الفصول المفيدة في الواو المزيدة 16 - فصل الْفَصْل والوصل
يتَّصل بِهَذَا الْكَلَام القَوْل فِي الْمَوَاضِع الَّتِي يحسن فِيهَا
الْإِتْيَان بِالْوَاو العاطفة وَالَّتِي يحسن فِيهَا حذفهَا أويتعين
وَهُوَ الْفَنّ الْمُسَمّى بِالْفَصْلِ والوصل فِي علم الْبَيَان
وَهُوَ من أدق أبوابه وأغمضها مسلكا وَلَا يقوم بِهِ إِلَّا من أُوتِيَ
فِي فهم كَلَام الْعَرَب فهما دَقِيقًا وطبعا سليما ورزق فِي إِدْرَاكه
ذوقا صَحِيحا
وَلِهَذَا سُئِلَ بعض الْعلمَاء عَن البلاغة فَقَالَ معرفَة الْفَصْل
من الْوَصْل وَإِنَّمَا الْإِشْكَال فِي هَذَا الْبَاب فِي الْوَاو دون
غَيرهَا من حُرُوف الْعَطف لِأَن تِلْكَ تفِيد مَعَ التَّشْرِيك شَيْئا
زَائِدا كالترتيب فِي الْفَاء والتراخي فِي ثمَّ وكإفادة أَو أَن
المُرَاد أحد الشَّيْئَيْنِ وَكَذَلِكَ الْبَقِيَّة بِخِلَاف الْوَاو
فَإِنَّهَا تفِيد مُطلق الْجمع كَمَا تقدم وَهُوَ التَّشْرِيك فِي أصل
الحكم أَو فِي بعض صِفَاته أَو فِي لَازم الْمُسَمّى إِمَّا ذهنا أَو
عرفا وَنَحْو ذَلِك من الْجِهَات الجامعة لاقْتِضَاء الْعَطف
عطف الْجمل
وَالَّذِي يتَصَدَّى النّظر فِيهِ الْكَلَام فِي عطف الْجمل بَعْضهَا
على بعض وَتَركه وَقد ذكر جمَاعَة من النجَاة لما تكلمُوا فِي إِضْمَار
الْوَاو العاطفة أَن الْمُتَكَلّم بِالْخِيَارِ فِي الْجمل إِن شَاءَ
عطفها وَإِن شَاءَ لم يعْطف ومثلوا ذَلِك بقوله
(1/128)
تَعَالَى {سيقولون ثَلَاثَة رابعهم كلبهم
وَيَقُولُونَ خَمْسَة سادسهم كلبهم} ثمَّ قَالَ {وَيَقُولُونَ سَبْعَة
وثامنهم كلبهم} وَهَذَا لَيْسَ بالهين وَلَا الْأَمر فِيهِ سهل كَمَا
سنبينه إِن شَاءَ الله وَلَيْسَ حذف الْوَاو وإثباتها فِي هَذِه الْجمل
الثَّلَاثَة على السوَاء كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله
تَعَالَى
عطف جملَة لَهَا مَحل على أُخْرَى
ثمَّ الْجُمْلَة إِذا عطفت على جملَة أُخْرَى فإمَّا أَن تكون الأولى
لَهَا مَحل من الْإِعْرَاب أَولا فَإِن كَانَ لَهَا مَحل من
الْإِعْرَاب وَقصد التَّشْرِيك بَينهَا وَبَين الثَّانِيَة فِيهِ عطفت
عَلَيْهَا كعطف الْمُفْرد على الْمُفْرد فَإِن الْجُمْلَة لَا يكون
لَهَا مَحل من الْإِعْرَاب حَتَّى تكون وَاقعَة موقع الْمُفْرد فَكَمَا
يشْتَرط فِي عطف الْمُفْردَات أَن يكون بَينهَا جِهَة جَامِعَة كَذَلِك
يشْتَرط فِي الْجمل كَقَوْلِك زيد يكْتب ويشعر أَو يُعْطي وَيمْنَع
وَعَلِيهِ حمل قَوْله تَعَالَى {وَالله يقبض ويبسط} وَلذَلِك عيب على
أبي تَمام فِي بَيته الْمُتَقَدّم ذكره
(لَا وَالَّذِي هُوَ عَالم أَن النَّوَى ... صَبر وَأَن أَبَا
الْحُسَيْن كريم) لعدم الْمُنَاسبَة بَين الجملتين
فَإِن لم يقْصد التَّشْرِيك بَين الجملتين فِي الْإِعْرَاب كَانَ لَهُ
الْخِيَار فِي الْعَطف وَعَدَمه لكنه يتَقَيَّد بِمَا سَيَأْتِي ذكره
وَرُبمَا وَرُبمَا تعين الْوَصْل أَو عدم الْعَطف كَمَا سَيَأْتِي
(1/129)
عطف جملَة لَا مَحل لَهَا على أُخْرَى
أما إِذا كَانَت الْجُمْلَة لَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب فَلَا بُد
فِي الْعَطف من أَن تكون الجملتان كالنظيرين والشريكين بِحَيْثُ إِذا
عرف السَّامع حَال الأولى عناه أَن يعرف الثَّانِي أَو مَا يقرب من
ذَلِك كَقَوْلِك زيد كَاتب وَعَمْرو شَاعِر فَإِن هَذَا خطاب لمن هُوَ
متشوق لمعْرِفَة حَالهمَا فِي هَذَا الْأَمر الْمَخْصُوص وَكَذَلِكَ
زيد طَوِيل وَعَمْرو قصير فَلَو قلت زيد طَوِيل الْقَامَة وَعَمْرو
شَاعِر لم يكن ذَلِك حسنا إِلَّا إِذا تقدم سُؤال من مُتَكَلم عَن حَال
كل مِنْهُمَا فِي ذَلِك الشَّيْء الْمَخْصُوص وَلَو قلت خرجت الْيَوْم
من دَاري وَأحسن الَّذِي يَقُول كَذَا كَانَ كلَاما متهجنا لِأَن
الثَّانِي لَيْسَ من الأول فِي شَيْء بِخِلَاف قَوْلك الْعلم حسن
وَالْجهل قَبِيح لِأَن كَون الْعلم حسنا مضموم فِي الْعُقُول إِلَى
كَون الْجَهْل قبيحا
التَّعَلُّق بَين الجملتين بالتأكيد أَو الصّفة يُوجب الْفَصْل
ثمَّ هَذِه الْجمل على قسمَيْنِ الأول أَن يكون معنى إِحْدَى الجملتين
لذاته مُتَعَلقا بِمَعْنى الْأُخْرَى كَمَا إِذا كَانَت كالتوكيد لَهَا
أَو الصّفة فَلَا يجوز إِدْخَال العاطف بَينهمَا لِأَن التَّأْكِيد
وَالصّفة متعلقان بالمؤكد والموصوف لذاتهما والتعلق الذاتي يُغني عَن
لفظ يدل على التَّعَلُّق فَمثل ذَلِك قَوْله تَعَالَى {الم ذَلِك
الْكتاب لَا ريب فِيهِ} فَإِن وزان {لَا ريب فِيهِ} فِي الْآيَة وزان
نَفسه فِي قَوْلك جَاءَنِي الْخَلِيفَة نَفسه فَهُوَ بَيَان وَتَحْقِيق
مُؤَكد لِأَنَّك لم ترد بِقَوْلِك جَاءَنِي الْخَلِيفَة الْمجَاز
فَكَذَلِك الْآيَة فَإِنَّهُ لما بولغ فِي وَصفه
(1/130)
بالكمال وبلوغه الدرجَة القصوى مِنْهُ
لجعله الْمُبْتَدَأ ذَلِك وَتَقْدِير الْخَبَر بِاللَّامِ فَكَانَ نفي
الريب عَنهُ تَأْكِيدًا لكماله كَأَنَّهُ قَالَ هُوَ ذَلِك الْكتاب
وَمثله قَوْله {سَوَاء عَلَيْهِم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لَا يُؤمنُونَ}
فَإِن معنى قَوْله تَعَالَى {لَا يُؤمنُونَ} معنى مَا قبله وَكَذَلِكَ
أَيْضا قَوْله تَعَالَى بعده {ختم الله على قُلُوبهم} تَأْكِيد ثَان
لِأَن عدم التَّفَاوُت بَين الانذار وَعَدَمه لَا يَصح إِلَّا فِي حق
من لَيْسَ لَهُ قلب يخلص إِلَيْهِ الْحق وَسمع تدْرك بِهِ حجَّة وبصر
تثبت بِهِ عِبْرَة
وَقَوله تَعَالَى {يخادعون الله وَالَّذين آمنُوا} كَذَلِك أَيْضا
تَأْكِيد لما قبله لِأَن المخادعة لَيست شَيْئا غير قَوْلهم {آمنا}
مَعَ أَنهم غير مُؤمنين فَلذَلِك لم يقل ويخادعون
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قَالُوا إِنَّا مَعكُمْ إِنَّمَا نَحن
مستهزؤون} وَقَوله تَعَالَى {ولى مستكبرا كَأَن لم يسْمعهَا كَأَن فِي
أُذُنَيْهِ وقرا} وَإِن كَانَ الثَّانِي أبلغ من الأول لِأَن حَال من
لَا يَصح السّمع مِنْهُ أبلغ فِي عدم الِانْتِفَاع بالْكلَام من حَال
من يَصح ذَلِك مِنْهُ
فَأَما قَوْله تَعَالَى {مَا هَذَا بشرا إِن هَذَا إِلَّا ملك كريم}
فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون من التَّأْكِيد من حَيْثُ إِن الْمُرْتَفع
عَن جنس البشرية من الْمَخْلُوقَات
(1/131)
لَيْسَ إِلَّا الْملك فِي عرف المستحسن
الْمُعظم لذَلِك وَيحْتَمل أَن يكون من الصّفة فَإِن إِخْرَاجه من جنس
البشرية تَتَضَمَّن لَا محَالة دُخُوله فِي جنس آخر وَالْقِسْمَة غير
منحصرة فِي الْملك والبشر فَكَانَ جعله ملكا لِسَان الْمَقْصُود من
ذَلِك الْجِنْس والتمييز عَن غَيره
وَمن مَوَاضِع التوكيد أَيْضا قَوْله تَعَالَى {وَمَا علمناه الشّعْر
وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِن هُوَ إِلَّا ذكر وَقُرْآن مُبين} وَقَوله
{وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى}
عدم التَّعَلُّق بَين الجملتين وَوُجُود اللّبْس بالْعَطْف يُوجب
الْفَصْل
الْقسم الثَّانِي أَلا يكون بَين الجملتين تعلق ذاتي فإمَّا أَن يعرض
لبس من الْعَطف أَولا فَإِن عرض لبس وَجب ترك الْعَطف كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى {قَالُوا إِنَّا مَعكُمْ إِنَّمَا نَحن مستهزؤون الله يستهزئ
بهم} فَإِنَّهُ لَو عطف {الله يستهزئ بهم} على مَا قبله لأوهم أَنه من
مقول الْمُنَافِقين وَلَيْسَ مِنْهُ فَترك الْعَطف لذَلِك وَمثله
أَيْضا قَوْله تَعَالَى {قَالُوا إِنَّمَا نَحن مصلحون أَلا إِنَّهُم
هم المفسدون} فَترك الْعَطف لبَيَان أَن هَذِه الْجُمْلَة من قَول الله
تَعَالَى ردا عَلَيْهِم وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قَالُوا أنؤمن
كَمَا آمن السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُم هم السُّفَهَاء}
وَهَذِه الْجمل فِي الْحَقِيقَة جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر لِأَنَّهُ
تَعَالَى لما أخبر عَنْهُم بِأَنَّهُم قَالُوا كَيْت وَكَيْت شوق
السَّامع إِلَى الْعلم بمصير أَمرهم وَمَا حكم بِهِ
(1/132)
عَلَيْهِم فَكَأَنَّهُ قيل وماذا يفعل الله
بهم فَقَالَ {الله يستهزئ بهم ويمدهم فِي طغيانهم يعمهون} أَو مَاذَا
حكمهم فَقَالَ {أَلا إِنَّهُم هم السُّفَهَاء} فحصر السَّفه فيهم
وَمِنْه قَول الشَّاعِر
(زعم العواذل أنني فِي غمرة ... صدقُوا وَلَكِن غمرتي لَا تنجلي)
فَإِنَّهُ لما حكى عَن العواذل أَنهم قَالُوا هُوَ فِي غمرة وَكَانَ
ذَلِك مِمَّا يُحَرك السَّامع لِأَن يَقُول لَهُ فَمَا جوابك عَن ذَلِك
أخرج الْكَلَام مخرجه فَقَالَ صدقُوا إِلَّا أَن ترك الْعَطف هُنَا لَا
يتَعَيَّن لعدم الايهام واللبس بِخِلَاف الْآيَات الْمُتَقَدّمَة
وَأَيْضًا فَلَو عطف قَوْله {الله يستهزئ بهم} على مَا قبله لأوهم
مشاركته فِي الِاخْتِصَاص بالظرف الْمُتَقَدّم وَهُوَ قَوْله {وَإِذا
خلوا إِلَى شياطينهم} لِأَنَّهُ الْوَقْت الْمَقُول فِيهِ {إِنَّا
مَعكُمْ إِنَّمَا نَحن مستهزؤون} وَلَا شكّ أَن استهزاء الله بهم
وَهُوَ خذلانه إيَّاهُم واستدراجه لَهُم من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ
مُتَّصِل لَا يَنْقَطِع بِكُل حَال خلوا إِلَى شياطينهم أم لم يخلوا
إِلَيْهِم
أما إِذا لم يحصل من الْعَطف لبس وَلَا إِيهَام فإمَّا أَن يكون بَين
الجملتين انْقِطَاع إِمَّا كَامِل أَو بِمَنْزِلَتِهِ أَو اتِّصَال
كَامِل أَو بِمَنْزِلَتِهِ
(1/133)
الِانْقِطَاع بَين الجملتين يُوجب الْفَصْل
فَإِن كَانَت الثَّانِيَة مُنْقَطِعَة عَن الأولى أَو فِي معنى ذَلِك
حذفت الْوَاو لِأَن الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ يَقْتَضِي مُنَاسبَة
بَينهمَا كَمَا تقدم وَمن هَذَا الضَّرْب اخْتِلَاف الجملتين خَبرا
وإنشاء كَقَوْلِك مَاتَ فلَان اللَّهُمَّ ارحمه أَو رَحمَه الله
لِأَنَّهُ بِمَعْنى الْإِنْشَاء وَجعل السكاكي مِنْهُ قَول اليزيدي
(ملكته حُبْلَى وَلكنه ... أَلْقَاهُ من زهد على غاربي)
(وَقَالَ إِنِّي فِي الْهوى كَاذِب ... انتقم الله من الْكَاذِب)
(1/134)
وَحمله الْجِرْجَانِيّ على الِاسْتِئْنَاف
وَقَول السكاكي أقوى
كَمَال الِاتِّصَال يُوجب الْفَصْل
وَإِن كَانَ بَينهمَا كَمَال الِاتِّصَال فَكَذَلِك أَيْضا لَا يعْطف
إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى وَذَلِكَ بِأَن تكون الْجُمْلَة
الثَّانِيَة بَدَلا من الأولى أَو عطف بَيَان أَو صفة حَقِيقِيَّة
لِئَلَّا يلْزم من ذَلِك عطف الشَّيْء على نَفسه
الِاسْتِئْنَاف يُوجب الْفَصْل
وَإِن لم يكن شَيْء من ذَلِك فَإِن قصد الِاسْتِئْنَاف لم يكن عطف
لِأَنَّهُ نوي بِهِ مُبْتَدأ كَقَوْلِه تَعَالَى {وَمَا أبرئ نَفسِي
إِن النَّفس لأمارة بالسوء} وَكَذَلِكَ إِذا سيقت الْجُمْلَة
الثَّانِيَة فِي معرض جَوَاب سَائل سَأَلَ كَمَا تقدم فِي الْآيَات
وَالْبَيْت الْمُتَقَدّم
(صدقُوا وَلَكِن غمرتي لَا تنجلي)
وَمثله قَول أبي الطّيب
(1/135)
(وَمَا عفت الرِّيَاح لَهُ محلا ... عفاه
من حدا بهم وساقا)
فَإِنَّهُ لما نفى الْفِعْل الْمَوْجُود عَن الرِّيَاح كَانَ مظنه
لِأَن يسْأَل عَن الْفَاعِل
يجب الْعَطف لدفع توهم خلاف الْمَقْصُود
وَأما مَا عدا ذَلِك فيقوى فِيهِ الْعَطف بِالْوَاو وَيتَعَيَّن ذَلِك
عِنْد دفع إِيهَام خلاف الْمَقْصُود كَقَوْل الْقَائِل لَا وأيدك الله
وَالْوَاو فِي مثل هَذَا متعينة نَظِير تعين حذفهَا فِي تِلْكَ
الْآيَات الْمُتَقَدّمَة
يحسن الْعَطف لِاتِّفَاق الجملتين فِي الْخَبَر إو الْإِنْشَاء
وَمَتى اتّفقت الجملتان فِي الْخَبَر أَو الْإِنْشَاء حسن الْعَطف
كَقَوْلِه تَعَالَى {إِن الْأَبْرَار لفي نعيم وَإِن الْفجار لفي جحيم}
وَقَوله {يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَيخرج الْمَيِّت من الْحَيّ}
وَقَوله {وكلوا وَاشْرَبُوا وَلَا تسرفوا}
وَمثله أَيْضا إِذا اتفقتا معنى لَا لفظا كَقَوْلِه تَعَالَى {وَإِذ
أَخذنَا مِيثَاق بني إِسْرَائِيل لَا تَعْبدُونَ إِلَّا الله
وبالوالدين إحسانا وَذي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَقُولُوا
للنَّاس حسنا}
(1/136)
) بعطف {قُولُوا} على {لَا تَعْبدُونَ}
لِأَنَّهُ بِمَعْنى لَا تعبدوا وَأما قَوْله تَعَالَى {وبالوالدين
إحسانا} فتقديره إِمَّا وتحسنون بِمَعْنى أَحْسنُوا وَهَذَا أبلغ من
صَرِيح الْأَمر وَالنَّهْي لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ قد سورع فِيهِ إِلَى
الِامْتِثَال والانتهاء فَهُوَ يخبر عَنهُ
وَالْحَاصِل أَنه مَتى كَانَت الْجُمْلَة الثَّانِيَة مُطَابقَة للأولى
لم يعْطف وَكَذَلِكَ إِذا كَانَت مُغَايرَة لَهَا إِلَّا أَن يكون نوع
ارتباط بِوَجْه جَامع
تَقْسِيم الْجَامِع إِلَى عَقْلِي ووهمي وخيالي
وَقد قسم السكاكي الْجَامِع بَين الشَّيْئَيْنِ إِلَى عَقْلِي ووهمي
وخيالي أما الْعقلِيّ فَهُوَ أَن يكون بَينهمَا اتِّحَاد فِي
التَّصَوُّر أَو تماثل مَعَ تبَاين يَقْتَضِي التَّعَدُّد أَو يكون
بَينهمَا تضايف كَمَا فِي الْعلَّة والمعلول وَالسَّبَب والمسبب والسفل
والعلو والأقل وَالْأَكْثَر فَإِن الْعقل يَأْبَى أَلا يجتمعا فِي
الذِّهْن
وَأما الوهمي فَهُوَ أَن يكون بَين تصورهما شبه تماثل كلون الْبيَاض
ولون الصُّفْرَة فَإِن الْوَهم يبرزهما فِي معرض المثلين وَلذَلِك حسن
قَول الشَّاعِر
(ثَلَاثَة تشرق الدُّنْيَا ببهجتها ... شمس الضُّحَى وَأَبُو اسحاق
وَالْقَمَر)
(1/137)
أَو تضَاد كالسواد وَالْبَيَاض والتحرك
والسكون وَالْقِيَام وَالْقعُود وَالْعلم وَالْجهل وَالْحسن والقبح أَو
شبه تضَاد كالسماء وَالْأَرْض والسهل والجبل فَإِن الْوَهم ينزل
المتضادين والشبيهين بهما بِمَنْزِلَة المتضايفين فَيجمع بَينهمَا فِي
الذِّهْن
وَأما الخيالي فَأن يكون بَين تصورهما تقارن فِي الخيال سَابق فَيجمع
بَينهمَا لذَلِك وَيخْتَلف هَذَا باخْتلَاف الصُّور الثَّابِتَة فِي
الخيالات ترتبا ووضوحا وَعَلِيهِ يتَخَرَّج قَوْله تَعَالَى {أَفلا
ينظرُونَ إِلَى الْإِبِل كَيفَ خلقت} وَمَا بعْدهَا فَإِنَّهَا نزلت
بِمَكَّة وَالْخطاب مَعَ أَهلهَا وَسَائِر الْعَرَب وَجل انتفاعهم فِي
معاشهم بِالْإِبِلِ فَتكون عنايتهم أَولا مصروفة إِلَيْهَا وانتفاعهم
مِنْهَا لَا يحصل إِلَّا بِأَن ترعى وتشرب وَذَلِكَ بنزول الْمَطَر
فيكثر تقلب وُجُوههم فِي السَّمَاء ثمَّ لَا بُد لَهُم من مأوى يؤويهم
وَمن حصن يتحصنون بِهِ وَلَا شَيْء لَهُم فِي ذَلِك كالجبال ثمَّ لَا
غنى لَهُم لتعذر طول مكثهم فِي منزل عَن التنقل من أَرض إِلَى سواهَا
فَإذْ فتش البدوي فِي خياله وجد صُورَة هَذِه الْأَشْيَاء حَاضِرَة
فِيهِ على التَّرْتِيب الْمَذْكُور بِخِلَاف الحضري فَإِنَّهُ لَا
يستحضر ذَلِك فِي خياله هَكَذَا فيظن النسق بجهله معيبا
فَإِن قيل قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة قل هِيَ
مَوَاقِيت للنَّاس وَالْحج وَلَيْسَ الْبر بِأَن تَأْتُوا الْبيُوت من
ظُهُورهَا} أَي رابطة بَين الْأَهِلّة وَبَين إتْيَان الْبيُوت
(1/138)
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {سُبْحَانَ
الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} الْآيَة بكمالها ثمَّ قَالَ عقيبها
{وآتينا مُوسَى الْكتاب} الْآيَة
قُلْنَا أما الْآيَة الأولى فسؤالهم إِنَّمَا كَانَ عَن الْحِكْمَة فِي
نُقْصَان الْأَهِلّة وتمامها فَكَأَنَّهُ قيل لَهُم مَعْلُوم أَن كل
مَا يَفْعَله الله سُبْحَانَهُ فَهُوَ حِكْمَة ظَاهِرَة وَفِيه
الْمصلحَة لِعِبَادِهِ فدعوا السُّؤَال عَنهُ وانظروا إِلَى وَاحِدَة
تفعلونها أَنْتُم لَيْسَ فِيهَا شَيْء من الْبر وَأَنْتُم تحسبونها برا
وَيحْتَمل أَن يكون ذكر ذَلِك على وَجه الاستطراد فَإِنَّهُ لما بَين
أَن من الْحِكْمَة فِي الْأَهِلّة مَوَاقِيت الْحَج ذكر مَا يعتاده
بَعضهم من شَيْء كَانَ يَظُنّهُ سنة وَهُوَ أَنه إِذا قدم من الْحَج
لَا يدْخل بَيته إِلَى من ظَهره على وَجه الاستطراد عِنْد ذكر الْحَج
كَمَا فِي قَول مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {هِيَ عصاي أتوكأ عَلَيْهَا
وأهش بهَا على غنمي ولي فِيهَا مآرب أُخْرَى}
وَأما آيَة الْإِسْرَاء فَالْمَعْنى فِيهَا أطلعناه على الْغَيْب
عيَانًا وأخبرناه بوقائع من سلف ليَكُون ذَلِك تنويعا فِي معجزاته صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَي سُبْحَانَ الَّذِي أطلعك على بعض آيَاته
وأخبرك بِمَا جرى لمُوسَى وَقَومه ليَكُون فِيهَا آيَة أُخْرَى
وَجَمِيع مَا فِي الْقُرْآن من الْجمل المعطوفة الْمُنَاسبَة فِيهَا
ظَاهِرَة لمن تأملها وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق
(1/139)
17 - فصل عطف الصِّفَات بَعْضهَا على بعض
وَمِمَّا يتَّصل بذلك أَيْضا الْكَلَام فِي عطف الصِّفَات بَعْضهَا على
بعض وَقد تقدم أَن الْجُمْلَة إِذا كَانَت فِي معنى الصّفة لَا تعطف
فالصفة الْحَقِيقِيَّة أولى بذلك لِأَنَّهَا متحدة بالموصوف والعطف
يَقْتَضِي الْمُغَايرَة وَلِهَذَا جَاءَت صِفَات الله تَعَالَى غير
معطوفة غَالِبا كَقَوْلِه تَعَالَى {الرَّحْمَن الرَّحِيم} {الْملك
القدوس السَّلَام الْمُؤمن الْمُهَيْمِن الْعَزِيز الْجَبَّار المتكبر}
{الْخَالِق البارئ المصور} لِأَنَّهَا صِفَات أزلية أبدية وَافَقت
الذَّات فِي الْقدَم وَلَيْسَت مُغَايرَة
وَجَاء فِي الْقُرْآن الْعَظِيم {هُوَ الأول وَالْآخر وَالظَّاهِر
وَالْبَاطِن} وَقَوله تَعَالَى {غَافِر الذَّنب وقابل التوب شَدِيد
الْعقَاب ذِي الطول} بعطف (قَابل التوب) دون غَيرهَا
وَقَوله تَعَالَى {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون
الساجدون الآمرون بِالْمَعْرُوفِ والناهون عَن الْمُنكر والحافظون
لحدود الله} وَقَوله تَعَالَى {أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن مسلمات مؤمنات
قانتات تائبات عابدات سائحات}
(1/140)
ثيبات وأبكارا) وَقَول الشَّاعِر
(إِلَى الْملك القرم وَابْن الْهمام ... وَلَيْث الكتيبة فِي المزدحم)
وَلِهَذَا كُله جوز جمَاعَة عطف الصِّفَات بِالْوَاو مُطلقًا وَحمل
عَلَيْهِ من يَقُول إِن الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر مَا
جَاءَ فِي الحَدِيث عَن عَائِشَة وَحَفْصَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ عَلَيْهِمَا (حَافظُوا على
الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَصَلَاة الْعَصْر) فَقَالُوا هُوَ
من بَاب عطف الصِّفَات
وَلَا شكّ أَن تَجْوِيز هَذَا على الْإِطْلَاق ينْقض قاعدتين كبيرتين
إِحْدَاهمَا
(1/141)
أَن الصّفة والموصوف كالشيء الْوَاحِد
وَالثَّانيَِة أَن الْعَطف يَقْتَضِي الْمُغَايرَة
وَاو الثَّمَانِية وَالرَّدّ على القَوْل بهَا
وَذكر جمَاعَة أَن الْوَاو فِي قَوْله تَعَالَى {الآمرون
بِالْمَعْرُوفِ والناهون عَن الْمُنكر} وَقَوله {ثيبات وأبكارا} وَاو
الثَّمَانِية لِأَن السَّبْعَة عدد كَامِل فَيُؤتى بعْدهَا بِالْوَاو
إشعارا بذلك وحملوا عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَيَقُولُونَ سَبْعَة
وثامنهم كلبهم} وَهُوَ قَول لَا دَلِيل لَهُ وَلَا أصل لَهُ
وأعجب من ذَلِك أَنهم قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {حَتَّى إِذا جاؤوها
وَفتحت أَبْوَابهَا} إِنَّهَا وَاو الثَّمَانِية لِأَن الْجنَّة كلهَا
ثَمَانِيَة أَبْوَاب وَهُوَ تخيل عَجِيب وَالْوَاو هُنَا للْحَال كَمَا
سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ التَّحْقِيق أَن الصِّفَات إِذا قصد تعدادها من
غير نظر إِلَى جمع أَو انْفِرَاد لم يكن ثمَّ عطف وَإِن أُرِيد الْجمع
بَين الصفتين أَو التَّنْبِيه على تغايرهما عطف بالحرف وَكَذَلِكَ إِذا
أُرِيد التنويع لعدم اجْتِمَاعهمَا فَإِنَّهُ يُؤْتى بالْعَطْف أَيْضا
وَكَذَلِكَ إِذا قصد رفع استبعاد اجْتِمَاعهمَا لموصوف وَاحِد
فَإِنَّهَا
(1/142)
تعطف أَيْضا كَمَا فِي الْبَيْت
الْمُتَقَدّم
(إِلَى الْملك القرم وَابْن الْهمام ... )
فَإِن الْعَطف جَاءَ هُنَا رفعا لاستبعاد من يستبعد اجْتِمَاع هَذِه
الصِّفَات فِيهِ فَقَوله تَعَالَى {هُوَ الأول وَالْآخر وَالظَّاهِر
وَالْبَاطِن} إِنَّمَا عطفت لِأَنَّهَا أَسمَاء متضادة الْمعَانِي فِي
أصل الْوَضع فَرفع الْوَهم بالْعَطْف عَن من يستبعد ذَلِك فِي ذَات
وَاحِدَة فَإِن الشَّيْء الْوَاحِد لَا يكون بَاطِنا ظَاهرا من وَجه
وَاحِد فَكَانَ الْعَطف هَا هُنَا أحسن
وَأما قَوْله تَعَالَى {ثيبات وأبكارا} فَإِن الْمَقْصُود بِالصِّفَاتِ
الأول ذكرهَا مجتمعة وَالْوَاو توهم التنويع لاقتضائها الْمُغَايرَة
فَترك الْعَطف بَينهَا لبيانا اجتماعها فِي وَقت وَاحِد بِخِلَاف
الثيوبة والبكورة فَإِنَّهُمَا متضادان لَا يَجْتَمِعَانِ على مَحل
وَاحِد فِي آن وَاحِد فَأتى بِالْوَاو لتضاد النَّوْعَيْنِ
وَقَوله تَعَالَى {غَافِر الذَّنب وقابل التوب} قد يظنّ أَنَّهُمَا
يجريان مجْرى الْوَصْف الْوَاحِد لتلازمهما فَمن غفر الذَّنب قبل التوب
فَبين الله سُبْحَانَهُ بعطف أَحدهمَا على الآخر أَنَّهُمَا مفهومان
متغايران ووصفان مُخْتَلِفَانِ يجب أَن يعْطى لكل وَاحِد حكمه وَذَلِكَ
مَعَ الْعَطف أبين وأوضح
وَأما {شَدِيد الْعقَاب} و {ذِي الطول} فهما كالمتضادين فَإِن شدَّة
الْعقَاب تَقْتَضِي أَيْضا الضَّرَر والا تُضَاف بالطول يَقْتَضِي
اتِّصَال النَّفْع فحرف الْعَطف لبَيَان أَنَّهُمَا مجتمعان فِي ذَاته
وَهِي مَوْصُوفَة بهما على الِاجْتِمَاع ليتعبد العَبْد على الرَّجَاء
وَالْخَوْف دَائِما فَحسن ترك الْعَطف لهَذَا الْمَعْنى
وَأما قَوْله {الآمرون بِالْمَعْرُوفِ والناهون عَن الْمُنكر} فَكل صفة
تقدّمت غير مسبوقة بِالْوَاو مُغَايرَة لِلْأُخْرَى وَالْغَرَض
أَنَّهَا فِي اجتماعها كالوصف
(1/143)
الْوَاحِد لموصوف وَاحِد فَلم يحْتَج إِلَى
عطف فَلَمَّا ذكر الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وهما
متلازمان أَو كالمتلازمين يستمدان من مَادَّة وَاحِدَة كغفران الذَّنب
وَقبُول التوب حسن الْعَطف ليبين أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُعْتَد بِهِ
على حِدته لَا يَكْفِي مِنْهُ مَا يحصل فِي ضمن الآخر بل لَا بُد من
أَن يُؤْتى بِكُل مِنْهُمَا بمنفرده فَحسن الْعَطف لذَلِك وَأَيْضًا
فَلَمَّا كَانَ الْأَمر وَالنَّهْي ضدين من جِهَة أَن أَحدهمَا طلب
الإيجاد وَالْآخر طلب الإعدام كَانَا كالنوعين المتغايرين فِي قَوْله
{ثيبات وأبكارا} فَحسن الْعَطف لذَلِك
فَأَما قَوْله {سَبْعَة وثامنهم كلبهم} فَإِن الْوَاو لم يدْخل هُنَا
دون مَا قبله إِلَّا لفائدة وَهِي التَّقْدِير لِأَن عدتهمْ سَبْعَة
فَقَوله فِي الجملتين الْأَوليين {رابعهم كلبهم} {سادسهم كلبهم} هما من
تَتِمَّة الْمَقُول وَلذَلِك أتبعه بقوله تَعَالَى {رجما بِالْغَيْبِ}
وَالْوَاو فِي قَوْله تَعَالَى {وثامنهم كلبهم} قَائِمَة مقَام
التَّصْدِيق لذَلِك تَقْدِيره نعم وثامنهم كلبهم كَمَا إِذا قَالَ
الْقَائِل زيد كَاتب فَتَقول لَهُ وشاعر وَيكون ذَلِك تَحْقِيقا
لقَوْله الأول وَلذَلِك لم يقل سُبْحَانَهُ بعده {رجما بِالْغَيْبِ}
كَمَا قَالَ فِي الْأَوليين وَقَالَ {قل رَبِّي أعلم بِعدَّتِهِمْ مَا
يعلمهُمْ إِلَّا قَلِيل} وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ
أَنه قَالَ أَنا من الْقَلِيل
وَنَظِير هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} بعد قَوْله
{وَجعلُوا أعزة}
(1/144)
أَهلهَا أَذِلَّة) فَلَيْسَتْ الْوَاو
للثمانية كَمَا يَقُوله من يزْعم ذَلِك وَلَا دُخُول الْوَاو فِي
الْأَخِيرَة وَتركهَا فِي الْأَوليين على السوَاء كَمَا قَالَه بعض
أَئِمَّة النُّحَاة وَالله أعلم
(1/145)
|