الفصول المفيدة في الواو المزيدة

18 - فصل زِيَادَة الْوَاو العاطفة

اخْتلفُوا فِي جَوَاز زِيَادَة الْوَاو العاطفة لغير معنى فجوزه الْكُوفِيُّونَ احتجاجا بقوله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيم ملكوت السَّمَاوَات وَالْأَرْض وليكون من الموقنين} وَقَوله {فَلَمَّا أسلما وتله للجبين وناديناه} وَجعلُوا مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى إِذا جاؤوها وَفتحت أَبْوَابهَا} وَقَول الشَّاعِر الْمُتَقَدّم أول الْكتاب
(وقلبتم ظهر الْمِجَن لنا)
بعد قَوْله
(حَتَّى إِذا قملت بطونكم ... ورأيتم أبناءكم شبوا)
فتقديره قلبتم وَالْوَاو زَائِدَة
وَذهب البصريون إِلَى أَنَّهَا لَيست زَائِدَة فِي شَيْء من ذَلِك وَلَا تجوز

(1/146)


زيادتها لِأَن الْحُرُوف وضعت للمعاني فَذكرهَا بِدُونِ مَعْنَاهَا يَقْتَضِي مُخَالفَة الْوَضع وَيُورث اللّبْس وَأَيْضًا فَإِن الْحُرُوف وضعت للاختصار نائبة عَن الْجمل كالهمزة فَإِنَّهَا نائبة عَن أستفهم وزيادتها ينْقض هَذَا الْمَعْنى
وَتلك الْمَوَاضِع الْوَاو فِيهَا عاطفة على مَحْذُوف مُقَدّر يتم بِهِ الْكَلَام تَقْدِيره لنبصره أَو لنرشده وَنَحْو ذَلِك ثمَّ عطف عَلَيْهِ (وليكون من الموقنين)
وَكَذَلِكَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى تَقْدِيره عرفنَا صبره وانقياده {وناديناه أَن يَا إِبْرَاهِيم} وَكَذَلِكَ قيل فِي قَوْله {وَفتحت أَبْوَابهَا} تَقْدِيره عرفُوا صِحَة مَا وعدوا بِهِ {وَفتحت أَبْوَابهَا} والأقوى أَن تكون الْوَاو حَالية كَمَا تقدم وَسَيَأْتِي ذَلِك وَبَيَان فَائِدَته إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما الْبَيْت فتقديره عرف غدركم وقلبتم ظهر الْمِجَن وَحذف الْجَواب كثير

(1/147)


وَفِي التَّهْذِيب لِلْبَغوِيِّ من أَئِمَّة أَصْحَابنَا أَنه إِذا قَالَ إِن دخلت الدَّار وَأَنت طَالِق إِن قَالَ أردْت التَّعْلِيق فأقمت الْوَاو مقَام الْفَاء قبل قَوْله وَإِن قَالَ أردْت التَّنْجِيز ينجز الطَّلَاق يَعْنِي وَتَكون الْوَاو زَائِدَة
وَزَاد غَيره انه إِذا قَالَ لم أقصد شَيْئا يقْضِي بِوُقُوع الطَّلَاق فِي الْحَال ويلغى حرف الْوَاو كَمَا لَو قَالَ ابتدأء وَأَنت طَالِق حَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَن إِسْمَاعِيل البوشنجي مقررا لَهُ وَاعْترض عَلَيْهِ النَّوَوِيّ وَاخْتَارَ أَنه عِنْد الاطلاق يكون تَعْلِيقا بِدُخُول الدَّار إِن كَانَ قَائِلهَا لَا يعرف الْعَرَبيَّة وَإِن عرفهَا فَلَا يكون تَعْلِيقا وَلَا غَيره إِلَّا لِأَنَّهُ عِنْده غير مُفِيد
وَهَذَا الَّذِي قَالَه النَّوَوِيّ رَحمَه الله جَار على الْقَاعِدَة وَالله سُبْحَانَهُ أعلم

(1/148)


19 - فصل تَقْدِير مَعْطُوف عَلَيْهِ مَحْذُوف فِي الْقُرْآن

تقدم فِيمَا ذكر آنِفا عَن الْبَصرِيين أَنهم يقدرُونَ محذوفا يعْطف عَلَيْهِ وَهَذَا التَّقْدِير كثير فِي الْقُرْآن الْعَظِيم فَمِنْهُ مَا يتَوَقَّف صِحَة الْكَلَام عَلَيْهِ كَقَوْلِه تَعَالَى {فَمن اضْطر غير بَاغ وَلَا عَاد فَلَا إِثْم عَلَيْهِ} أَي فَأكل فَلَا إِثْم عَلَيْهِ
وَقَوله {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} أَي فَأفْطر فَعدَّة من أَيَّام آخر وَكَذَلِكَ {فأوحينا إِلَى مُوسَى أَن اضْرِب بعصاك الْبَحْر فانفلق} تَقْدِيره فَضرب فانفلق
وَيُسمى هَذَا عِنْد الْأُصُولِيِّينَ دلَالَة الِاقْتِضَاء أَي إِن صِحَة الْكَلَام اقْتَضَت هَذَا الْمُقدر وَمِنْه مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ تَمام البلاغة لتجري على الْقَوَاعِد الْعَرَبيَّة كَمَا

(1/149)


قَالَ صَاحب الْكَشَّاف فِي قَوْله تَعَالَى {لَئِن لم تَنْتَهِ لأرجمنك واهجرني مَلِيًّا} إِن الْعَطف على مَحْذُوف يدل عَلَيْهِ قَوْله {لأرجمنك} تَقْدِيره فاحذرني واهجرني مَلِيًّا لِأَن قَوْله {لأرجمنك} تهديد وتقريع
وَقَالَ فِي قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْبَقَرَة {وَبشر الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} إِن الْمُعْتَمد بالْعَطْف هُوَ جملَة وصف ثَوَاب الْمُؤمنِينَ فَهِيَ معطوفة على جملَة وصف عَذَاب الْكَافرين كَمَا تَقول زيد يُعَاقب بالقيد والإرهاق وَبشر عمرا بِالْعَفو وَالْإِطْلَاق قَالَ وَلَك أَن تَقول هُوَ مَعْطُوف على قَوْله {فَاتَّقُوا النَّار الَّتِي وقودها} كَمَا قَالَ يَا بني تَمِيم احْذَرُوا عُقُوبَة مَا جنيتم وَبشر يَا فلَان بني أَسد بإحساني إِلَيْهِم
وَقَالَ أَيْضا فِي قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الصَّفّ {وَبشر الْمُؤمنِينَ} إِنَّه مَعْطُوف على {تؤمنون} لِأَنَّهُ بِمَعْنى آمنُوا

(1/150)


وَالَّذِي اخْتَارَهُ السكاكي فِي هَاتين الْآيَتَيْنِ أَن الْعَطف فيهمَا على قل مرَادا مُقَدرا قبل {يَا أَيهَا النَّاس} و {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} قَالَ لِأَن إِرَادَة القَوْل بِوَاسِطَة انصباب الْكَلَام إِلَى مَعْنَاهُ كثير وَذكر مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وأنزلنا عَلَيْكُم الْمَنّ والسلوى كلوا} وَقَوله {وَإِذ أَخذنَا ميثاقكم ورفعنا فَوْقكُم الطّور خُذُوا} وَقَوله {وَإِذ جعلنَا الْبَيْت مثابة للنَّاس وَأمنا وَاتَّخذُوا} أَي قُلْنَا أَو قائلين وَنَحْو ذَلِك
وَفِي هَذَا الَّذِي قَالَه السكاكي نظر لِأَنَّهُ لَا يلْزم من إِضْمَار القَوْل مَوضِع الْحَال تَقْدِيره أمرا أول الْكَلَام من غير دَلِيل يدل عَلَيْهِ
وَاخْتَارَ بعض شُيُوخنَا أَن يكون الْأَمر فِي الْآيَتَيْنِ مَعْطُوفًا على مُقَدّر يدل عَلَيْهِ مَا قبله وَهُوَ فِي الْآيَة الأولى فَأَنْذر أَو نَحوه أَي فأنذرهم وَبشر الَّذين آمنُوا وَفِي الثَّانِيَة فأبشر أَو نَحوه أَي فأبشر يَا مُحَمَّد وَبشر الْمُؤمنِينَ وَهَذَا كَمَا قدر الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى {لأرجمنك واهجرني مَلِيًّا}

(1/151)