْمَعْنى بل لِأَنَّهُ لما عتقت الأولى
وَحدهَا خرج نِكَاح الثَّانِيَة عَن أَن يكون محلا للْوَقْف فَإِنَّهُ
إِذا تزوج أمة نِكَاحا مَوْقُوفا بَطل نِكَاح الْأمة وَإِذا خرجت
الْأمة الَّتِي لم تعْتق عَن عَن أَن تبقى محلا للنِّكَاح الْمَوْقُوف
(1/106)
بَطل نِكَاحهَا وَذَلِكَ أَمر زَائِد غير
كَون الْوَاو للتَّرْتِيب أَو للمعية
7 - وَمِنْهَا على مَا عِنْدهم أَيْضا إِذا زوج أُخْتَيْنِ فِي عقدين
من رجل غَائِب بِغَيْر إِذْنه ثمَّ بلغه الْخَبَر فَإِن أجَاز
نِكَاحهمَا مَعًا بطلا كَمَا لَو بَاشر العقد بِنَفسِهِ وَإِن أجَاز
نِكَاح كل مِنْهُمَا مُتَفَرقًا بَطل فِي الثَّانِيَة وَإِن قَالَ أجزت
نِكَاح هَذِه وَهَذِه بطلا أَيْضا كَمَا لَو أجَاز نِكَاحهمَا مَعًا
وَهَذَا يشْعر بِأَن الْوَاو للمعية وَهِي عكس الَّتِي قبلهَا فِيمَا
إِذا قَالَ هَذِه حرَّة وَهَذِه حرَّة وَفرقُوا بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ
بِأَن الْكَلَام إِذا كَانَ آخِره يُغير أَوله فَلِأَنَّهُ يتَوَقَّف
أَوله عَلَيْهِ كَمَا هُوَ يتَوَقَّف على الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء
وَإِذا لم يُغير آخِره أَوله لم يتَوَقَّف عَلَيْهِ كَمَا فِي
الْمَسْأَلَة الأولى فَإِن إِعْتَاق الْأمة الثَّانِيَة لَا يُغير
إِعْتَاق الأولى لِأَن نِكَاح الأولى يبْقى صَحِيحا مَوْقُوفا كَمَا
كَانَ وَإِنَّمَا أثر الثَّانِي فِي صِحَة نَفسه لَا فِي تَغْيِير
الأول لَو صَحَّ فَلم يتَوَقَّف الْكَلَام عَلَيْهِ وَإِذا لم
يتَوَقَّف فسد الثَّانِي
وَأما فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فَقَوله أجزت نِكَاح هَذِه وَهَذِه آخر
الْكَلَام يُغير أَوله لِأَنَّهُ إِذا لم يضم الثَّانِيَة إِلَى الأولى
يَصح نِكَاح الأولى وَإِذا ضم الاجازة إِلَيْهَا بَطل نِكَاحهمَا
للْجمع بَينهمَا فَينزل ذَلِك منزلَة الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء
المتصلين بالْكلَام بِخِلَاف مَا إِذا أجَاز نِكَاح كل وَاحِدَة
مِنْهُمَا فِي وَقت فَإِنَّهُ لم يتَّصل بآخر الْكَلَام مَا غير أَوله
إِذْ كل اجازة مُنْفَرِدَة بِنَفسِهَا فاقتصر الْبطلَان على
الثَّانِيَة
(1/107)
هَذَا حَاصِل مَا وجهوا بِهِ هَذِه
الْمَسْأَلَة وَفرقُوا بَينهمَا وَبَين الَّتِي قبلهَا وَلَا يخفى مَا
فِي ذَلِك من الضعْف
وَالْفرق ظَاهر بَين هَذِه وَبَين اتِّصَال الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء
بِمَا قبله لِأَن مَا اتَّصل بِهِ الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء الْكَلَام
فِيهِ جملَة وَاحِدَة فَاعْتبر بآخرها بِخِلَاف قَوْله أجزت نِكَاح
هَذِه وَنِكَاح هَذِه فَإِنَّهُمَا جملتان وَإِن كَانَتَا معطوفتين
فَلم يحصل تدافع كَمَا فِي قَوْله أجزت نِكَاحهمَا فيبطلان جَمِيعًا
لِأَنَّهُ لَيْسَ إِحْدَاهمَا بِتَعْيِين الصِّحَّة أولى من الْأُخْرَى
فَيبْطل فيهمَا
وَأما فِي هَذِه الصُّورَة فقد تعيّنت الأولى للصِّحَّة بإفرادها
بالاجازة فَيَنْبَغِي أَن تتَعَيَّن الْأُخْرَى للبطلان وَلَا أثر
لاتصال الْكَلَام وإلزامهم من هَذِه الْمَسْأَلَة أَن الْوَاو عِنْدهم
يَقْتَضِي الْجمع بِقَيْد الْمَعِيَّة ظَاهر وَالله أعلم
8 - وَمِنْهَا على قاعدتهم أَيْضا إِذا قَالَ من مَاتَ أَبوهُ عَن
ثَلَاثَة أعبد قيمتهم على السوَاء أعتق أبي هَذَا وَهَذَا وَهَذَا
فَإِن قَالَه بِكَلَام مُتَّصِل عتق من كل وَاحِد ثلثه على قاعدتهم
وَلَا قرعَة وَإِن أقرّ بذلك فِي زمن متفرق عتق الأول بِكَمَالِهِ
وَنصف الثَّانِي وَثلث الثَّالِث أما عتق الأول بِكَمَالِهِ فَلِأَن
الْوَارِث أقرّ بِعِتْقِهِ وَحده وَالثلث يحْتَملهُ بِعِتْق من غير
استسعاء ثمَّ لما أقرّ بِالثَّانِي مُنْفَصِلا عَن الأول وَلم يُغير
ذَلِك حكم الأول لِأَن الْكَلَام غير مُتَّصِل فَلم يُغير آخِره أَوله
لكنه بِمُقْتَضى إِقْرَاره زعم أَن الثُّلُث بَينه وَبَين الأول
نِصْفَيْنِ وَلم يصدق فِي إبِْطَال حق الأول لما ذَكرْنَاهُ وَصدق فِي
إِثْبَات حق الثَّانِي فَيعتق مِنْهُ نصفه ثمَّ لما أقرّ بِعِتْق
الثَّالِث زعم أَن الثُّلُث بَينهم أَثلَاثًا لكنه لم يصدق فِي
إبِْطَال حق الْأَوَّلين لعدم اتِّصَال الْكَلَام فَيعتق من الثَّالِث
ثلثه
(1/108)
وَأما إِذا أقرّ بذلك بِكَلَام مُتَّصِل
فَمُقْتَضى قَوْله إِنَّه يعْتق من كل وَاحِد ثلثه أَن يكون الْوَاو
للْجمع بِقَيْد الْمَعِيَّة عِنْدهم وَقد انفصلوا عَنهُ بِمَا تقدم فِي
الَّتِي قبل هَذِه أَن آخر الْكَلَام يُغير أَوله فاعتد بجملته كَمَا
فِي حَالَة الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء وَذَلِكَ أَنه لَو سكت على
الْإِقْرَار بِعِتْق الأول نفذ فِيهِ وَحده فَإِذا وصل بِكَلَامِهِ
الْإِقْرَار بِعِتْق الثَّانِي وَالثَّالِث تغير حكم الأول من عتق
إِلَى تشقيص واستسعاء فَكَانَ دافعا لحكم الأول وَكَذَا حكم الثَّانِي
مَعَ الثَّالِث بِالنِّسْبَةِ إِلَى قدر مَا يتَعَلَّق مِنْهُ كَمَا
تقدم فَلَمَّا كَانَ كَذَلِك توقف أول الْكَلَام وأوسطه على آخِره
وَعتق من كل وَاحِد ثلثه
هَذَا حَاصِل مَا وجهوا بِهِ هَذِه الْمَسْأَلَة وفيهَا النّظر
الْمُتَقَدّم
9 - وَمِنْهَا إِذا قَالَ فِي مرض مَوته سَالم حر وغانم حر وَكَانَ
الثُّلُث لَا يحْتَمل إِلَّا أَحدهمَا فَإِنَّهُ ينفذ عتق الأول لَا
لِأَن الْوَاو للتَّرْتِيب بل لِأَن عتق الأول نفذ عَن غير مَوْقُوف
على شَيْء فَلم يُصَادف عتق الثَّانِي محلا للنفوذ
هَذَا مَا جزم بِهِ أَصْحَابنَا وَمُقْتَضى قَاعِدَة الْحَنَفِيَّة
الْمَذْكُورَة آنِفا أَن الثُّلُث يتقسط عَلَيْهِمَا بالتشقيص
لِأَنَّهُ باتصال كَلَامه دفع آخِره أَوله فاعتبرا كَالْكَلَامِ
الْوَاحِد
(1/109)
أما إِذا قَالَ سَالم وغانم وواثق أَحْرَار
وَلم يَحْتَمِلهُمْ الثُّلُث فَإِنَّهُ يقرع بَينهم على قَاعِدَة
الشَّافِعِي الَّتِي دلّ عَلَيْهَا الحَدِيث وَيعتق من كل مِنْهُم ثلثه
عِنْد الْحَنَفِيَّة على قاعدتهم وَلَيْسَ ذَلِك لِأَن الْوَاو للمعية
بل لِأَن الْأَخْبَار بحريتهم كَانَ بعد تسميتهم فَهُوَ كَمَا لَو
عينهم جَمِيعًا بِكَلِمَة وَاحِدَة مُخَاطبا لَهُم وَذَلِكَ قدر زَائِد
على كَون الْوَاو للْجمع بِقَيْد الْمَعِيَّة كَمَا أَن فِي الأول لَا
يُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّهَا للتَّرْتِيب وَالله سُبْحَانَهُ أعلم
(1/110)
|